النوادر المُطربة/نوادر منوعة

من موسوعة الأدب العربي
< النوادر المُطربة
مراجعة ١٢:٠٦، ٢٤ أغسطس ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (نوادر منوعة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

نوادر منوعة

الأعرابي والبخلاء

وقف أعرابي بقوم فقال: يا قوم، أشكوا إليكم زمنًا كلح بوجهه وأناخ عليَّ بكلكله بعد نعمة من المال وثروة من المال وغبطة من الحال، اعتورني بنبال عن قسي نوائيه، فما ترك لي شيئًا ارتجي به نفعًا، فهل فيكم من معين على صرفه أو مساعد على حنفه؟ فردوا عليه ولم ينيلوه شيئًا، فولى عنهم وهو يقول:

قَد ضاعَ مَنْ يَأْمَل مِنْ أَمْثَالِكُمْ جُودًا

وَلَيْسَ الْجُودُ مِنْ فِعَالِكُمْ

لَا بَارَكَ اللهُ لَكُمْ فِي مَالِكُمْ

وَلَا أَزَاحَ السُّوءَ عَنْ عِيَالِكُمْ

فَالْفَقْرُ خَيْرٌ مِنْ صَلاح حَالِكُمْ

أشعب مطربًا

قال الأصمعي قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب بينهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعة وخرجوا وبقي أشعب فقال له جرير: أراك قبيحًا لئيمًا، ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنه لم يدخل عليك اليوم أحد أنفع مني، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ رقيق شِعرك فأزينه بحسن صوتي، فقال له جرير: أسمعني، فاندفع جرير يغني:

يَا أُمَّ نَاجِيَة السَّلامُ عَلَيْكُمُ

قَبلَ الرَواحِ وَقَبلَ لَومِ العُزَّلِ

لَو كُنتُ أَعلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهدِكُم

يَومُ الرَحيلِ فَعلتُ مَا لَم أَفعَلِ

قال: فاستخف جرير الطرب لغنائه بشعره فزحف إليه وأعنقه وقبله بين عينه وسأله عن حاجته فقضاها له.

الضَّراير

تزوَّج رجل من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة وكانت الجديدة على باب القديمة فتقول:

وَمَا تَسْتوي الرِّجلان رِجْلٌ صحيحة

وَرِجْلٌ رَمى فيها الزَّمانُ فَشلَّتِ

ثم مرت بعد أيام فقالت:

وَما يَستَوِي الثَّوْبان ثَوْبٌ به البِلَى

وَثَوْبٌ بأيْدِي البائعين جَدِيدُ

فخرجت إليها القديمة فقالت:

نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الْهَوَى

مَا الحُبُّ إِلا لِلحَبيبِ الأوَّلِ

كَم مَنزِلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتَى

وَحَنينُهُ أَبَدًا لأوَّلِ مَنزِلِ

السائل بمسجد الكوفة

قال أبو زيد: سأل سائل بمسجد الكوفة وقت الظهر فلم يعطَ شيئًا، فذهب الرجل، وفي العشاء عاد، وبعد أن قضيت الصلاة توجَّه للقبلة، وسمعوه يدعو الله: «اللهم إني أسألك صبرًا جميلًا وفرجًا قريبًا وبصرًا بالهدى وقوَّةً فيما تُحِبُّ وترضى، اللهم إن كان رزقي الذي كتبت لي أجريته على أيدي هؤلاء القوم فإني أسألك أن تكفُلنيه» فتبادروا إليه يعطونه فقال: والله لا أخذت الليلة شيئًا منكم، مالي سوف يأتيني، ثم خرج وهو يقول:

مَا نَالَ بَازِلُ وَجْهَهُ لسُؤالِهِ

عِوَضًا وَلَوْ نَالَ الغِنَى بِسُؤَالِ

وَإِذَا السُّؤَالُ مَعَ السُّؤَالِ وَزَنْتَهُ

رَجحَ السُّؤالُ كفَّةَ كُلِّ نَوَالِ

الحُسَّاد الثلاثة

حُكي أن ثلاثة من الحساد اجتمعوا، فتساءلوا عما بلغوه من الحسد، قال أولهم: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرًا قط لئلَّا أرى أثر ذلك عليه، وقال الثاني: أنت رجل صالح، أمَّا أنا فما اشتهيت أن يُفعل بأحد خيرًا قط لئلا تشير الأصابع بالشكر إليه، وقال الثالث: ما في الأرض خير منكما، لكني ما اشتهيت أن يفعل بي خيرًا أحدٌ قط، فقالوا: ولِمَ؟ قال: لأني أحسد نفسي على ذلك، فقالا له: أنت ألأمنا جسدًا وأكثرنا حسدًا.

ما خاب من استشار

قال الأسلي: ركبني دَيْن أثقل كاهلي، وطالبني به مستحقوه، واشتدت حاجتي، فضاقت بي الأرض ولم أهتدِ إلى ما أصنع، فشاورت من أثق به من ذوي المودة والرأي، فأشار عليَّ بقصد المهلَّب بن أبي حفرة بالعراق، فقلت له: يمنعني بُعد المسافة، ثم أني عدلت عن ذلك المشير إلى استشارة غيره، فلا والله ما زادني عمَّا ذكره لي الصديق الأول، فرأيت أن قبول المشورة خيرٌ من مخالفتها، فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق وقصدت العراق، فلما وصلت دخلت على المهلب فسلمت عليه وقلت له: أصلح الله الأمير، إني قطعت إليك الهناء وضربت بأكباد الإبل من يثرب، فقد أشار عليَّ ذوو الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي، فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو قرابة وعشيرة؟ فقلت: لا، ولكني رأيتك أهلًا لحاجتي، فإن قمت بها فأنت أهل لذلك، وإن يحل دونها حائل لم أذمهم يومك ولم أيئس عندك، فقال المهلب لحاجبه: اذهب وادفع إليه ما في خزانة مالنا، فأخذني معه فوجد ثمانين ألف درهم فدفعها إليَّ، فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحًا وسرورًا وأعادني إليه مسرعًا فقال: هل وصلك ما يقوم بسد حاجتك؟ فقلت: نعم أيها الأمير وبزيادة، فقال: الحمد لله على نجاح سعيك، واجتنائك جني مشورتك، وتصديق ظن من أشار عليك بقصدنا.

قال الأسلمي فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:

يا مَن عَلَى الْجُودِ صَاغَ الله راحتهُ

فلَيسَ يحسِنُ غير البذلِ والجُودِ

عَمَّت عطاياك مَن بالشرقِ قَاطبةً

وأنت والجُود منحوتانِ مِن عُودِ

مَن استشَارَ فبَابُ النجَح مُنفَتحٌ

لَديهِ مَا ابتغَاه غَيرُ مَسدودِ

ثم عدت إلى المدينة ووفيت ديني ووسعت على أهلي وجازيت المشيرين عليَّ، وعاهدت الله تعالى أني لا أترك الاستشارة في جميع أمري ما عشت.

ليتهم علموني كيف أبتسم

قال أبو العباس بن حماه الكاتب: قصدت أبا الجيش خمارويه بن أحمد بمصر ممتدحًا له ببابه زمنًا لا أصل إليه، فرثى لي كل من عرف حالي، وأُرشدتُ إلى كُثير المغني، فسرت إليه وسألته أن يشفع لي فقال: ما جرت العادة أن أكلمه في أحد، ولكن إن قدرت أن تعمل شعرًا أقدمه أمام حضرته، فإن سألني عن قائله عرَّفته عن حالك ما يكون فيه عائد صلاح عليك، فعملت شِعرًا على البديهة ودفعه إليه وهو:

كتمتُ حُبَّهُمُ صَونًا وتَكرِمَةً

فما درى غيرُ إضماري به وهُمُ

هم علَّموني البُكا لا ذُقتُ فقدَهمُ

يا لَيتهم علَّموني كيف أبتسِمُ

فسرت إلى أبي الجيش وأنشدته إياها، فطرب وقال: لمن هذا الشِّعر؟ فقلت: لأبي العباس، فدعا به وأحسن جائزته.

عين الحسود

قيل لعبد الله: كيف لزمت البدو وتركت قومك؟ قال: وهل بقي في الناس إلا من إذا رأى نعمة بُهت وإذا رأى عثرة شمت، ثم أنشد:

عَينُ الحَسُودِ إلَيكَ الدَّهْرُ نَاظِرَةٌ

تُبْدِي المَسَاوِئَ وَالإِحِسَانُ تُخْفِيه

يَلقَاكَ بِالبِشرِ يُبدِيهِ مُكَابَرَةً

وَالقَلبُ مُلتَئمٌ فِيهِ الذِي فِيه

الزرقاء ومعاوية

قيل: إن معاوية بن أبي سفيان ولي الخلافة وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور وأذعن لأمره الجمهور، وعاونه على أمره القدر المقدور، فاستحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين ومن كان يتولى يوم الكريهة من المعروفين، فانهمكوا في القول الصحيح، وآل حديثهم إلى ما كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي، كانت تعتمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة بأصحاب علي تسمعهم كلامًا كالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتَلَ والمدبِر لأقبل والمسالم لحارب والفارُّ لكر والمزلزَل لاستقر، فقال لهم معاوية: أيكم يحفظ كلامها؟ فقالوا: كلنا نحفظه، فقال: فما تُشيرون عليَّ بها، قالوا: نشير بقتلها؛ فإنها أهل لذلك، فقال لهم معاوية: بئسما أشرتم به، أيحسن أن يشتهر عني أنني بعد ما ظفرت وقدرت أقتل امرأة قد وفت لصاحبها؟ إني إذن للئيم، لا والله لا فعلت ذلك.

ثم دعا بكاتبه وكتب كتابًا إلى واليه بالكوفة أن أوفِد عليَّ الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها، ومهِّد لها وطَّاء لينًا ومَركبًا ذلولًا.

فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وأقرأها إياه، فقالت: ما أنا بزائغة عن الطاعة، فحملها في هودج وجعل غشاءه خزًّا مبطنًا، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحبًا وأهلًا خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيتِ سيرك؟

قالت: خير مسيرة، قال: هل تعلمين لِمَ بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: ألست أنت راكبة الجمل الأحمر يوم صفين وأنت بين الصفين توقنين نار الحرب وتحضين على القتال؟ قالت: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد مات الرأس وكثر الذنُب والدهر ذو عبر، ومن تفكَّر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر، فقال: صدقتِ، فهل تحفظين كلامك؟ قالت: لا والله، قال: لله أبوك، لقد سمعتك تقولين: «أيها الناس، إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكوكب لا يضيء مع القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، من استرشدنا أرشدناه ومن ساءلناه جاوبناه أن الحق كان يطلب ضالة فاطلبوها، يا معاشر المهاجرين والأنصار مكانكم، وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق الباطل؛ فإنه لا يستوي المحق والمبطل، أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا؟ فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا وأنه خِضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدم، والصبر خير الأمور عاقبة، هيا إلى الحرب، هيا يا رجال».

أليس هذا القول قولك وتحريضك؟ قالت: لقد كان ذلك، قال: لقد شاركت عليًّا في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك، مثلُك من بُشر بخير ويسر جليسه، فقال: أوقد سرَّك ذلك؟ قالت: نعم والله لقد سرني قولك، وإني له لصدِّيقة، فقال معاوية: والله لوفائك له بعد موته أعجب إليَّ من حبِّك له في حياته، فاذكري حوائجك تُقضَى، قالت: يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي لا أسأل أحدًا حاجة، فقال: قد أشار عليَّ بعض من عرفك بقتلك، قالت: لؤمٌ من المشير، ولو أطعته لشاركته، قال: كلا، بل نعفو عنك ونُحسن إليك ونرعاك، قالت: كرم منك يا أمير المؤمنين، ومثلك من قدر وعفا وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة، قال: فأعطاها كسوة ودراهم وأقطعها ضيعة تغل لها في كل سنة عشرة آلاف درهم وأعادها إلى وطنها، وكتب على والي الكوفة بالوصاية بها وبعشيرتها.

المنصور والرَّجل

قال الرَّبيع (مولى الخليفة المنصور): ما رأيتَ رجلًا أربط جأشًا وأثبت جِنانًا من رجل سُعِيَ به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالًا لبني أمية فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رُفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك، فقال الرجل: أأنت وارث بني أمية؟ قال: لا، قال: أوُصِّي لك في أموالهم ورعاياهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟

قال: فأطرق المنصور ثم تفكَّر ساعة ورفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم، قال: يا أمير المؤمنين، فتحتاج إلى بيِّنة عادلة أنَّ ما في يدي لبني أمية فما خانوا به ولا ظلموا، فإن بني أمية كانت لهم أموال غير أموال المسلمين، قال: فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع، ما أرى الشيخ إلَّا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا ألا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فولله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح، وإنما أُحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه، فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي، فسأل المنصور الرجل فأقرَّ بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبًا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال، فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مُكرمًا، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جِنانه ولا من حُجته، ولا رأيت مثل حِلمه ومروءته.

وعد الأمير

قال مالك بن عمارة اللخمي: كنت أجالس في ظل الكعبة أيام المواسم عبد الملك بن مروان وقبيضة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرَّة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا تحدَّثت وحلاوة لفظه إذا حدَّث، فخلوت معه في ليلة فقلت: والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال: إن تعش قليلًا ترَ العيون طامحة إليَّ والأعناق نحوي متطاولة، فإذا صار الأمر إليَّ فلعلك أن تنقل إليَّ ركابك فلأملأنَّ يديك، فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر، فلمَّا رآني أَعرَض عني فقلت: لم يعرفني أو عرفني وأظهر نكره، فلما قُضيت الصلاة ودخل لم ألبث أن صرخ الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فمد إليَّ يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت، فأما الآن فمرحبًا وأهلًا، كيف كنت بعدي؟ فأخبرته فقال: أتذكر ما قلت لك؟ قال: نعم، فقال: والله ما هو بميراث ادَّعيناه ولا إرثٍ ورثناه، ولكن أخبرك مني بخصال سمت لها نفسي إلى موضع ما تراه، حيث إنني ما شمتُّ بمصيبة عدوٍّ قط، ولا أعرضت عن محدِّثِّ حتى ينتهي، ولا قصدت كبيرةً من محارم الله متلذذًا بها، فكنت أأمل بهذه أن يرفع الله منزلتي، وقد فعل.

يا غلام، بوِّئه منزلًا في الدار، فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلًا حسنًا، فكنت في ألذ حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، ثم دخل عليه في وقت عشائه وغذائه فيرفع منزلتي ويقبل عليَّ ويحادثني ويسألني مرَّة عن العراق ومرَّة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة، فتغذَّيت مرة عنده، فلمَّا تفرَّق الناس نهضتُ فقال: على رسلك فقعدت، فقال: أي الأمرين أحبُّ إليك؟ المقام عندنا مع المناصفة لك في المعاشرة أو الرجوع ولك الكرامة، فقلت: يا أمير المؤمنين، فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم، فإن أمرني اخترت رؤيته على الأهل والولد، فقال: لا، بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يديك؟ فلا خير في من ينسى إذا وعد، ودِّع إذا شئت صحبتك.

إذ جاءه الأعمى

قال ابن سوار: انصرفت يومًا من دار الخليفة المهدي، فلما دخلت منزلي دعيت بالطعام فلم تقبله نفسي، فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأُسرجت وأُحضِرت فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جئت بها من مستغلك الجديد، قلت:امسكها معك واتبعني.

فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنهار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم، فعطشت، فقلت للخادم: أعندك ماء تسقينه؟ قال: نعم، ثم دخل وأحضر قُلَّةً نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر فدخلت مسجدًا على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمَّس فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال: شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن أحدثك بشيء، فقلت: قل، فقال: ألا ترى إلى باب القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه، ثم زالت عنا النعم التي كنا فيها وعمِيتُ، فقدمت هذه المدينة فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئًا يصلني به فأتوصَّل إلى سوار، فإنه كان صديقًا لأبي.

فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، فعرفته، فإذا هو كان أصدق الناس إليَّ، فقلت له: يا هذا، إن الله تبارك وتعالى قد أتاك بسوار ومنعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت: إذا كان الغد فاحضر إلى منزلي.

ثم مضيت وقلت ما أُحدِّث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا، فأتيت فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت عليه قال: ادفعها إلى الأعمى، فنهضت فقال: اجلس فجلست، فقال: أعليك دَيْن؟ قلت: نعم، قال: كم دَيْنُك؟ قلت: خمسون ألفًا، فحدَّثني ساعة، وقال: امضِ إلى منزلك، فمضيت إلى منزلي، فإذا بخادم معه خمسون ألفًا، وقال: يقول لك أمير المؤمنين أقضِ بها دينك، قال: فقضيت منه، فلما كان الغد أبطأ عليَّ الأعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئت فقال: قد فكرت البارحة في أمرك فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضًا؟ وقد أمرت لك بخمسة آلاف أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت، فجاءني الأعمى فدفعت إليه ألفي دينًا، وقلت: قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على إسداء المعروف إليك، ثم أعطيته شيئًا آخر من مالي فأخذه وانصرف.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي