رثاء فراشة

من موسوعة الأدب العربي
مراجعة ١٥:٤٢، ٢ أكتوبر ٢٠٢١ بواسطة imported>Al-Adab
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أبيات قصيدة رثاء فراشة لـ نزار قباني

1
من أصعب الأشياء، أن يكتب الإنسان تاريخ فراشة
فتاريخ الفراشات، يكون عادة مكتوبا على أجنحتها
بالأخضر.. والأزرق.. والأحمر.. والبرتقالي..
ناديا تويني، هي فراشة منقوشة بالشعر من رأسها حتى قدميها..
وأنا طول عمري، أحسب ألف حساب، قبل أن ألمس
جناحي فراشة، حتى لا يهرهر غبار القمر على
أصابعي….

2
حين التقيت ناديا تويني لأول مرة، تصورت أنها طالعة من كتاب. لم أصدق عيني
فالنساء عادة يطلعن من سوق الصاغة، أو من معارض الأزياء، أو من صالونات التجميل…
يطلعن من شارع الحمراء.. أو من شارع فيا
فينيتو.. أو من شارع الفوبور سانت أونوريه..
ولكنهن لا يطلعن – إلا نادرا – من غابات الكتب..
ناديا تويني، حين شاهدتها، كانت جميلة ككتاب
ومرصعة بالحروف والكلمات، كجدار كنيسة بيزنطية
كانت معتقة بالتاريخ.. ككأس نبيذ..
ومكتظة بالعطايا كبيدر قمح…
وكانت تتكحل، مرة، بحزنها الخصوصي..
ومرة بحبر المطابع..
ومرة، بأحزان لبنان….

3
صعب على شاعر أن يقترب من شعر ناديا تويني..
فهي قمر شعري..
وكانت أمي توصيني أن لا أقرأ على ضوء القمر..
حتى لا أغرق في هذه المحبرة المشغولة بالحليب، والعشق، وأسلاك الذهب..
الاقتراب من ناديا تويني صعب..
كالاقتراب من حمامةٍ مرسومة على سقف كنيسة..
كالاقتراب من ميعاد غرام..
كالاقتراب من حورية البحر..
كالاقتراب من ليلة القدر..
كالاقتراب من رائحة الله ..

4
دعتني منذ سنوات إلى منزلها في (بيت مري) .
دعاني القمر.
وحين انفتح الباب، واشتعلت ابتسامتها
كحقل من أزهار القطن، تذكرت نصيحة أمي
وخفت أن أقوم بأية حركة تجرح زجاج القمر..

5
يا ربي : كيف تستطيع امرأة أن تنعجن بالشعر، وتنزرع فيه، كما ينزرع الحلق الفضي في آذان الإسبانيات؟
كيف يختلط دم القصيدة، بدم ناديا تويني! حتى إذا غرست دبوسًا في جسدها، لم تعرف أي دم سال.. دم
القصيدة.. أم دم ناديا تويني؟
كيف تخرج ناديا من كتبها لتستقبل الناس، وتحادثهم،
وتلاطفهم، ثم تعود في آخر الليل، لتنام في أجفان الحروف؟
كيف يتطابق الأصل والصورة في هذا الكيان الضوئي،
فلا تجد خللا ولا تنافرًا بين الصوت وبين الشفتين.. بين الورقة وبين الأصابع.. بين البجعة وبين ماء البحيرة.
ففي حين نرى ناديا تويني، تلبس ثوب الشعر، وتبدو
للناس طبيعية كسنبلة القمح وتتشابه كالليرة الذهبية من وجهيها .. نجد عشرات الشعراء
العرب يلبسون الثياب المستعارة إذا قابلوا الآخرين كأنهم في حفلة كرنفال.. حتى إذا عادوا إلى بيوتهم، ونزعوا ملابسهم التنكرية، تحولوا إلى أبالسةٍ.. وشياطين..
وإذا كان بعض الشعراء العرب، يشبهون شعرهم بنسبة 30 بالمئة.. وبعضهم يشبهون شعرهم بنسبة 10 بالمئة.. فإن بعض الشعراء لدينا، لا علاقة لهم إطلاقًا بما يكتبون..

6
ثمة اتفاقية جنتلمان بين ناديا تويني.. وبين الموت.
كان يفتح الباب عليها، فإذا وجدها تكتب شعراً، اختجل من نفسه، وانسحب على أطراف أصابعه..
حتى لكأن الموت، قاريء للشعر، من الطراز الأول
كانت تعطيه قصيدة، فيتخدر بإيقاعاتها الجميلة، وينام شهرًا…
ثم يعود بعد شهر ليجبي الضريبة من جديد، فتسمعه ناديا آخر قصيدة كتبتها.. فتسيل دموعه على خديه، وينصرف..
وهكذا، استطاعت ناديا تويني أن تدجن الموت.. وتقلم أظافره.. وترشوه بكلماتها الجميلة على مدى عشرين عامًا.
الشعراء وحدهم هم القادرون على قلب مخططات الموت ولخبطة حساباته..
وهم القادرون بالشعر، على إلغاء موتهم.. أو تأجيله على الأقل..
فمن دانته، إلى شكسبير، إلى فاليري، إلى رامبو، إلى أراغون، إلى بابلو نيرودا، إلى المتنبي، إلى أبي تمام، إلى أمين نخلة،
إلى بشارة الخوري، إلى إلياس أبي شبكة، إلى ناديا تويني.. كان الموت يشعر بارتباك حقيقي في حضرة هؤلاء.. وفي حضرة كلماتهم العظيمة..

7
كانت جميلة كلبنان..
صافية كينابيعه..
عالية كأمواجه..
طموحة كمراكبه..
وادعة كرمال شواطئه.. ومغسولة بالوجع كأغانيه..
لم يكن معقولًا أن يموت لبنان، وتبقى ناديا تويني.
ولا كان معقولًا أن يتوقف قلب ناديا تويني عن النبض، ولا يتوقف قلب لبنان..
هناك كائنات ترتبط دورتها الدموية، بالدورة الدموية لغروب الشمس مثلًا.
وهناك كائنات، يرتبط جهازها العصبي، بعريشة عنب..
أو شجرة دفلي.. أو بمحارة على شاطئ البحر..
وهناك كائنات تسافر بتوقيت واحد مع بعضها، كالنجوم، والأسماك، واللقالق، ورائحة زهر البرتقال..
ولأن ناديا تويني كانت جزءًا من سفر العصافير، وسفر المراكب، ورائحة النعناع، وبكاء الأمطار على قراميد بيروت القدمية،
فلقد قدمت كل هذه الكائنات استقالتها الجماعية إلى الله..
لأنها – بعد ناديا تويني- تشعر أنها عاطلة عن العمل..

عن نزار قباني

نزار قباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) شاعر سوري معاصر من مواليد مدينة دمشق.

تعريفه من ويكيبيديا

نزار بن توفيق القباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، ولد في 21 مارس 1923 من أسرة عربية دمشقية عريقة. إذ يعتبر جده أبو خليل القباني من رائدي المسرح العربي. درس الحقوق في الجامعة السورية وفور تخرجه منها عام 1945 انخرط في السلك الدبلوماسي متنقلًا بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966؛ أصدر أولى دواوينه عام 1944 بعنوان "قالت لي السمراء" وتابع عملية التأليف والنشر التي بلغت خلال نصف قرن 35 ديوانًا أبرزها "طفولة نهد" و"الرسم بالكلمات"، وقد أسس دار نشر لأعماله في بيروت باسم "منشورات نزار قباني" وكان لدمشق وبيروت حيِّزٌ خاصٌّ في أشعاره لعلَّ أبرزهما "القصيدة الدمشقية" و"يا ست الدنيا يا بيروت". أحدثت حرب 1967 والتي أسماها العرب "النكسة" مفترقًا حاسمًا في تجربته الشعرية والأدبية، إذ أخرجته من نمطه التقليدي بوصفه "شاعر الحب والمرأة" لتدخله معترك السياسة، وقد أثارت قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" عاصفة في الوطن العربي وصلت إلى حد منع أشعاره في وسائل الإعلام.—قال عنه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة : (نزار كما عرفته في بيروت هو أكثر الشعراء تهذيبًا ولطفًا).

على الصعيد الشخصي، عرف قبّاني مآسي عديدة في حياته، منها مقتل زوجته بلقيس خلال تفجيرٍ انتحاري استهدف السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل، وصولًا إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته "الأمير الخرافي توفيق قباني". عاش السنوات الأخيرة من حياته مقيمًا في لندن حيث مال أكثر نحو الشعر السياسي ومن أشهر قصائده الأخيرة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، وقد وافته المنية في 30 أبريل 1998 ودفن في مسقط رأسه، دمشق.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي