أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)/المحادثة

من موسوعة الأدب العربي
< أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)
مراجعة ١٦:٤٩، ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (المحادثة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

المحادثة

المحادثة - أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)

- فأَمَّا سببُ النّديم الذي هو رأْسُ ماله، وأنفَسُ أعلاقِهِ فهو ُ، وهي أخفُّ الَّلذاتِ مؤونة، وأقلُّها إِتعابًا للحاسَّةِ. - وقد قيل لشيخٍ فَانٍ: ما بقيَ من لذَّاتِك ؟ قال: استماعُ المُلَح. - وقال المهلَّبُ: العيشُ كلّه في الجليسِ الممتعِ. - وجوَّدَ عليُّ بن العبّاس الرُّومي:

وَسَئِمتُ كُلَّ مَآرِبِي

فَكَأَنَّ أطْيَبَهَا خَبِيْثْ

إِلَّا الْحَدِيْثَ فَإِنَّهُ

مِثْلُ اسْمِهِ أبَدًا حَدِيْثْ

- وسَأَلَتْ فَنَنٌ - وهي جاريةٌ أريبة كانت من آدَبِ الجواري في زمانها - مُسْلِماً، المعروف بالمتَّيم، في مُذَاكرة جَرتْ بينهما طويلة فقالت: أيُّ الأُمورِ عندك ألذُّ وأشهى، محادثةُ الرجالِ، أم استماعُ الغناءِ، أم الخلوةُ بالنساءِ ؟ فقال: سأَلتِ عن أمور لا تحسن محادثةُ الرّجالِ إِلاّ بِحُسْنِ التَّفهُّمِ، ولا يصلحُ الغناءُ إِلا بشُرْبِ النبيذ، ولا الخلوةُ مع النساءِ إِلاّ بالموافقةِ، وسعةِ القدرة، قالت فأَيّ الثلاثةِ تختار ؟ قال: محادثةُ الرّجال. - ومثلُ قوله: لا تَحْسُنُ محادثةُ الرجالِ إِلاّ بِحُسْنِ التَّفهُّمِ، قولُ الآخرِ: تعلَّمْ حُسْنَ الاستماعِ كما تتعلَّم حسنَ الكلامِ. - وحُسنُ الاستماعِ إِمهالُ المحدِّثِ حتى ينقضيَ حديثُه، وقلَّةُ التقلُّبِ إِلى الجوابِ، والإِقبالُ عليه بالوجه، والنّظرُ والوعيُ لما يقول، وأن تُصغيَ إِلى حديثه، ولا تشغل طرفَكَ عنه بنظر، ولا أطرافَكَ بعمل، ولا قلبَك بفكر، ولا تسابقه إلى حديث يبدأُ به لمعرفتك بذلك الحديث، بل تُرِيْه من الارتياحِ له، والتعجُّبِ منه ما تُوهِمُهُ أنّه لم يخطر ببالك، ولا وَقرَ في سْمعِك. - وأمتعُ النّاسِ حديثاً أحسنُهم إِفهاماً، ومن أدبِ الحديثِ ألاّ يُقْتَضبَ اقتضاباً، ولا يُهجم عليه، وأن يُتَوصَّلَ إلى اجتراره بما يشاكله، ويسبب له ما يحسنُ أن يجريَ معه في غرضه، حتّى يكون بعضُ المفاوضة متعلّقاً ببعض على حسب قولهم في المثل: 'الحديثُ ذو شُجون'، يعنى بذلك تشعُّبه وتفرُّعه عن أصلٍ واحد إلى معانٍ كثيرة، وألاّ تتبدئ حديثاً ثمّ تقطعه، وتعدَ بإِتمامه، كأنّك روَّأْتَ فيه بعدَ إبتدائِه، ولتكن التَّروئةُ له قبل التفوُّهِ به، فإِن احتجارَ الحديث بعد ابتدائه سخف. - ولا يتَّسعُ للنّديم من العذرِ في إِكثارِ الصمتِ ما يتسعُ للكاتب، لأَنّ ذلك ينزل من الكاتب على الفكر في تدبير الأعمالِ، ونظمِ الأُمور، والانتظار لأَن يُسأَلَ فيجيب، أو يُستشارَ فيصيب، وهو من النّديم عيٌّ وانقطاع، وقلَّةُ اِمتاع، كما قال بعض أصحابنا:

وَصَاحِبٍ أَصْبَحَ مِنْ بَرْدِهِ

كَالْمَاءِ فِي كَانُونَ أَوْ فِي شَبَاطْ

نَدْمَانُهُ مِنْ ضِيْقِ أخْلَاقِهِ

كَأَنَّهُ فِي مِثْلِ سِّمِ الخْيَاطْ

نَادَمْتُهُ يَوْمًا فَأَلْفَيْتُهُ

مُتَّصِلَ الصَّمْتِ قَلِيْلَ النَّشَاطْ

حَتَّى لَقَدْ أَوْهَمَنِي أَنَّهُ

بَعْضُ التَّمَاثِيْلِ الَّتِي فِي الْبِسَاطْ

- وقالَ بعضُ العلماء: إِذا لم تكن المحدِّثَ أو المُحَدَّث فقُم. - ومع ما قلنا من إِكثارِ النّديمِ الحديث فأَخلى لحديثه وأحسنُ لموقعه أن يتنكَّبَ منه الطِّوال ذوات المعاني القلقه، والأَلفاظِ الوحشيّةِ التي يَفْنَى باقتصاصها زمانُ المجلس،وتتعلّق بها النفوسُ، وتحبسُ على أواخرها الكؤوس، فإِنّ ذلك بمجالسِ القصّاصِ أشبهُ منه بمجالِس الخواص. - ولم يَزَالوا يمدحون الأَحاديثَ بالقِصَرِ كقولِ امرئ القيس:

وَحَدِيْثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنَا

وَحَدِيْثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ

- وقال آخرُ:

إِذَا هُنَّ حَدَّثْنَ الْحَدِيْثَ قَضَيْنَهُ

وَمَنَّيْنَنَا أَنَّ الْحَدِيْثَ يُعَادُ

- وقال عبد الله بن المعتز:

بَيْنَ أقْدَاحِهِمْ حَدِيْثٌ قَصِيْرٌ

هُوَ سِحْرٌ وَمَا سِوَاهُ كَلَامُ

- وقال آخرُ:

كَمْ مِنْ حَدِيْثٍ قَصِيْرٍ لِي أَصِيْدُ بِهِ

قَلْبَ الْفَتَاةِ وَأَشْعَارٍ أُسَدِّيْهَا

- وقال آخر: لا تجعلُوا مجلسَكم حديثاً كلَّه، ولا إِنْشادًا كلّه، ولكن امْزُجُوه، واجعلوا من كلِّ شيءٍ نصيبًا. - ومن أدب الحديث ألاّ يكثرَ المحدِّث التّبسمَ والقهقهة. - وقال نجاحُ بنُ سَلَمة للمتوكل لمّا دعاه إلى منادمته: فِيَّ خِصالٌ لا تصلحُ معها منادمةُ الخلفاءِ قال: وما هي ؟ قال: سَلسُ البَوْلِ، وأبتسمُ إِذا حدَّثتُ، ولا أقدِرُ من الشُّرْبِ على أكثرَ من رطلين.فقال له: من حقِّ صدقِك عنها أن نُسَامحَك بها فَنحملها. - وقد اختلَفَ رأْيُهم في موقعِ الحديث على الطّعامِ، فاستحسنهُ قومٌ، وكرِهَهُ آخرون، وهو من صاحبِ المنزلِ والمائدةِ أحسَنُ منه من الأَكيلِ والزَّائرِ، كما قال بعضُهم:

صَادَفَ زَادًا وَحَدِيْثًا مَا اشْتَهَى

إِنَّ الْحَدِيْثَ طَرْفٌ مِنَ الْقِرَى

- ويُسْتَجَادُ قولُ بعضِ المحدَثِين:

كَيْفَ احْتِيَالِي لِبَسْطِ الضَّيْفِ مِنْ خَجَلٍ

عِنْدَ الطَّعَامِ فَقَدْ ضَاقَتْ بِهِ حِيَلِي

أخَافُ تَرْدَادَ قَوْلٍ لِي فَأَحْشِمَهُ

وَالصَّمْتُ يُنْزِلُهُ مِنِّي عَلَى الْبَخَلِ

- وَأكل عندي بعضُ المُجَّان من النبيذيين، فسمعَنِي وأنا أحمدُ الله عزَّ وجلَّ في وَسَطِ الطَّعامِ لشيءٍ خَطَرَ ببالي من نِعَمِهِ التي لا تُحصَى، فنهضِ، وقال: أُعْطي اللهَ عهدًا إِنْ عاودتُ، وما معنى التحميد في هذا الموضعِ ! كأَنك أردت أنْ تعلمنا أنَّا قد شبعنا، ثم مال إلى الدَّوَاةِ والقرطاسِ، وكتبَ ارتجالاً:

وَحَمْدُ اللهِ يَحْسُنُ كُلَّ وَقْتٍ

وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أُولَى الطَّعَامِ

لِِأَنَّكَ تُحْشِمُ الأَضْيَافَ فِيْهِ

وَتَأْمُرُهُمْ بِإِسْرَاعِ الْقِيَامِ

وَتُؤْذِنُهُمْ وَمَا شَبِعُوا بِشبْعٍ

وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خُلُقِ الْكِرَامِ

- ولستُ أرَى بالحديثِ من الزّائرِ والمزُور إِلا أنَّ أحَسَنَ حديثِ النديمِ على الطعامِ، وأليقَه بالحال التي هو فيها أن يكون في معنى الطِّبِّ، وذكر الأَغذيةِ ومحمودِها ومكروهِها. - فإِنْ أحسَّ من صاحبه بُخْلاً صلحَ أيضاً أن يذكرَ له طَرفًا ممّا جاءَ في تخفيف الطعامِ، وتَرْكِ التَّمَلُّؤِ منه، والأخذِ بمقدارِ الحاجة إِليه، وما يقيمُ الجسمَ دون ما يتعرض به للتُّخمةِ، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: 'اجْعَلُوا الْبَطْنَ أثْلَاثًا ثُلُثًا طَعَامًا، وَثُلُثًا شَرَابًا، وثُلُثًا نَفَسًا'.ثم مثل قول متمم بن نُويْرَة:

لَقَدْ كَفَّنَ الْمِنْهَالُ تَحْتَ رِدَائِهِ

فَتىً غَيْرَ مِبْطَانِ الْعَشِيَّاتِ أرْوَعَا

يريد أنه كان يُؤْثِر الأَضيافَ بالزّادِ على نفسه، وهو لا يستوفي منه شِبَعه، وقال المبرِّدُ: لأَنّه كان يُؤَخِّرُ العشاء إِلى اللّيل، انتظارًا للطَّارقِ.وقول حاتمُ:

وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي رَفِيْقِيَ أنْ يَرَى

مَكَانَ يَدِي مِنْ مَوْضِعِ الزَّادِ أقْرَعَا

وكُنْتَ إِذَا أعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ

وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا

وقال الآخر: البِطْنة تُذهب الفِطْنة. وقول الآخر: عاهةُ الشِّبع أشدُّ من عاهةِ الجوع. وقول بُقْرَاط: الإِقلالُ من الضارِّ خيرٌ من الإِكثارِ من النّافعِ. ثمَّ إِنّ استشاره في نقلٍ أو عَشاءٍ لم يُشِرْ عليه إِلاّ بما لَطُفَ من النقل، وحَادَ به عن الطعامِ، وخوَّفه عاقِبَتَهُ. - وإن كان سَخِيَّا أكولاً ذاكَرَهُ بما يُعْجبُه، ويُشَاكلُ مذهبَهُ في إِخْمَادِ قوةِ الشَّهوةِ للأَكل، والإكثارِ منه، وما فيه من اللَّذةِ، كقولهم: الأَطْيبانِ: الأَكلُ والنكاحُ. وكقولِ الآخر:

حُسْنُ أكْلِ الْفَتَى يَدُلُّ عَلَى إِيْ

نَاسِهِ ضَيْفَهُ وَبَسْطِ أكِيْلِهْ

وَتَرَاهُ يُقِلُّ مِنْهُ فَيَدْعُو

ذَاك أضْيَافَهُ إِلَى تَبْخِيْلِهْ

- وحُكي أنَّ الحجَّاجَ أصْبحَ جائِعًا فقالَ لجلسائه: ما خيرُ الغذاءِ ؟ فقال: ابنُ الْقِريَّةِ: بَوَاكِرُهُ أيّها الأمير، قال: ولمَ ذلك ؟ وهل هو كذلك في كلِّ أوانٍ ؟ قال: نعم، إِن كان الزَّمَانُ شتاءً فِلطُولِ اللّيلِ، وهَضْمِ المعدة للطّعامِ وإِن كان قيظًا فلبردِ الماءِ، وقلَّةِ الذباب. ^

باب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي