تاريخ آداب العرب (الرافعي)/الرواية والرواة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الرواية والرواة

الرواية والرواة

وهذا باب من الأدب وقف التاريخ على عتبته إلى اليوم وليس من ينتسب لفتحه أو يتطوع لمعاناته أو يتقلد بعض البلية في الصبر على مكروه ذلك، حتى كأنه قطعة من الأرض سويت على دفين مضى حسابه، وكان جسمه بيت الحياة المقفر، فكل الأرض إذا أغلقت عليه بابه، على أنه - كما تعلم - ذلك الباب الذي خرجت منه اللغة منذ زمان، وكان قبل هذا الصدأ المتراكب يفتح قفله ( باللسان )، فعاد كأنه حجر سدت به الأيام على الأيام، وكأن الأدب قد تدرع منه فما تزال تندق فيه أسنة الأقلام، بيد أننا وصلنا به أسباب المطمعة، وناهضناه من حيث يهتز، وعالجناه من حيث يندفع، وأعان الله وله الحمد والمنة، فأنطق للقلم ما خرس من صريره، والآن ما قد استمر من مريره، وإذا لم نكن مددنا لك في هذا الأدب، فقد جئنا بما يوقفك على سره وصميمه، وينحرف بك عن معوج ذلك المنهج إلى مستقيمه، وآتيناك من البحث ما يكبر عن أن يعد من قليله إذا لم يعد من عظيمه.

الأصل التاريخي في الرواية

كان العرب أمة أمية، لا يقرءون إلا ما تخطه الطبيعة، ولا يكتبون إلا ما يلقنون من معانيها، فيأخذون عنها بالحس ويكتبون باللسان في لوح الحافظة، فكان كل عربي على مقدار وعيه وحفظه: كتاباً، أو جزءاً من كتاب، وكانت كل قبيلة بذلك كأنها سجل زمني في إحصاء الأخبار والآثار. ولقد رأينا كثيراً من الباحثين يزعمون أن الأصل في حفظ العرب كونهم قوماً بادين، وأن قلة مرافق الحياة التي في أيديهم كانت هي الباعث لهم على التوسع في الحفظ والمران عليه، وهو رأي لا يستقيم على النظر، ولا يصح عند التحقيق، لأن أقواماً غير العرب قد تبدوا في عصور مختلفة ولم يؤثر عنهم من نوادر الحفظ وفنونه بعض ما أثر عن هؤلاء، ولكن الصحيح كل قدمناه في غير هذا الموضع، من أن العرب قوم معنويون، ولم يجرِ من الأحكام النفسية على أمة من الأمم ما جرى عليهم، ولهذا كان لابد لهم في أصل الخلقة من الحوافظ القوية التي ترتبط مآثر تلك النفوس ارتباطاً، وإلا اختل تركيبهم الطبيعي، وانتفت الموازنة بين قواهم، فلم يقم صلاح القوم الواحدة بفساد الأخرى. وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبر ما اتسعوا فيه من المحفوظ، فإنك لست واجده إلا في المعناي النفسية، مما يرجع إلى التفاخر والتفاضل بالأحساب والأنساب، والتعاير بالمثالب والتنابز بالألقاب، ولو أن الكتابة كانت فاشية فيهم ما عدلوا إليها ولا استغنوا بها عن الحفظ، لأن سبيل تلك المعاني الطبيعية أن تجيء من أداة طبيعية أيضاً، حتى تكون عند الخاطر إذا خطر، والهاجس إذا بدر، وليس لذلك غير اللسان. والعربي إذا فاخر أو نافر لا يكون من همه أن يقنع بطريقة من المنطق يدير لها الكلام على أشكاله وقضاياه، وإنما همه أن يضع لسانه في مفصل الحجة ثم يرسلها غير ملجلجة. وكل أمة تضطر إلى شيء مما عهدناه فإنها تنزل على هذا الحكم الطبيعي، كاليونان في جاهليتهم، فقد حفظوا ما وضعوه من أنساب آلهتهم ثم قرنوا بها أنسابهم، حتى لم يكن فيهمن بيت من بيوت الشرف والحكمة إلا وهو معلق بسلسلة من النسب فرعها في الأرض وأصلها في السماء. . .وكذلك كان الرومان في أجيالهم الأولى، فإن فئة ( البطارقة ) منهم كانوا يرجعون بما يحفظونه من أنسابهم إلى أصول ليست عتيقة في الأرض. فمثل هذه المعاني لا يتكل فيها على الكتب والخطوط دون الحفظ، وعلى حسب ما كان اختلافها وتعدد أنواعها في العرب بما لمك يكن في يرهم من سائر الأجيال - كان العرب بطبيعتهم أثبت الناس حفظاً وأتمهم حافظة، وكانت الكتابة غير طبيعية في نظامهم الاجتماعي، ومن ثم نشأ فيهم الأخذ والتحمل، فكان كل عربي بطبيعته راوياً فيما هو بسبيله من أمره وأمر قومه، فلما أن اهتدوا إلى الشعر وتوسعوا فيه - وسنأتي على تاريخ ذلك في بابه - جعلوا يرتبطون به أرقى تلك المعاني النفسية، حتى صار الشاعر لسان قومه: يذود عنهم، ويدفع عن أحسابهم، ويغتمز في أعدائهم، وبهذا انفرد بمعنى تاريخي في الرواية، إذ صار كأنه إنما يروي للتاريخ، بخلاف غيره من شيخ القبيلة وأهل أنسابها والقائمين على مفاخرها، ممن يرجع إليهم في علم ذلك خاصة دون الرواية العامة، وذلك فيما نرى أصل المعنى التاريخي في الرواية العلمية عند العرب، وثبته ما كان من صنيع الرواة أنفسهم، في اتخاذهم الشعر عموداً للرواية والاستشهاد به على الخبر وسواه، واطراح كثير مما لا شاهد له منه كما سيمر بك. ولما صارت للشعر تلك المنزلة، مست الحاجة إلى من يتفرغ لرواية المفاخر والمثالب، ويتقصص أخبارها في أجذام العرب على نحو من الاستقصاء والاستغراق، كما هو الشأن في الأوضاع العلمية، فنشأت لذلك طبقة النسابين، وهم رواة الجاهلية وعلماؤها، وكان أمرهم قبيل الإسلام، ومن أشهرهم دغفل بن حنظلة، وعبيد بن شرية الجرهمي، وابن الكلبي النمري، وابن لسان الحمرة، وغيرهم، وبهذا تميزت الرواية بالمعنى العلمي.

الرواية بعد الإسلام

فلما جاء الإسلام وكان مرجع الأحكام فيه إلى الكتاب والسنة، كان الصحابة يأخذون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذاً علمياً، ليتفقهوا في الدين وليكونوا في جهة القصد من أمرهم، اختياراً للصواب، وثداً عن الخطأ، فكانت مجالسه - عليه الصلاة والسلام - هي الحلقات العلمية الأولى التي عرفت في سلسلة التاريخ العربي كله، كما كان هو صلى الله عليه وسلم أول من علّم، وأول من صدرت عنه الرسائل التي تشبه المؤلفات العلمية: كرسالة الزكاة التي أملاها وكانت عند أبي بكر - رضي الله عنه. فلما قبض صلى الله عليه وسلم، بدأ من بعده علم الرواية، إذ لم يعد من سبيل إلى الاستدلال والفصل إلا بها، حتى يكون الرأي عن بينة، وحتى تكون المعرفة بالحق عياناً، فوضع أبو بكر - رضي الله عنه - أول شروط هذا العلم، وهو شرط الإسناد الصحيح، إذ احتاط في قبول الأخبار، فكان لا يقبل من أحد إلا بشهادة على سماعه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والعهد يومئذ قريب، والصحابة متوافرون، والمادة لام تنقض بعد، لذلك كانت الشهادة على السماع في وزن العدالة والضبط وكل ما تقوم به صحة الإسناد. ثم كان عمر - رضي الله عنه - أول من سنّ للمحدثين التثبت في النقل، إذ كانت طائفة من الناس قد مردت على النفاق، وكانت الحاجة قد اشتدت إلى الرواية واعتبرها الناس بمنزلة علمية، لانفساح المدة وانتباه النفوس إلى تقادم العهد بصاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وأن هذه الآثار ستكون علم من يتخلفون عن مراتب أهل السابقة من التابعين فمن بعدهم، فكان عمر وعثمان وعائشة وجلة من الصحابة - رضي الله عنهم - يتصفحون الأحاديث ويكذّبون بعض الروايات التي تأتي ويردونها على أصحابها، ثم خشس عمر أن يتسع الناس في الرواية وقد شعروا بالحاجة إليها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، فكان يأمرهم أن يقلوا من الرواية، وكان شديداً على من أكثر منها أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد لع لعيه، لأن المكثر وإن جاء بالصحيح فقد لا يسلم من التحريف أو الزيادة أو النقصان في الرواية، وقد سمعوه - عليه الصلاة والسلام - يقول: ( من كذّب علي فليتبوأ مقعده من النار ! ). وعلى هذه الجهة من التوقي والإمساك في الرواية كان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام: كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً، كسعيد بن زيد، وهو أحد العشرة الشهود لهم بالجنة. وكان أكثر الصحابة رواية أبو هريرة، وقد صحب ثلاث سنين وعمر يبعده صلّى الله عليه وسلّم نحواً من خمسين سنة - توفي سنة 59 - ولهذا كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه، وهو أول رواية ظأتهم في الإسلام، وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه، لتطاول الأيام بها وبه، إذ توفيت قبله بسنة، غير أنه كان رجلاً فقيراً معدماً، فكان يلزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخدمته وشبع بطنه، لا يشغله عن الصفق بالأسواق ( البيع والشراء )، والتصرف في التجارات، ولا لزوم الضياع والعمل في الأموال كغيره من الصحابة، فلهذا حفظ ما لم يحفظوه، وأتى عنه من الرواية ما لم يأتِ عن غيره منهم. ثم كانت الفتنة أيام عثمان - رضي الله عنه - واضطرب من بعدها حبل الكلام في الخلافة، وخاض الناش في ضروب من الشك والحيرة والقلق، فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت، وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة قاطعة، أو دلالة قائمة، على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والإغفال، مما هو غلط لا شوب فيه من تعمد الكذب. وقد قال عمران بن حصين - وهو من الصحابة، توفي سنة 52 -: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعوا كما سمعت، شهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ا هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون. غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة، فكان الخطب لم يستفحل، حتى إذا خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقاً وجعلوا أهلها شيعاً، بدءوا يتخذون من الحديث صناعة، فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب، ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة مما يشبه أحاديث خرافة، فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل الوجوه في عصور مختلفة. أما القصاص فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيباً خارجاً عن فطر العقول، أو كان رقيقاً يحزن القلوب ويستغزر العيون، وللقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة. وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المسشنعة والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان والرومان وأساطير الهنود والفرس، ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح في العقول ولا يستقيم على النظر. وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير وما إليه.وأمثلة ذلك كله فاشية في كتب موضوعات الحديث، ولا محل لها في هذا الفصل، فإنما نريد به متابعة تأريخ النشأة الأولى لعلم الرواية، وهي إنما كانت في الحديث كما علمت.

تدوين الحديث

واستمر الحديث بعد الطبقة التي كان منها صغار الصحابة وكبار التابعين - كطبقة ابن عباس - على ما يعترض فيه من عوارض السهو والإغفال، وما يدخل عليه من الشبه والتأويلات، وعلى أن بعض الثقات ربما أخذه عن غير الثقة - حتى كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ( بويع سنة 99 وتوفي سنة 101 ) فرأى أن الحديث متعلق بأفراد الرجال وقد أسرع الموت فيهم، وأن أحدهم ربما طويت معه طائفة من الخبر إذا هو مات، وخشي تزيد الناس وشيوع الكذب إذا قلّ الصحيح، وكانت قد فشت في زمنه أشياء مما يتعمد فيه الكذب لغير مصلحة يتأول عليها: كالأحاديث التي كان يكذب فيها عكرمة، مولى عبد الله بن عباس ( توفي عكرمة سنة 105 ) وبرد، مولى سعيد بن المسيب ( توفي سعيد سنة 94 ) وغيرهما.وقبل ذلك تكلم معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي في القدر، وهما أول من فعل ذلك، وجعلا الكلام في القدر نحلة يناظر فيها، وقد وضعا شيئاً من الأحاديث، ثم كان أمر الخوارج قد بلغ الغاية، فخشي عمر عاقبة ذلك وما أشبهه، فكتب إلى أبي بكر بن حزم نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة ( توفي سنة 120 ) إن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاكتبه: فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وكان هذا أول البدء في تدوين الحديث وجمعه، إذ كتب منه أبو بكر أشياء كانت عند أفراد، ولم يكن الحديث يدون قبل ذلك، إلا ما كان يقيده بعض الصحابة، كغبد الله بن عمر وغيره، ممن رأوا أن السنن تكثر وتفوت الحفظ، فكتبوا.أما سائر الصحابة فأكثرهم أميّون، وقليل منهم يكتبون ولكن لا يتقنون الكتابة ولا يصيبون التهجي إذا كتبوا، فتركوا التدوين لذلك. ولما فشت الكتابة بينهم، كانت الصدور أوثق من الكتب، لتوافر الرجال، ولأن الحديث كان يطلب للعمل به، فكان لابد من معرفة حامله لتحقق عدالته قبل معرفة الحديث نفسه، على نحو ما مر بك آنفاً، ومضوا على هذه السنة حتى حدثت الأحداث وانصدعت الفتوق، ولقد روي عن ابن عباس أنه أنهى عن الكتابة نهياً، وقال: إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة وجاءه رجل فقال: إني كتبت كتاباً أريد أن أعرضه عليك، فلما عرضه عليه أخذه منه ومحاه بالماء، ولما شئل في ذلك قال: إنهم إذا كتبوااعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم. ثم أمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم الزهري عالم الحجاز والشام وصاحب اليد البيضاء على فن الرواية، لأنه أول من قرر شروطها ( 50 - 124ه ) فدون الحديث تدويناً مراعياً فيه شروط الرواية الصحيحة. وقيل: إن أول من جمع في الحديث لذلك العهد، الربيع ن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكالنوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن انتهى الأمر لكبار الطبقة الثالثة، وصنّف الإمام مالك بن أنس ( 94 - 179 ه ) كتاب ( الموطأ ) بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة ( توفي سنة 150 ) وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام ( ولد سنة 72 وتوفي ببيروت سنة 157 ) وسفيان الثوري بالكوفة ( 97 - 1614 ه ) وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ( توفي سنة 167 ). ونسبوا لمالك تدوين الحديث لأنه أودع كتابه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، وجاء به مع ذلك على شروط الرواية، وكان أول من فعل ذلك، وقيل إن عبد الملك بن جريج سبقه إليه. ثم شاع التدوين بعد هؤلاء فيمن تلاهم من الأئمة، كل على حسب ما سسنح له، فمنهم من رتب على المسانيد، ومنهم من رتب على العلل، بأن يجمع في كل متن من متون الحديث طرقه واختلاف الوراة فيه، بحيث تتضح علل الحديث المصطلح عليها بينهم - وسيأتي شيء منها، ومنهم من رتب على أبواب الفقه ونوعه أنواعاً وجمع ما ورد في كل نوع وغي كل حكم إثباتاً ونفياً باباً فباباً، إلى غير ذلك مما يخرجنا بسط الكلام فيه عن الكلام فيما نريد أن نبسطه، فنجتزئ بالإيماء إليه.

الإسناد في الحديث

بعد أن دونت أوائل الكتب ورأوا ما دخل على الحديث من الشبه والتأويلات، وما هجّن به من التزيد والاختلاق، صار لابد من حياطة الصحيح منه بأسماء الذين صح نقله عنهم وصح نقلهم عن رسول اله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الإسناد. وقد كانت أحوال النقلة من الصحابة معروفة، وكان الجميع مشهورين في أعصارهم، فلم يكن من باعث على الإسناد المصطلح عليه في الرواية. وكان منهم أفراد بالحجاز، ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر، فلما أدركهم التابعون أدركوا منهم عدداً، وربما كان عند الواحد ما ليس عند الآخر، وربما جاء الحديث الواحد عن طائفة منهم، فاضظر الآخذون أن يضبطوا أسانيد ما حملوه، لقد أدرك الشعبي وحده 500 من الصحابة، وهو عامر الشعبي رأس الأدباء والمؤدبين، ولد في سنة 21 على الأكثر، وتوفي سنة 107 على أوسع الأقوال، وكان يعد عالم الكوفة بين التابعين ويقرن به ابن المسيب في المدينة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام. ولما أمعن الناس في الرحلة إلى أفراد الصحابة المتفرقين في لأمصار، ومن اشتهر من التابعين من بعدهم، تعددت طرق الرواية، فمن ثم تعين على الرواة أن يبينوا إسناد كل طريقة، وابتدأ ذلك من عهد الإمام مالك بن أنس، وهو سند الطريقة الحجازية بعد السلف - رضي الله عنهم - ثم كثر طالبوا الحديث ورواته، فتشعبت الأسانيد، وصار لابد من تعديل الرواة وبراؤتهم من الجرح والغفلة، وذلك لا يتهيأ إلا بمعرفة طبقات الرجال على مراتبهم من العدالة والضبط، وكيفية أخذ بعضهم عن بعض، ومن ذلك نشأ علم الرواية، وأول من قرر شروطه الزهري كما قدما، واستمر بعده زمناً لا يعمل به إلا الثقات كما رأيت فيما ذكروه عن شيوخ مالك. ولما كانت الأحاديث معروفة، وكان لا مطمع لمتأخر أن يستدرك شيئاً منها على المتقدمين، انصرفت عناية العلماء من المتأخرين إلى تحميص ما يروى، وتصحيح الأمهات المكتوبة: كالموطأ، وصحيحي البخاري ومسلم، وضبطها بالرواية عن مصننفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها، وانصرف جماعة منهم إلى الاتساع في الإسناد، فطلبوا الحديث الواحد من طرق مختلفة قد تبلغ إلى عشرين طريقاً بأسانيدها، وكان من ذلك أن استبحروا في الحفظ واشتغلوا به، وتبسطوا في فنون الرواية وجهاتها، بما لا تتعلق أمة من الأمم، ولكل ذلك تاريخ طويل أمسكنا عن كثي ره وسيأتي قليل منه فإننا لا نقصد مما قدمناه إلا أن نتصل بمايلي:

اتصال الرواية بالأدب

ولقد جرت العرب في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، لأن الإسلام لم يهدم مما قبله إلا ما كان شركاً أو داعية إلى الشرك، فاستمرت الرواية للشعر والخبر والنسب والأيام والمقامات ونحوها، مما أثروه عن أسلافهم في أعقاب الجاهلية، بل توسعوا في بعض هذه الفنون أول عهدهم بالإسلام، لمعالجة الحجة في الرد على شعراء المشركين ممن كانوا يهاجون شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم - كما سنفصله في موضعه - وقد علموا أنهم لا يئولون من مفاخر العرب وحكمتها إلا إلى ما يحفظونه عنهم، فإذا هم أغفلوا رواية ذلك والتعلق به وارتباط ما بقي منه، لم يأمنوا أن يذهب على من بعدهم، فيفوت الناس علم ظهرت حاجتهم إليه بعد ذلك في تفسير القرآن والحديث. وكان أحفظ الصحابة للأنساب أبو بكر الصديق، وأرواهم للشعر عمر ابن الخطاب، أما أبو بكر فخبره مع دغفل النسابة مشهور، وسنومئ إليه، وأما عمر فقد نقل المبرد في ( الكامل ) في سياق المناظرة التي جرت بين ابن عباس ونافع8 بن الأزرق من زعماء الأزارقة ( قتله المهلب سنة 65 وسنأتي على ذكر هذه المناظرة في باب القول في القرآن ) أن ابن عباس بعد أن ملّ من مساءلة نافع وأظهر الضجر، طلع عمر بن أبي ربيعة عليه فأنشده من شعره قصيدةً في ثمانين بيتاً، فحفظها ابن عباس ولم يكن سمعها إلا ساعته تلك، وقال: لو شئت أن أرددها لرددتها، ثم أنشدها، فقال له نافع: ما رأيت أروى منك قط ! قال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي وكان عمر مع ذلك غاية من الغايات في الأنساب وقيافة الناس، وستعلم شرح ذلك في بابه. بيد أن كل ما حفظوه وتناقلوه لم يدون منه شيء ولم يكن فيه إسناد، لأنه لا خطر له ولا يتعلق به أمر من أمور الدنيا، با هو لا يعدو أن يكون أدباً ونافلة وباباً من التطوع، ومضوا على ذلك وهو يضيفون إليه رواية أشعار المخضرمين - الذين أدركوا الجاهلية والإسلام - حتى انقضى عهد الراشدين، دون أن تكتب قصيدة أو يدون خبر من أخبار العرب، وهم قد تركوا ذلك في السنة كما علمت.فلأن يتركوه في هذا ونحوه أولى.

أولية التدوين في الأجب

وهذا موضع بعيد المنزع منتشر الجهات، أمعنا له في البحث وأبعدنا في الطلب عن فسحة في الرأي وبسطة في الذرع وروية وأناة، حتى أمد الله بعونه وسنى لنا ويسر، فظهرنا من ذلك على مقدار يغني شيئاً في تبين نسق التاريخ ويعين على تأمله بما تتهيأ معه السلامة في الحكم ويستقل به عمود الرأي إن شاء الله. وقد رأينا أنه لم يكتب شيء مما يكون بسبيل من العلوم - غير ما سبقت الإشارة إليه من كتابة بعض الحديث - إلا في عهد كبار التابعين، وأول ما عرف من ذلك أن ابن عباس كان يكتب الفتاوى التي يسأل فيها - ثم كان أول ما كتب في الأدب صحيفة أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69 ( وقيل إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز بين سنة 99 و101 عن 85 سنة ) وهي المعروفة عند النحاة بتعليقة أبي الأسود، وفيها اختلاف بينهم نذكره في محله. ثم كان زمن معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية ( توفي سنة 60 بعد أن ولي عشرين سنة ) فوفد عليه عبيد بن شرية الجرهمي النسابة الأخباري، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وافتراق الناس في البلاد ونحو ذلك، فلما أجابه أمر معاوية أن يدون قوله وينسب إلى عبيد هذا، وكان ذلك أول ما دون في الأخبار.ولما استلحق معاوية زياداً بن أبيه ( مات سنة 53 ) وهو من الموالي، وكان قد ادعى أبا سفيان أباً وأنفت العرب لذلك ونافروه فظفروا عليه وعلى نسبه، عمل ( أي زياد ) كتاباً في المثالب ودفعه إلى ولده وقال: استظهروا بع على العرب فإنهم يطفون عنكم، وكان هذا أول كتاب وضع في المثالب.وقد رأينا في ( الفهرست ) لابن النديم أنا أبا مخنف، من أصحاب علي - كرّم الله وجهه - ألف كتاباً ضمنه بعض التراجم، فإذا صح هذا يكون أبو مخنف أول من دون في ذلك، وكان هذا الرجل صاحب أخبار وأنساب، والأخبار عليه أغلب. ويقال إن أول من ألف في السير عروة بن الزبير المتوفى سنة 93، وألف وهب بن منبه، صاحب الأخبار والقصص ( وهو من أبناء الفرس المولدين باليمن متوفى سنة 116 عن تسعين سنة ) كتاباً في الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، فكان أول من دوّن هذه الموضوعات التاريخية، ووضع بعد ذلك محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124 كتاباً في المغازي، فكان أول من دوّنها، وكتب بعده محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151 كتابه الشهير في السيرة ومزجه بالخرافات والموضوعات على نحو ما فعل ابن منبه، وجعل كل ذلك عربياً، وعدوه أول من ألّف في السيرة، لأنه وضع كتابه للمنصور، ولأنه اتسع فيه بما لم يحمل عن أحد غيره كما رأيت.ثم جاء ابن النطاح من الأخباريين في أواخر القرن الثاني، وهو أول من ألّف في الدولة الإسلامية وأخبارها كتاباً.ثم وضع الخليل بن أحمد المتوفى سنة 160 ( وقيل 170 و175 ) كتاب ( العين ) في اللغة، وهو أول كتاب جمعت فيه.وجاء ابن الكلبي النسابة المتوفى سنة 204 فدوّن أنساب العرب، وكان أول من فعل ذلك، ثم كان أبو عبيدة الراوية المتوفى سنة 211 ( وقارب المئة ) فصنّف في أيام العرب، وهو أول من صنّف فيها. هذا ما قفنا عليه من الخبر في أولية التدوين في الأدب خاصةً، دون ما استفاض بعد ذلك، ودون هنّات تركناها وستأتي في أخبار الرواة.وكل تلك الكتب لا إسناد لها على نحو ما كان في كتب الحديث. وأول من صنّف الكتب مسندة في الحديث، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي المتوفى سنة 150، ولذا عدّوه أول من صنف الكتب في الحجاز، كما أن سعيد بن أبي عمرو أول من صنّف بالعراق، لأنهم لا يعتبرون من الكتب إلا ما كان مسنداً، أما غير ذلك فلا يعدون به شأن ما كان يكتبه العلماء قديماً لأنفسهم أو لمريديهم، فإن بعضهم كانوا يكتبون ما يحدثون به في صحيفة ويعطونها للمريدين فيحدثون منها، ولذلك يقال مثلاً: إن فلاناً ثقة وبعض روايته صحيفة.ومن هنا نشأت لفظة الصحفي كما سيأتيك. على أن العلماء في أواخر القرن الأول كانوا يكتبون عن العرب ما يصيبونه من الشعر والخبر ونحوهما، ولكنهم لا يعدون مثل هذا تألياً، وقد ذكروا أن كتب أبي عمرو بن العلاء ( 70 - 159 على الأكثر في التاريخين ) التي كتبها عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتاً إلى قريب من السقف، ومع ذلك فلم يذكروا له تصنيفاً واحداً. ونظن أن أول من كتب عن العرب هو الحافظ الزهري الذي دوّن الحديث، فقد نقل الجاحظ في ( البيان ) عن أبي زياد، قال: كنا لا نكتب إلا سنة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما أحتيج إليه عرف أنه أوعى الناس.

تاريخ الإسناد في الأدب

قد علمت كيف كان بدء الإسناد في الحديث وما أمر الحاجة التي بعثت عليه وكيف انتهى إلى التدوين.أما تأريخ اتصال ذلك بالأدب فقد دللناك على أن العرب إنما جرت في إسلامها من أمر الشعر والخبر والنسب ونحوها على مثل عاداتها في جاهليتها، فلا جرم أنهم كانوا ينسبون أكثر ما يتناقلونه إلا أن النسبة غير الإسناد فيما النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المروي، حتى يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة، كالدعوى التي تتلقى بثبتها من البينة، وهذا لا يستقيم إلا إذا صارت الرواية صناعة علمية، ولم يكن في العرب شيء من ذلك بالتحقيق، إلا بعد قيام دولة بني مروان حين اتخذوا المؤدبين لأولادهم، وذلك هو العهد الذي تسلسل فيه إسناد الحديث أيضاً لتشعب طرقه كما أومأنا إليه من قبل. وأول إسناد عف في الأدب كان علمياً بحتاً، وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه في العربية وأشرنا إليه.ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لابد فيها من الإسناد وإن كان قصيراً لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خيف على لسان العرب من الفساد ومست الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والاستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك - نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها: كماد الرواية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما.وصارت الرواية علمية محضة.وبهذا تحقق معنى الإسناد فيه الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب. ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعاً إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشتبه من غريب القرآن والحديث، حتى لا تجد فيهم البتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدثون يرون أنه ليس براوٍ عندهم من لم يروِ من اللغة، لأن موضوع الحديث أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا بما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مروياً بسنده أو مأخوذاً عمن يسنده، انتفاءً مما عسى أن يرموا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالفقه والبراعة في الفتيا مفتقرة إلى الأصلين: الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي - رحمه الله - قال: إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه. وقد رأت تلك الطبقة التي أشرنا إليها أن ما بعث على الإسناد في الحديث قد تحقق في الأدب، من افتعال اللغة والتزيد في الأخبار والصنعة في الشعر وأرادوا أن يطرد علمهم من ينبوع واحد، فجعلوا الصنفين سواء في الرواية وأوجبوا الإسناد فيهما جميعاً. ولم يكن الإسناد واجباً قبل ذلك على نحو ما هو في الحديث، وأنت تعتبر هذا بأن كل أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم إنما تنتهي إلى الطبقة الأولى فحسب، كأبي عمرو بن العلاء، وحماد الرواية، وغيرهما ممن تصدروا للرواية وكانوا ظهور هذه الصناعة في شيء من الشعر والخبر، وإنما يكتفون بالنسبة إلى أولئك، لأنهم في أول تاريخ الرواية، ولأنهم جميعاً يزعمون أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية، لأنه كان كل ما في أيدي الرواة. ولم نعثر في كل ما وقفنا عليه على سند إحدى الروايات يتصل بالجاهلية، وإنما وقفنا من ذلك على شيء لبعض الشعراء، كالذي نقله علي ابن حمزة في كتاب ( أغلاط الرواة ).قال إن رؤبة بن العجاج الراجز ( توفي سنة 145 ن سن عالية ) سئل عن قول أمرئ القيس:

نطعنهمْ سيلكى ومخلوجةً

كركَ لامين على نابلِ

فقال: حدثني أبي عن أبيه، قال: حدثتني عمتي، وكانت في بني دارم، قالت: سألت امرأ القيس وهو يشرب طلى ( خمراً ) له مع علقمة بن عبدة، ما معنى قولك كرك لامين ؟ قال: مررت بنابل وصاحبه يناوله، فما رأيت أسرع منه، فشبهت به. وخبر آخر، وهو ما نقلوا عن حماد الرواية أنه قال: كانت للكميت ( الشاعر المتوفى سنة 126 ) جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية: فإذا شكّ في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، فمن هناك كلمة علمه. والله أعلم بأمر هاتين الروايتين وأين تقعان من الصحة.

فائدة الإسناد إلى الرواة

مما تقدم تعلم أنه لولا الحديث لما خلصت اللغة، ولجاءت مشوبة بالكذب والتدليس، ولفسد هذا العلم وما بني عليه، وذلك قليل من بركة رسول الله صلّى الله عليه وسّلم ونضرته، غير أنا رأينا قوماً ممن يردون على الرواية ويتحكمون على السماع بالغرض مجرداً من النصفة، وبالرأي مستهترين به دون أن يجعلوا له نصيباً من التثبت والتوقي - يجحدون فائدة الإسناد ولا يرون له خطراً كبيراً، ثم لا يجدون في سلسلة تلك الأسماء التي توصل بها الأخبار إلا لغواً تاريخياً.ومنهم من يرى أن ذلك إنما جاء من أثرة الرواة ومحبتهم أن تبقى أسماؤهم مذكورة متدارسة، فكأنهم دسّوا تراجمهم في العلوم لتبق ببقائها، وأن ذلك من حبائل ثفقهم وفطنتهم. . .إلى آخر ما يعقدون فيه أعناقهم من مثل هذه الآراء التي يموهون بها على قصار النظر وذوي العقول المدخولة، وهؤلاء وأشباههم كمن ينظرون إلى الدوحة الباسقة من أعلاها فيحبسونها قد نبتت من السماء، لأنهم لم يستقروا تاريخ الإسناد، ويظنون أن هذه العلوم المسندة قد دفعت للناس على الكفاية ووقعت إليهم على قريب من التمام، فهي هي في الكتب وفي الصدور، لم يعترضها عارض ولا دخل عليها وهن ولا فساد. وفريق آخر رأيناهم ينكرون كل ما جاءت به الروايات ويتهمون الكتب ويطعنون على الإسناد، ومن غريب التناقض في أمر هؤلاء أن في نفس اعتراضهم الجواب عليه، فهم يقولون إن الخبر من الأخبار لا يثبت إلا عن رؤية حتى تكون حكايته على يقين، فإذا عارضتهم بخبر وناظرتهم فيه قالوا لك: هل رأيت ؟ ها شهدت ؟ هل لقيت صاحب الخبر، وليت شعري، هل غاية الإسناد أن تكون كأنك رأيت وشهدت ولقيت صاحب الخبر الذي تسنده ؟ وهل هو - الإسناد - إلا تحقيق المعاصرة التي هي الشرط في ثبوت الرواية حتى كأنك أشهدت الزمان على صحة ما ترويه، لأن كل رجل في سلسلة الإسناد إنما هو قطعة من الزمن تتصل بقطعة إلى قطعة حتى يتهيأ من ذلك مسلك التاريخ ويتضح نهجه كأنك تبصره على رأي العين ويقين الخبرة.

حفظ الأسانيد في الحديث

وقد عني المحدثون بعلم الرجال أتم عناية وأكملها، بحيث لا يتعلق بغبارهم في ذلك الشأو مؤرخو الأمم جمعاء حتى جعلوا الإسناد عاليه ونازله كأنه علم الأخلاق التاريخي، قد رتبوا فيه الرجال على طبقاتهم، وأنزلوهم على المراتب المتفاوتة من العدالة والضبط، ووزنوهم في كفتي التجريح والتعديل، وحاسبوهم على كل دقيق وجليل - وبحثوا فيما كان من أمرهم على العزيمة وما كان على الرخصة، وحفظوا أسماءهم وتبينوا صفاتهم، وتصفحوا على أخلاقهم، كما يعرف الرجل الحكيم مثل ذلك من بنيه وأقرب الناس إليه. وهذا شأن لا تصوره الكلام، ولا يصفه إلا النظر في كتبه المدونة، كالكتب الموضوعة للطبقات والموضوعات وشروح الأمهات من كتب الحديث، كصحيح البخاري ونحوه.( )وقد قال دغفل بن حنظلة: ( إن للعلم أربعاً: آفة، ونكداً، وإضاعة، واستجاعة، فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لم تشبع منه ).قال الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرواة، ولأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبر ما قد دونوه، كان ذلك الازدياد داعياً إلى النقصان، وذلك الربح سبباً إلى الخسران. . .أ ه.والازدياد الذي وصفه كان شأن طائفة من العلماء انصرفوا إلى حفظ الأسانيد وطلبوا الحديث الواحد من طرق كثيرة، رغبة في تنوع أسانيدها، لا لفائدة إلا التميز بهذا النوع من الحفظ، فإنه بعد أن اتسعت فنون الرواية أخذ أهلها في مذاهب التخصيص، فبعضهم كان أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ لمتون الألفاظ، وكا طائفة إنما تشارك غيرها فيما تعلمه وتنفرد دونها بما عرفت به، ليكون إلها المرجع فيه.ولكن أغرب ما وقفنا عليه مما يتعلق بالاتساع في حفظ الأسانيد، ما ذكروه من أن ابن الأنباري المتوفى سنة 327 كان يحفظ 120 تفسيراً للقرآن بأسانيدها، وهو الذي قيل فيه إن من جملة تصانيفه كتاباً في غريب الحديث يقع في خمسة وأربعين ألف ورقة، وله أخبار أخرى من نوادر الحفظ نذكر بعضها في محله.وهذا الرجل لو سمع أو قرأ مائتي تفسير بأسانيدها لحفظها، فإنه كان آية من آيات الله في الوعي وقوة الحافظة. وبعد أن ضعف علم الرواية واقتصروا في الحديث علة ما لابد منه، كان لا ينبغ من حفاظ الأسانيد المتسعين فيها إلا الأفذاذ الذين تعقم بهم الأزمنة المتطالولة، ومن أشهرهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية الأندلسي المتوفى سنة 533، وقد انفرد هذا الرجل بحفظ حواشي اللغة، حتى صار عنده مستعملاً، وامتاز بذلك في المتأخرين، كما انفرد بحفظ الأسانيد، حتى إنه لما حضر إلى مصر في دولة بني أيوب - أيام الملك الكامل - جمعوا لع علماء الحديث فذكروا له أحاديث بأسانيد حوّلوا متونها ليعرفوا مبلغ حفظه فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية وردها إلى أسانيدها الصحيحة. وكان مثل هذا يعد غريباً في القرن الثالث، والحفاظ متوافرون، والأسانيد قريبة الأطراف، فإن علماء مصر الذين امتحنوا أبا الخطاب إنما حذوا في ذلك حذو علماء بغداد في امتحان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب ( الصحيح ) المتوفى سنة 256 - رحمه الله - فقد نقل كثير أنه قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقبلوا متونها وأسانيدها، وجعلوا من هذا الإسناد آخر، وإسناد هذا لمتن آخر، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، امتحاناً لحفظه، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من العشرة التي حفظها، فقال: لا أعرفه ! واستمروا يسألونه وهو يقول: لا أعرف ! حتى أتوا على المئة ! فلما علم أنهم فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت فيه كذا وصوابه كذا، واستمر حتى أتى على تمام العشرة، ثم فعل بالآخرين مثل ذلك، ما يخطئ ترتيب حديث على غير ما ألقي عليه، ولا في نسبة حديث إلى غير صاحبه الذي ألقاه، وهو في كل ذلك يرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، فأقر الناس له بالحفظ.وقيل إنه كان بسمرقند أربعامئة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطته، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة، لا في الإسناد ولا في المتن، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

حفظ الأسانيد في الأدب

ذلك شأن الإسناد في الحديث وعنايتهم بحفظه، أما الإسناد في الأدب فلا يراد منه إلا توثيق الرواية وإثبات صحتها وضمان عهدتها، لا أن يطلب الرواية بذكر الإسناد حكاية ما يرويه على أنه عن معدل، وإثبات ما يسنده على أنه إلى مقنع، فإن اللغة ترجع إلى أقيسة معروغة، وإن ما شذ عن هذه الأقيسة موضوع قطعاً إلا أن يحمل عن الثقة، أو ينفرد به أهل الكفاية فيوردونه على أنه من الأفراد والنوادر، إن الشعر والخبر قد فشا فيهما الكذب والتوليد منذ القرن الأول، ونشأ كثيرون من الرواة يشدون من العلوم الموضوعة، وينفقون من الأخبار المكذوبة، ويموهون بموج هذه الأمور على الناس، ويخترعون الأشعار الكثيرة عند مناقلة الكلام وموازنة الأمور، ومع ذلك فلم يعن بأمرهم أهل التفيش والتحقيق من العلماء، إلا حيث يكون الخبر أو الشعر مظنة الشاهد وموضع المثل، فهناك يضربون دونه بالإسناد، مخافة أن يجري في شيء من العلوم التي هي قوام الأصلين من الكتاب والسنة، فحيث وجدت المعنى الديني تجد التثبت والتحقيق الذي لا مساع فيه إلى خطرات الظنون، فضلاً عن فرطات الأوهام، ومتى انتفى هذا المعنى عن شيء فأمره عندهم بحساب ما يدور عليه.وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبره بما وضعه العلماء من ترجمة الإمام البخاري ونقد كتابه، فما رأينا في الإسلام كتاباً استوفى شروط النقد الصحيح كلها كهذا الكتاب، ولو أنهم تناولوا ببعض تلك العناية كبار الرواة وفحول الشعراء ونوابغ الكتّاب، لكانت العربية اليوم أغنى اللغات آداباً اللغات آداباً وأمتنها أسباباً وأوسعها في تاريخ الآداب كتاباً، ولكن الأدباء لم يجنوا من ذلك إلا ثمرة المراء ونكد الخلاف، ولم يحصلوا إلا الأشياء القليلة مما يتعلق باللغة، لأنها موضع الشاهد، وذلك من أمرهم كما أومأنا إليه، بل كان أهل الشعر منهم يرون أنهم أضاعوا العمر في الباطل، ولم يحلوا من ثواب الأعمال بطائل. والأسانيد في الأدب قصيرة، لأن الرواة ما زالوا يحملون عن العرب قروناً بعد الإسلام على ما سبق لنا بيانه في الباب الأول، ومن حمل شيئاً فهو سنده، ثم إن الرواية قد درست بعد القرن الخامس على أبعد الظن، ولم يبقَ إلا بعض الأسانيد العلمية كما سيجيئ فكان عمر الإسناد ثلاثة قرون على الأكثر، دع عنك ما كان من شأنهم في هذا الإسناد، فإن الصدور منهم يكتفون بالنسبة غالباً - وهي بعض طرق الرواية كما ستعرفه - فيقولون: روي عن فلان، وحدثنا عن فلان، ويكون بين الرواي والمروي عنه جيلان وأكثر. بيد أن كل ذلك لا يدفع الثقة بما يرويه أهل الضبط والتحصيل منهم، وهم قوم معدودون يعرفونهم بالعدالة، ثم لأنهم يأخذون عن الثقات، ولأن أكثر ما يرونه لا وجه للخلاف فيه، وإذا اختلفوا في شيء فلا يكون ذلك قادحاً فيهم، لأن مظنة الخلاف إنما تكون في ضعف الرواية أو الراوية، وسيأتي شرح ذلك فيما يأتي:

أصل التصحيف

وقد قلنا إن الإسناد في الحديث استتيع الإسناد في الأدب، وذكرنا في أخذ المحدثين عن الصحف أنهم يغمزون بذلك، وإن كان ما في الصحيفة صحيحاً، فيقولون مثلاً: إن فلاناً ثقة وبعض روايته صحيفة، وقد جرى أهل الأدب في أمر الإسناد على ذلك أيضاً.وأصل التصحيف رواية الخطأ عن قراءة الصحف باشتباه الحروف، فقد كانوا يكتبون في القرن الأول بدون نقط ولا شكل، يفعلون ذلك في المصاحف وغيرها، فكان الذي يأخذ القرآن من المصحف ولا يتلقاه من أفواه القراء تشتبه عليه الحروف فيصحف، وغبر الناس على ذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان، ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط، فغبر الناس زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، وكان أبو الأسود الدؤلي قد وضع النقط قبل نقط نصر لضبط الحروف - شكلها - فاشتبه الأمر واستمر يقع التصحيف، قأحدثوا الإعجام - أي الشكل بالحركات على ما أرادوه في أول التعبير بذلك - فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.ولكن ذلك لم يكن مستقصى في كل ما يكتب ولا مان كل من يقرأ يستقصي ضبط الكلمة ونقطها، فلم يزل يعتري التصحيف، فالتمسوا حيلة فلم يقدروا على غير الأخذ من أفواه الرجال، وكان ذلك كله قبل أن تستبحر فيهم الرواية، فلهذا وأشباهه قالوا: لا تأخذوا القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي !ولما استجرت لهم أطراف الرواية وكثر التدوين، كان أشد ما يهجى به الرواية إسناده إلى الصحف، لأن ذلك غميزة في ضبطه وتحصيله، ولأن الرواة كانوا يتفاوتون بمقدار ما يصحفون أو يصححون، ولا يكون التصحيح إلا ببلقاء العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم المتقنين لما حفظوه والإسناد إليهم، وقد هجا بعض الشعراء أبا حاتم السجستاني المتوفى سنة 250 وهو واحد عصره في فنه، فلم يزد على أن قال في عيبه والزراية عليه:

إذا أسندَ القومُ أخبارهمْ

فإسنادهُ الصحفُ والهاجسُ

وأورد العسكري في موضع من كتابه ( التصحيف ) شرح بيت لابن مقبل، فنبه قبل إيراده على أنه كتبه من كتاب لبعض العلماء، قال: ( ولا أضمن عهدته، لأني لا أعتد إلا بما أخذته رواية من أفواه الرجال أو قرأته عليهم ). فلما كان القرن الخامس وابتدأت الرواية تعفو وتجود بأنفاس أهلها، بعد أن تميزت العلوم ووضعت فيها الكتب الكثيرة ودوّنت روايات الصدور المنقدمين - ضعف أمر الإسناد شيئاً غير قليل، ولكن بقيت فيه يتماسك بها، حتى إن أبا محمد الأعرابي المعروف بالأسود العلامة النسابة الذي تصدر في القرن الخامس للرد على العلماء والأخذ على القدماء كان لا يستطيع أن يوري بغير إسناد، فكان يسند إلى رجل مجهول يسميه ( محمد بن أحمد أبا النداء ) وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: من أبو النداء في العالم ؟ لا شيخ مشهور ولا ذو علم منشور !

إسناد الكتب

ومن يومئذ صار الإسناد مقصوراً على تلقي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها، لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل وكان أمرهم قد أختل، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئاً، وذلك ما سميناه آنفاً بالأسانيد العلمية.وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفاً من أول عهد التأليف، ولكنه لم كين مما يتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفى سنة 335 يتباهى عظيماً بكتبه وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع ! وقد هجي بذلك لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد. ومن ثم صاروا يطلقون لفظ ( الصحفي ) على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عالوا الحسن بن أحمد النحوي ( في أواخر القرن الخامس ) وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صحفياً. وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة 585 آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكلة بنفسه، ويراجع في غامضة ثادق حسه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال له: أنت صحفي ! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من أربيل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج وكثيراً من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام. ومن كان ثقة مسنداً للكتب وفاته إسناد كتاب مما يعده الناس من الأمهات والأصول، عدوه متساهلاً في الرواية، وقد نقل ياقوت أن علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي ( من صقلية ) إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة 515، لما قدم إلى مصر سأله نقاد المصريين عن كتاب ( الصحاح ) فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب لهم إسناداَ وأخذه الناس عنه مقلدين له.ولهذا قلما كان ظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد، وقد ذكروا أن بعضهم كان يقرأ المقامات على الحريري ( توفي سنة 516 ) فوصل إلى قوله:

يا أهلَ ذا المغنى وقيتمْ شراً

ولا لقيتمْ ما بقيتمْ ضرَّا

قد رفعَ الليل الذي اكفهرا

إلى ذراكمْ شعثاً مغبرّا

فقرأها ( سغبا معترا ) ففكر الحريري ساعة ثم قال: ( والله لقد أجدت التصحيف، فرب شعث مغبر غير سغب معتر، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت على لفيرته كذلك ! ). ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب الهربية معروفاً عند كبار العلماء إلى اليوم.

الحفظ في الإسلام

بسطنا في أول الكلام ما حضرنا من أسباب حفظ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ونريد هنا أن نذكر تأريخ الحفظ بعد ذلك ؛ فإنه كان مادة الرواية ومدارها، ولقد رأينا كثيراً من أهل عصرنا يمضغون علماء العرب مضغاً، ويلوون ألسنتهم بعبارات من الإزراء على ما وردت به الرواية من أبناء حفظهم، لا يعجبون في أنفسهم من أن يكون ذلك صدقاً فحسب، ولكنهم يعجبونك من كذبه، وينبهونك على سخافة المغالاة فيه بزعمهم، لما يشق عليهم من النزوع إلى مثله والأخذ في ناحيته، ولقصر نظرهم عن الطموح إلى بعض مراتبه فيأتونك بالكلام اعتسافاً، ويتخرصون بالأحكام جزافاً، ويزعمون أن أكثر ما روي عن علمائنا في الحفظ فهو إما تنفيق لهم في سوق التاريخ، أو تلفيق عليهم في مساقه، ولو أنك اعترضت الحجة في مدارج أنفاسهم لرأيتها هواء، أو كلاماً هراء: فهم يقيسون على ما في طباعهم من الكلال، وما في أنفسهم من الهوينا والوكال، ثم هم قوم لا يكشفون عن أسباب الحوادث العربية، ولا ينفذون بين معاقد تلك الأمور ومصادرها، وقد جهلوا تاريخ الرواية، وجهلوا معه الأسباب التي بعثت من تلك الهمم سوابق غاياتها، وأظهرت لها معجزات الحفظ خوارق آياتها، ورفعت للأجيال على قمة التاريخ العقلي خوافق راياتها، فهؤلاء لا تزيد على أن نقول فيهم: هؤلاء. وليس تاريخ العرب وحدهم هو الذي امتاز بنوابغ الحفاظ، بل الحفظ موجودٌ من أقدم أزمنة التاريخ، لأن الحافظة كانت وحدها عند القدماء كتاب التاريخ والتقاليد والشرائع والآداب وما إليها، فكانت هي صورة الفكر الإنساني على الحقيقة، وقد ذكروا من قدماء الحفاظ ( متيريداتس ) الكبير الذي كان ملكاً على الشمال من غربي آسيا الصغرى في القرن الأول قبل الميلاد، فقالوا: إن هذا الملك كان يحكم على اثنتين وعشرين أمة مختلفة، وزعموا أنه كان يخطب على كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، وذكروا مثل ذلك عن ( قورش ) ملك الفرس و ( سيبيون ) الآسيوي، والإمبراطور أدريان وغيرهم، وهذا أمر لا ينقطع في عصر من العصور، فإن من الناس من تكون أذناه وعيناه أبواباً للتاريخ، فلا يسمع أو يقرأ شيئاً إلا حفظه ثم لا ينساه، وفي أوروبا وأمريكا لعهدنا شواهد كثيرة لا نطيل باستقصائها فإن أحداً لا ينكرها. بيد أن تاريخ العرب إنما امتاز بسعة مادة المحفوظ وتنوعها، وبالأسباب الدينية التي بعثتهم على الحفظ، مما أومأنا إليه في محله، ومن القواعد المطردة التي تبيناها من البحث في التاريخ العربي، أن كل شيء للعرب إذا تعلق به سبب من الدين جاءوا فيه بالمعجزات التي يبزون فيها الأمم كافة ويجعلونها من أنفسهم طبقة التاريخ وحدها، ولم نر هذه القاعدة تخلفت في أمر من أمورهم، وهي بعض ما خص به هذا الدين الحنيف الذي وجد العالم في كتابه الكريم معجزته الخالدة. وبعد: فإن الحافظة نفسها تتفاوت درجاتها في الناس، وتتفاوت في أدوار الحياة للشخص الواحد باعتبار الأسباب الوراثية والآفاق والعلل وما يكون من الإهمال والاستعمال، كما تختلف قوة وضعفاً في بعض أنواع المحفوظات دون بعضها، على حسب ما ركب في الفطرة وما تمس إليه الحاجة، فليس ما يحفظه الرياضي، بالذي يستطيعه المحدث أو اللغوي، ولا حفظ هذين كحفظ غيرهم من أهل الطبقات الأخرى وهلم جراً.وإن نوادر الحفظ التي تروى عن العرب إنما جاءت عن أفراد رزقوا سمو هذه القوة الطبيعية، وتفرغوا لها برهة العمر مما يشغل الذرع، ويملك الطاقة ويقسم القلب، ويشعث الفكر، فلم يكن من العجيب أن يحفظوا ما حفظوه، ولكن العجيب أن لا يكونوا قد حفظوا أكثر من ذلك، فأولئك قوم هيأهم الله لما برعوا فغيه بالأسباب الآخذة إليه، والعلل المقصورة عليه، فاجتمعت له أنفسهم، وتوفرت قواهم وفرغت أذهانهم، حتى لم يكن من هم أحد إلا أن يرى نفسه شخصاً للعلم الذي هو بسبيله، فيقال فلان صاحب الفن والفن هو فلان. دع عنك ما كان على الناس من مؤنة الكتابة في القرن الأول وبعض الثاني إذا ابتغوا أن يتكلوا على الخطوط ويدونوا ما يقع إليهم من فنون العلم تدويناً يغنيهم عن الحفظ ويجزئ ما تجزئه المؤلفات المعدة للمراجعة والتصفح، إذ كانوا إنما يكتبون على الرقاع واللحاف ( حجارة بيض رقاق عراض ) وعسب النخل والجلود والعظام ونحوها، مما يأتي على ما فيه أيسر أسباب التلف أيها كان، واستمروا يكتبون بعد الإسلام على الجلود والرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، وعلى الورق الصيني وغيره نادراً، إلى آخر عهد الأمويين، فلما كان زمن ( السفاح ) أول الخلفاء العباسيين ( توفي سنة 136 ) غير وزيره خالد بن برمك ( توفي سنة 163 ) الدفاتر من الأدراج ( لفائف الجلد ) إلى الكتب، ولكنها كانت كتباً من الجلد، وبقيت كذلك حتى إذا اتخذ الفضل بن يحيى البرمكي هذا الكاغد ( الورق ) وأشار بصناعته، فشاعت الكتابة فيه مع الجلود والقراطيس وأصناف أخرى من الورق الصيني والتهامي والخرساني، واتخذ الناس من ذلك الصحف والدفاتر، ومن ثم تمت لهم أدوات التأليف، ولكن بعد أن استبحرت فنون الرواية ودرج أهلها على الحفظ ورأوا فيه صلاح الأمر وسداد الرأي وبلغوا منه كل مبلغ، وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك في الرق لكثرة الحفظ وقلة الرسائل السلطانية والصكوك، فلما طما بحر التأليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه ضاق الرق عن ذلك فلم يكن لهم بد من تلك الصناعة. ويبتدئ تاريخ الحفاظ المعدودين في الإسلام بعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فقد كان لا يدور في مسمعيه شيء إلا وعاه وأثبته، وقد مر بك الخبر الذي رد فيه قصيدة ابن أبي ربيعة ولم يكن سمعها إلا تلك المرة صفحاً، فلا جرم أن كان صدره - رضي الله عنه - خزانة العرب، إليه مرجعهم في التفسير والحديث والحلال والحرام والعربية والشعر، ولو صحت نسبة ما رواه بعض الرواة عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس من أنه قال: إنه يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء.لكان ابن عباس صاحب السبعين الأولى في الإسلام، أما إن كان الخبر من أكاذيب عكرمة، فيكون قد وصف به أستاذه ابن عباس أصدق الوصف. ثم كان بعد ابن عباس الشعبي من التابعين، وكان يقول: ما كتبت سواداً في بياض إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد بحديث قط إلا حفظته ! وفشا الحفظ في كثير من طبقة التابعين، وإنما نوهنا بالشعبي لأنه أوحدهم في حفظ الأدب، كما أنه أوحدهم في حفظ الحديث، وقد صار في التفنن مثلاً دائراً على الألسنة، وكان يقول: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهراً ثم لا أعيد بيتاً واحداً. وما أظلهم القرن الثاني حتى كثر الحفاظ واتسعوا في فنون المحفوظ، وخاصة بعد أن نشأ الإسناد واشتغلوا بطرقه، والإسناد إنما يعتبر به اتصال السماع، فهو راجع إلى التلقي والتلقين، ونحن نرى أنه لولا حفظ الحديث ما اشتغلوا بالإسناد، ولولا الإسناد ما ثبتوا على الحفظ، وقد وجدا في الرواية جميعاً وذهبا جميعاً. وبعد، فقد كان التدبير عندما أجمعنا النية على كتابة هذا الفصل، أن نفيض في ذكر الحفاظ جيلاً بعد جيل إلى سقوط الرواية، ثم نستقصي أسماء من اشتهروا منهم بعد ذلك إلى هذه الغاية ممن وقفنا على أخبارهم في بطون الكتب، ولكنا رأينا الشوط بطيناً والمادة حافلة وفي دون ذلك بلاغ، فاجتزأنا بالنتف والنوادر مما يتعلق بالأدب دون الحديث، تفادياً من أن يعد ذلك منا في الحشد والاجتلاب، وتوسعاً من الضيق في هذا الباب. ذكروا عن حماد الراوية المتوفى سنة 155 ( وهو أول من خصص بلقب الراوية من الأدباء ) وكانت ملوك بني مروان تقدمه وتؤثره وتسني بره: أن الوليد بن يزيد قال له يوماً: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية ؟قال: بأني أروي لكل شاعره تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا ينشدني أحدٌ شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. قال: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظه من الشعر ؟قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة سوى المقطعات من شعر الجاهلية. قال: سأمتحنك.وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين. وروي عن الطرماح الشاعر أنه قال: أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي:

بانَ الخليطُ بسحرةٍ فتبدّدوا

وهي ستون بيتاً، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: هذه لك ؟ قلت: نعم ! قال: ليس الأمر كذلك ! ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها في وقته، فقلت له: ويحك ! إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد ! فقال: قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي. . .فقلت: لله علي حجة أحجها حافياً راجلاً إن جالستك بعدها أبداً !وكان الأصمعي ( المتوفى سنة 215 ) آية في سرعة الحفظ والتعلق: كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وذكروا أنه قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب، فأحضر أبا عبيدة، والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي، وأبا بكر النحوي، فابتدأ الحسن فنظر في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهعم فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة، ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل عليهم فقال: قد فعلنا خيراً ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية، فنأخذ الآن فيما نحتاج إليه، فأفاضوا في ذكر الحفاظ، فذكروا الزهري، وقتادة، ومروا، فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة هاهنا من يقول إنه ما قرأ كتاباً قط فاحتاج أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه ؟ فالتفت الأصمعي وقال: إما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك ما حكى، وأنا أقرب إليك: قد نظر الأمير فيما نظر من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعةٍ رقعة !قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا، فوقع له بكذا، والرقعة الثانية، والثالثة، حتى مر في نيف وأربعين رقعة، فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين ! فكف الأصمعي. وكان أبو محلم الشيباني المتوفى سنة 248 لا ينسى شيئاً، حتى قيل فيه إنه صاحب السبعين لعهده، ولما قدم مكة لزم ابن عيينة فلم يكن يفارق مجلسه، فحدث أنه قال له يوماً: يا فتى، أراك حسن الملازمة والاستماع، ولا أراك تحظى من ذاك بشيء ! ( قال أبو ملحم ): قلت: وكيف ؟ قال: لأني لا أراك تكتب شيئاً مما يمر ! قلت: إني أحفظه ! قال: كل ما حدثت به حفظته ؟ قلت: نعم ! فأخذ دفتر إنسان بين يديه وقال: أعد علي ما حدثت به اليوم.فأعدته فما خرمت حرفاً، فأخذ مجلساً آخر من مجالسه فأمررته عليه، فأورد حديث السبعين عن ابن عباس، وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين !وسأل الواثق يوماً أبو ملحم هذا عن شاهد من الشعر فيه ذكر الموت ( وهو القفر الذي لا نبت فيه ) فأفكر طويلاً حتى أنشد بعض الحاضرين بيتاً لبعض بني أسد، فضحك أبو ملحم ثم قال للذي أنشده: ربما بعد الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، والله لا تبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة بيت معروف لشاعر معروف في كل بيت منها ذكر الموت. وكان بندار بن عبد الحميد ( وهو معاصر لأبي ملحم ) لا يشذ عن حفظه من شعر الجاهلية والإسلام إلا القليل: ذكروا أنه يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة منها: بانت سعاد. وكان ابن دريد المتوفى سنة 321 أحفظ الناس أسعهم علماً، تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها من حفظه، وقد تصدر في العلم ستين سنة. وأبو بكر الأنباري المتوفى سنة 327، فقد كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر شاهداً في القرآن، وكان لا يملي إلا من حفظه، ومرض يوماً فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمراً عظيماً، فتطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتباً وأعجب ما عرف من أمره أن جارية للراضي بالله سألته يوماً عن شيء في تعبير الرؤيا، فقال: أنا حاقن ! ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني وجاء من الغد وقد صار معبراً للرؤيا. وللمتأخرين من بعد القرن الخامس ولوع بحفظ الكتب، لأن الحفظ خلف الرواية من ذلك العهد، فقامت الكتب مقام الرواة أنفسهم، ومن أعجب ما يروى من ذلك أن الملك عيسى بن الملك العادل الأيوبي سلطان الشام المتوفى سنة 604 أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه ( محمد وأبي يوسف ) فجردوه في عشرة مجلدات وسموه، ( التذكرة ) فكان يديم قراءته ولا يفارقه حتى حفظه، وذكروا أنه كتب على جلدٍ منه: حفظه عيسى ).وهذا الملك هو الذي شرط لكل من يحفظ ( المفصل ) للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة. وكان علماء الأندلس يتهافتون على حفظ الكتب، وخاصة كتاب سيبويه في النحو، وأخبارهم في ذلك مستفيضة. بيد أن من أعجب ما وقفنا عليه من تاريخ الحفظ في المتأخرين وفي البلاد التي يكون أهلها بالفطرة أبعد عن العربية وآدابها، ما ذكره صاحب ( الشقائق النعمانية ) منه أنه كانت في بلاد قرامان - لعلها القريم - مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة، شرط بانيها أن لا يدرس فيها إلا من حفظ كتاب ( الصحاح ) للجوهري، وذلك في أواخر القرن الثامن، وهي مدرسة نشأ منها علماء على مذاهب من التحقيق، ويظهر أنه كان لعلماء الروم عناية بالصحاح، فقد أورد صاحب الشقائق في موضع آخر في ترجمة المولى المشهور بالمليجي ( في النصف الأخير من القرن التاسع ) أنه كان يحفظ ( الصحاح ) وكان يرجع إليه إذا شكلت كلمة منه فيقرأ ما يتعلق بتلك الكلمة من حفظه. على أن خاتمة حفاظ اللغة في المتأخرين بلا نزاع، إنما هو الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس المتوفى سنة 817، فقد كان سريع الحفظ آية في الذكاء، وكان يقول: لا أنام إلا بعد أن أحفظ مائتي سطر، وكانت ولادته سنة 729 فلو قضى قريباً من نصف هذا العمر لا يحفظ كل يوم إلا ما شرط على نفسه على أن يهمل أياماً كثيرة، لكان مبلغ حفظه مائة ألف ورقة أقل ذلك، وعلى أن هذا المحفوظ ما يختاره من عيون اللغات والآداب والفنون دون المألوف من ذلك كله، ( وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل من بعده ). ونقف عند هذا الحد بما تقدم وإن كان غيضاً من فيض، فإن الاستقصاء يمد في كل صفحة من هذا الفصل باباً، ويجعل من الفصل كله كتاباً، بيد أنه لا يفوتنا أن ننبه في هذا الموضع على أصل من أصول التاريخ العلمي في الإسلام، وذلك أن كثرة المؤلفات العربية على امتداد النفس في أكثرها وتوفير أوراقها وتعدد أجزائها وامتلاء مادتها واستغراق أبوابها، وعلى ما فيها من سمو العبارة ومتانة التركيب وبلاغة الأداء وحلاوة الكفاية واتساق القول واطراد ينبوعه كل ذلك إنما جاءهم من الحفظ، وهو نتيجة الرواية، فترى الواحد منهم يملي المجالس الحفيلة بأنواع الآداب من حفظه ثم يكتبه السامعون، فتخرج منه الأجزاء الكثيرة الممتعة، وإذا ألف استملى من حافظته فأمدته وسالت على قلمه، فهو يجمع ويرتب ويستخرج من فكره، وليس أسرع من حركة الفكر، وهذه السرعة هي التي تخرج لهم ما تخرجه من آثار الصناعة المتقنة على ما فيها من الجمال والكمال، فهم يستعينون في أعمالهم بالأدوات العقلية الحية التي تشبه الآلات الكهربائية في معجزات الصناعة الحديثة.ولا سواء من يكون كذلك ومن لزمه من أيسر مؤنة العمل كد الفكر واستحثاث الخاطر وكثرة الإطراق وتقطيع الوقت في البحث والتفتيش، ثم يخرج من ذلك على حسرات يرسلها وراء ما ند عنه مما لم تصل يده إليه في الأصول والأمهات من كتب القوم، وبعد هذا كله لا يكاد يجد في مدته ما ينفقه على وجوه الإتقان الصناعي في عمله إن خرج قصداً أو مقارباً. فلا سبيل إلى إحياء العربية وآدابها إلا بإحياء سنة الحفظ والرجوع إلى طريقة الرواة في التعليم، وهي الطريقة الجامعة ( الإنسكلوبيديا ) التي زها بها العلم في أوروبا وأمريكا، وكل سبب يغني شأنه إن أريد به الغناء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

علم الرواية

ذلك بدء الرواية وسببها ومعناها وخطرها، أما اعتبارها على أنها علم بأصول قد أفردوه بالتدوين فلم يكن إلا في الحديث خاصة، وكانوا يسمونه قديماً ( علم أصول الحديث ) وسماه المتأخرون ( مصطلح الحديث ) وكانت أصوله مقررة في منتصف القرن الثاني كما علمت مما أوردناه عن رواية الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - ولكنهم اكتفوا من ذلك بالاصطلاح ومعنى العرف، لأن من العرف ما يكون علماً. وأول من قرر شروط الرواية، ابن شهاب الزهري الذي جمع الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز كما مر، ثم كان أول من تكلم في الرواية جرحاً وتعديلاً شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 وذلك بعد أن دونوا الحديث والتزموا فيه بالإسنادن وكان شعبة هذا يرى أنه في الشعر أسلم منه في الحديث حتى قال لأصحابه: ( لو أردت الله ما خرجت إليكم، ولو أردتم الله ما جئتموني ولكنا نحب المدح ونكره الذم ) فمن ثم تنبه إلى أسباب الجرح والتعديل في الرواية على ما نظن، وكثيراً ما تجود عيوب النوابغ بالقواعد التي تعد من محاسن العلوم. ثم كان أول من صنف في هذا العلم القاضي أبو محمد الرامهرمزي المتوفى سنة 360، وضع فيه كتاب ( الفاصل بين الراوي والواعي ) واستوعب فيه أكثر ما يتعلق بعلوم الحديث، قال ابن حجر: ( وهذا في غالب الظن، وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه.ولعله يشير بهذه الأشياء إلى ما كتب عن الزهري وشعبه، ثم إلى مصنف الإمام مسلم صاحب ( الصحيح ) المتوفى سنة 261 في علل الحديث، ونحو ذلك مما ذهب علمه عن ( المتأخرين ). وجاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405 فتصدى للتأليف في معرفة علوم الحديث، وتناول روايته ورواته، وأبدع في ذلك ما شاء الله، واحتذى مثاله أفراد ممن جاءوا بعده، ولكنهم لم يبتدعوا شيئاً جديداً. أما في الأدب فلم تكن الرواية علماً متميزاً، وإنما كانوا يجرون عليه ما يناسبه من علوم الحديث، وتكلموا في ذلك، وأكثر ما ورد منه مدوناً كان في كتب أصول النحو التي دونت في القرن الرابع وما بعده، ككتاب ( الخصائص ) لابن جني المتوفى سنة 392، و ( لمع الأدلة ) لكمال الدين بن الأنباري المتوفى سنة 577 وهو أجمع الكتب في ذلك، ثم كتاب ( اللمع الجلالية في كيفية التحدث في علم العربية ) لعثمان بن محمد المالقي المتوفى سنة 635، وغيرها، إلى أن جاء العلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 فحاكى علوم الحديث في التقاسيم والأنواع ووضع في ذلك كتابه ( المزهر في علوم اللغة ) وهو متداول مشهور. ولما أوجبوا الإسناد قديماً في نقل اللغة لوجوبه في الحديث، إذ بها معرفة تفسيره وتأويله، وكانت اللغة قائمة بالشعر والخبر وهما يرويان عن الرجال والصبيان والعبيد والإماء من العرب - كان لا بد من أن يتناولوا مصطلحات الحديث، فاشترطوا في ناقل اللغة العدالة بحسب ما يناسب اللغة، ولذا قبلوا نقل أهل الأهواء والمبتدعين ممن لا تكون بدعتهم حاملة لهم على الكذب، ورفضوا المجهول الذي لم يعرف ناقله، كما رفضوا الاحتجاج بشعر لا يعرف قائله، خوفاً من أن يكون مولداً فتدخل به الصنعة على اللغة. واعتبروا من اللغة متواتراً وآحاداً ومرسلاً ومنقطعاً وأفراداً، ونحو ذلك مما بوب عليه السيوطي في ( المزهر ) ولابد لفهمه من الرجوع إلى ما اصطلح عليه أهل الحديث، ونحن نورد بعض ذلك عنهم بما قل ودل مكتفين بما يجري على اللغة مما جرى على الحديث.

تقاسيم الرواية:

فمنها:1 - ( المتواتر ): وهو الذي يرويه عدد من الناس تحيل العادة تواطأهم على الكذب. 2 - ( المسند ): وهو ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه، أما ما انقطع سنده فهو ( المرسل ). 3 - ( والمنقطع ): ما سقط من رواته واحد. 4 - ( والمعضل ): ما سقط من رواته أكثر من الواحد. 5 - ( والمعنعن ): الذي قيل فيه ( عن فلان عن فلان ) من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار. 6 - ( والمؤنن ): قول الراوي ( حدثنا فلا أن فلاناً قال ) ويشترط فيه وفيما قبله أن يكون المسند إليهم قد لقي بعضهم بعضاً مع السلامة من التدليس. 7 - ( والغريب ): ما نفرد أحد الرواة بروايته، وينقسم باعتبار حالة راويه إلى غريب صحيح، وضعيف، وحسن.وتسمى الكلمات التي ينفرد بها الرواية بالأفراد والآحاد. 8 - ( والمعلل ): وهو ما كان ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة لكن فيه علة خفية غامضة تظهر لأهل النقد عند التخريج. 9 - ( والشاذ ): ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات. 10 - ( والمنكر ): الذي لا يعرف من غير جهة راويه فلا متابع له ولا شاهد. 11 - ( والموضوع ): ما كان كذباً واختلاقاً، وهو المصنوع أيضاً، وسنفرد للكلام عليه فصلاً يأتي إن شاء الله.

وظائف الحفاظ في اللغة:

وقد أخذ أهل اللغة في هذه الوظائف أخذ المحدثين واتبعوا سنتهم فيها لتعلق ما كان في اللغة بما كان في الحديث كما علمت، ولأن هذه العلوم كانت سواء في طلبها لقوام الدين والتماسها لفضل الاستبانة. وتلك الوظائف أربع كلها ترجع إلى بث العلم ونشره، وهي:1 - الإملاء: وهذه هي الوظيفة العليا عند المحدثين واللغويين، وطريقتها واحدة عند الطائفتين: يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا. . .ويذكر التاريخ ثم يورد المملي بإسناده كلاماً عن العرب الفصحاء فيه غريب يحتاج إلى التفسير، ثم يفسره ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره.وقد كان هذا في الصدر الأول فاشياً كثيراً لتحقق معنى الرواية به، ثم مات الحفاظ وانقطعت الأسانيد وبطلت أسباب الرواية واعتمد الناس على الدواوين والكتب المصنفة، فانقطع إملاء اللغة واستمر إملاء الحديث لوجود الإسناد فيه وتحقق السماع. قال السيوطي: ولما شرعت في إملاء الحديث سنة 872 وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ أبو الفضل بن حجر أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلساً واحداً فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه فتركته.قال: وآخر من علمته أملى على طريقة اللغويين، أبو القاسم الزجاجي: له آمال كثيرة في مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة 339 ولم أقف على آمال لأحد بعده.أ ههكذا قال في ( المزهر ) وهو بعيد، لأن مجالس الإملاء بقيت آهلة إلى منتصف القرن الخامس، وقد أملى كثيرون بعد الزجاجي، وأورد السيوطي نفسه في ( بغية الوعاة ) في ترجمة الأديب محمد بن أبي الفرج الصقلي المعروف بالذكي ( 427 - 516 ه ) وكان قيماً باللغة وفنون الأدب، قال: إنه ورد إلى بغداد وخراسان وجال في تلك البلاد حتى وصل إلى الهند. . .وحضر مرة ( مجلس إملاء ) محمد بن منصور السمعاني فأملى المجلس، فأخذ عليه الذكي أشياء، وقال: ليس كما تقول، بل هو كذا، فقال السمعاني: اكتبوا كما قال فهو أعرف به، فغيروا تلك الكلمة وكتبوا كما قال الذكي، فبعد ساعة قال: يا سيدي أن سهوت والصواب ما أمليت، فقال: غيروه واجعلوه كما كان.فلما فرغ من الإملاء وقام الذكي قال السمعاني: ظن المغربي أني أنازعه في الكلام حتى يبسط لسانه في كما بسطه في غيري، فسكت حتى عرف الحق ورجع إليه. ولكن يمكن أن يقال إن خاتمة أهل الإملاء على طريقة المتقدمين هو إمام العربية في عصره أبو السعادات بن الشجري المتوفى سنة 542، وله كتاب ( الأمالي في فنون الأدب ) يقع في أربعة وثمانين مجلساً. 2 - الإفتاء في اللغة: أي الإجابة عما يسأل عنه اللغوي، وهي وظيفة أدبية لا مجال فيها للتاريخ، وإنما ألبسوها هذا التعبير لأنها تناظر وظيفة من وظائف المحدثين والفقهاء، ومن أدب المفتي في اللغة أن يقصد التحري والإبانة والإفادة والوقوف عندما يعلم والإقرار بما لا يعلم، وأن لا يحدث برأيه من غير سماع، وأن يصير في الشيء الذي لا يعرفه إلى من يعرفه غير مستنكف، وأن لا يصر على غلطه إذا أخطأ في شيء ثم بان له الصواب من بعد، فإن الرجوع عن الخطأ خروج إلى الصواب، وقد وصفوا الذي يصر على خطئه ولا يرجع عنه بأنه ( كذاب ملعون ).ومتى سئل عن شيء من الدقائق التي مات أكثر أهلها فلا بأس أن يسكت عن الجواب إعزاز للعلم وإظهار للفضيلة.قالوا: وإذا فسر غريباً وقع في القرآن أو في الحديث فليتثبت كل التثبت وليقتص كل الاستقصاء، فإنما هو علم لا يراد للمناقشة والشهوة ولا يبتغي به عرض الدنيا. وليس يخفى أن تلك الآداب هي جملة الأخلاق العلمية وجماع الفضائل الأدبية، ولا تكون إلا في العالم الذي يطلب عمله لفضيلته وكرمه، وقد أخذ بها أفاضل المحدثين وأماثل الرواة، وبها محص هذا العلم العربي ونما وطرح الله في ألسنة أهله البركة، وله سبحانه الحمد والمنة. 3 و4 - الرواية والتعليم: والمراد بهما أن يتعلم ويعلم، فيخلص النية في طلب العلم والتماسه ولا يبتغي من تعليمه المنالة والكسب، وإنما يقصد إلى نشره وإحيائه، فيلزم جانب الصدق ولا يفتأ يتحرى لنفسه وينصح لغيره، وإذا كبر ونسي ولم يجد له عزماً وخاف التخليط أمسك عن الرواية ليتحقق إخلاصه، وقد نقلوا أن الرياشي رأى أبا زيد الأنصاري وقد قارب من سنه المائة فاختل حفظه وإن لم يختل عقله، فأراد أن يقرأ عليه كتابه في ( الشجر والكلأ ) فقال له أبو زيد: لا تقرأه علي فإني أنسيته. تلك وظائف الحفاظ، وهي متداخلة ترجع إلى معنى واحد، غير أن بينها فروقاً في آداب الرواية، وأدناها كلها عندهم التعليم لتعلق الحفاظ عليه ولابتغائهم به الوسيلة إلى الرزق في الأعم على الأغلب، وذلك ما لا ينبغي أن يتواضع له شرف العلم الإلهي، بيد أن كل ما مر إنما ينزل على حكم العرف ويعتبر بالسنة المألوفة، فالتعليم اليوم إذا كان على حقه كما نراه في أوروبا وأمريكا وفى بتلك الوظائف كلها في معنى الفائدة.

طريق الأصل والتحمل:

والمراد بهذه الطرق، الاصطلاحات التي تثبت بها اللغة لمن يأخذها وتصح روايته عند الأداء، وهي أيضاً من أوضاع المحدثين، ولهم فيها كلام مستفيض، وعندهم لها علامات خاصة بالأسانيد، والصيغ لم تجر على اللغة ولا محل لبسط الكلام عليها. وطرق الأخذ في اللغة ست، نذكرها توفية للفائدة، وليتبين بها القارئ مواقع الأخبار من درجات الرواية فيما يقرؤه منشوراً في كتب الأدب، ثم ليعلم ما كان يرمي إليه العلماء بهذه الاصطلاحات التي يراها متشابهة في الدلالة وبينها عندهم اختلاف وهي:1 - السماع من لفظ الشيخ أو العربي، وللمحتمل بهذه الطريقة عند الأداء صيغ تتفاوت بحسب منزلة الرواية، فأعلاها أن يقول: أملى علي فلان، ويليها: سمعت فلاناً، ويلي ذلك أن يقول: حدثني أو حدثنا فلان ثم أخبرني أو أخبرنا فلان، ثم قال لي فلان، ثم قال فلان ( بدون الإضافة إلى نفسه )، ومثله زعم فلان، ويلي ذلك قول الراوي عن فلان، ومثلها إن فلاناً قال:وهذا في اللغة والخبر، أما في الشعر فيقال: أنشدني وأنشدنا، وقد تستعمل بعض تلك الاصطلاحات أيضاً. والسماع أصل الرواية، ولكن علماء البصرة كانوا يأنفون أن يأخذوا عن علماء الكوفة أو يسمعوا من أعرابهم، قالوا: وأول من أحدث السماع بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية ( وهو كوفي ) فسمع منه وكان ضنيناً بأدبه. 2 - القراءة على الشيخ، ويقول عند الرواية: قرأت على فلان. 3 - السماع على الشيخ بقراءة غيره، ويقول عند الرواية: قرأ علي فلان وأنا أسمع، أو أخبرني قراءة عليه وأنا أسمع. 4 - الإجازة: وهي في رواية الكتب والأشعار المدونة، وقد أشرنا إلى أصلها في الكلام على معنى الصحفي، وتكون الإجازة بكتاب معين وتكون بغير معين، كقول الشيخ: أجزتك بجميع مسموعاتي ومروياتي. وعند المحدثين أنواع من الإجازة يبطلونها ولا يعملون بها، كإجازة الراوي من يولد له أو إجازته بما لم يتحمله بوجه صحيح في الرواية كالسماع ونحوه. ولما بطلت الرواية صارت النسبة إلى الشيوخ محصورة في الإجازة، فتهافت الناس عليها، وصار الأمراء يطلبونها للمباهاة، وكبار العلماء في الأقطار المتباعدة يقارض بها بعضهم بعضاً، وتفنن العلماء في كتابتها وتجويد إنشائها، وقد بقي العمل بها في كتب الحديث والعربية إلى قريب من هذه الغاية حين قامت مقامها ( الشهادات ). ومن أراد أن يقف على صورة من أحسن ما كتب فيها فليقرأ إجازة حافظ عصره الإمام أثير الدين بن حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 للصلاح الصفدي الأديب البارع، وقد ساقها برمتها صاحب ( نفح الطيب ) في الجزء الأول من كتابه في ترجمة أثير الدين المومأ إليه. 5 - المكاتبة: وذلك أن يكتب الراوية الثقة إلى غيره أبياتاً أو خبراً فيروي ذلك عنه. 6 - الوجادة: وهي أن يسوق ما يرويه على أنه وجده في كتاب، وهذا هو أضعف وجوه الأخذ، لأنه لا ضمان فيه لعهدة المروي، وإنما اضطروا إليه حين كثرت الكتب. هذه هي طرق الرواية، وكان الرواة إلى آخر القرن الرابع يبالغون في بيانها، ويقرنون كل خبر بطريقته، انتفاء من الظنة، وقياماً بحقوق العلم، وحياطة لهذا الأدب الذي اصطلحوا عليه، ثم ضعف الأمر في القرن الخامس، ثم صار العلم كله ( وجادة ) وعاد أول هذا الأمر آخره.

رواية اللغة

كانت اللغة العربية سليمة من الفساد، خالصة من الشوب، والإسلام لا يزال في ريعانه واندفاع موجته، والعرب في أمر الأدب على إرث من جاهليتهم، يأخذون في سمتها ويتجاذبون على منهاجها، فيسمرون بالأخبار ويتحملون بالأشعار، لا يرون إلا أن ذلك علم آبائهم، وإرث أبنائهم، حتى بدأت اللغة تلتوي بعد سلاستها، وتمرض بعد سلامتها، ونزلت من بعض الألسنة في موضع نفار ومرمى شراد فطار اللحن في جنباتها، وخفيت عليها عاقبة الاختبال، وما يتوقع في تداول النقص من هذا الوبال، فتقدم الكفاة من أهل عصمتها ينهجون إليها السبيل، ويقيمون عليها الدليل، وكان من ذلك وضع النحو كما فصلناه في موضعه. ومنذ وضع النحو اكتسب هذا الكلام العربي أول معنى لغوي اصطلاحي، لأن اللغة ما دامت في حياطة من السليقة، وإلى ملجأ من الفطرة، لا يكون من وجه للنظر فيها على أنها علم يفيده الدرس ويثبته التلقي، ولا سواء في الاعتبار العلمي ما تنشأ على معرفته صحيحاً، وما تعرف صحته وخلوصه بعد أن تنشأ وتتحرى ذلك وتأخذ في أسبابه بالتلقين والتخريج.

تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي:

وقد تتبعنا الأطوار التي تعاقبت على هذا اللسان حتى أطلق عليه المعنى العلمي الذي يفهمه المتأخرون عند إطلاق لفظة ( اللغة ) وصار يقال فيه وفي العالم به: اللغة واللغوي، لنستخرج تأريخ هذه الكلمة ( اللغة ) في دلالتها الاصطلاحية، فرأينا أن بداءة هذا التاريخ كانت لعهد النبي صلى الله عليه وسلم حين جائته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه - رضوان الله عليهم - ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه إليهم الخطاب - كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وسمعه يخاطب وفد بني نهد: ( يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطرياً في العرب فلم يلتفتوا إليه. فلما تكلموا في تفسير القرآن وغريب الحديث، وكانوا يلتمسون لذلك مصادقه من أشعار العرب، وضح هذا المعنى اللغوي، ولكنهم لم يصطلحوا على تسميته، إذ كانت السلائق لا تزال متساندة، وأكثر ما كان هذا المعنى وضوحاً في زمن ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو الذي سن ذلك للمفسرين، وقال إن الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله ( بلغة العرب ) رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه.وقد سأله نافع بن الأزرق وصاحبه نجدة بن عويمر مسائل كثيرة في التفسير، وجعلا الشرط عليه أن يأتي لكل كلمة بمصداقها من كلام العرب - وهي أسئلة مشهورة أخر الأئمة أفراداً منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس، وساق السيوطي جميعها ( في الإتقان ) إلا بضعة عشر سؤالاً - فكان هذا الصنيع من ابن عباس داعياً إلى اعتبار اللغة اعتباراً علمياً، إذ نظر إلى لغات العرب من وجه واحدٍ واعتبرها مادة واحدة في الاستشهاد، وسمى هذه المادة ( لغة العرب ). ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ ( العربية ) - وكان الناس يختلفون إليه يتعلمونه منه وهو يفرغ لهم ما كان أصله، وشاع ذلك.وكان الغرض منه صيانة اللسان من الخطأ، وتقويمه من الزيغ ورد السليقة إلى حدود الفطرة التي خرجت عنها - ظهر ذلك المعنى اللغوي في شكل اصطلاحي، ولكن لم يتميز من اللغة بالتعريف إلا العويص النافر منها الذي يعلو عن طبقة الحضريين ومن ضعفت ملكاتهم فكان هذا وأشباهه كأنه غريب عليهم خارج عما ألفه سوادهم من تصاريف القول، بعد أن أطبق الناس على اللغة القرشية الفصحى، ولذلك اصطلح أهل العربية يومئذ على تسميته ( بالغريب ) وهو أول معاني الدلالة اللغوية. وكان أبو الأسود قد روى الشعر وتتبع كلام العرب واستقصى في ذلك وبالغ، ومع هذا فلم يسم علم هذا الكلام ( باللغة ) ولم يعرف في زمنه إلا ( العربية ) للنحو، وإلا ( الغريب ) لمثل ما يسميه المتأخرون بالكلام اللغوي. نقل الجاحظ في ( البيان ) أن غلاماً كان يقعر في كلامه، فأتى أبا الأسود يتلمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك ؟قال: أخته الحمى، فطبخته طبخاً، وفنخته فنخاً، وفضخته فضخاً، فتركته فرخاً !قال: فما فعلت امرأته التي كانت تشاره وتماره وتهاره وتضاره ؟قال: طلقها وتزوجت غيره فرضيت وحظيت بظيت !فقال أبو الأسود: قد علمنا رضيت وحظيت، فما بظيت ؟قال: بظيت حرف من ( الغريب ) لم يبلغك !فقال أبو الأسود: يا بني، كل كلمة لا يعرفها عمك فاسترها كما تستر السنور خرءها. . وأشهر من عرف بالتغريب يومئذ، يحيى بن يعمر العدواني، وهو آخر أصحاب أبي الأسود كما سنبينه. ثم لما اتسعت العربية وفش اللحن وفسد الكلام وجعل الناس يبغونها عوجاً، وذلك في أواخر القرن الثاني، وخرج الرواة إلى البادية، ينقلون عن العرب ويتحققون معاني العربية وأبوابها - تهيأت أسباب المعنى اللغوي، وصارت اللغة لغتين: العربية، والمولدة.بل صارت العربية نفسها كأنها في الاعتبار العلمي لغتان، بما قام بين البصريين والكوفيين، وتحقق كلتا الطائفتين بمذاهب متميزة، فمن ثم وجد الناس السبيل إلى تسمية ما يؤخذ عن العرب ( باللغة )، لأنها صارت من ( العهد الذهني ) بعد اشتغال العلماء بها وبعد تميزها عما انتهت إليه لغتهم المولدة. فلما وضع الخليل بن أحمد كتاب ( العين ) الذي رتب فيه كلام العرب وضع به علم اللغة، وتمت هذه الكلمة على الناس بما صنع. بيد أن الرواة، وهم القائمون بفنون اللغة، لم يكن يطلق على أحد منهم لفظ ( اللغوي ) إلا بعد أن ضعفت الرواية في أواخر القرن الثالث، وذلك لأن أحداً منهم لم يتخصص من الرواية بعلم الألفاظ دون سائر فنونها من الخبر والشعر والعربية ونحوها، ولم نقف على هذا اللقب ( اللغوي ) في كلام أحد من علماء القرون الثلاثة الأولى، وقد كان يوجد الرواة من تغلب عليه النوادر، وهي أساس علم اللغة: كأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة 216، وكان أحفظ الناس للغة وأوسعهم فيها رواية وأكثرهم أخذاً عن البادية، ومع هذا فلم يلقبوه باللغوي، ووجد فيهم كذلك من انفراد بأولية التصنيف في بعض الأنواع اللغوية المحضة: كقطرب المتوفى سنة 206 وهو أول من ألف ( المثلث من الكلام ) وكان يرمى بافتعال اللغة أيضاً - كما سيجيء - ولكن لم يلقبه أحدٌ ( باللغوي )، وعندنا أن هذا اللقب إنما ظهر في القرن الرابع بعد أن استفاض التصنيف في اللغة وتميزت العلوم العربية واستعجمت الدولة فصار صاحب اللغة يعرف بها كما ينسب كل ذي علم إلى علمه الغالب عليه، وخلف ذلك اللقب لقب الرواية، وممن عرفوا به في القرن الرابع: أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب ( مراتب النحويين ) وابن دريد صاحب ( الجمهرة ) والأزهري صاحب ( التهذيب ) والجوهري صاحب ( الصحاح ) وغيرهم.ثم فشا بعد ذلك وأكثر أصحاب الطبقات من استعماله خطأ، حتى وصفوا به صدور الرواة، لأنهم لا يرون فيها أكثر من المعنى العلمي، أما الألفاظ فهي ألفاظ الناس جميعاً، فلا تاريخ لها إلا التاريخ كله، والله أعلم.

الأخذ عن العرب:

كان ( علم العرب ) في الجاهلية وصدر الإسلام مما يعرف به النسابون وأهل الإخبار، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض ما مر، فلما رجعوا إلى الشعر والتمسوه للشاهد والمثل، كان ذلك بدء تاريخ الأخذ عن العرب للقصد العلمي الذي نحن في سبيل الكتابة عنه، بيد أن اللسان يومئذ كان لا يزال أقرب إلى عهده من الفطرة، فلم يأخذوا عن العرب شيئاً يسمونه اللغة، إذ كانت هذه التسمية لم تجتمع بعد أسبابها كما عرفت، فكان علم العرب مقصوراً على النسب والخبر والشعر، وأكثر من يقوم عليها النسابون والخطباء وبعض رواة الحديث، فلما اشتهر علم العربية بعد أبي الأسود، وكان القائمون به ولده عطاء، وعنبسة الفيل، وميموناً الأقرن، ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني، وهو آخرهم وأفصحهم، وأعربهم، توفي سنة 129 بعد أن بعج العربية وفلق بها تفليقاً - مست الحاجة في عصر تلك الطبقة إلى تتبع اللغات والسماع من العرب، وخاصة بعد أن قامت المناظرات بين أهل الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، حين ابتدأوا يجردون القياس ويعللون النحو ويعتبرون به كلام العرب، وأول من علل النحو فيما يقال، ابن أبي إسحاق الحضرمي، المتوفى سنة 117 وهو أعلم أهل البصرة وأنقلهم، وكان هو وعيسى بن عمر الثقفي ( رأس المتقعرين ) يطعنان على العرب، وكان معهما أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة، وهو من المشهورين في تجريد القياس، ولكنه كان أشد تسليماً للعرب، وقد ناظره ابن أبي إسحاق فغلبه بالهمز، إلا أن أبا عمرو طالت مدته فكان أكثر طلباً لكلام العرب ولغاتها وغريبها، حتى تميز بذلك، وهو قد أخذ النحو عن نصر بن عاصم صاحب أبي الأسود. فتلك هي العلة في أخذهم عن العرب، ولم يكونوا يأخذون عنهم قبل ذلك، وأنت تعتبر مصداق هذا أنك لا تجد رجلاً ممن عنوا، بالسماع من العرب طالباً لمعرفة كلامها ولغاتها ؛ وانتهت إليهم أسانيد الرواة، إلا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني ؛ ومن أشهرهم أبو عمرو الشيباني، عاش 120 سنة، وسمع النبي ي صلى الله عليه وسلم في صغره ؛ وقتادة بن دعامة السدوسي، توفي سنة 117 ؛ والشعبيّ، سنة 105 ؛ وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبان بن تغلب، سنة 141 ؛ وأبو عمرو بن العلاء ؛ وسائر من تجدهم من متقدمي الرواة. ثم لمّا تفرعت المذاهب واشتد الخلاف بين أهل الطبقة الثالثة التي أخذت عن أولئك، وأصاب ذلك ضعف اللغة في الحضر ورقّة جوانبها، ورأى العلماء أن أكثر اللغة مما لا يطّرد فيه القياس، لتداخل لغات العرب بعضها في بعض، وأن أكبر العلم بهذه اللغة هو العلم بنوادرها وغريبها - صار لابد من استقصاء ذلك في مناطق العرب، واستغراقه إلى أطراف البوادي، وتصفح تلك اللهجات فيمن لا يزال منطقهم خالصاً ولم يلابس فطرتهم شوب ولا فساد ؛ فكان الراوية أخذ عمّن يلقاه من أهل الطبقة الثانية حتى يستنفذ ما عنده ؛ ثم يرحل إلى البادية يستزيد ويتحقق من منطق العرب ما شك فيه، ويطلب ما عسى أن ينفرد بروايته، إلى غير ذلك مما يتصل بهذا المعنى. وهذه الطبقة الثالثة هي أشهر طبقات الرواة في الإسلام، وعنها أخذت اللغة، وفي أيامها دونت ؛ ورأسها الخليل بن أحمد وإن لم يكن في اللغة كأبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ؛ فإنهم فيها أئمة الأمة، وهم الذين أخذ عنهم جل ما في أيدي الناي من هذا العلم العربي، بل كله على ما قيل.

الرحلة إلى البادية

كان أهل المصرين ( البصرة والكوفة ) عرباً كلهم في القرن الأول، إلا الموالي منهم ؛ على أن كثيراً من هؤلاء اشتغلوا بالعلوم وبرعوا فيها ؛ أنفة، وبقيا على أنفسهم ؛ وكان أولئك العرب من قبائل مختلفة، وكلهم باقٍ على فطرته ؛ ثم كان الأعراب من أهل البادية وسكان الفيافي يطرؤون على المصرين والمدينتين ( مكة والمدينة ) ؛ فلم يكن للرواة في القرن الأول من حاجة إلى البادية، لأنهم لم يكونوا قد بلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه، وكان ذلك الأمر لما يضطرب، والمادة لا تزال باقية، وفي الناس فضل بعد ؛ ولهذا نقطع جزماً بأن الرحلة إلى البادية في طلب اللغة لم تكن في القرن الأول البتة، وإنما كان يعنى الرواة بالسماع من العرب كما أومأنا إليه آنفاً ؛ فلما كانت الطبقة الثالثة من الرواة - طبقة الخليل وجماعته - وقد اختلفت أسانيد أهل المصرين عن العرب، واختلفت بذلك مذاهبهم، وتمكنت منهم العصبية، وأخذوا في الإزراء بعضهم على بعض، وخرج بعضهم من ذلك إلى لوضع والافتعال وصنعة الشواهد - كما نوضحه بعد -، ورغب أهل التحصيل منهم في استيعاب الشواذ والنوادر، وأهل التحقيق في تمحيص المذاهب المختلفة، ورأوا أن أكثر القبائل البادية قد أخذت في مخالطة البلديين والأعاجم، ويوشك أن تختبل ألسنتهم ويلين جفاؤهم ويدخل على طباعهم الفساد، وأن شيئاً من ذلك قد خلص إلى الأجيال الناشئة في الحضر - لما اجتمعت لهم كل هذه الأسباب، ورأوا أن أهل الحديث يرحلون في طلب الأثر، ويقطعون ظهور الإبل إلى المرامي البعيدة، وإلى كل شرق وصقع يعلمون أن فيه من مصادر الحديث أحداً - أخذوا هم أيضاً في سبيلهم، فرحلوا إلى البادية وهي مصدر اللغة، يطلبون جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، ويأخذون عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، فأخذوا عن قيس، وتميم، وأسد ؛ وهؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وخاصةً الذين كانوا يسكنون أطراف بلادهم المجاورة لمن حولهم من الأمم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأنهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب صادفوهم وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم بالحضارة، وهم لا يأخذون عن حضري قط، مع أن أولئك كانوا هم الأصل في الفصاحة العربية، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم، والأصل يهم قريش، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرشي ثم بنو يعد بن بكر لأنه استرضع فيهم وأقام عندهم حتى ترعرع ثم ثقيف وخزاعة وهذيل وكنانة وأسد وضبة، وهؤلاء كانوا قريباً من مكة، وكانت لغة أهل مكة والمدينة قد سدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكثرة من خالطهم من رقيق العجم، وبمن تردد إليهم من تجارهم، وقد مرّ شرح ذلك في بابه. وأقدم من عرفنا ممن رحلوا إلى البادية: يونس بن حبيب الضبيّ المتوفى سنة 182 وقد جاوز المائة فيما قيل، وخلف الأحمر المتوفى سنة 180، والخليل بن أحمد المتوفى سنة 175، وأبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 215 عن 83 سنة، وهو أكثر أهل هذه الطبقة أخذاً عن البادية، وكانت له بذلك ميزة على صاحبيه: الأصمعي، وأبي عبيدة، حتى قيل إن الأصمعي حاء يوماً إلى مجلسه فأكبّ على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة ؛ ولقد أراد أبو زيد هذا مرة أن يعرف باباً من الصرف ويتبين من منطق العرب ما هو أولى بالضم وما أولى بالكسر من باب فعل ( بفتح العين ) لذي قالوا فيه إن كل ما كان ماضيه بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه حرفاً من حروف اللين ولا الحلق فإنه يجوز في مضارعه ضم العين وكسرها، وليس أحدهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف، كقولهم نفَر ينفِر وينفُر، وشتَم يشتِم ويشتُم. . .الخ. . .؛ فطاف أبو زيد لذلك في عليا قيس وتميم مدةً طويلة، يسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم، قال: لم أجد لذلك قياساً، وإنما يتكلم به كل امرئٍ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك. ولما جاءت الطبقة الرابعة التي أخذت عن هؤلاء، أخذوا عنهم التلقي عن العرب في باديتهم ؛ إذ صار ذلك سنةً وباباً من أبواب الكفاية عندهم ؛ ومن أقدمهم وأسبقهم إليه: النضر بن شميل المتوفى سنة 204، فإنه أخذ عن الخليل بن أحمد وعن بعض الأعراب الذين أخذت عنهم الطبقة الثالثة، وأقام بعد ذلك بالبادية أربعين سنة ؛ ثم الكسائي المتوفى سنة 189 ( على الأكثر ) فإنه أخذ عن الخليل ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ !واستمروا يرحلون إلى البادية إلى أواخر القرن الرابع، ثم فسدت سلائق العرب كما فصلناه في بابه، وبذلك انقطعت مادة الرواية عنهم واكتفى الناس بآثار أسلافهم التي حوتها الكتب ؛ وإنما كان العلماء بعد ذلك يسألون بعض الأعراب المتوسمين بشيءٍ من جفاء البادية ممن لم تنسخ فيهم الفطرة نسخاً، وكانوا يستروحون إلى ذلك ولا يأخذون به، وبقي هذا الأمر إلى منتصف القرن السادس ؛ ونقلوا عن الزمخشري المتوفى سنة 538 بعض كلمات مما سألهم فيه، ولكن لم ينقلوا أن أحداً اعتدّ هذا وأمثاله من اللغة وأجراه مجرى الرواية، ولا يمكن أن يكون ذلك.

فصحاء الأعراب:

وقد قلنا في فرق ما بين العربي والأعرابي في موضع ذلك من صدر هذا الكتاب ؛ ورأينا العلماء وأهل اللغة في الإسلام يضربون المثل بفصاحة الأعراب وخلوص لغتهم وما لهم من بارع اللفظ وسري المخرج والعارضة الشديدة واللسان السليط، ثم ما يحمل عليها من طبعٍ جافٍ متوقحٍ غير بكيء ولا منزور، وفطرةٍ سليمةٍ لا تنازع إلى غير الصواب ولا يصرفها عنه صارف من سوء العادة أو الضعفة الحضرية، إلى ما يكون من هذا الضرب. والبلغاء في الصدر الأول إنما كانوا يتكلفون أن يحكوا الأعراب في مقامات الكلام، يبتغون من وراء ذلك بعض ما يرده التقليد والحكاية من تلك الصفات ؛ وكان أفصح الناس إنما يرى منزلته منهم أن يجري على ما سبق إليه من أعراقهم ؛ فهو منهم بطبيعته دون موضع الغاية وعلى حد المقاربة في منزلة بين المنزلتين.ولا نفيض هنا في هذا المعنى وأدلته، فقد أسلفنا منه أشياء وسنأتي على بقيته في باب الخطابة، وإنما نكتفي بهذا الإيماء لأنه سبيل ما نحن فيه. كان الأعراب يطرؤون من البادية على الحضر، فيتلقاهم الرواة بما اختلفوا فيه، يعترضون حجته في منطقهم، ويتلقفون أدلته من أفواههم، ويتحملون عنهم بالنوادر وما إليها، ومنهم طائفة كانوا ينزلون الأمصار العربية ويقيمون بها، فيأنسون إلى الرواة ويسكنون إلى مسألتهم، ثم ينتهي الأمر يهم إلى أن يصيروا أساتذة القوم في الفتيا ومرجعهم في الخلاف، لا يتبرمون بذلك بل يتصدرون له، لأنهم يخشون على ألسنتهم من طول المكث في الحضر، فلا ينفكون يذاكرون الرواة ؛ إذ لا يجدون غيرهم من سائر الناس، وهم الذين يسمونهم فصحاء الأعراب. ويبتدئ تاريخهم منذ مست الحاجة إليهم في الطبقة الثانية من الرواة عند تفريع النحو وقياسه كما أشرنا إليه، ولذا لم نر لأحد من هؤلاء الأعراب اسماً مذكوراً قبل أبي خيرة وأبي الدقيش ورؤبة بن العجاج الراجز وأبي المهدي وأبي المنتجع وأضرابهم ممن أخذت عنهم تلك الطبقة. ولما كثر تردد الأعراب على الرواة ومذاكرتهم إياهم، أقبل بعضهم على الطلب والرواية عن العلماء والتلمذة لهم ؛ ولم نقف على أحدٍ فعل ذلك قبل أبي مسحل الأعرابي الذي قدم من البادية وأخذ النحو عن الكسائي المتوفى سنة 189، وروى شعراً كثيراً في الشواهد عن علي بن المبارك، ثم صنف في النوادر والغريب ؛ أما قبل ذلك فكان فصحاء الأعراب إنما يلمون بالرواة إلماماً، كالذين كانوا يقصدون منهم حلقة يونس بن حبيب بالبصرة، وكان بعضهم يقف على حلقة أبي زيدٍ الأنصاري يسأله عن أشياء من العربية تظرفاً لا حاجة. ومتى طال مكث الأعرابي في الحضر ضعفت طبيعته ورق لسانه ؛ فإذا آنس منه الرواة ذلك وضعوا له الأقيسة الفاسدة يمتحنونه بها كما مر في موضعه، وإذا وجدوه قد صار يفهم الكلام على لحن أهل الحضر - فضلاً عن أن يحكيه مثلهم - نبذوه ؛ لأن الأصل أن لا يفهم هذا اللحن إلا من زاوله ودار على سمعه حتى ألفه ؛ وقال الجاحظ ( توفي سنة 255 ) ( إنهم لا يفهمون قولهم: ذهبت إلى أبي زيد، ورأيت أبي عمرو. . .) ثم قال: ( ومتى وجد النحويون أعرابياً يفهم هذا وأشباهه، بهرجوه ولم يسمعوا منه ؛ لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقض البيان ؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك الجيرة، ولفقد الخلطاء من جميع الأمم، ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بونٌ بعيد ؛ على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة ( تأمل ) وكان لا ينفك من رواةٍ ومذاكرين ). وقد سقنا مثلاً من أسئلة الأعراب في بعض الفصول التي تقدمت، ونسوق هنا بعضها توفيةً لفائدة هذا الفصل. روى المبرد في ( الكامل ) أن الأصمعي شكّ في لفظ استخذى ( خضع ) وأحب أن يستثبت: أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: فقلت لأعرابي: أتقول استخذيت أم استخذأت ؟ قال: لا أقولهما ! فقلت: ولم ؟ قال: لأن العرب لا تستخذي ( لا تخضع ) !وقال الأصمعي لأعرابي: أتهمز الفارة ؟ قال: تهمزها الهرة. وقال الجاحظ: سمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري إني عثرت البارحة بكتابٍ وقد التقطته وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعراً، فإن أردته وهبته لك.قال ابن بشير، أريده إن كان مقيداً ( مشكولاً )، قال: والله ما أدري أكان مقيداً أو مغلولاً. . .قال الجاحظ: ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته. ومهما جهدت بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه، فإنه لا يستطيع إلا من ضعف، لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ واللغة إنما تؤخذ عن السليقة وهي سنة واحدة. قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء قال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه ؟ قال: وما هو ؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيب إلا المسك ( بالرفع )، قال أبو عمرو: نمن وأدلج الناس ! ليس في الأرض حجازيٌّ إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميميٌّ إلا وهو يرفع، ثم قال: قم يا يحيى، يعني اليزيدي، وأنت يا خلف، يعني خلفاً الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي ( أعرابي الحجاز ) فلقناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع ( أعرابي تميم ) فلقناه النصب فإنه لا ينصب. قال: فذهبا فأتيا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما ؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول ليس الطيب إلا المسك ( بالرفع ) ؟ فقال: ( تأمراني بالكذب على كبر سني ) ! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل، قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها، فقال: هذا كلامٌ لا دخل فيه، ثم أعادها بالنصب، فرفعا ثانية، فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي.قالا: فكتبنا ما سمعنا منه، ثم أتينا أبا المنتجع فلقنّاه النصب وجهدنا يه، فلم ينصب وأبى إلا الرفع. وإذا قال الأعرابي شعراً وأخطأ فيه على مصطلح أهل العروض، وإن كان قد ذهب في نفسه مذهباً، فهيهات أن يفهم الصواب أو يذكر الوجه الذي ذهب إليه إلا بالتلطف في سؤاله والحيلة على إفهامه. قال ابن جني في ( الخصائص ): أنشدنا أبو عبد الله الشجري لنفسه شعراً مرفوعاً يقول فيه يصف البعير:

فقامتْ إليهِ خدلةَ السّاقِ أغلقتْ

بهِ منهُ مسموماً دوينةَ حاجبهِ

فقلت: يا أبا عبد الله، أتقول: دونة حاجبه ؟ مع قولك: مناسبه، وأشانبه ؟ فلم يفهم ما أردت، فقال: كيف اصنع، أليس ههنا تضع الجرير على القرمة على الجرفة ؟ وأومً إلى أنفه، فقلت: صدقت، غير أنك قلت أشانبه، وغالبه.فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول، فلما طال هذا قلت له: أيحسن أن يقول الشاعر:

آذنتنا ببينها أسماءُ

ربَّ ثاوٍ يملُّ منهُ الثواءُ

ومطلت الصوت ( أي مد الهمزة )، ثم يقول مع ذلك:

ملكَ المنذرُ بن ماء السماء

فأحس حينئذ وقال: أهذا. . .؟ أين هذا من ذاك ؟ إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قصر الحركة في ( حاجبه ) وأنها أقل من الحرف في ( أسماء، والسماء ).

المحاكمة إلى الأعراب

وكان العلماء إذا اختلفت ما بينهم في المناظرة وادعى كل منهم الفلج والظهور بالحجة والدليل، رجعوا في الحكم إلى منطق الأعراب ممن يصيبونهم من الفصحاء على أبواب الأمراء أو في المساجد أو في طرق السابلة. ولم تكن المحاكمة إليهم مقصورة على القياس وما يحتاج إلى المنطق الصحيح في تعيين صحته فحسب ولكنها كانت تكون أيضاً في معاني الألفاظ وما يدخله التصحيف، وخاصةً أسماء الأمكنة والبقاع وما يجري مجراها من هذه الجوامد التي يعرفها الرواة عن سماع ويعرفها الأعراب عن يقين وعيان. قال أحمد بن يحيى: لقيني أبو محلم على باب أحمد بن سعيد بن مسلم ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي ؛ أليس كان يقول في قوله:

زوراءُ تنفرُ عن حياضِ الدّيلم

إن الديلم الأعداء ؟ فاسألوا هذا الأعرابي ؛ فسألناه فقال: هي حياض بالغور قد أوردتها إبلي غير مرة.والأمثلة من هذا كثيرة. وأشهر ما عرف من محاكماتهم إلى الأعراب، المسألة الزنبورية التي اختلفت فيها سيبويه البصري والكسائي الكوفي بحضرة الرشيد، وقيل إنها كانت بين سيبويه والفراء بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي ؛ وذلك أن سيبويه قدم إلى بغداد، وكان الكسائي يعلم الأمين، وهو يومئذ راس الكوفيين ؛ فوفد سيبويه على يحيى بن خالد وابنيه جعفر والفضل، وعرض عليهم ما يذهب إليه من مناظرة الكسائي ؛ فسعوا له في ذلك وأوصلوه إلى الرشيد، فكان فيما سأله الكسائي: كيف تقول: ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، أو: إياها. . .؟فقال سيبويه: فإذا هو هي ؛ وأجاز الكسائي القولين: بالرفع والنصب ( لأن نصب الخبر المعرفة بعد ( إذا ) لا يجيزه إلا الكوفيون، ولم يأت عن العرب في سماع صحيح ). ثم قال الكسائي: كيف تقول يا بصري: خرجت فإذا زيدٌ قائم، أو: قائماً ؟فقال سيبويه: أقول: قائمٌ، ولا يجوز النصب. فقال الكسائي: أقول: قائم ؛ وقائماً. فقال يحيى ( أو الرشيد ) قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما ؟فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد سمع منهم أهل البلدين ؛ فيحضرون ويسألون. فجاؤوا بالأعراب الذين كانوا بالباب يومئذ، وهم أبو فقعس، وأبو دثار، وأبو الجرّاح، وأبو ثروان ؛ فوافقوا الكسائي ؛ ويقال إنهم أرشوا على ذلك، أو أنهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد فنظروا إلى المنزلة، ويقال إنهم لم يزيدوا على أن قالوا في الموافقة: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب، وأن سيبويه قال ليحيى: مرهم أن ينطقوا بذلك فإنّ ألسنتهم لا تطوع به. وكان الأمراء الذين يتولون الأمصار البعيدة عن البلدين يستقدمون إلى جهاتهم أعراباً من الفصحاء، لتأديب أولادهم، وليأخذ عنهم علماء تلك الأمصار، ثم ليرجعوا إليهم في بعض ما يختلفون فيه.ومن أشهر أولئك الأمراء، عبد الله بن طاهر، فإنه لما ولي خراسان استقدم إليها جماعة، ذكروا من أسمائهم: أبا العميثل الأعرابي المتوفى سنة 240، وعوسجة.ولما ورد أبو سعيد اللغوي الضرير من بغداد على ابنه طاهر بن عبد الله، تأدب بهؤلاء الأعراب وأخذ عنهم. ومنذ القرن الخامس فسدت سلائق الأعراب في لحضر والبادية، ولم يعد العلماء يركنون إليهم في شيء إلا الاستئناس ببعض ما يسمعونه، وعزّ الظفر بالفصيح منهم الذي يرجع إلى نجره ويتساند إلى سليقته، حتى صار لقب الأعرابي مما يحرص عليه بعض الفصحاء من أهل العلم، يدعونه تميزاً به وإحياءً للسنة العربية، كأبي محمد الأعرابي النسابة اللغوي المعروف بالأسود ( وهو الذي كان يسند إلى أبي النداء كما مر )، فإنه تلقب بالأعرابي، وكان يتعاطى تسويد لونه بالقطران ويقعد في الشمس ليتحقق تلقيبه بذلك !وهذا الرجل هو آخر تاريخ الأعراب الفصحاء، لا يعرف معه أعرابي، ولا يعرف بعده من ادعى الأعرابية اللغوية.

بعض فصحاء الأعراب:

وقد عقد ابن النديم في كتابه ( الفهرست ) فصلاً لسماء أولئك الفصحاء الذين أخذ عنهم الرواة ودارت أسماؤهم في كتب القوم وفي خطوط العلماء.ولا يذهبن عنك أن جميع الأعراب إنما كانوا في العراق، وكان قليل منهم في الحجاز، لأن الرواية كانت قائمة بأهل هذين الصقعين، وهم لا يقيمون لعلماء الشام وزناً، ولا يوثقون روايتهم إن لم تكن من ناحيتهم، ولهذا قل أن تجد لعلماء ذلك الشرق أعراباً معروفين يختصون بالأخذ عنهم.بيد أن الجاحظ في بعض رسائله قد ذكر اسم عكيم بن عكيم الحبشي، وقال فيه: ( كان أفصح من العجاج، وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه كما أخذ علماء أهل العراق عن المنتجع بن نبهان، وكان المنتجع سندياً وقع إلى البادية وهو صبيٌ فخرج أفصح من رؤبة ) اه.ولم نقف على اسم أعرابي انفرد أهل الشام بالأخذ عنه وحاكوا به أهل العراق، غير عكيم هذا.والمنتجع بن نبهان كان في القرن الثاني. وهذه أسماء المشهورين من أولئك الفصحاء، عن ابن النديم وغيره: الخثعمي، وكان راوية أهل الكوفة ؛ وأبو خيرة العدوي ؛ وأبو الدقيش ؛ وكان من أفصح العرب ؛ وأبو مهدية الأعرابي ؛ وأبو المنتجع ؛ وأبو البيداء الرياحي، وروايته أبو عدنان، وكان أبو البيداء حين نزل البصرة يعلم الصبيان بأجرة ؛ وأبو طفيلة ؛ وأبو حياة بن لقيط ؛ والفقعسي محمد بن عبد الملك راوية بني أسدٍ وصاحب مفاخرها وأخبارها، أدرك المنصور، وعنه أخذ العلماء مآثر بني أسد ؛ وعبد الله بن عمرو أبي صبح، معاصر للفقعسي ؛ وأبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي اللغوي صاحب النوادر، وكان يعلم في البادية ويورق في الحضر ؛ وأبو الجاموس ثور بن يزيد، وكان من أفصح الناس لساناً، وهو الذي أخذ عنه ابن المقفع الفصاحة وجرى في طريقته من البيان ؛ وأبو سوارٍ الغنوي ؛ وأبو زياد الملابي، قدم بغداد أيام المدي فأقام بها أربعين سنة ؛ وأبو عرار العجلي ؛ وأبو ثوابة الأسدي ؛ وأبو ضمضم الكلابي ؛ وعمرو بن عامر البهدلي، وقد أخذ عنه الأصمعي ؛ وأبو شبل العقيلي، وفد على الرشيد واتصل بالبرامكة، وأبو ثروان العكلي، وكان يعلم في البادية ؛ وأبو فقعس ؛ وأبو دثار ؛ وأبو الجراح ؛ وهؤلاء الأربعة هم الذين حكموا بين سيبويه والكسائي كما مر - وأبو العمثيل ؛ وعوسجة ؛ وأبو مسهر الأعرابي ؛ وأبو المضرحي ؛ والحرمازي ؛ وأبو الهيثم ؛ وأبو المحبب الربعي ؛ وأبو صاعد الكلابي ؛ وأبو أدهم الكلابي ؛ وأبو الصقر الكلابي ؛ وأبو الصعق العدوي ؛ والمفضل العنبري ؛ ويزيد بن كثوة ؛ وناهض بن ثومة الكلابي ؛ وكان شاعراً بدوياً جافياً كأنه من الوحش، وكان يقدم البصرة في منتصف القرن الثالث فيكتبون شعره ويأخذون عنه ؛ وأبو السمح الطائي، وهو ممن أحضر في أيام المعتز ليؤخذ عنه. ومن أشهر الأعرابيات اللواتي أخذ الرواة عنهن وهن قليلات: غنية أم الهيثم الكلابية، وكانت راوية أهل الكوفة، وقريبة أهل البهلول ؛ وغنية أم الحمارس. وفيما قدمناه بلاغ، وبعض ما دون الاستقصاء في هذا الباب كفاية الباب كله.

الوضع والصنعة في الرواية

المراد بالموضوع والمصنوع: ما كان كذباً مصمتاً أو صدقاً مشوباً ببعض التلبيس.والصدق والكذب من أخلاق الناس، تبعث على كليهما البواعث، وهذا في رأي أهله متى صادف موضعه وتعلق بأسبابه، كذاك في رأي أهله متى أصاب حقه وقر في نصابه ؛ وإن كان الصادق يرى أنه قد استبرأ لدينه وأمانته، والكاذب يرى أنه قد حمل على ذمته ما لا حيلة له في التقصي منه وأنه قد تابع هواه وأضله الله على علم. وإنما يدور هذا الأمر بين العلماء وأهل الرواية على الاستهتار بالغريب، والولوع كل الولوع بالطرف والنوادر، وعليهما يكون إقبال العامة، وبهما تكون كثرة الأتباع ؛ ومازال هوى الناس في كل جيلٍ معقوداً بأطراف الطرائف، وإن فسد بها العلم واتهمت الكتب الصحيحة، ومن كان ذلك شأنه لا يقف على فرق ما بين التصحيح والتصحيف، والتوكيد والتوليد ؛ فهو يداخل الغثَّ في السمين، والممكن في الممتنع، ويتعلق بأدنى سببٍ إلى ما يشبهه حقاً ثم يدفع عنه كل الدفع، كما يدفع أهل الحق عن الحق، ومن ثم لا تتهيأ له الدلالة التي تقوم بأمره، ولا الشهادة التي تقطع فيه، إلا بعد أن يضرب حق ذلك بباطله، ويموه بصفاتٍ حاليه أمر عاطله ؛ وبين ذلك إلى أن يبلغ مبلغه ما يكون قد تورك عليه وتكلف له وذهب فيه مذاهب البواطيل كلها.ومن شؤم الكذب أنه لا يستغني منه شيءٌ بنفسه إلا افتضح، ولذا تحتاج الكذبة الواحدة في إثباتها إلى كذبٍ كثير !وضربٌ آخر من الرواة يرجع أمرهم في الوضع إلى التلبيس على الناس، تعنتاً وتكلفاً للأثرة ! أو مكابرة في إقامة الحجة وإنهاض الدليل ؛ فهؤلاء يتقذرون من الكذب استغناءً بأنفسهم وصوناً لأقدارهم، ولكنهم يكدون أنفسهم للمنافسة، ويستكرهونها على الظهور والغلبة، وتلك سورةٌ تذهب بالتحفظ، وتصد عن التوقي، وهيهات أن يكون الأمر فيها مقداراً عدلاً مع تلك الرغبة الجائرة.ومن هذا بكى الكسائي وهو ما هو في علماء هذه الأمة، حتى قال فيه الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيالٌ على الكسائي.قال الفراء: دخلت عليه يوماً وكان يبكي، فقلت له: ما يبكيك ؟ قال: هذا الملك يحيى بن خالد يوجه إليّ ليحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عتب، وإن بادرت لم آمن من الزلل ! قال الفراء: فقلت له: يا أبا الحسن، من يعترض عليك ؟ قل ما شئت فأنت الكسائي. . .؟ فأخذ لسانه وقال: قطعه الله إذن إذا قلت ما لا أعلم. وبالجملة فإنّ آفة الرواية رقة الأمانة ؛ وللعلم طغيانٌ لا يقوم له شيء إذا كان سبب ذلك في طبع النفس ومذهبها ؛ ولذا جعلوا أهل العربية كأهل الحديث، فعدوا منهم أهل الأهواء وأهل السنة ؛ وسيمر بك تفصيل لهذا المعنى. وقد تناول الوضع مأثور اللغة والشعر والخبر، ونحن قائلون في ثلاثتها، ونجعل لكل فصل من القول بحسبه.

افتعال اللغة

قال الخليل بن أحمد: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت. وليس يخفى أنه لا سبيل إلى الوضع فيما يرجع من اللغة إلى الأقيسة المطردة، وإن وضع من ذلك شيء لم يجز على العلماء، وإنما الشأن في الغريب وما ينفرد به الراوية مما لا دليل على مثله إلا دعوى حامله، فإن قوماً يفتعلون من ذلك أشياء: كعيدشون اسم دويبة، وصيدخون للصلابة والبدّ للصنم الذي لا يعبد، والبتش، وضهيد، وغنشج، وأمثالها يضعونها رغبةٌ في لذكر بها، وأن يكون عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم، والانفراد في اصطلاح الناس منبهة. ومن هذه الأشياء ما يقره الرواة إذا لم يجدوه مخالفاً لأبنية العرب ولم يعلموا على حامله سوءاً ولا كان ممن يتدينون بالكذب، كبعض فرق الروافض فإن منهم من يضع الشعر ويضمنه شيئاً من الغريب، ليقيم به حجةً واهية، أو رأياً متداعياً، كما ستعرفه. وقد أفرد ابن جني باباً في ( الخصائص ) لكلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي، وثقاة الرواة كانوا يتثبتون في مثل هذا فينفرد الواحد بالكلمات القليلة ولكن مع شواهدها من كلام العرب، وهم لا يروونه مع ذلك على أنه من قول العرب الذي اجتمعت عليه، فإنّ هذا الضرب من الكلام المجمع عليه لا يكون إلا في المألوف، وفي الذي يسمع من الفصحاء خاصةً، وعلى ذلك قول أبي زيد: ( لست أقول: قالت العرب، إلا إذا سمعته من هؤلاء: بكر بن هوازن، وبني كلاب، وبني هلال، أو من عالية السافلة أو سافلة العالية، وإلا لم أقل: قالت العرب ) !ولا يجيء بالغريب على أنه بسبيلٍ من الكلام المجمع عليه إلا من أراد أن يستبد بشروط الرواية فيلبس على الناس أمرهم، وهو يرمي بذلك إلى التزيد في علمه والتكثر بالباطل والتنبل عند الناس، وتراه إذا أورد الكلمة المفتعلة جعلها من سماعه وزينّها بوجوه من الرواية، آمناً أن ترد عليه أو يدعى فيها مدع ؛ لأن البينة عليها منه، والحكم فيها إليه، إذ كان له سلف صدقٌ من الرواة الذين انفردوا بالغرائب والنوادر، وقبل ذلك منهم وألحق بمادة اللغة، ولهذا وأشباهه من العلل كانوا يرجعون إلى الأعراب كما علمت. ولم يعرف أحد من الرواة كان يضع اللغة في القرن الأول، ولا في القرن الثاني، إلا ما يكون من الكلمات التي يكذب فيها الأعراب، أو توضع إرادة اللبس والتعنيت، وإلا ما يكون من خطأ بعضهم ومكابرته في الاحتجاج له، كما سيأتي مع نظائره في الكلام على وضع الشعر. وأول من رمي بافتعال اللغة وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة 206، وكان يرى رأي المعتزلة النظامية، فأخذ عن النظام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثقوه في الرواية ؛ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قمطراً ( أي ملء صندوق )، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم اذكر عنه شيئاً. واتهموا بالصنعة وتوليد الألفاظ، ابن دريدٍ صاحب ( الجمهرة ) المتوفى سنة 321، لأنه كان مدمناً للخمر لا يكاد يفتر عن ذلك.قال الأزهري اللغوي وقد سألت عنه إبراهيم بن عرفة ( يعني نفطويه ) فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته. وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة 345 وكان واسع الحفظ جداً، حتى قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة وتلك لعمر الله مظنةٌ وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه ؛ فيقولون: لو طار طائرٌ في الجو قال: حدثنا ثعلبٌ عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئاً ! ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مردّ التهمة إلى سعة حفظه، ثم اثبت هذا الحفظ فنفى التهمة وقال: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه وضعه فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنةٍ فيجيب بذلك الجواب.ويروى أن جماعةً من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها فإنه يجيب بشيءٍ آخر ؛ فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب ؟ فذكر شيئاً قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس ؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث فوضعنا رجلاً غير ذلك فسأله فقال: ما القنطرة ؟ قال: أليس قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا فقلت هي كذا ؟ فما درينا من أي الأضمين نعجب من ذكائه: إن كان علماً فهو اتساعٌ طريف، وإن كان كذباً في الحال فحفظه فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة فأجاب بذلك الجواب - فهو أطرف. وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلاماً تركياً مملوكاً يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا وكان يملي كتاب ( الياقوتة ) فلما جازه قال: اكتبوا ( ياقوتة خواجا ) الخواج في أصل اللغة الجوع ؛ ثم فرّع على هذا باباً باباً وأملاه ؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه.وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها ؛ فإنّ بين العلم المستطيل والحفظ المتسع موضعاً لبسط اللسان إذا أراد قائلٌ أن يقول. وأشهر من عرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي الذي ورد الأندلس في حدود سنة 380 على المنصور ابن أبي عامر ؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو ألموماً إليه ؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه ؛ ولذا نظروه في الأندلس في سرعة الجواب وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق ؛ وادّعى في الأندلس علم الغريب ؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين. قالوا: ودخل مرةٌ على المنصور وفي يده كتاب ورد عليه من عاملٍ له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه ( القلب والتزبيل ) وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع، فقال له المنصور: أبا العلاء ! قال: لبيك مولانا ! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب ( القوالب والزوالب ) لميدمان بن يزيد ؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخةٍ لأبي بكر بن دريد يخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع ؛ هكذا هكذا ! فقال له: ( أما تستحي أبا العلاء ؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا الخ، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدةٌ من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب ونسبته إلى عاملي لأختبرك ! ) فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمرٌ وافق.وله من هذا كثير. وقال ابن بسام: إنّ المنصور أراه كتاب ( النوادر ) لأبي علي القالي، فقال: إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتاباً أرفع منه وأجل، لا أورد فيه خبراً مما أورده أبو علي ! فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة على كتابه المترجم ( بالفصوص ) فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمةٌ صحيحةٌ عندهم ولا خبرٌ ثبت لديهم ؛ وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها حتى توهم القدم، ففعل ذلك وترجم عليه: ( كتاب النكت، تأليف أبي الغوث الصنعاني ) فترامى عليه صاعدٌ حين رآه وجعل يقبله وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان ؛ فأخذه المنصور من يده خوفاً أن يفتحه وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلامَ يحتوي ؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئاً ؛ ولكنه يحتوي على لغةٍ منثورةٍ لا يشوبها شعرٌ ولا خبر ؛ فقال المنصور: أبعد الله مثلك ؛ فما رأيت أكذب منك ! وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب ( الفصوص ) في النهر. وكان أبو صاعدٍ هذا قوي البديهة في الشعر، يضع لسانه منه حيث يريد، وهو صاحب البيت المشهور ( بيت الخنفشار ) الذي جرى في المتأخرين مثلاً مضروباً في الكذب والوضع لما لا أصل له، وذلك أن المنصور قال له يوماً.ما الخنبشار ؟ فقال: حشيشةٌ يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:

لقد عقدتْ محبتها بقلبي

كما عقدَ الحليبَ الخنبشارُ

وتوفي صاعد سنة 417. وإنما كان كل ذلك قبل أن تجمع مفردات اللغة وتؤلف فيها الأمهات والأصول وتشيع في أيدي الناس: ك ( الصحاح ) للجوهري، و ( التهذيب ) للأزهري ؛ ولم يوضع قبله كتاب أكبر ولا أصح منه ؛ وذلك في أواخر القرن الرابع في المشرق ؛ لأن الرجوع في اللغة كان إلى الرجال، وفيهم من علمت ؛ أما بعد ذلك فلم يؤثر الافتعال شيئاً في اللغة، لسقوط الرواية فيها إلا من الكتب، كما أومأنا إليه في محله ؛ وبهذا بطلت الصنعة وبطل تاريخها اللغوي.

وضع الشعر

والشعر هو عمود الرواية: عليه مدارها وبه اعتبارها ؛ وقد كانت منزلته من العرب ما هي، إذ كان يتعلق بأنسابهم وأحسابهم وتاريخهم وما يجري مع ذلك، حتى كأنه الحياة المعنوية لأولئك القوم المعنويين، فلم يكن عجباً أن يدور فيهم مع الشمس والريح، وأن تسخر له ألسنتهم فينصرفوا إلى قوله وروايته، حتى بلغ منهم مبلغه الذي نصفه لك في بابه إن شاء الله. وقد كان عند قدماء اليونان لبعض الأسباب المعنوية التي تشابهوا فيها هم والعرب رواةٌ يتفرغون لنقل الشعر ويقومون في الناس على إنشاده ويروون قطعاً من لتواريخ، وهم يسمونهم ( r ( Rhapsodist ) ومن أشهرهم في القديم رواة الإلياذة لهوميروس ؛ على أن الفرق بين العرب واليونان في ذلك كالفرق بين أمةٍ كلها شعراء بالفطرة، وأمةٍ تميز الفطرة منها بعض شعراء. ولم يكن من سببٍ في جاهلية العرب يبعثهم على وضع الشعر ونحله غير قائله وإرساله في الرواية على هذا الوجه ؛ لأن شعراءهم متوافرون، ولأنهم لا يطلبون بالشعر إلا المحامد والمعاير، وقصارى ما يكون من ذلك أن يتزيد شاعرهم في المعنى ويكذب فيه إذا هو حاول غرضاً أو أراغ معنى مما تلك سبيله، وعلى أن ذلك لا يكون إلا في الأخبار التي تلحق بالتاريخ، لأن الشاعر موضع الثقة ؛ وهو مصدر رواية في العرب، فإن أرسل القول أرسل معه التاريخ فيجريان معاً ؛ وذلك كالذي ادعاه الأعشى في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، فإنهما تنافرا إلى هرم بن قطبة في خبرٍ مشهور، فاحتال لهما حتى رضيا بحكمه جميعاً ؛ إذ كره أن يفضل أحدهما على الآخر وهما ابنا هم فيوقع بذلك عداوةً بين الحيين، فوصفهما بأنهما في المنزلة كركبتي البعير الأردم: تقعان إلى الأرض معاً.ولكن الأعشى ادعى أنهما حكما هرماً، وأنه حكم لعامر على علقمة، وقال في ذلك بعض قصائده وأشاعها في العرب، فلبس على الناس ؛ وإنما جاء هذا الإفك لأنه كان ممن ثار مع عامر، وكان قبل ذلك حين رجع من عند قيس بن معديكرب بما أعطاه، طلب الجوار والخفرة عن علقمة فلم يكن عنده ما طلب، وأجاره وخفره عامرٌ حتى أداه وماله إلى أهله.وهذا التزيد هو الذي يسميه الرواة أكاذيب الشعراء. أما أن يكون في عرب الجاهلية من يصنع الشعر وينحله غيره على نحو ما كان في الإسلام، فذلك ما لا نعلمه ولا نظنه كان البتة. ولما جاء الإسلام واندفع به العرب إلى الفتوح، اشتغلوا عن الشعر بالجهاد والغزو حيناً من الزمن ؛ فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف والحيف وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب رواته - صنعت القبائل الأشعار ونسبتها إلى غير أهلها، تتكثر بها وتعتاض مما فقدته ؛ وكان في العرب قومٌ آخرون قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بذوي الكثرة من ذلك، وإنما العزة للكاثر ؛ فقالوا على ألسن شعرائهم ما لم يقولوه وأخذه عنهم الرواة. وأول القبائل التي وضعت الشعر في الإسلام، قريش، وكانت أقل العرب شعراً وشعراء - لأسباب نذكرها في الكلام على الشعر - فإنها لما تعاضهت واستبت وكذب بعضها على بعض أول العهد بالإسلام حين كان منها المسلمون ومنها القاسطون ومنها دون ذلك، وضعوا على حسان بن ثابت أشعاراً كثيرة لا تليق به ولا تجوز عليه، وما نرى العرب إلا أخذت إخذها في ذلك من بعد. ولما كانت الرواية العلمية في القرن الثاني وشمر الرواة في طلب الشعر للشاهد والمثل، استفاض الوضع في العرب وتفرغ قومٌ لذلك: كمحمد بن عبد الملك الفقعسي راوية بني أسد الذي وضع للرواة أشعاراً كثيرة أدخلها في روايته عن قومه. وإن أشد ما كان يعضل بالرواة يومئذ أن يقول الرجل من ولد الشعراء في العرب عن لسان أبيه تكثيراً لشعره، فإن هذا كان مما يشكل عليهم لأنهم لا يميزون أكثر الشعراء إلا بالنسبة، وهي محمل الصدق والكذب، أما الصنعة الشعرية فقلما تختلف في أشعار العرب اختلافاً يظهر لأولئك الرواة إلا في القليل من صنعة الفحول المتقدمين. وكان القوم إذا تعلقوا برجلٍ من ولد الشعراء وألحوا عليه في السماع ورغبوا في شعر أبيه دونه، فكثيراً ما يفعل بهم مثل ذلك، ومن هؤلاء داود بن متمم بن نويرة الشاعر، قال أبو عبيدة إنه قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، قال: فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته ؛ فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلامٌ دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.

شعر الشواهد:

وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو ؛ وقد اشترط ذلك علماء المصرين ( البصرة والكوفة ) بعد أن قامت المناظرات بينهم في فروع النحو ومسائله، وكانوا يستشهدون على ذلك بأشعار الطبقتين من الجاهليين والمخضرمين، ثم اختلفوا في الإسلاميين كجرير والفرزدق، وأكثرهم على جواز الاستشهاد بأشعارهم وكان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة - يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم، ويعدونهم من المولدين الذين لا يستشهد بكلامهم ؛ قال الأصمعي: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي.وأبو عمرو هذا كان يقول في شعر تلك الطبقة: ( لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته. . .) !وللعلماء كلامٌ كثيرٌ في الطبقات التي يجوز الاستشهاد بأشعارها من أهل الحضر، ولكن الثقات منهم مجموعون على أن ذلك لا يتجاوز نفراً من طبقة المحدثين ممن ينتسبون في العرب، ونقل ثعلب عن الأصمعي أنه قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج.وتوفي ابن هرمة بعد الخمسين ومائة، وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. أما ما يذهب إليه بعضهم من أن سيبويه احتج بشعر بشار بن برد، فالخبر في ذلك أن سيبويه عاب أحرفاً على بشار ونسبه فيها إلى الغلط: كالوجلى من الوجل وجمع نون ( أي الحوت ) على نينان ؛ فهجاه بشار، قال أبو حاتم: فتوقاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيءٍ فأجاب عنه ووجد له شاهداً من شعر بشار احتج به استكفافاً لشره ! ( وتوفي بشار سنة 168 وقد نيّف على التسعين ). وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن، وشواهد النحو ؛ أما الأولى فكثيرة، وقد تقدم ما رووه من حفظ ابن الأنباري فيها، ولا يبالي الرواة في هذه الشواهد إلا باللفظ، فيستشهدون بكثيرٍ من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش، لأنهم يريدون منها الألفاظ وهي حروفٌ طاهرة ؛ وقد روى أبو حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيدة معمر بن المثنى الراوية بشيءٍ من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم، قال الجرمي فقلت له: عمّن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسيرٌ خلاف تفسير الفقهاء ؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوّالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ وإن شئت فذر !وأما شواهد النحو فأوسع الناس حفظاً لها فيما وقفنا عليه: خلف الأحمر النحوي المتوفى سنة 207، وهو مؤدب الأمين بن الرشيد ؛ قال ثعلب: إنه كان يحفظ أربعين ألف بيتٍ شاهدٍ في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب ؛ وأبو مسحل الأعرابي الذي أخذ عن الكسائي، قالوا إنه روى عن علي بن المبارك أربعين ألف بيتٍ شاهدٍ على النحو. وقد قلت شواهد النحو واللغة بعد ذهاب الرواة وعفاء مجالسهم، حتى صارت تشبه الآثار التاريخية في الضن بها والحرص عليها وتداولها كما هي ؛ لأن قيمتها في نفس الحالة التي هي عليها ؛ ومنشأ ذلك من تناقل الكتب بالرواية والاقتصار على ما فيها من مبالغةٍ في تحقيق الإسناد العلمي ؛ ولم يشتهر أحدٌ في المتأخرين بالإكثار من تلك الشواهد والاتساع في حفظها كابن مالك النحوي الشهير صاحب الألفية المتوفى سنة 672، وكان قد أخذ العلم بنفسه وليس له في الانتماء ما لغيره من العلماء ؛ قال الذهبي في ترجمته: ( وأما أشعار العرب التي يستشهدون بها على اللغة والنحو فكانت الأئمة الأعلام يتحيرون فيه ويتعجبون من أين يأتي بها. .) وهذه العبارة وحدها كافيةٌ في الوصف التاريخي الذي نحن فيه. والكوفيون أكثر الناس وضعاً للأشعار التي يستشهد بها ؛ لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولاً يقاس عليها ؛ مجاراة لما فيهم من الميل الطبيعي إلى الشذوذ كما سنبينه، قال الأندلسي في شرح ( المفصل ): ( والكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلاً وبوّبوا عليه، بخلاف البصريين ) وأول من سن هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك. ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهداً إذا كانت العرب على خلافهم ؛ وتجد في وشاهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله ؛ بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، كالشاهد الذي يحتجون به على جواز دخول اللام في خبر لكن، وهو قول القائل المجهول:

ولكنّني من حبّها لعميدُ

واستمروا على الوضع حتى بعد أن استبحرت الرواية في أواخر القرن الثالث ؛ قال المبرد المتوفى سنة 285 وهو من البصريين: قال لي أبو عكرمة الضبيّ: ما يساوي نحوك عند ابن قادم شيئاً ! ( وابن قادم من الكوفيين ) قلت: كيف ؟ قال: لأن له لغةً بخلاف هذه، وشواهد من الشعر عجيبة.فجعل ينشدني ويحدثني ويضحك، فكان من ذلك أن قال لي: سمعته يقول: أرز، ورنز ؛ ثم أنشد:

قرّبا يا صاحِ رنزه

وأجعلِ الأصلَ إوزّه

واصففِ القيناتِ حقّاً

ليس في القيناتِ عزه

فقلت له: من يقول هذا ؟ قال: بعض العرب المتحضرة، قلت: بل بعض النبط المتقذرة.اه. ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الصباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ.على أن البصريين وإن تثبتوا في أشعار الشواهد قد وقع لهم أشياء من الموضوع وجازت عليهم، وهذا سيبويه الذي سمي كتابه ( قرآن النحو ) وقيل فيه إنّ شواهده أصح الشواهد ؛ سأل اللاحقي: هل تحفظ للعرب شاهداً على إعمال فعلٌ ( الصفة ) ؟ قال اللاحقي: فوضعت له هذا البيت:

حذرٌ أموراً لا تضيرُ، وآمنٌ

ما ليسَ منجيهُ منَ الأعداءِ

وقال المبرد في الكامل: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع، وليس أحدٌ من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة. . والبيت الأول:

همُ القائلونَ الخيرَ والآمرونهُ

إذا ما خشّوا يوماً من الأمرِ معظما

والثاني:

ولمْ يرتفقْ والنّاسُ محتضرونهُ

جميعاً، وأيدي المعتفينَ رواهقهْ

وقال الجرميّ: في كتاب سيبويه ألفٌ وخمسون بيتاً، سألته عنها فعرف ألفاً ولم يعرف الخمسين.أما شواهد اللغة والغريب فلم يحصها الرواة، لأنّ مادّتها أكثر شعر العرب، ولأن اللغة لم تكن علماً برأسه.

شواهد أخرى:

وهنا ضربٌ ثالثٌ من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكان رواية الشعر فيهم يومئذٍ عامّة ؛ قال ابن قتيبة في ( التأويل ): وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريقٌ منهم في قوله تعالى: ( وسع كرسيه السموات والأرض ): أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:

ولا يكرْ سيء علمُ اللهِ مخلوقُ

ونقل الجاحظ في ( الحيوان ) أنهم يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأن عرب الجاهلية رأت الرجوم، ووضعوا أشعاراً في ذلك منها ما نسبوه لأوس بن حجر، وهو قوله:

فانقضَّ كالدّرّيِّ منْ منحدرٍ

لمعَ العقيقةِ جنحَ ليلٍ مظلمِ

قال الجاحظ: فخبرني أبو إسحاق أنّ هذا البيت في أبياتٍ أخر لأسامة صاحب روح بن همام وهو الذي كان ولّدها. ونجتزئ من الكلام عن شعر الشواهد بهذا المقدار ؛ لأنه جماع الباب كله على كثرة شواهده، وتوفر فوائده.

الرواةُ الوضاعون للشعر

وكان من الرواة قوم انفردوا بعلم قبائل العرب وأشعارها وأخبارها وما إليها.وغلب ذلك عليهم حتى لم تكن إليهم حاجة إلا فيه ؛ وهؤلاء هم الذين فتقوا بألسنتهم هذه الفتوق في الأدب ؛ وليس يخفى أن الحاجة وسيلةٌ إلى الاختراع، وأنّ من كثرت إليه الحاجة في أمرٍ من الأمور كان خليقاً أن يكون رأي هذا الأمر والغاية فيه، وهيهات هيهات لذلك إلا إذا استبد بفنّه وأحكمه بأسره ووجد الناس عنده منه ما لا يجدون عند غيره.وقد كانت علوم أولئك النفر قاطبةٌ تدور على الخبر والشعر، وليس في ذلك عندهم أكثر من الاستمتاع باللفظ الحسن والمعنى الطريف، مما لا يبنى عليه دينٌ ولا يدخل الناس منه في حرج ولا يكون فيه من بعد إلا إفساد التاريخ العربي، وأهون بذلك مادام هذا التاريخ قائماً بالتأويلات والمفاخرات والمناشدات، وبكل ما نسخه الإسلام أو أنساه أو جاء بخيرٍ منه، وليست الغاية من أكثره إلا ضرباً من السمر ونوعاً من لهو الحديث، وقد تزيد فيه العرب أنفسهم وهم مصدر الرواية وقدوة الرواة.وذا هو السبب في أنك لا تكاد تجد للجاهلية تاريخاً صحيحاً، ولا ترى فيما تتصفحه إلا التكاذيب والمبالغات وما يتصل بها، لأن مثل هذا العلم قريب أسباب المطمعة لا يكف عنه يأس ولا يدفع دونه عيّ، مادام قد تعاطاه أمثال أولئك الرواة من كل بصيرٍ بمذاهبه متحققٍ بمناقبه ؛ ومن حذق شيئاً لم يصبر عن الزيادة منه. فأما الأخباريّون الوضّاعون فستعرف أمرهم، وأما أهل الشعر فهم يضعون منه لثلاثة أغراض: للشواهد على العلوم - وقد مر الكلام عليها - والشواهد على الأخبار، والاتساع في الرواية.

الشواهد على الأخبار

وقد نشأ هذا النوع من الاستشهاد بالشعر على التفسير والحديث وعلى كل ما قامت به الرواية في الصدر الأول، حتى قرّ في أوهام الناس أنّ ما لا شاهد له من كلام العرب لا ثقة به كائناً ما كان علماً أو خبراً ؛ وكانت الأمة لا تزال على إرث الفطرة العربية في اعتبار الشعر وتمجيده والاهتزاز له، ثم كان ذلك عامّاً في سواد الناي من الخلفاء فمن دونهم، فلمّا كثر القصاصون وأهل الأخبار اضطروا من أجل ذلك أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام، فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه من الأنبياء وأولادهم وأقوامهم، وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق بن يسار موالي آل مخرمة لمتوفى سنة 150، وكان من علماء السير والمغازي، فكان الناس يعملون له الأشعار فيحمل منها كلّ غثاء، ويعقد قوافيها على الهواء، وقد كتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء، ثم جاور ذلك إلى عادٍ وثمود فكتب لهم أشعاراً كثيرة، حتى صار فضيحةً عند علماء السير ورواة الشعر، وكان في عصره جماعةٌ من القصاصين يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون أنهم أخذوها من الصحف ويروونها للأمم البائدة وغيرهم، فكان راوية ذاك العصر أبو عمرو بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت إليه حاجةٌ ولا كان فيه دليلٌ على علم.

شعر الجنّ وأخبارها:

والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب أيضاً وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعرٌ كثيرٌ يزعمونه للجن ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة. وكان أبو إسحاق المتكلم، من أصحاب الجاحظ، يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغوّل الغيلان: ( أصل هذا الأمر وابتداؤه أنّ القوم لمّا نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد من الإنس، استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين ؛ والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمعنى وبالتفكير ؛ والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلي بذلك غير حاسب. . .وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألةٍ فأنكر أهله عقله حتى حموه ( من الحمية ) وداووه ؛ وقد عرض ذلك لكثيرٍ من الهند، وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرّق ذهنه وانتفضت أخلاطه، فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أول وحشةٍ أو فزعةٍ وعند صياح يوم ومجاوبة صدى، تجده وقد رأى كلّ باطلٍ وتوهم كلّ زور، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفّاجاً كذاباً وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة ؛ ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها ! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقها ! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها. . .ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم، وإلا غبياً لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط ؛ وأما أن يلقوا راوية شعرٍ أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كامل كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر ! ). والأمر قريبٌ مما قاله أبو إسحاق ؛ فإن أخبار الجنّ لا تعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجلٍ من الرواة الذين يقصون للعامّة وأشباه العامّة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الرواية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعرٍ إن أنشده، ليدير الكلام على روعةٍ توكد معناه وتجعله ظريفاً غريباً ؛ فكأنه يستعين على بيان غرضه بضربٍ من التخيل، كما يستعين الكاذب أو الشاعر بمثلٍ من المجاز. ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجنّ، ونسبوا إليها كلّ غريبٍ وكلّ عظيم، لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم ؛ وقفّى على آثارهم جماعةٌ من المتصوفة، حتى عينوا أول من أسلم من الجن، وهو بزعمهم ( هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس. . .) وأول نبيّ أرسل إلى الجن فيما قالوا ( عامر بن عمير بن الجان ) فقتلوه وقتلوا بعده 800 نبي !والغرائب من هذا النمط كثيرة، وما نراها استفاضت في الإسلام إلا بعد ما ذكره جهلة المفسرين وأهل القصص ممن تكلموا في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الجن، أو ما جاء من ذلك في الحديث الشريف أو ما يشبه ذلك، ولابدّ لكل كلام عندهم من شعرٍ يستشهد به على ما عرفت، ولا أبلغ في ذلك ولا أدعى إلى الرضى من شعر الجن أنفسهم ؛ وقد سبقهم إلى بعضه الأعراب ؛ فلم يبق إلا أن ينفوا عنه تلك اللوثة الأعرابية، ويرققوا حواشيه، ويلائموا بينه وبين ما هم بسبيل من العلوم القديمة التي ادعى غيرهم من أهل الكتاب أن بعضها إلهي نزل من السماء، وادعوا هم أن سائرها شيطاني خرج من الأرض. على أنّ نادرة لنوادر من ذلك، في التاريخ العربي كله، إنما هو ما جاء به أبو السريّ سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المفلّق الذي كان في أواخر القرن الثاني، فإنه نشأ بسجستان، ثم ادّعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتاباً ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بالعهد، فقربه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم وأفاد منهم ؛ ثم جعل يتنفق عندهم بما يضعه من الشعر الجيد على ألسنة الجن والشياطين والسعالى، وقال له الرشيد: إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجباً، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدباً !ولكل ما أومأنا إليه في هذا الفصل أمثلةٌ كثيرةٌ من الشعر والخبر، أضربنا عنها خوف الإطالة بما لا طائل تحته، ولو كان فيها شيءٌ غير إنسي لجئنا به. . .أما ما يتعلق بزعمهم في شياطين الشعراء فقد أمسكنا الكلام عنه إلى بابه، فإنّ له ثمة موضعاً.

الاتساع في الرواية:

وهو سببٌ من أسباب الوضع يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها ؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره ؛ هوى وتعنتاً ؛ ورأس هذا الأمر حمادٌ الراوية الكوفي المتوفى سنة 155، وقد لقب بالراوية لهذا الاتساع.قال المفضل الضّبيّ: سلّط على الشعر من حمادٍ الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً ! فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن ؟ قال: ليته كان ذلك ؛ فإن كان أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجلٌ عالمٌ بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم ؛ فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجلٍ ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالمٍ ناقد ؛ وأين ذلك ؟وكان حمادٌ أول من جمع أشعار العرب واسق أحاديثها، فلا جرم أنه كان رأس الوضّاعين لما يقتضي لصنعة الجمع الذي يراد به الاتساع والاستئثار من الزيادة في شعر المقل حتى يكثر، ونسبة ما يكون للخامل من الشعراء إلى المشهور حتى يروى شعره، ونحو ذلك. وكان حماد يضع من الشعر ليقربه إلى بعض الأمراء زلفى، كالذي حدثوا به عن يونس، قال: قدم حمادٌ البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئاً ! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى فقال: ويحك ! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة ؟ ولكن دعها تذهب في الناس ! وكان أبو موسى جدّ بلال ! لأن أبا بردة ابنه. وأخذ في مذهب حمادٍ خلف الأحمر المتوفى سنة 180، وهو أول من أحدث السماع بالبصرة فيما سمعه من حمّادٍ كما مر ؛ وقد سلك في البصريين مذهب حمادٍ في الكوفيين ؛ غير أن أكثر ما وضعه من الشعر إنما خص به أهل الكوفة فرووه عنه ؛ وكان خلف أفرس الناس ببيت شعر، وأعلمهم بمذاهب الشعراء ومعانيها، وأبصرهم بوجوه الاختلاف بين ما يتميز بع شاعرٌ وشاعر ؛ فإذا عمد إلى المحاكاة فيما يضعه أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يصنع عليه ؛ حتى لا يتميز منه، وحتى لا يكون من الفرق بينهما إلا فرق التعدد الطبيعي الذي لا يدرك في الجوهر الواحد، كالفرق بين الروح والروح.وكان نفاذه في ذلك سريعاً بمقدار ما أوتي من سرعة البديهة ودقة الحسن البياني، حتى ضربوا به المثل ؛ وهو في باب معاني الشعر ومذاهب الشعراء معلم أهل البصرة جميعاً.لا يصدرون الرأي في شعرٍ دونه، حتى إن مروان بن أبي حفصة لما مدح المهدي بشعره السائر الذي أوله:

طرقتكَ زائرةً فحيِّ خيالها

أراد أن يعرضه على نقّاد البصرة، فدخل المسجد الجامع فتصفح الحلق، فلم ير حلقةً أعظم من حلقة يونس النحوي، فجلس إليه فعرفه خبره، ثم استأذنه أن يسمعه، فقال يونس: يا ابن أخي، إن هنا خلفاً، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعراً حتى يحضر ؛ فإذا حضر فأسمعه. وقد وضع خلفٌ قصائد عدةً على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفرى المشهورة بلامية العرب التي أولها:

أقيموا بني أمي صدورَ مطيّكم

فإنّي إلى قومٍ سواكم لأميلُ

وما أشبه أن تكون القصيدة أو أكثرها كذلك.وقال الأصمعي: سمعت خلفاً يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ

تحتَ العجاجِ، وأخرى تعلكُ اللّجما

وهو من أبيات الشواهد ؛ وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع على شعراء عبد القيس شعراً كثيراً ؛ وقال الجاحظ إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسيب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعاً !ثم قالوا إن خلفاً نسك في آخر أيامه فخرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة ! فبقيت الأشعار على حالها ؛ إذ كان الأمر قد مضى لوجهه ؛ وهكذا لا يملك الإنسان من آخرة الكذب ما يملك من أولاه. وإنما امتاز أهل الكوفة بكثرة الشعر والاتساع في روايته، لأن ذلك ميراثٌ فيهم منذ نزلها العرب، حتى إن علياً - كرّم الله وجهه - لما رجع بهم من قتال الخوارج على أن يستعدوا لقتال أهل الشام، ثم تخاذلوا عنه - لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: ( إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين ( جماعات )، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار ؛ تربت أيدكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل. . .). وكان الشعر علم أهل الكوفة حين كانت العربية علم أهل البصرة ؛ لأن العربية لم تكثر عند أولئك إلا بآخرة كما سنبينه بعد، وللكوفيين روايةٌ قديمةٌ في الشعر، وكان الخثعمي راويتهم فيه قبل حماد، ومعه أبو البلاد الكوفي، وهما في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم يشتهروا برواية الشعر إلا في أيامهما. بيد أن حماداً لامتياز الكوفيين بالشعر أصلاً تأريخياً ؛ فزعم أن النعمان بن المنذر أمر فنسخت له أشعار العرب في الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد الثقفي قيل له إن تحت القصر كنزاً، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، قال: فمن ثمّ أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة. . . ولما اشتغل هؤلاء الكوفيون بعلم العربية، وكان في طبعهم الشذوذ كما ستعرفه، سهل عليهم قبول الشواذ، ولم يتحرجوا من الصنعة للاستشهاد لأن الصنعة من شذوذ الرواية أيضاً، فزاد ذلك في الشعر عندهم، ومن أشهر رواتهم بعد حمّاد، خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعةٌ في الأشعار المدونة على القبائل، وقد ألف فيها كتاباً، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة 206 وقد جاوز المائة بعقد، وعنه أخذت دواوين أشعار القبائل كلها وقد جمع نيفاً وثمانين قبيلة. وليس في الرواة جميعاً من يداني حمّاداً وخلفاً في الصنعة، وإحكامها، فهما طبقةٌ في التاريخ كله، وإنما يكون لغيرهما البيت الواحد والأبيات القليلة مما لا تفتضح صنعته، يضعونه لتوجيه الحجة وتزيين الخبر ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتاً واحداً، يعني ما يروى للأعشى من قوله:

وأنكرتني، وما كانَ الذي نكرتْ

منَ الحوادثِ إلاّ الشّيبَ والصّلعا

وهو من أبيات الشواهد - ومنهم الأصمعي، وأبو عبيدة، واللاحقي، وقطرب، وغيرهم. وقد يجد الرواة للشاعر الأبيات الحسنة في المعنى الجيد وهي تحتمل الزيادة، فيصنعون عليها ويولدون حتى تبلغ قصيدة، كأبيات الطيرة للحارث بن حلزة.وهي أربعة أبيات ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة.قال أبو عبيدة: أنشدنيها عمرو، وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوعٌ مولد، وتلك قوله:

يا أيّها المزمعُ ثمَّ انثنى

لا يثنيكَ الحادي ولا الشّاحجُ

ولا قعيدٌ أعضبٌ قرنهٌ

هاجَ لهُ من مربعٍ هائجُ

بينا الفتى يسعى ويسعى لهُ

تاحَ لهُ من أمرهِ خالجُ

يتركُ ما رقّحَ من عيشهِ

يعيشُ منهُ همجٌ هامجُ

وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثاً، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مشهورة، أولها:

خليليَّ ما أذني لأوَّل عاذلِ

بضغواءَ في حقٍّ ولا عندَ باطلِ

قال ابن سلاّم: زاد لناس في قصيدة أبي طالب وطولت بحيث لا يدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها ؟ قلت: لا، قلنا: وإنما طولت هذه القصيدة معارضةً للطوال المعروفة ( بالمعلقات ) حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قاله عم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن في أصلها أبياتاً هاشمية تفي بكثير من الطوال. ولما كان علم العرب كله في البصرة والكوفة بعد أن نشأت الرواية لم يكن الناس يأبهون لما يظهر في غيرهما ؛ فكانت تسقط أخبار الوضاعون في الأمصار لذلك، إلا قليلاً يأتي عن بعض علماء البلدين، كالذي ذكره الأصمعي، قال: أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدةٌ واحدةٌ صحيحة، إلا مصحفة أو مصنوعة ؛ وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاماً ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخبت روايته ؛ وهو عيسى بن يزيد، يكنّى أبا الوليد، وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر. ولما فشا أمر الصنعة في الشعر، جعل المتأخرون يضعون القصيدة والرجز وينسبونه لمن اشتهروا بالوضع من المتقدمين، كخلف ؛ أو بالاتساع في الرواية، كالأصمعي ؛ لأن من أجاز على الناس أجاز الناس عليه.

وما ظالمٌ إلاَّ سيبلى بأظلمِ

وأخذ القصاص أيضاً في هذه الناحية، فصنعوا الأخبار الكثيرة واسندوها إلى علماء الأنساب والإخباريين، ليعطوها بذلك معنى التاريخ الذي تثبته الرواية.

ضربٌ من الوضع

وضربٌ آخر من الوضع سنّه الأدباء فيما يتكلفون له من الشعر والرسائل والخطب، إذا عرضوا ذلك يطلبون فيه رأي النقادين وأهل البصر بالكلام، وأن يعرفوا موقع ما يأتون به من الاستحسان، ومبلغ تجرد الهوى في الحكم عليه.قال الجاحظ يزين هذه الطريقة: ( فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة أو حبرت خطبة أو ألّفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، وعجبك بثمرة عقلك، إلى أن تنتحله وتدّعيه، ولكن أعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصفي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله ).قلنا: ولعلهم لا يطلبونه ولا يستحسنونه فيخرج عندهم مخرج المتروك وينتفي منه قائله ولا ينفيه، فعسى أن يكون فيمن سمعه من يحفظه مدخولاً، أو يرويه منحولاً، ويجريه مع سائر القصيدة أو الخطبة أو الرسالة - إن كان في شيءٍ من ذلك - على أنه بعضه، أو يحفظ نسبته إن كان في الكلام متفرق، ويكون ذلك سبب وضعه، ثم يمر في الأفواه فتصقله، ويلقيه الزمن بعد ذلك لمن ينقله ؛ ولا شكّ عندنا أن مثل هذا في تاريخ الوضع قولٌ ومذهب.

التعليق على الكتب:

وههنا نوعٌ من الرواية الموضوعة كان يذهب إليه بعض المتأخرين ؛ وذلك أن الواحد منهم ربما ألحق الأبيات للشاعر المتأخر ببعض العرب ويعلق ذلك على كتاب عنده، أو ينحل الشاعر أبياتاً لغيره ثم يدسها في ديوان شعره، على أن يكون هذا مما يكاد به لذلك الشاعر، حسداً له، ونفاسةً عليه، أو عبثاً يلهو به من يفعل ذلك، أو لسبب مما يجري هذا المجرى، وقد اختلف العلماء في أشباه من هذا الجنس، قال المعريّ في كتاب ( عبث الوليد ) وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتاباً قديماً قد كتب على ظهره: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ثعلب:

منِ الجآذرُ في زيّ الرّعابيبِ

وذكر خمسة أبيات من أول هذه القصيدة، وهذا كذبٌ قبيحٌ وافتراءٌ بيّن، وإنما فعله مفرط الحسد، قليل الخبرة بمظان الصواب، غرضه أن يلبس على الجهال.وقد رويت أبيات أبي عبادة ( البحتري ) التي في صفة الذئب لبعض العرب، ويجب أن يكون ذلك كذبا ًمثل ما تقدم.وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من بني البرك راشد بن وبرة، ولا ريب أن ذلك باطل.والشواهد من هذا النوع غير قليلة.

الشوارد:

ومن الشعر نتف قليلة تقع في البيتين والثلاثة، ويسميها الرواة بالشوارد ؛ لأنهم لا يعرفون نسبتها، بل بروونها على أنها مرسلة لا أرباب لها، وهي نادرة في الشعر، لأنهم لا يحفلون بما جهلوا نسبته كما مر في موضعه، بيد أنه متى كانت الأبيات لا شاهد فيها وكانت جيدة حسنة السبك رصينة المعنى طلية العبارة، عدوها من الشوارد لتجوز من هذا الباب إلى الرواية ؛ فمن ذلك ما رواه أبو عبيدة، قال: من الشوارد التي لا أرباب لها قول بعضهم:

إن يغدروا أو يفجروا

أو يبخلوا لم يحفلوا

يغدوا عليكَ مرجّل

ينَ كأنّهم لم يفعلوا

كأبي براقش كلَّ يو

مٍ لونه يتبدّلُ

اختلاف الروايات في الشعر:

وقد كان العرب ينشد بعضهم شعر بعض، ويجري كل منهم في النطق على طبعه ومقتضى فطرته اللغوية، فمن ثم يقع الاختلاف الصرفي واللغوي الذي نراه في بعض الروايات، وقد يغير العربي فيما يتمثله من الشعر كلمة بأخرى يراها أليق بموضعها وأثبت في معناها، أو تكون الكلمة قد أصابت هوى في نفسه، لأنهم إنما يتمثلون الشعر لغير الغرض اللغوي الذي قامت به الرواية، وذلك كقول أبي ذؤيب الهذلي:

دعاني إليها القلبُ، إني لأمرهِ

مطيعٌ، فما أدري أرشدٌ طلابها

وهي رواية أبي عمرو بن العلاء، ولكن الأصمعي على نقيض هذا المعنى فقال: ( عصاني إليها القلب. . .) البيت.وظاهرٌ أن هذا التناقض في الرواية لا يكون من الشاعر، وإنما هو تفاوتٌ في الاستحسان لا غير. وكان الرواة ينقلون الشعر على ما يكون فيه من مثل الاختلاف ولا يبالون أمره، لأنهم يريدون لغة الشعر، والشعر متى جاء عن أعرابي كان حجة، لأن لسان العربي لا يطوع بغير الصواب، ولهذا تختلف الروايات في بعض الأبيات وهي في الأصل غير مختلفة. ومن أسباب الاختلاف، أن الشعراء في الصدر الأول كانوا يعتمدون على الحفظ، ولكنهم لا يثبتون من شعرهم كل لفظٍ بعينه، بل ربما أنشد الرجل منهم أبياتاً فتروى عنه، ثم تأتي الأيام فينسى بعض ألفاظها ؛ فلا يكون إلا أن يضع غيرها ثم ينشد الأبيات على وجه آخر ؛ فتروى أيضاً ؛ ومن ثم تجتمع الروايتان في شعره أو لروايات المختلفة ؛ ولهذا قال ذو الرمة لعيسى بن عمر الثقفي: ( أكتب شعري، فالكتاب أحبّ إليّ من الحفظ ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمةٌ في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام ) !ومن الرواة من كان يغير في ألفاظ بعض الأبيات لتوجيه حجته وإنهاض دليله، فيروى عنه البيت على وجهه المغير ؛ وذلك فاشٍ بينهم، وخاصةً في رواة الكوفيين، ومنهم من كان يغير في الدواوين المكتوبة ليعذر بها عند الخلاف ويقيم منها الحجة على الرواية الصحيحة، فيكون ذلك سبباً في الاختلاف. ولا تنس ما ينشأ عن التصحيف في الكلمات المتشابهة ؛ فإنه من بعض أسباب الاختلاف أيضاً، وشواهده كثيرة في كتاب التصحيف للعسكري. وهذا وذاك غير ما يكون من تزيد بعض الرواة في الشعر حتى يخرج إلى الوضع والصنعة كما مر في محله، ثم يجيء غيره فينقص أو يزيد أو يقدم أو يؤخر ؛ ويعقبهما ثالثٌ فيصيب أبياتاً حسنة على روي تلك القصيدة فيدسها فيها ويرويها على أنها منها، ثم يأتي رابع فيرى اختلاف النسبتين في القصيدة الواحدة فيسقطهما جميعاً وينحلها شاعراً آخر، وهكذا ؛ ومما استجمع كل ذلك الاختلاف هذه القصيدة التي أولها:

تقولُ ابنةُ العبسي: قد شبتَ بعدنا

وكلَّ امرئٍ بعدَ الشّبابَ يشيبُ

ومنها شاهد النحاة المشهور: ( لعل أبي المغوار منك قريب ) وهي مرثية رواها القالي في أماليه، وقال: ( قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن درير هذه القصيدة في شعر كعب الغنوي. . .إلى أن قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي، وبعضهم يروي شيئاً منها لسهم، وزاد أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين.قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره )، ثم قال: ( والمرثي بهذه القصيدة يكنّى أبا المغوار، واسمه هرم، وبعضهم يقول اسمه شبيب، ويحتج ببيتٍ روي في هذه القصيدة: ( أقام وخلّى الظاعنين شبيب ) وهذا البيت مصنوع والأول ( كأنه أصح ). هذا، وقد بقي الكلام في انتحال الشعر ورواة الشعراء وشياطينهم وعمل أشعارهم وتدوينها وما إلى ذلك، وكلها مما يمكن أن يتصل نسبه بما نحن فيه من أمر الرواية، ولكنه بباب الشعر أقرب مشاكلة وأدنى اتصالاً، فأنزلناه ثمة في مراتبه، وألحقناه بتلك المطالب لفائدة طالبه.

التزيد في الأخبار

وهذا أوسع أبواب الوضع في الرواية، لأنك إذا اعتبرت اللغة والشعر وجدتهما في حكم العلوم الثابتة المدونة، بما حاطهما الرواة من التثبت والتفتيش كما مر ؛ ولأن اللغة كانت لساناً فطرياً في قوم معروفين لقيهم أهل الرواية وشافهوهم بها، وكان الشعر إنما يطلب أكثره للفظه ولم يأخذوه عن المحدثين، فهو في حكم اللغة من هذه الجهة، وأما الأخبار التي تأتي عن العرب وغيرهم فإنما يريدون ببعضها التاريخ، وبأكثرها السمر والمنادمة والاستعانة على حشو علوم أخرى، كالنسب والتفسير والحديث وما إليها. ولم يعن العلماء بالتثبت في شيء من الخبر إلا ما نسب إلى رسول الله ه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما يدخل في السنن، فقد محضوا كل ذلك وميزوا جيده ونفوا رديئه وخلصوا إلى الحقيقة فيه بكل حجة، أما ما عداه فكان أمره بحسب القائمين عليه: منهم من تثبت واستبصر ورأي أنه يبرأ من العهدة ويتحرج من التبعة بإسناد كل خبر وبيان طريقه في الرواية، وهم مشاهير الرواة. ومنهم من لم يبال معروف ذلك من مجهوله، وصحيحه من مدخوله.فكان يكذب ويصدقه الناس، ويأتي بالأخبار المتنافية المتناكرة، ويضع التهاويل والأباطيل والأضاليل، والناس مقبلون عليه، منصرفون بوجوه الرغبة إليه، وهؤلاء هم أكثر القصّاص. ومنهم قومٌ جعلوا الأخبار علمهم فتميزوا بها ودونوا فيها الكتب الكثيرة المفننة، فهم يكذبون مبالغةً في الإغراق، ورغبةً في الاجتلاب والحشد ؛ لأن ذلك لا يطرد لهم إلا بالتزيد ؛ وهؤلاء هم الذين كتبوا في تاريخ العرب وأخبارهم وأسمارهم ومناقبهم ومثالبهم وأيامهم في الجاهلية ونحو ذلك، وقد سموهم ( الإخباريين )، لأنهم لم يكونوا يعرفون من معنى ( التاريخ والمؤرخ ) إلا التوقيت - وسيأتي الكلام عن الإخباريين في فصل الرواة - ولم يتسعوا في ذلك الاتساع كله إلا في أطراف القرن الثاني، حين استفحل أمر الشعوبية فوضع القوم على العرب شيئاً كثيراً من المناقب والأخبار، رد أكثره عليهم أهل الرواية من المحققين وكذبوهم فيه وأغفلوا روايته عنهم، ومن هذا الموضوع خبر المعلقات المشهورة كما سيمر بك في بابه. والرواة إنما قلدوا العرب في صنعة الأخبار والتزيد بها، كما قلدوهم في وضع العشر، لأن العرب كانوا يكذبون بعضهم على بعض في المثالب، ويتزيدون في المناقب، وكانوا يتناقلون أخباراً من تاريخ الأوائل والبائدة عمن خالطوهم من الأمم، على ما في أكثرها من الوهن والكذب، وهي لا تدور فيهم حتى يكون قد داخلها الكثير من مثل ذلك، وشبه الشيء منجذب إليه. ولبعضهم نوع من التاريخ الوضعي يسميه الرواة ( تكاذيب الأعراب ) ( وأضاحيك الأعراب ) وهو من الخرافات أو ( الميثولوجيا ) - وللكلام عليه موضع. ومن وراء ذلك أمر الهجائين والفحاشين ومن اشرأبوا للفتنة ومردوا على النفاق وألفافهم، ومادة هذا الأمر مجبولةٌ بالكذب.فلما جاء الإخباريون بعد الإسلام أخذوا تلك الأخبار وجعلوها علمهم، وولدوا منها واحتذوا مثالها، لأن كل ما هو بسبيل التاريخ مما خرج عن أمر الدين، فهو عندهم في سبيل الحكاية والتلفيق وما يبتغي من القصص، ولولا اعتبارهم هذا لما بقيت الآداب العربية خالية إلى اليوم من كتاب واحد يوثق به في تاريخ العرب أو تاريخ آدابهم، وقد أشرنا إلى هذا المعنى غير مرة. وروى الجاحظ أن بعضهم قل لأحد الرواة: إنك تكذب في الحديث ! فقال: وما عليك إذا كان الذي أزيد فيه أحسن منه ؟ فوالله ما ينفعك صدقه ولا يضرك كذبه !بخ بخ ! وما يدور الأمر إلا على لفظ جيد ومعنى حسن. . .!هذه هي طريقتهم بعينها قبل أن تنضج العلوم وتنضب الرواية، كمخض الماء: لا يؤتي غير الماء، وقد ورثوها عن العرب أنفسهم، لأن العرب أمة في حكم الفرد، والفرد منها في حكم الأمة، إذا كان كل واحد منهم إنما ينهض بعبئه ولا يحمل إلا رأسه يطرحه كيف أراد، وتلك طبيعة أرضهم لا يجمعهم ولا يفرقهم إلا منفعة الفرد ومضرته.ومعلوم أن تاريخ العرب لا ينفع صدقه أحداً ولا يضر كذبه أحداً، إذا جعلنا مصداق النفع والضرر ما يتبينه المرء في خاصة نفسه مما يحس منه أثر النفع أو الضرر، وهل الأمر إذا رجعنا إلى هذه القاعدة إلا كما يقول الله - سبحانه وتعالى -:توجد آيةهذا، وإن أكثر ما وضع من الأخبار لغير التصنيف إنما كان يراد به الملوك ومن في حكمهم، أو العامة ومن في وزنهم، فأما الملوك فإن الرواة كانوا يعرفون أنهم لا يستقصون، فيصنعون لهم الأخبار يزلفونها إلى هوى أنفسهم ويديرون الكلام فيها على أغراضهم، ويأخذون في تلك الفنون، استعانةً على السمر، وتكثيراً للأحاديث.وكل من عرف من الرواة بأنه صاحب سمر كان ذلك غميزة في علمه، ومذهباً للكلام فيه، كشرقي بن القطامي مؤدب المهدي فإنهم جعلوا السمر علته، وكان يجري في مذهب ابن دأبٍ الشاعر الإخباري الذي كان بالمدينة، كما جرى خلف الأحمر في مذهب حماد. وأول من عرف من ملوك الإسلام بالرغبة في السمر والتعلق بأهل الأخبار - وإن كان ذلك لمعنى سياسي - معاوية بن أبي سفيان، فقد كان داهياً نقاباً في أموره، يستبين من رأيه في كل مشكل طريقاً نهجة، ويفرق له في كل معضل عن سبب إلى النفاذ صحيح، فكان يتطلب الأخبار يستعين بها على استيضاح الشبهات، ويرجع منها إلى القدوة في المعضلات، فيقال إنه كان إذا انفتل من صلاة الفجر جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يضطرب في أموره سائر نهاره، حتى إذا صلى العشاء الآخرة جلس لمؤامرة حاشيته فيما أرادوا، صدراً من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وما إلى ذلك، وقد أسلفنا أنه استقدم عبيد بن شرية الجرهمي النسابة الإخباري من اليمن خصيصاً لبعض أغراضه تلك. وأما العامة فكلما كان الراوية أو المحدث أو القاص أموق كان عندهم أنفق، وإذا كان مستهتراً بالغرائب كان عندهم أوثق، وإذا ساء خلقه وكثر غضبه واشتد حدة وعسرة في الحديث وشغب ولوى شدقه لمن يراجعه، تهافتوا عليه، وهذا أمرهم بعد التابعين لأصحاب رسو ل الله صلى الله عليه وسلم كما سيجيء. وقد كان الأعمش المحدث ( توفي سنة 148 ) يقلب الفرو ويلبسه حتى يكون صوفه إلى الخارج، ويطرح على عاتقه منديل الخوان مكان الرداء ؛ وسأله رجل مرة عن إسناد حديث، فأخذ بحلقه واسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده. . .والأعمش هو القائل فيمن كانوا يسمعون منه: والله لا يأتون أحداً إلا حملوه على الكذب !

القصّاص

وهم الذين يقصون على الناس، ويكون من علمهم التفسير والثر والخبر عم الأمم البائدة وغيرهم ؛ ينقلون ذلك تعليماً وموعظة ؛ وكانوا في القرن الأول يقدمونهم في بعض حروب بني أمية ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وفضائلهم وما وعدوا به في الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وليحمسوهم بذلك قبل مباشرة القتال، حتى لا تحجزهم رهبةٌ ولا يملكهم فزعٌ ولا ترد وجوههم آمال الحياة ؛ وهو وجهٌ من الحيطة في السياسة وحسن النظر في التدبير ؛ وكان ذلك دأب الحجاج الثقفي أمير العراقين لبني أمية، في حروبه ووقائعه ؛ لأن أكثر من قاتلهم كانوا من المستميتين ديانةً أو حمية، كالخوارج والناقمين عليه وعلى بني أمية من العرب، وأخبارهم مشهورة. أما قبل هذه الدولة فكانت الموعظة في الحروب والتذكر بما يصدق الله من وعده للمجاهدين في إعلاء كلمته - شأناً من شؤون القوّاد، يخطبون بذلك على الناس ولا يتجاوزون به آياتٍ من القرآن وجملاً من الحديث وكلمات لهم بين ذلك. ولم يكن القصص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ؛ لاجتماع كلمة المسلمين، ولقرب العهد من الرسالة ؛ وإنما أحدثت القصص في زمن معاوية، حين كانت الفتنة بين الصحابة - رضي الله عنهم -، وكانت مقصورة على الموعظة الحسنة والتذكير وما إلى ذلك ؛ واول من قص من الصحابة، الأسود بن سريع، وكان يقول في قصصه إذا ذكر الموت وخاطب الميت:

فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ

وإلاّ فإنّي لا أخالكَ ناجيا

ثم كان أول من قص من التابعين بمكة، عبيد بن عمير الليثي ؛ وقد جلس إليه عبد الله بن عمر وسمع منه، فكان ذلك داعية إلى إقبال الناس ورغبتهم في استماع القصص لمكان ابن عمر من الدين والورع ؛ وقد أقرته كذلك عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - ولم تنكر عليه، فحدث عطاء قال: دخلت أنا وعبيد عليها، فقالت: من هذا ؟ فقال: أنا عبيد بن عمير ؛ فقالت - رضي الله عنها: قاصّ أهل مكة ؟ قال: نعم ! قالت: خفف، إن الذكر ثقيل. وقد مر بك آنفاً أن معاوية اتخذ قاصاً كان يجلس غليه متى انفتل من صلاة الفجر ؛ فلا غرو أن يتابعه أهل الشام على ذلك ويكثر القصص فيهم ؛ ولعل هذا من دهاء معاوية في السياسة. ثم صار القصص مما يلقى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة واتخذت له حلقة كحلق الدروس ؛ وأول من لزم ذلك فيه، مسلم بن جندب الهذلي، وهو إمام أهل المدينة وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: من سره أن يسمع القرآن غضاً فليسمع قراءة مسلم بن جندب ! ثم كان أول من اتخذ تلك الحلقة في مسجد البصرة، جعفر بن الحسن. ولم يكن القصص في القرن الأول مرذولاً، ولا كانوا يرون به بأساً ؛ لأن فنونه إنما ترجع إلى القرآن والحديث، ولم يكن يشوبه شيءٌ إلا ما كانوا يسمونه ( بالعلم الأول ).وهو ما يتعلق بأخبار الأمم السالفة، وأكثره يأخذونه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعمن اسلم منهم، وبعض هؤلاء كان غزير العلم واسع الحيلة في قصص الأولين، كعبد الله بن سلام الذي اسلم عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكعب الأحبار الذي أسلم في خلافة عمر وتوفي سنة 32 ؛ وعن هذين الرجلين - ووهب بن منبه المتوفى سنة 114 - أخذوا سواد قصصهم مما يتعلق بأخبار الأمم وأحوال الأنبياء والنذر الأولى وما يجري مع ذلك ؛ وكان وهب من الأبناء ( أبناء الفرس ) لأن جده جاء إلى اليمن فيمن بعثهم كسرى حين استنجدوه على الحبشة، وقد أخذ آباؤه عن اليمن أخبار اليهود، وأخذوا عن الحبشة أخبار النصارى، ثم كان وهب يعرف اليونانية أيضاً، فاتسع بذلك علمه، حتى قالوا في بعض ما نقلوه عنه: إنه قرأ من كتب الله اثنين وسبعين كتاباً، وهو أول من صنف قصص الأنبياء في الإسلام. وممن أخذوا عنهم أيضاً، طاووس بن كيسان التابعي، وهو من الأبناء، وتوفي سنة 106 ثم ورث الرواية عنه ابنه عبد الله بن طاووس. ولما كان القرن الثاني وانتهى عصر كبار القصاص من التابعين، ورأسهم الحسن البصري المتوفى سنة 110 - وكان - رضي الله عنه - مفنناً ثقة في كل ما يتعاطاه من العلوم - نشأت بعده الطبقة التي أخذت عنها العامة وقد اضطربت الفتن وكثر الكلام وفشت الأكاذيب في الحديث وفي أخبار العرب وفي الشعر، فصار هم القاص أن يجيء بالغرائب، ويكثر من الرقائق ؛ لأن أهل العلم انصرفوا إلى حلقات الرواية، ولم يبق في حلقات القصاص إلا العامة وأشباههم ؛ وقد علمت مذهبهم والشأن فيما ينفق عندهم ؛ فمن ثم ساءت المقالة فيهم، وصار القاص عند أهل العلم أحمق ممخرقاً لا يعرفونه بغير ذلك، إلا قليلاً ممن استوعبوا وتبينوا وجروا في مذهب الرواة ( وهو نقل الكذب الذي لا بأس به وإسناده إلى أهله ) وامتازوا مع ذلك بالفصاحة والبيان.ويبدأ تاريخ هؤلاء بعد الحسن البصري، بموسى بن سيار الأسواري، قال الجاحظ: ( وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار ؛ ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرأ في محراب من موسى بن سيار، ثم عثمان بن سعيد بن اسعد، ثم يونس النحوي، ثم المعلّى. قال: ( ثم قص في مسجده ( بالبصرة ) أبو علي الأسواري بن فائد، ستاً وثلاثين سنة، وابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات ؛ لأنه كان حافظاً للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما يفسر آية واحدة في عدة أسابيع، كأن تكون الآية قد ذكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكان يقص في فنون كثيرة من القصص ويجعل القرآن نصباً من ذلك.وكان يونس بن حبيب يسمع منه كلام العرب ويحتج به، وخصاله المحمودة كثيرة. ثم قص من بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، ولم يدرك في القصاص مثله.وكان يقص معهما وبعدهما ملك بن عبد الحميد المكفوف، فأما صلحٌ المري فإنه كان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس، قال الجاحظ: ( فذكر أصحابنا أن سفيان بن حبيب لما دخل البصرة وتوارى عند مرحوم العطار ( من أصحاب الحديث، كان في أواخر القرن الثاني ) قال له مرحوم: هل لك أن تأتي قاصاً عندنا فتتفرج بالخروج والنظر إلى الناس والاستماع منه ؟ فأتاه على تكره، لأنه ظنه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول: حدثنا سعيدٌ عن قتادة، وحدث قتادة عن الحسن - رأى بياناً لم يحتسبه، ومذهباً لم يكن يدانيه، فأقبل سفيان على مرحوم، فقل: ليس هذا قاصاً، هذا نذير ) !ولما نضجت العلوم في القرن الثالث، ذهب القصاص وخلفهم الوعاظ من المتصوّفة، والزهّاد، إذ كان اسم القاص قد اصبح لقباً عامياً مبتذلاً، وأكثر المتصدرين في الوعظ إنما يكونون من أهل الحديث والمتسعين في العلوم، ولا حاجة إلى الكلام عنهم، ولم يزد المتصوفة في الأخبار إلا ما يزعمون أنهم احتووه بعلمٍ خاص، والله أعلم بغيبه.

الرواة

فرغنا ن القول في الرواية ونشأتها وتأريخها والوجوه التي تقلبت عليها، وبقي الكلام على الرواة وعلومهم وما تحققوا به من المذاهب وما تميزت به طوائفهم عند أهل المقابلة والتنظير، ثم ما يدخل ذلك من معان حين تعرض، وأعراض حين تتوافى لتورد موردها ويصدر الأدب مصدره، وهو منزع لا ننكر أن التطاول إليه هو المقصر عنه، وأن المبتدئ فيه هو المنتهي منه، وذلك لأن رواتنا وأن قدح بعضهم جرحاً وتعديلاً، وتوسعوا في مذاهب النقد تعريضاً وتطويلاً، إلا أنهم لم يدونوا شيئاً لمن بعدهم كما دون أهل الحديث، بل اكتفوا بأن هذا الأمر كان منهم عل المشاهد والعيان، أو قريباً نهما بالسند والسماع، فألقوا لنا بذلك الشغل الطويل، والعناء الوبيل، ولو أنهم دونوا الطبقات وميزوها وفصلوا مراتبها وساقوا أخبار الرجال، على نحو ما فعل نقاد الحديث، وهم كما قالوا: ( عيار هذا الشأن، وأساس هذا البنيان ) - لقد كانوا أحسنوا لأهل التاريخ لإحسان كله. ولشد ما كانوا يتحوبون ( عفا الله عنهم ) فيما يهجن به بعضهم بعضاً مما يسبق من الظن إلى أحدهم ويتوجه من الشبه عليه، فلا يحبون أن يثبتوا من ذلك شيئاً، لأنه كجهادٌ لا يراد به وجه الله كما هو الشأن في الحديث، فكان ألأم بينهم مقصوراً على المناقضات والمنافسات، بيد أن كل طبقة منهم كانت تحكي عن سابقيها أشياء مما تناقلته، حتى انتهي جماع ذلك إلى مدوني كتب الطبقات، وإلى المتناظرين في تصنيف الكتب التي وضعوها للكلام في علماء المصرين، وإلى المصنفين في اللغة من متأخري الرواة الذين تعقبوا السابقين وتتبعوا ما نقل عنهم، كالأزهري صاحب التهذيب وغيره، فرأى كل أولئك أن القليل الذي تأدى لا يعطي من حكم النقد المباح ما كان له في زمنه، فيعتبر من الكلام المعفو عنه الذي بعثت عليه المعاصرة كما أجراه أهله، فلا يبقى له شأن متى وضح الحق وظهر وجه الصواب وتمهدت به العلوم - بل رأوا فيه مادة لما كانوا بسبيله، ورأوا أن التاريخ قد أحال تلك المناقضات بعد أن طوى أشخاصها ونفض عنها رهج الحفيظة ووهج الأنفاس، فحرصوا عليها ودونوها، ولولا ذلك لعفا هذا الموضع من التاريخ. أول من صنف في طبقات القوم، أبو العباس المبرد المتوفى سنة 285م فإنه وضع كتاباً في علماء البصريين، وكان بصرياً، ثم صنف أبو الطيب اللغوي المتوفى سنة 338 ( وقيل بعد الخمسين ) كتابه ( مرتب النحويين ) جمع فيه البصريين والكوفيين قم أطرد التصنيف بعد ذلك، فوضع السيرافي المتوفى سنة 368 كتابه في ( طبقات النحاة البصريين ) وصنف أبو بكر الزبيدي الأندلسي المتوفى سنة 379 ( طبقات النحاة ) وميز فيه البصريين من الكوفيين، ثم ظهرت بعد ذلك كتب كثيرة لا حاجة إلى الكلام عنها، لأننا إنما نعين تأريخ التدوين فيما تناول أحوال الرواة ومناقضاتهم، ولم يكتب من ذلك شيء قبل القرن الثالث، ولا نعلم أنه كتب منه شيء قبل الذي أورده الجاحظ في تضاعيف كتبه، وهو قد توفى سنة 255، وليس غيره أولى بأن يكون أول من اقتحم هذا الباب من الكتابة، وإن كان ما أورده قليلاً لا حفل به ولا قدر له في جانب ما تناولناه من كتب الطبقات على اختلافها وكتب أخرى، ك ( التهذيب ) الأزهري، والتصحيف للعسكري، والخصائص لابن جني، وقد كسر فيه باباً من قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضاً. ولقد انتقد كثير من جلة العلماء - وخاصة علماء الأصول - إهمال الرواة والقائمين باللغة والنحو أن يبحثوا عن أحوال هذه العلوم ويفحصوا عن جرح رواتها وتعديلهم، واعتذر بعضهم من ذلك بأنهم أهملوه ولم يجاروا فيه رواة الأثر لأن الدواعي كانت كتوفر على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفة التي تحمل الواضعين على الوضع، قال: ( وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليها في غاية لضعف، ولذلك اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة، فإن شهرتها وتداولا يمنع ذلك من ضعف الداعية له، وقد رد السيوطي على أصحاب هذه الأقوال بما زعمه ( الجواب الحق ) ولم يزد على أن احتج بما جاء في كتب الطبقات. .!

البصرة والكوفة:

وقبل أن نمضي فيما أخذنا فيه، نسوق هذه الكلمات الموجزة في تاريخ هذين المصرين العظيمين اللذين خرج منهما علم العرب، واللذين يرجع ليهما سند العربية في سائر الأمصار. أما البصرة فقد اتخذها المسلمون مصراً حين كانوا يغزون من قبل البحرين ليشتوا ثم ليلوذوا به إذا رجعوا من غزوهم، وأول من مصرها عتبة بن غزوان بن ياسر، وذلك سنة أربع عشرة للهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أقرب إلى البوادي الصريحة من الكوفة، تكاد تقابل في وضعها سرة البادية التي ضربت فيها القبائل العربية الفصيحة، ولذا فصح أعرابها وتميز أهلها بالصحيح، وكانت بمثابة الجفاة الخلص من أعراب البادية، وقد كان فيها المريد، وهو عكاظ الإسلام، يقوم فيها الخطباء ويتنافر الأشراف وبناقض الشعراء، ومن ثم ضربوا المثل بأدب البصريين، وجعلوا هذا الأدب فيهم بمنزلة ما اختصت به الأمم طبيعة من الميراث التاريخي، كحكمة اليونانيين، وصناعة أهل الصين، وما إليهما. وأما الكوفة فكان تمصيرها بعد البصرة بستة أشهر، على قول، وبعام أو عامين على قول آخر واتخذها المسلمون مصراً حين كانوا يغزون من قبل فارس، وأكثر أهلها من عرب اليمن، وكان يطرأ عليها ضعاف الأعراب مما فوق البادية الصريحة، ولذا لانت جوانب ألسنتهم وضعفت فصاحتهم وكان الميل إلى الشاذ متأصلاً فيهم طبيعة، فأسرع الفساد في ألسنتهم قبل أن يفشوا مثل ذلك في البصريين، وأعظم وما اشتهرت به الكوفة، ميل أهلها إلى الطاعة ديانة، دون البصرة التي اشتهر أهلها في التاريخ بالنزوع إلى الشقاق والعصيان وبالعصبية العربية، ولذا كانت الكوفة مثلاً مضروباً في فقه أهلها، كما ضربوا البصرة مثلاً في الأدب، وكما ضربوا المثل بالمدينة في القراءة وبمكة في المناسك، وبظاهر الكوفة كانت منازل النعمان ب المنذر، والحيرة والخورنق والسدير، وما هناك من القصور والمتنزهات، وكل غير ذلك طبيعي في تاريخ الفصاحة العربية. ولما مصرت بغداد وجعلها المنصور ثاني الخلفاء العباسيين مدينة وكان قد اختطها قبله أخوه أبو العباس السفاح وشرع في عمراتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكانت قرب الكوفة - وهي ما هي، حاضرة الدنيا ومدينة السلام ومظهر أبهة الخلافة وجلال الملك - كان علماء الكوفة أسرع الناس إليهم، فأكرم العباسيون لقاءهم، وبسطوا لهم، بالعطاء، غير أن ذلك لم يزدهم إلا ضعفاً وشذوذاً، حين عيرهم البصريون بأنهم يأخذون عن باعة الكواميخ نما تقدم في موضعه. أما بغداد نفسها فلم يعتد البصريون بأحد من علمائها، ولا يرونها مدينة علم، وإنما هي عندهم مدينة ملك، وما فيها من العلم فمنقول إليها ومجلوب للخلفاء وأتباعهم، قال أبو حاتم: ( أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، ولم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترضى روايته، فإن ادعى أحد منهم شيئاً رايته مخلطاً صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة ).

عنايتهم بالرواة

وكان الرواة محط الأعباء في الرحلة، وإليهم المرجع في الغريب والشعر والخبر والنسب، وقد انفردوا بالقيام على هذه العلوم أيام بني أمية، والدولة يومئذٍ دولة العرب، وهم لا يزالون حيال آبائهم وعلى إرث منهم، فلم يكن إلا أ، تنفق سوق الرواة، ويقبل في الدهر أمرهم، وينبه في الناس شأنهم، ويجد كل واحد منهم ما يجده الحظيظ في بضاعته، والمحتاج إليه في صناعته، ولم يأت ذلك من قبل الخلفاء وحدهم، ولكن الشأن كان في أهل الأمصار من الأمراء فمن دونهم، فإنهم صرفوا إلى الرواة وجوه المطالب، وقصروا عليهم الرغبات، لأنهم الوصلة بينهم وبين أوليتهم من العرب، بما يقصون من أخبارهم، ويرون من أشعارهم، وينقلون من آثارهم، وبهذه وما إليها كانت تلتئم أطراف المجالس، وتنفصل جهات الأحاديث، وتتشعب مذاهب السمر، وفوق ذلك فإن أكثر الرواة جمعوا إلى علومهم تلك رواية الحديث وتفسير غريبه والفتيا في مشتبه القرآن والقول في السير ونحوها، وهي من أغراض الناس جميعاً. أما الخلفاء من لدن معاوية إلى عبد الملك بن مروان، فهؤلاء اقتصروا عل أهل الشعر والنسب والخبر، لأن أمر اللغ لم يكن بدأ في أيامهم، ولأن ذلك كان هوا علم العرب يومئذٍ، وكان معاوية يرمي إلى اجتذابهم حوله وتآلف قلوبهم عليه، وإلى التخذيل عن أهل الحق في الخلافة من رجال هاشم وفتيان قريش، وكان يأتي كل مأتى لانتظام أمر الملك والدولة، حتى لو عرف أنه يستكثر بالزنج لوطأ الحيلة إليهم، فبالغ لفي إيثار الشعر والنسب والإفضال عليهم، حتى تحدث الناس بذلك، فأرسل في ألسنتهم رسائله السياسية من حيث لا يدرون، وكان يحث على رواية الشعر، ويتنقص من لا يروي منه، حتى إنه كتب إلى زياد ( الذي ادعى أبا سفيان ) في إشخاص ابنه عبيد الله، وقد علم أن يتورع عن الشعر، فأوفده زياد إليه، وأقبل معاوية يسأله، فما سأله عن شيء إلا أنفذه، حتى سأله عن الشعر، فلنم يعرف منه شيئاً، فقال: ما منعك من روايته ؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله ولام الشيطان في صدري ! فقال معاوية: أعزب والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول:

أبتْ لي همَّتي وأبى بلائي

وأخذي الحمدَ بالثَّمنِ الرَّبيح

وإعطائي على الإعدامِ مالي

وإقدامي على البطلِ المشيحِ

وقولي كلما جشأت وجاشت:

مكانكِ تحمدي أو تستريحي

ولا نرى هذا إلا من دهاء معاوية وحذقه في سياسة الأمور ومداورتها، وإلا فمتى كان الإقرار بالنقيضة من سياسة الملوك إذا لم تكن قد استنبطت غرضاً من الأغراض لا ينكشف حتى يحيلها إلى محمدة. وقد رمى خلفاؤه من قوسه ونزعوا في وتره، وهو كان يبصرهم، حتى كان لا يقطع أمراً دون يزيد ابنه، ويريه إنما يفرغ إلى رأيه فيما يلم حتى يستخرج أقصى ما عنده ويعركه بالخلافة قبل أن يصير خليفة. وقال أبو الحسن المدائني: ( كانت بنو أميّة لا تقبل الرواية إلا أن يكون رواية للمراثي، قيل: ولم ذاك ؟ قال: لأنها تدل على مكارم الأخلاق. . .) فعفا الله عن أبي الحسن: ما كان أحسن ظنه حتى اعتنبر السياسة بالعلم ! ولقد سئل أعرابي: ( ما بال المراثي أجود أشعاركم ؟ قال لأنا نقول وأكبادنا تحترق ) وإنما بنو أمية رجال مرزأة وحروب وفتن عربية، ولم يقم أمرهم إلا بدعوى المطالبة بدم عثمان، فكان همهم أن لا ترقأ الدمعة ولا تطفأ اللوعة، وأن تبقى في القلوب معان رفيقة تهجيها المراثي فتنقدح بها المعاني في المقاتلة والمسترزقة من العامة، وهم قوة الدعوة، ومن قلوبهم قوت السياسة، وقد استقام لهم بذلك عمودٌ من الأمر كان مائلاً، ومحق كان فيما ظنه غيرهم باطلاً. ولما استخلف عبد الملك بن مروان، أخذ بسنة معاوية، واقتدى به في إحكام السياسة وحسن التأتي للأمور، وكانت القلوب المضطربة قد استقرت أو كادت، والأعناق المائلة قد استاقمت بعد أنة مادت، فبسط عبد الملك برة للرواة، وألان لهم جانبه، وكان لا يجالسه من الناس غير ذي علم وأدب، وهو الذي قال فيه الشعبي: ( ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك، ما ذاكرته حديثاً إلا رادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه ) ! ولهذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخيار ورواة الناس، وضروا إليه آباط الإبل شرقاً وغرباً، حتى حلفت بهم مجالسه، وازدهت أيامه، وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم، ومن أجله أطلق الأدباء على دولة بني أمية قولهم: ( المروانية )، على جهة التغليب، لأن من بعده أخذوا في طريقته واتبعوا أثره وزادوا عليه بمقدار ما اتسع في أيامهم، حتى كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريداً إلى العراق. وحدث أدباء البصرة كان يرون كل يوم راكباً من ناحية بني مروان ينيخ على باب قتادة بن دعامة السدوسي الرواية ( وكان أجمع الناس توفي سنة 117 ) يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وربما سار هذا الراكب بالكلمة عن قتادة فأبلغها بالشام ثم عاد ليسأله عن معنى في نفس جوابه، حتى يكون الجواب مما يحسن السكوت عليه، وهذا لعمر أبيك علم الملوك !. وقد بعث هشام بن عبد الملك في إشخاص حمادٍ الرواية من الكوفة، لبيتٍ خطر بباله لا يعرف صاحبه، وهو قول عدي بن زيد:

ودعوا بالصَّبوح يوماً فجاءَت

قينةٌ في يمينها إبريقُ

وقطع حمادٌ طريقه إلى دمشق في اثنتي عشرة ليلة، ليذكر له صاحب البيت وسائر القصيدة. وما كان الناس يومئذٍ - وهم على دين ملوكهم - بأقل رغبة في الرواة والعلماء والمتوسمين بالأدب، وخاصة بعد أن توطد أمر الرواية حتى قال أبو عمرو بن العلاء: لو أمكنت الناس من نفسي ما تركوا لي طوبة !. .يصف تدافعهم وازدحامهم عليه. أما العباسيون وأمراء دولتهم، وهم أهل العلوم والحكمة والأدب، فو الله إن كان أحدهم ليرى الرواية عنه كأنه ديوان من أبلغ الشعر، مدحه خالص له دون الناس، وإنشاده دائر في ألسنة الناس جميعاً، لأنهم رأوا آثار بني أمية وأرادوا أن يطمسوا عليها وينسوا الناس أخبارهم ولا يدعوا للرواة باباً من الذكرى، وصار الناس يومئذٍ أوفر ما كانوا إقبالاً على المجالس الرواة، وأشد ما كانوا حاجة إليها، لشيوع وتنافس الخاصة فيها، وحتى لا يشك من يقف على تاريخ الرواة أنهم كانوا في أمصارهم كأنهم خلفاء الدولة العظمى التي تعنوا لها الدول كافة وهي دولة التاريخ. ولقد كان الرشيد يجلس الكسائي ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما أن لا ينزعجا لنهضته، وكان يطارح الرواة ويناشدهم ويذاكرهم به ولما رآهم يقصرون الرواية على أشعار الجاهليين والمخضرمين ممن يحتج بهم في العربي، اتخذ له متنشداً يروي أشعار المحدثين خاصة وينشده إياها، وهو محمد الرواية المعروف بالبيدق ( لقب بذلك لقصره ) وكان إنشاده يطرب الغناء ولم يرو مثل ذلك عن أحد قبل الرشيد. أما المأمون فناهيك من خليفة عالم، وهو لم يزل منذ دخل العراق يراسل الأصمعي في أن يجيئه ( من البصرة ) وكان لا ينفك أصحابه في مجالسه ويقول: كأنكم بالأصمعي قد طلع، ولكن الأصمعي احتج بضعف وكبر وعلل، ولم يجب إلى ذلك، فكان المأمون يجمع المسائل وينفذها إليه بالبصرة ثم ينتظر جوابها. ولما كان أبو عبيدة مع عبد الله بن طاهر، ألف كتاب ( غريب الحديث ) وعرضه عليه، فاستحسنه ابن طاهر وقال: إن عقلا بعث صاحبه عل ى عمل مثل هذا الكتاب، لحقيق أن لا يخرج عنا إلى طلب المعاش فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر، ولزمه بعد ذلك، فوجه إليه أبو دلف، ( يستهديه أبا عبيدة مدة شهرين ) فأنفذه إليه ابن طاهر، فلما انسلخ الشهران أر اد الانصراف فوصله أبو دلف بثاثين ألف درهم، فردها وقال: أنا في جبنة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما فيه على نقص، فلما عاد ابن طاهر وصله بثلاثين ألف ديناراً، فعوضه من كل درهم ديناراً ! ! !. والأمثلة على ذلك مستفيضة لا نطيل باستقصائها وما من كتاب في الأدب والمحاضرة إلا وأنت واجدٌ فيه شيئاً منها ومن أخبار الملوك والأمراء ومجالسهم مع الرواة. وكان آخر خليفة جرى على هذه السنة العربية من مجالسه الندماء وتقريب العلماء، وهو الراضي بالله المتوفى سنة 329 ( وبويع سنة 322 ) وهو كذلك آخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين، وكانت الرواية يومئذٍ قد بدأت آخرتها أيضاً، بيد أ، الأمراء الذين استبدوا بالأمصار الإسلامية بعد ذلك، كآل بويه، وآل حمدان، وغيرهم، ولم يألوا جهداً في إحياء تلك السنة والإفضال عل العلماء، إلا أن هؤلاء كانوا غير الرواة كما بسطناه في موضعه، ولذا نجتزئ بما أوردناه، فإن أكبر غرضنا من هذا الفصل أن نخلص إلى الكلام على موضع الرواة من أنفسهم، ولم يكن لذلك سبيلٌ إلا من الكلام على موضعهم من الناس. ^

الرواة: علومهم أنواعهم

علوم الرواة:

واعلم أن من طريقتنا في هذا الباب أن لا نعد من الرواة من اقتنى علماً من علومهم، أو قبس أدباً من آدابهم، وإن جاء ذلك عل شرط الرواية وأدبها، فلو أنا عددنا من أمثال هؤلاء لكان لنا منهم بابا واسع ( في الترادف التاريخي ) يهجن نسق الكتاب ويزري على سبيكه، ويتنزل منه منزلة الجملة التي تجمع مرادفات لفظة بعينها أو أكثر هذه المترادفات، وكان لفي كلمة منها أو كلمتين البلاغة كلها، فلما كثرت وتقطع بها نشف المعنى ذهب آخرها بفضل أولها ولم يغن أولها عن آخرها شيئاً إنما نذكر من الرواة الأفراد الذين ذهبوا بمآثر العلوم، وكانوا مشيخة الأجيال، وانقادت لهم أزمة الأسانيد، واتخذ التاريخ منهم أقطاب رحاه، وقل من هؤلاء من لا يجمع علوم الرواية كلها أو أكثرها بحسب ما يكون منها في عصره، من النسب، والخبر والشعر، والعربية، واللغة بيد أنهم قد تفاوتوا في مقادير الإحسان من ذلك كله، فطائفة غلب عليها النسب، وأخرى ذهبت بمزية الشعر، وثالثة انفردت بعلم الأخبار، وهلّم جراً، وسنصرف الكلام في هذا الفصل إلى التنظير بين رجال هذه الطبقات على ما أعلمناك من طريقتنا، فإن فيها غناء وكفاية.

النسب:

أما رواية النسب فقد كانت عامة في العرب، وكانوا ينسبون حتى الخيل والإبل والكلاب، ما كرم عليهم من هذه الأجناس ( كلما نسبت طائفة من الإسلاميين الحمام ). والنسب يستتبع رواية أخبار العرب وما فيه شاهد على التاريخ من أشعارهم، فكان كل أولئك علم النسابين، وقد اجتمع من رؤسائهم في القرن الأول: عبيد بن شرية الجرهمي، وانفرد باتساعه في رواية الأخبار المتقدمة وما يسمونه بالعلم الأول إلى مبدأ الخليقة، عربها وعجمها، وبالحكمة والخطابة والرياسة، وقد ذكرنا أمره مع معاوية في محله ودغفل بن حنظلة، وأبو الشطاح اللخمي، وقد جمع بينهما معاوية وتناظرا في فنون كثيرة، جاءا لفي جميعها بالنادر الغريب، حتى صارت مناظرتها مثلاً يضرب لكل ما يجري بين اثنين من الكلام البديع الذي يتدفق بالحكمة والبيان، وكان دغفل أوسع أهل زمانه رواية في أنساب العرب خاصة، وأخبارها وعلومها في الجاهلية، كالأنواء وغيرها، وقد تصادر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه على حديث في النسب، ودغفل يومئذٍ غلام قد بقل وجهه، فكان أمره مع أبي بكر كما قال:

صادفَ درءُ السَّيلِ درءاً يدفعُهْ

يهيضه حيناً وحيناً يصدعه

ثم النخار بن أوس، وهو دون أصحابه يجري في قص النسب على طريقة الكهان من السجع والتشبيه، لفضل بيان وبسطة في لسانه، وكانت له حكمة تزين ذلك، دخل على معاوية أول عهده به فازدراه، وكان عليه عباءة خلقه فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها !. ويجري في هذه الطرقة عبد الله بن عبد الحجر، وهو ممن وفدوا على معاوية أيضاً. وهؤلاء ومن كان في طبقتهم، كزيد بن الكيس النمري، وابن لسان الحمرة، وصحار العبدي، والمختار العدوي، وصبح الطائي، وميجور ابن غيلان الضبي، هم رؤساء النسابين، وإليهم تنتهي الرواية، وكل تعلمهم مقصور على الجاهلية وطرف من الإسلام. وامتاز في أواخر هذه الطبقة، صعصعة بن صوحان، وكانت الرواية عنه بعد الإسلام في أخبار العرب خاصة، وكان ابن عباس سعة حفظه كثيراً ما يسائله ويذاكره، وقد لقبه بباقر علم العرب. واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة الناس للأشعار وعلماؤهم بالأنساب والأخبار، وكل ما كان قرشياً فهم عند العرب طبقة متميزة، والأربعة هم: مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى وعقيل بن أبي طالب. وكانت قريش في الجاهلية دون غيرها من العرب ةتعاقب شعراءها القليلين إذا هجا بعضهم بعضاً، أما النسابون فكانوا يحمقون منهم من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس، لأن ذلك هو الهيجاء المنثور، وهم يريدون بهذا الإزراء أن يسقطوا شأن الرواية إذا شاعت له قالة السوء، حتى تخرج قبيلته مما يلحق بها انتسابه إليها واكتسابه على نفسه، أو تذهب الأحدوثة عنه بصدق الأحاديث منه اتقاء للذم بالذم وقد كان عقيل واحد الأربعة في ذكر مثالب الناس، فعادوه لذلك وقالوا فيه وحمقوه، وسمعت ذلك منهم دهماء الناس فألف فيه بعض أعدائه الأحاديث وقرنوه فيها إلى الحمقى والمغمورين، فجعلوه بجانب أخيه علي بن أبي طالب، كعتبة بن أبي سفيان بجانب أخيه معاوية، ومعاوية بن مروان بجانب أخيه عبد الملك، وإنما كان عقيل رجلاً قد ك بصره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلما فضل نظراءه بهذه الخصال، صار لسانه بها أطول، وصار هو بذلك أجرأ وأشد صولة. تلك هي الطبقة الأولى وما امتازت به، أما الطبقة الثانية فهي التي أخذت عن هؤلاء، ونشأت منتصف القرن الأول، وكان أهلها مبدأ الرواية في الإسلام، وهم يتناولون أخبار العرب وأنسابهم وما حدث في الإسلام إلى العهد الذي هم فيه، ويضمون إلى ذلك أنساب الصحابة وطبقاتهم، وأشهرهم في أخبار العرب، قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117، والشعبي نديم عبد الملك بن مروان، وهو مفنن يمتاز عن سائر الرواة بذلك، حتى كانوا في القرن الثاني يلقبون من يجمع بين الفقه والحديث والشعر وأيام الناس والأنساب ونحوها ( بشعبي زمانه ) ؛ وممن أطلقوا عليه هذا اللقب، القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، وكان على قضاء الكوفة، ثم قتيبة بن مسلم، وهو يمتاز بمعرفة أحوال الشعراء وأخبارهم، والبصر بأشعارهم ومذاهبهم فيها ؛ والنضر بن شميل الحميري، وخالد بم سلمة المخزومي، وكان أعلم أهل زمانهما بأنساب العرب ومغامزها، وهما اللذان وضعا كتاب المثالب كما مر في موضعه، والزهري عالم الشام والحجاز، وقد تقدم الكلام عليه.ومن هذه الطبقة عبد الرحمن بن هرمز ابن الأعرج المتوفى سنة 117، وهو أحد من ينسب إليه وضع العربية، وقد امتاز من سائر طبقته بعلم أنساب قريش وأصولهم، والتغلغل في ذلك إلى أعماق بعيدة ؛ وروي أن مالك بن أنس - رضي الله عنه - كان يختلف إليه في هذا العلم، وكان يرى أنه علم لم ينته للناس. وأما الطبقة الثالثة فهي التي كانت في القرن الثاني ؛ وهي مصدر الرواية العامة في الإسلام، لأن شروط الرواية لم تعرف إلا في غدها ؛ وتمتاز هذه الطبقة بغلبة الأخبار عليها، وبكثرة الوضع على العرب في المناقب والمثالب وبانتحال بعضهم مذاهب من الفتنة في الدين ؛ وقل منهم من لم يكن أكبر علمه الأخبار ؛ ولهذا نذكرهم فيما يلي، ولم يعد لعلم الأنساب من بعدهم الشأن الذي كان له، وإنما صار يروى على أنه بعض علوم العرب.

الخبر والإخباريون:

وصار الخبر بعد الإسلام في طائفتين من الرواة: الأولى تروي أخبار العرب وتغلب عليها، والثانية تغلب عليها أخبار الفتوح الإسلامية وأحوال الدولة.ومن رؤوس الطائفة الأولى محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير المتوفى سنة 146، وكان أعلم القوم بالنسب، وهو كوفي أجمعوا على تركه واتهموه بالكذب والرفض وزيفوا كلامه عن أصل العرب والعربية وما جرى هذا المجرى ؛ لكثرة ما يضع منه كذباً وزوراً، وعنه أخذ ابنه هشام ابن الكلبي النسابة صاحب الجمهرة والكتب الكثيرة في أخبار العرب وأحوالها ومناقبها وأخبار الأوائل والأمم البائدة والأحاديث والأسمار ونحوها، وتوفي سنة 204، وهو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع ( المعلقات ) وتعليقها على الكعبة - كما سيأتي في بابه - وقد اتهمه العلماء كما اتهموا أباه بالرفض وتركوه لذلك ولما ظهر من كذبه ؛ وشبيل بن عرعرة الضبعي، وكان راوية ناسباً شاعراً عالماً بالغريب، قالوا: وكان سبعين سنة رافضياً، ثم صار بعد ذلك خارجياً ؛ ومجالد بن سعيد بن عمير ؛ وهو يروي عن الشعبي ؛ وقد توفي سنة 144 ؛ وشرقي بن القطامي، وهو من رواة الغريب واللغة والشعر، وكان يكذب للرجل في الكلمة ثم يحدث بها الناس في المسجد على أنها من علمه الذي يرويه ؛ وعبد الله بن عياش الهمداني، راويته الهيثم بن عدي، وكل أفراد هذه الطبقة يتقاربون، إلا ما كان من هشام بن الكلبي، فإنه أوسعهم علماُ وأمدهم رواية وأكثرهم تأليفاً حتى ليصح أن يعتبر بمفرده في وزن الطبقة كلها، ويمتاز معه أبو اليقظان النسابة المتوفى سنة 190، فإنه يشارك طبقته في علومها وينفرد بالاتساع في أنساب الإسلاميين وأخبارهم من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم. وأما الطائفة وهم الذين غلب عليهم لقب الإخباريين لامتيازهم بالاتساع في أخبار الفتوح الإسلامية، فقد انفرد منهم ثلاثة بأنواع من المعرفة قلما يساويهم أحد فيها: أبو مخنف الأزدي، بأمر العراق وفتوحها وأخبارها، وأبو الحسن المدائني، بأمر خراسان والهند وفارس ( توفي سنة 215 )، والواقدي، بالحجاز والسيرة النبوية ( توفي سنة 207 )، ويشتركون مع غيرهم في فتوح الشام وأخبارها. ولقد عرف كثيرون بعلم السيرة والأحداث والفتوح ولا نعرفهم يمتازون بشيء عمن ذكرناهم ؛ فإن ثلاثتهم بالغوا في الاستيعاب والاستقصاء إلى ما لا يلحق بهم فيه أحد ؛ وما أولئك: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأحمد بن الحارث صاحب أبي الحسن المدائني، وعبد المنعم بن إدريس المتوفى سنة 228 وقد بلغ المئة، ونصر بن مزاحم، وإسحاق بن بشير، وسيف بن عمر الأسدي، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وأبو إسحاق الفزاري ؛ وكلهم من أصحاب السير والأحداث.وممن جاء بعدهم من أصحاب الأخبار العربية والإسلامية: محمد بن سلام الجمحي، والزبير بن بكار، وعمر بن شبة، وابن الأزهر ؛ وكلهم في القرن الثالث ؛ والفضل بن الحباب، وتوفي سنة 305. وانفرد في القرن الرابع رجلان من الإخباريين الرواة المصنفين: أحدهما محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة 378، وليس لأحد في السلام أكثر ولا أمتع من تصانيفه في الشعر والشعراء - وسنشير إليه في باب الشعر - والثاني أبو الفرج الأصبهاني المتوفى سنة 356 ؛ وهو صاحب ( كتاب الأغاني ) وغيره من الكتب الكثيرة في الأخبار والآداب مما لا يدانيه فيه أحد. وكان في القرن الثالث رجل من الإخباريين هو الطبقة وحده في الإسلام، وهو محمد بن عبيد الله العتبي المتوفى سنة 228، وكان من ولد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية، وقد انفرد برواية أخبار بني أمية خاصة، وليس له في غيرها يد ؛ وكان يرويها عن آبائه، وهم يروونها عن سعد القصير، وسعد هذا هو مولى بني أمية ؛ قتله ابن الزبير بمكة. وهذا الذي أوردناه من القول في الإخباريين لا يداخله الكلام على المؤرخين في الإسلام ؛ فإن فصل ما بين الفريقين أن الذين ذكرناهم كانوا مادة المؤرخين ؛ لأنهم تميزوا بأنواع من الرواية جمع منها المؤرخون ما جمعوه، ولكل قول موضع ومقام معلوم.

رواة العرب

وهؤلاء قوم كانوا في البادية بمزلة الرواة في الحضر، من حيث هم مصادر العلم والقائمون عليه، فيتحققون بعلم الأخبار والآثار والأنساب والأشعار، وكان الرواة يأخذون عنهم ويسمونهم علماء البادية، ومهم منهم في هذه العلوم كالأعراب الفصحاء في اللغة، وكانت أسماؤهم دائرة في أفواه الرواة، بيد أن العلماء الذين دونوا الأخبار وصنفوا الكتب اكتفوا بنسبة الكلام إلى صدور الرواة ممن نقلوا عن علماء البادية: كالأصمعي، وأبي عبيدة، وابن الكلبي وغيرهم، دون هؤلاء العلماء ؛ لتحقق الرواة بالأمانة والضبط، ولأنهم لا يقدرون الألفاظ بمعانيها التاريخية ؛ ولهذا لم نقف إلا على القليل من أسماء القوم، وعى أن هذا القليل إنما جاء في عرض كلام مما يتعلق بالسمر ويدخل في باب الحكاية. . .وقد رأينا في ( الفهرست ) لابن النديم أن لابن دريد كتاباً سماه ( رواة العرب ) ولا ندري من خبره شيئاً. فمن هؤلاء الرواة: المسور العنزي ؛ وسماك بن حرب ؛ ومنهم ثم من علماء بني عدي: زرعة بن أذبول، وابنه سليمان، وأبو قيس، وتميم العدوي ؛ وكلهم في أواخر القرن الأول ؛ ومنهم أبو بردة، وأبو الزعراء، وأبو فراس ؛ وأبو سريرة، والأغطش ؛ وكانوا في القرن الثاني، وأدركهم أبو عبيدة وطبقته وأخذوا عنهم. ولابد أن تكون منهم طائفة ممن عدوهم في فصحاء الأعراب، ولكنهم لم يترجموهم ولم ينبهوا عليهم ولم يذكروا ما أخذوه عنهم إن كان لغةً أو خبراً أو نسباً أو شعراً ؛ كمحمد بن عبد الملك الفقعسي ؛ فإنه معدود من فصحاء الأعراب، وقد ذكرناه ثمة، وهو مع ذلك راوية بني أسد وصاحب مفاخرها وأخبارها، وعنه أخذها العلماء، والله أعلم.

الشعر

والشعر كان عمود الرواية.فلا بد منه لكل راوية، وإنما يتفاضلون فيه من جهتين: الاتساع في الرواية، وأكثر ما يكون فيمن لم تقتطعه العلوم التي يفتن فيها علماء الرواة: كالنسب، والخبر والعربية، والقراءة، والحديث، ومن هذا الاتساع ينشأ الوضع، وقد مكنا القول فيه من قبل. والجهة الثانية معرفة تفسيره والبصر بمعانيه، وهي التي نرمي إلى الكلام عليها في هذا الفصل. كان صدور الرواة إنما يطلبون الشعر للشاهد والمثل، وهما غرضان أكثر ما تؤديهما الألفاظ دون المعاني، ولما كانت الألفاظ عربية صريحة ينبغي أن تؤخذ بالتسليم ولا وجه لتقليبها ونقدها والتورك عليها - انصرف أكثرهم عن البحث في الشعر والتصفح على معانيه، فاقتصر العلم به على رواية اللفظ كما هو وما يقتضى لها من فهم المعنى كما هو ؛ وبذلك بقي الشعر أيضاً كما هو. ومن شعر العرب نوع مما يقال المشاهدة، فيستخرج الشاعر المعنى الغريب من شيء رآه ويكون في اللفظ إبهام لا يتعين معه أصل المعنى، وهذا النوع إن لم يفسره شاعره أو من أخذه عنه، ذهب العلم بحقيقة معناه واضطربت فيه الظنون ؛ ونوع آخر يتعلق بالعادات التي كانت للعرب في جاهليتها، ولا بد لتفسيره من المعرفة بها، وبما كان خاصاً منها بقبيلة الشاعر إن كان من ذلك شيء ؛ ونوع ثالث يتعلق بعلوم العرب التي أخذتها عن الأمم واعتبرتها علوماً صحيحة واعتبرها من جاء بعدهم من الخرافات والتكاذيب، ويسمي الرواة كل ذلك في الشعر بأبيات المعاني، لأنها أشياء خارجة عن غرضهم اللفظي الذي أومأنا إليه، والعلم بتلك الأبيات وتفسيرها أكثر ما يكون عند الشعراء والرجاز من العرب الذين نشأوا في البادية كما نشأ أصحاب المعاني، أو الذين رووا الشعر عمن نشأ فيها وأقاموا بالأمصار: كالحطيئة، وجرير، والفرزدق، والكميت، وغيرهم ؛ لأنها طرف من صناعتهم، ولأن الشعر كان لا يزال على بداوته وإن ضعف شيئاً قليلاً، وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلاً في باب الشعر. أما الرواة فقد انصرفوا عن هذا وأشباهه، وكانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء في أوهامهم.فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر، وأخذ منه التصحيف كل مأخذ ؛ ولقد سئل أبو عمرو بن العلاء عن معنى قول امرئ القيس ( ومر تفسيره عن الكميت ):

نطعنهمْ سلكى ومخلوجةً

كرَّك لامينِ على نابلِ

فقال: ذهب من يحسنه. وقال الأصمعيّ: سألت أبا عمرو عن قوله ( أي الشاعر ):

زعموا أنَّ كلَّ منْ ضربَ العي

رَ موالٍ لنا، وأنَّى الولاءُ

فقال: مات الذين يعرفون هذا ؛ وإنما يعني شعراء العرب لا الرواة.وكان أبو عمرو نفسه يقول: العلماء بالشعر أقل من الكبريت الأحمر. فلما أخذ الخلفاء وأمراؤهم يطارحون الرواة ويذكرونهم في المعاني، وذلك حين استبحر العلم في الدولة العباسية، وكانت قد انحرفت طريق ة الشعر بما ذهب إليه المحدثون: كبشار بن برد، ومسلم، وأبي نواس، وغيرهم ؛ إذ جعلوا يغوصون على المعاني ويتلومون على حوك الشعر وسبكه، وأقبل الناس أيضاً يفتشون على المعاني وقلت عنايتهم بالألفاظ - انتبه بعض الرواة إلى هذه الجهة من الشعر، وأعطوها قسطها من العناية، فنبغت منهم طبقة لم يعرف غيرها، ولم تنبغ مع ذلك إلا في معاني أشعار العرب ومن يستشهد بقولهم دون المولدين ؛ وهؤلاء كان شعرهم أدق معاني وأبعد أغراضاً ؛ وقد انفرد يومئذٍ بعلم الشعر على الإطلاق - أغراضه ومعانيه ومذاهب النقد فيه - أهل الطبع والبلاغة من أدباء الكتاب الذين صرفوا القول في فنونه واندفعوا إلى مضايقه وحزونه ؛ قال الجاحظ: ( طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه ( الألفاظ والمعاني الغريبة ) فسألت الأخفش فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيت لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار ؛ ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره ). أما الطبقة التي أومأنا إليها فرجالها ثلاثة: خلف الأحمر، والأصمعي وجهم بن خلف المازني ؛ وهو معاصرهما ؛ وكانوا ثلاثتهم يتقاربون في ذلك، وامتاز خلف بقول الشعر وإحسانه وإجادته حتى لا ينزل عن الطبقة التي يقارن بها، ومن ثم كان ينحل الشعراء المتقدمين ؛ ذهاباً بنفسه واعتداداً بما تطوع له ؛ وكان أيضاً أعلم الرواة بالشعر ومعانيه ومذاهب الشعراء فيه، ثم هو معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة، وقد أجمعوا على أنه أفرس الناس ببيت شعر، وكان علماؤهم لا يتكلمون في الشعر ونقده ما لم يكن حاضراً، ولا يراجعونه في قول إن قال وفي رأي إن رأى ؛ ولكن الأصمعي فاته بمعرفة النحو مع مقاربته له في المعاني وصدقه في الرواية ؛ ولذا فضلوه عليه ؛ وكان للأصمعي ذهن ثاقب وطبع صحيح ؛ فما لبث في آخر عهده أن صار أبعد نظراً في الشعر من أستاذه وأوسع رواية فيه ؛ حتى كان الرشيد يسميه شيطان الشعر ؛ وقال ابن الأعرابي ؛: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحواً من مائتي بيت ما فيها بيت عرفناه. وأما جهم بن خلف المازني فهو يقارب الأصمعي وخلفاً، وينفرد دونهما بسعة علمه في عادات العرب وحقائق أوصافها ؛ ولذا كان كثير الشعر في الحشرات والجارح من الطير ونحوها ؛ إلى ما يتصل بذلك من معاني البادية التي لا ينفذ في حقائقها إلا العربي القح وإلا البدوي الجافي. ولم يساو هذه الطبقة أحد ممن جاء بعدهم من الرواة، إلا ابن دريد المتوفى سنة 321 ؛ وكان أحفظ الناس وأوسعهم علماً وأقدرهم على الشعر وأبصرهم بمذاهبه ؛ ولذلك نظروه بخلف، وقالوا: ما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ادزحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد، ولو كان الأصمعي يجمع إلى علمه وروايته القدرة على الشعر وصوغه لكان نادرة التاريخ العربي كله بلا امتراء. وقد وقفنا للجاحظ على فصل نادر يصف به رواة عصره في معرفتهم بالشعر وبصرهم بمعانيه وما تلتمس من أغراضه كل طائفة منهم، وانصرف الناس يومئذٍ إلى حقيقة الشعر والتفتيش على دقائقه مما هو محض البلاغة وصميم الفصاحة، ثم ما تدرجوا فيه من ذلك ؛ ونحن نورد كلامه توفية لفائدة هذا الفصل، ولكنا ننبهك إلى أن الجاحظ يتحامل على من أدركه من الرواة الذين كان إليهم أمر اللغة ؛ لأنهم لم يوثقوه، بل ذموه وهجنوا كتبه وتنقصوا روايته، وسنشير إلى ذلك بعد. قال الجاحظ: قد أدركت رواة المسجديين والمربديين ؛ ومن لم يرو أشعار المجانين ( كمجنون بني جعدة، ومجنون بني عامر، وغيرهما من العشاق ) ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة - فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة ؛ ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء ؛ ولقد شهدتم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس ابن الأحنف ؛ فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد أبتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل ؛ وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعيض ويحيى بن تخيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحداً منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده ؛ وكان خلف يجمع ذلك كله، ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم - فقد طالت مشاهدتي لهم - لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم،وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني.ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو والشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خيل إلى أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عياباً ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد من وهمك من أبي عبيدة ).1ه.

العربية واللغة:

ونري بالعربية النحو، والكلام فيه سابغ الذيل: إذ يتناول تاريخه وأهله ومذاهبهم فيه ومن انفرد منهم ببعض المذاهب ومن شارك، إلى ما يداخل ذلك ويلتحق به، وهو فن من التاريخ لا صلة بما نحن في سبيله الآن، إلا من جهة استتباعه للشعر واللغة، ومن جهة أنه كان مثار الخلاف بين الطائفتين العظيمتين من البصريين والكوفيين، منذ تجاورا الكلام في مسائله، وقد تقدم لنا صدر من القول في الجهة الأولى، ونحن نردفه بفصل موجز عن الجهة الثانية، ثم نمسك سائر ما يتعلق بهذا النحو إلى موضعه من باب العلوم إن شاء الله. وأما اللغة فقد أجمعوا على أنه لا معول في ورايتها على أهل الكوفة، وأما أهل البصرة فقالوا إن منهم أصحاب الأهواء، إلا أربعة، فإنهم كانوا أصحاب سنة، وهم: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وهم يريدون بذلك التثبت والتحري وتوثيق الرواية والأمانة في النقل والأداء، لأن هؤلاء الأربعة كانوا أركان الرواية في اللغة والعربية.ورأيناهم ذكروا أئمة اللغة الذين امتازوا دون سائر الرواة في الإسلام بما حفظوه منها، فقالوا: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل بن أحمد يحفظ نصف اللغة، وكان أبو فيد مؤرج السدوسي ( من تلامذة الخليل ) يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي يحفظ اللغة كلها، وكان الغالب على أبي مالك جفظ الغريب والنوادر ( وهي حقيقة المراد باللغة كما شرحناه في موضعه ). وجاءت هذه الرواية من وجه آخر بأن الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وأبو عبيدة في نصفها، وأبو زيد الأنصاري في ثلثيها، وأبو مالك الأعرابي فيها كلها، وإنما يريدون توسعهم في الرواية والفتيا، لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات ويلح في دفع ما سواه، وكان شديد التأله: لا يفسر شيئاً من القرآن ولا شيئاً من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك كان يتحرك في الحديث، ثم كان لا يفسر شعراً يوافق تفسيره شيئاً في القرآن، ولا ينشد من الشعر ما كان فيه ذكر من الأنواء ولا يفسره، بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ذكرت النجوم فأمسكوا ).ولك يكن ينشد أو يفسر شعراً يكون فيه هجاء، ومن ثم فاته أبو عبيدة وأبو زيد، ولما وضع أبو عبيدة كتاب ( المجاز في القرآن )، وقع الأصمعي فيه وعاب عليه تأليف هذا الكتاب، وقال: يفسر القرآن برأيه ! فسأل أبو عبيدة عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، ثم قصد إليه وجلس عنده وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز ؟ قال هو الذي تخبزه وتأكله.فقال فسرت كتاب الله برأيك، قال الله تعالى: ( إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً ) ! فقال له الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي.فقال أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كلاه شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا. . . بيد أن الأصمعي امتاز في رواة اللغة بالشعر ومعانيه، وانفرد أبو زيد دون الثلاثة بالنحو وشواهده، وهو الذي يعنيه سيبويه إذ قال في كتابه: ( وحثني من أثق بعربيته. . .) وفاتهم أبو مالك بالغريب والنوادر، أما أبو عبيدة فإنه استبد بهم جميعاً في العلم بأيام العرب وأخبارهم وعلومهم، وكان يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيها ! وقال فيه الجاحظ: ليس في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة !وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفان الأصمعي ويناويانه كما يناويهما، فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية، وكانت اللغة متنازعة بينهم، فيتفق الصاحبان وينفرد الأصمعي وحده بالخلاف، والكوفيون لا يرون فيهم ولا في الناس أعلم في باللغة من الفراء المتوفى سنة 207، وكان من رؤوسهم وقالوا فيه: إنه لولاه لما كانت اللغة، لأنه حصلها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية، لأنها كانت تنازع ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. ثم انتهى علم اللغة في البصريين إلى ابن زيد، وهو خاتمة رواتهم وآخر ثقاتهم، لم تفتح بعده صفحة من التاريخ لما يسمى بصرياً أو كوفياً من هذا العلم. ولما دونت كتب الأئمة في اللغة وتناقلها وراتها بالأسانيد، كثر فيه التزيد، وركب النساخ منها عبثاً كثيراً، إلى أن جاء الأزهري المتوفى سنة 370، وهو صاحب كتاب ( التهذيب )، فتفقد كتبهم، وتأمل نوادرهم، وتنظر في الكلام المصحف، والألفاظ المزالة عن وجهها أو المحرفة عن معناها، وما أدخل في الكلام مما هو ليس من لغات العرب، وما اشتملت عليه الكتب التي أفسدها الوراقون وغيرها المصفحون، واعتبر كل ذلك اعتبار ناقد يتصفح على الرواة ويطلب مواضع الثقة فيما يروى عنهم، واعتبر كل ذلك اعتبار ناقد يتصفح على الرواة ويطلب مواضع الثقة فيما يروى عنهم، ثم إنه بعد أن أمعن في ذلك واستقصى، قال: إنه وجد عظم ما روي لابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي - معروفاً في الكتب التي رواها الثقات عنهم، والنوادر المحفوظة لهم، فخص بالثقة هؤلاء دون سائر الرواة. ولما عد في مقدمة كتابه ( التهذيب ) ثقات الرواة، وهم أولئك الذين عرفتهم، ووصفهم بالإتقان والتبريز ووثقهم، قال: فلنذكر بعقب ذكرهم أقواماً اتسموا بسمة المعرفة وعلم اللغة، وألفوا كتباً أودعوها الصحيح والسقيم، وحشوها بالمزال المفسد والمصحف المغير، الذي لا يتميز ما يصح منه إلا عند الثقة المبرز، والعالم الفطن، وعد من هؤلاء: الليث بن المظفر الذي نحل الخليل تأليف كتاب ( اللعين )، وقطربا، وقال: كان متهماً في رأيه وروايته عن العرب، والجاحظ وقال فيه: إن أهل المعرفة بلغات العرب ذموه، وعن لصدق دفعوه، ثم ابن قتيبة وابن دريد.

البصريون والكوفيون

وعهما الطائفتان اللتان عصب بهما طلاب العربية، وقد تضافرتا جميعاً على استخراج هذه العلوم بعد أن كانت السابقة فيها للبصريين بما أصلوا وفرعوا، وكان في هؤلاء غريزة التحقيق والتمحيص دون الكوفيين، فبغت لذلك إحدى الطائفتين على الأخرى نفاسة وحسداً، ثم استطار الجدال بينهم فوقعوا من المناظرة في أمر مستدير، وتباين ما بين الفئتين إلا حيث تتصلان في الكلام لتدفع إحداهما الأخرى.ومن ثم جعل الكوفيون يتمرأون بخصومهم، فينتقصونهم ليعد ذلك منهم قدرة على الكمال، ويعيبون الرجال ليكون الرجال هم وحدهم الرجال، أما البرصيون فكانوا يريدون أن أصاحبهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلوهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق، ولشد ما اندرؤوا جميعاً بعضهم على بعض بمثل هذا الكلام، وقاموا في المناظرة كل مقام، على أن العلم منذ وجد إنما تخلص حقائقه بالجدال، فرحم الله الغالب فيه والمغلوب.

أولية العرب في الكوفة:

وقد رأينا المتوسمين في الأدب لا يميزون عهد الكوفيين من عهد البصريين، ولا يدون متى اشتغل الكوفيون بالمذاهب المقصورة عليهم، والحدود المنسوبة إليهم، بل يحسبون أن أول بصري من النحاة وجد معه أول نحوي من الكوفيين، وذلك جهل فاحش بتاريخ الرواية والجبهة المتقدمة في الرواة ونحن لم نقف على كلام لأحد في أولية العربية بالكوفة، بيد أن ذلك لم يقعد بنا عن التتبع والاسترواح، كسائر ما نستفرغ الهمم فيه من أصول هذا الكتاب وفصوله. والذي ثبت لنا أن أولية العربية إنما كانت في البصرة، لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كلب أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة، وكانت الرواية فيها مقصورة على الشعر وما يتصل به من النسب والخبر، كشأنها من أول العهد بالإسلام، ومن أقدم رواتهم الخثعمي، وقد أومأنا إليه من قبل، ومنهم ثم من أعلمهم، أبو البلاد الكوفي، وكان أعمى جيد اللسان، وهو في زمن عبد الملك بن مروان، فلا بد أن تكون نِأته في منتصف القرن الأول، ثم ظهر بعده حماد الرواية، وهو لحانة لا يذكر في العربية، ولكن أول من عرف بالنحو من الكوفيين إنما هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي المتوفى سنة 164، وكان بصرياً ثقة، غير أنه انتقل إلى الكوفة وسكن بها زماناً، وهو من تلامذة أبي عمرو بن العلاء، وظهر معه معاذ الهراء واضع التصريف، وقد عمر طويلاً حتى قارب المئة، توفي سنة 187، ثم نجم رأس علماء الكوفيين وأستاذهم وأول من ألف منهم كتاباً في العربية، وهو أبو جعفر الرؤاسي، وكان معاذ الهراء عمه فأخذ عنه، ثم أخذ عن عيسى بن عمرو من تلامذة أبي الأسود، وعن هاذين ( معاذ والرؤاسي ) أخذ علي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة 189، وهو الذي رسم للكوفيين الحدود التي عملوا عليها وخالفوا بها البصريين، وكان فيهم كالخليل بن أحمد في أولئك. ثم استفاض نحو الكوفيين من بعده، وتوسع فيه تلميذه الفراء حين ألف كتاب ( الحدود )، وكان المأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، وأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ( دار الحكمة )، ووكل به من يكفيه كل حاجته حتى لا يتعلق قلبه وتتشوق نفسه إلى شيء، وحتى إنهم كانوا يؤذونه ف حجرته في أوقات الصلوات ( تأمل وترحم على ملوك العلماء ) وصير له الوراقين، وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون وهو يملي حتى صنف الحدود. وفي لكسائي وتلميذه يقول ابن الأنباري ( وهو من الكوفيين أيضاً ): لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء، لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس، إذ انتهت العلوم إليهما، وكان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو. ومن لدن الكسائي غلب أهل الكوفة على بغداد، لخدمتهم الخلفاء وتقديمهم إياهم كما علمت، فغلبوا بذلك البصريين على أمرهم، ورغب الناس من يومئذ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصل واعتمادا على الفروع، ومن ذلك بدأ اختلاط المذاهب الذي عده البصريون اختلاطاً للعلم، لأن مذاهب الكوفيين ليست عندهم من العلم الصريح.

مذاهب الطائفتين:

وقد انفرد كل من البصريين والكوفيين بمذاهب في العربية واستخرجوها منة كلام العرب أو وضعوها محاكاة لكلامهم، كالذي كان يصنعه علماء الكوفة، وليس من عالم إلا وقد أخذ بمذاهب هؤلاء أو أولئك أو خلط بين المذهبين - كما سنفصله في باب النحو ونذكر أهله إن شاء الله - بيد أن البصريين كانوا يأنفون أن يروا عن الكوفيين لضعفهم وتعلقهم بالشاذ وارتفاعهم عن البوادي الفصيحة، وكانوا لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة في العربية، لأنه غير خلص، وكما تركوا عربيتهم تركوا شعرهم، لا لأنه فاسد كله، ولكن لمجيئه على مذاهبهم قالوا: وأول من أحدث السماع في البصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الرواية فسمع منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر، فإن هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس، إلا شيئاً أخذوه عن أبي عمور بن العلاء ومع ذا فكان البصريون لا يرون حماداً ثقة ولا مأموناً، لأنه كوفي وكفى !أما في النحو واللغة فلا يعلم أحد من علماء البصريين أخذ شيئاً منهم عن أحد من أهل الكوفة، ولا روى عنهم شيئاً من الشعر أيضاً، لأن الذين أخذوا عن حماد إنما كانوا يطلبون الشعر ليروه شعراً لا ليقيموا منه الشواهد، ولا يعرف في تاريخ البصريين من روى الشعر عن الكوفيين للشاهد، إلا أب زيد الأنصاري، فإنه روى عن المفضل الضبي، لثقته في الشعر وتحريه، إذ لم يكن للكوفيين رواية يذكر بإزاء علماء البصرة إلا المفضل هذا، وهو أوثق من روى العشر منهم، وقد اختص به دون اللغة العربية واللغة، ولذلك أمنوا جانبه. وكان الكوفيون يأخذون عن أهل البصرة، وما من أحد من أساتذتهم إلا وقد تلمذ لبصري، ولكنهم كانوا يتميزون بروايتهم، حتى لم يكن فيهم أحد أشبه رواية برواية البصريين إلا أن الأعرابي ( نوفي سنة 231 ) وهو ممن أخذوا الكسائي، ولم ير أحد في علم الشعر واللغة كان اغزر منه، وكذلك لا يعرف أحد في رواة المصريين كان أشد عصيبة من الأعرابي هذا، قال أبو عمرو الطوسي: كان يدع ما يعرف ويركب الخطأ ويقيم في العصبية عليه. .وكان يضع من أبي تمام، فجئته يوماً ومعي أرجوزته:

وعاذل عذلته في عذله

فقرأتها عليه ( على أنه لبعض شعراء هذيل )، فقال: لا تبرح والله حتى أكتبها، فأمليتها عليه فكتبها بخطه، فلما فرغ قلت: هذا لذي تعيبه أبو تمام ! فخرقها وقال: ولذا يظهر عليها أثر التكلف. . .!على أن مثل هذه العصبية إنما تقدر بسببها، وقد كان الأصمعي رواية البصريين، يتعصب على أبي النجم الراجز بالعشيرة، لعداوة ما بين ربيعة وقيس، حتى حلمته العصبية على أن صرح ببغضه وتتبع سقطاته، وبينهما أكثر من نصف قرن، وقال علي بن جمزة في كتاب ( التنبيهات ): إنه كان لشديد العصبية على جماعة من الشعراء لعلل. . .فعلة ذي الرمة اعتقاده العدل، وكان الأصمعي جبرياً، وقيل لأبي عثمان المازني: لم قلت روايتك عن الأصمعي ؟ قال: رميت عنه بالقدر والميل إلى مذهب الاعتزال، ثم ذكر قصة أنه جاءه يوماً فاستدرجه الأصمعي إلا الإقرار بعقيدته ليغري به العامة، وقال في آخرها، ثم أطبق ( يعني الأصمعي ) نعليه وقال: نعم القناع للقدري فأقللت غشيانه بعد ذلك.قال: وكان الأصمعي لهذه العلة يكثر الأخذ على ذي الرمة ويعترضه مخطئاً أيضاً. ولا يزال يكون مثل ذلك في العلماء الذين يجعلون العم وراء العقيدة، فهم إذا انتحلوا مذهباً يميزهم في طائفة من الأضداد، ذهبت ريحهم بهذا التضاد فصرفوا العلم إلى جانب الهوى فيه، وجعلوا ألسنتهم من وراء ما يذهبون إليه، يحوطونه ويدرؤون عنه ويبغون الغوائل بما يعترضه دافعاً أو مدافعاً، ولا بد في التسبب لذلك من ضغن علمي يرونه حلالاً بيناً، فإن كان فيه مكروه من النفاسة والتخذيل فكراهة تحليل، لأنه في الله أو في الحق الذي هو من الله، والضغن متى كانت له سبيل في العلم كان أمد في الصدور، وأرسخ في القلوب، لما يكون معه من خاصة النظر التي تكتنفه بأشعة النفس فتجعله كأنه من أخلاط الطبيعة في التركيب وإن كان من أغلاطها، وتظهره في أشعتها مظهر السحاب الذي يرتفع بقطرات الماء وأن كان بعد ذلك سبب انحطاطها، فرحم الله القوم، فإن لهم وجوهاً من المعذرة، تنظر فيها عيون المغفرة، ( إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ ). وبعد، فهذا مجمل من أمر الرواية والرواة، ولولا أني حسبت من نفس المقال، وعدلت بالقلم عن انتجاع الغيث إلى البلال لأمضيت البحث لطيته، وتركت الخاطر على سجيته، ولكنها قصبة من جناح قد طار، وأثارة من علم صار من الإهمال إلى ما صار، وإن هو إلا بساط كان منشوراً فطوي، وحديث قيل ثم روي.

بسم الله الرحمن الرحيم

رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي

الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه، أما بعد فإنا قد أفردنا هذا الجزء بالكلام في إعجاز القرآن الكريم وفي البلاغة النبوية، وقصرناه من ذلك على ما كان مرجع أمره إلى اللغة في وضعها ونسقها والغاية منها، إلى ما يتصل بجهة من هذه الجهات.أو يكون مبدأ فيها أو سبباً عنها، والغاية منها، إلى ما يتصل بجهة من هذه الجهات.أو يكون مبدأ فيها أو سبباً عنها، أو واسطة إليها.وهذا هو في الحقيقة وجه الإعجاز القريب الذي استبد بالروح اللغوية في أولئك العرب الفصحاء.فاشتملت به أنفسهم على خلق من العزيمة الحذّاء دائباً لا يسكن كأنه روح زلزلة.فلم تزل من بعده ترجف بهم الأرض حيث انتقلوا. ولا يخفينّ عليك أنّ ذلك في مردّه كأنه بابُ من فلسفة اللغة، فهو لا حقٌ بما قدمناه من أمرها يستوفي ما تركناه ثمّة، ويبلغ القول في محاسنها وأسرارها، فيكون بعض ذلك تماماً على بعضه، إذ اللغة هناك مفردات واللغة ههنا تراكيب، وليس رجل ذو علم بالكلام العربي وصنعته ينازع أو يرتاب في أن القرآن معجزة هذه العربية في بلاغة نظمه واتساق أوضاعه وأسراره، فمن ثم كانت مادة الاتصال في نسق التأليف بين هذا الجزء والذي قبله. على أن القوم من علمائنا - رحمهم الله - قد أكثروا من الكلام في إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأي لونوا فيها مذاهبهم ألواناً مختلفات وغير مختلفاتٍ بيد أنهم يمرون في ذلك عرضا على غير طريق ويشتقون في الكلام ههنا وههنا من كل ما تمترس به الألسنة في اللدد والخصومة، وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم، وليس وراء ذلك كله إلى ما تحصره هذه المقاييس من 'صناعة الحق' وإلا أشكال من هذه التركيب الكلامية، ثم فتنة متماحِلة لا تقف عند غاية في اللجاج والعسر. وقد كان هذا كله من أمرهم وعلمهم، وكان له زمن وموضع، وكانت تبعثهم عليه طبيعة ورغبة، والمرء بروح زمانه أشبه، وبحالة موضعه أشد مناسبة ولا بد من طبقة في الموافقة بين الأشياء وأسبابها، فإن تكن هذه الحوادث هي تاريخ الناس، فإنّ الناس أنفسهم تاريخ الحوادث. ولا نطيل عليك باستقصاء القولِ في آرائهم وكتبهم في الإعجاز، فإنّ شيءاً من ذلك تفصيل يقع في موضعه ممّا تستقبل من هذا الكتاب، ولكنّا ننبّهك إلى ما قسمناه لك من الرأي في هذا الموضع، وما تكلفناه من الخطة في هذا التأليف، فإنّا لم نُسقط عنك كل المؤنة، ولم نعطِكَ إلى حد الكفاية التي تورث الاستغناء، بل نهجنا لك سبيلاً إلى الفكر تتقدم أنت فيها، وأغناك على جهة في النظر تبلغ ما وراءها، وتركنا لك مُتنفساً من الأمر تعرف أنت فيه نفسك، وجمعنا لك بالحرص والكدّ ما إن تدبرته وأحسنت في اعتباره وأجريته على حقه من التثبت والتعرف، كان لك منبه إلى سائره، ومادةً فيما يجيش إليك من الخواطر التي لن تبرح ينمي بعضها بعضاً. ولسنا نزعم - حفظك الله - أن كتابنا هذا على ضعفه وقلة الحشد فيه قد أحاطط بوجوده الإعجاز من كتاب الله، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلى أحصاها، وأنا لم ندع من ذلك لغيرنا ما يرفعه أو يضعه وما ينقصه أو يتمه، فإنَّ من ادعى ذلك زعم باطلاً، وأكبر القول فيما زعم وبلغ بنفسه لعمري مبلغاً من السرف لا قصد معه في التهمة له وسوء الظن به، ودعا إليه من النكير ما لا قبل له برده أو بسط العذر فيه، وكان خليقاً أن يكون قد جاء ببهتان يفتريه بين يديه، وأن يكون ممن لا يتحاشون الكذب الصرف، ولا يَضنون بكرامتهم على الألسنة.فإن مكاره هذا البحث مما لا يسعه طوق إنسانِ وإن أسرف على نفسه من القهر، ولا يصلب عليه قلم كاتب وإن كان هذا القلم في يد الدهر، ولا بُدّ للباحث في أوله من فلتات الضجر، وإن أعتدّ، وفي اثناءه من سقطات العزم وإن اشتد، وفي آخره من العجز والانقطاع دون الحدّ. على أنا مع ذلك استفرغنا الهم، والتمسنا كل مُلتمس، وبرثنا إلى النفس من تبعة التقصير فيما يبلغ إليه الذرع أو تناله الحيلة، فنهضنا لذلك الأمر نهضاً وسبكنا فيه سبكاً محضاً، فإن قصرنا فضعف - ساقه العجز إلينا - وإن قاربنا فذلك من فضل الله علينا. وبعد فإنا نقول: إنه لا بد لمن ينظر في كتابنا من إطالة الفكر والتأمل.فإن ذلك يحدث له روية، وتنشئ له الروية أسباباً إلى الخواطر، وتفتح عليه الخواطر أبواباً من النظر، ويهديه النظرُ إلى الاستنباط والاستخراج، فإن وقع دون هذه الغاية فحظه من القراءِ حيث يقع، وإن بلغها فهناك مداخِلُ الحجج ومخارجها، وتصاريف الأدلة ومدارجها، ثم الإفضاء به إلى مذاهب الحكمة على ما اشتهى، ثم الانتهاء حيث ترى كل حكيمٍ انتهى. ^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي