أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)/باب مدح النّديم

من موسوعة الأدب العربي
< أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)
مراجعة ١٦:٤٩، ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (باب مدح النّديم)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

باب مدح النّديم

باب مدح النّديم - أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)

وذكر فضائله وذمّ المتفرّد بشربِ النّبيذ

- أخبرني جماعةٌ من الموثوق بهم في اللُّغة: أنَّ العربَ إنَّما سَمَّتِ النَّدِيمَ نديماً، لأَنّه يُندَمُ على فِراقِه. - وفَخَرَ امرؤُ القَيْسِ - مع شَرفِه ومُلُوكِيَّته - بالنّدام فقال:

وَنَادَمْتُ قَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ

فَاَوْجَهَنِي وَرَكِبْتُ الْبَرِيْدَا

- وقال المتقدّمون: كاتِبُ الرَّجلِ لِسانُه، وحاجِبُه وجْهُه وجَليسُه كُلُّه. - وقالوا: إذا وُلِّيْتَ عملاً فانظُر مَنْ كَاتِبُك، فإِنّما يَعرفُ مقدارَك مَنْ بَعُد عنكَ بِكتَابِك، واستعقِلْ حاجِبَك فإِنَّه يَقْضي عليك الوفُودُ قَبْل الوصولِ إليك بحاجِبِك، واستظرِفْ نَديمَك فإِنَّما يَزِنُك الدَّاخلُ إليكَ بِمثْقالِ مَنْ يَرَاه مَعَك. - وفاخَر كاتبٌ نديمًا فقال الكاتبُ: أنا معونةٌ، وأنت مَؤُونةٌ، وأنا لِلجِدّ، وأنت للهَزْل، وأنا للشِّدَّةِ، وأنت للَّذَّة، وأنا للحرب وأنت للسِّلْم. فقال النديم: أنا للنِّعمةِ، وأنتَ للخِدْمةِ وأنا للحُظْوة، وأنت للمِهْنَة، تَقُومُ وأنا جالس، وتَحْتَشِم وأنا مؤانِسٌ، تدْأبُ لِراَحتي، وتَشْقَى لِسَعادتي، فأَنا شَرِيكٌ، وأنتَ مُعِينٌ، كما أنَّكَ تابعٌ، وأنا قَرِين. - إلا أنَّ بعضَ البخلاءِ يقول:

إذَا وَجَدْتَ الْمُدَامَ فَاغْنَ بِهَا

عَنْ كُلِّ مَنْ فِي نَدَامِهِ سُخْفُ

فِي شُرْبِهَا مِنْ نَدَامِهِ خَلَفٌ

وَلَيْسَ فِيْهِ مِنْ شُرْبِهَا خَلَفُ

فَلَا يُشَارِكْكَ فِي السُّرُورِ بِهَا

مُشَارِكٌ كُلُّ شِرْكَةٍ أسَفُ

فما زَادَ بهذا القولِ على أنْ بَيَّن مكانَه من البُخْل والجَهْل، بل هو في ذلك كما قال أبو نُوَاس:

حَفِظْتَ شَيْئاً وَغَابَتْ عَنْكَ أشْيَاءُ

- ولعَمْرِي إِنَّ لِلنَّبيذ الفضَائلَ التي لا تُدْفَعُ، والخَصَائصَ التي لا تُجْحدُ، والقُوى التي تَعْكِسُ الأَضدادَ، وتُعَدِّل المزَاج، وتُصحِّح الطِّباع، وهو الموصوفُ بتَشْجِيع الجَبَانِ، وإِطْلاقِ اللِّسان، وتبسيط البَنَان، إِلا أنَّ فيه بإِزاء هذه الخِلال أشياءَ تَقْدحُ في محاسنه، وتبين عن مَعَايبه: منها أن صاحبه يَتَكَرَّهُهُ قَبْل شُرْبِهِ، ويُكَلِّحُ عند شَمِّه، ويَغْتَم أن يفضل في قَدحِه، ويكثر عتاب ساقيه، ويعاقر عليه، ويمزجه ليغيِّر طَعْمه، ويتجرَّعُه ولا يكاد يُسيغُه، ويستعيذ بالنُّقل بعده، ويعاني من الدُّوَارِ والخُمَارِ ما لا خفاء به، حتّى لقد قال بعضُ الأُدباء: لولا أنَّ المخمور يَعْلم قصَّتهُ لقَدَّمَ وصيَّتَه، ثمَّ السُّكْر، وهو أكبرُ عيوبِه، حتّى إِنَّ المِلَلَ كلَّها مُجْتمعةٌ على تحريمه غير مختلفة فيه، وحتّى لقد حرَّمَ الخمرَ في الجاهلية جماعةٌ من كبراء العرب وأفاضلهم، لِمَا نالهم من مَعَرَّة السُّكْرِ، ومنهم قيسُ بن عاصم السّعدي، وعامرُ بن الظَّرِب العدواني، وعفيفُ بن معد يكرب، ومِقْيَسُ بن ضبابة السّهمي، وعبدُ الله بن جُدعان، وكثير من هذه الطبقة نكره الإِطالة بذكر أسمائهم. - فلقيس بن عاصم في تحريمها:

رَأيْتُ الْخَمْرَ مُصْلِحَةً وَفِيْهَا

خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْكَرِيْمَا

لأَنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيْهَا

وَتَجْنُبُهُمْ بِهَا الأَمْرَ الْعَظِيْمَا

إِذَا دَبَّتْ حُمَيَّاهَا تَعَلَّتْ

طَوَالِعُ تَسْفَهُ الرَّجُلَ الْحَلِيْمَا

- وقال مِقَيْسُ بن ضبابة:

رَأيْتُ الْخَمْرَ طَيِّبَةً وَفِيْهَا

خِصَالٌ كُلُّها دَنَسٌ ذَمِيْمُ

وَلَا وَاللهِ أشْرَبُهَا حَيَاتِي

طِوَالَ الدَّهْرِ مَا طَلَعَ النُّجُومُ

- فأمّا مِقْيَسُ بن ضبابة فإنّه كان سَكِر، فجعل يَخُطُّ بِبَوْلِهِ ويقول: نَعَامة أوْ بَعِير، فلمّا أُخبر بذلك فحرَّمَ الشَّراب. - وأما عبدُ الله بنُ جُدْعَان فإِنه سَكِر وجعل يُسَاوِر الْقَمَر، فلما أصْبح وخُبِّر بذلك حَرَّمَه أيضا. - وقيل لأعرابي: أتَشْربُ النّبيذ ؟ فقال: أشْرَبُ ما يشربُ عَقْلي ؟- وقيل لِنَاذُوقٍ: لِمَ تَرَكتَ النَّبيذَ ؟ فقال: رأيتُ صاحبَهُ لا يَرْوَى منه، ووجدتُ بعضَه يدعُو إلى بَعْض، فتركتُ قَليلَهُ لكَثيرِه. - وممَّنْ كانَ يشربُهُ للشَّهْوةِ الْغَالِبَةِ فقط، ولا يُبَالي على أيِّ الحالات شَرِبَه، منفرداً وَحْدَه، أو مُجْتَمِعاً فيه مع غيره، جماعة لا يُتَّهمُون في عَقْلٍ ولا رَأْي، إِلا أنَّ إِفْراطَهم في هذه الشّهوةِ أبْطَلَهم، وغَلَبَ عليهم، ففَسَدَتْ حالُ دُنْياهُم ودِيْنهم. - منهم أبو الهندي شبث بن ربعي التّميمي، ومرّ به نصر بن سيار اللّيثي، وهو يميل سُكراً، فقال له: أفْسدتَ شرفَك، فقال: لَوْ لَمْ أُفْسِدْ شَرَفي لم تكن أنت وَاليَ خراسان. - وحَارثَةُ بن بَدْر الغُدَانيّ، وكان غَلَبَ على زِيَاد، وغلب الشرابُ عليه فعُوتب زيادٌ في الاستئثار به، فقال: كيف أطّرح رجلاً هو يُسَايرني منذ دخلتُ العراقَ، فلم تَصْطَك رِكاباه بركابي، ولا تَقَدَّمَني فنظرْتُ إِلى قفاه، ولا تَأَخَّر عَنَّي فَلَوَيْتُ عُنقي إِليه، ولا أخذَ عليَّ الشَّمسَ في شِتاءٍ قطَّ، ولا سَأَلتُه عن بابٍ من العلمِ إِلَّا ظَننتُ أنه لا يُحْسِنُ غيره ؟- والوَلِيدُ بنُ عُقْبة، وكان أميراً على الكُوفَةِ، فصَلَّى بهم صلاةَ الفَجْرِ ثلاثاً، ثم الْتَفتَ إليهم في وقتِ التَّسْلِيم ففال: أحَسْبُكُم أو أزِيْدُكم ؟- وأبو مِحْجَنِ الثَّقَفِي، وكان مِحْرَباًً مُغْرمًا بالشَّراب، وله مع سَعْد بنِ أبي وقَّاص فِي الشَّراب أخبارٌ يَطولُ شَرْحَها. ومَنْ لم نَذْكر أسماءَهم من هذِه الطَّبقة كَثِير. - فإِذَا كانت هذه صُورَة النَّبيذِ فإنّما يُغْتفر له ما ذكرنا، ويُتَجوَّز فيه، ويُتَجَافَى عنه، لما بُنِيَ عليه، وجُعِل سبباً إِليه مِن اجتماعِ الشَّملِ، وأُنْس المُنادَمة، وأرْيَحيَّة المذاكرة. - ولو انْفردَ النَّبيذُ بنفسه، وحُصِل عليه وحده دُونَ النَّديمِ المُسَاعد، والسَّماعِ المُطربِ لكانَ الْوِعاءُ أوْلَى به، فقد تَبينَّ بهذا أنَّ المُعَاقَر أفضلُ من العُقار، والنَّديم فائدة المُدَام، وأنشدني منشد:

لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا رَضَاعٌ وَلَكِنْ

وَلَّدَتْ بَيْنَنَا الْمُدَامُ رَضَاعَا

إِنْ يَكُنْ أوَّلُ الْمُدَامِ رَضَاعاً

أوْ يَكُنْ آخِرُ الْمُدَامِ صُدَاعَا

فَلَهَا بَيْنَ ذَا وَذَاكَ هِنَاتٌ

وَصْفُهَا بِالسُّرُورِ لَنْ يُسْتَطَاعَا

- ومن جيد ما مدح به النديم قول بعض المتقدِّمين:

أرى لِلْكَأْسِ حَقًّا لَا أرَاهُ

لِغَيْرِ الْكَأْسِ إِلَّا لِلنَّدِيْمِ

هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي دَارَتْ عَلَيْهِ

رَحَى اللَّذَّاتِ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيْمِ

- فأَمّا قول أبي نوّاس أمير هذا الشّأَن وفارسه:

خَلَوْتُ بِالرَّاحِ أُنَاجِيْهَا

آخُذُ مِنْهَا وَأُعَاطِيْهَا

نَادَمْتُهَا إِذْ لَمْ أَجِدْ مُسْعِدًا

أَرْضَاهُ أَنْ يَشْرَكَنِي فِيْهَا

فهذا بعدُ إنَّما يدلُّ على فضْلِ النَّديم، وأنّه لم يَتَفرَّد بالنَّبيذ مختاراً، وإِنّما توحَّد به ضرورة لقوله إنّه لم يجد نديماً مُرْتضى، أو ليس هو القائل:

وَالرَّاحُ طَيَّبَةٌ وَلَيْسَ تَمَامُهَا

إِلَّا بِطِيْبِ خَلَائِقِ الْجُلَّاسِ

- ولم تُفْتَتح أبياتٌ في مدحِ نَديمٍ أحْسَنَ من قولِ ابن مُسْهِر الطائي:

وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيْبَا

سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ

- ولِلعَطَوِي أشعارٌ كثيرةٌ في النَّدام، كلّها مختارة، فمنها:

يَقُولُونَ قَبْلَ الدَّارِ جَارٌ مُوَافِقٌ

وَقَبْلَ الطَّرِيْقِ النَّهْجِ أُنْسُ رَفِيْقِ

فَقُلْتُ: وَنَدْمَانُ الْفَتَى قَبْلَ كَأْسِهِ

وَمَا حَثَّ سَيْرُ الْكَأْسِ مَثْلُ صَدِيْقِ

وقال أيضاً:

الرَّاحُ وَالنَّدْمَانُ أحْسَنُ مَنْظَرًا

مِنْ كُلِّ مُلْتَفِّ الْحَدَائِقِ رَائِقِ

فَإِذَا جَمَعْتَ صَفَاءَهَا وَصَفَاءَهُ

فَاقْذِفْ بِكُلِّ مُلِمَّةٍ مِنْ شَاهِقِ

- ولقد مَلُحَ عِصَابَةُ الْجَرْجَرَائِيْ في قوله:

اِقْرَ السَّلامَ عَلَى الْأَمِيْرِ وَقُلْ لَهُ:

إِنَّ الْمُنَادَمَةَ الرَّضَاعُ الثَّانِي

^

باب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي