أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)/ما يلزم الرئيس لنديمه

من موسوعة الأدب العربي
< أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)
مراجعة ١٦:٤٩، ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (ما يلزم الرئيس لنديمه)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ما يلزم الرئيس لنديمه

ما يلزم الرئيس لنديمه - أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)

- قد ذَكَرْنَا من حالِ الرّؤساءِ فيما يَسْتَبدُّون به دُونَ ندمائِهم بِمحلِّ السّلطان، وخطرِ الرياسةِ ما أوْجَزْنَاهُ، وليست تلك الحالُ خاصةً إِلاّ لِلْمَلِكِ الأَجلِّ الذي لا يَسَعُهُ الإِخلالُ بالهيبةِ. - فأَمَّا مَنْ دُونَهُ فالإِنصافُ في المنادمةِ، وإِغلاقُ بابِ التَّدَفُّعِ والتحفظِ وإِيثارُ الانْبِساطِ والتبذّلِ أوْلى بهم، وأدلُّ على كرمِ العشرةِ، وحُسْنِ الصُّحبة. - وعَلَى أنّه قد كان من الخلفاءِ والأُمراءِ مَن يَتَوخَّى هذه الحال مع مجالسيه ومنادميه، كفِعْلِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز وطرقَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَة، فنهض فأَصلح السِّرَاجَ، وعاد إِلى موضعه، فأَكبر ذلك رجاءٌ فقال: قمتُ وأنا عمر، وعدتُ وأنا عمر. - ويزيدُ وكان ينادمُ الأَخْطَلَ، وهجا الأَخطلُ الأَنصارَ، هجاءً كثيراً، فأَجاره منهم، وكان يُسَوِّي بينه وبينه في أكرمِ المواضعِ من مجلسه وهو أمير. - والوليدُ بنُ عُقْبة، ولم يزلْ ينادمُ أبا زبيد الطَّائي، والياً ومعزولاً على وتيرةٍ واحدةٍ من الإنصافٍ لا يَنْتَقِلُ عنها، ويُجِلُّه ويعظَّمُهُ، ولا يُقدِّم أحداً عليه، حتّى هلك أبو زبيد فوجَدَ عليه وجداً شديداً، ثمّ اعْتلَّ، فيقال: إِنه دُفِنَ إِلى جانبه، ومَرَّ بقبريهما أشجعُ بنُ عمرٍو السّلمي، ومعه صديقان له، يقال لهما حمزةُ وسعيدٌ، فوقف بهما ثمَّ قال:

مَرَرْتُ عَلَى عِظَامِ أبِي زَبِيْدٍ

رَهِيْناً تَحْتَ مُوحِشَةٍ صَلُودِ

نَدِيْمٌ لِلْوَلِيْدِ ثَوَى فَأَضْحَى

مُجَاوِرَ قَبْرِهِ قَبْرُ الْوَلِيدِ

وَمَا أدْرِي بِمَنْ تَبْدَا الْمَنَايَا

بِأَشْجَعَ أوْ بِحَمْزَةَ أوْ سَعِيْدِ

فيقال: إِنّهم ماتوا على هذا النَّسَقِ أولا أولا. - والوليدُ بنُ يزيد بنِ عبد الملك نديمُهُ أبو كامل الذي يقول فيه:

مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي أَبَا كَامِلٍ

أَنِّي إِذَا مَا غِبْتَ كَالذَّاهِلِ

- وَحُكِيَ عن الرّشيدِ من حُسْن المُجَالسةِ، ولُطْفِ البِرَّ في المؤاكلةِ ما يجاوزُ هذا كلَّه، وهو أنَّ الفَزَارِيَّ قال: دخلتُ إِليه بالرّقَّةِ في قَصْرِ الخَشَبِ، ولم يكن معنا ثالثٌ غير مَنْ يقوم بين يديه من خاصَّةِ حشمه فَتَحاورْنَا مليّاً، ثم أومأَ إِلى بعضهم، فجاءَ بطبقٍ كبير مُغَطى بِمنديلٍ، فاستخرج رُطَبةً فأَكلها، ثمّ استخرج أُخرى فأَومأَ بها نحوي فقمتُ فتناولتُها، وقبَّلتُ يده، ثمّ أمر برفع المنديل، فلمّا رُفع لم أرَى في الطبقِ شيئاً، فقال إِنه كان فيه رُطبٌ أُهدِيَ لنا من العراق ولات حين الرطب، ولم يكن بقي غير ما رأيتَ، فعلمتُ أنّه أمَرَ بتعظيمه لئلا أرى قِلَّته فأَمتنعَ من أكل الرُّطَبة التي ناولنيها وأُوفِرها عليه. وقدْ رأينا جماعةً من جِلَّةِ الرؤساء وعظماءِ أصحابِ السلطان يَبْتَذِلُون أتباعَهُمْ، ويمتَهنُونَهُمْ في الخدمة فيما يرفعون عن مثله بَعْضَ مماليكم، فإذا خَلَوْا معهم للمنادمةِ اسْتَوَتْ بهم العشرةُ، فأَوْسَعُوهُم من البِرِّ والتكرمةِ، وربّما تجاوزوا في ذلك الحدَّ فَخَدَمُوهُمْ وأخدموهم أولادَهُمْ، وانتصبوا وَأتّكَؤوهُمْ، وتأَخَّرُوا في المجلسِ وصَدَّرُوهُمْ، فلا يَقْدحُ ذلك في رياستهم، ولا يحطُّ من منزلتهم بأن تسترق لهم قلوبهم، ويستخلص به نيّاتهم. - وأنشدني منشد:

فَتَىً إِذَا مَا الْحَرْبُ قَامَتْ بِهِ

قَامَ مَقَامَ الْأَسَدِ الْوَرْدِ

كَأَنَّهُ عَبْدٌ لإِخْوَانِهِ

وَلَيْسَ فِيْهِ خُلُقُ الْعَبْدِ

- وقال آخر:

وَإِنّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ نَازِلاً

وَمَا فِيَّ إِلَّا تِلْكَ مِنْ شِيَمِ الْعَبْدِ

- ويَلْزَمُهُ ألَّا يسقيَه من غيرِ ما يَشْرَبُهُ إِلاّ باختياره، واستدعائه شراباً يستصلحهُ، ويرى أنّه ملائمٌ لجسمه، فيسقيه ممّا يلتمسه من مَوْجُودِه، ولا يمنعه كلّما يستزيده من المزاجِ، ولو لم يتجنبْ ما ذممناه في تلوينِ الشرابِ إِلاّ لِمَا سار في هذا المعنى من قول الشّاعر:

رَأيْتُ نَبِيْذَيْنِ فِي مَجْلِسٍ

فَقُلْتُ لِإِخْوَانِنَا: مَا السَّبَبْ ؟

فَقَالُوا: الَّذِي نَحْنُ فِي بَيْتِهِ

يُفَضِّلُ قَوْماً لِسُوءِ الأَدَبْ

وقال العَطَويِ:

نَبِيْذَان فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ

لِتَفْضِيْلِ مُثْرٍ عَلَى مُعْسِرِ

فَلَوْ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَا فِي الطَّعَامِ

لَزِمْتَ قِيَاسَكَ فِي الْمُسْكِرِ

- وكان بعضُ الكرماءِ يأْخذُ نفْسَهُ بإِحضارِ الدّنِّ بطينه فيصبّهُ حيثُ يراه إِخوانُهُ ومنادموه، فيَبْزُلُهُ بين أيديهم، ويملأ منه الآنية حتى يَتَبَيَّنُوا أنَّ الشرابَ واحدٌ لا خَلْطَ فيه. - ومن أَبْيَنِ الإِنصافِ في هذا البابِ أن يُفْرَدَ كلُّ نديمٍ بآلتِهِ ومزاجِهِ، وَيُحَكَّمَ على نفسه، ويُقَلِّدَ سقيها على حسب طاقته واحتماله، إِلاّ مَنْ كان مُتَجَمِّلاً غير متسع في الآلة والآنيةِ، فمهما أعجزهُ وتعذَّر عليه مِنْ ذلك فإِنّ العدلَ في السَّقْيِ يمكنه ولا يعجزه. - ويُسْتَحسنُ لأَبِي نُواسٍ نحو هذا:

وَلَسْتُ بِقَائِلٍ لِنَدِيْمِ صِدْقٍ

وَقَدْ أَخَذَ الشَّرَابُ بِوَجْنَتَيْهِ

تَنَاوَلْهَا وَإِلَّا لَمْ أَذُقْهَا

فَيَأْخُذَهَا وَقَدْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ

وَلَكِنِّي أُحيدُ الْكَأْسَ عَنْهُ

وَأَتْرُكُهَا بِغَمْزَةِ حَاجِبَيْهِ

فَإِنْ طَلَبَ الْوِسَادَ لِنَوْمِ سُكِرٍ

دَفَعْتُ وِسَادَتِي أَيْضًا إِلَيْهِ

- ومثلُهُ قول السَّرِيِّ بن عبد الرّحمن في ظرفاءَ مِنَ الحجازيين:

إِذَا أَنْتَ نَادَمْتَ الْعُتَيْرَ وَذَا النَّدَى

جُبَيْراً وَنَازَعْتَ الزُّجَاجَةَ خَالِدَا

أَمِنْتَ بِحَمْدِ اللهِ أَنْ تُقْرَعَ الْعَصَا

وَأَنْ يُوقِظُوا مِنْ نَوْمَةِ السُّكْرِ رَاقِدَا

- وَخَالفَ الحسينُ بن الضحاكِ أبا نواس في أبياته فقال:

يَا مُدِيْرَ الْكَأْسِ حُيْيِّ

تَ عَلَى الْكَأْسِ بَدِيَّا

سَأَقُولُ الدَّهْرَ أَحْسَنْ

تَ وَإِنْ كُنْتَ مُسِيَّا

لَسْتُ أَسْتَعْفِيْكَ مِنْ حَيْ

فِكَ فِي السَّقْيِ عَلَيَّا

وفيها يقول:

قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ طَوْرَيْ

نِ خَلِيّاً وَشَجِيَّا

فَأُرَى مِنْ عَدَم الصَّبْ

وَة وَالْكَأْسِ شَقِيَّا

- وَجَوَّدَ بَعْضُ الكتابِ في قوله:

وَلَسْتُ بِمُسْتَعْفٍ مِنَ السُّكْرِ صَاحِباً

إِذَا كَانَ يَهْوَى أَنْ أَصِيْرَ إِلى السُّكْرِ

وَلَكِنَّنِي أَسْعَى إِلَى السُّكْرِ وَاثِقاً

بِمَا فِيْهِ إِنْ أَخْطَأَتُ مِنْ سِعَةِ الْعُذْرِ

وَإِنْ هُوَ أَعْفَانِي سَكِرْتُ وَلَمْ أَكُنْ

لِأُكْثِرَ مِنْ شُرْبٍ يَزِيْدُ عَلَى الْقَدْرِ

^

باب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي