أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)/التَّداعِي للمُنَادمة

من موسوعة الأدب العربي
< أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)
مراجعة ١٧:٤٩، ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (التَّداعِي للمُنَادمة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

التَّداعِي للمُنَادمة

التَّداعِي للمُنَادمة - أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)

- قَدْ آثرَ بعضُ الظُّرفاءِ من إِسْقاطِ التَّصنُّعِ في هذا الباب ما هو ألْيقُ بالمؤِانسةِ، وأنْفَى للانقباضِ والحِشْمةِ، ولو لم يكن في الاحتفالِ من النَّقيصةِ والاقتضابِ من الفضيلة إِلا أنَّ المُحْتَفلَ قد ضيَّق العذرَ على نفسه في تَقْصيرٍ إِن كان منه، والمقتضبَ مُغْتفر له ذلك لكفى به. - ورُوِي أنَّ رَجلاً دعا أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب عليه السّلام، فقال: آتيك على أن لا تَدَّخِر عنّا ما عندك، ولا تَتَكلَّف لنا ما ليس في وُسْعِك. - وقال المأَمون لِجَعْفَرَ بنِ سليمانَ: الطِّيبُ والطَّعَامُ لا يَزِيْدُ في جودتهما كثرةُ الإِنفاقِ عليهما ولكنْ إِصابةُ الْمَعْنى. - وكتبَ إِليَّ صديقٌ لِي:

قُمْ بِنَا نَقْتَضِبْ صَبُوحاً مَلِيْحاً

يُسْعِدُ اللهُ لِي بِكَ الْيَوْمَ جَدِّي

لَمْ أُبَيِّتْ لَهُ اعْتِزَاماً وَلَا قُلْ

تُ غَداً كُنْ - فَدَتْكَ نَفْسِي - عِنْدِي

فَهْوَ طِيْباً وَمَوْقِعاً كَحبِيبٍ

جَاءَنِي زَائِراً عَلَى غَيْرِ وَعْدِ

- وحدثني بعضُ شيوخِنا عمَّن حَدَّثه أنَّ ظريفاً من الكتَّاب أحْسبه الحسنَ بنَ سَهْل بلغَهُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ يَزِيد عشيق أبي تَمَّام الطَّائي الذي يقول فيه:

يَا سَمِيَّ النَّبِيِّ فِي سُورَةِ الْجِنْ

نِ وَيَا ثَانِيَ الْوُلَاةِ بِمِصْرِ

احتفَلَ لدعوةٍ دعاهَا احتفالاً شديداً، وتعمَّل لها حتّى اشْتهرَ أمرها قبل وُقُوعها، فكتبَ إِليه: أمَا ارتفعتَ عن تَثْبيتِ الدَّعَواتِ بَعْد ؟- ودعا محمّدَ بنَ عبدِ الله بنِ طاهر رَجُلٌ من أصحابه دعوةً تقدَّم فيها، فاحتفَلَ لها، فلمَّا حَضَر محمّدٌ طَالَبَه بالطَّعام، فمَطَله، ليتكاملَ ويَتلاحقَ على ما أحَبَّهُ من الكَثْرة والحفلة حتّى تصرَّمَ أكثرُ النّهار، ومسَّ مُحمداً الجوعُ، فتنغَّصَ عليه يومُه. وأراد محمدٌ سفراً فشيَّعه هذا الرّجل حتى إذا دنا منه ليودَعه قال له، أيأْمُر الأميرُ بشيءٍ ؟ قال: نعم، تجعلُ طريقَك في عودتِك عَلَى محمّدِ بنِ الْحَارِثِ ابنِ شخير فاسأله أن يعلِّمكَ الفُتُوَّة، فمضى حتى دخلَ إِلى محمدٍ بَغْتَةً، فقال له: بعثني إليك الأَميرُ لتعلِّمني الفتوة، فضحك، وقال: يا غلامُ، هات ما حضرَ فأُتيَ بطبقٍ كبيرٍ عليه ثلاثةُ أرغفةٍ منِ أنظف الخُبْزِ وأنقاه وسكرّجات مُرٍّى وخَلّ ومِلح من أجود ما يُتَّخَّذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأْكل فجاءته فُضَيْلةٌ باردة من مطبخه، وتداركها الطَّباخ بطباهجةٍ، ووافاه من منزل حرمه فُضَيْلةٌ أُخرى، وأهدى له بعضُ غلمانه جام حلواء، فانتظم له خفيفٌ ظريف في زمانٍ يسير، وبغير احتشامٍ وانتظار. - وسمعتُ بعضَ الأَغنياء يَعْتَذِرُ من تَرْكِ التَّحفُّل بعذرٍ ما حَسُن الاعتذار قطّ إِلا من مثله، وذاك أنه قال: ما يمنعني الاحتفال إِلا الاستظهار، فقلتُ له: وكيف ذلك ؟ قال أكرهُ أن أحْتفل فيتأَخر عنّي مَنْ أدعوه إِمَّا عن عمدٍ أو عائقٍ فأَكون قد تكلَّفتُ ما لم يُنْتفَع به، فقال في ذلك بعض إِخوانه:

إِذا كُنْتَ لَا تَدَعُ الْإِحْتِفَا

لَ إِلَّا لِأَنَّكَ تَسْتَظْهِرُ

فَلَا تَدْعُوَنْ أحَداً بَتَّةً

فَهَذَا هُوَ النَّظَرُ الْأَوْفَرُ

وَلَاسِيَّمَا أنَا مِنْ بَيْنِهِمْ

فَإِنِّي - وَحَقِّكَ - لَا أحْضُرُ

- وكان آخرَ لا يَشْرعُ في شيءٍ من آلةِ الدَّعوة حتى يحضرَ إِخوانُه، ويأْمنَ تأَخُّرَهم، فحينئذ يأْمر بإِصلاح ما يُحتاجُ إِليه على مقدارٍ قد عَرَفَه، فلا يلحق طعامه حتّى يتصرمَ يومُهم، وتضطرمَ نارُ الجوع في أحشائهم، فقال فيه بعضُهم:

خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى شَيْءٍ يُعَجِّلُهُ

مِنَ الْمَطَاعِمِ إِنْ إِخْوَانُهُ ثَقُلُوا

وَلَيْسَ تَعْلُو عَلَى الْكَانُونِ بُرْمَتُهُ

حَتَّى يَرَى أنَّهُمْ فِي الْبَيْتِ قدْ حَصَلُوا

- وخبرني بعضُ من أثق بصدقه عن بعض البخلاء أنه دعا قوماً فابتاع لهم جدياً، وأشفقَ من أنْ يذبحهُ فلا يحضُروا فيخسر الجدي، فنوَّرَه وعمل على أنَّهم إن حضروا ذبحه، وأحضر كهيئة المسموطِ، وإنْ تأخّروا استحياه ولم يذبحه. - وليس هؤلاء بإِفراطهم في هذا الاستظهارِ القبيح، والنّظرِ الرّقيق - بأَذمَّ ممن يُدعى فيجيب، ويحصل ذلك على نفسه، ويوثق منه بالوفاء، ثمّ يَتَثَاقَل عن الدَّاعي الملهوفِ حتّى يُجيعَه، ويجيعَ إِخوانَه، ويَثْلَم عليه عُمْره، ويبرّد عليه طعامه، ويردد غلمانه، ويطيل التشوّق إِليه، فجزاء هذا عندي بعد الاستظهار عليه بالحُجَّة وإِعادة الغلام إلِيه بالرسالة أن يستأْثرَ إِخوانه بالمؤاكلة دونه، متعمدين بذلك الاستخفاف به، ليؤدبوه إِن كانت به مسكَةٌ، وينبهوه إن كانت له فِطنة. - وقد جاءَ في الخَبَرِ المأْثورِ في إِجابةِ الدَّعوة، وتَرْكِ التأَخر عنها ما جَرى مَجْرَى الفَرْضِ الواجبِ، وهو قولُ النبيِّ عليه السلام: 'مَنْ دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإِنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَان صَائِمًا فَلْيُصَلِّ'. والصّلاة هاهنا الدعاء مثل قوله تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً }.أي لا تَدْعُ لهم، ولا تَتَرَحَّمْ عليهم. فإِذا كان الصائم قد أُمِرَ بالحضورِ، فكيف بالمفطر ومن قد أجاب ؟ !- وَنَالَنِي ذلك من فتًى تَيَّاهٍ فكتبتُ إِليه:

تَأَخَّرْتَ حَتَّى كَدَدْتَ الرَّسُولَ

وَحَتَّى سَئِمْتُ مِنَ الْإِنْتِظَارِ

وَأَوْحَشْتَ إِخْوَانَكَ الْمُسْعِديْنَ

وَفَجَّعْتَهُمْ بِشَبَابِ النَّهَارِ

وَأضْرَمْتَ لِلْجُوعِ أحْشَاءَهُمْ

بِنَارٍ تَزِيْدُ عَلَى كُلِّ نَارِ

فَإِنْ كنْتَ تَأْمُلُ ألَّا تُسَبَّ

فَأَنْتَ - وَحَقِّكَ - عَيْنُ الْحِمَارِ

- وكانَ يُقَال: ثلاثةٌ تُضْنِي: سراجٌ لا يُضيءُ، ورسولٌ بطيءٌ، ومائدةٌ ينتظر بها من يجيء. - وقال آخر: المودَّةُ شجرةٌ ثمرتُها الزِّيارة. - وقال آخر: المودَّةُ روحٌ، والزيارة شَخْصُها. - وكتبتُ إِلى صديق لي دعوتُه فَتَثَاقَلَ عنِّي، واعتلَّ بعارضِ عِلَّةٍ:

بِأَبِي أنْتَ تَبَاغَضْ

تَ ومَا كُنْتَ بَغِيْضَا

جَاءَنِي مِنْكَ جَوَابٌ

كَانَ لِلْعَهْدِ نَقِيْضَا

أَنْتَ لَمْ تَمْرَضْ وَلَكِنْ

أحْسَبُ الْوٌدَّ مَريْضَا

وَلَقَدْ فَاتكَ لَهْوٌ

لَسْتَ مِنْهُ مُسْتَعِيضَا

وْمُدَامٌ شَاكَلَتْ فِي الْ

كَأْسِ يَاقُوتًا فَضِيْضَا

وَحَدِيْثٌ وَنَشِيْدٌ

شَابَ نَحْوًا وعَرُوضَا

وَغَريْضٌ مِنْ غِنَاءٍ

فَاقَ فِي الحُسْنِ الغَرِيْضَا

- وكتبتُ إلى آخرَ:

كَتَبْتُ وَعِنْدَنَا رَوْحٌ وَرَاحُ

وَإِخْوَانٌ تُحِبُّهُمُ مِلاَحُ

وَبَيْضَاءُ السَّوَالِفِ ذَاتُ عُودٍ

يُنَاغِيْهَا ثَمَانَيةٌ فِصَاحُ

وَأَحْوَرُ مِنْ ظِبَاءِ الرُّومِ سَاقٍ

كَغُصْنِ الْبَانِ تَثْنِيْهِ الرِّيَاحُ

بَدِيْعُ مَلَاحَةٍ يُدْعَى نَجَاحاً

وَلَكِنْ مَا لِمَوْعِدِه نَجَاحُ

لَهُ طُرَرٌ تُصَفُّ عَلَى جَبِيْنٍ

كَمِثْلِ اللَّيْلِ قَابَلَهُ الصَّبَاحُ

تَحَلَّى بِالْمَنَاطِقِ وَهْوَ مِمَّنْ

يَلِيْقُ بِهِ الْقَلَائِدُ وَالْوِشَاحُ

وَسَاطِعَةُ الشُّعَاعِ رُضَابُ نَحْلٍ

حَلَالُ الشُّرْبِ لَيْسَ بِهَا جُنَاحُ

وَلِلْوَسْمِىِّ بِالْقَطْر ابْتِدَارٌ

وَللشَّرْبِ ابْتِهَاجٌ وَارْتِيَاحُ

شَرَابُهُمُ سُرُورٌ وَادِّكَارٌ

وَشَدْوُهُمُ اخْتِيَارٌ وَاقْتِرَاحُ

وَبَيْنَ الضَّرْبِ وَالأَوْتَارِ حَرْبٌ

وَبَيْنَ النَّايِ وَالرَّاحِ اصْطلَاحُ

فَزُرْنَا غَيْرَ مُحْتَشِمٍ تَزُرْنَا

بِزَوْرَتِكَ الْمَكَارِمُ وَالسّمَاحُ

- ومرَّ بعضُ النَّبِيْذيِّينَ بجدْيٍ سمينٍ فقال: ليت شِعْرِي لِغِلْمَانِ مَنْ هذا ؟ فسُئِل عن معنى قولِهِ، فقال: يُؤَخِّرُ أصحابُنَا الجديَ فلا نصل إِليه وفينا فضل له، ويفوز الغلمان به. - وخُبِّرْتُ أنَّ بعضَ المتقدمين كان يَذكر ما يصنعُ لإِخوانه من الطعام في رُقْعَةٍ، ويعرض عليهم، فمن استطاب لوناً حَبَسَ نفسه عليه. - وَرُوِيَ أنَّ زِيادًا كان يقول: ما انفردتُ برغيفٍ قط ّحتى يشركني فيه غيري، ولا أكلتُ طعامًا قطّ إلا بشهوة مَنْ يكون معي وأنا أرى إن بغتني الزور وفاجأَني الصّديقُ أن أُشافِهه بوصفِ شيء إن كنتُ تقدمتُ بإِصلاحه وإِن قلّّ، وأُشهِّيه، ولا أحتشم أن أقترحَ متعذرًا أنْ أُونِسه، وأقترحُ في منزل صديقي، ولا أسُومُهُ مَا أعلمُ أنَّ حاله لا يحتمله.فإِن استدعيتُ الطَّباخ شيئًا عرَّفته بالأَلف واللام، ولم أجعله نكرةً كما يُحكى عن بعض المتكبرين من المموّهين. - ودعا قوماً فقال لغلامه في آخر طعامه: هات حلواء إن كان عندك، فقال له الغلام - وكان عليه مُدِلاَّ -: ما عندي إِلا الفالوذج الذي عقدتَهُ بيدك. - ودعا رجلٌ رجلاً فقال له: هل لك أن تَصيْرَ معي إِلى المنزلِ فتأْكل خبزاً ومِلحاً، وظنَّ الرجلُ ذلك القولَ منه على المجاز، فمضى معه، فلم يزده على الخبزِ والملح شيئًا، فبيناهما يأْكلان إِذْ وقف سائِلٌ بالباب فَرَدَّه صاحبُ المنزل مرارًا، فلم يبرح، وألَحَّ، فقال له: إِن انصرفتَ وإِلاّ خرجتُ إِليك فهتمتُ فاك، قال: فقال له المدعو: يا هذا انصرف: فإِنك لو عَرفتَ من صِدْقِ وعيده ما قد عرفتُ من صِدْقِ وَعْدِه ما تعرَّضتَ له. ^

باب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي