بيروت تحترق.. وأحبك..

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أبيات قصيدة بيروت تحترق.. وأحبك.. لـ نزار قباني

1
عندما كانت بيروت تحترق ..
وكان رجال الإطفاء يرشون ثوبها الأحمر بالماء
ويحاولون إنقاذ العصافير المحبوسة ..
في قرميد بيوتها الورديه ..
كنت أركض في الشوارع حافياً
على الجمر المشتعل ، والأعمدة المتساقطة
ونثارات الزجاج المكسور
باحثاً عن وجهك المحاصر كحمامة ..
بين ألسنة اللهيب ..

كنت أريد أن أنقذ بأي ثمن
بيروت الثانيه ..
بيروت التي تخصك .. وتخصني ..
بيروت التي حبلت بنا في وقت واحد ..
وأرضعتنا من ثدي واحد ..
وأرسلتنا إلى مدرسة البحر ..
حيث تعلمنا من الأسماك الصغيره
أول دروس السفر ..
وأول دروس الحب ..

بيروت ..
التي كنا نحملها معنا في حقائبنا المدرسيه
ونضعها في أرغفة الخبز ..
وحلاوة السمسم ..
وأكواز الذرة ..
والتي منا نسميها ..
في ساعات عشقنا الكبير ..
( بيروتك ) ..
و ( بيروتي ) ..

2
عندما كان الوطن يهرب من الوطن ..
وكان الأطفال ينامون فوق ألعابهم
في مطار بيروت الدولي ..
بينما آباؤهم يزنون الحقائب الملأى بالدموع
ويضطرون إلى دفع أجرة ..
عن كل كيلو زائد من الدمع ..
وعن كل كيلو زائد من الحزن ..
عندما كان الوطن يضع يديه على وجهه ..
ويبكي ..

وكانت الغيوم الخريفية ..
القادمة من جزر اليونان ..
تخاف أن تقترب من سواحل لبنان
مخافة أن تصاب برصاص قناص ..
عندما كانت مصابيح الطرقات
ترتعش من الخوف ..
ومقاهي الرصيف ..
تطوي مظلاتها وتهاجر ..
وطيور البحر ، تحمل أولادها على أكتافها
وترحل ..

عندما كان الوطن يشنق الوطن
كنت على مسافة أمتار من الجريمه
أراقب القتله ..
وهم يضاجعون بيروت كجاريه ..
ويتنابون عليها ..
واحداً ..
واحداً ..
وفقاً لبروتوكولات القبيله
والامتيازات العائليه ..
والرتب العسكريه ..

لم أكن الشاهد الوحيد الذي رأى ألوف السكاكين
وهي تلتمع تحت الشمس ..
ورأى ألوف المقنعين
وهم يرقصون رقصة ( التام - تام )
حول جسد امرأة تحترق ..
ولكنني كنت الشاعر الوحيد
الذي أدرك ..
لماذا غير بحر بيروت اسمه ..
من البحر الأبيض المتوسط ..
إلى ( البحر الأحمر المتوسط ) !!.

3
عندما كانت بيروت تحترق ..
وكان كل واحد ..
يفكر في إنقاذ ما تبقى له من ثروة شخصيه
تذكرت - فجأة -
أنك لا تزالين حبيبتي ..
وأنك ثروتي الكبرى التي لم أصرح عنها ..
وأنني مضطر ..
- ولو كلفني ذلك حياتي -
لإنقاذ تراثنا المشترك
وممتلكاتنا العاطفيه ..

في هذه العاصمة الرائعه ..
التي كانت ذات يوم ..
الصندوق السحري الذي خبئنا فيه ..
كل مدخراتنا الصغيره ..
من رسوم سرية لي .. ولك ..
لم يرها أحد ..
وتخطيطات بالقلم الرصاص
لقصائد كتبتها لك ..
ولم يطلع عليها أحد ..

وكتب ..
ولوحات ..
وأسطوانات ..
وصحون سيراميك ..
وبطاقات بريديه ..
وعلاقات مفاتيح ..
مكتوب عليها بكل لغات العالم كلمة :
( أحبك ) ..
وعرائس فولكلورية حملتها معك .. تذكارات محبه
من اليونان ، والبلقان ..
ومراكش ، وفلورنسه ..
وسانغافورة ، وتايلاند ..
وشيراز ، ونينوى
وأزبكستان السوفييتية ..

وشال من الحرير الأحمر ..
أهديته إليك ، يوم عدت من إسبانيا .
وكنت كلما وضعته على كتفيك ..
فهمت ..
لماذا قاتل طارق بن زياد ..
من أجل دخول الأندلس ..
ولماذا قاتلت أنا ..
ولا أزل أقاتل ..
حتى يسمح لسفني
بدخول مياه عينيك الأقليميه ..

4
عندما كانت بيروت ..
تتساقط كشمعدان بيزنطي ..
مطعم بالذهب والبلاتين ..
وعندما كانت الجموع تعبر عن حزنها ..
بشكل واحد ..
وتبكي بشكل واحد
كنت أفتش عن حزني الخصوصي
وعن امرأة لا شبيه لها ..
ومدينة لا شبيه لها ..
وقصائد لا شبيه لها ..
في كل ما كتبه الرجال في حب النساء ..

عندما كانت النساء ..
يقسن المأساة بعدد أمتار القماش المحترق ..
وبقيمة الحقائب ، والمعاطف ، والعقود ..
التي كن يحملن باقتنائها ..
وعندما كان الرجال يقيسون خسارتهم
بما بقي لهم من أرصدة في المصارف ..
كنت أنا جالساً على حجر دائري كدمعه ..
أقيس خسارتي ..
بعدد فناجين القهوة التي كان يمكن أن نحتيسها ..
وعدد الأسئلة التي كان يمكن أن تطرحها
يداي على يديك ..
لو لم تحترق بيروت ..

كنت أقيس خسارتي ،
بألوف الكلمات التي كان يمكن أن نقولها ..
وعشرات السفن والقطارات ..
التي كان يمكن أن تسافر عليها ..
ومئات الأحلام التي كان يمكن أن نحققها ..
لو لم تحترق بيروت ..
كنت أقيس خسارتي ..
بكمية المطر التي كان يمكن أن يسقط علينا ..
فنجابهه ..
بجسدين محشورين في معطف واحد ..
وبرأس مائلة على رأس ..
وذراع مسافرة حول خاصره ..
لو لم تحترق بيروت ..

5
عندما كانت بيروت تغرق ..
كسفينة مطعونة في خاصرتها ..
وكان المسافرون ..
يرمون بأنفسهم في البحر ..
ويتعلقون بأول خشبة يصادفونها
كنت أبحث في دهاليز عقلي الباطن ..
عنك ..
وأصعد .. وأهبط .. السلالم الحلزونية
بحثاً عن مقصورتك الملكيه ..
لم يكن يهمني ..
أن تكوني نائمة .. أو صاحيه ..
لم يكن يهمني ..
أن تكوني عارية .. أو نصف عاريه ..
لم يكن يهمني أن أعرف ..
نم يشاركك الفراش ..
هذه كلها أشياء هامشيه
أما القضية الكبرى ..
فهي اكتشافي ..
أنني لا أزال أحبك ..

وأنك لا تزالين تعومين كزهرة لوتس
على مياه ذاكرتي ..
وتنبتين بين أصابعي ،
كما ينبت العشب الطازج ..
بين حجارة كنيسة تاريخية ..
لم يكن يهمني من تحبين الآن ..
وبماذا تفكرين ..
فهذه أمور نتكلم عنها فيما بعد ..
فالقضية المصيرية الآن ..
هي أنني أحبك ..
وأعتبر نفسي مسؤولاً عن حماية أجمل بنفسجتين
في العالم ..
أنت .. وبيروت ..

6
لا تؤاخذيني ..
إذا اقتحمت باب غرفتك دون موعد سابق
ضعي أية خرقة تصادفينها على جسدك ..
ولا تسأليني لماذا ؟
إن بيروت تحترق في الخارج ..
إن ( بيروتنا ) تحترق في الخارج ..
وأنا - على رغم كل حماقاتك وكل إساءاتك الماضيه
لا أزال أحبك ..

وها أنذا قد جئت ..
لكي أحملك كقطة صغيرة على كتفي ..
وأخرج بك ..
من سفينة النار ، والموت ، والجنون ..
فأنا ضد احتراق القطط الجميله ..
والعيون الجميله ..
والمدن الجميله ..

عن نزار قباني

نزار قباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) شاعر سوري معاصر من مواليد مدينة دمشق.

تعريفه من ويكيبيديا

نزار بن توفيق القباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، ولد في 21 مارس 1923 من أسرة عربية دمشقية عريقة. إذ يعتبر جده أبو خليل القباني من رائدي المسرح العربي. درس الحقوق في الجامعة السورية وفور تخرجه منها عام 1945 انخرط في السلك الدبلوماسي متنقلًا بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966؛ أصدر أولى دواوينه عام 1944 بعنوان "قالت لي السمراء" وتابع عملية التأليف والنشر التي بلغت خلال نصف قرن 35 ديوانًا أبرزها "طفولة نهد" و"الرسم بالكلمات"، وقد أسس دار نشر لأعماله في بيروت باسم "منشورات نزار قباني" وكان لدمشق وبيروت حيِّزٌ خاصٌّ في أشعاره لعلَّ أبرزهما "القصيدة الدمشقية" و"يا ست الدنيا يا بيروت". أحدثت حرب 1967 والتي أسماها العرب "النكسة" مفترقًا حاسمًا في تجربته الشعرية والأدبية، إذ أخرجته من نمطه التقليدي بوصفه "شاعر الحب والمرأة" لتدخله معترك السياسة، وقد أثارت قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" عاصفة في الوطن العربي وصلت إلى حد منع أشعاره في وسائل الإعلام.—قال عنه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة : (نزار كما عرفته في بيروت هو أكثر الشعراء تهذيبًا ولطفًا).

على الصعيد الشخصي، عرف قبّاني مآسي عديدة في حياته، منها مقتل زوجته بلقيس خلال تفجيرٍ انتحاري استهدف السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل، وصولًا إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته "الأمير الخرافي توفيق قباني". عاش السنوات الأخيرة من حياته مقيمًا في لندن حيث مال أكثر نحو الشعر السياسي ومن أشهر قصائده الأخيرة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، وقد وافته المنية في 30 أبريل 1998 ودفن في مسقط رأسه، دمشق.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي