إلى قمة الزمن الغابر
أبيات قصيدة إلى قمة الزمن الغابر لـ علي محمود طه

إلى قِمَّةِ الزَّمنِ الغابرِ
سَمَتْ رَبَّةُ الشعر بالشاعرِ
يَشُقُّ الأثيرَ صدىً عابراً
وروحاً مُجَنَّحَةَ الخاطرِ
مضتْ حرةً من وثاق الزَّمانِ
ومن قبضةِ الجسدِ الآسرِ
وأوفتْ على عالَمٍ لم يكنْ
غريباً على أمسِها الدَّابرِ
نمَتْ فيه بين بناتِ السديمِ
وشبَّتْ مع الفلكِ الدائرِ
تُلقَّنُ سيرَتَها في الحياة
وتنطُقُ بالمثلِ السائرِ
وترْسُمُ أسماءَ ما عُلِّمَتْ
من القلم المبدع القادرِ
مشاهدُ شتى وَعَتها العقولُ
وغابتْ صُواها عن الناظرِ
وجودٌ حوى الروح قبل الوجودِ
وماضٍ تمثَّلَ في حاضرِ
تبدَّى لها فانجلى شكُّها
وثابت إلى وَعْيِها الذَّاكرِ
وأصغت فمرت على سمعِها
روايةُ ميلادِها الغابرِ
هو البعثُ فاستمعوا واقرأوا
حديثَ السَّماءِ عن الشاعرِ
عَجبتُ مَنِ الملَكُ العابرُ
ومنْ ذلك الشَّبَحُ الطَّائرُ
أهَلَّا علينا فما سلَّما
ولا صافح الناظرَ الناظرُ
وللرِّيحِ حولهما زَفَّةٌ
كما صَدَحَ المِزْهَرُ الساحرُ
أفي عالمِ الأرضِ بعثٌ جديد
أم الوهْمُ مثّله الخاطرُ
نعم هو روحٌ جميلُ الإهاب
يُنِيلُ الرِّياحَ جَنَاحَيْ مَلَكْ
وذلك هرميسُ يَسْري بهِ
سُرى النورِ في سُبُحاتِ الفلكْ
عرفناهُ لا شكَّ هذا فتىً
سَيَسْلُكُهُ الفنُّ فيمن سَلَكْ
غداً تملأُ الأرضَ ألحانهُ
ويَبْقى صداها إذا ما هلَكْ
إلى الأرضِ فليمضِ هذا الشقيُّ
ألا ولتَفِضْ كأسُهُ بالشجونْ
جزاءً لِما غضّ من أمرنا
ومرَّ كأنْ لمْ تلاقَ العيونْ
أراهُ ولمَّا يَزَلْ بيننا
أصابَتْه لُوثَةُ أهلِ الفنونْ
لئنْ صحَّ ما كان من أمرهِ
فيا شِقْوَةَ الأرضِ ممَّا يكونْ
حنانكِ يا أختِ لا تغضَبي
فما اختالَ زهواً ولا استكبرا
لقد كفَّ عينيهِ بَرْقُ الحياةِ
فمرَّ بنا دون أن يُبْصِرا
لنا مِثْلُهُ في غدٍ غشيةٌ
إذا ما حللنا رحابَ الثرى
إذا كان في الأرضِ هذا الشقاءُ
فلا كانَ بَعْثٌ ولا قُدِّرا
أرى في حديثكِ معنى الرِّضا
وأسمعُ فيهِ هُتَافَ الحنانْ
فهلا ذكرتِ لهُ إخوةً
حديثهمُ ملءُ سَمْعِ الزمانْ
أصاروا الفنونَ رُمُوزَ الأثامِ
واستلهموا الشرَّ سِحْرَ البيانْ
وأغرَوْا بحواءَ ما لُقِّنوا
وما حذَقُوا من طريدِ الجنانْ
ألمْ تسمعِي بفتى شاعرٍ
يُحَمِّلُها عبءَ أوزارِهِ
ترَشَّفها خمرةً فانتشَى
فألقمها مرّ أثمارِهِ
أنالته أجمَل أزهارِها
فأهدى لها شَرَّ أزهارِهِ
إذا كنتِ يا أخت لم تسمعي
خُذي فاقرأي بعضَ أشعارِهِ
ولفَّتْ ذراعين كالحيّتينِ
عليَّ وبي نشوةٌ لم تطِرْ
وقد قرَّبتْ فمَها من فمي
كشِقَّينِ من قبَسٍ مُسْتَعِرْ
أشمُّ بأنفاسها رغبةً
ويهتفُ بي جفنُها المنكسرْ
تبيَّنْتُ في صدرها مصرعي
وآخرة العاشقِ المنتحِرْ
أفي حُلُمٍ أنا أم يقظةٍ
ومنْ أنتِ أيتها الخاطئهْ
هو الحبُّ لا بل نداءُ الحياة
تُلبِّيهِ أجسادُنا الظامئهْ
يَخِفُّ دمي لصداهُ الحبيبِ
وتدفعني القُدرةُ الهازئهْ
كأني ببحرٍ بعيدِ القرار
طوى أفقَه وزوَى شاطئهْ
أرى ما أرى جسَداً عارياً
تضجُّ به الشهوةُ الجائعهْ
أرى ما أرَى حَدَقيْ ساحر
تؤجّان بالنظرة الرائعهْ
أرى ما أرى شَفتيْ غادةٍ
ترِفَّان بالقُبلَةِ الخادعهْ
تُساقطني ثمراً ما أرى
أرى حيَّةَ الجنَّة الضائعهْ
بعينكِ أنتِ فلا تُنكري
صفاتِ أنوثتكِ الشَّاهدهْ
تَمثَّلْتِ شتَّى جسومٍ وكم
تجدَّدْت في صُوَرٍ بائدهْ
نعم أنت هنَّ نعم ما أرى
أرى الكلَّ في امرأةٍ واحدهْ
لقد فنيَتْ فيك أرواحهن
وها أنتِ أيتها الخالدهْ
لقد كنتِ وحْي رَخامٍ يصاغُ
فأصبحتِ لحماً يثير الدماءْ
وكنتُ فتىً ساذجاً لا أرى
سوى دميةٍ صوِّرت من نقاءْ
أُنيلُ الثرى قَدَميْ عابرٍ
يعيش بأحلامِه في السماءْ
فأصبحتُ شيئاً ككل الرجال
وأصبحتِ شيئاً ككل النساءْ
وكنتِ أميرة هذي الدُّمى
وصورةَ حُسنٍ عزيز المنالْ
وكنتِ نموذجَ فنِّ الجمالِ
أحبُّكِ للفنِّ لا للجمالْ
أرى فيكِ ما لا تحدُّ النّهى
كأنكِ معنىً وراء الخيالْ
فجرَّدْتِني رجلاً أشتهي
وجرَّدتُ أنثى تشهَّى الرجالْ
دعيني حواءُ أو فابعدي
دعيني إلى غايتي أنطلِقْ
أخمرٌ ونار لقد ضاق بي
كِياني وأوشِكُ أن أختنِقْ
أرى ما أرى لهباً بل أشمُّ
رائحةَ الجسد المحترقْ
فيا لكِ أفعى تشهَّيتُها
ويا ليَ من أُفعوانٍ نزقْ
كفانا فقد جُنَّ هذا الفتى
وجاوز حدَّ الكلام المباحْ
نكاد نُحِسُّ اختلاجَ النجوم
ونسمع مُضْطرباً في الرياحْ
مريضُ الغريزةِ فتَّاكُها
حَبَتْهُ الطبيعةُ أمضَى سلاحْ
سَقَتْهُ الشياطينُ يحمومَها
فمجَّ الرحيقَ وذمَّ الصباحْ
تأثَّم بالفنِّ حتى غوَى
وما الفنُّ بالمرأةِ الخاطئهْ
هو الدمُ واللحمُ ما يشتهي
هو الخمرُ والمتعةُ الطارئهْ
وكم في الرجالِ سُعَارُ الوحوش
إذا لمسوا الجُثَّةَ الدافئهْ
فلا تذكري فنَّ هذا الفتى
بل الحيوانيةَ الخاسئهْ
رأى جسمَ حواءَ فاشتاقَه
فهاجتْ به النزوة المُسْكِرَهْ
سَبى روحَها فاشتهى جسمَها
فثارتْ بعزّةِ مستكبرَهْ
سَمَا جسمُها وتأبَّى عليه
فجرَّدَ في وجهها خِنجرَهْ
وهمَّ بها فالتوى قصدهُ
فأرسل صيحتَه المُنكرَهْ
ألمْ يَنسِمِ الخُلدَ من عطرها
ألمْ يعْبدِ الحسنَ في زهرِها
ألم يقبسِ النورَ من فجرها
ألم يسرقِ الفنَّ من سحرِها
شفَتْ غُلّةَ الفنِّ حتى ارتوى
وإن دنَّسَ الفنُّ من طهرِها
وهامَتْ على ظمأٍ روحُها
وكم ملأوا الكأسَ من خمرِها
على مَذْبَحِ الحب من قلبها
سِراجٌ يُسبِّح مَنْ لألأه
منارٌ يجوبُ الدجى لمحهُ
فتلقى السفينُ به مرفأه
يبثُّ الحرارةَ بَرْدَ الشتاءِ
ويُلهبُ شُعلته المطفأه
وتمشي الحياةُ على نورِهِ
وما نورُهُ غيرُ عينِ امرأه
خطيئتُها قِصَّةُ الملهمين
وإغراؤها الفرَحُ المفتقَدْ
بأرواحهم يَرتقون الخلودَ
على سُلَّمٍ من متاع الجسدْ
ولو لم تكن لهوى فنّهم
صريعَ الظلام قتيلَ الجمَدْ
وما الفنُّ إلَّا سعيرُ الحياةِ
وثورتُها في محيط الأبدْ
لهيبٌ إذا الرُّوحُ مرَّتْ بهِ
تضاعفتِ الرُّوحُ في نارهِ
يُطيقُ القويُّ لظى جَمْرِهِ
ويعشو الضعيفُ بأنوارهِ
رَمَتْ فيهِ حواءُ آثامها
فذابتْ على صُمِّ أحجارهِ
لقد قرَّبَتْ جَسداً عارياً
وقلباً يَضِنُّ بأسرارهِ
أمن صَنْعَةِ اللّه هذا الجمالْ
نعم ومن الفنِّ هذا المثالْ
على مَعْرِضٍ مرمري الدُّمى
ترامى أشعتُه والظلالْ
تماثيلُ من جسدٍ فاتنٍ
تأبَّى على شهواتِ الرجالْ
حَبَتهُ الطبيعةُ أسرارَها
ولاقى الحقيقةَ فيهِ الخيالْ
لقد أخذَتْنا شجونُ الحديث
وكم في حديث الفتى من شجونْ
سَمَرنا بهِ وجهلنَا اسمَهُ
وما حظُّه من رفيعِ الفنونْ
أمِنْ ربَّةِ الشعر إلهامهُ
أم الوترِ الأُرفُسيِّ الحنونْ
أم المرمرِ الغضِّ يجلو بهِ
رفيفَ الشفاهِ ولمْحَ العيونْ
هي وحيهُ من سماءِ الأُولمبِ
وآلهةِ الحكمة الغابرينْ
فما هو بالملَكِ المستعزِّ
ولكنَّهُ الآدميُّ المَهينْ
وما الآدمية بنتُ السَّماءِ
ولكنَّها بنتُ ماءٍ وطينْ
يريدُ لها الفنُّ أفقَ النُّجوم
فيُقْعِدُها جسمُ عبدٍ سجينْ
وما فنُّهُ ما أراهُ سوى
أداةِ مطامعِه الواسعهْ
غداً يستَغلُّ غرامَ الحسانِ
سبيلاً إلى الشُّهرةِ الذائعهْ
يصيبُ بهنَّ خُلودَ اسمِهِ
وهنَّ قرابينُهُ الضائعهْ
تمنَّيْتُ لو أطلقَتنا السماءُ
ويا حَبذا لو بُعِثنا مَعَه
ألا حبذا الأرضُ مغدىً لنا
وإن بشَّرَتها المنايا بنَا
وما الأرضُ بالمنزلِ المسْتَطابِ
ولكنَّهُ ثأرُ أترابنَا
لنشربَ منْ دمِ هذا الفتى
مُصفَّى الرحيقِ بأكوابنَا
ونجعلَ من حشرجاتِ الرجال
تحيَّةَ شادٍ لأنخابنَا
ونسلُبُ ما رزِقُوا من حجىً
ونهدمُ ما رفعوا من قِبابْ
ونبني لهم نُصُباً خالداً
يكون على الدَّهرِ رمزَ العقابْ
تطوف به لَعَناتُ السَّماءِ
وترصُدُهُ مُثُلاتُ العذابْ
ولكن أرى غيرَ ما قلتُما
وما الغدر في الرأي كلُّ الصوابْ
إذا خَلَتِ الأرضُ من طيرهم
فمن ذا يُحيّي الجمالَ القسيمْ
ومن يُطلِقُ الحبَّ من وكرِهِ
على خطَراتِ الغناءِ الرَّخيمْ
وفيمَ نُرَقِّشُ هذا الجناحَ
ونصقلُه ببنانِ النعيمْ
طيورَ السماء حَذَارِ الوقوعَ
على حَطبٍ في الثَّرى أو هشيمْ
وتحت الوسادة أقصوصةٌ
لقلبين لم يَروِها عاشقانْ
ماذا تُرى صَنَعَ العاشقان
وما ذكرياتُ الليالي الحسانْ
حديثُكِ إنْ لم يكنْ بدْعةً
فحُلمٌ جَرَى في قديمِ الزمانْ
وصيحةُ مُخفقةٍ في الهوى
مُعَربدةِ الرُّوحِ سكرَى اللسانْ
الأنوثةَ هذا الهوانْ
وفيها الدهاءُ القويُّ الجنانْ
لنا الكيدُ إن خذلَتنا القُوى
أحابيلُ شتى وفنٌّ عجابْ
نُلقَّاهُ عن مَلكاتِ الزَّمانِ
أقاصيصَ لم يروِ عنها كتابْ
وقد نستعيرُ صفاءَ النمير
وقد نستمدُّ صراعَ العبابْ
أيغريكِ بالحبِّ سُودُ اللِّحى
غِلاظُ الشِّفاهِ العراضُ الطِّوالْ
كأنَّ الهوى صُنْعُ أيديهمُ
فمن غيرهم كلُّ عيشٍ مُحَالْ
إذا شئتِ كان لنا عالَمٌ
يحوط الأنوثةَ فيهِ الجلالْ
حَمتْ رِقَّةَ الجنسِ ربَّاتُهُ
فليس بها حاجةٌ للرجالْ
لكلِّ اثنتينِ هَوىً واحدٌ
تلاقَى على سرِّهِ مهجتانْ
وعُشّ يضمهما في المساءِ
وروضٌ به في الضُّحَى يعبثانْ
وفي ركنِ خدْرهما مِغْزَلٌ
وفوقَ الأريكةِ قيثارتانْ
وقد نسحبُ الليلَ فوق القلوب
ونغري العيون بقوسِ السَّحابْ
نساقِطُهم من غَواياتنا
أزاهرَ تَندى بماء الشبابْ
إذا لألأتْ فوق موج الشُّعور
أثارتْ بهم ظمأً للسَّرابْ
بألوانِها الحمر جَمْرُ الغضا
وفي نفحِها لفَحَاتُ العذابْ
هو الفنُّ لا ترتوي روحهُ
بأشهى من الأرجوانِ المذابْ
هو الحسنُ فتَّانُنا العبقريُّ
هو الحبُّ سلطاننا القاهرُ
ممثلهمْ لُعْبةٌ في يديهِ
ومثَّالهم إصبَعٌ فاجرُ
وألحانهم من فحيح العروقِ
يُصَعِّدُها الوترُ الساخرُ
ورسَّامهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ
فإنْ جُمِعوا فَهُمُ الشَّاعرُ
قلوبٌ مُدلَّهةٌ بالجمالِ
ترى فيه معبودَها المُلْهَما
هو الرجلُ القلبُ لا غيرُهُ
فأودِعْنَهُ القبسَ المضرَما
أنِمْنَ به الشَّرسَ المستخفَّ
وأيقِظنَ فيهِ الفتى المغرَما
اقتحمتنَّ السياجَ
فقد خضعَ الكونُ واستسلما
ولكنْ حَذارِ ففي طبعٌ
لِيانٌ يسمُّونَهُ بالوداعهْ
وفيهم جراءةُ مستأسدٍ
تحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعهْ
وهِمْتِ فذلك هَزْلُ الرجال
وفنٌّ أجزنا عليهم خداعهْ
نذيبُ بهِ صُلْبَ أعصابهم
وفي رِقَّةِ العود سِرُّ المناعهْ
أطلْنا الأحاديثَ عن عالَمٍ
مُلَثَّمةٍ أرضُهُ بالخفاءْ
جعلناهُ مَطمَحَ أحلامنا
كأنَّا شَقِينا بِسُكنى السَّماءْ
طَوانا على حُبِّهِ شاعرٌ
كثيرُ المجانة نَزْرُ الحياءْ
أثارَ الملائكَ في قُدسِها
وأوقعَ في سحرهِ الأبرياءْ
عَجِبْتُ له كيف جاز السماءَ
وغرَّر بالملإِ الطاهرِ
أيمرحُ في الكونِ شيطانُهُ
بلا وازعٍ وبلا زاجرِ
دَعي الوهمَ سافو ولا تحقِري
بليتيس معجزةَ الشاعرِ
فما نتَّقِيهِ بحيَّاتنا
إذا هو ألقى عصا الساحرِ
بليتيس هل هو ذاكَ الخيال
المُجنَّحُ بين حواشي الغيومْ
عشيةَ صاح بأترابنا
وقد أخطأتْه قِسِيُّ الرُّجومْ
وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ
يُسرّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ
يجوبُ السماءَ إذا ما انتشى
يُعربدُ بين خدورِ النجومِ
أعاجيبُ شتَّى لهذا الفتى
وأعجبُ منها الذي تذكرينْ
كأنَّ أحاديثَه بيننا
أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ
إذا كان للفنِّ هذا الصِّيالُ
فوارحمتَا للجمال الغبينْ
ودَدْتُ لو أنِّي في إثرِهِ
درجتُ على الأرض في الدارجينْ
أتُغوين بالشعر شيطانَه
خياليةٌ أنتِ أم شاعرهْ
بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ
فيا ليتَ لي روحَه الآسرهْ
ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ
وقوةَ أربابِه القاهرهْ
لصيَّرتُهُ مُثلَةً في الحياةِ
وسُخريةَ البعثِ في الآخرهْ
صفي لي بِليتيسُ هذا الأملْ
وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ
أُدلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ
وأُسمِعُه من رقيق الغزَلْ
وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ
وأحرِمهُ رَشفَاتِ القُبَلْ
إلى أنْ تُحرَقَ أعصابهُ
ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ
وأحفرُ بعد الردى قبرَه
هناك على قمَّةِ الهاويَهْ
وأغرس في قلبهِ زهرةً
من الشرِّ راويةً ناميَهْ
سَقَتْها سمومُ شرايينه
ورفَّتْ بها روحهُ العاتيَهْ
تخفُّ إليها قلوبُ الرجال
وترجع بالشوكةِ الداميَهْ
إذا جنّها الليلُ لاحتْ به
كعينٍ من اللهبِ المضطرمْ
تثور الشياطينُ من عطرها
كمجمرة الساحر الملتثمْ
إذا استافَها الرَّجلُ العبقريُّ
تحوَّل كالحيوان الوخِمْ
تضُجُّ البلاهة من حولهِ
وينظر كالصنَّمِ المبتسمْ
هَبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه
سماءَ الأُلوهةِ ذات البروجْ
ونصَّ المعانيَ عن جانبيكِ
فمنها السُّرَى وإليكِ العروجْ
فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ
واحدةً من بناتِ الزُّنوجْ
ألم تقرأي قِصَّةَ السامريِّ
وما صَنَعَ القومُ بعد الخروجْ
نَبا منطقُ الوحيِ في سمعهم
وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ
ومدُّوا العيونَ إلى فتنةٍ
تجسَّد في حيوانٍ عَجَبْ
ترامى بأحضانِه غادةٌ
أفادَ صِباها شبوبَ اللهبْ
جنونُ الحياةِ وأهواؤها
أنوثتُها وبريقُ الذَّهبْ
فأينَ من القومِ سحرُ البيانِ
وصيْحةُ موسى قُبَيل الوداعْ
هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ
إذا لم يكنْ حافزاً للطماعْ
هُمُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ
إذا لم يكنْ نُهزةً للمتاعْ
هُمُ الناسُ لا يألفون الحياةَ
إذا لم تكنْ مَعرِضاً للخداعْ
تماثيلُهُ بعضُ أجسامِنا
وقد صاغَها العبقريُّ الصّناعْ
ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ
إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القِناعْ
أبالشِّعرِ تُغْوينَ هذا الفتى
وهمْتِ إذن وجَهلتِ الطِّباعْ
أليستْ لهُ صَبْوَةُ الآدميِّ
وشهوةُ تلك الذئابِ الجِياعْ
رَجعْتُ لنفسي فلا تغْضبا
وكُفَّا العتابَ ولا تُسْهِبا
لقد رُعتمانِي بهذا المزاح
وأبدَعْتما نبأً مُغرِبا
سَرَتْ بيَ من ذكره رِعدةٌ
كأني لبِستُ به الغَيْهبا
أتاييسُ لا كنتُ بنت الزنوجِ
ولا شِمْتُ أُمَّا بهم أو أبا
وصمْتِ الخليقة في بعثهم
كأنهم الحدَثُ المنكرُ
وما أخطأ الطيفُ ألوانَه
ولكنهُ اللهَبُ الأحمرُ
أبوهم كما زعموا آدمٌ
وحواءُ أُمُّهمُ المُعْصِرُ
لهم أعينٌ تتملَّى الجمالَ
وأفئدةٌ بالهوى تشعرُ
لهم نارُهم في أقاصي الدُّجى
وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ
وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها
إذا هتَكَ الفجرُ عنها الشُّفوفْ
ونايٌ يُقسِّمُ فيهِ الربيعُ
ويسكبُ شَجْوَ المساءِ الهتوفْ
ورقصٌ يُمثِّلُ قلبَ الحياةِ
إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ
تفرَّدَ فنُّهُمُ بالخفاء
وصِيغَ بفطرتهم واتَّسمْ
يعيشُ جديداً بأرواحهم
وإن عاش فيهم بروح القِدَمْ
له بأسُ مانا وإيحاؤه
إذا اضطربتْ رُوحهُ بالألمْ
ورِقَّة هاوايَ في شدْوها
إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغمْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم
سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ
ألا فلْيكُنْ لكِ من سحرهم
فنونٌ تُعطِّلُ سحرَ الخيالْ
ألا فليكنْ لكِ من نارهم
وشاحُ مؤلَّهةٍ بالجمالْ
إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ
وكوني بها محنةً للرجالْ
سلامٌ لكُنَّ عذارى السماء
سلامٌ لهرميس روحِ الإلهْ
أرى ومْضَةَ الشرِّ في جوِّكنَّ
وأسمعُ صوتاً كأنِّي أراهْ
يلاحقني في رحابِ السماءِ
ويرتجُّ في مِسمعيَّ صداهْ
لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ
وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاهْ
أجل أيها الملَك المجتبى
صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ
لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا
فتىً في رعاية ربٍّ خطيرْ
رآنا فأعرض عنَّا ولمْ
يُحَييِّ السماءَ بروحٍ قريرْ
تخايلَ عُجباً بأوهامه
وأمعن في شرِّه المستطيرْ
ظلمتنَّ هذا الغلامَ البريء
وقد غضَّ من ناظريهِ الحذَرْ
أهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القَطا
يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ
رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ
فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ
وكيف تكلَّم قلبُ الفتى
وما هو إلا سليلُ البشرْ
هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّهُ
من النقصِ تركيبُه والتمامْ
صَنَاعُ الطبيعةِ بل صُنْعُها
فمنها دَمامتُه والوَسامْ
يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي
ويسمو إلى قمةٍ لا تُرَامْ
ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ
مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ
نقيضانِ شتَّى فما يستقرُّ
على غَضَبٍ منهما أو رضاء
تحدَّى الحياةَ وآلامَها
ببأسِ الجبابرة الأعلياء
يزيدُ عُتُوّاً على نارها
ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء
وينشقُّ عن نَضرةٍ قلبُه
وإنْ طَمَرَتهُ ثلوجُ الشتاء
هو المرِحُ الشاردُ المستهامُ
شُرودَ الفراشةِ عند المساء
حَبَتهُ الألوهةُ روحاً يَرَى
وينطِقُ عنها بوحي السماء
يحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرَى
ويلمسُ ما في ضميرِ الخفاء
ويبتدرُ النجمَ في أفقه
فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء
أرتهُ السماءُ أعاجيبَها
ورَوَّتهُ من كلِّ فنٍّ بديعْ
فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ
وخافَ على كنزِهِ أن يضيعْ
أبى أن يُبدّدَهُ ناظراهُ
فأطبقَ جفنيهِ ما يستطيعْ
فإن شارفَ الأرضَ نادتْ بهِ
ففَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيعْ
هنالكَ حيث تَشبّ الحياةُ
وحيث الوجودُ جنينُ العَدَمْ
وحيثُ الطبيعةُ جبَّارةٌ
تشقُّ الوهادَ وتبني القِمَمْ
وحيثُ السعادة بنتُ الخيالِ
ولذَّتها من معاني الألمْ
وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ
ومَجَّا صُبَابتَها من قِدَمْ
رَنَا والطبيعةُ في حَلِيها
وحواءُ عاريةٌ كالصَّنمْ
فمن أين سارَ وأنَّى سرَى
تصَدَّتهُ مقبلَةٌ من أمَمْ
هنالكَ أولُ قلبٍ هفا
وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ
وأولُ أنمُلةٍ صوَّرَتْ
وخَطَّتْ على اللوحِ قبل القَلمْ
فما لكِ حواءُ أغويتِهِ
وأعقبتِهِ حَسَراتِ النَّدَمْ
لقد كان راعيَكِ المجتَبى
فأصبحَ راميَكِ المتَّهمْ
ولولاكِ ما ذرفتْ عينُهُ
ولا شامَ بارقةً فابتسَمْ
وعاشَ كما كانَ آباؤه
يُغنِّي النجومَ ويرعَى الغنمْ
لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ
ويُصرعُ بالنظرةِ العابرهْ
لَوَدَّ إلى الأرضِ لو لم يُصِخْ
أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرهْ
وكم من فتىً عزَّها سمعُهُ
وغضَّ على حَذَرٍ ناظرهْ
عصاها فنادت فلم يستمعْ
فحلَّت به لعنةُ الفاجرهْ
له مقلتانِ على ما وعَى
من الألَق الطُّهْر مختومتانْ
ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان
مصورةً وحدود المكانْ
وفي قلبهِ أعينٌ ثَرَّةٌ
بها النارُ طاغية العنفوانْ
وفي كلِّ خاطرة نَيْزَكٌ
يشقُّ سناهُ حجابَ الزمانْ
إذا ما هوتْ ورقاتُ الخريفِ
أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ
وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً
فمن قلبه انحدرتْ دمعتانْ
ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع
وقد يخطىءُ الطيرُ شدوَ الأوانْ
وقيثارةُ الرِّيح ما لحنُها
سوى الريح في جفوةٍ أو حنانْ
عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى
ودنيا بأهوائها تضطربْ
من اللاَّنهاية ألوانُها
مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ
ففيها الصباحُ وفيها المساءُ
وبينهما الشَّفَق الملتهبْ
تطوف بها صَدَحاتُ الطروب
وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ
لكَ الحبُّ فيما أتاحتْ لنا
سريرتُكَ السَّمحَةُ الطاهره
ومن مَلَكٍ مثلُ هذا الحديث
طُمأنينةُ المهجِ الحائره
عَطفْتَ على قلبِ هذا الفتى
قلوباً على فَنِّهِ ثائره
وصوَّرتهُ مَلَكاً ناقماً
على آدميتهِ الجائره
أجل هو ذاكَ ولو زدتكنَّ
لزدتُنَّ عطفاً على فنِّهِ
وما ذنبُ روحٍ نَمَتْهُ السماءُ
إذا ضجَّ في الأرضِ من سِجنهِ
تَعلَّقَ مهواهُ فوق النجوم
وحَوَّمَ وَهْناً على كِنِّهِ
لينعمَ في ظِلِّهِ لحظةً
ويملأَ عينيهِ من حسنهِ
لهُ ولَعٌ بخدورِ النجومِ
إذا ما تخلَّصَ من طيفهِ
ويا رُبَّ ليلٍ كوادي الخيال
دَعَتْهُ الحقيقةُ من جوفهِ
فسار يَضمُّ صدورَ الرّباب
ويستضحكُ النُّورَ في سُدْفهِ
وغاب كأعجوبةٍ في الدُّجى
تحارُ الأساطيرُ في وصفهِ
على الأرضِ شيطانُهُ الحائمُ
وفي الكون وجدانه الساهمُ
مضى سابحاً في عبابِ الأثير
كما يسبحُ النظرُ الحالمُ
يدورُ فلا أفقٌ ينتهي
إليه ولا كوكبٌ هائمُ
وحيثُ هو الآن فيمن أرى
هناكَ على سِرّهِ جاثمُ
هناك هناك كأنّي أراه
نعم خلف هذا الغمام الرقيق
إذا ما عطفتنَّ ناديتهُ
عسى الآن من روْعِه أن يُفيقْ
ألا أيُّها الروحُ مني السلامُ
وأنتَ بحبِّ العذارى خليقْ
عرائسُ أحلامِكَ المائلاتُ
وما أنا إلَّا مَلاكٌ صديقْ
لقد طَلعَ الفجرُ يا شاعري
وكادتْ تزولُ نجومُ الصباحْ
وحان الرواحُ فودِّعْ خباءَكَ
وادنُ أحدِّثكَ قبل الرواحْ
أتهتف بي أنتَ أم هُنَّ أمْ
نذيرُ الردى والقضاءُ المتاحْ
تراك سمعتَ أحاديثنا
لقد نقَلَتها إليّ الرياح
عجبتُ لحوريَّةٍ في السماء
ويأخذ أهلَ السماء العجبْ
أتحلمُ بالأرضِ مخمورةً
من الدمِ راقصةً في اللهبْ
وتُغري بيَ الموتَ لا جانياً
ولكنها ثورةٌ من غضبْ
برئتُ من الإثمِ حوريَّتي
فرُدِّي الظنونَ وخلِّي الريبْ
أأبغض حواءَ وهي التي
عرفتُ الحنانَ لها والرِّضى
وباعَ بها آدمٌ خُلدَهُ
ولو لم يَكُنْ لتمنَّى القضا
ورِثتُ هواها فرُمت الحياةَ
وحبَّب لي العالم المبْغَضا
أراها على الأرض طيفَ النعيم
وحُلمَ الفراديسِ فيما مضى
وكانت حياتي محْضَ اتِّباع
فصارتْ طرائفَ من فَنِّها
وكان شبابيَ صَمْتَ القفارِ
ورَجْعَ الهواتفِ من جِنِّها
فعادتْ ليالي الصِّبا والهوى
أرقَّ المقاطعِ في لحنها
وأفرغتُ بؤسيَ في حِضنها
وأترعتُ كأسيَ من دَنِّها
وكم ذكرياتٍ لها عَذْبَةٍ
أعيش عليها وأحيا بها
لها في دَمي خَلجاتُ الحياةِ
كأني خلِقتُ بأعصابها
مُسامرتي حين يمضي الصِّبا
وتهتفُ رُوحي بأحبابها
وتخلو بيَ الدارُ عِندَ الغروبِ
وأجلسُ وحدي على بابها
بَدَتْ شِبْهَ عابسةٍ فانثنيتُ
وقد زايلَ الشمسَ لألاؤها
وخِلتُ الحياةَ وضوضاءها
تموتُ على الأرض أصداؤها
وكفَّ عن الهمْسِ حتى النسيمُ
وأمسكَ عن لَعِبٍ ماؤها
وناديتُ فالتفتتْ لا تجيبُ
ولكنْ دعاني إغراؤها
ومرَّتْ إزائي فتابعتُها
بقلبي وعيني إلى أمِّها
رأيتُ مفاتنها غيرَ تلك
وإن لم يُخلَّدْنَ في جسمِها
وأبصرتُ من حولها الكائناتِ
جوانحَ تهفو إلى ضَمِّها
ويحنو الصباحُ على ثغرِها
وقد جُنَّ شوقاً إلى لثمِها
يسائلني القلب عن أمرها
وأسأله أنا عن سرها
ويعطفني في الهوى ضعفُها
وأنسَى بأنِّي في أسرها
وتُبدي ليَ الأنجمُ الوامقاتُ
رفيفَ الأماني على ثغرها
فأحسبُ أن اهتزازَ الحياة
صدَى حبِّها ورؤى سحرها
لكذبتها تُستحبُّ الحياةُ
ويَصْفو الزمانُ بتغريرها
ويأخذُني الشكُّ في قَوْلها
فتُقنعني بأساريرها
وتعصفُ بي شهْوَةٌ للجدال
فَتسكِتُني بمعَاذيرها
غفرتُ لها كلَّ أخطائها
سِوَى دَمعتينِ لتبريرها
أحاول أفهمها مرَّةً
فأعيا بها وبتفكيرها
أمخلوقةٌ هيَ أم ربَّةٌ
تسيرُ الخلائقُ في نِيرها
وما سِحْرُها ألتكوينها
وما حسنُها ألتصويرها
تقولُ الطبيعةُ بِنْتي وما
أُحِسُّ لها بعضَ تأثيرها
أعند الطبيعةِ هذا الدلالُ
وفي دِفئِها مثلُ هذا الحنانْ
إذا قيلَ لي هاكَ مُلك الثّرى
ودنيا الشَّبابِ وعمْرَ الزمانْ
فما لذَّتي بالذي نِلتُه
وما نشوتي برحيق الجنانْ
كرعشةِ رُوحِي وهزَّاتِها
وصدري على صدرها واليدانْ
وغَنَّتْ فأسمعني صوتها
صَدى الروحِ في خلَجات البدنْ
عميقاً كأنفذ ما في الحياةِ
وأبعدِ ما في قرارِ الزّمنْ
فأحسستُ كيف تطيش العقولُ
وتسهو القلوبُ وتصحو الفتنْ
وقال لها الحسنُ يا ربتي
فقالت له كلّ شيءٍ حسنْ
رآها على النبع بعضُ الرُّعاةِ
مصوَّرةً في إطار الغصونْ
فقالوا أحُلْمٌ تراه العيونْ
أفي الغابِ حوريَّةٌ من تكونْ
ومسَّ مزاهرهم روحُها
فرفَّتْ بها خالداتُ اللحونْ
وباتتْ تعانقُ أحلامَهم
وقد كاد يرقصُ حتى السكونْ
ولاحت بمرأىً لعينيْ فتىً
طوى البحرَ ليس لهُ من قرارْ
تفتَّحُ عن صدرها موجتان
وينشقُّ في الفجر عنها المحارْ
رآها فجنَّ غراماً بها
وغنَّى بها الليلَ بعد النهارْ
وقالوا تعشَّقَ جِنِّيةً
فتىً شاعرٌ تائهٌ في البحارْ
قضى اللّهُ أن تُغويَ الخالدين
وتُغريَ بالمجدِ عُشَّاقَها
لَقِيتُ على بابها الفاتحينَ
وغارَ الفتوحِ وأبواقَها
وكلَّ مُدِلٍّ عَصِيِّ القياد
دَعَتْهُ الصبابةُ فاشتاقها
سَلا مَجدَهُ الضَّخْمَ في قُبْلةٍ
تُذِلُّ وتُسْعِد من ذاقها
أمانيُّ شَتَّى تمثَّلنَ لي
بكلِّ وضيءِ الصِّبا ناعمِ
مُبَعْثَرةً حولها في الترابِ
بقايا الدُّمى في يدِ الحاطمِ
تَمُرُّ بها وهي في ضِحْكها
وما ذَرَفَتْ دمعةَ النَّادمِ
فيا لكِ من طفلةٍ فَذَّةٍ
ورُحماكِ سَيِّدَةَ العالَمِ
يحاولُ بالشعرِ إغراءنا
لنؤمنَ واحدةً واحده
هو الموقف الضنكُ ما يتقيهِ
كمايتقي باشقٌ صائده
متى كان صَبّاً عطوفَ الفؤاد
وهذي قصائدُه الجاحدهْ
ألا ذكِّريهِ بمثَّاله
ونادي بحيَّتِهِ الخالدهْ
ظَلَمْتِ الفنونَ وأربابها
وما كنتِ حوريَّتي ظالمه
قلوبٌ تلذُّ بتعذيبها
غرائزُ عاتيةٌ عارمه
تُرنِّحها سَكراتُ الهوى
وتُوقظها الفِتنُ النائمه
صَحَتْ من خُمار مَلذَّاتها
تُعنِّفُ أهواءَها الآثمه
ألا ما لأختيكِ ما تبغيان
أقلبيَ والخنجرَ المُنتَضَى
خذاهُ اقتلاهُ ولا ترحماهُ
فليسَ له بَعْدُ أن يَنبِضا
أذيقاهُ ما شئتما واغرسا
به الشرَّ ملتهباً مُرْمِضا
فلن تُنبِتَا فيه إلَّا السلامَ
والحُبَّ والزهَرَ الأبيضا
إناءٌ من النُّور طافتْ بهِ
يَدُ الحبِّ غارسةُ الزَّنبقِ
تُغاديهِ شاديةٌ في الدُّجى
وراقصةٌ في الضُّحى المشرقِ
على رِسْلكنَّ فقد عاقبته
بأقوالكنَّ بناتُ القدرْ
لقد عاقبتهُ بأشعاره
فيا ليتَه ما هذَى أو شَعَرْ
أتصرخ ويحْكَ إنَّ السماء
لتأخذُها صرخاتُ الألَمْ
من الغيمِ يا شاعري فالتمسْ
دِثاركَ واخصِفْ به من أممْ
وخُذْ من جناحيَّ ما تتَّقي
به في السماء عثارَ القدمْ
وأقسمُ ما رُمْتُ غيرَ الحنان
وإنِّي زعيمٌ بهذا القسمْ
بليتيس تاييس ماذا انظرا
فثمَّتَ أُعجوبةٌ تظهرُ
بأجنحةٍ كرؤى الخالدين
لغير الصبابةِ لم تخفِقِ
وقلبيَ من قدَحٍ في السماء
ومن نبْعِ آلهةٍ يستقي
أتخشى لِقانا سليلَ السماء
أتحذرُنا أم تخافُ الضِّياء
مُحدِّثتي ما أحبَّ اللقاءَ
لقد حال جسمي دونَ اللقاء
وكنتُ تخلَّصتُ من طيفهِ
فلفَّتهُ حولي يدٌ في الخفاء
كأنِّيَ أهذي بأضغاثِ حُلمٍ
أو أني ضللتُ طريقَ السماء
بليتيس سافو الفرارَ الفرار
فقد لبسَ الروحُ طيفَ البشرْ
أتبْصِرُهُ جسداً عارياً
وتقربهُ تلك إحدى الكُبرْ
تعالَ فتى الشعرِ يا للسماءِ
أبِالشعرِ أم بالفَتى تَسخَرُ
أهذا هو الآدميّ العظيمُ
ألا شدّ ما يخدعُ المنظر
تَصوَّرتُهُ من أحاديثهِ
فتىْ لوَسامته يؤثرُ
تريدينه صورةً أم فتىً
تهلّلَ فيه الحِجى وابتسمْ
رأيتُ الرجولةَ كلَّ الجمالِ
هو الرَّجلُ الفردُ في المزْدحَمْ
تراهُ على النبع يُعلي الغطاءَ
ويُدْلي الدلاءَ ويَسقي الغنمْ
ويحدو العذارى إلى دارهنَّ
حَيِيَّ الخطى موسويَّ القدمْ
لشدَّ الذي قُلتِهِ يا ابنتي
كلاماً توهَّجَ منه الحنينْ
تعاليْ هنا والثمي جبهةً
هزأت بها وهي حُلْمُ السنينْ
أمن خَمَلِ السُّحْبِ هذا الدثار
ومن حمإ الأرض هذا الجبينْ
دعي طيفه وانظري روحَه
ففيها الصِّبا والجمالُ المبينْ
هل الرجل الروح لا إنه
محيّا ترقرق فيه الوسام
وعينانِ بالسحر تستأثرانِ
خيالٌ لعمركِ هذا الكلام
مُحيَّا وعينانِ ما في الرجالِ
سوى كلِّ أصيدَ سبْطِ القوام
ذراعاهُ تستدرجانِ الخصورَ
وفي شفتيهِ حديثُ الغرامْ
تنزَّهْتَ عن شُبْهةٍ عالمي
ولا رابني فيكَ ما أسمعُ
عهدتُ البراءَة فيمن تُظِلُّ
فماليَ من ريبة أفزعُ
وأبدعتَ خلقاً ولكنني
أراهُ إلى عَبَثٍ ينزِعُ
سبَى السحرُ أجملَ أرواحِهِ
فأنطقهن بما يخدعُ
أفي عالم الرُّوح تفشو الظنونُ
وينطق روحٌ بهذا الكلِمْ
أسائلُ نفسي أشيطانةٌ
توسوسُ لي أم مَلاكٌ أثِمْ
أم الشكُّ آذنني بالصراع
أم حلَّ بي غضبُ المنتقمْ
بل البعثُ آذنهنَّ الغداةَ
فلا تَلْحَهُنَّ ولا تتَّهِمْ
هي الآدميةُ طافتْ بهنَّ
وتلك غرائزُها والطباعْ
غداً تدرجُ الرُّوحُ في طيفها
وما الطيفُ للرَّوحِ إلَّا قِناعْ
سترقدُ في غورها الذِّكريات
وتوقظهنَّ السنون السِّراعْ
وتمشي لحاضرها في الحياة
بمصباحِ ماضٍ خَفيِّ الشعاعْ
وكم نبأةٍ كالحديث الجديد
وما هو إلَّا القديم السماعْ
من الخيرِ والشرِّ إلهامها
مقادِرُ تجري بهنَّ اليراعْ
فدع للسماءِ تصاريفها
فقد أذِنَ البعثُ بعد انقطاعْ
وداعاً صديقي إلى أين تمضي
إلى الملتقى فالوداع الوداع
شرح ومعاني كلمات قصيدة إلى قمة الزمن الغابر
قصيدة إلى قمة الزمن الغابر لـ علي محمود طه وعدد أبياتها أربعمائة و واحد و عشرون.
عن علي محمود طه
علي محمود طه المهندس. شاعر مصري كثير النظم، ولد بالمنصورة، وتخرج بمدرسة الهندسة التطبيقية، وخدم في الأعمال الحكومية إلى أن كان وكيلاً لدار الكتب المصرية وتوفي بالقاهرة ودفن بالمنصورة. له دواوين شعرية، طبع منها (الملّاح التائه) ، (وليالي الملاح التائه) و (أرواح شاردة) و (أرواح وأشباه) و (زهر وخمر) و (شرق وغرب) و (الشوق المائد) و (أغنية الرياح الأربع) وهو صاحب (الجندول) أغنية كانت من أسباب شهرته.[١]
تعريف علي محمود طه في ويكيبيديا
علي محمود طه المهندس (1901-1949) شاعر مصري من وضح الرومانسية العربية لشعره بجانب جبران خليل جبران، البياتي، السياب وأمل دنقل وأحمد زكي أبو شادي.[٢]
- ↑ معجم الشعراء العرب
- ↑ علي محمود طه - ويكيبيديا