تاريخ آداب العرب (الرافعي)/أدب الأندلس

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أدب الأندلس

أدب الأندلس

إلى سقوطها ومصرع العربية فيها

الأدب الأندلسي

هنا مشرع القلم مصرعه، والمورد الذي يرويه ماؤه تظمئه أدمغة، فلو كان القلم سحاباً لاحترق من أسى البكاء بما فيه من البرق، ولو كانت الصحيفة صحيفة الشمس وهي تندب مجد الغرب لأظلم بها الشرق، أيام أدب مرت كنور النهار أصبح به حيناً وبات، بل كانت خفقات قلب الزمان عاش بها دهراً ومات، فنضر لله سعداً لا عيب له إلا أنه من الزمن وآخر الزمن شقي، ورحمه الله عهداً لا نقص فيه إلا قول المؤرخ بعده: لو بقي !

الأدب وتثره بالتاريخ السياسي

لما قرأنا تاريخ الأندلس وأخذنا في درس أدبها واستخلاصه من جمة التاريخ، رأينا ما أذهلنا من إغفال المؤلفين في الأدب والعلوم وتراجم رجالها لهذا الفرع الفنيان من الحضارة العربية، فإنك إن جهدت أن تتمثل صورة مجملة لآداب الأندلسيين، فكأنما تجهد أن ترجع إلى خيالك شباباً أخلقت عهده، وكأنك خلقت بعده، فمهما تأت من ذلك لا تزيد على الذكرى التي يبلغ من ضعفها أن لا يكون فيها إلا بعض أنقاض التاريخ، وأنت تريد أنقاض التاريخ، وأنت تريد الأنقاض كلها، بل صورة البناء بل أن ينقض. لذلك رأينا أن نضع هذه الصفحة جديدة في تاريخ الأدب العربي، ولما شرعنا في لك رأينا أنه لابد من أن يأخذ الكلام في طريقته: فالأول في ظاهر الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي، والثاني في حقيقته وتأثر التاريخ السياسي به، وهذا مما انفرد به الأدب الأندلسي، لأنه بدأ عربياً وانتهى أعجمياً ما سترى ومن أجل ذلك قسمنا الكلام إلى قسمين:

القسم الأول: الأندلس من العراق

إن الأدب الأندلسي لا يبرزه في التاريخ إلا الأدب العراقي، ولقد يكون في الأندلس ما ليس في العراق من بعض فروع الحضارة والصنعة، وغير الفرق ما بين الموطنين في زينة الطبيعة ونضارة الإقليم، إلا أن الأدب العراقي ممتاز بمتانة اللغة، لقربه من البادية ولاستفحال الرواية هناك، ويكونه أصلاً، وحتى أن الأندلسيين أنفسهنم كانوا يلقبون نابغيهم بأسماء المشارقة، فيقولون في الرصافي، إنه ابن الرومي الأندلس، ومروان بن عبد الرحمن، وابن معتز الأندلس، وابن خفاجة: صنوبري الأندلس، وابن زيدون: بحتري الأندلس، وابن دراج: متنبي الأندلس، ومحمد بن سعد الزجالي الأديب الحافظ: أصمعي الأندلس، لحفظه وذكائه، وأبي بكر الزبيدي الشاعر اللغوي: ابن دريد الأندلس، كما يقولون في الفيلسوف ابن ماجه الشاعر الموسيقى: إنه فارابي المغرب، وحمدة بن زياد، والشاعرة الأديبة: خنساء المغرب، وكان منشأ ذلك أن العلماء الأدباء من أهل ذلك الصقع كانوا يرحلون إلى المشرق فيلقون الأئمة ويأخذون عنهم، ثم ينقلبن إلى الأندلس برواية ما أخذوه فيبثونه في أهلها مسنداً إلى أدباء العراق، كسوار بن طارق القرطبي مولى عبد الرحمن بن معاوية، فإنه حج وكدخل البصرة ولقي الأصمعي ونظر أمره، ثم انقلب إلى الأندلس وأدب الحكم، ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار، ج أيضاً ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما، ودخل الأندلس علماً كثيراً، وقاسم بن أصبغ البياني ( نسبة إلى بيانة من أعمال قرطبة ) فقد سمع بالأندلس ممن كان بها، ثم رحل إلى المشرق سنة 274 فسمع بمكة والكوة وبغداد من أئمة الفقه والحديث، وكتب عن ابن أبي خثيمة تاريخها، وسمع ن ابن قتبة كثيراً من كتبه، ومن المبرد وثعلب وابن الجهم، وفي آخرين وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري، ومطلب بن شعيب، وبالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم في تاريخ أحمد بن زهير وكتب ابن قتيبة وأخذوا ذلك عنه ( ص345 ج1: نح الطيب ) ومحمد بن عبد الله بن يحيى من قضاة الناصر ( توفى سنة 337 ) وكان شاعراً مطبوعاً، فقد رحل إلى المشرق وسمع من ابن الأعرابي وغيره، ثم حدث عنه بالأندلس، وسيأتي ذكر آخرين في الكلام على علماء الأندلس. وكانت أمهات كتب الأدب التي تؤلف بالعراق تروى في الأندلس بالسند إلى مؤلفيها، على تفاوت بين الأسانيد قوة وضعفاً، ومن ذلك قول الأمير الحكم المستنصر: لم يصح كتاب الكامل عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي قلاعة، وكان ابن جابر الأشبيلي قد رواه بمصر، وما علمت أحداً رواه غيرهما، وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه، وكان صدوقاً، ولكن كتابه ضاع، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين 1ه ( ص392 ج1: نفح الطيب ). وقد يكون دخول العراق عند عض العلماء من قبيل قولهم ( من حفظ حجة على من لم يحفظ ) لأنه عندهم زيادة في اطلاع وتحقق بالثقة في الرواية، ولما قدم عليهم أبو علي القالي سنة 330 في زمن الناصر، أمر ابنه الحكم وكان يتصرف عن أمر أبيه، أن يجيء مع أبي علي قرطبة، ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة له، وباسم الحكم طرز أبو علي كتاب الأمالي المشهور، وكان قبل ولاية الأمر وبعدها ينشطه ويعنه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وقد اعتنى الأندلسيون بكتاب ( الأمالي ) فشرحوه وألفوا على منزعه، كما فعل الشقوري رئيس كتاب الأندلس في كتابه سراج الأدب، وحفظه كثير منهم حتى في النساء كما سيمر بك ومن أجله جعلوا أبا علي أندلسياً بالموطن دون المنشأ، ليصح لهم الاختصاص به، مع أن القالي لم يكن في قرطبة أعرابياً في أعاجم، ولا كان وحده فيهم كالذهب ف تراب المناجم، وبل كان في قرطبة كثير منهم، وحسبك بمحمد بن القوطية، وهو الذي كان يبالغ القالي في تعظيمه، وشهد له بأنه أنبل أهل الأندلس في اللغة، وكان إمام الأدب في ذلك الزمن أبا بكر الزبيدي. غير أن التاريخ قد فسر هذا التفاوت، فإنه عد أبا علي حسنة من حسنات الدولة الأموية في الأندلس، حتى رفع ذلم موقع المنافسة من المنصور بن أبي عامر المتوفى سنة 393، فإنه لما قدم عليه أبو العلاء صاعد بن الحسين البغدادي اللغوي عزم على أن يعفى به آثار أبي علي الوافد على بني أمية، ليفوز بإحدى الحسنيين، ولكنه لم يجد عنده ما يرتضيه، وكان الرجل يتنفق بالكذب وقد مر من ذلك شيء في بحث الرواية فأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في روايته وحفظه، ولم يأخذوا عنه شيئاً لقلة الثقة. ولم يكن الشغف بالأسماء والألقاب العراقية مقصوراً على العلماء والأدباء وحدهم، بل تجاوزهم إلى الخلفاء، فإن ألقاب الأول منهم كانت: الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء الراشدين وأمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي ترتبت عليه، فتوثب ملوك الطوائف على الألقاب العباسية، وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والفخامة التي تتوزع على ملوك شيء فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة، وفي هذه الألقاب يقول ابن رشيق:

كالهرِّ يحكي انتفاخاً صورةَ الأسدِ

وكان بنو حمود الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذهم خلفاء بني العباس، فكانوا إذا حضرهم منشدٌ يمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم، تكلم من وراء حجاب والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة، ولما حضر أبو يزيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني الشعر أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلاة في مالقة وأنشده قصيدته النونية المشهورة التي مطلعها:

ألبرقِ لائح من أندوين

ذرفت عيناك بالماء المعين

وبلغ فيها إلى قوله:

انظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور رب العالمين

فرفع الخليفة الستر بنفسه وقال: انظر كيف شئت، وكذلك انتحل وزراء الأندلس لقب ذي الوزارتين امتثالاً لاسم صاعد بن مخلد وزير بن العباس ببغداد، وأول من تسمى به منهم وزير الناصر، أبو عامر بن شهيد الكاتب الشاعر الكبير، أول وزير في الإسلام ( ص119 ج1: التمدن الإسلامي ). ولما احتل المأمون بن ذي النون، من أعظم ملوك الطوائف في إعذاره المشهور الذي علمه بطليلطلة وبالغ بما يناسب ما بلغت إليه دولتهم من البذخ والترف، وهو الإعذار الذنوني ضرب أهل المغرب به المثل وفاخروا به المشارقة في عرس بوران بنت الحسن بن سهل التي بنى بها المأمون العباسي، وهو من أكبر الاحتفالات لتي حفظها التاريخ. ذلك طرف من تهافت الأندلسيين في تقليد مشاهير العراقيين، وقد بلغوا ذلك أنهم لما وفد زرياب المغتني تلميذ إسحاق الموصلي على عبد الرحمن بن الحكم ورأوا من ظرفه وفنون أدبه وما رأوا، اتخذه خواصهم قدوة فما سنه لهم من آدابه في اللباس والفرض والطيب والطعام، وثم امتثلهم عامة الناس. .وقد ذكر من ذلك صاحب نفح الطيب أشياء قال أنها صارت إلى آخر الأيام أهل الأندلس منسوبة ليه معلومة به، فكأن عربية الأندلسيين كانت صغيرة في أنفسهم لنزولها عن العربية العراقية بالمنشأ فهم يحققونها دائماً بالتقليد، ويثبتون من بقاء قدمها بهذا الجديد، ولا جرم فقد كان اصل حضارتهم دائماً بالتقليد، ويثبتون من بقاء قدمها بهذا الجديد، ولا جرم فقد كان اصل حضارتهم أموياً لأن أول من سن سنن الآداب وأقام حالة الملك بالأندلس هو عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172 فلء بني أمية بالشام، وكان يسميه عدوه أبو جعفر المنصور العباسي: صقر قريش، لرقي همته وبعد مطمحه، وقد طرز ثوب وملكه حفيده الحكم بن هشام فحل بني أمية المتوفى سنة 206، فكان أول من جند الأجناد واتخذ العدة، وأول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف، ومنهم ثلاثة آلاف فارس وألفا رجل.

عربية الأندلس:

كان أول احتلال طارق بن زياد لأرض أندلسية في سنة 92، وبعد أن ضرب فيها قليلاً رحل إليها مولاه موسى بن نصير، فدخلها في سنة 93 وافتتح جانياً منها ثم قفل عنها سنة 9، وتتابعت الولاة والفتوح بعد ذلك مما ليس في هذا الكتاب موضعه بسطه، غير أنه لما استتم الفتح وعصفت ريح الإسلام، صرف أهل الشام وغيرهم من العرب همهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وسادتهم جماعة أورثوها أعقابهم، وهم بدء تاريخ الأدب فيها، فكان منه القبائل المختلفة من العدنانية والقحطانية ولم يتركوا في الأندلسي عاداتهم المشرقية من الغزو ولحروب، فطرأت بذلك الفتن بين الشاميين والبلديين العرب والبربر العرب من المضرية واليمانية، حتى كان زمن الداخل ف سنة 138، ولم يزل أولئك العرب يتميزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداعية الذي ملك سلطنة الأندلس سنة 366 وقصد بذلك تشتيتهم وقطعه التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء، وقدم القواد عل الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل، فانحسمت بما عل مادة الفتن بالأندلس التي كانت تثيرها تلك الجاهلية الرقيقة. . وقلما تجد في الأندلسيين شاعراً مفلقاً أو كاتباً بليغاً أو عالماً ضليعاً إلا ونسبه في قبيلة من تلك القبائل العربية، فكان يحيى لغزال أول شعراء الأندلس الفلاسفة من ني بكر وبن وائل، وكان يوسف بن هارون الرمادي معاصر المتنبي من كندة، وابنه أبو الوليد بن زيدون لشهير، وكان أبو كبر بن عمار ينتسب إلى مهرة من قصاعة، وغير هؤلاء كثيرون، فضلاً عمن لم يعرف سبيل اعتزائهم من ألأدباء لأن الانتساب إلى العرب كان محفوظاً بالأكثر في العلماء والفقهاء والأعيان، متميزاً فيهم، كبني سراج الأعيان من أهل قرطبة، نسبون إلى مذحج، وبنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة، إلى مرة بن أود بن زيد بن كهلان، وبنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة أيضاً، إلى عاملة، وقيل هم من قضاعة، وبنو عباد أصحاب إشبيلية، إلى لخم بن عدي، وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة، إلى غير هؤلاء ممن أفردت لهم كتب الأنساب الأندلسية، وكان يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة: العربيات، لمحافظتهن على المعاني العربية ( 492 ج2: نفح الطيب ) فكأن الطبيعة بتلك الوراثة العربية قد تعاون باطنها وظاهرها على إيجاد الأدب الأندلسي وإجادته.

أولية الأدب والعلوم

اهتمام الأندلسيين بالشعر لأول عهدهم في الأندلس

فمن لدن فتح الأندلس إلى زمن الدخل أي نحو 46 سنة لم يكن في الأندلسي ضرورة شعراء ولا كتاب من أهلها، بل كانوا من الطارئين، وهم مع ذلك لم يتميزوا ولم يبلغوا مبلغ أدباء العراق والشام، ومن هؤلاء أبو الحظار صاحب اليمانية، والصميل بن حاتم شيخ المضرية، وهما كبشا الفتنة العمياء، غير أنه كان في تلك المدة أبو الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي، وكان معاصراً لجرير والفرزدق وشعره على مذهب الأوائل من جاهلية العرب لا على طريقة المحدثين، وكذلك بكر الكناني، وهذان وحدهما هما اللذان عرفا بالشعر في ذلك الزمن، ولما توجه عباس بن ناصح الشاعر من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس استنشده من شعرهما ( ص156 ج2: نفح الطيب ) وهذا يدل على أن شهرتهما ترامت إلى العراق. واستمرت تلك الحال إلى منتصف القرن الثاني، فعرف بالشعر حبيب بن الوليد لذي ينتهي نسبه إلى عبد الملك بن مروان، وقد توفي بعد المائتين ( ص574 ج1: نفح الطيب ) وحوالي ذلك من الزمن كان من قضاة الداخل معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، وكان له أدب وشعر، وكان عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء في أواخر هذا القرن يفد على قرطبة فيأخذ عنه أدباؤها، ومنهم يحيى الغزال أول المشاهير من شعراء الأندلس المفلقين، وكان يومئذٍ حدثاً ( ص445 ج1 ) وفي تلك الأيام عرف شاعر اسمه بكر بن عيسى.

اهتمام الأندلسيين بالكتابة لأول عهدهم في الأندلس

هذه أولية الشعر في الأندلس، أما الكتابة فلعل أول من اشتهر بها أمية بن زيد ولى معاوية بن مروان، وذلك لأنه لزم الكتابة لعبد الرحمن الداخل، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري، وقد جعله الأمير عبد الرحمن في عديد من يشاوره ويفضل آراءه ( ص72 ج2: نفح الطيب ) ولم يكتب أحد قبله لهذا لأمير إلا ابا عثمان النقيب وصاحبه عبد الله بن خالد، إلا أن فضل الخصوصية والمشاورة كان لأمية دونهما.

الفقه من أول العلوم في الأندلس

أما أولية العلوم فإن أقدم ما اشتغلوا بمدارسته من العلوم إنما هو الفقه، حتى كان الأمراء الذين ولوا الحكم في القرن الثاني، وهم الداخل، وهشان ابنه، والحكم بن هشام لا يعنون إا بالقضاة، ويقربونهم، ولا يألون الناس جهداً في إقامتهم على الحق وحملهم بالسنة الواضحة، ولهم في ذلك الأخبار العريضة. وقد كانت حركة الحياة الأندلسية حركة غزو وحرب واضطراب فتن سياسية عليها صفة الدين إلى آخر تاريخها العربي كما ستعرفه فكان طبيعياً أن يكون من مقتضيات فطرة ذلك الشعب، الحماسة الدينية، ولا يدل عليها كالإحسان الشديد باحترام الفقهاء، ولذلك كانت سمة الفقيه عندهم جليلة، حتى أن المسلمين كانوا يسمون الأمير المعظم منهم الذي يريدون التنويه به: فقيهاً، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي: فقيه، لأنها أرفع السمات ( ص103 ج1: نفح الطيب ) وفي تاريخ وزرائهم وشعرائهم وأدبائهم ما يدل على ذل، وسنأخذ في هذا المعنى ف موضع آخر، وقد كان الأندلسيون يتفقهون على مذهب الأوزاعي حتى رحل زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشيطون المتوفى سنة 204 إلى الحجاز فسمع من لإمام مالك بن أنس كتاب الموطأ، وهو أول من أدخل مذهبه لأندلس، وكان ذلك زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة 180 في فجر تلك الحضارة، وذلك طبيعي، لأن الناس في أدوار التاريخ الإسلامي لم يتفرغوا لعلم الأدب إلا إذا استكملوا علوم الدين أو أهملوها والعياذ بالله، وقد أجمع الأندلسيون قاطبة على مذهب مالك، ولا يزال ذلك في أهل المغرب لعهدنا، وقال الحافظ ابن حزم: ( مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه ابن لما ولي القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية، فكان لا يولي أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإنه يحيى بن حيى يعني يحيى بن يحيى الليثي، وقد روى الموطأ عن زياد المذكور آنفاً قبل أن يدرك ملاكاً، ثم أدركه فروى عنه كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، ولا كان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون أغراضهم به، على أن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم ). وابن حزم هذا هو أول من خالف مذهب مالك بالمغرب واستبد بعلم الظاهر، ولم يشتهر به مثله أحد ( ص32: المعجب ). وليس اشتغال الأندلسيين بالفقه ورسائله بمانعهم أن يتدارسوا علوم اللغة والإعراب، إلا أنهم لم يستقصوا هذه العلوم ولم يستغرقوها، لأن ذلك إنما كان في لطارئين على الجزيرة وف قليل من أهل البلاد كم مر بك بعضه، وقد كان الأمير عبد الرحمن الداخل شاعراً محسناً ولسناً فصيحاً، وكان ابنه الأمير هشام إذا حضر في مجلسه امتلأ أدباً وتاريخاً، وفي زمن هشام هذا وقد تقدمت سنه ( ودنت ) وفاته، وكان بالجزيرة الخضراء منجم يعر بالضبي، وقال صاحب نح الطيب عندما ذكر أن هشاماً أشخصه من وطنه إلى قرطبة: ( وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقاً وإصابة ) ( ص157 ج1 ). وكان في زمن الحكم بن هشام، الذي ولي سنة 180، شاعر اسمه العباس معروف بالشعر، أورد له صاحب نفح الطيب بعض أبيات غير جيدة ( ص150 ج1 ). فتلك جملة تاريخ الأدب الأندلسي في القرن الثاني وما أدركه الفتح من بقية القرن الأول، وهي لا تعد شيئاً في جنب ما كان يومئذٍ بالشام والعراق في الدولتين الأموية والعباسية، حيث انتهى القرن الثاني بقيام المأمون لعباسي الذي بويع سنة 198، ولكنها كالجاهلية للأدب الإسلامي، ولم تزل سنة أن لا يتم آخر شيء إلا إذا كان النقص في أوله !.

الأدب في القرن الثالث

استهل القرن الثالث وحضارة العباسيين في أوجها، وقد نفح الأدب العربي بأنفاس الخلود الباقية من عصر المأمون إلى ما شاء الله أن تبقى، ولكن هذا القرن كان في الأندلس نطاحاً ومغالبة في أكثر سنيه، وليس فيه من أمراء الأدب المعدودين إلا الأمير عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالأواسط معاصر المأمون العباسي: وكان أندى الناس كفاً، وأكرمهم عطفاً، وأوسعهم فضلاً، ملك من سنة 206 إلى سنة 238، وكانت أيامه أيام هدوء وسكون، واتخذ القصور والمنتزهات، ولكن سواد الناس لم يهتموا إلا ببناء الجوامع بكور الأندلس ولم تبن إلا في أيامه، وقد جاراهم هو في ذلك فزاد في جامع قرطبة رواقين، ويقول بعضهم إنه فعل ذلك لما تهم بميله إلى الفلسفة، ولما كان هذا الأمير مع علمه بعلوم الشريعة عالماً بالفلسفة ( ص162 ج1: نفح الطيب ) وكان محباً للسماع، كثير الميل للنساء، احتجب عن العامة، وهو ول من فعل ذلك من أمراء الأندلس ليتنفس في الهواء الرقيق. .ولولا هذا الأمير لرقد العصر الثالث من الأندلس في كفن الثاني، غذ نبغ في أيامه يحيى بن حكم المعروف بالغزال الشاعر المفلق الفيلسوف، وكان شاعره، وهو من شعراء الأندلس كامرئ القيس من شعراء الجاهلية، وبشار من شعراء المحدثين، وله الأرجوزة المطولة التي نظمها في فتح الأندلس وذكر فيها السبب في غزوها وفصل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها، وأسماءهم، فأجاد وتقصى، وكان للأندلسيين بها شغف إلى آخر عصورهم، وقد قلده في ذلك أبو طالب المتنبي الشاعر من أهالي جزيرة شقر فنظم كتاباً في تاريخ الأندلس وأورد منه ابن بسام في كتابه الذخيرة. وكان الغزال من كبار أهل الدولة حتى أرسله عبد الرحمن سفيراً إلى ملك القسطنطينية حيث بعث إليه هدية في سنة 225 يطلب ويرغبه في ملك سله بالمشرق من أجل ما شيق به المأمون والمعتصم فأحكم الغزال بينهما الواصلة، وتوقى هذا الشاعر سنة 250. وكان من شعراء الأمير عبد الرحمن وندمائه عبد الله بن الشمر ( ص345 ج2: نفح الطيب ) وكان يكتب له محمد بن سعيد الزجالي، أصمعي الأندلس، وقد استوزره لشطر من الشعر، وذلك أنه صنع في بعض غزواته قسيماً، وهو:

نرى الشيء مما يتقى فنهابه

ثم ارتج عليه وكان عبد الله بن لشمر نديمه وشاعره غائباً عن حضرته، فأراد من يجيزه، فأحضر له بعض من قواده محمد بن سعيد هذا، فأنشده القسيم، فقال:

وما لا نرى مما يقي الله أكثر

فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.

شيوع الغناء في بلاد الأندلس وأشهر المغنيات:

وامتاز عصر هذا الأمير بشيوع الغناء في الأندلس، بعد أن قدم عليه زرياب المغني تلميذ إحاق الموصلي سنة 206، وهو الذي أورث هذه الصناعة الأندلس وسنذكرب أمره في تاريخ هذا الفن وكان عبد الرحمن مولعاً بالسماع، مؤثراً له على جميع لذاته، حتى أنه كان يبتاع المحسنات من الآفاق، فاشتريت له من المدينة فضل المدينة التي كانت لإحدى بنات هارون الرشيد، مع صاحبتها علم، وصواحب غيرهما، فأنشأ لهن دار بقصره سماها دار المدنيات، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرهن ورقة أدبهم، وكان من جواريه أيضاً قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عنده، وكانت أديبة ذاكرىة حسنة الحظ رواية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الآداب، وهي أندلسية الأصل حملت إلى المشر وتعلمت بالمدينة ( ص118 ج2: نفح الطيب ) ومن الجواري اللاتي كن يتصرفن بين يديه منفعة، جارية زرياب التي علمها أحسن أغانيه ثم أهداها له، وكان في زمنه أيضاً من الحاذقات بالغناء حمدونة وعليه ابنتا زرياب، ومصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن فهليل ( ص114 ج2: نفح الطيب ) وغيرهن، حتى ليكاد زمن هذا الأمير نسائياً. وممن استهتر بهن من جواريه، مدثرة والشفاء، وطروب، وقد بنى الباب على هذه الأخيرة مرة ببدر الأموال، وكانت غاضبة ثم استرضاها على أن لها جميع ما سد به الباب ( ص 163 ج1: نفح الطيب ). وتولى بعد الأمير عبد الرحمن محمد ابنه في سنة 238 إلى سنة 273، كان كثير الغزوات فلم يعرف في عهده تاريخ الأدب على حقيقة ببينة، بل استمر أهل الأندلس على ما اعتادوا زمن أبيه، ولكن كان من أخص شعرائه مؤمن بن سعيد، وكان من أعظم الفلاسفة لعهده عباس بن فرناس الحكيم، وسنذكره في موضع آخر وله فيه سعر أورده صاحب العقد الفريد، ثم اهتز حبل الفتن بعده في ولاية ابنه المنذر، ومانت سنتين إلا نصف شهر سنة 275، وفي زمن عبد الله أخي المنذر اضطربت نواحي الأندلس بالثوار والمتغلبين فتلك السنين، وكان عبد الله شاعراً محسناً إلا أنه زاهد تقي صحيح الإيمان، وفي زمنه نشأ الفقيه الأديب ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وهو ويحيى الغزال طرفاً الأدب في القرن الثالث، وتوفي عبد الله سنة 300، وكان وزيره النضر بن سلمة الكاتب المحسن. ومما امتاز به هذا القرن دخول رسائل المحدثين وأشعارهم وفي أواخره إلى أفريقية ثم الأندلس على يد أبي اليسر بن أحمد الشيباني المعروف بالرياضي، من أهل بغداد وسكن القيروا وكتب الأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد الأغلب، ثم لابنه أبي العباس عبد الله، وقد لقي الجاحظ والمبرد وثعلباً وابن قتيبة الأدباء، وأبا تمام والبحتري ودعبلاً وابن الجهم الشعراء، وسعيد بن حميد وسليمان بن وهب، وأحمد بن أبي طاهر الكتاب، وغيرهم، وتوفي بالقيروان سنة 298. وكذلك دخول كثير من كتب اللغة ودوواين شعر الجاهلية على يد محمد بن عبد السلام بن ثعلبة المتوفى سنة 286 فقد دخل البصرة ولقي بها أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج والرياشي وأبا إسحاق الزيادي، وفأخذ عنهم رواية عن الأصمعي وغيره، ودخل بغداد وسمع من أئمتها ثم انقلب إلى قرطبة.( ص67: بغية الوعاة ). ثم اخترع التوشيح وقد استوفينا الكلام عنه في موضعه. ^

الحضارة الأندلسية

الأندلس إقليم في جنوب إسبانيا، وقد أطلق اسمه على البلاد كلها مجازاً، ولهذه البلاد ( إسبانيا ) في تاريخ الحضارة أربعة أعصر: الأول عصر الفينيقيين الذين اكتشفوها، والثاني عصر الرومانيين، والثالث عصر القوطيين. .والرابع عصر الإسلامي، وكانت إسبانيا قبل أن يكتشفها الفينيقيون ما بين القرن الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد. .معمورة بقبائل يسمونهم ( الإيبيريين ) وقد وقع الخلاق في أصلهم، قالوا: ومن هذا الاسم اشتق اسم ( هباريا ) لذي كان الاسم الأول لتلك البلاد، ثم صار إسبانيا بعد ذلك. فلم تكن حضارة العرب في الأندلس ابتداءً، وإنما كانت تتميماً، ولولا ذلك لتبين النقص الطبيعي في أدب تلك البلاد، ولبلغ الكبر قبل أن يشب شبابه الذي بهر التاريخ، لأن الأدب لا يتبع الحضارة لنفسها، ولكن لفلسفتها وحواشيها الرقيقة، فليس الشأن في بناء يقام وبلد يعمر ونهر يبثق وأرض تفلح، ولكن الشأن في فلسفة ذلك جميعه، ومن جمال الشكل وإحكام الهندسة وجلاء الطبيعة وحسن التنسيق، وأنت مع استفحال الحضارة الإسلامية واستبحار عمراها وسموق مبانيها ودقة فنونها، خصوصاً في الأندلس، لا تكاد تجد لفراد الشعراء المعدودين في وصف المياني إلا ما كان للبحتري ف وصف قصور المتوكل كالجعفري غيره، وللشريف الرضي في وصف ما كان في الحيرة من منازل النعمان، والصابي في وصف قصر روح بالبصرة، وشعراء الداريات وهم الذين ظموا في صف دار الصاحب بن عباد كأبي سعيد الرستمي والخوارزمي وغيرهما، وقد ذكرهم صاحب اليتيمة وأورد قصائدهم، وابن حمديس في مباني المعتمد على الله وما شاده المنصور بن أعلى الناس وهو أشهر الشعراء في ذلك، وأبي الصلت أمية الأندلسي في مباني علي بن ذي النون بطليطلة، وقطع متفرقة لغير هؤلاء، وهم مع ذلك لا يذكرون مادة البناء ولا يصورون هندسته، لأن الشعر ليس مادة جامدة يأتلف مع الجوامد، وإنما هو يتبع زخرف الحضارة وفلسفتها. وقد وجد العرب في الأندلس حضارة ممهدة وسبيلاً مطروقة إلى الفنون الدقيقة والجمال الطبيعي، وجاءهم بعد ذلك من بني أمية أمراء الحضارة المشرقية ومنافسو العباسيين فيها.فجلوا شباباً كاد يوفي على الهرم ؛ وكان رأسهم في ذلك عبد الرحمن الداخل الذي بدأ في بناء جامع قرطبة العظم والقصر الكبير الذي كان في الأبنية كأنه قصيدة في الشعر، إذ كان من قصوره التي يحتويها: الكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر السرور، والتاج، والبديع، وغيرها، وهي المعاهد التي كانت مذكورة في ألسن الشعراء وفرسان الأدب ؛ وكان عبد الرحمن بن معاوية صاحب قصر الرصافة ينقل لجنانه غرائب العروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأرسل إلى الشام رسوليه: يزيد وسفر، في جلب النوى المختارة والحبوب الغريبة، ولسنا الآن في شرح مواد هذه الحضارة من أنواع النقش والحيل الصناعية ووصف القصور والمتنزهات وسرد أسمائها، ومجالس الخلفاء وأنواع زينتهم ولهوهم وما سفهوا فيه من السرف والبذخ ونحوها، فليس في كتابنا موضع يسع مثل هذا، وقد تكفل بذلك الشرح جميعه كتاب نفح الطيب للمقري، فضلاً عن أن فيه أشياء أمسكناها لبحث الصناعة العربية تجيء في موضعها من هذا الكتاب ؛ وإنما غرضنا هنا أن نضع أساس البحث في الحضارة الأدبية لأنها تابعة للحضارة الفنية، تغتدي بمادتها وتشرق بجمالها ؛ وإنما الأدباء أقلام التاريخ التي تخلد حضارة الدول وتصف زينة الملك وتراسل عن الملوك بالثناء وحسن الذكر وطيب الأحدوثة ؛ فيد الدولة التي لا تكون لها هذه الأقلام يد شلاء يبترها التاريخ ولا يصفها إلا بالعجز وسوء التعلق والمغالبة على الوجود بغير حق. وأساس الحضارة الأدبية في الأندلس تلك الطبيعة التي كانت ترسل النسمات أنفاساً موسيقية تؤخذ شعراً وتلفظ ألحاناً، وبذلك حبب إلى أهلها الأدب وطبعوا على هذه الشيمة، حتى كان ذلك ظاهراً في مثل وادي الأشات من أعمال غرناطة، وهي مدينة خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، لما أحدق بها من المواضع الفرجة والبساتين الغناء ؛ وما زالوا يضربون المثل بأهل أشبيلية بلد المتنزهات في الخلاعة والمجون والتهالك على الشعر والغناء، وإنما كان يعنيهم على ذلك واديها البهيج ؛ وبنت أشبيلية هذه مدينة شريش، وواديها ابن واديها، وقد قولوا فيها: ما أشبه سعدى بسعيد ! وهي مدينة وصفوها بأنه لا يكاد يرى فيها إلا عاشق أو معشوق. . . ومما خصت به غرناطة التي تسمى دمشق الأندلس، نبوغ النساء الشواعر منها، كنزهون القلعية وحفصة الركونية وغيرهما، وناهيك بهما من شاعرتين ظرفاً وأدباً، فإذا كانت أنوثة تلك الطبيعة قد أنطقت النساء فكيف بالرجال ؟

أدباء ملوك الأندلس:

قال الجاحظ في موضع من كتابه البيان: زعم رجال من مشيختنا أنه لم يقم أحد من بني العباس بالملك أي إلى زمنه إلا وهو جامع لأسباب الفروسية.فلو زعم أحد أنه لم يقم أحد من أمراء الأندلس وخلفائها إلى آخر القرن الخامس إلا وهوة جامع أسباب الأدب لكان حقيقاً في زعمه بالتصديق، ولولا أدبهم لما نفق الأدب عندهم ولا بلغ مبلغه ذلك، فإن نفاق السوق جلاب، ولم يعرف فيهم من أهل الركاكة والسخف إلى ذلك إلا القليل، كمحمد بن عبد الرحمن المستكفي بالله الذي وزر له حائك يعرف بأحمد بن خالد، وكان صاحب رأيه وتدبيره، وقد رأينا أن نذكر أسماء الشعراء وأهل الأدب من أولئك الأمراء والخلفاء ؛ فمنهم: عبد الرحمن الداخل، وابنه هشام، وعبد الرحمن بن هشام، وعبد الله بن محمد المتوفى سنة 300 ؛ وله شعر جيد، والمنصور، والمستعين، وعبد الرحمن بن هشام من خلفاء دولة بني أمية الثانية، والمستظهر الشاعر الشاب المجيد، وأولاد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وهم المنذر، والمطرف، وهشام، ويعقوب، ومحمد، وأبان، كلهم شعراء، ولمحمد هذا ثلاثة أولاد شعراء أيضاً، وهم: القاسم، والمطرف المعروف بابن غزلان، وهي أمه، كانت قينة مغنية عوادة أدبية ومسلم، ومن أولاد الناصر عبد الله بن الناصر، وأخوه أبو الأصبغ عبد العزيز، ومحمد بن الناصر، ومحمد بن عبد الملك بن الناصر، أما أخوهم الحكم المستنصر فهو للعلم والأدب، ولم يكن في ولد الناصر أشعر من محمد بن عبد للملك ومن ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر، وهو في بني أمية شبيه عبد الله بن المعتز في بني العباس، لنفاسة شعره وحسن تشبيهه، وقد خرج منهم بعد القرن الرابع شعراء كثيرون يتفاوتون في الإحسان، وهي ذرية بعضها من بعض ؛ ومن حسناتهم عبيد الله بن محمد المهدي المعروف بالأقرع، والأصم المرواني الذي مدح أمير المؤمنين عبد المؤمن ؛ وقد ألف القاضي يونس ابن عبد الله بن مغيب بطلب الحكم المستنصر كتاباً في أشعار خلفاء بني مروان بالمشرق والأندلس، معارضاً للصولي في تأليفه كتاب أشعار بني العباس بالعراق.وكتاب الصولي محفوظ بالمكتبة الخديوية. أما ملوك الطوائف فحسبك بالمعتصم بن صمادح ملك المرية، وأولاده الواثق عز الدولة، ورفيع الدولة أبو زكريا يحيى بن المعتصم، وأبو جعفر، وأم الكرام، وكذلك المتعمد بن عباد صاحب أشبيلية ملك الشعراء، وأولاده: الرشيد، والراضي، وبثينة ؛ ثم ملوك بني الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها، ومنهم المظفر صاحب الكتاب المظفري في التاريخ والأدب، وسيأتي ذكره وبنو هود أصحاب سرقسطة، وكان منهم القائمون على الرياضيات والفلسفة، وأشهرهم المقتدر بن هود الذي كان آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة ؛ فقل في زمن كان يقوم بأمره أمثال هؤلاء: وإنما الأمر بالأمير.

مبلغ عنايتهم بالعلم والأدب.

يلخص مما استوفيناه إلى الآن أن أمراء الأندلس وخلفاءها كانوا فيها كعواطف القلب التي تتحرك إلى المنافسة، فهم من جهة بإزاء العباسيين وأمرائهم في المشرق، ومن جهة أخرى بإزاء الطبيعة التي أنشأت الأندلسيين نشأة عقلية غير النشأة الأولى التي يساهم فيها كل أفراد النوع، وهي النشأة القلبية، فلم يكن بد لأولئك الأمراء من أن يكونوا على الحقيقة رؤوس هذا الشعب الطروب، وهب لا توفق بين اندفاعه وكبحه إلا إذا كان منها حيز للسياسة الحكيمة والعزمة الرحيمة، وهذا لا يتأتى مع جهل ولا جاهلية، وكذلك، ليس العلم المحض بنافع فيه على الإطلاق، وإنما لا بد من علم منوع وافتنان يوافق به الأمير أو الخليفة معظم السواد من حاشيته وقومه، فالأمير الفيلسوف لا يصلح للرعية الفقهاء، وحينئذٍ لا بد أن تكون الفقه في الكفة الراجحة من ميزان سياسته، فتكون له الفلسفة في خاصة نفسه ؛ والفقه وما يستعان به على تجميل الملك وسياسته كالكتابة والشعر وغيرهما فيما ظهر منه للناس. ولما كانت السيادة لعلم الفقه في أول أمر الأندلس كان الأمراء من بني أمية يعنون بشأن الفقهاء والتودد إليهم والانصياع لمشورتهم، ليتألفوا الناس بذلك ويديروا بهم الرحى الطاحنة التي هي الحرب ؛ حتى إن الحكم بن هاشم بات يتململ على فراشه وبعد عنه نومه حين مرض قاضيه وسمع النائحة عليه ؛ لأن هذا القاضي كان يكفيه أمور رعيته بعدله وورعه وزهده. ثم أقبل، الأمراء على أهل الأدب واشتغلوا بالفلسفة، ولكنهم لم يظهروا في ذلك إلا في القرن الرابع، بعد زمن عبد الرحمن الناصر ( 300 - 350ه ) وهو الذي تجرأ على لقب الخلافة فكان أول من انتحله بالأندلس، وذلك عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس.وقد تعاور الدولة العباسية في زمن هذا الخليفة المقتدر والقاهر بالله والراضي بالله، وهو الخليفة الشاعر، والمتقي لله والمستكفي والمطيع الذي غلب على أمره معز الدولة بن بويه ولم يكن له أمر ولا نهي ولا خلافة تعرف، فكان هذا الاضطراب في المشرق علة في تحريك المدينة والحضارة إلى المغرب، حتى استفحل أمرهما هناك، لأن الخلافة التي تقوم بعد أن بلغت الحضارة العباسية إلى منقطعها لا تكون خلافة بلا شيء، بل لا يكفي فيها أن تضاهي الحضارة العباسية، وقد كان اندفاع هذا التيار سبباً في ظهور الفلسفة من مغاصتها وجريانها على أعين الناس، وقد أرسل الخليفة عبد الرحمن إلى القسطنطينية، ومكان عاهلها القيصر رومانوس ؛ وإلى العراق والحجاز والشام ومصر وإفريقية - من يشتري له الكتب ويحصل له من ذخائرها وأصولها المهمة، حتى قيل إن عاهل القسطنطينية وجد من أسباب الحظوة لدى هذا الخليفة أن يهدي إليه نسخة بديعة من كتاب الحشائش الذي ألفه ديسقوريدس العالم النباتي المشهور، وقد كانت مكتوبة بالخط الإغريقي مصورة فيها الحشائش كلها بالذهب، وأهداه كتاباً آخر لهرشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم في أخبار الدهور وقصص الملوك وطبقات الأطباء في كتب أخرى، وكان ذلك سنة 337. ولكتاب ديسقوريدس هذا شأن عند العرب، وقد نقله عن اليونانية أصطفان بن باسيل أيام المتوكل العباسي وترك أسماء كثير من العقاقير على لفظها اليوناني، إذ لم يحسن تعريبها، ووقعت هذه النسخة العربية إلى الأندلس، فلما أهدي الكتاب إلى الناصر أرسل إلى ملك القسطنطينية في أن يبعث إليه براهب يعرف اليونانية واللاتينية، وكان في الأندلس من يحسن هذه اللغة، فبعث إليه راهباً اسمه نقولا وصل إلى قرطجة سنة 340 فتعاونوا على استخراج مما فات ابن باسيل، ثم جاء ابن جلجل الطبيب الأندلسي في آخر القرن الرابع فألف كتاباً فيما فات ديسقوريدس من أسماء العقاقير والأدوية، جعله ذيلاً على ذلك الكتاب. وبذلك صار من مفاخر الأندلسيين يومئذ اتخاذ المكاتب للمنفعة والزينة معاً، حتى إن الكتاب ربما غولي فيه لجلده ونقشه وحسن خطه، لأنها مظاهر الزينة، وقد كان الناصر أندى الناس كفا على الشعراء والكتاب وأهل الموسيقى وغيرهم، وتولى حماية من يشغل بعلوم الفلسفة، حتى طارت شهرة قرطبة في أوربا فأمها الناس أفواجاً في زمنه وزمن ابنه الحكم، واختلطوا بالأندلسيين في حلقات العلم، ولا يتم ذلك إلا في عصر تكون شجرة الفلسفة قد مدت عليه ظلها الوارف، ومن أشهر أولئك الراهب جوبرت ( 930 - 1004م ) الذي ارتقى بعد ذلك إلى العرش البابوي باسم البابا سليفسترس الثاني وقد وفد في زمن الحكم ( ص98 ج 1: تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب ). ولسنا نفيض في وصف زمن الناصر وإقبال الوفود عليه من ملوك أوربا والملوك المتاخمين له ومخاطبته في أمر الهدنة والسلم والتماس رضاه وتقبيل يده، ولا في وصف المجلس التاريخي العظيم الذي أعده لاستقبال تلك الوفود، فإن حواشي التاريخ ليست من شرطنا في هذا الكتاب، وإنما نقول إن زمن هذا الخليفة كان شباب الأدب، ولغلبة العلوم عليه من اللغة والنحو والحديث والفلسفة لم يكثر شعراؤه كثرتهم في أواخر هذا القرن وفي القرنين الخامس والسادس.وقد كان من تأثير ذلك أن صار أكثر الفقهاء وسائر أصناف العلماء رواة للشعر والأخبار، واستفاض ذلك إلى آخر عصور الأندلس، فنشي من مشاهيرهم مثل أبي مروان عبد الملك الطبي، وأبي الوليد الباجي، وأبي أمية إبراهيم بن عصام، وابن حزم الظاهري، وأبي بكر الطرطوشي، والحافظ الحميدي، وابن الفرضي، وغيرهم ؛ حتى إن من لم يكن فيه هذا الأدب من العلماء كانوا يعدونه غفلاً مستثقلاً.ولم يكن يشتهر بذلك قبلهم إلا القليل من الفقهاء، كعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة 238، والقاضي منذر بن سعيد المتوفى سنة 335 وكانوا يقولون في عبد الملك إنه عالم الأندلس وإن عيسى بن دينار فقيهها ؛ وأشهر شعراء الناصر: ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى سنة 328، وهو الذي نظم بعض غزواته في أرجوزته المشهورة، وحاجبه أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك ابن جهور، وآخرون. ولما ولي الناصر ابنه الحكم المستنصر ( 350 - 366 ) جرى في طريق أبيه وأربى على الغاية، فكان جماعاً للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد قبله من الملوك، حتى بلغ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعين، في كل واحدة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين، وكان يبعث إلى الأقطار في شراء الكتب أناساً من التجار، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار ذهباً، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وله من أمثالها أشياء ؛ وجمع بداره الحذاق في صناعة النسج والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، وقد حققوا أنها بلغت سبعين مكتبة إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء.قال ابن خلدون: ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، وقد آثر ذلك الحكم على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذياً نسيج وحده ؛ وكان ثقة فيما ينقله، وقلما يوجد من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وغرائب أخرى لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن.وإذا كان الحكم قد امتاز بشدة النظر في علم الحدثان - التنجيم ( ص93 ج 2: نفح الطيب ) وهو من اللهو الشبيه بالباطل، فما ظنك به في غيره من علوم القوم ؟ وإن مبلغ العلم لا يكون دائماً إلا مبدأ العناية بالعلم، فعلى قدر ما يستوفي العالم يكون شرهه إلى الزيادة، وعلى مقدار هذا الشره تكون العناية بمن عنده شيء مما يوفي حق الرغيبة ويغني من حاجة الطلب ؛ فإذا كانت خزائن الحكم تحفل بأربعمائة ألف مجلد، كما قيل، ( ص184 ج 1: نفح الطيب ) حتى إنهم لما نقلوها أقاموا في ذلك ستة أشهر ؛ فهل يكون عصره إلا عصر العلماء والأدباء الذين هم مصانع الكتب على الحقيقة ؟أما الشعر في زمنه فإنه إذا ذهبنا نقلب كتب التاريخ التي بين أيدينا لم نكد نعرف من مشاهير عصره غير حاجبه جعفر بن محمد المصحفي رب القلم والبيان ؛ وهو في الطبقة الثانية من شعراء الأندلس، وغير الرمادي الشاعر المتوفى سنة 403 ويعدونه في الطبقة الثالثة ( ص16: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ). إذا كان التاريخ قد ذهب بكثير من اسمائهم، فقد رأينا في بعض أبنائه أن من الكتب التي ألفت للحكم المستنصر كتباً في شعراء الأندلس، منها أخبار شعراء ألبيرة في عشرة أجزاء ؛ وقد وقف عليه الوزير أبو محمد ابن حزم ؛ وهو الذي ذكره في بعض رسائله ولم يذكر اسم مؤلفه ( ص123 ج 2 )، ولكنا وقفنا في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي على اسم هذا الكتاب في ترجمته مطرف بن عيسى الألبيري المتوفى سنة 357 ؛ وقال إن له كتاباً آخر في فقهائها ؛ وكتاباً في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم ( ص392 ). ورأينا أيضاً في هذا الطبقات في ترجمة محمد بن عبد الرؤوف القرطبي المعروف بابن خنيس المتوفى 343 أنه ألف كتاباً في شعراء الأندلس بلغ فيه الغاية ؛ فيكون من ذكرهم فيه إلى ما قبل انتهاء زمن الناصر ؛ وألبيرة لم تكن إلا مدينة من مدن الأندلس فكيف بسائرها ؟ إلا أن الشعر كان كثيراً في علماء اللغة والنحو وغيرهما - كما سيجيء في موضعه - وفي أيام هذا الأمير نبغ محمد بن هاني الشاعر الشهير بأشبيلية، ولكنه انفصل عنها إلى إفريقية ومدح المعز صاحب مصر وغيره، وتوفي سنة 368 ؛ وقد توفى الحكم سنة 336 وولي بعده ابنه هشام فغلب على أمره ابن أبي عامر المنصور وتولى حجابته، وجرت أحوال علت قدمه فيها حتى صارت التدبير، فدانت له الأندلس كلها ولم يضطرب عليه شيء من نواحيها، وكان محباً للعلوم مؤئراً للأدب، مفرطاً في إكرام من ينسب إلى شيء من ذلك ويفد عليه متوسلاً به بحسب حظه منه وطلبه له ومشاركته فيه، وقد أفرط في الإحسان على أبي العلاء صاعد اللغوي البغدادي حين قدم عليه سنة 340 حتى اتخذ له مرة قميصاً من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه، وجعل ذلك حيلة إلى بلوغ الغاية من كرمه، وقد ألف له كتباً غريبة، منها كتاب الهجفجف ابن غيدقان بن يثربي مع الخنوت بنت مخرمه، وكتاباً آخر في معناه سماه ! كتاب الجواس بن قطعل المذحجي مع ابنة عمه عفراء.قال صاحب المعجب: وهو كتاب مليح جداً انخرم أيام الفتن بالأندلس فنقصت منه أوراق لم توجد بعد، وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب - أعني الجواس - حتى رتب له من يخرجه أمامه كل ليلة ( ص20: المعجب ). ولعل هذه الكتب مما يساق فيه القصص الموضوع على غرض من أغراض السياسة والأدب ؛ ويقول صاحب المعجب: إن كتاب الهجفجف وضعه على نحو كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، فيما أسفا على كتب أصبحت أسماؤها تحتاج إلى تفسير. . .وقد ذكر الفتح بن خاقان في المطمح في ترجمة الوزير حسان ابن مالك بن أبي عبيدة أنه دخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتاباً سماه: ربية وعقيل، وأتى به منتسخاً مصوراً في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى ( ص314 ج 2 ) فهذا يفيد أن هذه الكتب جميعها على مثال كليلة ودمنة المشهور. وكان للمنصور مجلس في كل السبوع يجتمع فيه أهل العلم والمناظرة بحضرته ما كان مقيماً بقرطبة، لأنه كان مواصلاً لغزو الروم مفرطاً في ذلك لا يشغله عنه شيء، حتى إنه بما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولاً فأولاً ؛ وقد غزا في أيام ملكه التي دامت إلى سنة 393 نيفاً وخمسين غزوة. ورأس الشعراء في أيامه عبادة بن ماء السماء المتوفى سنة 422 وقيل سنة 419، وهو أول من أتقن الموشحات بالأندلس حتى كأنها لم تسمع إلا منه، وللرمادي في ذلك يد أيضاً. ومن مشاهيرهم الرمادي وابن دراج والقسطلي ومحمد بن مسعود الغساني البجالي ( ص238 ج 2: نفح الطيب ) وكان يكتب له هو ومحمد بن إسماعيل. . . . . . . . . . . . . .وله لطائف في الشعر فكان يخاطب المنصور بلسان النبات الذي يوافق أسماء عقائله ومحاظيه، كاسم بهار ونرجس وغيرهما، والوزير محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد ابن نهور، وغيرهم.وكان المنصور معروفاً بالمحاماة عن أهل الشعر والأدب حتى لا يتنقصهم في مجلسه أحد إلا رد عليه وسفهه ؛ وقد وقع بعضهم في الرمادي عنده فكلمه كلاماً كان يغوص دونه في الأرض لو وجد لشدة ما حل به منه ؛ غير أنه لما كان المنصور غزاءاً موالياً للجهاد، فقد كان غبار حروبه يثور بين العلماء تشدداً في الدين، حتى فشا في العامة اتهام كل من يشتغل بالفلسفة أو يعرف بمذهب من مذاهبها حتى في الشعراء أنفسهم، وكان قليل من ذلك في زمن الحكم وأبيه، فاتهموا ابن هانئ في إشبيلية، وأساءوا المقالة فيه حتى انفصل عنها، ولما وفد الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجالي على المنصور، اتهم كذلك برهق في دينه، فسجنه المنصور في المطبق زمناً.وقد بقيت الفلسفة مضطهدة في الأندلس بعد ذلك من عامتها، حتى ظهرت في بر العدوة - كما سيجيء - وفشا الأدب في زمن المنصور حتى صار حلية وزينة النشأة الأندلسية، مثل ذلك يكون مبدأ عصر عظيم، وقيل إن المخانيث بقرطبة يومئذٍ كانوا يشتغلون به، فكان منهم فتيان أخذوا بنصيب وافر منه، ومن هؤلاء غلام للمنصور اسمه فاتن توفي سنة 402، قالوا: كان لا نظير له في علم كلام العرب ( ص90 ج 2: نفح الطيب ). وسار الأدب في وجهته غير مبال بقيام الملوك وسقوطهم ؛ لأنه لا يقوم بهم ولا يسقط معهم إلا في أوائل نشأته، إذ يحوطونه ويكفلون نموه ؛ وإلى أن انفرطت دولة بني أمية وانتثر سلك الخلافة في المغرب كان الأمراء لا ينفكون يتعاهدونه ؛ فكان الناصر علي حمود من البربر - وهو الذي ملك ملك قرطبة بعد الأربعمائة وقيل سنة 408 - على عجمته وبعده من فضائل اللسان، يصغي إلى الأمداح ويثيب عليها، مظهراً في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي ؛ ومن مشاهير الذين امتدحوه ابن الخياط القرطبي، وعبادة بن ماء السماء ( ص225 ج 1: نفح الطيب ).ولما ولي المستظهر سنة 414 ( من الخلفاء الدولة الأموية الثانية ) عكف على الأدب، وكان شاعراً مصنعاً بديع الشعر، فاشتغل عن تدبير المملكة باالمباحثة مع أبي عامر ابن شهيد الشاعر الكبير ؛ وأبي محمد بن حزم العالم الشهير ؛ وعبد الوهاب ابن حزم الغزل المترف ؛ فكانوا يتباحثون في الآداب ويتجاذبون أهداب الشعر ؛ حتى أحقد بذلك مشايخ الوزراء والكبراء ؛ فأثاروا عليه العامة وهم يومئذٍ أجهل ما يكون ؛ فقتلوه لأدبه وشعره ؛ وهذا وحده دليل على أن العامة لا يكرهون الفلسفة ولا يضطهدون القائمين عليها لذاتها ؛ ولكنهم مع كل ريح ؛ وأتباع كل ناعق ؛ وكما تابعوا في إحراق كتب الفلسفة، تابعوا كذلك في إحراق كتب المذهب المالكي في المغرب - كما سنشير إليه فيما يأتي -.

القرن الخامس وملوك الطوائف

بعد أن انقطعت خلافة بني أمية ولم يبق من عقبهم من يصلح للملك، استبد بالأندلس أفراد غلب كل واحد منهم على ما يليه، وهم المسمون بملوك الطوائف، فضبطوا نواحيها، وجعلوها عواصم الحضارة، وتنافسوا في أبهة الملك وفخامة الشأن، فكان منهم بنو ذي النون ملوك طليطلة، وبنو هود ملوك طرطوشة وسرقسطة وغيرهما، وملوك بني الأفطس أصحاب بطليوس وجهاتها، وبنو صمادح أصحاب المرية، والفتيان العامرية ؛ مجاهد ومنذر وخيران ملوك دانية ( ص139 ج 2: نفح الطيب ) وما منهم إلا أديب أو عالم، فنفقت بهم سوق الأدب، وصار الأديب أينما دار استند إلى ركن وتوجه إلى قبلة، حتى صارت الأندلس كعبة، لهذه العادة، لا للعبادة ؛ لا جرم كان هذا العهد حافلاً بالشعراء والأدباء والقائمين على أنواع العلوم من كل من أغلت قيمته المنافسة، وقد وجدوا الزمن رخاء والعصر حضارة والنفوس متهيئة، فلم يبق لهم وراء ذلك مقترح لقريحة، ثم إن أولئك الملوك لم يخوضوا في أول أمرهم الفتن، ولم تعصف بهم ريح السياسة، فانصرفوا جهدهم إلى استجماع لذة الملك، وأخذوا بأحلام المباهاة التي يهذي بها مرضى الترف اللين وضعفاء العصب السياسي، إلا قليلاً منهم، فصار المدح لغذاء أرواحهم كالملح لطعام أجسامهم ؛ وثبتت العادة بذلك، حتى إن يوسف بن تاشفين لما دخل الأندلس توسط له المعتمد بن عباد عند الشعراء ليمدحوا حتى لا يصغر شأنه مع أنه دخل في نجدة لهم على الإفرنج وكان على يده النصر المبين. وتبع ذلك من فنون الآداب ما يخلق لهم اللذة في كل صورة ويبدلها في كل خلقة، حتى يتداووا بهذه الجدة من سأم القديم وضجر التكرار، فكانت لهم المجالس العجيبة، والأوصاف البارعة، والفنون المستظرفة من صور التشبيهات، إلا أن ذلك جميعه قد كان أعود على الأدب بالفائدة وأرد عليه بالمنفعة، فنبغ في أيامهم من لو خلا الأدب الأندلسي إلا منهم لكانوا زينته ورواءه، وقد كاد يكون بهم القرن الخامس تاريخاً على حدة. كان من أعظم مباهاة ملوك الطوائف أن فلاناً العال2م عند فلان الملك، وفلاناً الشاعر مختص بفلان الملك ( ص139 ج 2: نفح الطيب ) ؛ وقد بذل مجاهد العامري ملك دانية لأبي غالب اللغوي ألف دينار ومركوباً وكساء على أن يضع اسمه في صدر كتاب ألفه فأبى ذلك أبو غالب وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري ؟ فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وأضعف له العطاء.وكان ملوك بني هود: المقتدر بن هود، وهو آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة، وكان يباهي بالفقيه الأديب العالم الشاعر أبي الوليد الباجي وانحياشه إلى سلطانه ؛ ومن ملوك بني الأفسط: المظفر، وكان أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصة من النحو واللغة والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ ؛ وقد انتخب مما جمع من ذلك كتابه المشهور بالمظفري في خمسين جزءاً على نحو كتاب الاختيارات للروحي وعيون الأخبار لابن قتيبة ( ص49: المعجب ).توفي سنة 460، وكان أديب ملوك عصره ؛ أما ملوك بني عباد فقد كانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدوراً في بلاغتي النظم وانثر، مشاركين في فنون العلم ؛ وكانت دولتهم العبادية بالمغرب كالدولة العباسية بالمشرق، وكان المعتمد منهم لا يستوزر وزيراً إلا أن يكون أديباً شاعراً حسن الأدوات ؛ وكان من شعراء أبيه المعتضد، أبو جعفر بن الأبار. . .وأبو الوليد وابنه الوزير ابن زيدون واليماني، وابن جاخ البطليوسي الذي يعد من أعاجيب الدنيا لأنه كان أمياً، وقد بلغ من حسن شعره أن ولاه المعتضد رياسة الشعراء ؛ إذ كانت له دار مخصوصة بهم وديوان تقيد فيه أسماؤهم، وقد جعل لهم يوماً يفرغ لهم فيه فلا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين.( ص468 ج 2: نفح الطيب ). فتأمل ما عسى أن يبلغ عدد قوم يفرد لأسمائهم ديوان وتخصيص بهم دار ؟ وكان المعتضد داهية يشبه أبا جعفر المنصور، وقد اتخذ خشباً في ساحة قصره جللها برؤوس الملوك والرؤساء عوضاً عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه ! ( ص59: المعجب ). وهذا الخبر ينقله كتبة الأوربيين إلى الشعر المحض فيقولون إنه كان يزرع الورد في جماجم أعدائه، ولابنه المعتمد شيء من مثل هذا، فقد اتخذ في بعض وقائعه. . . من جماجم أعدائه مئذنة ثوب عليها المؤذنون، ولم يجتمع من فحول الشعر وأمراء الكلام بباب أحد من ملوك الإسلام ما اجتمع بباب الرشيد والصاحب بن عباد والمعتمد هذا، فكان بباب الرشيد مثل أبي النواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري وأشجع السلمي ومسلم بن الوليد وأبي الشيص ومروان بن أبي حفصة ومحمد بن مناذر وغيرهم، وكان باب الصاحب بأصبهان وجرجان والري مثل أبي الحسين السلامي وأبي بكر الخوارزمي وأبي طالب المأمون وأبي الحسن البديهي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي وأبي محمد الخازن وأبي الحسن بن ابن عبد العزيز الجرجاني وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني وبديع الزمان والشاشي وكثيرين غيرهم ( ص32 ج 3: يتيمة الدهر ).وكان بحضرة المعتمد مثل ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار وعبد الجليل بن وهبون وأبي تمام غالب بن رباح الحجام وابن جامع الصباغ، وغيرهم، ولا أحدث بالمعتمد وأولاده وأمه العبادية، فكلهم شعراء، وكان يناظر المعتمد المتوكل ابن الأفطس، وكان في حضرة بطليوس كالمعتمتد بإشبيلية، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر والمتوكل أكتب ( ص583 ج 2: نفح الطيب ) وكان وزيره ووزير أبيه ابن عبدون الكاتب الشاعر الشهير، وهو الذي سير فيهم القصيدة الخالدة التي أولها:

الدهر يفجعُ بعد العين بالأثرِ

وذكر فيها مصارع الملوك إلى زمنهم، وتوفي سنة 520. وكذلك كان بالمرية يومئذ المعتصم بن صمادح، ومن شعرائه ابن الحداد شاعر الأندلس، وعمر بن الشهيد وأبو جعفر الخراز البطرني وأبو الوليد النحلي ومحمد بن عبادة الوشاح والأسعد بن بليطة والحكيم الفيلسوف أبو الفضل بن شرف القائل في دولته:

لم يبقَ للجورِ في أيامهم أثرُ

إلا الذي في عيونِ الغيدِ من حورِ

وقد قصر أمداحه عليه بعد أن مدح المتوكل بن المظفر وأقطعه المعتصم قرية بأحوازها لهذا البيت - وسنتكلم عن الشعراء الفلاسفة في موضع آخر. ومما امتاز به في القرن الخامس شيوع الأدب في النساء، حتى كانت مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري التي اشتهرت بإشبيلية بعد الأربعمائة تدارس النساء الأدب ( ص493 ج 2: نفح الطيب ). وامتاز أيضاً باختراع الزجل كما امتاز القرن الرابع باختراع التوشيح، والذي اخترع الزجل هو الوزير أبو بكر بن قزمان، وكان ممن اشتمل عليهم المتوكل بن المظفر. وفي آخر هذا القرن نكب ملوك الطوائف وانقرض ملكهم على يد يوسف بن تاشفين الملقب أمير المسلمين ولم يكن على شيء من الأدب العربي، ولذلك كان أكثر الشعراء في بر العدوة أيام نكبة ملوك الطوائف من الزعانفة وملحفي أهل الكدية، حتى إنه لما أخذ المعتمد إلى طنجة تعرض له أولئك الصعاليك وألحفوا في استجدائه، وكان هو أولى منهم بالكدية لولا أنه المعتمد الذي يقول في ذلك:

لولا الحياءُ وعزّةُ لخميةٌ

طيّ الحشا ساواهم في المطلبِ

ومن مشاهيرهم الحصري الأعمى، وكانت له عادة سيئة من قبح الكدية وإفراط الإلحاف ( ص90: المعجب ). ^

عصر الوزراء:

غير أن ملوك الطوائف قد تركوا له إرثاً من الأدب اتصل به بعضه بعد أن استوسق له الأمر، إذ خلفوا من الشعراء والكتاب كالوزراء بني القبطرنة من أهل بطليوس أبي بكر وأبي محمد وأبي الحسن، وذي الوزارتين أبي بكر محمد بن رحيم الشاعر، وأخيه الوزير أبي الحسين بن رحيم، والوزراء أبي بكر الطائي، وأبي الحسن جعفر بن الحاج، وأبي محمد بن القاسم، وأبي عامر بن أرقم، وأبي جعفر بن مسعدة، وأبي محمد بن، وأبي القاسم بن السقاط، وأبي عبد الله ابن أبي الخصال، وأبي الحسين بن سراج، وأبي القاسم بن الجد، وأبي محمد بن مالك، وعبد الله بن سماك، وعبد الحق بن عطية، وعبد الحسن بن أضحى، والكاتب أبي عبد الله اللوشي، وأبي الحسن بن زنباع، وأبي محمد بن سارة ويحيى بن تقي، وأبي الحسن غلام البكري، وأبي القاسم المتنبي، وأبي الحسن بن وأبي عبد الله محمد بن عائشة، وأبي عامر بن عقال، وعبد المعطي بن مجد، وغيرهم، وما منهم إلا علم في دولة القلم. وهذا القرن الخامس يصح أن يلقب بزمن الوزراء، لأنهم كثروا فيه كثرة لم تكن فيما قبله ولم تعهد فيها بعده، وإنما كانوا يستوزرون لأدبهم من الكتابة والشعر وبذلك عرفوا فكأن الوزارة كانت كالشعر منافسة، ثم كانوا يوزعون عليهم الخطط كالمظالم والأحكام والإنشاء وغيرها. وربما يتهادى الوزير الواحد ملوك عدة، ولذهاب هؤلاء الوزراء بجيد الشعر قل في زمنهم من عرف بالشعر وحده، لأنه لا يتميز به إلا من ميزته مواهبه وتخطت به جلالة الوزارة، وقد مر بك أسماء بعضهم، أما الوزراء ممن لم نذكرهم فمنهم أحمد بن عباس وزير زهير الصقلي ملك المرية، وكانت له عناية خاصة بجمع الكتب حتى بلغت دفاتره 400 ألف مجلد غير الدفاتر المخرومة، وأبو مروان ابن سراج جاحظ الأندلس، وأبو محمد بن عبد البر، وأحمد بن عبد الملك بن شهيد، وأبو مغيرة بن حزم، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وأبو المطرف بن الدباغ، وأبو حفص بن برد، وأبو عبد الله البكري، وأبو بكر بن عبد العزيز، وأبو عبد الملك بن عبد العزيز، وأبو جعفر البتي، وأبو جعفر بن سعدون، والحاجب أبو مروان عبد الملك بن رزين، ومحمد بن طاهر، وأبو عامر بن سنون، وأبو بكر بن القصيرة، وأبو الحسن بن اليسع، وأبو الفضل بن حداي، وذو الوزارتين أبو عيسى بن لبون، وأبو محمد بن سفيان، وأبو محمد بن القاسم، وأبو الحسن بن الحاج، وأبو الأصبع بن الأرقم، وابن الحضرمي، وأبو طالب بن غانم، وأبو بكر بن قزمان، وربما كان لكل واحد جمع من هؤلاء، كتاب وشعراء، يتجمل بهم موكب الوزارة، وينطق بهم لسان المجلس، فتأمل عظمة هذا العصر، وتدبر مقدار ما فيه مع ذلك من الأدب وفنونه. ونحن نستوفي هذه الكلمة بذكر من اشتهروا قبل من ذكرناهم من وزراء الأندلس، ومنهم حاجب الناصر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، ثم حاجب ابنه الحكم جعفر بن محمد المصحفي، وكان في زمنه وزمن أبيه من بيوت الوزراء آل أبي عبيدة وينتهي بيتهم في الوزارة إلى زمن الداخل، وآل شهيد، وآل فطيس، وفي زمن المنصور بن أبي عامر: محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وأبو عبيدة حسن بن مالك صاحب كتاب ( ربيعة وعقيل ) الذي سلفت الإشارة إليه.

القرن السادس وما بعده

بعد أن انقرض ملك الطوائف واستوسق أمرها لابن تاشفين بما أظهر من الكناية في العدو والدفاع عن المسلمين وحماية ثغورهم، بلف الجيوش إلى الجيوش، وصدم الخيل بالخيل، عد من يومئذ في جملة الملوك وسمي هو وأصحابه بالمرابطين.ولم يختلف عليه شيء من الأندلس، فانقطع إليه من أهل كل علم فحوله حتى ماجت بهم حضرته، ولم يجد بداً من أن يتبع سنن من قبله في تجميل الملك بهم، وبذلك اجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من عصور الأندلس، فكان من كتابه كاتب المعتمد علا الله الوزير أبو بكر بن القصير، وكان على طريقه القدماء، من إيثار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى السجع، إلا مت جاء من ذلك عفواً، وكتب له أيضاً الوزير عبد الحميد بن عبدون، وهو من أبلغ الكتاب قاطبة إلى غيرهما من الفحول الذين لم يجدوا لهم ركناً بالأندلس، وقد ذكرنا بعضهم، فإنه لم يشتهر بها بعد نكبة ملوك الطوائف ممن تفضل على أهل الأدب، عير الوزير أبي محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري، وكان شاعراً بليغاً - فإنه جرى على سنن عظماء الملوك في ذلك حتى لم ير بعده مثله، وتوفي سن 518 - وكان إبراهيم بن الأمير يوسف المذكور قد عقد في هذه الدرة سماء، ولما قام بالأمر علي بن يوسف بن تاشفين سنة 493 - وكان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين - اشتد إيثاره لأهل الفقه، فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وإذا ولى أحداً من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقع أمراً أو يبت حكومة في صغير من الأمور وكبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء ( ص 110: المعجب ) فبلغوا في أيامه ما لم يبلغوه في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلا من أتقن علم الفروع، أي فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في الكتاب والسنة، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم والكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح هذا العلم وكراهة السلف له وأنه بدعة في الدين، في أشباه لهذه الأقوال حتى استحكم في نفسه بغض الفلسفة وأهلها، فكان يكتب في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء من علم الكلام وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب الغزالي إلى المغرب أمر هذا الأمير بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد، من سفك الدم واستئصال المال، إلى من وجد عنده شيء منها، واشتد الأمر في ذلك، فهذه أعظم نكبات الفلسفة، وهذا هو سببها: مغالبة على الرزق وتهالك على السلطة، وإذا كانوا قد نسوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد هان بعد ذلك أن تحرق كتب الفلسفة وأن يمثل بها كل تمثيل، ولما دخل محمد بن تومر ت إلى مراكش، وهو أصل دولة الموحدين، أحضر بين يدي هذا الأمير وجمع له الفقهاء للمناظرة، فلم يكن فيهم من يعرف ما يقول، إلا رجلاً أندلسياً اسمه مالك بن وهيب، وكان متحققاً بأجزاء الفلسفة، وقد شارك في جميع العلوم، غير أنه لك يكن يظهر إلا ما ينفق في ذلك الزمان. وقد كان من وراء ذلك وتشعب هذه الفروع واستبحار هذا العلم أن الأمير يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن المتوف سنة 595 من أمراء الموحدين - لما نظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله ووجد في المسألة الواحدة أربعة أقوال وأكثر لا يعرف في أيها يكون الحق - حمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث وأراد محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، فأمر بإحراق كتبه بعد أن يجرد ما فيها من الحديث والقرآن، حتى لقد كان يؤتى منها بالأحمال فتوضع وتطلق فيها النار، وتقدم كذلك إلى الناس بترك الأشغال في علم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد بعد ذلك بالعقوبة الشديدة، وأمر من عنده من المحدثين باستخراج مجموع من مصنفات الحديث العشرة، كالصحيحين والترمذي والموطأ وغيرها، فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه، وجعل لمن حفظه الجعل السني من الكساء والمال، فحفظه الخواص والعوام ( ص 184: المعجب ) وكان ذلك في سنة 584. غير أن الأمير علي بن يوسف لم ين منصرفاً عن الأدب، إذ لا عداوة بينه وبين الفقه، فكان يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وكان عنده من مشاهيرهم أبو القاسم المعروف بالأحدب، وأوب بكر محمد المعروف بابن القبطرنة، وأبو عبد الله محمد بن أبي الحضال وكان صاحب المكانة لديه، لمشاركته في علوم الفقه، وأخوه أبو مروان، وعبد المجيد بن عبدون وغيرهم. وكذل كان أخوه إبراهيم بن يوسف بن تاشفين قد عقد للأدب في ذلك الجو سماء أدار فلكها واستوى على عرشها فكان ملكها، وهو لذي ألف له الفتح بن خاقان كتابه الشهير الموسوم بقلائد العقيان، وكان يتودد في أوائل القرن السادس من خلفتهم ملوك الطوائف ومن تركهم أبوه من العلماء والشعراء والكتاب، وقد ذكر كثير منهم. ولم يزل أمر الأدب يتردد بين الأندلس وبر العدوة، حتى أعاد أمراء الموحدين مجده وعزه، وكان أو لم عبد المؤمن الذي ولي سنة 534، وكان من أشهر شعراء الأندلس في هذا الزمن: أن حمديس، وابن الزقاق، وابن خفاجة، ابن بقي، والفيلسوف أبو بكر بن الصائغ، وأبو الحسن جعفر بن الحاج الميورقي الشاعر الشهير، وابن الصفار القرطبي، وغيرهم.

الأدب ودولة الموحدين:

لما تفرق أهل الأندلس بعد الفتن التي كانت في أواخر القرن الخامس، أن منهم الكتاب الوزراء والشعراء الأدباء، فكان لا يستعمل في بر العدوة بلدي ما وجد أندلسي ( ص 124 ج 2: نفح الطبيب )، ومن أجل ذلك كان الأمراء يبعثون في طلبهم ويرغبون فيهم أشد الرغبة، إن لم يكن إحياء لملك الأدب، فزينة لأدب الملك، وقد مر شيء من ذلك في دولة المرابطين، ولم ولي عبد المؤمن - من الموحدين - جرى عل هذه السنة، فبعث يستدعي أهل لعلم من البلاد إلى السكون عنده والجوار بحضرته، وأجرى عليهم الأرزاق الواسعة، وأظهر التنويه بهم والإعظام لم إلا أنه لم يكن من شعرائه الخواص به من تلقى له أزمة القول، حتى إنه لما تغير على وزيره الكاتب البليغ أبي جعفر بن عطية، امتحن من عنده من الشعراء بهجوه، فلما أسمعوه لما قالوا أعرض عنهم وقال: ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه ! ( ص 101 ج 3: نفح الطيب ). ولما خرج بمجموعه يقصد الأندلس، وكانت قد اختلت أحوالها، نزول مدينة سبتة، فعبر البحر ونزل الجبل المعروف بجبل طارق، وسماه هو جبل الفتح - وفد عليه في هذا الموضع وجوه الأندلس للبيعة، فكان له هناك يوم عظيم، استدعي فيه الشعراء ابتداء ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك، إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم، وغلى بابه منهم طائفة أكثرهم مجيدون ( ص 137: المعجب ) فأنشده أبو عبد الله محمد بن حبوس من مدينة فاس، وهو الذي كان في دولة لمتونة مقدماً في الشعراء، والطليق المرواني، وابن سيد اللص، وهو نحوي كان يغير على أشعار الناس فنبز بهذا اللقب ( انظر بغية الوعاة: ص 150 )، والرصافي، وكان يومئذ حدثاً، وغيرهم، وقد ولى عبد المؤمن بعض أولاده على جهات الأندلس، ولى غرناطة وأعمالها ابنه عثمان، ويكنى أبا سعيد، وكان محباً للآداب مؤثراً لأهلها، يهتز للشعر ويثيب عليه، فاجتمع من له من وجوه الشعراء وأعيان الكتاب عصابة كانت البقية الباقية من ضوء ذلك النهار، ثم صارت الدولة إلى يوسف بن عبد المؤمن قي سنة 558 وكان في حياة أبيه قد ولي إشبيلية وأعمالها، نزل منها محل المعتمد ووقف على آثار دولته، فاختلط هناك بعلمائها، كالأستاذ اللغوي ابن ملكون وغيره، وجعل يأخذ عنهم، وصرف عنايته إلى كلام العرب وحفظ أيامهم ومآثرهم وأخبارهم في الجاهلية والإسلام، حتى صار أسرع الناس نفوذ خاطر في غوامض النحو ومسائل العربية، مع مشاركة في علم الأدب واتساع في حفظ اللغة، ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيراً من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، ثم تخطاه إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبه فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر، وما كان ينتهي إلي خبر كتاب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل العلوم النظرية، إلى أن صارت حاضرته بذلك أشبه بحاضرة خلافة علمية، وكان ممن صحبه من فلاسفة الإسلام، أبو بكر محمد بن طفيل، تلميذ أبي بكر بن الصائغ، ود كان أمير المؤمنين أبو يعقوب هذا شديد الشغف به والحب له حتى كان يقيم عنده في القصر أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر، وهو الذي تولى جلب العلماء إليه من جميع الأقطار، ونبه على أقدارهم، ولولاه ما كان ابن رشد أعظم فلاسفة الأندلس شيئاً مذكوراً، إذ هو الذي نوه به حتى عظم قدره، وتقدم إليه في تلخيص كتب أرسطو طاليس وتقريب أغراضها.وكان من كتاب أبي يعقوب أبو عبد الله محمد بن عياش بن عبد الملك، وهو الذي جرى على طريقة خاصة في الإنشاء توافق طريقة هؤلاء الأمراء وتصب ما في أنفسهم، ثم جرى الكتاب من أهل ذلك المصر بعده على أسلوبه وسلكوا مسلكه، لما رأوا من استحسانهم لتلك الطريقة ( ص 174: المعجب ) وكان أشهر شعرائه وشاعر المغرب في وقته أبو بكر بن مجير الأندلسي المتوفى سنة 587، ومن شعراء زمنه وزمن أبيه الرصافي، والكندي، وأبو جعفر بن سعيد، وابن الصابوني شاعر إشبيلية ووشاحها، وابن ادريس الرندي. وتوفي أبو يعقوب سنة 580 فقام بعده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان قد وزر لأبيه فبلغ غاية بعيدة من مطالعة الأمور وتقدير الرجال، فكأنما استوفى حظه من إكرام الفلسفة ووفاها قسطها في ذلك الزمن، لأنه ما كاد يتصل به الأمر حتى أراد أن يرجعها بدوية ساذجة يجري فيها على سنن الخلفاء الراشدين، فكان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس ثم أن يعقد للناس عامة لا يحجب عنه أحد، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم ! ( ص189: المعجب )، وقد سلف ما كان من نظره في كتب الرأي وتقدمه بإحراقها، وحكوا عنه أنه لما أزمع الخروج إلى بعض غزواته سنة 592 كتب إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فحصل على جماعة كبيرة منهم كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند لا هؤلاء ! مشيراً إلى العسكر، ولعله يحكي في ذلك قتيبة بن مسلم الفاتح الشهير، فإنه حين لقي الترك وكان في جيشه أبو عبد الله محمد بن واسع، جعل يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئاً على سية قوسه رافعاً إصبعه إلى السماء ينضنض بها، فقال قتيبة: لتلك الإصبع. . .أحب إلي من عشرة آلاف سيف.

نكبة الفيلسوف ابن رشد:

وفي أيام يعقوب هذا نالت أبا الوليد بن رشد فيلسوف الأندلس المحنة الشديدة التي أظلمت أسبابها على الأقلام ظلمة المداد، أقام لها الكتاب من كلامهم مناحة وألبسوها من صحفهم ثياب الحداد، وقد تكلم عنها الكتبة من العرب، كالذهبي والأنصاري وابن أبي أصيبعة وعبد الواحدبن علي التميمي صاحب كتاب المعجب، وكان يومئذ حياً، ثم تناولها كذلك المؤرخون من الإفرنج وبسطوا فيها العبارة، كالفيلسوف رينان وغيره، وهم إنما حاروا في أسبابها، لأن ابن رشد كان قاضي القضاة، وكان مقرباً عند يعقوب وأبيه حتى إن يعقوب جاوز به مجلس أخصائه وأدناه فوق ما يؤمل، ولكن أكثر أولئك لم يرجعوا في سبب هذه المحنة إلى سيرة يعقوب هذ1، لأنها لا تخرج عن أن تكون خلقاً من أخلاقه أو نزوة لبعض الأخلاق، إنما أعمال المرء بخيرها وشرها ميزان، وسيرته موضع اللسان منه، فهي تنطق بصواب التمييل بين الكفتين وتدل على حقيقة الترجيح، وقد أسلفنا من أمر هذه السيرة ما يتعين معه الحكم بأن الأمير يعقوب لا يبغض الفلسفة مستقيمة في كتبها، ولكن يبغضها معوجة في الألسنة، إذ تزيغ بها القلوب الخفيفة، وتضل العقول الطائشة، فلما تنأ رأس الفتنة، وأصبح الكلام على أن يشيع في العامة ويتقلب على الألسن ويختلط بالأهواء ووجوه التأويل، لم يكن بد من أن يحسم الأمير مادة الفتنة ويتقي الله في عامته، وهو الرجل الذي يحكمهم بالقلب المطمئن ويحوطهم بالنظرات المحككة، فلا يزال يتحرى العدل بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، ولذلك نستبعد نحن أن يكون سبب هذه المحنة غضباً من المنصور لما يناوئ الفيلسوف، و موجدة عليه لأنه ذكر في شرح كتاب الحيوان لأرسطاطاليس أنه رأى الزرافة عند ملك البربر - يعني المنصور - فغفل عما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ، ولا أن ابن رشد كان يؤثر أبا يحيى على أخيه يعقوب ولا ما أشبه ذلك ما لا يلتئم مع سيرة المنصور البتة، إذ هو لا يخرج من جلده ويترك فضلات روحه ويخلق رجلاً جديداً يحب التمليق والمداهنة ويؤثر الكبرياء ويفسح من صدره للغيبة والنميمة من أجل ابن رشد ولكي يشد عليه هذه الشدة، ولولا ذلك ما جمع فقهاء قرطبة وأخذهم بأن ينظروا في كتب الفيلسوف فإما التحريم وإما التحليل. وقد كان الأمير أتقى لله من أن يهين شيبة مسلم ويلعن رجلاً يقول ربي الله، أو يغمض في رأي من يشير بذلك، ولكنه أراد أن يبرأ من هذه التبعة، ويتحلل من عهدة ما عسى أن يكون ن خطأ، فجمع الفقهاء لتكون كلمتهم الحكم على العامة بالسكوت، فإنهم إذا خاضوا في ذلك وترك الأمر على كما هو، فشت لهم فاشية من الضلال ووجد الناس السبيل إلى خذلان هذا الأمير في غزواته، وهو الذي كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر و البدع ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها ! ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات ( ص188: المعجب ). هذا ما نراه من سبب المحنة، وهو الحق لا ريب فيه، إما تفصيلها فهو قار في موضعه من كتب من ذكرناهم في صدر هذا الفصل فلا يفوت من يلتمسه، وقد أبعد الفيلسوف بعد ذلك إلى بلدة قريبة من قرطبة يسكنها اليهود، وأبعد من يقول بقوله من يقول بقوله أو يتكلم في علوم الفلسفة، ومنهم القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي الذي يقال أنه خرج كلمة ( كلك البربر ) ونبه على أنها محرفة عن ( كلك البرين )، وأبو جعفر الذهبي، ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الشاعر، ثم كتبت الكتب عن المنصور إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة.فأشبع الناس من كتب الفلسفة هذه النار التي بقيت في الأندلس إلى زمن ديوان التفتيش تقول: هل من مزيد ؟ ولكن المنصور لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ولكنه مرض بها مرضه الذي مات فيه سنة 594، وتوفي بعده يعقوب صدر سنة 595. وكان في زمنه من أمراء الكتاب والشعر: أبو عبد الله بن وزير الشلبي المشهور من أمراء كتاب أشبيلية، وشعره يشبه شعر أبي فراس الحمداني، وكان أحد فرسان الأندلس، وابنه أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وأدباً وشعراً ( ص582 ج 2: نفح الطيب )، وقد كثر الشعر في زمنه وجم أهله ولكنه شعر اتباع ولا شعر ابتداع، إذ لم ينشأ في الأندلس بعد القرن الخامس من يعد في أوائل شعرائها، ومن كثرة الشعر يومئذ أن المنصور لما قفل من غزوة الأراكة الشهيرة سنة 591 ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنئونه فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين والثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده:

ما أنت من أمراء الناس كلهم

إلا كصاحب هذا الدين في الرسل

أحييت بالسيف دين الهاشمي كما

أحياه جدك عبد المؤمن بن علي

فأمر له بألفي دينار ولم يصل أحداً غيره، لكثرة الشعراء، وأخذاً بالمثل: ( منع الجميع إرضاء للجميع ) وقد انتهت رقاع القصائد إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه ( ص430 ج 2: نفح الطيب ) وهذا وحده ينهض دليلاً على أن الشعر يومئذ كان متجراً حقيقياً لا يتأدب به، فلا يخرج من روح الشاعر إلى قلبه حتى يبقى أدباً، ولكنه يخرج من لسانه إلى يده فيتقلب مادة.وقد ذلك قبل زمن عبد المؤمن، لأنه لما مدحه الحسيب أبو القاسم بن سعد الأوسي، وكان جده ملك وادي الحجارة، كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء، فلما وقف الأمير على ذلك ضرب على اسمه وقال: إنما يكتب اسم هذا في جملة الحساب ( أصحاب الحسب ) لا تدنسوه بهذه النسبة - فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه ( ص 253 ج 2: نفح الطيب ) إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون بينهم نفر قليل يقومون على الأدب. وممن ختم بهم القرن السادس من أولئك: محمد بن سفر الشاعر الكبير، وأبو بحر صفوان بن إدريس المتوفى سنة 598، وأبو جعفر الحميدي الحافظ أديب الأندلس المتوفى سنة 610، وغيرهم وإن كانوا قليلين.

بعد القرن السادس:

ابتدأت الفتن بعد هذا القرن تنقلب حتى ذل الأندلسيون سنة 741 حين اتحد ملوك الاسبانيول وملك البرتغال على العرب فهزموهم، ثم عادوا ثانية مع ملوك إيطاليا واستولوا على الجزيرة الخضراء سنة 743 ولم يبق في حوزة الأندلسيين إلا غرناطة، وكان بعد ذلك الزمن الذي انتهى بجلاء الأندلسيين في أوائل القرن العاشر، وفي كل هذه المدة كان ينبغ الشعراء والكتاب وأهل العلوم، إلا أن المشاهير منهم كانوا يعدون بالنسبة للى ضعف الزمن وسفاهة التصرف في إرث تلك الحضارة القديمة - على قاعدة المثل السائر: واحد بالمائة، ورجل يفي بالفئة، وكانوا مع ذلك في الأغلب إنما يقلدون المعاصرين من أدباء المشرق، كالصفدي وغيره، فيتبعونهم في الصناعات اللفظية ونحوها، وكان لأكثر هم رحلة إلى هؤلاء، يجتمعون بهم ويأخذون عنهم، كما فعل ابن جابر صاحب بديعة العميان، ورفيق الألبيري، وابن سعيد المغربي، وغيرهم، خصوصاً وقد كانت دولة الشعر قائمة يومئذ - في القرن السابع - بحضرة الناصر ملك الشام الذي ألبسها من عزة تاجاً، وأحلها من سمائه أبراجاً. وممن نبغ في القرن السابع أبو جعفر أحمد بن طلح الوزير الكاتب الذي كتب عن ولاة من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه السلطان بن هود وقتل سنة 631 وهن مبدع في نثره وشعره معاً، وكان ير نفسه فوق أبي تمام والبحتري والمتنبي، لأن أكثر مدارسة الشعر يومئذ كانت منصرفة إلى دواوين هؤلاء الثلاثة ما هي إلى اليوم، وكما تكون بعد اليوم إن شاء الله، وابن سهل الإسرائيلي الشاعر الشهري المتوفى سنة 649، وأبو المطرف بن عميرة الإمام الكاتب المتوفى سنة 658، وابن مرج الكحل الشاعر المتوفى سنة 634. وكان من نابغي القرن الثامن ابن الجياب المتوفى 749 وأبو يحيى بن هذيل المتوفى سنة 753 - وسيأتي ذكره في فلاسفة الشعراء، وأبو القاسم بن جزي المتوفى سنة 750 وكلهم من أشياخ لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر -، وهو أشهر أدباء هذا القرن شعراً وكتابة وتفنناً في العلوم، وقد وضع في شعراء هذا القرن كتاباً سماه الكتبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة، إلا أنه على ما أرجح عد فيه طبقات العلماء، إذ أن لا يخلو أحدهم من أن يكون على شيء من الأدب يحمله على شيء من الشعر، وكذلك فعل في الإحاطة، ثم كان شاعر ما بقي في الأندلس بعد لسان الدين، هو العربي العقيلي الشاعر الوشاح، واشتهر بعده أيضاً تلميذه ابن زمرك وزير الغني بالله. أما القرن التاسع وهو الذي مر على أطلال الأندلس، فكان في نصفه الأول الوزير الكاتب القاضي أبو يحيى بت عاصم الذي يقول عنه الأندلسيون أنه ابن الخطيب الثاني، وكان في نصفه الأخير قاضي الجماعة ابن الأزرق الشاعر المنشئ الفقيه المتوفى سنة 895، وصارت الأندلس بعد ذلك أرضاً صماء لا ترجع الصدى، واستعجم تاريخها فكأنما بدأ غريباً وعاد كما بدأ. ^

الشعر الأندلسي والتلحين

لقد يخطئ من يزعم أمن شعر الأندلسيين يغيب في سواد غيره من شعر الأقاليم الأخر كالعراق والشام والحجاز، بحيث يشتبه النسيج وتلتحم الديباجة، وذلك زعم من لا يعرف الشعر إلا بأوزانه ولا يميز غير ظاهره، لكن للشعر روحاً كروح الإنسان: تستوي مع الجنس كله في جملة الأخلاق وتختلف في مفرداتها، حتى لقد يجد اللبيب الحاذق من التفاوت بين أنواع الأشعار إذا هو استقرأها وتقصص تواريخ أصحابها ما يصح أن يخرج منه علم يسمى الفراسة الشعرية. ومن هذا القبيل يمتاز شعر فحول الأندلس بتجسيم الخيال النحيف وإحاطته بالمعاني المبتكرة التي توحي بها الحضارة، والتصرف في أرق فنون القول واختيار الألفاظ التي تكون مادة لتصوير الطبيعة وإبداعها في جمل وعبارات تخرج بطبيعتها كأنها التوقيع الموسيقي، بل هي تحمل على التلحين لما فيها من الرقة والرنين، لا يشاركهم في ذلك إلا من ينزع هذا المنزع ويتكلف هذا الأسلوب، لأن جزالة اللفظ في شعرهم إنما هي روعة موقعه وحلاوة ارتباطه بسائر أجزاء الجملة، وتلك فلسفة الجزالة، ومن أجل ذلك أحكموا التشبيه، وبرعوا في الوصف، لأنهما عنصران لازمان في تركيب هذه الفلسفة الروحية التي هي الشعر الطبيعي. وقد يشاركهم في كثير من ذلك شعراء الشام، ولكن رقة هؤلاء عربية مصفاة، وبذلك امتازوا على عرب الحجاز والعراق، فهم لا يهولون بالألفاظ المقعقعة، ولا يغالون في فخامة التركيب ولكن لا يستقبلك في شعرهم ما يستقبلك في شعر الأندلسيين من الشعور الروحي الذي لا سبيل إلى تصويره بالألفاظ، والذي تتبين معه أن الفرق بين الخيالين كأنه الفرق بين البلادين في التبعية والاستقلال.وليس يدل ما قدمناه على أن شعر فحول الأندلسيين ممتاز على إطلاقه وأن غيره لا يمتاز عليه، بل لأمر في ذلك الجمال: كل أنواعه حسن رائع، ولكن النحافة اللينة منه تستدعي منه الإعجاب رقة هي بعينها التي يجدها من يتدبر ذلك الشعر. وقد كان التلحين ضرورياً عند شعراء الأندلس، وما اخترعوا الموشحات إلا لأن أوزانها أحفل من أوزان الشعر، لذلك لا يقع التوشيح موقعه من السمع إلا إذا خرج ألحاناً، وقد كان منهم من ينظم ويغني ويلحن، وأكثر ما يكون ذلك في فلاسفتهم كأبي الصلت أمية بن عبد العزيز الإشبيلي المتوفى سنة 523، وكانوا يكنونه بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية ( ص 372 ج 1: نفح الطيب )، وكالفيلسوف أبي بكر بن باجة الغرناطي، وله عندهم الألحان المطربة التي عليها الاعتماد، وهو صاحب كتاب الموسيقى الذي يعدونه الكفاية من هذا العلم، وأعجب شيء في ذلك أن لأبي عبد الله بن الحداد الذي مر ذكره من شعراء المعتصم بن صمادح، مؤلفاً في العروض مزج فيها بين الموسيقى وآراء الخليل، وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على التوشيح ( ص293 ج 2: نفح الطيب ) فهذه كانت عنايتهم بالألحان، وهي التي جعلت شعرهم كأنه نفوس تقطر أو تسيل.

الشعراء والفلاسفة

ولم ينشأ من الفلاسفة شعراء مجيدون قدر من نشأ منهم بالأندلس وحدها، ولم يكن للفلسفة تأثير على شعرهم إلا من جهة معانيه الشعرية، فإنها صارت من سمو الخيال وقوة التصور وبراعة الابتكار بحيث تدل على عقل صاحبها دلالة المطابقة، وبذلك زادوا من محاسن الشعر، ولكن غيرهم يخلط بين معاني الفلسفة الفنية وبين معاني الشعر فيجيء به فلسفة ركيكة ساقطة، أو يجعل فلسفته التزام نوع واحد من مذاهب الشعر، كالحكمة مثلاً، وبذلك يبرد شعره ويثقل، ولا تكاد تجد في غير الأندلسيين من يتحقق بأجزاء الفلسفة فيكون فيلسوفاً، ويبرز في الشعر فيكون شاعراً، ويجمع في شعره الجمال الروحي في المعنيين فيكون شاعراً وفيلسوفاً معاً، ومن هؤلاء يحيي الغزال، وأبو الأفضل بن شرف - وكان عند المعتصم وابنه - وابن باجة، ومالك بن وهب، وكان عند يوسف بن تاشفين، وأبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة 593 المعدود من مفاخر الأندلسيين، ويلقبونه بشاعر الحكماء وحكيم الشعراء، وله كتاب ( شذور الذهب )، منظوم في الكيمياء، وقيل في بلاغته التي خضعت لها مادة الفن: إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب ( ص342 ج 2: نفح الطيب ) وأبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأشبيلي المتوفى سنة 549، وأبو بكر بن زهر المتوفى سنة 753، وكان أعجوبة في الاطلاع على علوم الأوائل، وأبو الحسين علي بن الحمارة الغرناطي، وقد برع خاصة في التلحين يقولون فيه إنه آخر فلاسفة الأندلس ( ص414 ج 2: نفح الطيب ). ولكل واحد من هؤلاء وأمثالهم النظم المرقص المطرب الذي يقلب النفس على جانبي الطرب من الفلسفة والشعر، ولو اتسع لنا المقام لجئنا بالكثير منه، ولكن الاختيار ليس من شرطنا في هذا الكتاب، وقد اختار الأندلسيون أنفسهم من شعر شعرائهم كتباً ممتعة، منها كتاب الحدائق لأبي عمر بن أحمد بن فرج، عارض به كتاب الزهرة لأبي بكر بن داود، إلا أن أبيا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائتي بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء، وأجاد فبلغ الغاية وأتى الكتاب فرداً في معناه، وهذه الأبواب جميعها إنما هي في الرقائق وأنواع الوصف، كما يدل على ذلك كتاب الزهرة الموجود قسم منه في المكتبة الخديوية بمصر. ولأبي الحسن علي بن محمد الكاتب من أهل القرن الخامس كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، ولم تسم همة أحد إلى جمع مثله من شعر قوم بعينهم وإنما يجمعون من كل شعر وقع إليهم، كما فعل أبو سعيد نصر بن يعقوب في كتابه ( روائع التوجيهات في التشبيهات ) ( ص 123 ج 3: يتيمة الدهر ) فقد ضمنه ما اتفق من ذلك لشعراء الشام والعراق والري وأصبهان وغيرها. وقد جاء كتاب ( الذخيرة ) لابن بسام كالذيل على كتاب الحدائق لابن فرج، وهي موجودة، وفي عصرها صنف الفتح بن خاقان كتاب القلائد، ذكر فيه المعاصرين من الوزراء والكتاب والشعراء، ثم ألف ( المطمح )، وهو نسختان: كبير وصغير، وهذا الأخير هو المطبوع في الأستانة ومصر، وقلما تنبه قارئوه إلى ذلك فلا يزالون يرمونه بالتقصير عن القلائد.ولم يلتزم الفتح في المطمح ما التزم في القلائد، بل أورد فيه مشاهير الأندلس من كل طبقة في كل عصر، ثم جاء أبو عمر بن الإمام من أهل المائة السادسة، فوضع كتابه سمط الجمان وسفط المرجان، ذكر فيه من أخلت القلائد والذخيرة بتوفي حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، ثم ذيل عليه أبو بحر بن صفوان البرسي بكتاب ( زاد المسافر )، ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السبعة، لابن هانئ اللخمي المتوفى سنة 733 كتاب ( الغرة الطالعة من شعراء المائة السابعة )، وقد مر بنا ذكر كتاب ابن خنيس، وكتاب شعراء البيرة الذي ألف للحكم المستنصر، وكتاب الكتبية الكامنة في أهل المائة الثامنة للسان الدين بن الخطيب، وقد رأينا في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي في ترجمة ابن خنيس القرطبي المتوفى سنة 343، أنه ألف كتاباً من شعراء الأندلس - إلى عهده - بلغ فيه الغاية ( ص67 )، هذا إلى كتب أخرى لم تقيد بالتراجم ولا بالاختيار، وإنما استوعبت فنوناً كثيرة مما يحاضر به من الأدب والتاريخ ككتاب ( المسهب في فضائل المغرب )، ألفه ستة أشخاص في 115 سنة، آخرها سنة 645، وكتاب ( فلك الأدب ) لابن سعيد، من شعراء القرن السابع، وكان رخالة إلى المشرق، وهو صاحب كتاب ( عنوان المرقصات ) المطبوع في مصر، وقد ألف يحيى الخدج المرسي، وقد أدرك المائة السابعة، تاب الأغاني الأندلسية، على منزع كتاب أغاني أبي الفرج الأصفهاني، فلا بد أن يكون قد ألم فيه بتراجم طائفة كبيرة من مشهوري أدبائهم، ولمحمد بن عاصم النحوي، من علماء القرن الرابع، كتاب في طبقات الكتاب في الأندلس، ولو بقيا هذه الكاب جميعها لأمكن استخراج تاريخ واسع للأدب الأندلسي يشرق على الدنيا بذلك النور الذي أسدلت عليه حجب الغيب وترك مكانه في التاريخ فراغاً مظلماً. والأندلسيون يختارون ن شعرائهم من يقابلون بهم طبقة بشار وحبيب والمتنبي، أي الطبقة العالية من شعر لشام والعراق، ويعدون من هؤلاء الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وأحمد بن عبد الملك بن مروان، وابن دراج القسطلي، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي ( ص 135 ج 2: نفح الطيب ) فهذه هي الطبقة الثانية عندهم، والطبقة الأولى يقابلون بها جريراً والفرزدق والأخطل ومن معهم، ويعدون منها أبا الأجرب جعونة بن الصمة، ويحيى الغزال وغيرهما، والطبقة الثالثة يقابلون بها سائر المولدين ممن لم يبلغ مبلغ أولئك في الاشتهار وبعد الصيت، وقد ذكرنا أسماء الكثيرين من فحولهم.

أدبيات الأندلس

سبقت لنا كلمات خفيفة عن الأدب النسائي في الأندلس، وعددنا أسماء بعض جواري عبد الرحمن الأوسط.وستعد الآن المشهورات من سائر أولئك الأدبيات، فأولاهن وأولاهن بالتقديم، لبنى كاتبة الخليفة الحكم المستنصر بالله - أي ناسخة - كانت تكتب الخط الجيد، نحوية شاعرة عروضية بصيرة بالحساب مشاركة في العلم لم يكن في مصرهم أنبل منها، وتوفيت سنة 374، وقد عدها السيوطي في طبقات اللغويين والنحاة، وكانت تعاصرها حسانة التميمية بنت أبي الحسن الشاعر، والشاعرة الغسانية، وحفصة بنت حمدون، واشتهرت بعدهن عائشة القرطبية المتوفاة سنة 400، لم يكن في زمتنها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرف لها من حاجة، ثم اشتهرت في آخر القرن الخامس مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري الشاعرة المشهورة، وهي التي كانت تعلم النساء الأدب، وقد كثر. . .الأديبات في هذه المائة فكان فيها أم العلاء بنت يوسف الحجارية، والعروضية مولاة أبي المطرف بن غلبون اللغوي، وقد أخذت عن مولاها النحو واللغة وفاقته في ذل وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وشرحهما ( ص430 ج 2: نفح الطيب ).ويؤخذ عنها الأدب، وتوفيت سنة 450، ولادة الأديبة الشهيرة المتوفاة سنة 484، ومهجة القرطبية صاحبتها وتلميذتها، ونزهون الغرناطية البارعة، وحمدونة بنت زياد لمؤدب التي بلقبونها بخنساء المغرب لقوة شعرها وسمو إبداعها، ولها شعر مطرب ( ص491 ج 2: نفح الطيب ).والعبادية والدة المعتمد، واعتماد حظيته، وبثينة بنته، وأم الكرام بنا المعتصم بن صمادح، وغاية المنى جاريته، وغيرهن، ثم اشتهر في أوائل القرن السادس الأديبة الشلبية، وأسماء العامرية، وحفصة الركونية وهي أديبة الأندلس في هذه المائة. وانقاع النساء عن آداب اللغة في القرن السادس على ما نرجح يكفي وحده دليلاً على أنهن يشتهرن بذلك ويظهرن به حيث يكون الزمن ترفاً نعمة، ولأنهن بعض الترف والنعمة، فمتى خشنت الأيام واضطرب حبل الفتن كان الأدب أول ما ينصرف عن تلك الخدور، كما أن أول ما يجف من أنواع الشجر الزهر !

علوم الأندلسيين

ليس من الممكن أن يقلب العلم لواحد على أنواع متغايرة إلا ما يكون متسعاً بطبيعته لمسابقة الخواطر واستنان القرائح، وهذا شأن أكثر العلوم قبل أن تقرر قواعدها وتمهد طرقها، إذ ليس العلم بخصوصها إلا نوعاً من التاريخ يضبط أعمال القرائح ويرتب نتائجها، فإذا بلغ أن يكون في حكم المفروغ منه لبعض الاعتبارات، كمفردات اللغة مثلاً متى ذهب أهلها المأخوذة عنهم، فذل هو العلم الذي لا فضل فيه لأحد إلا بإتقانه وحسن القيام عليه والاستنباط منه إذا قبل الاشتقاق والتفريغ، لكن من أنواع العلوم ما يتصل بأجزاء الطبيعة، فهو أبداً مادة الاكتشاف، وقد يكون هذا الاتصال عاماً كالشعر ونحوه مما لا يقيد بموضوع محدود، وقد يكون خاصاً كعلم النبات مثلاً، وهذه لأنواع التي هي يتفاضل فيها الأقوام وتمتاز القرائح والأفهام، فالعلم منها أشبه بالتاريخ السنوي لأمة لا تزال باقية ممدوداً لها في أجل العمران والحضارة. وقد برز الأندلسيون في جميع الأنواع التي تناولوها وأحسنوا القيام عليها واضطلعوا بها، غير أن أكثر تلك العلوم إنما وقع إليهم تاماً أو هو في حكم الذي تم، لأن العراقيين سبقوهم إلى الاشتغال به، كعلوم اللغة والفلسفة بأنواعها، فلم يتركوا لهم إلا فضل التحقيق وما كانت تساعد عليه أحوال تلك الأزمة من الاكتشافات وما اقتضته طبيعة أرضهم من الاختراعات الهندسية.وكأن هذا الشعب كان من فطرته وحكم الطبيعة له أن يكون متفضلاً، فعوضه التاريخ من الفضل على المشرق فضله على أوروبا، وعلى ذلك لا يكون بحثنا في علوم الأندلسيين علمياً، إذ هم لم يبتدئوها ولم يتمموها، ولكنه تاريخي يبسط حقيقة التاريخ لا حقيقة العلم ذاته.ولقد يصح أن يكون للأندلس بحث فني يذهب رأسه في تاريخ الفنون والصناعات عامة - وسنلم بشيء منه في موضع آخر من هذا الكتاب. اشتغل الأندلسيون بعلوم الفلسفة جميعها المعروفة في التمدن العربي، هو علم النجوم والأفلاك، والمقادير - الهندسة - والرياضيات، وآثار الطبيعة، والطب، والموسيقى والمنطق، والفلسفة الإلهية، والسياسات المنزلية والمدنية، وبعلوم اللغة والأدب، من النحو والتصريف والتاريخ والرواية والمحاضرة، بسائر العلوم الدينية، سنقسم الكلام في ذلك إلى قسمين: العلوم الفلسفية، والأدبية:

العلوم الفلسفية:

سبق لنا فيما أسلفناه من هذا البحث كلام متفرق عن التنجيم وبعض من عرفوا به وعناية الملوك بعلوم الفلسفة وذكر الفلاسفة والشعراء، فلا نعيد شيئاً من ذلك هنا، وإنما نستوفي ما يتم به هذا الموضع، تفادياً من الملل والسآمة. نقل صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد المغربي، أن كل العلوم لها حظ عند الأندلسيين واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظاً عظيماً عند خواصهم ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتعال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري ( ص 102 ج 1: نفح الطيب ). قلنا: وهذا هو السبب في أن أولية الفلسفة تكاد تكن مجهولة في الأندلس لا يعرف منها إلا القليل، وقد ذكر صاحب نفح الطيب في موضع آخر أن أول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم، أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة - توفي في أواخر القرن الثالث - لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالماً بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث - زمن المزني - ( ص 232 ج 2: نفح الطيب ). وقال في ترجمته يحيى الغزال الشاعر المتوفى سنة 250: إنه حكيم المغرب وشاعرها وعرافها، لحق إعصار خمسة من الخلفاء ( ص 441 ج 1: نفح الطيب ).وفي موضع آخر أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى، وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخرة ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً. . .وصنع قي بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود ( ص 231 ج 2: نفح الطيب ) وكان عباس هذا زمن الأمير محمد المتوفى سنة 273. غير أن أولئك على ما نرجح لم يشتغلوا بالفلسفة الإلهية ولم ينتحلوا مذهباً من المذاهب اليونانية، ولعل أول من عرف بذلك في الأندلس محمد بن عبد الله بن مسرة الباطني من أهل قرطبة ( 269 - 319 ) فإنه أكثر من النظر في فلسفة انبدقليس الذي يعده العرب أحد حكماء اليونان الخمسة الذين هم أساطين الحكمة ( ص12: القفطي ). وشاع مذهب ابن مسرة بعده بالأندلس واشتهر به محمد بن أحمد الخولاني المعروف بابن الإمام، توفي سنة 380، وهو أديب بليغ، والظاهر أنه كان يلاحي يه ويعمل على نشره، حتى حمل ذلك أبا بكر الزبيدي واحد عصره في النحو المتوفى سنة 379 علا وضع كتاب في الرد عليه ( ص34: بغية الوعاة ). وذكر ابن القطفي في ترجمة ابن يحيى ابن إسحاق الطبيب الأندلسي، أنى أباه إسحاق كان طبيباً صانعاً بيده مشهوراً في أيام الأمير عبد الله، وكان يحيى هذ1 بصيراً ذكياً قي العلاج صانعاً بيده، واستوزره عبد الرحمن الناصر وولاه الولاية الجلية بعد إسلامه، ونال عنده حظوة، ألف في الطب كناشاً في خمسة أسفار ذهب فيه مذهب الروم بحكم أن هذا النوع لم يكن استقر بالأندلس ولا اشتهر شهرته الآن - أي في القرن السابع - ( ص 236: القفطي ) فإذا كان ذلك شأن الطب في أوائل القرن الرابع وما هو بموضع الظنة ولا بالذي يستغنى عنه، فغيره من أنواع الفلسفة أولى بأن لا يكون مستقراً ولا مشتهراً. وقبل هذين الطبيبين رحل من المشرق إلى الأندلس يونس الحراني الطبيب في أيام الأمير محمد، واشتهر هناك، ثم انقلب ولداه أحمد وعمر الأندلسيان إلى المشرق وأخذا عن ثابت بن سنان أمثاله، وابن وصيف الكحال ( ص 259: القفطي ). ولكن الأندلس كانت مشهورة في زمن حكم المستنصر، أي في أواخر القرن الرابع، بالرياضيات، حتى كان يتقاطر إليها طالبوا هذا العلم من أوربا، وفي ذلك العهد نبغ مسلمة بن أحمد المجريطي المتوفى سنة 398 وهو إمام الرياضيين بتلك البلاد، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب وشغف بتفهيم كتاب المجسطي، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي ونقل تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، وضع أوساط الكواكب لأول تاريخه الهجرة وزاد فيه جداول حسنة ( ص 214: القفطي ) وقد تخرج عليه أجلة من علماء هذا الشأن، وأشهرهم أصبغ بن السمح البارع في النجوم والهندسة، وأبو القاسم ابن الصفار أستاذ الرياضيات في قرطبة، وأوب الحسن الزهراوي، وكان لحكم نفسه منجم مختص به، وهو ابن زيد الأسقف القرطبي، وألف في ذلك كتاب تفضيل الأزمان ومصالح الأبدان ( ص 138 ج 2: نفح الطيب ). ومن أشهر أئمة الفلك بالأندلس إبراهيم بن يحيى النفاش المعروف بولد الزرقيال.وقال ابن القفطي: إنه أبصر أهل زمانه بأرصاد الكواكب وهيئة الأفلاك واستنباط الآلات النجومية، وله صحيفة الزرقيال المشهورة في أيدي أهل هذا الفرع التي جمعت من علم الحركات الفلكية كل بديع مع اختصارها، ولما وردت على علماء هذا الشأن بأرض1 المشرق حاور لها وعجزوا عن فهمها إلا بعد التوقيف، وله أرصاد قد رصدها ونقلت عنه. واشتهرت علوم الحكمة بعد زمن الحكم، وكان من أشهر الأطباء في زمنه محمد بن عبدون العذري القرطبي الذي اتصل به وبابنه المؤيد، وهو من علماء العدد والهندسة، ولك يكن بقرطبة من يلحقه في صناعة الطب ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامها لغوامضها ( ص 437 ج 1: نفح الطيب ) وكثر نبوغ لأندلسيين في القرن الخامس، وفي هذا القرن نبغ الكرماني القرطبي المتوفى سنة 458 وكان فرداً في الهندسة والعدد، وهو الذي أدخل رسائل إخوان الصفا إلا تنلك البلاد، ولم يعلم 2 أن أحداً أدخلها الأندلس قبله ( ص 163: القفطي ) وكان لها شأن مهم في تنويع الفلسفة الأندلسية. وكمل كان القرن الخامس أشهر عصور الأدب في الأندلس، كان القرن السادس أشهر عصور الفلسفة فيها، ظهر قيه الحكيم أبو بكر بن الصائغ الذي كان يحدث عن نفسه أنه يحسن اثني عشر علماً أيسرها النحو الذي هو أشهر علوم الأندلسيين، وابن طفيل، وابن رشد، وأبو العلاء بن زهر فيلسوف عصره وحكيمه المتوفى سنة 535 وأمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، وقد مر ذكره، وأب بكر بن زهر الطبيب المتوفى سنة 595، وقد كاد هذا الرجل يكون تاريخ القرن السادس كله، لأنه ولد سنة 507، وهو مع طبه اللغوي الأديب الذي امتاز بالموشحات الطائرة بين المغرب والمشرق، وله أخت كانت هي وبنتها نابغتين في الطب.وأبو الحكم المغربي المتبحر في الفلسفة والأدب، وقد مر ذكره في الشعراء الفلاسفة، وتوفي سنة 549، وإن الواحد من هؤلاء ليكفي أن يكون فحر أمة، فكيف بهم مجتمعين في قرن من الزمن ؟وقد لكل منهم تلامذة جلة، ولم تنجب الأندلس بعدهم من يضاهيهم إلا أفراد قليلين، كمحمد بن حسن المذحجي، وابن عياش الزهراوي ومطرف الإشبيلي في القرن السابع. على أن من الأندلسيين أفراداً آخرين اشتهروا بفنون أخرى كالنبات والفلاحة وخواص العقاقير والسموم وعلم الحيوان وغيرها فضلاً عمن نبغوا من أصحاب المنطق والموسيقى، ومن كانوا هناك من أئمة الفنون ومهرة الصناعات، لم نر أن نصلهم بهذ1 الفصل، إذ استقصاء ذلك كله مما يقتضي كتاباً برأسه، وهو فرع إذا أن مهماً في بسط تاريخ الحضارة فليس كذلك في تاريخ الأدب.

مقاومة الفلسفة العربية الطبيعية في أوروبا وانتشارها

وهنا موضع هذه الكلمة، لأن الأوربيين لم يعرفا الفلسفة العربية إلا من طريق الأندلس أولاً، وسنأتي على أمر النقل والترجمة إليهم في فصل آخر في هذا البحث. أول ما دخل إلى أوروبا من الفلسفة العربية كتب ابن سينا وبعض كتب الفارابي والكندي ثم دخلت كتب الغزالي وابن رشد، وكانت فلسفة أوروبا يومئذ بعض تعاليم لاهوتية مستخرجة من كتب مختلفة لأصحاب المذاهب اللاتينية، فلما دخلت إليها فلسفة العرب في القرن الثاني عشر للميلاد وما بعده لم تلبث أن انتشرت في المدارس والمجتمعات وأقبل عليها الناس، فرأى المجمع الاكليريكي الذي عقد في باريس سنة 1209م أنها ستذهب بالتقاليد الدينية المعروفة التي لا قرار لها على مذاهب العلم الطبيعي فحكم على المشتغلين بها يومئذ من الأوروبيين وهم أموري ودفيدوي دينان وتلامذتها، وفي سنة 1231م حرم البابا غريغوريوس التاسع كل من يشتغل بفلسفة العرب. كانوا يرمون بذلك إلى محو هذه الفلسفة ولكنهم لفتوا إليها الغافلين ونبهوا إلى هذه الشكوك من يسمونهم أهل اليقين، فاضطر علماء اللاهوت بعد ذلك إلى درسها، ليتخذوا من الداء دواء وليضربوا العلم في أرق مقاتله، فقام منهم غيليوم دوفرن وحمل على فسلفة ابن سينا ثم خفف من حملته قليلاً وانعطف برفق طنه قاتلاً إلى فلسفة ابن رشد، وقد كان يثني عليه بعض الثناء، وبعده قام اللاهوتي البير الكبير، وهو من المعجبين بابن سينا والمزدرين لابن رشد، وله ردود كثيرة على الفلسفة العربية، ثم قام بعدهما ألد ألئك الأعداء، وهو القديس توما الشهير أعظم حكام الكنيسة الغربية وأكبر فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة.ولكن كل ألئك لكم يقووا علة نقض الفلسفة العربية، فإنهم إنما كانوا يروون بالألسنة على القلوب، والحجج اللسانية قد تحرج القلب في مبادئه التي تصبو إليها ولكنها لا تصرفه عن هذه المبادئ ما دامت قوتها لفظية، ومن أجل ذلك حاول هؤلاء ريمون مارتيني أن يضرب اليقين بالشك ويدخل إلى تلك القلوب من بعض جوانبها، فجعل ينشر كتب الغزالي للرد على فلسفة ابن سينا وابن رشد، ثم تتابع جيل دي ليسين وبرنار دي تريليا وهرفه نديليك ودانت الشاعر الإيطالي المشهور صاحب رواية ( الجحيم ) وجيل دي روم، وهو الذي بلغ في ذلك قريباً من القديس توما، وجاء بعدهم الأرغن الأخرق ريمون لول لذي صرف عمره خصوصاً من سنة 1310 إلى سنة 1312 في التجوال بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوى ونابولي وبيزه، محرضاً الناس على ازدراء العرب ونبذ فلسفتهم، حتى إنه لما اجتمع مجمع فيينا سنة 1311م رفع إلى البابا اكليمنضس الخامس كتابة يقترح فيها إنشاء مجتمع يخول من السلطة ما يساعد إلى إسقاط الإسلام وإقامة كليات لدرس اللغة العربية وحرم المسيحيين الذين ينتصرن لفلسفة ابن رشد وطرح كتبه من المدارس الأوروبية !وفي هذا القرن الرابع كانت كتب ابن رشد قد انتشرت في أوروبا، خصوصاً في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى غطت عندهم على ابن سينا وأخملت من شهرته بعد أن كان هو المتميز في القرن الثالث عشر، ثم أصبحت الك الفلسفة في القرن الخامس عشر وهي روح العلم الطبيعي في أوروبا، وذلك بعد أن صارت من الدروس الحافلة في كلية بادو المشهورة بإيطاليا التي استتبعت حركة الفلسفة الأوربية يومئذ، وأول ناشري تعاليم ابن رشد فيها بطرس دانو الذي لم يجد ديوان التفتيش سبيلاً إلى عقابه إلا بخرق عظامه من بعده. . . وقد شرح أساتذة هذه الكلية فلسفة الحكيم القرطبي، ونبغ فيها منهم كثيرون أكسبوها الاحترام وعلو الرأي، ولا جرم أنهم بذلك قد رفعوا أنفسهم أيضاً. ولما أراد لويس الحادي عشر ملك فرنسا، إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473م، طلب من أساتذة المدارس تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها لأنه استثبت فائدة هذا الشرح وأيقن بصحته.

آخرة الفلسفة العربية:

ثم حدثت مسألة خلود النفس في أواخر القرن الخامس عشر وخاض فيها علماء إيطاليا، وكانوا يجدون في شرح ابن رشد لفلسفة أرسطو أن النفس خالدة بعد الموت، ولكن ( بومبوتا ) العالم المشهور أثبت من كتب ( اسكندر دفروريزياس ) الفيلسوف اليوناني الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد، أنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي في الأرض، فانشق العلماء وطار الجدال في هذه النازلة حتى انعقد مجمع لاتران في سنة 1512 وحرم كل من يقول أن النفس غير خالدة، وبعد هذا الانتصار للفلسفة العربية طبعت كتب ابن رشد وطارت إلى أيدي طلابها والمعجبين بها من كل جهة، غير أن ذلك كان مبدأ للرجوع إلى النص اليوناني في فلسفة أرسطو، ثم انتبه العلماء إلى فائدة ذلك، ففي أبريل من سنة 1497م صعد الأستاذ ( نقولا ليونيكوس توموس ) منبر التعليم في كلية بادو، وألق أول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية، وما كاد أمره يذيع حتى أخذوا ينهضون بذلك، ثم عادت بادو والبندقية وشمال إيطاليا لنص أرسطو، وعادت فلورنسا إلى نص أفلاطون، واستمر ذلك إلى أن ظهرت الفلسفة الطبيعية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، فأتت على الفلسفة العربية، حتى لم تجئ سنة 1631م حتى انقلبت تاريخاً يذكر بعد أن كانت علماً ينشر، وذلك بوفاة آخر القائمين عليها في أوروبا وهو ( قيصر كريمونيتي ) المتوفى قي تلك السنة. ^

العلوم الأدبية

رأس هذه العلوم عند الأندلسيين النحو والشعر، ولا بد في كليهما من الحظ لصالح في اللغة والرواية، وقال ابن سعيد المغربي، وقد نقل كلامه صاحب نفح الطيب: ( النحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى إنهم في هذا العصر ( القرن السابع ) فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكناً من علم النحو بحيث لا يخفى علي الدقائق فليس عندهم بمستحق التمييز ولا سالم من الازدراء. . .وعلم الأدب المنثور - من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات - أنيل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل. . .وإذا كان الشخص بالأندلس نحوياً أو شاعراً فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها ) ( ص 103 ج 1: نفح الطيب ). وقد سلف لنا كلام في أسباب براعتهم في الشعر، أما سبب ما ذكره ابن سعيد من حالهم في النحو وتميزهم به مع انحرافهم في اللغة العامة عن الأوضاع العربية، فهو على ما نرى أن أولئك القوم كانت لهم فطرة عجيبة في قوة الذاكرة والحفظ، ولو كانت الأندلس مكان العراق وفي جهة من البادية ما ضاع حرف من اللغة لحفلت الكتب وبفنون الأدب العربي، وذلك دأبهم قديماً وحديثاً، مما يرجح معه أن تلك الذاكرة أثر في جمال الطبيعة مع أنفسهم، ومن أجل ذلك قل أن تجد في علمائهم صاحب علم واحد أو علمين، بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والشعراء والكتاب والمؤرخين واللغويين والنحاة والأدباء، وقد يتميز في ذلك كله على اختلاف الفنون أو في أكثره، وقد ذكرنا بعضهم فيما سلف، وسنشير إلى آخرين.وإذا كان من مفاخر العراقيين أن الأصمعي يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، وهم يعدونه أذكى العرب وأجمعهم، فقد كان من الأندلسيين من المائة الثالثة سعيد ابن الفرج مولى بني أمية المعروف بالرشاشي يحفظ مثل هذا العدد للعرب خاصة، وكان يضرب به المثل في الفصاحة على كثرة ما يتقعر في كلامه ( ص 256: بغية الوعاة ) وأعجب من إنشاد حماد الراوية بين يدي الوليد ليلة كاملة ( وقد مر ذلك في بحث الرواية والرواة ) وما ذكروا من أن أبا المتوكل الهيثم الإشبيلي حافظ الأندلس في عصره، وكان في المائة السادسة، حضر ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم أن تختبروني أجبتكم، فقالوا له:بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق.فقال اختاروا أي قافية إن شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن ( أرق على أرق ومثلي يأرق ) وسماره قد نام بعضه وضج بعض وهو ما خرج عن قافية القاف ( ص 233 ج 2: نفح الطيب ). وكان من حفاظهم أبو الخطاب بن دحية المتوفى سنة 633.بلغ من حفظه للغة أن صار حوشيها مستعملاً عنده غالباً، ولا يحفظ الإنسان حوشي اللغة إلا وذلك زكاة محفوظ من مستعملها، ولأبي الخطاب هذه رسائل ومخاطبات كلها مغلقات ومقفلات، على أنه يرسلها عفو الساعة وفيض البديهة، ولما ارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، جمعوا له علماء الحديث فذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها، فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية ( ص 369 ج 1: نفح الطيب ). ولو شئنا أن نطيل في حفظ الأندلسيين لأتينا بالكثير من الأدباء واللغويين والنحاة، ولكنا نذكر من ذلك شيئاً مما نحن بسبيله ولا نظير له في غير الأندلس، وذلك عنايتهم بكتاب سيبويه في النحو البصري، وهو أحد الكتب الثلاثة التي يقال إنه لا يعرف كتاب ألف في علم العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلم الفن غيرها، وهي: كتاب سيبويه في علم النحو العربي، وكتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، وكتاب أرسطوطاليس في كتاب صناعة المنطق.( ص69: القفطي ).

كتاب سيبويه عندهم:

لا نعرف أول من أدخل هذا الكتاب الأندلس، وقد غرفت أول من أدخل كتاب الكسائي، وهو جودي بن عثمان العبسي الذي كان يؤدب أولاد الخلفاء بالعربية، وقد رحل إلى المشرق وأخذ عن الرياشي والفراء والكسائي وأدخل كتابه إلى الأندلس ( توفي سنة 198 )، ولكن أقدم من وقفنا عليه ممن حفظوا كتاب سيبويه، هو حمدون النحوي المتوفى بعد المائتين، ولعله أول كمن عرف به ثم كان من أشهر حفاظه في القرن الثالث الأفشين القرطبي المتوفى سنة 309، وقد أخذه بمصر عن أبي جعفر الدنيوري رواية، ولكن الهمم لم تنصرف إلى استظهاره إلا في القرن الخامس كأنهم جعلوا ذلك منافسة، وقد ذكروا أن عبد الملك بن سراج إمام أهل قرطبة المتوفى سنة 489 عكف عليه ثمانية عشر عاماً لا يعرف سواه ( ص 312: بغية الوعاة ) ومن ذلك العهد ابتدأوا يقررونه ويشرحونه ويملون عليه التعاليق، ومن شراحه أبو بكر الخشني الجاني المتوفى سنة 544، وكان الناس يرحلون إليه لتقدمه في الكتاب، وهو من مفاخر الأندلسيين ( ص 105: البغية )، ولابن الطرواة النحوي الذي سيأتي ذكره في علماء القرن السادس كتاب سماه المقدمات على سيبويه، وشرحه ابن خروف المتوفى سنة 609 وقد أملى إبراهيم بن عيسى المعروف بابن المناصف المتوفى سنة 627 على قول سيبويه هذا باب علم الكلم من العربية، وهو في بضعة أسطر - عشرين كراساً ( ص 184: البغية ) وكذلك كان لابن الحاج إملاء عليه، وكان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء، وابن عصفور توفي سنة 669، وكثر حفاظ هذا الكتاب في القرن السادس، فكان في غير من ذكرناهم: محمد بن عبد المنعم، يسرده بلفظه، وهو أحفظ أهل زمانه ؛ وجابر بن محمد الحضرمي الذي كان زعيم وقته بإقرائه والتقدم فيه ؛ وخلف بن يوسف الذي كان يحفظ مع هذا الكتاب كتباً أخرى كأدب الكاتب والمقتضب والكامل للمبرد وغيرها ؛ وأبو عامل بن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن الجد الذي قال فيه ابن ملكون: من قرأ كتاب سيبويه على ابن الجد فنا عليه أن لا يقرأه على سيبويه ؛ وفي هذا العصر كان أحمد بن عبد النور النحوي المتوفى سنة 702 من لا يقرأ الكتاب عليه فكانوا يقولون لا يعرف شيئاً ! ( ص142: البغية ) وزادوا على ذلك في القرن السابع حتى انتهت الرياسة إلى أبي الحسن الأشبيلي المعروف بابن الصائغ المتوفى سنة 680 وقد شرحه وكان له في مشكلاته عجائب.قال في بغية الوعاة: وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه فما أراه سبقه إلى ذلك أحد.وكان يعاصره إمام الأدب الأصبحي المتوفى سنة 776، وله شرح على هذا الكتاب ؛ ثم كان في القرن الثامن جماعة أشهرهم أبو حيان، - وسيأتي ذكره - وله تعاليق مهمة على هذا الكتاب وتجريد لأحكامه واختصار فيه للطلبة المبتدئين.

علماء العربية والأدب:

بقي أن نذكر أسماء المشاهير من علماء العربية بالأندلس من ذكرناهم وقد أبقينا لهذا الموضع أسماء الشعراء وأئمة الأدب، لأننا إنما نتفادى من الإطالة بسرد الطائفة الواحدة، ولا نعتمد إلا أن يكون وفاء البحث في جملة أجزائه لا في بعضها، وهي طريقتنا التي نجري عليها في هذا الكتاب: كان في القرن الثاني حمدون النحوي بعد المائتين - وقد سبق ذكره - وكان هو والمهدي متعاصرين ولهما زعامة النحو واللغة ؛ إلا أن المهدي امتاز باللغة وامتاز حمدون بالنحو. . .فكان فيه الغاية التي لا بعدها، وقد أخذ عن علماء ذلك العصر ابن وضاح الخشني ومطرف بن قيس. واشتهر في القرن الثالث الخشني القرطبي، وهو نحوي لغوي شاعر لقي بالمشرق السجستاني والرياشي والزيادي، وأدخل الأندلس كثيراً من اللغة والشعر الجاهلي، وتوفي سنة 286 عن ثمانين سنة. وكان يعاصره محمد بن عبد الله القرطبي وهو الذي أخذ عنه أهل الأندلس الأشعار المشروحة. ومحمد بن عبد السلام بن ثعلبة ؛ وقد أدخل الأندلس أيضاً كثيراً من كتب اللغة والشعر الجاهلي. وجابر بن غيث البلي النحوي الشاعر الأديب المتوفى سنة 299. ومحمد بت أصبغ المتوفى سنة 306 وهو مولى الوليد بن عبد الملك. وهشام بن الوليد النحوي العروضي الأديب، وهو مؤدب أولاد الناصر توفي سنة 317. ومحمد بن يحيى المعروف بالرياحي مؤدب المغيرة بن الناصر، وهو أمام في العربية والأدب، فقيه شاعر. وأحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم، حافظ للعربية والغريب، متقدم في النقد، شاعر منفرد، شرح أكثر دواوين العرب، توفي سنة 318. وقاسم بن أصبغ ( 247 - 340 ) وهو فرد في النحو والغريب والشعر، وكانت إليه الرحلة بالأندلس كما كانت بالمشرق يومئذ لأبي سعيد بن الأعرابي. ثم أبو عبد الله المعروف بابن خنيس، وكان كاتباً بليغاً عالماً باللغة والغريب والأخبار والتاريخ توفي سنة 343. ومحمد بن أصبغ المتفنن في العلوم من النحو واللغة والحساب والفرائض والشعر وغيرها، وتوفي سنة 344. وممن نبغ في القرن الرابع محمد بن أبان المتوفى سنة 354، وكان فرداً في اللغة والعربية والأخبار والتواريخ ؛ فكان مكيناً عند المستنصر. وابن القوطية القرطبي إمام اللغة والعربية في زمنه، توفي سنة 367. وأبو بكر القرطبي المعروف بابن العريف النحوي، قيل إنه صنع لولد المنصور ابن لأبي عامر مسألة فيها من العربية 27209 أوجه، وتوفي سنة 367. والحسين بن الوليد من مؤدبي أولاد المنصور أيضاً، وهو شاعر أستاذ في الأدب إمام في العربية. وأبو بكر الزبيدي الأشبيلي واحد عصره في النحو واللغة، وقد أدب ولد المستنصر، وتوفي سنة 379. وأحمد بن أبان بن سعيد صاحب شرطة قرطبة، الإمام في العربية واللغة وصنف كتاب السماء والعالم في اللغة، مائة مجلد، وقد رأينا هذا الاسم في كتب أرسطاطاليس التي ذكرها ابن القفطي، وقال: هو أربع مقالات في الطبيعة نقله ابن البطريق ( ص30 ) وتوفي ابن أبان سنة 382. ومحمد بن عاصم النحوي من كبار الأدباء، توفي سنة 382. وقد أوردنا فيما سبق أسماء أكثر علماء القرن الخامس، ولكنا نذكر منهم هنا محمد بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وهو من أحفظ أهل زمانه للنحو واللغة، لاسيما كتب أبي زيد والأصمعي وتمام بن غالب بقية شيوخ اللغة الضابطين لحروفها الحاذقين بقاييسها، وكان إماماً فيها ثقة في إيرادها توفي سنة 433. وابن سيده صاحب كتاب المخصص وغيره، وهو فرد في اللغة والنحو متوفر على علوم الحكمة، توفي سنة 459. وغانم بن الوليد المالقي المتوفى سنة 470، وكان أهل الأندلس يعدون أئمة الأدب في ذلك الوقت ثلاثة: أبو مروان بن سراج بقرطبة، والأعلم الشنتمري بإشبيلية، وغانم هذا بمالقة، لكن زاد غانم عليهما بالفقه والحديث والطب والكلام، أما أبو مروان فهو الشاعر النحوي الإمام في الأدب، وتوفي سنة 489، وكان الأعلم عالم اللغة والعربية والشعر، وقد توفي سنة 476. وممن ختمت بهم هذه المائة سراج بن عبد الملك بن سراج النحوي، كان يجتمع إليه أربعون وخمسون من مهرة النحاة، كابن أبي فرس وابن الأبرش، وكلهم إليه مفتقرون، لوقوفه على مواد النحو وأشعار العرب ولغاتها وأخبارها، وقد توفي سنة 508.

المائة السادسة:

ثم كان من مشاهير القرن السادس محمد بن عبد المنعم أبو عبد الله السبتي من صدور الحفاظ لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، آية تتلى ومثالاً يضرب، وقد امتاز عن سائرهم بأنه كان يعرب أبداً كلامه. وأبو محمد اللوشي البارع في الأدب والنحو واللغة والكتابة والشعر والخطابة، وقد أخذ أدباء عصرهم عن الثلاثة الذين مر ذكرهم، وتوفي سنة 518. وأبو محمد البطليوسي المتبحر في اللغات والآداب، وله يد في العلوم القديمة، وهو شارح أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتابه ( الاقتضاب ) مشهور، توفي سنة 531، وقد رأينا في بغية الوعاة للسيوطي في ترجمة أبي العباس بن بلال اللغوي المتوفى سنة 460 أن ابن خلصة النحوي نسب إليه شرح ( أدب الكاتب ) المسمى بالاقتضاب، وذكر أن ابن السيد البطليوسي أغار عليه وانتحله ( ص175 ) وهذا عجيب، والله أعلم بحقيقته. وجعفر بن محمد بن مكي، وكان عالماً باللغات والآداب، وذاكراً لهما، معتنياً بما قبله منهما، ضابطاً لذلك، وعني بهما العناية التامة، وجمع من ذلك كتباً كثيرة كان له بها اليد الطولى الباسطة عي علم اللسان. وأبو الحسن بن الطراوة، نحوي ماهر وأديب بارع، يقرض الشعر وينشئ الرسائل البليغة، وله آراء في النحو تفرد بها وخالف فيها جمهور النحاة، وعلى الجملة كان مبرزاً في علوم اللسان كلها، وتوفي سنة 528 عن سن عالية. ومحمد بن يوسف المعروف بابن الاشتراكوني، المتوفى سنة 538، كان لغوياً أديباً شاعراً معتمداً في الأدب فرداً في وقته، وهو صاحب المقامات اللزومية الشهيرة - وسيأتي ذكرها في موضعها - وقد اعتمد عليه أبو العباس بن مضاء في تفسير كامل المبرد لرسوخه في اللغة العربية. والوزير ابن أبي الخصال ( سنة 465 - 540 ) وكان على براعته في الفقه وصناعة الحديث والمعرفة برجاله والتقييد لغريبه، فرداً في اللغة والأدب والنسب والتاريخ، إماماً متفقاً عليه، متحاكماً إليه في الكتابة والشعر، لم يكن في عصره مثله، حتى قال بعضهم إنه كان آخر رجال الأندلس علماً وفهماً وذكاءً وتفنناً في العلوم. ومحمد بن أحمد أبو عامر الوزير الكاتب، كان لغوياً أديباً شاعراً عارفاً بالتاريخ والأخبار، وهو من المؤلفين في ذلك كله، وكان موجوداً بعد سنة 550. وأبو العباس الجراوي المالقي المتوفى سنة 561، وكان على بلاغته في الشعر والكتابة من كبار النحاة والأدباء بالأندلس، درس هذين الفنين كثيراً وأدب في آخر أيامه عبد المؤمن بمراكش. وأبو بكر بن قبلال الأديب اللغوي الكاتب الشاعر النحوي الطبيب توفي سنة 573. وأبو بكر الأشبيلي المعروف بالخدب أستاذ ابن خروف قريباً من سنة580، وكان من حذاق النحويين وأئمة المتأخرين، يرحل إليه في العربية واشتهر بكتاب سيبويه وطرره المدونة عليه.والخدب: الرجل الطويل. ومحمد بن جعفر المرسي الأديب الكاتب النحوي الذي كان إليه المرجع في إيضاح مبهم الكتب وفتح أفقالها، توفي سنة 587. وداود بن يزيد الغرناطي المتوفي سنة 573، كان يقرئ العربية واللغة والأدب وهو عالي المرتبة في ذلك رفيع الطبقة، قيل فيه إنه كان آخر النحاة بغرناطة. وعبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي، المتفنن في ضروب الآداب، واللغات، الحافظ لأيام العرب وفرسانها، الكاتب البارع الشارع البليغ، واشتهر بعمل المقامات خصوصاً ( اللزومية ) منها - وسيأتي ذكره في بحث الصناعات اللفظية - توفي سنة 591. وقاضي الجماعة أبو العباس الجياني القرطبي، كان من أصحاب الآراء في العربية وخالف فيها جمهور أهلها، وكان رحلة في الرواية وعقلاً في الدراية، عارفاً بالأصول والكلام والطب والحساب والهندسة، شاعر بارع كاتب بليغ، وتوفي سنة 592. وأحمد القرطبي المشهور بالوزغي، المبرز في العربية والأدب، شاعر رواية مكثر، وتوفي سنة 610. وأبو الحسن بن خروف، إمام العربية في زمنه، وهو أحد الذين ملئت كتب العربية بأسمائهم، وتوفي سنة 609، وهو على التحقيق خاتمة هذا العصر.

المائة السابعة:

كان أول هذه المائة، ن أبو بكر الأشبيلي المعروف بابن طلحة، وهو شاعر أديب إمام في العربية والكلام، توفي سنة 618. وأبو الهباس الشريشي صاحب الشروح الثلاثة على مقامات الحريري، وقد طبع منها الشرح الكبير، وهو أديب مبرز في العربية ذاكر للآداب، كاتب بليغ فاضل ثقة، توفي سنة 619. وأبو العباس الأشبيلي المعروف بابن الحاج، وكان متحققاً بالعربية حافظاً للغات مقدما في العروض، وقد أبرع في لسان العرب حتى لم يبق فيه من يفوقه أو يدانيه، وهو الذي كان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء ! كأنه يرى نفسه خلفا من سيبويه، وقد مات سنة647. وأبو يحيى بن رضوان الوادي آشي، وكان متضلعاً بالعربية والفقه والنسب، إماماً في ذلك، مشاركاً في علوم أخرى من الحساب والهيئة والهندسة وغيرها، وتوفي سنة657. وأبو علي الأشبيلي المعروف بالشلوبين - ويخطئ النحاة المتأخرون كثيراً في ضبط هذا اللقب - إذ يلفظونه بضم اللام - وقد ضبطه السيوطي وقال إن معناه ( بلغة الأندلس: الأبيض الأشقر ) وإلى أبي علي هذا انتهتإمامة العربية بالمشرق والمغرب، فكان آخر أئمة هذا الشأن، وكان مع ذلك نقاداً للشعر بصيراً بمعانيه، وقد أقرأ نحو ستين سنة، حتى لم يتأدب بالأندلس أحد في وقته إلا وأسند إليه مباشرة أو بواسطة، وتوفي سنة 645 وكان مولده سنة 562. وأبو المطرف المخزومي البلنسي وهو خزانة من خزائن العلوم، كان إماماً في الفقه عالماً بالمعقولات والنحو واللغة والأدب والطب، متبحراً في التاريخ والأخبار، بصيراً بالحديث، راوية مكثراً حجة، ناظماً ناثراً، يعدونه ثاني بديع الزمان في الكتابة، وتوفي سنة 659. وعبد الله بن أبي عامر الكاتب الشاعر الأديب النحوي الفقيه المشارك في العلوم، وقد توفي سنة666. وابن الدباغ الأشبيلي ؛ وهو على انفراده في ذلك العصر يحفظ مذهب مالك ؛ ىكان عالماً بالنحو واللغة وكاتباً شاعرا مؤرخاً، توفي سنة668. وأبو الحسن بن عصفور، وهو وإن كان لم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو إلا أنه كان فيه كوكب سمائه وحامل لوائه، ولا يزال اسمه خالداً في كتب هذا الفن، توفي سنة 669. وكن خاتمة أدباء هذا العصر حازم بن محمد القرطبي، شيخ البلاغة والأدب، وأوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض والبيان، لم يجمع أحد من علم اللسان ما جمع، والا أحكم من معاقد البيان ما أحكم، وكانت لديه يد في العقليات ؛ وذكروا أنه روى عن جماعة يقاربون ألفاً، وبين أديب وعالم وحكيم، وقد حوى جملة التاريخ في هذه المئة، لأنه ولد سنة 608 وتوفي سنة684.

نكت الأندلسيين:

وكان في هذه المائة الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياني المؤرخ الشاعر الأديب، ولم نقف على سنة وفاته.وقد عني أتم العناية بفرع لطيف من العلك هو أدب التاريخ ؛ فكان يحفظ نكت الأندلسيين قديماً وحديثاً إلى زمنه، ذاكراً لفكاهاتهم ؛ وهم أكثر الناس دعابة وأملحهم نادرة، خرجوا في ذلك صنائع إقليمهم فكأنهم أزهار طبيعتها الحساسة تقابل أزهار الطبيعة الساكنة.

المائة الثامنة:

وهي بقية مجد الأندلس، لأن القرن التاسع كان حشرجة ونزعاً، وهذه المائة شحيحة بالأئمة عقيمة بالأفراد، وقد أخذنا من فحولها ثلاثة غير من ذكرناهم من قبل في أدبائها، وهم: محمد بن علي هانئ اللخمي، كان أديباً إماما في العربية لا يشق له غبار في استحضار الحجج، وهو صاحب كتاب ( الغرة الطالعة غي شعراء المئة السابعة )، وتوفي سنة 733. وأثير الدين أبو حيان الأندلسي الغرناطي نحوي عصره، ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه، وكان الإمام المطلق في النحو والتصريف، خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض، وتوفي سنة745. ومحمد بن علي المعروف بابن الفخار كان سيبويه عصره، وعده لسان الدين في الإحاطة آخر الطبقة من أهل هذا الفن، وقال فيه: إنه متبحر الحفظ يتفجر بالعربية تفجر البحر، قد خالطت لحمه ودمه، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذ عنه حجة. . .وقل في الاندلس من لم يأخذ عنه من الطلبة وتوفي سنة 754.

كلمة في تراجم هذا البحث:

وبعد ؛ فإنا لم نورد هذه الأسماء لأنها أساء فقط ؛ إذ ليس كتابنا هذا من سجلات الإحصاء، وإنما أوردناها على أنها معاني ذلك التاريخ، يظهر منها سير الفنون والعلوم إلى كمالها، فإن قيمة العصر بمن يمتازون من أهله، وعلى حسب كثرتهم وقلتهم يكون وزن اعتباره ومنزلته من المقارنة بينه وبين سائر العصور، وإنما الدولة أمة، والأمة على مقدار الرؤوس التي تعمل لها، وهذه الرؤوس على مقدار العقول التي تضبطها، وتلك العقول على مقدار الأرواح التي تتميز بالاستئثار والزعامة في أصول الحضارة وفروعها، وما هذه الأرواح الكبيرة إلا أرواح النابغين. من أجل ذلك أسقطنا من هذه الترجمة التي سقناها في هذا البحث كثيرين ممن لم يتحققوا بالفنون، واقتصرنا على الأئمة والأقطاب، وما منهم إلا من تكتب ترجمته الأسطر الكثيرة على نحري الإيجاز ومعاناة الاختصار، هذا إذا لم تبسط تلك الترجمة بسطاً يتناول حالة النشأة العلمية وكهولتها في مكل مترجم، وذلك بدرس المذاهب والآراء، وإيراد الشواهد عليها من مواد العلوم المختلفة، وهو منزع بعيد الشقة يحتاج إلى مصابرة ومطاولة، ويخرج إلى أن يكون كتابا برأسه. ونحن إنما عنينا بما جئنا به في هذا البحث خاصة، لأن أكثر العلماء والأدباء أهملوا الأندلسيين وخلطوا مشاهيرهم بغيرهم، غير مميزين بين عصر وعصر، ولا مفرقين بين طبقة وطبقة ؛ واقتصروا مع ذلك على أفراد منهم لا تكافئ جملتهم حضارة تلك الأمة، ولا يستدل بها على شيء من ذلك المجد فأردنا أن نثير تلك الدفائن ؛ ونفتح من كنوز التاريخ تلك الخزائن ؛ وجملة من ذكرناهم تكشف أشعتهم عن ذلك النور الذي غطته ظلمات التاريخ من الجو العربي فألقت عليه سحابة من النسيان، وتركنه قطعة مظلمة كأنه من مهملات الزمان.

مصرع العريبة في الأندلس

من قواعد الاجتماع أن الأفراد يموتون ولكن الأمة تبقى، فكأنهم بموتهم يفسحون مكاناً للسمو الذي يكون مظهره تجدد الحوادث وتبدل العقول، ولكن ذلك شأن الأمة حين تكون أمة بالمعنى الاجتماعي أيضاً، فنكون بمنجاة من أسباب الانقراض، بعيدة عن عفونة التاريخ القديم وجراثيمه التي تهب بها الفتن والنكبات ؛ وما أصيبت أمة بها إلا اضطربت أحوالها الاجتماعية وعم أجزاءها الخلل والفساد، فلا تزال تتقلب حتى تصيب مصرع الخبب، وتعرف العقوبة من قبل أن تعرف الذنب !وكذلك شأن الأندلسيين: أخذتهم الفتن الأخيرة حنى كاد الفرد منهم يموت فيموت به جزء من الأمة، حتى صاروا في آخرة أمرهم نسلاً شاذاً وحثالة رديئة، فلفظتهم تلك الأرض كما يلفظ القيء، وذهبوا بعد ذلك كما يذهب كل شيء. ونحن نريد الآن أن نبين كيف صرعت العربية بعد أن صارعت طويلاً، فنأتي على تاريخها في تلك البلاد في الطفولة والكهولة، لأننا لم نذكر في كل ما سبق إلا ظاهراً من حياتها، وبقي تشريح باطنها لتعرف الأسباب والعلل في الحياة والموت: دخلت العربية الأندلس، وكانت أشبيلية يومئذ زاهرة بآداب اللغة اللاتينية التي كان يقوم عليها رجال الدين، حتى كانت أشبيلية يومئذ مركزاً علمياً ثابت الدعائم بعناية أسقفها القديس إيزدورس، فصدمتها العربية صدمة فزع لها أولئك الأساقفة ؛ فكانوا يعملون على تقوية مادتها والاحتفاظ بها، فصارت بغيرتهم كأنها من الدين، حتى أصبحت البيع والأديار مدارس تلك الآداب، ولاسيما طليطلة وقرطبة وأشبيلية ؛ فكانت تدرس فيها الآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. غير أن ذلك كله إنما كان عمل أفراد لا عمل أمة ؛ وقد غفل أولئك المتنطعون عن هذه الحقيقة، وتناسوا ما كانت تغلي به قلوب الشعب الإسباني من النقمة على حكومته والخروج عليها ؛ وقد كان اليهود يومئذٍ - وهم خزائن الذهب وأقطاب التجارة - في أشد الظمأ إلى بريق سيوف العرب، حيث كان الملك ورجال الدين الكاثوليكي يسومونهم سوء العذاب ويبلونهم بالعنت الشديد ؛ إذ خشنوا امتداد سلطانهم وشوكة أموالهم، خصوصاً بعد أن دبر الإسرائيليون مكيدة ظاهرهم عليها قبائل البربر واليهود من أهل أفريقية، فكادوا بها يضبطون زمام المملكة الإسبانية، وذلك فبل فتح طارق بسبع عشرة سنة ( 694 للميلاد ).غير أن أمرهم انكشف وانكشفت معه رقابهم للسيوف، حتى كادوا ينقرضون، لو لم يستخلصوا أرواح بقيتهم بسيوف العرب ؛ ولذلك مالأوهم واطمأنوا إليهم ونصبوا أنفسهم لحماية المدن التي يفتحها الغزاة ؛ وكذلك شأن العبيد في النقمة على الإسبانيين، حتى إن قرطبة سلمها للعرب راهب منهم، وقد غمسوا أيديهم في دماء وفتنٍ كثيرة، فكان كل ذلك مما حملهم على تلقف العربية وبثها في سواد الامة وتهيئتهم للاستعراب. ولما رأى المسيحيون الأحرار أناة العرب وتسامح الإسلام، وأن أعناقهم لا تحملها الأكتاف إلا بفضل هؤلاء القوم، دخل أكثرهم فيما دخل فيه العبيد واليهود استسلاما وإسلاماً، وحببت إليهم الأخلاق العربية حتى صار أشرافهم ممن أمسكوا عليهم دينهم يحجبون النساء ويقلدون المسلمين في الزي وكثير من العادات ؛ ثم اندفعوا في ذلك بعد أن صارت الدولة للعرب، فلم تمض على الفتح ثلاثون سنة حتى أصبح الناس يخطون الكتب اللاتينية بأحرف عربية، كما يفعل اليهود بكتبهم العبرية، وما انقضى عمر رجل واحد حتى ألجأتهم الحاجة إلى ترجمة التوراة وقوانين الكنيسة إلى العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها. وبعد أن ظهرت أبهة الملك في زمن الأمويين وسما فرع الحضارة العريبة في تلك البلاد ؛ تحول من طبيعتها، حتى كانت الغيرة يومئذٍ على الآداب اللاتينية أسخف ما يرمى به أهل السخف ؛ وقد نقل دوزي في كتابه ( تاريخ المسلمين في إسبانيا ) أن بعض رؤساء الدين المسيحي كان يضرم سخطاً على أدباء المسيحيين أنفسهم لأنهم بالغوا في تعصبهم للعربية حنى تناولوا الشعر والأدب العربي ونقض المدينة الإسلامية، قال: ( وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة، ومما يؤسف له أن نشء المسيحيين الذين نبغت قرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يتداولون الكتب العربية وآدابها فهم يتداولون الكتب العربية ويجمعونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها الخزائن الممتعة، وإذا حدثتهم بكتب دينهم وآداب لغتهم أعرضوا عنك ازوراراً وأنغضوا رؤوسهم استهزاء ؛ وهي أشد وأعظم من أن ينسى المسيحيون لغتهم وهي بقية الجنسية حتى لا تجد في الألف منهم واجداً يحسن أن يكتب كتاباً إلى صديق بأبسط عبارات اللغة اللاتينية ؟ ). وما جاء القرن الخامس حتى كان المجاورون للعرب من أهالي فرنسا وشمال إسبانيا ينكبون عن تناول الشعر اللاتيني ويكبون على التأديب بالشعر العربي، حتى صار فقراؤهم بعد ذلك وأهل الكدية منهم يمدحون بالقصائد والموشحات العربية على الأبواب ويستعطون بها في الطرق، فاعتبر كيف يكون وسط الأندلس إذا كانت هذه حال أقاصيها الأعجمية ؟ ومنذ سقطت طليطلة سنة 478 وكانت في يحيى بن ذي النون ودخلها ألفونس السادس الذي كانوا يلقبونه بملك الدينيين، أراد أن يستبقي ذماء الحياة العربية في روح مملكته، وساعدته الفتن والنكبات فقذفت إليه من مضطهدي الفلاسفة وغيرهم، وبهم نبغ رجاله، كالسيد كامبدور الذي كان يجيد المنطق العربي كأنه عريق فيه ؛ وكان يومئذ في طليطلة مدرسة عربية كان من أساتذتها محمد بن عيسى المقامي وأحمد بن عبد الرحمن الأنصاري وغيرهما، وبهذه المدرسة تماسكت العربية حتى أنشأ ريمون رئيس الأساقفة مدرسة التراجمة بطليطلة، وبها رجعت العربية إلى الحياة.

اليهود بالأندلس وترجمة كتب الفلسفة:

ليهود الأندلس شأن مهم في تاريخ الفلسفة لأنهم حفظوها لأوروبا - كما ستعرف - وقد كان منهم في القرن السدس موسى بن ميمون الإسرائيلي الحكيم، وهو رجل يتحقق بالفلسفة والرياضيات والهيئة والطب، ويسميه اليهود، موسى الثاني، لأنه من كبار أحبارهم ؛ وقد نزح عن الأندلس بأهله فراراً من الاضطهاد بعد أن أظهر فيها الإسلام زمناً، والتجأ إلى مصر، فاشتمل عليه القاضي الفاضل المتوفى سنة 590 ونظر إليه وقرر له رزقاً ؛ فتناول هذا الحكيم فلسفة ابن رشد وقابلها بلغة أرسطو اليونانية، ثم استخلص من مزيجهما فلسفة صنع بها الشريعة لقومه، ولذلك أنكرها عليه مقدمو اليهود، وأشار المقريزي إلى ذلك بأنه يعلم قومه الكفر والتعطيل. ولا محل هنا لبسط هذه الآراء، ولكننا نقول إن هذا الرجل هو أول من أذاع فلسفة ابن رشد بين اليهود بما بثه منها في كتبه.وأخذ عنه في قراءته، ولما بالغوا في اضطهاد اليهود التجأ أكثرهم إلى طليطلة وما وراءها، ومنهم تلامذة الفلاسفة، ومن بقي منهم كان يظهر الإسلام ويصلي في المساجد ويقرئ أولاده القرآن، وما كان ذلك كله لينفعهم، فأمر أبو يوسف المتوفى سنة 595 من ملوك الموحدين أن يتميزوا بلباس يختصون به.فظهروا فيه بأشنع صورة إذ كانوا يتخذون بدلاً من العمائم كلوتات كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم ( ص 203: المعجب )، وذلك لأن أبا يوسف كان يشك في إسلامهم، ولو صح عنده لتركهم.ثم تناسى أكثرهم العربية فشعروا بالحاجة إلى نقل كتب الفلسفة إلى لغتهم العبرانية، وقد أخذوا في ذلك، وأول من شرع منهم فيه أسرة تدعى أسرة طيبون، كان أصلها من الأندلس ثم هاجرت إلى لونل في فرنسا، فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طيبون وصموئيل نم طيبون بعض تلاخيص ابن رشد من فلسفة أرسطو، وهما أول من نقل فلسفة حكيم قرطبة إلى غير العربية. ووافق ذلك عهد الإمبراطور فردريك الثاني عاهل ألمانيا ؛ وكان يعرف العربية، تلقاها من بعض أهلها في صقلية، والعرب يومئذ منتشرون فيها وفي نابولي. وقد احتذى فردريك هذا مثال الإمبراطور شارلمان الذي كان معاصراً لهارون الرشيد في بث المعارف وإنشاء المدارس ومحبة العلم وحماية أهله فكانت حضرته غاصة بالمترجمين والعلماء الوافدين حتى من بغداد.وهو الذي عهد إلى اليهود في ترجمة الفلسفة العربية إلى العبرانية واللاتينية، وقد ألف له يهوذا بن سليمان الطليطلي في سنة 1247م كتاب طلب الحكمة واعتمد فيه على فلسفة ابن رشد، وأخرج له يعقوب بن أبي مريم حوالي سنة 1232م عدة كتب من تأليف حكيم قرطبة، وتقدم إلى ميخائيل سكوت بترجمة فلسفة أرسطو عن العرب، فنقلها عن ابن رشد، ولذلك اعتبروه أول من أدخل فلسفته إلى أوروبا، وكذلك فعل هرمان الألماني في عهد هذا الإمبراطور، إلا أنه على ما يقال، اعتمد في ترجمة كتبه على بعض عرب الأندلس ممن يعرفون مصطلحات تلك الفنون. ثم أخذ اليهود في إخراج هذه الكتب وغيرها إلى العبرانية واللاتينية، كما فعل كالوتيم في أوائل القرن الرابع عشر للميلاد، فقد ترجم كتباً لابن رشد إلى العبرانية، وترجم كتابه ( تهافت التهافت ) إلى اللاتينية سنة 1328م، وفي هذا القرن ظهر الفيلسوف اليهودي لاوي بن جرسون المعروف عند الإفرنج بلاون الإفريقي، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو، فأخرجها شرحاً وتلخيصاً ثم كان آخر فلاسفتهم في القرن الخامس عشر إلباس دل مديجو الذي كان أستاذاً في كلية بادو - التي أومأنا إليها في بعض ما سلف - وضعفت بعد ذلك فلسفة اليهود المستخرجة من فلسفة ابن رشد العربية، إذ قام أعداؤها في أوائل القرن السادس عشر يزيفونها، ومن أجل ذلك موسى المتيسنو كتاب ( تهافت الفلاسفة ) للغزالي سنة 1538م.

ترجمة الفلسفة العربية في أوروبا:

كان مبدأ ذلك في طليطلة في القرن الثاني عشر للميلاد، حين أنشأ دريموند رئيس الأساقفة مدرسة للترجمة، وهي المدرسة الأولى من نوعها، وذلك من سنة 1130 إلى 1150م، وقد جعل رئيس التراجمة فيها الأرشيدوق باكر دومينيك لتحقيق الألفاظ اللاتينية المترجم بها. وكان أشهر تراجمة اليهود في هذه المدرسة يوحنا الأشبيلي، فأخرجوا إلى اللاتينية كتباً كثيرة من مؤلفات ابن سينا، ثم نقلوا بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي ؛ وقبل هذه المدرسة كان بعض الأفراد قد نقلوا متباً من الرياضيات والطب والفلك، مثل قسطنطين الإفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريفولي وغيرهم. وفي القرن الثالث عشر للميلاد كان اليهود في الأندلس أقدر التراجمة وذلك في عهد ألفونس العاشر 1252م - 1284م خليفة القديس فرديناند الثالث، إذ كان هذا الألفونس من أوفر الملوك عقلاً، فأراد أن يصنع بأسبانيا مثل ما صنعه العرب، فأسس بأشبيلية مدرسة عربية لاتينية، وترك مدينة مرسية على ما كانت عليه من الرونق العربي، واستدعى إلى عاصمته العلماء والأدباء من العرب واليهود وغيرهم، وأسس بهم مدرسة طليطلة الثانية التي كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية فنون الحضارة العربية والعلم العبراني ؛ وظل اليهود يترجمون كتب الفلسفة والتاريخ والفلك العربية بما عليها من الشروح، وكان زان بن زاكب، ويهوذا هاكون والربان زاك، هم الذين نقلوا لألفونس جمهرة الكتب العربية. وقد نشأ من علماء المسلمين من يعلم بتلك الألسن المختلفة ؛ كمحمد بن أحمد القرطومي المرسي وكان من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب وغيرها، آية الله في المعرفة بالأندلس، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، وقد بنى له ألفونس في مرسية مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود.( ص409 ج 2: نفح الطيب ) ولم نذكره في الفلاسفة لأن هذا الموضع أليق به. وقا أنشأ من اليهود بالأندلس شعراء وأدباء، من أشهرهم نسيم الإسرائيلي، وابن سري، وابن الفخاري اليهودي ( ص305 ج 2: نفح الطيب ) وإلياس بن المدور الطبيب الرندي ( ص 305 ج 2 )، وإسماعيل اليهودي وابنته قسمونة ( ص305 ج 2 ) وغيرهم، وكانوا يكتبون، ولكن لم ينبغ منهم أحد في الكتابة على ما نعلم، إلا أن يكون ممن ذكرناهم، وما كانت براعتهم في الترجمة إلا من معرفتهم للسانين اللاتيني والعبراني، وهو أمر انصرف عنه المسلمون حتى لم نكد نقف على اسم واحد منهم غير القرموطي.

تنصر العربية

ليس يتم الغلب على أمة من الأمم بتسخير أفرادها واسترقاقهم، ولا بقلب حكومتها من جنس إلى جنس ؛ فإن الأشخاص لا يتغيرون وهم هم بما فيهم من الطبائع والأخلاق الوراثية، ولكن الغلب إنما يكون باندماج المغلوب في جنسيته الغالب أو مذهبه استدراجاً لجنسيته، ومن أجل ذلك تجهد الأمم الفاتحة والمستعمرة في نشر لغتها وآدابها، فإن لم يكن لها من ذلك ما يوازن آداب المغلوبين عملت على تحويل قلوبهم بالدين، وذلك ما فعله الإسبانيون في أواخر القرن السابع، حيث عملوا على تنصير المسلمين، ولكن بقيتهم يومئذ كانت إلى التماسك والشدة، لأن الإسلام والملك لم يزل في جانب من الأندلس وعلى أبوابها، فعمدوا إلى أخذهم بالإقناع والمجادلة، ووكلوا هذا الأمر إلى رهبانهم، فأكب هؤلاء على العربية، ووضع رامون مارتي أحد الرهبان الدومانيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة1230م، وفي أواخر القرن الثامن كان في سلامنكة مدرسة تضم خمساً وعشرين حلقة للدروس، منها واحدة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية ؛ أقاموها لتلك الغاية ؛ ولم ينجل المسلمون عن أرض إسبانيا في القرن الحادي عشر حتى كان في هذه المدرسة سبعون حلقة للدرس، وطارت شهرتها في أوروبا، وكانت شهرة عربية، لأنها بفضل علوم العرب استطاعت أن تقرر العلوم الطبيعية والطبية على القاعدة العلمية التي كان العرب أول من جرى عليها، وبينما كانت تلك العلوم في أوروبا لذلك العهد مبنية على التجارب البسيطة مستندة إلى أنواع من الشعوذة والحيل المضحكة.ثم تتابع إنشاء المدارس في القرن الثامن لتعليم الرهبان من الدومينيكيين والفرنسكيين في جهات من إسبانيا للغاية عينها، ولكن هذه اللغة العربية التي تشبه السحر أخذت أولئك الرهبان بآدابها حتى كانوا هم أنفسهم سبب حياتها والقائمين بالدعوة إليها إلى القرن الثاني عشر للهجرة. وفي أوائل القرن العاشر ( سنة 904 ) بعد أن سقط ما بقي من الملك الإسلامي في الأندلس ووهنت تلك الجامعة بين المسلمين، أخذ الإسبانيون يحملونهم على التنصر كرهاً، فمن خافهم عمدوه ومن خالفهم طردوه، ثم تكفل ديوان التفتيش بالمراقبة على عقائد المتنصرين وتطهير مسيحيتهم الحديثة. . .وبذلك بطلت حاجة الرهبان إلى الرهبان فسقطت الغاية الأولى الباعثة على تعلم العربية وبقيت العربية بلا غاية عند بعضهم إلا نفسها، وبذلك انصرف عنها الطلبة، حتى إن الكردينال اكسيمنس عندما أسس كلية ( الكالادي هنار سنة 1399 ) استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية، مع أنه احتذى في تأسيسها مثال مدرسة سالامنكة في القرن السادس عشر للميلاد، وهو فري لويس دي ليون شاعراً لاهوتياً وفيلسوفاً يحسن اللغة العبرانية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية كل الجهل.

ديوان التفتيش:

أنشئ هذا الديوان سنة 1481م بطلب الراهب توركماندا، للتفتيش بين الناس عن أهل العلم والفلسفة، فإن لم يعثروا على أحد منهم فالتفتيش بين الظنون والأوهام، لأنهم اتقوا صولة العلوم العربية على المذهب الكاثوليكي. وقد اتخذوا فيه من أنواع التعذيب والاتهام المريب ما ترك في الكتب من بعدهم صفحة من تاريخ جهنم. . .وليس من حق كتابنا تفضيل ولا إجمال لتلك الفظائع والمنكرات التي اقترفها رجال محكمة التفتيش وملوك الكثكلة لذلك العهد، مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث، ونالوا بها المسلمين واليهود والمستأمنين ؛ فذلك مما خلد لهم الخزي في تاريخ قومهم أنفسهم ؛ ولكنا نجتزئ بذكر ما نال العربية من أولئك المتنطعين، فإنهم بعد أن طردوا اليهود من الموت إلى الجوع والفقر سنة 1492 وأباحوا أموالهم، وطردوا المسلمين من الموت إلى الموت سنة 1502 ؛ إذ حرم عليهم أن يأخذوا في طريق تفضي إلى بلد إسلامي - قرر مجمع لاتران في هذه السنة ( 1502 ) أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد - وهم يريدون بهذه التسمية كل ما لديهم من علوم الفلسفة العربية - وطفق الدومينيكان يتخذون من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه صفة من صفات الزلفى والعبادة ؛ وبعد ذلك أحرق الكردينال إكسيملس في غرناطة ثمانية آلاف كتاب خطي، فتم ذلك في زهاء نصف قرن، وكأنما كانت حرارة تلك القلوب هي التي تحرق الكتب. . .ولولا المنقولات منها إلى العبرية واللاتينية لما بقي من أثر العلوم العربية مشيد ولا طلل. وبقيت بعد ذلك كتب عربية في خزانة دير الأسكوريال فأراد ديوان التفتيش أن يزيد بها شعلة من شعل نقمته، لولا أن تلطف الماركيز فيلادا فحال دون إحراقها، ولا يزال أكثرها باقياً إلى اليوم. وكان المنتصرون من المغاربة في ذلك العهد يكتبون العربية بأحرف إسبانية، وهم أذلاء محتقرون من أنفسهم ومن المسيحيين، فحظر عليهم فيليب الثاني سنة 1556 استعمال العربية، وأرادهم على أن ينزعوا من أسمائهم التراكيب العربية وان يقلدوا المسيحيين في زيهم حتى لا يعلم بهم إلا أنفسهم، ولبثوا يسومون المغاربة عذاب الهون حتى طردت آخر فئة منهم سنة 1017 ه وقد فصل ذلك المقري في نفح الطيب ص617 ج 2.

آخرة العربية:

وبعد ذلك زهاء قرن من الزمن صار فيه تعلم العربية مظنة الإلحاد ولم تبق مدرسة فريلنك لطغمة الفرنسيسكان في أشبيلية من أساليب تعلمها إلا أثراً وكثر أن يكون قليلاً، فكان حسب الطالب منها أن يحسن لفظ بعض الأسماء العربية حتى يخرج بذلك إلى أفريقيا داعية للنصرانية، وإن كان قد بقي من الإسبانيين من يشتغل من ذلك بشيء فهو يضفيه إلى الأعمال التي بينه وبين اله ولا يأخذ في ذلك إلا سراً. جاء عصر شارل الثالث ( 1759 - 1788 ) ويلقونه ملك الفلاسفة، فأراد أن يصل آخرة العربية بأولها ويعيد زمناً رآه مريضاً لم يمت، فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وبسطط لهم يده في البذل والعطاء، وتقدم إليهم في تعليم الإسبانيين لغتهم الدراسة، ولكن ما عسى أن تكون تسع وعشرون سنة في تغيير الأفكار وتبديل الألسنة ؟ ولذلك لم يكد شارل يمضي لسبيله حتى انقطع ذلك العمل، غير انه بث حياة وخصباً في تلك الأرض الميتة فلم يمض عمر كهل حتى كان في إسبانيا من يجيدون العربية، أمثال القصير وكامبومان والأب بلانكري وغيرهم من الأساتذة المعمدين، ثم انقطع حبل العربية إلى أن اتصل بالمدارس القديمة منتكثاً على عهد إيزابيلا الثانية، فكان على ضعفه ذلك سنة 1845، إذ شرعوا في إصلاح التعليم على يد المسيو جيل دي زارات، وبإخلاص هذا الرجل عادت العربية تدرس في الكليات درساً مقرراً. ثم تسلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام التعليم وتولت إصلاحه فزهت العربية وكثر طلبتها والمقبلون عليها، خصوصاً بعد أن فقدت إسبانيا مستعمراتها في أمريكا وآسيا وعلقت أمالها بمراكش في عصرنا هذا، فنبغ فيها المستشرقون واحتفظوا بما خلفه من كتب العرب، ولا يزال ذلك في مكتبة الإسكوريال، ومكتبة الأمة، ومكتبة المجمع العلمي التاريخي، غير المكاتب الخاصة التي جمعها أهل العلم منهم، وقد برز من متأخريهم أفراد مشهورون في فرع اللغة العربية، وامتاز بعضهم بالبراعة في قراءة الخطوط وتأريخها، ونبغوا كذلك في درس الحضارة الإسلامية والنظر في أصول الآداب الهربية، واعتنت فئة منهم بدرس اللغات العامية التي تفرعت من العربية الفصحى، وهم في حد التزايد إلى يومنا هذا، وقد صار كثير من البلاد الإسبانية كمجريط ( العاصمة ) وغرناطة وبرشلونة وبلسنة وغيرها زاهياً فيهم بهذه الآداب، مذكراً لهم بالمجد العربي القديم، وإنما يتذكر أولو الألباب !^

الباب العاشر

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي