النسر السابع
النسر السابع فبينما لقمان يبكي نفسه، إذ سمع منادياً يقول: يا لقمان بن عاد لك فوق الصفا الأسود حيث الشجر المتلبد خلصة بيت الرشد فرخ به وفاء الموعد مأمور بطاعتك فاصعد.فصعد لقمان رأس ذلك الجبل، فإذا هو بوكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما فاختار أحد الفرخين وعقد في رجله سيراً ليعرفه به وسماه لبداً وقال: أنت لبد الباقي المخلد إلى آخر الأبد عيشك معي رغد ويزاح عنك النكد ويوفق لك الرشد وعمرك لا ينفد - وكان لقمان لا يغفل عن إطعامه - حتى نهض طائراً مسخراً له يدعوه باسمه للمأكل فيجيبه حتى أدركه الكبر وضعف.وبلغني يا أمير المؤمنين أن رجلاً من عاد الآخرة جاء إلى لقمان فقال له: يا عم ما بقي من عمرك غير هذا النسر، فقال: يا ابن أخي هذا لبد.قال معاوية: لله أنت ما اللبد ؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين قد علمت أن اللبد في لغة العرب الدهر.سمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: ويذكر في كتاب الله عز وجل يقول { أهلكت مالا لبداً } يقول كثيراً.قال معاوية: صدقت فخذ في حديثك.قال عبيد: فلما دنا أجل لقمان وبلغ الميقات، أقبل ذلك النسر لبد حتى وقع على شجرة النتظب فدعاه ليطعمه من لحم قد بضعه.فأراد لبد أن ينهض فلم يطق أن يطير، فأقبل لقمان فزعاً مرعوباً حتى قام حتى وقال ( انهض لبد أنت الأبد لا يقطع بي الأمد نهضاً شدد نهض الملك المجرد الحارث بن ذي شدد ).قال معاوية: لله أبوك من الملك المجرد الإرث بن ذي شدد الذي يعني ؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين هو الرائش ملك من ملوك حمير باليمن - فإن شئت حدثتك حديثه - قال معاوية: بن أتم حديثك حتى أسألك عما أريد - إن شاء الله تعالى - قال عبيد: فلم يطق لبد أن ينهض وتفسخ ريشه، فهال ذلك لقمان هولاً عظيماً ووقع موته موقعاً جسيماً، فأنشأ لقمان يبكي نفسه ويقول:
موتي إني أموت اليوم يا لبد. . . . . . . .وحسرتي أن قد تصرم الأبد
فطر كما كنت سالماً لبداً. . . . . . . .تحيا ونحيا معاً ونحتفد
إني وإياك في تفرقنا. . . . . . . .سيان شقا كالروح والجسد
إن مت لم أبق إنما أجلي. . . . . . . .ما عشت فابق ما أن لك الرشد
ما لي سوى ما بقيت من عمري. . . . . . . .فليس لي من سبيلك السدد
قد هالني ما أرى وأرعبني. . . . . . . .أني واجد فترة كما تجد
أنكرت ظهري وركبي ويدي. . . . . . . .فالبطن والصدر فيهما ويد
قد غالني كلما أرى نفسي. . . . . . . .والموت آت إذا انقضى لبد
وإن يكن آتياً سأكرهه. . . . . . . .لأنه متعب للمراد يرد
يسل نفساً من المفاصل لا. . . . . . . .يخلف إن جل موعد لقد
ثم سقط لبد ميتاً، فجاء لقمان لينهض فاضطربت عروق ظهره وخرَّ ميتاً - وكان أمرهما هذا بمرأى من رجل من العمالقة، يقال له المثنى بن عمرو العمليق - والعمالقة يومئذ سكان السراة والحجاز كلها، وكان المثنى شاعراً حافظاً، حفظ قول لقمان وشعره وعاين كيف كان هلاك نسره فقال وهو يبكي على لقمان ويرثيه:
فنيت وأفنى الله نسلك من نسر. . . . . . . .هلكت وأهلكت من عاد وما تدري
فمن ذا ينجي بعد لقمان فكره. . . . . . . .يخلصه يا قوم من تلف الدهر
فاسنوا منكم أنفساً ببقائها. . . . . . . .فما لكم في الرأي في ذاك من عذر
وخيرها فاختار لم يك عالماً. . . . . . . .محيطاً بها إلا على الشك أو نسر
قال: ثم انطلق المثنى إلى ناس من قومه العماليق فأخبرهم بأمر لقمان ونسره فانطلقوا حتى دفنوهما، والمثنى صهر لقمان بن عاد.وبلغني إن موت لقمان كان في زمان ملك فارس.قال معاوية: لله أنت يا عبيد ! أخبرني كم كان عمره ؟ قال: بلغني أن عمره كان ألف سنة وسبعمائة سنة وأربعاً وستين سنة.قال معاوية: فعمر النسور من ذلك كم ؟ قال عبيد: إني سمعت ابن عمك يقول: كان عمر كل نسر مائة سنة وزيد لبد عليها نيفاً.وذكر غيره أن أعمارها كانت مختلفة، والله بالصواب أعلم.كان عمر النسور التي متع بها ألف سنة وأربعمائة ونيفاً، وكان عمر لقمان قبل النسور ثلاثمائة ونيفاً وستين سنة.قال معاوية: لا يفضض الله فاك يا عبيد، لقد حدثت بالعجائب ! أخبرني هل قيل فيه شعر ؟ قال: نعم يا معاوية، كان لقمان ونسوره مثلاً في العرب، فقال لبيد بن ربيعة الكلابي شعراً يقول فيه:
لما رأى لبد النسور تطايرت. . . . . . . .رفع القوادم كالعقير الأعزل
من تحته لقمان يرجو نهضه. . . . . . . .ولقد رأى لقمان إنه لا يأتلي
ولقد جرى لبد فأدرك شأوه. . . . . . . .ريب المنون وكان غير مغفل
غلب الليالي خلف آل محرق. . . . . . . .وكما فعلن بتبع وبهرقل
وغلبن أبرهة الذي الفنيه. . . . . . . .قد كان يخلد فوق غرفة موكل
والحارث الحراب كانت دراه. . . . . . . .داراً أقام بها ولم يتحمل
تجري مواهبه على من نابه. . . . . . . .جري الفرات على قرار الجدول
وفيه يقول النابغة الذبياني حيث يقول:
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا. . . . . . . .أخنى عليها الذي أخنى على لبلد
قال معاوية: من أين علمت إنه آخر النسور ! وكيف علم ذلك النابغة حيث قال فيه ؟ قال: الخبر فيه يا أمير المؤمنين مع الأعشى قد فسر ذلك في شعره.قال معاوية: وكيف قال الأعشى ؟: قال يا أمير المؤمنين في شعره الذي يقول فيه:
فلو كان حياً خالداً أو معمراً. . . . . . . .لكان سليمان البريء من الدهر
حتى أتى إلى آخر البيات، وقد ذكرناها في كتابنا هذا.وهذا ما كان من خبر لقمان بن عاد وخبر نسوره وطول عمره من جهة أخباره بعد نسوره، والله أعلم بالغيب.