تاريخ آداب العرب (الرافعي)/البلاغة النبوية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

البلاغة النبوية

البلاغة النبوية

فصل

هذه هي البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تصنع وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يتكلف لها وهي على السهولة بعيدة ممنوعة. ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله، محكمة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمة مفضولة.وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم. إن خرجت في الموعظة قلت أنين من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلت صورة بشرية من الروح في منزع يلين فينفر بالدموع ويشتد فينزو بالدماء، وإذا أراك القرآن أنه خطاب السماء للأرض أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء. وهي البلاغة النبوية، تعرف الحقيقة فيها كأنها فكر صريح من أفكار الخليقة، وتجيء بالمجاز الغريب فترى من غرابته أنه مجاز في حقيقة.وهي من البيان في إيجاز تتردد فيه عين البليغ فتعرفه مع إيجاز القرآن فرعين، فمن رآه غير قريب من ذلك الإعجاز فليعلم أنه لم يلحق به هذه العين.على أنه سواء في سهولة إطماعه، وفي صعوبة امتناعه، إن أخذ أبلغ الناس في ناحيته، لم يأخذ بناصيته، وإن أقدم على غير نظر فيه رجع مبصراً، وإن جرى في معارضته انتهى مقصراً.

فصاحته صلى الله عليه وسلم

سنقول في هذا الباب بما يحضرنا من جملة القول، لا نسترسل في الاتساع ولا نبسط كله، كما أننا لا نقف دون القصد، ولا ننكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابتنا، فإنا لو ذهبنا نستقصي في الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سبباً من الأسباب، أو يداخله جهة من الجهات، أو يتعلق به ضرباً من التعلق لذهبنا إلى سعة من القول، وإلى فنون مختلفة من التاريخ وفلسفته، تحفل ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكنا سنقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد وسعنا العذر بما اعتذرنا. أما فصاحته صلى الله عليه وسلم فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعاً مقدراً على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع، ومن كلمة غيرها أليق، ومعنى غيره أرد، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قل ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، ويحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به. بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا ينبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه، ولا تستزله الفجاءة وما يبده من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقاً يتصفح منه صاعداً أو منحدراً ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية كما سنعرف. وإن كان كلامه صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ: ( هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف.استعمل المبسوط في موضع البسيط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، ويسر بالتوفيق، وهذا كلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم ) أ ه. ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذا ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات وعلى اختلاف مواطنهم، كما بسطناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ. فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم. ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حياً بعد حي وقبيلاً بعد قبيل، حتى يفلي لغاتهم، ويتتبع مناطقهم، مستفرغاً في ذلك متوفراً عليه، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه علماً ليس بالظن، ويقيناً لا مساغ للشبهة فيه، إذ ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكانه مصداقه من أحوال العرب أنفسهم، فما عرف أن أحداً منهم تقصص اللغات وحفظ ما بينها من فروع الأوضاع واختلاف الصيغ وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم أو ينتحله فيهم، بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها، فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قد كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم، حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم، لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة. فهذه واحدة، وأما الثانية فقد كان صلى الله عليه وسلم في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفاً ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه، لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيء له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعة والذهن الحاد والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع. وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخص له أسبابها كالنبي صلى الله عليه وسلم فهو اصطنعه لوحيه، ونصبه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته، وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجمام الطبيعة وصفاء الحاسة وثقوب الذهن واجتماع النفس وقوة الفطرة ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض. ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها فإنما هذه سبيله: يأتي من ورائها وهي الأسباب إليه، وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم وتقلب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ( أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر ) وهو قول أرسله في العرب جميعاً، والفصاحة أكبر أمرهم والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم، ولا ردوه، ولا غضوا منه، ولا وجدوا إلى نقصه سبيلاً، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقاً، ولو كان فيهم أفصح لعارضوه به، ولأقاموا في وزنه، ثم لجعلوا من ذلك سبباً لنقض دعوته والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها وأشرف مذاهبها ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء، لا يستكره في بيانه معنى، ولا يند في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم ولا يشوبه تكلف ولا يشق عليه منزع، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما ليس منه، والتحيف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع، إلى أمثال أخرى لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصاً لا شوب فيه، وكأنما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه.ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرضوا، ولكان ذلك مأثوراً عنهم دائراً على ألسنتهم، مستفيضاً في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلس ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خلص لا يستجيبون إلا لأفصحهم لساناً، وأبينهم بياناً، وخاصة في أول النبوة وحدثان العهد بالرسالة فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته واطرد إلى غايته وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعاً وضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافياً بغيره كافياً من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم و ( كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ )

صفته صلى الله عليه وسلم

ليس في التاريخ العربي كله من جمعت صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثق إسنادها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل لا يعدل به شيء في حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوة الملكات، واستخراج الصفات النفسية التي حصل من مجموعها أسلوب الكلام على هيئته وجهته، وانفراد بما عسى أن يكون مفرداً به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركاً في، وعلى هذه الجهة نأتي بطرف من صفته صلى الله عليه وسلم. فعن الحسن بن علي ( رضي الله عنهما ) قال: سألت هند بن أبي هالة، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وصافاً وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به، فقال:( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطور من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين له نور يعلوه وحسبه من لم يتأمله اشم، كث اللحية أدعج، سهل الخدين ضليع الفم أشنب، مفلج الأسنان دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً متماسكاً سواء البطن والصدر وبعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد، موضوماً بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شئن الكفين والقدمين، سائل الأطراف سبط العصب خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال تقلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً ذريع المشية: إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام ). قلت صف لي منطقه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلم فضلاً لا فضول فيه ولا تقصير دمثاًليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم شيئاً، لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها إذا أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكة التبسم ويفتر عن مثل حب الغمام ).انتهى. ولقد أفاضوا في تحقيق أوصافه صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك ألفاظاً ومعاني ونقلوا الكثير الطيب من هذه الأوصاف الكريمة في كل باب من محاسن الأخلاق، مما لا يتسع هذا الموضع لبسطه، فتأمل أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسم منها أروع ما عسى أن تدل عليه دلائل الحكمة، وسمة الفضيلة، وشدة النفس وبعد الهمة، ونفاذ العزيمة، وإحكام خطة الرأي، وإحراز جانب الخلق الإنساني الكريم. وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها وتجمع الإنسانية بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه ملك من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلك من الأفلاك، وما خص بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكون ويعمه، ولا كان فرداً في أخلاقه إلا لتكون من أخلاقه روح الأمة. وإذا رجعت النظر في تلك الصفات الكريمة واعتبرتها بآثارها ومعانيها رأيت كيف يكون الأساس الذي تبنى عليه فراسة الكمال في نوع الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روح الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روح الإنسان في أعماله، أو أثر هذه الروح، أو بقية هذا الأثر، فإذا تأملتها متسقة وتمثيلها قائمة في جملة النفس، وأنعمت على تأمل صورها الكلامية التي تبعث الكلام وتزنه وتنظمه وتعطيه الأسلوب وتجمله بالرأي وتزينه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغ ما أنت واجده من الأساليب العصيبة في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعف، ولا تزايله الحكمة ولا تخذله الروية، ولا يباينه الصواب، بل يخرج رصيناً غير متهافت، متسقا غير متفاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يضبطه العقل، ولا يتوثب به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه بل تراه على استواء واحد في شدة وقوة واندماج وتوفيق. وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قلما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم، وقلما يكون أبلغ الناس في كل دهر إلا عصيباً على تفاوت في نوع المزاج وحالته، فإن من الأمزجة العصبي البحت، والمنحرف إلى مزاج آخر ولكل من النوعين حالة قائمة بالكلام، وصفة خاصة بالأسلوب. وبالجملة، فإن الندرة في الأساليب العصبية، أن تجد منها ما إذا أصبته موثق السرد متدامج الفقرة محبوك الألفاظ جيد النحت بالغ السبك، أن تجده مع ذلك رصيناً متثبتاً في نسق معانيه وألفاظه، لا يتزيد بهذه ولا يتكثر بتلك، ولا يخالطه من فنون الأقاويل ما يستطيع أن تنفيه، ولا يتولاه ما تتأتى إليه من وجه التخطئة، وان تجده بحيث يمتنع أن تقول فيه قولاً، أو تذهب فيه مذهباً، وبحيث تراه من كل جهة متسايراً لا يتصادم ومطرداً لا يتخلف. ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوباً يجتمع له مع تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواء في الحدة والرصانة، مبنياً من الفكرة بناء الجسم من اللحم، متوازناً في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مسحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار: وتراه في ظاهره وحقيقته كالنجم المتقد: يكون في نفسك نوراً وهو في نفسه نار. لسنا نعرف أسلوباً لحد البلغاء هذه صفته، على كثرة ما قرأنا وتدبرنا واستخرجنا، وعلى أنه لم يفتنا من أقوال الفصحاء قول مأثور، أو كلام مشهور إلا ما يمكن أن يجزئ بعضه من بعضه في هذه أدلالة، فإنا لم نقرأ كل ما كتب عبد الحميد، وابن المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرانا لهم ما كثيراً أو قليلاً، وبعض ذلك فيلاحكم سائره، لأن الأسلوب واحد والطريقة واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود، ولم نجد البتة في هذا الباب غير أسلوب أفصح العرب صلى الله عليه وسلم فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمينا لك آنفاً، بل تجده قصداً محكماً متسايراً يشد بعضه بعضاً وكأنه صورة روحية لشد خلق طبيعة، وأقواهم نفساً وأصوبهم رأياً، وأبلغهم معنى، وأبعدهم نظراً، وأكرمهم خلقاً، وهذا وشبهه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعث عليها الطبع الحديد والخلق الشديد، ويخرجها من كل أمر متكافئة متوازنة، بحيث يظهر أثر النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفس على حدة. .ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله، تعالى بقوله: ( وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) ؟وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين قال له: رضي الله عنه، لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدبك ( أي علمك ) ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وقوله مثل ذلك لعلي أيضاً، كما سيأتي في موضعه، ثم قوله: ( أنا أفصح العرب ) وما كان من هذا المعنى، لنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خص الله به نبيه، عليه الصلاة والسلام، إذ الاستحالة راجعة إلى الطبع والجبلة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمراً من أمره، وأني لأمرئ بذلك من العرب غير النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي أشرنا إليه آنفاً، إنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامع مجتمع، لا يذهب في الأعم الأغلب إلى الإطالة بل كالتمثال: يأتي مقدراً في مادته ومعانيه وأسلوبه الجمع بينها وربط الصورة بالمعنى كما سيأتي عليه بعد. وأما الآن نقول قول أديبنا الجاحظ، رحمة الله فإنه بعد أن وصف هذا الكلام السري بما نقلناه عنه في موضعه خشي أن يظن بعض الناس أنه أفرط على ذلك الوصف، وبالغ في الحمل عليه مما حمل، فقال: ولعل من لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره. ( وكلا، الذي حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل سعيه ). ( وَإِنّهُ لَقَسَمٌ لّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ).

أحكام منطقه صلى الله عليه وسلم

قد رأيت فيما مر من صفته عليه الصلاة والسلام انه ضليع الفم، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسب، ولقد كانت العرب تتمادح بسعة الفم وتذم بصغره، لن السعة أدل على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجهارة الأداء وإشباع ذلك في الجملة، ولأن طبيعة لغتهم ومخارج حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسن في النطق إلا به، ولا تبلغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعد مزيتها الظاهرة في أفصح أساليبها، إذ كانت الفصاحة راحة إلى حسن الملأمة بين الحروف باعتبارها أصواتها ومخارجها، حتى تستوي في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، كما بسطناه في كل موضع اقتضاه من هذا الكتاب. وذلك أمر لم يكن علم أولئك القوم به على الهاجس والظن، أو المقاربة والتقدير إنما هو أساس منطقهم، وعتاد لغتهم، فكانوا سواء بالمعرفة به وفي الحاجة إليه، من استوفاه منهم اتسقت له الفضيلة البينة، ومن قصر فيه أخمله تقصيره حتى كأنما انطوت حقيقته العربية في فمه، أو كأنما أكل نفسه. .ولهم في كل من البيان والصوت أخبار وأشعار لا حاجة بنا إلى تمثلها وقصها. وهذا الذي أومأنا إليه من أمرهم، هو السبب في أن كل من يتصافح في هذه العربية لا يعدو في جملة وسائله التي يستعين بها أن ينتحل سعة الشدق وتهدل الشفة، ويبالغ في استعمال جميع فمه على كل وجه، يلتمس بذلك تحقيق الحروف، وجهارة البيان، وتفخيم الأداء، ووزن المخارج، إذ المخارج، إذا كانت هذه هي الدلائل الطبيعية على الفصاحة، وهو أمر لا يستقيم له إلا مط الكلام ومصغ الحروف وتفيهق وكد حنجرته، وجعل مكل شدق من شدقيه كأنه فم وحده، وذلك تكلف قد ذمه العرب وكرهوه، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه لنه غير طبيعي فيمن يتكلفه، وهو كذلك مبالغة تأباها طبيعة اللغة، ولا تتفق مع أسبابها وعللها، إذ تحيل هذه اللغة إلى السماحة وتستغرقها بصناعة الصوت، وتنفي عنها طبيعة اللين والعذرية، وتجمع عليها تعقيد الصوت، واستكراهه وجسأته، وذلك كله في الذم والكراهة عندهم بسبيل من الصفات التي يعتدونها في عيوب المنطق، خلقه كالتمتمة والفأفأة والرتة ونحوها، مما أحصيناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، أو تخلفاً، كالتنطع، والتمطق، والتفيهق، وما إليها. فكانت محاسن هذا الباب في النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة كما رأيت، لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه مع ذلك بحسن الصوت وهو تمامها وحليتها، فإن هذه اللغة خاصة تجمل بذلك ما لا تجمل به سائر اللغات لما فيها من معاني الأوضاع الموسيقية في خفة الوزن، وصحة الاعتدال، وتمام التساوي، وحسن الملاءمة، فلا جرم كان منطقه قال صلى الله عليه وسلم على أتم ما يتفق في طبيعة اللغة ويتهيأ لها إحكام الضبط وإتقان الأداء: لفظ مشبع، ولسان بليل، وتجويد فخم، ومنطق عذب، وفصاحة متأدية، ونظم متسوق وطبع يجمع ذلك كله، مع تثبت وتحفظ وتبيين وترسل وترتيل. وقد قال عائشة رضى الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكن كان يتكلم بكرم بين فصل، يحفظه من جلس إليه، وفي رواية أخرى عنها أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه. فأنت ترى أن هذا هو المنطق الذي يمر بالفكر قبل أن ينطق إلى الفم وان العقل فيه من رواه اللسان فهو غالب عليه مصرف له، حتى لا يعتريه لبس، ولا يتخونه نقص، وليس إحكام الأداء وروعه الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم غلا صفات كانت فيه صلى الله عليه وسلم عند أسبابها الطبيعية، كما مر آنفاً، لم يتكلف لها عملاً، ولا أرتاض من أجلها رياضة بل خلق مستكمل الأداء فيها، ونشأ موفر الأسباب عليها، كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية. ولا تمنع أن يكون من فصحاء العرب من يشاركه فيها أو في بعضها، فإنها مظاهر للكلام لا غير، وغنما الشان الذي انفرد به صلى الله عليه وسلم أنه منزه عن النقص الذي يعتري الفصحاء من جهتها أحياناً كثيرة وقليلة، لأنها طبيعية فيه، ولأن من ورائها تلك النفس العظيمة الكاملة التي غلبت على كل اثر إنساني يصدر عنها، حتى قرت أعمالها على نظام لا تعد فيه الفلتة، ولا يؤخذ عليه مأخذ، وحتى كأن كل عمل منها هو كذلك في أصل التركيب وطبع الخلقة وهذه خصوصية ينفرد بها الأنبياء، صلوات الله عليهم، إذ هم أمثلة الكمال الإنساني في هذه الخليقة، تنصبهم يد الله على طريق الحياة لتنتهي فيهم عصور وتبتدئ بهم عصور وليسددوا خطا العقل في تاريخه وهي من الجهة اللغوية مما انفرد به نبينا صلى الله عليه وسلم في عربيته، وما يمنعه منها وإنما أنزل القرآن بلسانه لسان عربي مبين. فهذا وجه الأمر وسبيله، وهذا فرق ما بينه ه صلى الله عليه وسلم وبين الفصحاء، من جهة إحكام المنطق وامتلائه، فإن أحدهم يكون مهيأ لذلك من أصل الخلقة، وبطيعة النشأ بيد أن طباعه لا تتوافى إليه في كل منطق وفي كل عبارة، بل ربما غلبت خصلة على أختها، وربما تخاذلت طبيعة من طباعه وربما رك لفظه لبعض الضعف في معناه فخرج من عادته في النطق به، وربما اضطربت نفسه في حالة من الأحوال، أو تراجع طبعه لسبب من الأسباب، فيضطرب كلامه، ويضطرب كذلك منطقه، وربما نطق فأبان واستحكم، حتى إذ أمر في الكلام أو استفرغت الإطالة مجهودة ونزحت مادته، رأيته يتعثر ويتهافت، ورأيت منطقه وقد صرف عن وجهه واختلط ونهالك من الضعف، وما على امرئ إلا أن ينظر في خاصة نفسه وداخلة طبيعته، فإنه ولا ريب مصيب فيها كل ذلك أو أكثره أو كثيره. وهذه كلها عيوب تلحق الفصحاء وتقسم عليهم، لا يكاد يسلم منها احد، وغنما يؤتون من جهة النفس في ضعفها، أو اضطرابها أو غفلتها، أو ما أشبه ذلك من حال تعتري وعرق يبزع، وهي خصال لا تكون لأنفس الأنبياء، صلوات الله عليهم، فإذا أضفت إلى ذلك أن نبينه ا صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت، ولم يتكلم في غير حاجة، فإذا تلكم لم يسرد سرداً، بل فصل ورتل وأبان واحكم، بحيث يخرج كل لفظة وعليها طابعها من النفس، علمت أن هذا المنطق النبوي لا يكون بطبيعته إلا على الوجه الذي بسطناه آنفاً، وانه بذلك قد جمع خصالاً من إحكام الأداء، لا يشاركه فيها منطق أحد إلى حد، ولا تتوافى إلى غيره ولا تتساوى في سواه. ^

اجتماع كلامه وقلته صلى الله عليه وسلم

ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبة فكره صلى الله عليه وسلم على لسانه قلء كلامه وخرج قصداً في ألفاظه، محيطاً بمعانيه، تحسب النفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها: فلا ترى من الكلام ألفاظاً ولكن حركات نفسية في كما ستعرفه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء ولم يبالغ في شيء واتسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أرداه مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لما تم في كل كلامه، لن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبع غالب مهما تشدد المرء وأرتاض ومهما تثبت وبالغ في التحفظ. هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلة ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغرق أجزائه، وان يكون ذلك عادة وخلقاً يجري عليه الكلام في معنى وفي باب باب، شيء لم يعرف في هذه اللغة لغيره صلى الله عليه وسلم لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلام ويستولي عليه بالكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراه وتعمل، كما يشهد به العيان والثر، فكان تيسير ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم واستجابته على ما يريد وعلى النحو الذي خرج به، نوعاً من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء وذهب بمحاسنها في العرب جميعاً. وهذا هو الذي كان يعجب له أصحابه، ويرونه طبقة في هذا اللسان وطرازاً لا يحسنه إنسان، حتى غن أبا بكر رضي الله عنه قال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك ( أي علمك ) ؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وهذا خبر متظاهر، وقد مر بك، وهيهات أن يكون في العرب فصيح تعرفه فصاحته ولا يكون قد سمعه أبو بكر، متكلماً أو خطيباً أو منشداً في سوق موسم أو حفل، فإنه رضي الله عنه في علم العرب وأنسابها وأخبارها ولغاتها وآثارها الغاية التي ينتهي إليها ويوقف عندها، حتى لا يعدل بهد عدل، وحسبك أن أنسب العرب في صدر الإسلام، وهو جبير بن مطعم، غنما عنه أخذ ومنه تعلم، وإذا قالوا في المبالغة: أنسب من أبي بكر، فقد قالوا: أنسب الناسفهذا أبلغ ما ندلي به من حجة وما ندل به من خبر في هذا الباب، لأنه خبر من أنسب العرب عن معرفة، ومعرفة عن عيان، وعيان بعد استقصاء، واستقصاء عن رغبة في هذا العلم وتحصيله والمعرفة به مع قوة الفطرة وسلامتها ليس وراء ذلك في صحة الدليل مذهب من مذاهب التاريخ. على انه لا يؤخذ مما قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الكلام إن رأى وجهاً للإطالة، فقد كان ربما فعل ذلك إن لم يكن منه بد، وقد روى أبو سعيد الخدري انه صلى الله عليه وسلم خطب بعد اعصر فقال: ( ألا إن الدنيا خضرة ألا وإن الله مستحلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء ألا لا يمنعن رجلاً مخافة الناس أن يقول الحق إذا عليه ) قال أبو سعيد: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال: ( إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى ). قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بيد أن الإقلال كان الأعم الأغلب، حتى ورد أنه كان يأمر بقصر الخطبة، فروى أبو الحسن المدائني قال: تكلم عمار بن ياسر يوماً فأوجز فقيل له: لو وزدتنا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطالة الصلاة وقصر الخطبة، وقد ورد في الحديث: ( نحن معاشر الأنبياء فينا بكاء )، أي قلة في الكلام، وهو من بكات الناقة والشاة إذا قل لبنها، وتأويله على ما بسطناه آنفاً. غير أن ههنا فصلا حسناً لأديبنا الجاحظ ساقه في كتاب ( البيان ) وقد أورد هذا الحديث بلفظ آخر، وظن أن بعضهم ربما تأوله على جهة الحصر والقلة، وعلى وجه المعجزة والضعف، أو خطر له ذلك الهاجس، بما يعطيه ظاهر اللفظ، وكل أمرئ ظنين بدعواه فكتب ما كتب يستدفع به الظن ويصافح اليقين، وقد رأينا أن نحصل كلامة توفيه للفائدة، وبسطاً لما نبسطه إذ كان هو قد سبق إليه، قال رحمة الله: روى الأصمعي وابن الأعرابي عن رجالهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا معشر الأنبياء بكاء ) فقال ناس: البكوء: القلة، وأصل ذلك من اللبن، فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول: قلنا ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في التحصيل وقلة الفضول: قلنا ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلفة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعاً، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني، والقلة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلف وعلى البعد من الصنعة ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة. وتكون من جهة العجز، ونقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى، على نبينا وعليه السلام حين قال: ( قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَمُوسَىَ وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرّةً أُخْرَىَ ). فلو كانت تلك القلة من عجز، كان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمسألة إطلاق تلك العقدة من موسى، لأن العرب أشد فخراً ببيانها وطول ألسنتها وتصريف كلامها وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت ذرابتها على كل من قصر عن ذلك التمام ونقص من ذلك الكمال، وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وخطبه الطوال في المواسم الكبار، ولم يطل التماساً للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوه إذا افتنت كثر عدد اللفظ وإن حذفت فضوله بغاية الحذف، ولم يكن الله ليعطي موسى لتمام إبلاغه شيئاً لا يعطيه محمداً، والذي بعث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللسان. ( إنما قلنا هذا لنحسم وجوه الشغب، أن أحداً من أعدائه شاهد هناك طرفاً من العجز، ولو كان ذلك مرئياً ومسموعاً لأحتجوا على الملا ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرع شعرائهم، هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يقله، لأن مثل هذه الأخبار يحتاج فيه إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنا بفضل الثقة وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشبهه. ( وقد علمنا أن من يقرض الشعر ويكلف الأسجاع، ويؤلف المزدوج ويتقدم في تحبير المنثور ( لا يكون كذلك إلا ) وقد تعمق في المعاني وتكلف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهواً راهواً مع قلة لفظه وعدد هجائه، احمد أمراً، وأحسن موقعاً من القلوب، وانفع للمستمعين، من كثير خرج بالكد والعلاج، ولأن التقديم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يحب السمعة، ويهوى النفج، والاستطالة، وليس بين حال المنافسين وبين حال المتحاسدين إلا حجاب رقيق وحجاز ضعيف، والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه وقال الله تعالى وقوله الحق: ( وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ ) ثم قال: ( وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ثم قال أي في الشعراء: ( أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) فعم ولم يخص وأطلق ولم يقيد. فمن الخصال التي ذمهم بها، تكلف الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق، ومن كان كذلك كان أشد افتقاراً إلى السامع من السامع إليه، لشغفه أن يذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء، ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولد ذلك في قلبه شدة الحمية وحب المجاوبة، ومن سخف هذا السخف وغلب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حالة داعية إلة قول الوزر والفخر بالكذب وصرف الرغبة إلى الناس، ولإفراط في مديح من أعطاه وذم من منعه، فنزه الله رسوله، ولم يعلمه الكتاب الحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبد لطلب الألفاظ، والتكلف لاستخراج المعاني، فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة والانتبات إليه، والميل إلى كل ما قرب منه، فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يطوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاضلة، فإذا رأت مكانة الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن قد تعبد للمعاني، وتعود نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها واستخراجها من مدافنها، وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد حاولوه قليلاً مما يكون منه على البداهة والفجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله، وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضيات لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: ( إياي والتشادق ) و ( أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون ) ثم رأوه في جميع دهره في غاية التسديد، والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم، علموا أن ذلك من ثمرة الحكمة، ونتاج التوفيق، وان تلك الحكمة من ثمرة التقوى، ونتاج الإخلاص. ( وللسلف الطيب حكم وخطب كثيرة، صححة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نقاد الألفاظ وجهابذة المعاني، متميزة عند الرواة الخلص، وما بلغنا عن أحد من جميع الناس أن أحداً ولد لرسول الله لله صلى الله عليه وسلم خطبة فهذا وما قبله حجة في تأويل ذلك الحديث ) ا ه.

نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم

ونحن نتم القول فيما بدأ به الجاحظ آنفاً، من تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى: ( وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ ) فكان عليه الصلاة والسلام، لا يتهدى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثل بيتاً منه بل يكسره ويتمثل البيت مكسوراً مع أن ذلك لا يعرض البتة لأحد من الناس في كل حالاته، عربياً كان أو أعجمياً، فقد يتعتع المرء في بيت من الشعر ينساه أو ينسى الكلمة منه، فلا يقيم وزنه لهذه العلة، ولكنه يمر في أبيات كثيرة مما يحفظه أو مما يحسن قراءته، فما وزن الشعر إلا نسق ألفاظه، فمن أداها على وجهها فقد أقامه على وجهه، ومن قرأ صحيحاً فقد أنشد صحيحاً. وهذا خلاف المأثور عنه صلى الله عليه وسلم فإنه على كونه أفصح العرب إجمالاً، لم يكن ينشد بيتاً تاماً على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العجز فحسب، فإن ألقى البيت كاملاً لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يلتئم على لسانه. أنشد مرة صدر البيت المشهور لبي، وهو قوله:

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ

فصححه، ولكنه سكت عن عجزه ( وكل نعيم لا محالة زائل )وانشد البيت السائر لطرفة على هذه الصورة:

ستبدي لكَ الأيَّامُ ما كنتَ جاهلاً

ويأتيكَ ( من لمْ تزوَّدِ ) بالأخبارِ

وإنما هو: ( ويأتيك بالأخبار من لم نزود ). وأنشد بيت العابس بن مرداس فقال:

أتجعلُ نهبي نهبَ العبي

دبينَ الأقرع وعيينه

فقال الناس: بين عيينة والأقرع، فأعادها عليه الصلاة والسلام: ( بين الأقرع وعيينة ) ولم يستقم له الوزن. ولم تجر على لسانه صلى الله عليه وسلم مما صح وزنه إلا ضربان من الرجز المنهوك والمشطور أما الأول فكقوله في رواية البراء: انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء يوم أحد ويقول:

أنا النَّبيُّ لا كذب

أنا ابنُ عبدِ المطَّلب

والثاني كقوله في رواية جندب إنه صلى الله عليه وسلم دميت أصبعه فقال:

هلْ أنتِ إَّلا إصبعٌ دميتِ

وفي سبيلِ الله ما لقيتِ

وغنما اتفق له ذلك، لأن الرجز في أصله ليس بشعر إنما هو وزن، كأوزان السجع، وهو يتفق للصبيان والضعفاء من العرب، يتراجزون به في عملهم وفي لعبهم وفي سوقهم، ومثل هؤلاء لا يقال لهم شعراء، فقد يتسق لهم الرجز الكثير عفواً غير مجهود، حتى إذا صاروا إلى الشعر انقطعوا، وغنما جعل الرجز من الشعر تتابع أبياته، وجمع النفس عليه، واستعماله في المفاخرات والمماتنات ونحوها، وأنه الأصل في اهتدائهم إلى أوزان الشعر، كما سنفصل كل ذلك في الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب إن شاء الله، فأما البيت الواحد منه، فليس في العرب جميعاً، ولا في صبيانهم وعبيدهم وإمائهم، من يأبه له، أو يعده شعراً، أو يأذن لوزنه، أو يحسب أن وراءه أمراً من الأمر: إنما هو كلام كالكلام لا غير. ولقد كانت الأوزان فطرية في العرب، فهي في الرجز، وهي في السجع، وهي في الشعر، جميعاً، ولم يعلم أنه ه صلى الله عليه وسلم اتفق له في الرجز من بيت واحد، أو تمثل منه بأكثر من البيت الواحد كبيت أمية بن أبي الصلت:

إن تغفرِ اللَّهمَّ تغفرْ جمَّا

وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمَّا

وإنما كان له ذلك في الرجز خاصة دون الشعر، لأن الشطرين منه كالشطر الواحد في الوزن والقافية، لا يبين أحدهما من الآخر، وبخاصة في هذين الضربين المنهوك والمشطور، وهما بعد ذلك كالفاصلتين من السجع، لا يمتازان منه في الجملة إلا بإطلاق حركة الروي، ومن أجل هذه العلة لم يتفق له في غيرهما شيء، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقيم الشطر الواحد من الشعر كما علمت، لأن مجازه على أنفراده مجاز الجملة من الكلام، فلا يستبين فيه الوزن، ولا يتحقق معنى الإنشاد، ولا تتم هيأته من الإيقاع والتقطيع والتشدق ونحوها، فإذا صار إلى تمام البيت من المصراع الآخر، وهو الوزن أن يظهر، والإنشاد أن يتحقق، وأوشك الأمر أن يمتاز بما ينفرد به الشعر في خواصه التي تبينه من سائر الكلام كسر وخرج بذلك إلى أن يجعل البيت كأنه جملة مرسلة من الكلام، على ما كان من أرمه في الشطر الواحد. والذي عندنا، أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع إقامة وزن الشعر في إنشاده إلا لأنه مع من إنشائه، فلو استقام له وزن بيت واحد، لغلبت عليه فطرته القوية، فمر في الإنشاد، وخرج بذلك لا محالة إلى القول والاتساع وإلى أن يكون شاعراً، ولو كان شاعراً لذهب مذاهب العرب التي تبعث عليها طبيعة أرضهم كما بسطناه في موضعه ولتكلف لها، ونافس فيها ثم لجاراهم في ذلك إلى غايته، حتى لا يكون دونهم فيما تستوقد له الحمية، ما هو من طبع المنافسة والمغالبة، وهذا أمر كما ترى، يدفع بعضه إلى بعض، ثم لا يكون من جملته إلا أن ينصرف عن الدعوة، وعما هو أزكى بالنبوة وأشبه بفضائل القرآن، ولا من أن يتسع للعرب يومئذ بد، فيقرهم على شيء، ويجاريهم على شيء، وينقض شعره أمر القرآن عروة عروة، ولذا قال تعالى: ( وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ ). ثم يأتي بعد ذلك جلة أصحابه وخلفائه، يأخذون فيما أخذ فيه، فيمضون على ما كان من أمرهم في الجاهلية، ويثبتون على أخلاقهم وعلى أصول طباعهم ويستطير ذلك في الناس، وهو أمر متى تهيأ نما فيهم، ومتى نما غلب عليهم، ومتى غلب أستبد بهم، ومتى استبد تقم معه للإسلام قائمة ( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ). فانظر، هل ترى شيئاً غير ألهي هذا التدبير والصنع العجيب، وهل ترى ذلك أعجب من أن الله تعالى منع نبيه تصحيح وزن الشعر، وجعل لسانه لا ينطلق به إذ وضعه موضع البلاغة من وحيه، ونصبه منصب البيان لم ينه، لأنه تعالى يعلم من غيب المصلحة لعباده، أنه صلى الله عليه وسلم لو أقام وزن بيت مال به عمود الدين، ثم لتصدع له الأساس الاجتماعي العظيم الذي جاء به القرآن، إذ يكون قد بنى على غير أركان وثيقة ولا عماد محكم. على أن منع الشعر إنما أخذ به صلى الله عليه وسلم منذ نشأته، ولولا ذلك ما استقام له وجه طبيعي ليس فيه ندرة تعد، فقد نشأ منذ نشأته على بغضه، وانصراف عما يزين الشيطان منه، والنفرة من تعاطيه، وعلى أن يتوهم شيئاً من أوزانه وأعاريضه حتى يميت الدواعي إليه من نفسه، فلا تنزع به الفطرة، لا تستدرجه العادة، وعظم ذلك عنده وبلغ، لا يعرف أحد من العرب كره الشعر كرهه، ولا أبغضه، بغضه، مع تأصله في فطرتهم، ونزعهم إليه بالعرق، ونشأة الناشيء منهم على أسبابه من طبيعة الأرض وطبائع أهلها، وعلى انه يدور في مسمعه، ويختم في قلبه، ولا يبرح منه راوياً أو حاكياً، فقد كان حكمة القوم وسياستهم ومعدن آدابهم وديوان أخبارهم، بل كان عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، والصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم، كما سلقت الإشارة إليه في موضعه، ولذا قال ل صلى الله عليه وسلم ( لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، فعصمني الله منهما، ثم لم أعد ). لا جرم أن ذلك تأديب من الله أراد به تحويل فطرته ه صلى الله عليه وسلم عن الشعر وقوله، حتى لا تنزع به العادة منزعاً، ولا تذهب في أسبابه مذهباً وحتى تستوي في ذلك ظاهراً ودخله، فلا يستطرق لها الوهم من باب ولا يجد إليها مهوى يبلغه، ومتى كان بغض الشعر في نفسه كبغض الأوثان وأن العمل في ذلك بالنسبة إليه كالعمل لهذه، فكيف يمكن أن يبقى له مع هذا كله طبع أو وجه إليه. .وكيف يتأتى أن يكون مثل هذا أدباً أخذ به نفسه وراضيها عليه، دون أن يكون تأديباً من الله وتصرفاً منه، في تكوين نفسه وتهذيب فطرته، وتحويل طبعه، وأن يكون قد منعه في هذا الباب ما لم يمنعه أحداً من قومه، كما أعطاه في أبواب كثيرة ما لم أحداً منهم، وخاصة إذا عرفت أن الشعر قد كان سجية في أهله، وانه ليس من بني عبد المطلب رجالاً ونساء من لم يقل الشعر غيره ه صلى الله عليه وسلم وإنما كل ذلك تفسير طبيعي لقوله، عليه الصلاة والسلام ( أدّبني ربي فأحسن تأديبي )على انه فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر ويستنشده ويثبت عليه، ويمدحه متى كان في حقه ولم يعدل به إلى ضلالة أو معصية والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك قد كان منه صلى الله عليه وسلم لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواة من يجل وكده حمل الشعر وروايته وتفسيره واستخراج الشاهد والمثل منه، وكأنه عليه الصلاة والسلام حين سمع الشعر وأثاب عليه ورخص فيه لم يرد إلا هذا المعنى، والشاهد القاطع قوله في أمر الجاهلية: ( إن الله قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته ) وبمثل هذا القول أستأنس العلماء وتجردوا للرواية وتملأوا منها، رحمهم الله وأثابهم بما صنعواوقد كان له صلى الله عليه وسلم شعراء ينافحون عنه، ويتجارون مع شعراء القبائل الأحاديث والأفانين، ولم يقمهم هو ولكن أقامتهم العادة العربية التي جعلت قولهم أشد على بعض العرب من نضح النيل، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالفخر ولم يبعث للهجاء، وقد ترك العادة ونخوة الجاهلية في مثل ذلك، ولكنهم لم يتركوها في أول العهد بالرسالة، فكانوا يهجون عليه شعراءهم، ويحرضون خطباءهم، ويقصدونه بالأقاويل يستطيلون بها عليه، فإذا أتاه الوفد منهم: كبني تميم حين جاءوه بشاعرهم الأقرع بن حابس وطيبهم عطارد بن حاجب، ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد أخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين رماهم بمثل خطيبه ثابت بن قيس بن شماس أو بأحد شعرائه عبد الله بن رواحه وحسان بن ثابت وكعب بن مالك فضغموا الشعراء والخطباء، وأبلغوا في الرد عليهم، تأييداً من الله في المنافحة عن نبيه، ورداً لكيدهم الذي يكيدون. ولقد كانت السابقة في ذلك لحسان رضي الله عنه وكان ذا لسان ما يسره به معقول من معد وكأنما زاد الله فيه زيادة ظاهرة، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ( قل وروح القدس معك ) فكان إذا أرسل لسانه لم يجدوا له دفعاً، وإذا مسهم بالضر لم يجد شعراؤهم نفعاً، وإذا وضع منهم لم يستطيعوا لما وضعه رفعاً:

إن كان في الناسِ سبَّاقونَ بعدهمُ

فكلُّ سبقٍ لأدنى سبقهمْ ثبعُ

لا يرقعُ الناسُ ما أوهتْ أكفهمُ

عندَ الدَّفاعِ، ولا يوهونَ ما رقعوا

أكرمْ بقومٍ رسولُ الله شيعتهم

إذا تفرَّقتِ الأهواءُ والشيعُ

تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم

قد علمت مما بسطناه في مواضع كثيرة، أن قريشاً كانوا افصح العرب السنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بياناً، وانهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وغنما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي صلى الله عليه وسلم من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمت ما قلناه آنفاً في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وان له في تلك رتبة بعيدة المصعد، فلا جرم كان صلى الله عليه وسلم على حد الكفاية في قدرته على الوضع، والتشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلاً، وأصبح ميراثاً خالداً في البيان العربي، كقوله: ( مات حتف أنفه ) وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أسمعت كلمة غريبة من العرب يريد التركيب البياني إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول: ( مات حتف أنفه ) وما سمعتها من عربي قبله. ومثل ذلك قوله في الحرب: ( لأن حمي الوطيس )، وقوله: ( بعثت في نفس الساعة ) إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد، وهذا ضرب عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالبه، وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصرت طرق الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العربية منه أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها. والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازه مجاز الإيجاز والاقتضاب، وهذا الباب كانت تتصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا توجد معدوماً، فلم يعرف لأحد من بلغائهم وضع بعينه يكون هو أنفرد به وأحدثه في اللغة ويكون العرب قد تابعوه عليه، إلا ما ندر لا يعد شيئاً، بخلاف المأثور عنه ه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، فهو كثير تعد منه الأسماء والمصطلحات الشرعية مما لم يرد في القرآن الكريم، ومنه ألفاظ كان العرب أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لأنفراده بها وهم عرب مثله، كما عجبوا لفصاحته التي اختص بها ولم يخرج من بين أظهرهم، كما روى من أنه ه صلى الله عليه وسلم قال لأبي تميمة الهجيمي: ( إياك والمخيلة ) فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب، فما المخيلة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( سبل الإزار ) ومرت الكلمة بعد ذلك على هذا الوضع، يراد بها الكبر ونحوه. وكثيراً ما كان يسأل أصحابه عن مثل هذا فيوضحه لهم، ويسددهم إلى موقعه، واستمر عصره على ذلك، وهو العصر الذي جمعت فيه اللغة واستفاضت وامتنع العرب عن الزيادة فيها بعد أن سمعوا القرآن الكريم وراعتهم أسرار تركيبه، فلم يكن يومئذ من يتجوز ويقتضب ويشتق ويضع غيره ه صلى الله عليه وسلم مع انه كان لا يتأتى إلى ذلك بالروية، ولا يستعين عليه بالفكر ولا يجمع بالنظر، إنما هو أن يعرض المعنى فإذا لفظه قد لبسه واحتواه وخرج به على استواء، لا فاضلاً ولا مقصراً، كأنما كان يلهم الوضع إلهاماً، وليس ذلك بأعجب من مخاطبته وفود العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لا تعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدى إلى معانيها، ولا يعرفها بعض العرب عن بعض، ثم فهمه عنهم مثل ذلك على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، حتى قال له علي رضي الله تعالى عنه، وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال عليه الصلاة والسلام: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ). ومن ذلك كتبه الغريبة التي كان يمليها ويبعث بها إلى قبائل العرب يخاطبهم فيها بلحونهم ولا يعدو ألفاظهم وعبارتهم فيما يريد أن يلقيه إليهم، وهي ألفاظ خاصة بهم وبمن يداخلهم ويقاربهم، ولا تجوز في غير أرضهم ولا تسير عنهم فيما يسير من أخبارهم، ولا تأتلف مع أوضاع اللغة القرشية فما ندري أي ذلك اعجب: أن ينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة هذا الغريب من أسنه العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكون قومه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى أشتق اسمهم منها، وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، حين يتوافون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لا يعلمون من هذا الغريب بعض ما يعلمه، ولا يديرونه في ألسنتهم، ولا يورثونه أعقابهم فيما ينشأون عليه من السماع والمحاكاة، حتى كان هذا الباب فيه صلى الله عليه وسلم باباً على حدة، كما يؤخذ كل ذلك من قول علي: ( نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره )، فليس العجب في أحد القسمين إلا في وزن العجب من الآخر. على أنا ننقل كتاباً من هذه الكتب، لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغة السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه الكلمات الغريبة التي يجمعها صلى الله عليه وسلم دون قومه، ثم لا تجري في منطقة إلا مع أهلها خاصة، ولا تدور في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقص من فصاحته، أو تضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظه وروايته، وهم أهل التوعر والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تسلمهم إلى ذلك طبيعة الغريب نفسه، إذ يدور في ألسنتهم ويستجيب لهم كلما مثلت معانيه، غير مختلب ولا مستكره، ويغلبهم على مرادفه من الكلام السهل المأنوس، لأنهم أكثر رغبة فيه، وأشد عناية فيه من الطلب والحفظ والمدارسة، ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفير قسطه من المزاولة، وتوفية حقه من العناية به تبلغ منه البلاغ كله، وحتى يكون هو الغالب عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية. أما الكتاب الذي أشرنا إليه فهو كتابه صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، ومنه:( إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشاشيب. . .). وفيه: وهي في التيعة شاة لبا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطو الثبجة، وفي السيوب الخمس ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة، واستوفضوه عاماً، ومن زنى مما ثيب فضرجوه بالأضاميم.ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام.وائل بن حجر يترفل على الأقيال ). ومن هذا الباب كلامه صلى الله عليه وسلم مع ذي المشعار الهمذاني، وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي، والأشعث بن قيس، وغيرهم من أقيال حضرموت ورجال اليمن، قد أحصاه أهل الغريب وفسروه، وانظر كتابه إلى همدان، ومنه:(. .إن لكم فلااعها ووهاطها وعزازها، تأكلون علافها، وترعون عفاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلم والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها الصالغ والقارح ). فهذه طائفة يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما خرجت عنه هي وأمثالها، مما جمعوه حديثاً كالأحاديث، ورويت كما فصلت، ولولا أنها وجه من التاريخ والسيرة، وضرب من تعليم أولئك القوم، لقد كانت انقطعت بها الرواية، فلم ينته إلينا منها شيء، فهي ولا ريب لم تكن مجتلبة، ولا متكلفة، ولا ترامى إليها والبحث والتفتيش، وإنما جرت منه صلى الله عليه وسلم مجرى غيرها، مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، ولا ريب أن ورائها في ذلك الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغات عن القرشية، فلا بد أن يكون صلى الله عليه وسلم محيطاً بفروق تلك اللغات، مستوعباً لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في لغة من أهلها، بل أفصح أهلها. وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، في تمكنها وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام، وانطوائها على أسرار الوضع، فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة وضعاً واشتقاقاً واستجارة وتقليباً، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها في مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه، ثم تدبر ما عسى أن تكون جملة ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها وأساليبها، وهم كما عملت أهل الفطرة والسليقة وإنما أكبر أمرهم في اللغة التوهم والنزوع إلى المحاكاة، والمضي على ما توهموا، والأخذ فيما نزعتهم إليه الطبيعة، وعلى ذلك مبنى لغتهم كما فصلناه في بابه. فالعربي الفصيح منهم، إذا كان جافياً متوقحاً، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضل من التصرف رجع أمره ولا جرم إلى أن يكون صاحب لغتهم، وإلى أنه يكون منطقة فيهم مذهباً من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود التي يعرف بها الناس علماءهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغوي وأنه واضع، إذ ليبس من ذلك شيء يسمى عندهم علماً، إنما هو سمت الفطرةالذي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي بها وتستقيم عليها لا على أكثر من ذلك ولا أقل.وبقد كان هؤلاء العرب أجدر الناس بأن يقال إن فيهم حاسة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقاً. وبعد فإنه ليس لنا أن نبسط في الفصل أكثر مما بسطناه، فإن علماءنا ورواتنا - رحمهم الله - لم يوقعوا الكلام في أماليهم وكتبهم على حالة اللغة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم تعييناً، ولا دلوا على ما كان له من الأثر ي أوضاعها وتقليبها، وعلى ما جاء من قبله في ذلك مما كان من قبل سواه، وعلى ما صارت إليه اللغة بعد استضافة الإسلام والاجتماع على المضرية، إلى ما يداخل ذلك من أبواب التاريخ اللغوي.وإنما اكتفوا بأنهم إجماع واحد، ويقين لا تختل منه، أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وأعلمهم بلغاتها وأوسعهم في هذا الباب وأنه لم يأتهم عن أحد من روائع الكلام ما جاءهم عنه وأن له في كل ذلك المزية البينة، التي تواتر بها النقل، وتظاهر بها الخبر، كما أسلفنا بيانه، ثم تركوا أن يتوسعوا في تفصيل ما أجمعوا عليه وأن يعتلوا له بأسبابه، ويعرضوا له من وجوهه، ويستقصوا فيه إلى أوائله، ويأخذوه من نشأته، حتى إن الذين وضعوا له من وجوهه، ويستقصوا فيه أوائله، ويأخذوه من نشأته، حتى إن الذين وضعوا له ولم يقولوا فيه قولا، مع أنه مبنى علمهم، وجهة تأليفهم، وله منصب الحجة، وإليه غاية الرأي بل اجتزأوا - عفا الله عنهم - بيان اللفظ الغريب وتفسيره، وصرفوا أكبر همهم إلى الإكثار من الجمع، وإلى صحة المعنى وجودة الاستنباط.وكثرة الفقه.وإشباع التفسير وإيراد الحجة وذكر النظائر.وتخليص المعاني، حتى كانت هذه الكتب كلها كما قال الخطابي البستي: ( إذا حصلت كان مآلها كالكتاب الواحد ). وما ننكر أن هذا كله حظ النقل والرواية.ولكن أين حظ الرأي والدراية ؟ وأين مذهب الحجة، وأين فائدة التاريخ ؟ وأين دليل الفصاحة من اللغات ؟ وأين أدلة اللغات من أهلها ؟. . .هذه فنون لو أن الرواية امتدت بها أوبعضها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لعلمائنا رأي محصد في هذا الأمر.وحسبة حسنة.ونظر وتدبير - لقد كان الله ارتاح لنا برحمة من عملهم، وأنقذنا من كثير لا نبرح نضطرب فيه آخر الدهر.وهيأ لنا من صنيعهم أسباباً وثيقة إلى أبواب من فلسفة هذه اللغة وتاريخ آدابها، ولكن ذلك قد كان من أمرهم في اللغة خاصة، ولما بيناه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب: لم يرو أنه يسقط شيئاً على من بعدهم، ولا رأوا أه وكف ولا نقص، ولا أن في باب الرأي غير ما صنعوا: فأخذوه على الجهة التي اتفقت لهم، وجاءوا به من عصرهم لا من عصره. وقد كان هذا الشأن قريباً منهم لو أرادوه وذلك الأمر موطأ لهم لو اعتزموا فيه، ولكنه فوت قد فات، وعمل قد مات، وأمل لزمته هيهات فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا، فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصل القول بين الأسباب وما تسببت له، ونعتل لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونستروح إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبها الإجماع ويشدها الاتفاق، ومهما أخطأنا من ذلك لم يخطئنا الكشف على أصل المعنى وثبته ووجه مذهبه، وفيلا هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضرب من الكمال والتأليف، وباب من التطوع في العمل، وإنما وجه الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة ومظهر الواجب في الفرض وحده وكم وراء الفرض من نافلة. قد قلنا في بيان أسلوب كلامه صلى الله علية وسلم، أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتضبة، لا يشبهه في العبارة المبسوطة، ولا يستوي له الشبه مع ذلك في كل قليل ولا في كل مقتضب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغة ونسقاً وبياناً. ونحن الآن قائلون في نسق هذا الأسلوب، ليتأدى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض. إذا نظرت فيما صح نقله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مسدد اللفظ محكم الوضع جزل التركيب.متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات: فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفاً مضطرباً، ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه، ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتياً لسره في الاستعمال، ورأيته في الثانية حسن المعرض، بين الجملة، واضح التفضيل، ظاهر الحدود جيد الرصف، متمكن المعنى، واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً ولا خطلاً، ولا استعانة من عجز، ولا توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه. وهذه حقيقة راهنة، دليلها ذلك الكلام نفسه بجملته وتفصيله، ولا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى، وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنو المأخذ، وإصابة السر، وفصل التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه وأمثالها من مذهبه صلى الله عليه وسلم في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خص به دون الفصحاء، كان له خاصة، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن ومن المنزعة الجيدة، واللسان المتمكن - رأيت من جملة ذلك نسقاً من البلاغة قلما يتهيأ في مثول أغراضه وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء، إذ يجمع الخالص من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة - بعضها إلى بعض. أما اللغة فهي لغة الواضع بالفطرة المستحكمة، والمتصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان فبيان أفصح الناس نشأة، وأقواهم مذهباً، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوة، وتبصير الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية. وأين م ذلك الفصحاء والبلغاء وأنى لهم ؟ وما قط عرفنا بليغاً سلمت له جهات الصنعة في كلامه - من اللغة والبيان والحكمة - على أتمها، بحيث لم يزغ عن قصد الطريقة، ولا تحيفته إحدى هذه الثلاث بإدخال الضيم على أختيها في كلامه واستبانة أثرها فيه وغلبتها عليه، وإنما جهد الممرن من هذه الفئة، أن يصنع الصنعة، ويغلو في الإتقان، ويبالغ في التهذيب والتنقيح، وبعمل بما وسعه لتخليص كلامه، ويتلوم على ذلك ويتقدم فيه ويتأخر متأملاً ههنا وههنا من أعطاف الكلام، ثم هو بعد ذلك إن سلمت له الحكمة لم تسلم له صنعة اللغة في حسن الهداية إلى الاستعمال والتمكن منه، وإن خلصت له هذه لم يخلص إلى النادر منها، مما يخرج الكلام في قبوله وحسن معرضه وصفاء رونقه ودقة تأليفه وكأنه وضع تركيبي مرتجل، له غرابة الارتجال في الوضع المفرد الذي هو من أصل اللغة، فإن قوة البيان إنما هي في هذه الغرابة وفي وجهتها ومقدارها على ما عرفته من قبل. ومن أجل ذلك تقرأ كلام البليغ من الناس، فترى الصنعة المحكمة، والطبع القوي، والصقل البديع، واللفظ المونق، والحكمة الناصعة، ولكنك تصيب أكثر ذلك وعامته عل على وجهه كما هو، ليس فيه سر مكن أسرار البيان، ولا دقيقة من أوضاع اللغة، ولا غرابة من التركيب تتحير فيها، وتقف عندها وتعطف برأيك عليها كلما هممت أن تمضي في الكلام، وتردد نظرك في مصادرها ومواردها، على إصابتك من الصناعة، وبلوغك من الأدب، ورسوخك في حكمة البلاغة، فإن البصير بذلك ليمر في كلام البلغاء مراً، لا يعدو أن يستحسنه ويعجب به ويستمرأ أسلوبه حتى إذ انتهى إلى وجه من وجوه هذه الغرابة البيانية.رأى في الكلام عقلاً من المعقول تنطوي عليه الأحرف القليلة، وكأنه يكاشفه بنفسه وقد ثبت على نظره كما تثبت العاطفة، فما يعفو وما يضمحل حتى يكون هذا المتبين الذي يطلب أسرار الكلام قد وقف عنده ذاهلاً، وحبس عليه الفكر يتأمل به فرق ما بين عقله وهذا العقل، ويزور نفسه منه مختبراً، ويتعرف من تلك الأحرف القليلة مسافة ما بين العجز والقدرة إن كان عاجزاً عن مثله، أو ما بين قوة وأخرى إن كان قادراً عليه، فكأن اللفظة الواحدة من تلك الجملة إنما هي مقياس للنبوغ والابتكار وكأن الجملة ليست كلاماً مكن الكلام، ولكنها سر من أسرار النفس يلقي إليه شغلاً طويلاً لم يكن هو من قبل في سبب من أسبابه. وما كان إلا في أحرف وكلمات ينشر منها ويطوي، فقد صار إلى كلمات مسحورة تنشر هي من نفسه وتطوي. هذا، على أن كلامه صلى الله عليه وسلم ليس مما يكلف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يتلوم على حوكه وسرده، ولكنه عفو البديهة، ومساقطة الحديث، مما يجريه في مناقلة يتفق ومساق المحاضرة، وأنه مع ذلك العلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثله في هذا الباب الشاعر ولا خطيب ولا كاتب إلى إطالة الرواية، ومراجعة الطبع، والغلو في الصنعة، وعلى أن لهم لسبك الخالص والمعدن الصريح، والبيان الذي يتفجر في الألسنة لرقته وعذوبته وأطراده. والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المورقة في روائها ونضرتها حتى تتسق له أسباب من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمراُ، والثمر بعد متفاوت في أشجار البلاغة، نضجاً وماءً وحلاوة وكثرة، وما أثمرت من ذلك بلاغة غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم يبلاغة الأرض في كلامه صلى الله عليه وسلم، والناس بعد ذلك أجمعون حيث طاروا أو وقعوا. . فمن هذه الأوضاع قوله - عليه الصلاة والسلام -: ( مات حتف أنفه ) وقد شرخناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حنين: ( الآن حمي الوطيس ) والوطيس: هو التنور مجتمع النار والوقود، فمهما كانت صف لحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلام أكلاً، وكأنما هي تمثل لك دماء نارية أو ناراً دموية. . وقوله في حديث الفتنة: ( هدنة على دخن ) والهدنة: الصلح والموادعة والدخن: تغير الطعام إذا أصابه الدخان في حال طبخه فأفسد طعمه. وهذه العبارة لا يعدلها كلام في معناها، فإن لواً من التصوير البياني لو أذيبت له اللغة كلا وما وقت، وذلك أن الصلح إنما يكون موادعة وليناً، وانصرافاً عن الحرب، وكفاً عن الأذى، وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة فإذا بني الصلح على فساد، وكان العلة من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يستريح غيره من أفعالها، كما يغلب الدخن على الطعام، فلا يجد كله إلا رائحة هذا الدخان، والعام من بعد ذلكم مشوب مفسد. هذا في تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة وثم لون آخر في صفة هذا المعنى، وهو اللون المظلم الذي تنصبغ به النية ( السوداء ) وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة ( الدخن ). ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سر البيان في العبارة كلها، وبها فضلت كل عبارة تكون في هذا المعنى، وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تطفأ الحرب، فهذه حرب قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها ناراً أخرى، كما يلقى الحطب الرطب على النار تخبو قليلاً، ثم يستوقد فيستعر فإذا هي نار تلظى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جرم من تحته، وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتها معنى من المعاني يمكن أن يتصور في العفل إلا وجدت اللون البياني يصوره في تلك اللفظة لفظة ( الدخن ). ومنها قوله - عليه الصلاة والسلام - ( بعثت في نفس الساعة ) يريد أنه بعث والساعة قريبة منه، فوصف ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهي لفظة النفس كما يحس المر بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنما أفرد اللفظة ولم يقل:بعثت في أنفاس الساعة لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنفس من الأنفاس، وليس المراد من قريب الساعة أنها قدر اليوم أو غد على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها، وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئاً فيما مضى - وأن لا نظام الإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة، فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مرية فيها. وفي تلك اللفظة معنى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلاً فكانت الساعة بعيدة ثم قصر هذا العمر فبدأت الساعة تتنفس: وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار ندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة ؟وبقي معنى رائع قي لفظة ( النفس ) أيضاً، وذلك أنه يقال على المجاز: فلان نفس من ضيقه، إذا كان في سعة ومندوحة وقد عرف الضيق ما هو بعد أن أشد عليه وكتم أنفاسه ؟ فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتية وأنها قريبة، وأنها تكاد تكون ولكن البعث في نفس منها، فليعمل لآخرتهم فإنه يوشك وأن لا يعملوا، ثم ليعمروا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم: فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك. ومن تلك الأوضاع قوله صلى الله علي وسلم: ( كل أرض بسماتها ) وقوله: ( يا خيل اركبي ) و ( لا تنطح فيا عنزان ). وقوله لأنجشة، وكان يسير بالنساء في هوادجهن: وهو يحدو بالإبل وينشد القريض والرجز، فتنشط وتجد وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطراباً شديداً فقال - عليه الصلاة والسلام - ( رويدك رفقاً بالقوارير ). وقوله في يوم بدر: هذا يوم له ما بعده ) إلى أمثال لذلك كثيرة، لو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جداً ورجع أمر هذا الفصل أن يكون في معنى التأليف كتاباً برأسه إن كنا لا نلتزم إلا جهة بيان وحدها. وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب صلى الله عليه وسلم في هذه اللغو ابتداءً ولم تسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعد، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها، ولا يفي بها كلام في تصوير جزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليا، وهذا الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثل، أو الكلمتين أو الكلمات القليلة القليلة، ولو ذهبت تحصيه في لعربية ما رأيته إلا معدوداً، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العد وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة الخاصة، حتى لا يساويها في ذلك لغة أمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بغض وكلج، وإن عدو لنا واحداً ( صفرناه ) ولا فخر. وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغ النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسال بين أيدينا، فخذ فيها حيث شت فإنه كلا: حابس فيه كمرسل. على أن عجب شيء إنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواء ورأيت كلامه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال خاصة متا يطمع في مثله، وأحسست أن بين نفك وبينه صلة تطع لك القدرة عليه وتمد لك أسباب المطمعة، وبخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقاً ألبته، إذ لا تحس منه نفساً إنسانية، ولا أثراً من آثار هذه النفس، ولا حالة من حالاتها حتى تأنس إلى ذلك على التوهم، ثم تتوهم الطمع والمعارضة من هذه الأنسة، فتمضي عزمك وتقطع برأيك وتبت القول فيه كما يكون لك قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق، وحدود البلاغة التي تفصل بغضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحس والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة. بيد أن ذلك مما لا يستطع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها خرجت من حد المألوف، وانسلت منه وفات سمت ما قدرت لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت تجد سبيلاً إلى حدها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلاماً تعرف حدة في البلاغة، إ لم يكن بالصنعة فبالحس. وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأنه لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قول الجاحظ في ( كتاب النبوة ) وإن كان لم يهتد إلى تعليله: ( لو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم أي العرب سورة قصيرة أو طويلة، لتبين في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها ). ولا يقذفن فيروعك أنه صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه، وتكلف ل، وتأتي لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما - لجاء منه بما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي ل ما به صار القرآن معجزاً - توهم ذلك أذي يكون من جمع النفس القوية، وكد الذهن الصحيح، والتوفر بأسباب الفطرة والصنعة على عمل هذه أمره وشأنه، فإنه - عليه الصلاة والسلام - ولو اتفق له كذلك - على فرض أن يتفق - لخرج مخرج غيره من فصحاء العرب، قولاً واحداً، لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنما نوادر الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عمل لا تبلغ فيه الحيلة، ولا يؤتيه البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تنفذ شيئاً من شيء وتهيئ مادة من مادة، بل كان ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضرب من الإلهام، يقوي بقوة الاستعداد له ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصناعة الكلامية ولو وقعوا في ملء رؤوسهم منها ولا يمكن أن تنفذ فيه قاعد التأليف البياني التي يصف البلاغة وضروبا وأسرارها، بل هو يتفق لهم اتفاقاً على غير طريقة معروفة ولا وجه يسلكونه إليه وقد يعسر على أبلغ الناس في حين قد تيسر له بأسبابه، واتجه إليه بالرغبة، وجمع عليه النفس الحريصة، وحسبه منقادً فإذا هو عنان لا يملك. ولو أن هذا الضرب كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الرؤية ويحتال عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام، لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه غصة الريق لتي لا يعتصر منها، وإنما يبعث قدرٌ، ويسيغها قدر ومع أ، الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم أن أمير كلامه، لواسطة في نظامه، والدليل على إلهامه. فهذه واحدة، والثانية أنه صلى الله عليه وسلم لو اتفق له كذلك على فرض أن يتفق لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها ن تطمع غيره في كلامه، وتجعله أبعد الأشياء عن مظنة الإعجاز بجانب الكلام المعجز، والتي من شأنها أن تزيده هو نفسه يأساً كلما تمثلت له في الكلام ورأى ألفاظه تتنفس تنفساً آدمياً، بجانب تبك الألفاظ التي تهب هبوباً كأن لها جواً فوق كون من اللغة. وليس الأمر في هذه المعارضة - كما علمت - إلى مقدار الهمة في بعدها وقصرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومهاونته، بل هو أمر فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما توجد في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغة ما بلغت ونازلة حيث تنزل، فإن كان أمر لا يوطأ له بأسبابه، لا تحدثه غير أسبابه، وما عرف الناس يوماً من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنساناً أخرج من نفسه غير ما في نفسه. ومن خواص القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصاً من طبيعته، وذهاباً عن قصده وسنته، فكلما اندفع إلى ذلك ارتد بمقدار ما يندفع، كلما رأى من تبلد على حساب ما يكده فإذا ترك ذلك حيناً فغفا من تعبه وتراجع إليه الطبع ثم عاد كانت الثانية أشد عليه من الأولى، لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس وهكذا حتى يكون هو أول من يتهم المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنها، بل يمنعها مما تنازع العمل عليه، ويردها عن وجها ويشق عليها في النزوع، ويكدر بها تكديراً يفسد عليها كل ما هي فيه من ذلك العمل، فليست تجد منه أبداً إلا متعنتاً يسومها ويحمل عليها غير ما تطيق، وليس بجد منها أبداً إلى طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صنعت عليه ونشأت فيه. فإذا طال ذلك بها، أمات حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضربها باليأس والقنوط، فذهبت منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدى طبعه فيما كان ينجح فيه، وتبدل من شأنه الأول شأناً ثانياً كيفما أداره رآه سواء غير مختلف، وذلك كله من غير ن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاج بنا إلى الزيادة منه بأكثر منه مما سلف. وضربٌ آخر من الأوضاع لتركيبية في بلاغة النبي صل الله عليه وسلم غير ما مرت مثله من ذلك النحو الذي يكون مجتمعاً بنفسه منفرداً في الكلام القليلة، وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقول اللمحة منه في دلالتها بأوسع ما أتي به الإطالة، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكون عليها كلاماً طويلاً، والوقوف عندها شأواً بعيداً وهو القليل في كلام البلغاء إلى حد الندرة التي لا يبنى عليها حكم، ولنه كثير رائع في البلاغة النبوية، لما عرفت من أسباب قلة كلامه صلى الله عليه وسلم، فإن هذه القلة إن لم تنطو على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تعد في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلها في الكلام فضلاً، ولا يعرف أمرها في البلاغة أمراً. فمن ذلك حديث الحديبية حين جاءه بديل بن ورقاء يتهدده ويحذره فقال له، إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بنلؤي، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك عن البيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، فإن شاؤوا ماددناهم مدة ويدعوا ما بيني وبين الناس فإن ظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس. .وإلا كانوا قد جموا، وأن أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي هذه ولينفذن الله أمره ). فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام ( حتى تنفرد سالفتي هذه )، وكيف تصور معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا تخاف منها لأن الكثرة فيها من لله، والاستماتة التي لا ترد معها الأمر فيها إلى الله، وانظر كيف يصف العزيمة لحذاء، وكيف تقرع بالوعيد والتهديد، وكيف تغني في جواب القوم ما لا تغنيه الرسائل الطوال، حتى لتقطع الشهادة عليها قطعاً بما في نية صاحب الجواب من عزام أمره ووثاقة عقده، فكأنها صورة واضحة لما استقر في نفسه من كل ما عسى أن يرجعه جواباً، وما عسى أن يتهيأ له في باب لحزم، وإنها لكلمة بمعركة. ومن هذا الباب قوله صل الله عليه وسلم: ( من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها تبت له عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعمله لم تكتل عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك )، فتأمل هذا التذليل العجيب، فإنك لا تقضي منه عجباً، ولن يعجز إنسان أن يهم بالخير، يفعله أو لا يفعله، وأن ينزع إلى الشر فيمسك عنه، فإن عجز حتى عن هذا فما فيه آدمية، ورحمة لله تنال الإنسان بأسباب من خيره، ومن شره إذا كان فيه الضمير الإنساني، وهذا في الغاية كما ترى.

فصل الخلوصُ والقصدُ والاستيفاء

أما فيما عدا هذين النوعين من الأوضاع التركيبية، فإن نسق البلاغة النبوية يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها، إلا وجدته في هذا النسق على مقدار من الاعتبار يفرده بالميزة، ويخصه بالفضيلة، لأن لامه صلى الله عليه وسلم في باب التمكين لا يعدله شيء من كلام الفصحاء، فلا تلمح في جهة من جهاته ثلمة يقتحم عليه الرأي منها وتنساب فيها الكلمات التي هي من لغة النقد والتزييف أو بعض هذه الكلمات، أو أضعف ما يكون من بعضها، إذ هو مبني على ثلاثة: الخلوص، والقصد، والاستيفاء. 1 - أما الأول فهو في اللغة ما علمت وفي الأسلوب ما عرفت مما وقفناك عليه وهو منفرد فيها جميعاً، لأنه لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبد الهر من ينفذ في اللغة وأسرارها وضعاً تركيباً، ويستبعد اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصميم على ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبي الجامع المجتمع على توثق السرد وكمال الملائمة، كما تراه في الكلام النبوي، وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص جميعاً إذا تصفحت وجوه كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرت ذلك بما سلف، وأبلغ الناس من وفق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه صلى الله عليه وسلم. 2 - وأما القصد والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها، ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيه ( اللفظية والمعنوية ) فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركة النفس، وكأن الجملة تخلق في منطقه صلى لله عليه وسلم، خلقاً سوياً أو هي تنتزع من نفسه انتزاعاً، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن تعطيه امرؤ حظ من التأمل إلا أعطاه حظ نفسه من العجب، وإنما تم في بلاغته صلى الله عليه وسلم بالأمر الثالث. 3 - وهو الاستيفاء الذي يخرج به الكلام على حذف فضوله وإحكامه ووجازته مبسوط المعنى بأجزائه ليس فيها خداج ولا إحالة لا اضطراب حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيباً على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السمع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمة في نفسه، في حسب ذلك التركيب، فوقع إليه تاماً بسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جموماً لا ينقطع به ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب في نفسه إحساساً لنظر معنوي. هذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تذعن لها النفوس تتصرف معها، وقلما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحج فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدربة والمزاولة إلا شيئاً يسيراً لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولة فيمن ليس من أهله كما هو في أهله، ولأمر ما قال أفصح العرب صلى الله عليه وسلم: ( أعطيت جوامع الكلم ) وفي رواية ( أوتيت ) وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله علي، فما هو اكتسابٌ ولا تمرين، ولا هو أثر من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غاية من غايات هذين في الصنعة ولوضع، وإنما هو ( إعطاء وإيتاء ) فمن لم يعط لم يأخذ، ومن لم يأت لم يكن له من ذلك كائن ولم تنفعه منه نافعة. ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه صلى الله عليه وسلم وبناء على بعضها البعض، سلم هذا لكلام العظيم من التعقيد والعي والخطل والانتشار وسلمت وجوه من الاستعانة بما لا حقيقة له وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاش في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضها، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين باب واحد. ولذلك السبب عينه كثر في البلاغة النبوية هذا النوع من الكلم الجامعة لتي هي حكمة البلاغة، وهو غير ذلك النوع قلنا فيه، مما تكون غرابته من تركيب وضعه في البيان، ثم هو أكثر كلامه صلى الله عليه وسلم كقوله:( إنَّما الأعمالُ بالنيّات ). ( الدينُ النصيحة ). ( الحلالُ بينٌ والحرامُ بيّن، وبينهما أمورٌ متشابهات ). ( المضعفُ أميَر الرّكب ). وقوله في معنى الإحسان:(. .أن تعبدَ الَله كأنَّك تراه، فإن لم تكنْ تراه فإنَّه يراك ). وقوله:( لا تجنْ يمينُك عن شمالك ),( خيرُ المالِ عينٌ ساهرةٌ لعينٍ نائمة ). ( آفةُ العلْمِ النسيان، وإضاعتُهُ أن تحدَّثَ بهِ غيرُ أهلِه ). ( المرءُ معَ من أحبّ ). ( الصبرُ عندَ الصدمةِ الأولى ). وقوله في التوديع:( أستودِعُ الله دينك وأمانتك وخواتيمَ عملِك ). إلى ما لا يحصيه العد من كلامه صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نشرحه لبنينا على كل كلمة مقالة، وهذا الضرب هو الذي عناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة، إذ عرفها بأنها: دنو المأخذ، وقرع الحجة وقليل من كثير، وهي صفات متى أصابها البليغ وأحكمها، وضع عن نفسه في البلاغة مؤنة ما سواها، ولكن إن أصابها وأحكمها. وقد علمت ما تكون وجوه الإعجاز المطلق في هذا الكلام العربي، وذلك مما وصفناه لك من إعجاز القرآن الكريم فاعلم أن نسق البلاغة النبوية إنما هو في أكثر الحد الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلام الناس من جهة وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمع لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا معجزة عليه فيما دونه، وهو عنده أبداً بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه. وقد بقيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمة من محاسن البلاغة النبوية في عقبه من أهل البيت - رضوان الله عليهم - ومن اتصل منهم بسبب - أورثهم ذلك أفصح الخلق ولادة، وجادت لهم طباعه لشريفة بهذه الإجادة، فما تعارضهم بمن يحسن البلاغة إلا كانت لهم في البلاغة الحسنى وزيادة. وبعد فإن القول ما قاله الحسين - عليه السلام -: ( لن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صل الله عليه وسلم من جمع جزء ). وقد قلنا بمقدار ما فهمنا وما شهدنا - يعلم الله - إلا بما علمنا، وتلك نعمة على المسلمين لا يكتمها إلا البغيض، ولا ينكرها في الناس إلا ذو قلب مريض، ومن جعل أنفه في قفاه فإنما السوءة أن يفتح فاه. . على أننا إن كنا قد عجزنا، ووعدنا الكلام أكثر مما أنجزنا، فلا ضير أن نصف النجم في سرا، وإن لم نستقر في ذراه، ونستدل بما رأينا منه وإن لم ننفذ فيما رواه. وإذا خطر الفكر الضئيل في مثل هذه الحقيقة السامية، فقل إنها خطرة طيف، وإذا اجتمع للقلم سوادٌ في تلك السماء العالية، فقل إنما هي سحابة صيف، ولعمر الله كيف نضرب بالغاية على تلك البلاغة التي لا تحد، وكيف نمضي بعد أن كل حد الفكر وقفنا عند هذا ( الحد ). الحمدً لله نهاية لا تزال تبدأ، وبدء لا ينتهي.

الباب الخامس

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي