تاريخ آداب العرب (الرافعي)/الصناعات اللفظية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الصناعات اللفظية

الصناعات اللفظية

التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها

الصناعات

مر بك من أمر النصاعتين في النظم والنثر ما تستخرج منه تاريخ الارتقاء في الكلام وتعرف به مدلوله ؛ غذ يعطيك من حوادثه الأدبية ما تعطيك الحوادث المادية من القياس الذي تضبط به النتائج وتجتمع الحدود ؛ ولا بد لمن أراد أن يستقرئ حوادث الانحطاط من معرفة تاريخ الارتقاء. لأنه ضد معلق على ضده، فلا تنحط الأمة حتى تكون قد ارتقت. والارتقاء في كل شيء إنما هو تغير مادته على مقادير تعطيه من القوة بنسبة الزيادة في ذلك التغير في مجموعه ؛ فالطفل يرتقي بتغير مادة جمسه إلى مقادير القوة حتى يصير رجلاً، ولكن إذ أخذ جسمه في النماء والزيادة وأخذت حاسة من حواسه في النقص والانحطاط، لم يكن ذلك النماء في مجموعه ارتقاء مطلقاً، بل احتاج أن يفصل فيه. وكذلك الشأن في هذه الصناعات الأدبية ؛ فإنها ليست في مجموع اللغة ارتقاء ولا انحطاطاً، وإنما يوصف كل جنس منها بأثره ؛ فإنك إذا نظرت إلى ان من أنواع البديع ما يورث اللغة حسناً في الألفاظ، وحلاوة في مخارج الكلام، حتى تحول في العيون عن مقادير كصورها، وتربى على حقائق أقدارها ما زينت وعلى حسب ما زخرفت، وحتى تكون هذه الزيادة بعينها فيما لها من قوة الهوى والتعشق، وأن تلك الأنواع تقتضي الكاتب أو الشاعر لطافة الحيلة وحسن التأتي وتمكين الأسباب ونحو ذلك مما هو أدخل في باب التكلف - لم يجز لك أن تعدها في اللغة إلا من أسباب الارتقاء ؛ لأن اللغة لم تقع لأهلها على الكفاية في كل شيء، وإنما سبيلها تحول المادة وتغير القوة في كل عصر. وإذا نظرت إلى أن من أنواع البديع أيضاً ما يكسب اللغة هجنه ويلحقها بضروب الصناعلات والحرف، ويصير بها حال مضيعة وكلال، وهو على ما يقتضيه من الكد والاستكراه وكثرة التكلف زينة عاطلة وفتنة باطلة، وأن هذه الأنواع مصائد للأقلام وحصائد للألسنة - لم يجز لك أن تحتسبها في اللغة إلا من أسباب الانحطاط ؛ لأنه وإن كانت زيادة في المادة إلا أنها نقص في القوة ؛ فمثلها مثل زيادة في الجسم من الأمراض كالسرطان وغيره. ومن تدبر تاريخ العلوم رأى أن لكل علم ثلاثة أدوار: فهو يبدأ بدرس حقائقه التي أفردته فاعتبر بها علماً، ثم يؤدي هذا الدرس إلى الاكتساب والاستنباط وما يتبعها من تمحيص الحقائق الأولى، ثم ينتهي الاكتساب إلى الدور الذي يبلغ فيه العلم أن يكون جزءاً من أجزاء الوحدة العلمية ؛ فإن العلوم كلها دعامة للعمران يشد بعضها بعضاً، وليس ينزل فيها إلا ما ك في هذه الغاية، وعلى هذا لا تكون الصناعات قد نشأت في علم الأدب إلا في الدور الثاني، وهو دور الاكتساب والتزيد، غير أنها نشأت على قدر الحاجة إليها، وكان يتولاها النقد ويحاسب عليها البيان، فخرج أكثرها مهذباً غير ملتبس ولا معقد ؛ حتى جاء القرن الرابع فأخذوا يتوسعون في ذلك لا يعدون مقدار التملح والظرف وما يجري مجراهما ؛ لأن معدة اللغة يومئذ كانت تسيغ ذلك وتمثله، حتى إن أبا الفتح البستي لما شغف قريباً من ذلك العهد بالتجنيس، قالوا إنها الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس، واستظرفوها ولم ينكروا عليه ما ننكر نحن على أهل هذه الطريقة في المتأخرين ؛ فلما أخذت اللغة تضعف بعد ذلك فشت الصناعات فيها وضربت لها عروق الحياة، ووجد الأدباء من جهل الخاصة وانصرافهم عن الأدب الصحيح ما صرفهم إلى أنفسهم وجعل باسهم بينهم، فتنافسوا في الاكتساب والإغراب، وصارت الصناعات مقصودة لذاتها، فتبعها اللغة بعد أن كانت متبوعة، وصار أول ما يجيد الشاعر أن يطرح معمى أو ينظم لغزاً ويبرع في بعض أنواع الجناسات وغيرها مما يسمونه بالمعجز والعويص ؛ وكذلك كان شأن الكاتب ؛ وصار ذلك من حظ الأدباء وأهل البلاغة عند الخاصة والأمراء، وقد ذكر ابن القطقطقي في كتاب ( الغزي ) ( ص15 ) أن عز الدين بن عبد العزيز بن جعفر النيسابوري - لمجالسه أهل الفضل ولكثرة معاشرتهم له - صار يتنبه على معان حسنة ( ويحل الألغاز المشكلة ) أسرع منهم، ولم يكن له حظ من علم.وكذلك قال في بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إنه لمثل ذلك كان يستنبط المعاني الحسنة ويتنبه على النكت اللطيفة مع أنه كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ. وكان انتشار الصناعات من ابتداء القرن السادس، وظلت إلى أواخر القرن التاسع - وهو زمن سقوط الأندلس - لا تستبد بالأدب وإن كان لها عليه في بعض ذلك سلطان ؛ لأن أفراد الكتاب والشعراء الذين نبغوا في تلك الأيام لم يكونوا يتنالون منها إلا على سنة التملح والظرف، كأهل القرن الرابع، فكانت فضلاً من القوة، ولا حساب على الفضل، حتى إن صفي الدين الحلي لما دخل إلى مصر في سنة 726 أنشجه الصاحب شمس الدين ابن السندي أبيات سليم الهوى المصغرة ألفاظها التي أولها:

بريق بالأبيرق في الفجير

وذكر له أن تناظمها لصاحب الديوان علاء الدين الجوشني ولم يمكنه نظم بيت واحد مديحاً ؛ إذ شأن المديح التعظيم، فنظم الصفي قصيدته التي أولها:

نقيطٌ منْ مسيكٍ في وريدٍ

خويلكَ أوْ وسيمٌ في خديدِ

واحتال للمدح لطيفاً، فلم يذكر صفات الممدوح ولكنه ذكر عطفه علبه وصغر نفسه ووصف حساده وصغرهم، فكان هذا التصغير مصضمناً معنى التعظيم، وخلص بذلك إلى ما أراد ؛ والقصيدة على عقدها لا تغص من قدر الصفي، لأنها في سبيل ما وصفنا، والرجل مع ذلك أنبغ المتأخرين في حملة الصناعات بعد الحريري. ولكنهم ورثوها للخلف العاق فتجاوزا إليها حقائق المعاني وتعبدوا الألفاظ ؛ وساعدتهم أحوال الزمان، فكان الواحد منهم إذا نظم قصيدة أو كتب رسالة فتح بقلمه قبراً من قبور اللغة، ولم تزل حالهم حتى انتصف القرن الثالث عشر، فأخذت تلك الجراثيم تضعف ثم تقل ثم تتلاشى، إلى النهضة الحديثة، فماتت إلا في بعض زوايا المساجد وبقيت في الزوايا خبايا. وإنما حملنا على الاهتمام بهذا البحث والصبر على مطاولة التعب في جمعه والتفتيش عنه، أن هذه الصناعات قد طوي زمنها ومات شأنها أو دنف بعد هذه الآونة الأخيرة التي نهضت بها اللغة وآدابها، وانصرف أهلها إلى غير هذا التسخير في القرائح، فلا تكاد تجد في أدباء اليوم من يعرف تأريخ نوع واحد منها ؛ وإذا ابتعد الزمن بعصرنا هذا أصبحت في الأدب كالآثار المستجمعة، إلا قليلاً مما استوعبت الكتب بعض تأريخه. وقد برع أدباء اللسانين الفارسي والتركي في هذه الأنواع وفاقوا العرب في أشياء منها ؛ ومن أعجب ما قرأته أن علأ الدين بن شمس الدين الفقازي من علماء الروم المتوفي سنة 903 كان يقرئ تلامذته شرح المطول في علوم البلاغة، فلما انتهوا إلى فن البيع صار يورد لكل صنعة عدة أبيات من الفارسية، قالوا: وكانوا يقرأون كل يوم من الضحوة إلى العصر سطراً أو سطرين، فلما طال عليهم ذلك قال لهم: هذه قراءة الكتاب فاقرأوا الفن، وصار يقرئهم كل يوم ورقتين.وذلك علم كثير. وسنأتي على شرح ما عثرنا عليه في الصناعات وتأريخه على مقدار ما وسعه الجهد وبلغ إليه الاطلاع ومكنت منه الفرصة ؛ وإن هذا المبحث لحقيق أن يكون كتاباً برأسه، ولكنه فضلاً عن ذلك لم يجتمع إلى الآن في كتاب. وقد كان يقع في هذا الفصل كلام في مقارنته هذه الصناعات بعضها ببعض ونسبة أثرها في اللغة وأشياء نحو ذلك، ولكنا سنفرقه على مواضعه ونجيء به عند مقاطعه.

لزوم ما لا يلزم

هذا نوع في الصناعة يعدونه من البديع، وقد سمي الالتزام والإعنات والتضييق والتشديد، وبهذه الأسماء يدور في كتبهم، والمراد بذلك عندهم أن يعنت الناظم أو الناثر في الالتزام حرف أو أكثر قبل حرف الروي، وهو إنما يفعله صاحب الكلام لقوته ولو تركه لم يدخل عليه ضعف ؛ غير أني أرى أن الحروف تتساوق وأن اللسان ميزان، فربما موضع لا يجد فيه البليغ المطبوع بدا من الالتزام فيفعل ذلك طبعاً لا صناعة لأنه يرى اللسان يثبت في الكلمات، فإذا لم يقع من كل كلمة على الحرف الملتزم أخلى فلم يصب الرنة، وكان ذلك في الكلام شبيهاً بالعواثير التي تكون في الطرق، ومن أجل ذلك لا يتم حسن هذا النوع إلا في الكلمات المتوازنة بالألفاظ، كقوله تعالى: ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) وهو أكثر ما يتفق، أو بالمقاطع، لأن كلتا الكلمتين التي يلتزم فيها قد لا تكون وزان الأخرى بنفسها ولكنها توازنها مع بعض مقاطع كلمة التي قبلها، أو هما يتوازنان في بعض مقاطعهما لا في جملتهما، كقوله تعالى: ( والليل وما وسق والقمر إذا اتسق ) فإن وسق لا توازن اتسق، ولكنهما يتوزنان إذا قلت ( ما وسق ) و ( إذا اتسق ) ؛ فإذا لم يتفق هذا التوازن، كما ترى في مجنون ومفتونون مثلاً، فهو حينئذ الإعنات والتضيق والتشديد إذا كان يحتسب التزاماً، لأنه غير طبيعي في الكلام، بل لو اطرد لكان ثقيلاً وخماً تثب له السيلقة وثبة أحشاء المتقيئ، ولذلك السبب عينه كان الالتزام طبيعياً في الشعر، لأنه أعاريض متوازنة، وكان من كماله ذلك النوع الدقيق منه، وهو التزام الحركة قبل الروي، إلا ان هذه الحركة قد ينكر السمع تغيرها.وذلك فيما يقع بعد ألفات التأسيس، كسالم وظالم، فإذا جاء فيها عالم ( بالفتح ) فذلك هو السناد، وهو معيب لما بيناه، وقد لا ينكر السمع تغير الحركة، كما تقول: يرعد وأرعد، وهو كثير في الشعر ؛ ولا يلتزم هذه الحركة غلا الفحول المبرزون، كابن الرمي، وهو أولع الناس بها، حتى إن قصيدته التي يقول فيها:

لما تؤذنُ الدُّنيا بهِ منْ صروفها

يكونُ بكاءَ الطِّفلِ ساعةَ يولدُ

قد ألتزمه فيها ففتحه ما قبل الروي، على طولها وامتداد النفس فيها، وشبيه بذلك ما فضلوا به العجاج ؛ غذ رغم بعضهم انه اشعر أهل الرجز والقصيد.وذكر أنه صنع أرجوزته:

قد جبر الدين الإله فجبر

فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها ( 56 ج 1: العمدة ). ولا نعرف أول من نبه على الالتزام، ولكن قدامة وابن المعتز والعسكري - وهذا توفي سنة 395 - لم يشيروا إليه في كتبهم ولا ورد ذلك في كلام من نبه على البديع ممن قبلهم من الرواة، لأن الالتزام في أكثر مواضعه المستحسنة طبيعي - كما قدمنا - ولكن أبا العلاء المعري المتوفي سنة 449 نظم على هذا النوع ديوانه المشهور ( باللزوميات )، قال في مقدمته: ( وجمعت ذلك كله في كتاب لقبته لزوم ما لا يلزم، ومعنى هذا اللقب أن القافية تلتزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت، ولها أسماء تعرف، وسأذكر منها شيئاً مخافة أن يقع هذا الكتاب إلى قليل المعرفة بتلك الأسماء. .أه ) ففي كلامه رائحة ضعيفة من الاختراع، ولعله أول من نبه عليه، فإن كان ذلك فهو لم يدعه ؛ لأنه نهج مطروق وشرعه مورودة، والاختراع لا يكون فيما هذه سبيله بين أهله ؛ غير أنه لا مراء في أن المعري أول من اتخذ هذا النوع صناعة احترفها شطراً من عمره، فتكلف في تأليفه ( كما قال ) ثلاث كلف: الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أن يجيء روية بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالث انه لزوم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو تاء أو غير ذلك من الحروف. ولم نعرف بعد المعري من تكلف تأليفاً مستقلاً في لزوم ما لا يلزم، إلا ما وقفنا عليه في ترجمة عبد العززي بن قاضي حماة، من فوات الوفيات، وقد توفي سنة 662، فقد قال فيه الشيخ صلاح الدين الصفدي:( لا أعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة من نظم أحسن منه ولا أجزل ولا أفصح ولا ( اصنع ) ولا أكثر فإن له في لزوم ما لا يلزم مجلداً كبيراً ). وقبل عبد العزيز هذا تكلف الوزير جمال الدين أبو الطاهر محمد بن يوسف التميمي السرقسطي المعروف بابن الاشتراكواني المتوفي سنة 538 - في مقاماته التي عارض بها الحريري - أن يلتزم في نظمها ونثرها هذا النوع ؛ ولذلك تعرف بالمقامات اللزومية، وقد اشتهر بأسلوبه هذا في الأندلس حتى احتذاه من مشاهيرهم عبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي المتوفي سنة 591، فقد كان رأساً في الكتابة وكان ينشئ الرسائل اللزومية، وبلغ في اللزوم مبلغاً أعجز فيه غيره ( ص303: بغية الوعاة ).

الشينينة والسينية:

أما الحريري فقد طبخ أحمض أصناف الإعنات والتضييق في رسالتين له، وهما المعروفتان بالشينية والسينية، كتب أولى منهما إلى الشيخ الإمام شمس الشعراء طلحة بن احمد بن طلحة النعماني، والثانية وهي السينية على لسان الأمير أمين الملك أبي الحسن بن فطير المرادي، وكان يتولى ديوان الاستيفاء بالبصرة، إلى الأمير الأجل الحسام، وكان قد دعاة الأسفهسالار الأجل النفيس سيد الرؤساء سيف السلاطين، وشربا جميعاً في دار بالبصرة في المحلة المعروفة ببني حرام، وهي محلة الشيخ الحريري، وكان أمين الملك جاره وصديق الأسفهسالار النفيس، فلم يدعه، فكتبها إليه يداعبه على لسانه. وقد التزم أن لا يخلي كلمة من الشين في الأول ومن السين في الثانية ؛ وأشار صاحب المثل السائر إلى هاتين الرسالتين في باب المعاظلة من كتابه ووصفهما ؛ ثم قال: فجاءتا كأنهما رقي العقارب ! وهو من تحمله على الحريري ؛ لأن الصناعات كانت مشهورة لذلك العهد مرغوباً فيها، ولأن مقام الرسالتين استدعى هذا الالتزام، وليس ما ترسل فيه السجية ويستجم له الطبع كالذي يكون من الشاذ والنادر، ولم يأخذ الحريري في ذلك النمط إلا قصداً وهو لا يجهل ما فيه، وإنما نبهه إلى ذلك مراعاة النظير ؛ فإن الشينية مكتوبة بها ( للشيخ الإمام شمس الشعراء ) والأخرى ( للأسفهسالار الأجل النفيس سيد الرؤساء الخ ) فكان أولى بذلك أن يعجب به لا أن يعجب منه، لأن الكتابة لم تكن إلا على جهة التظرف والتملح ؛ ومثل هذا لايعاب إلا إذا بولغ في استكراهه والإلحاح بالكثير منه ( انظر المجلد السابع من مجلة الضياء ص496، 527 ).

القوافي المشتركة

من الكلام ألفاظ تشترك في معان كثيرة، وهي هي في الدلالة على كل تلك المعاني المختلفة، وفقد اختلف أهل اللغة في سبب ذلك، ولكنهم اتفقوا على أنه ( لا خلاف أن الاشتراك على خلاف الأصل ) وهذا الموضوع مما لا سبيل إلى تحقيقه وبيان وجه الصواب فيه ؛ لأن الألفاظ المشتركة سماعية إلا ما استخرج منها بالقياس، كالخال مصدر خال مثلاً، وقليل ما هو، فلا يمكن ردها إلى لغة واحدة ولا إلى لغات مختلفة من لغات العرب، لذهاب أصولها. وقد تناول المتأخرون تلك الألفاظ واستعملوها قوافي للشعر على طريقه الجناس التام، واشهرها الذي تخرج منه القصائد، ألفاظ معدودة، وهي العين، والخال، والغرب، والهلال، والعجوز ؛ ولم يرد للمتأخرين قصائد على غيرها، وقد زاد بعضهم في معانيها ما لم يسمع ولم يجيء به نص في اللغة ليبلغ من ذلك مبلغ الكثرة، ولكن الشأن إنما هو في سهولة انقياد القافية وتمكينها على غير تكلف. وأول ما جاء من الشعر في ذلك ثلاثة أبيات للخليل، وهي:

يا ويحَ قلبي منْ دواعي الهوى

إنْ رحلَ الجيرانُ عندَ الغروبِ

أتبعتهمْ طرفي وقدْ أزمعوا

ودمعُ عينيَّ كفيضِ الغروبِ

بانوا وفيهمْ طفلةٌ حرةٌ

تفترُّ عنْ مثلِ أقاحي الغروبِ

فلفظ ( الغروب ) الأولى غروب الشمس، والثاني جمع غرب، وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث جمع غرب، وهو الوهاد المنخفضة. ثم نظم الحريري في إحدى مقاماته خمسة أبيات أولها:

سلَّ الزَّمانُ عليَّ عضبهْ

ليروعني وأحدّ غربهْ

ولكن النظم على هذا النونع لم يشتهر غلا في القرن الحادجي عشر ؛ قال الزبيدي في ( تاج العروس ) وقد أورد أبيات الخليل: ثم غني وجدت في شرح البديعية لبديع زمانه علي بن تاج الدين القلعي المكي ما نصه: في سانحات دمى القصر للعلامة درويش أفندي الطالوي - رحمه الله: كتب إلي الأخ الفاضل داود بن عبيد خليفة نزيل دمشق عن بعض المدارسة في لفظ مشترك الغرب طالباً مني أن أنسج على منوالها وأخذوا على مثالها، وهي ( أربعة أبيات ) قال:فكتبت إليه هذه الأبيات التي هي لا شرقية ولا غربية. .ونقل الزبيدي 27 بيتاً أولها:

أمنْ رسم دارٍ كادَ يشجيكَ غربهُ

نزحتُ ركيَّ الدَّمعِ إذْ فاضَ غربهُ

ولكن الشهاب الخفاجي أورد هذه القصيدة في آخر ريحانته - وهي هناك 29 بيتاً - وقال هناك: إن الطالوي عارض بها أبيات الحريري، والطالوي هذا من أدباء القرن الحاجي عشر ؛ وكذلك نقل الزبيدي أيضاً في شرح مادة ( عجز ) عن شيخه أن الأدباء أكثروا في جمع معاني العجوز في قصائد كثيرة لم يحضره منها وقت تقييد كلماته إلا قصيدة واحدة للشيخ يوسف بن عمران الحلبي وساقها هناك، ومطلعها:

لحاظٌ دونها غولُ العجوزِ

وشكَّتْ ضعفَ أضعافِ العجوزِ

العجوز في الأولى: النية: وفي الثانية: الإبرة.وهي ستون بيتاً فيها تكلف كثير، والشيخ يوسف هذا من المترجمين في الريحانة، ولكن الشهاب لم يشر في ترجمته لهذه القصيدة.ثم قال الزبيدي بعد أن أورد هذه القصيدة: قال شيخنا: وكنت رأيت أولاً قصيدة أخرى كهذه للعلامة جمال الدين محمد بن عيسى بن أصبغ الأزدي اللغوي. .وهي طويلة وأعظم انسجاماً وأكثر فوائد من هذه. .وهناك قصائد غيرها لنم تبلغ مبلغها.أه. وقال الشهاب الخفاجي في ترجمته السيد عبد الله الوفائي المصري: وقصيدته التي تلتزم فيها تجنيس قوافي الخال.مشهورة.وأولها:

يا سلسلة الصدغ من لواك على الخال ( كذا )

ولم يذكر منها غير هذا الشطر ؛ فلعله أول من نظم في الخاليات. ثم نظم نفر من أدباء القرن الثالث عشر في العينات والهلاليات وتابعوا من قبلهم في الخاليات والغريبات وأهملوا العجوزيات، ولعل العجوز ماتت قبل أن تلد قرائحهم. . ومهما يكن فالنظم في هذه الأنواع مما يجوز أن يحاضر به في اللغة على وجه المعاياة ؛ وكان هذا من فائدته قبل أن يشيع، أما بعد ذلك فهو لغو يحسبونه لهواً، وعناء يظنونه غناء ؛ وصناعة يرون فيها صياغة لتحلية العاطل ؛ وإنما الفرق بين ذلك فرق بين الأضداد.

القصائد المعراة

يراد بهذا النوع من المنظوم أن تكون القصيدة بجملتها خالية من أحد حروف الهجاء، فحيث التمسته كنت كطالب ما لا يوجد، أو كملتمس حرف أجنبي في الحروف العربية. والأصل في هذا على ما أعلم ما يروى من خبر واصل بن عطاء المتوفي سنة 181 قال الجاحظ: إنه لما علم أنه ألثغ فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وإنه كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لابد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن ؛ وأن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة، وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتثني إليه الأعناق وتزين به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التنام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة. .رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتي لسره والراحة كمن هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمل، حتى صار لغرابته مثلاً، ولظرافته معلماً.قال: ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال، لما استجزنا الإقرار به والتأكيد له. .إلى آخر ما يتعلق بخبر واصل مما ليس هذا موضعه. وكان هذا الأمر مقصوراً على المنثور ولا يتعدى مع ذلك ما ينسب إلى أبى حذيفة، حتى جاء الصاحب بن عباد المتوفي سنة 335 فجعله في المنظوم قال الثعالبي في ترجمته أبي الحسين علي بن الحسين الهمذاني: وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته. .ولما قال الصاحب قصيدته المعراة من الألف التي هي اكثر الحروف دخولاً في المنظوم والمنثور، وأولها:

قدْ ظلَّ يجرحُ صدري

منْ ليسَ يعدوهُ فكري

وهي في مدح أهل البيت ( لأن الصاحب كان علوياً ) تبلغ سبعين بيتاً - تعجب الناس منها وتداولتها الرواة:

فسارتْ مسيرَ الشَّمسِ في كلِّ بلدةٍ

وهبَّتْ هبوبَ الرِّيحِ في البرِّ والبحرِ

فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حرف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها، وقال قصيدة فريدة ليس فيها واو، مدح الصاحب في عرضها، وأولها:

برقٌ ذكرتُ بهِ الحبائبْ

لمَّا بدا فالدَّمعُ ساكبْ

أمدامعي منهلّةٌ

هاتيكَ أمْ غزرُ السَّحائبْ

نثرتْ لآلئَ أدمعِ

لمْ تفترعها كفُّ ثاقبْ

وكلها من هذا النمط يتحامل بعضها على بعض، ولعل قصائد الصاحب لا تعدوه في التقدير، لأنه لم يقع لنا منها شيء، حتى عن الثعالبي نفسه لم يذكرها في ترجمته. ولم نعلم أن أحداً بعد الصاحب تعاطى هذا الشأو مع غلبة هذه الصناعات على شعر المتأخرين وتكلفهم لما هو أكثر استغلاقاً وأصعب مراساً من النظم المعري، ولعل شيئاً من ذلك اتفق لبعضهم ثم درست به آثاره، أو لعل الاطلاع قصر بنا: ومهما يكن فقد بحثنا في الأصل، وما بقي فهو مما يرد إليه، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله.

محبوك الطرفين

ويريدون أيضاً بهذا أنوع من المنظوم أن تكون كل أبيات القصيدة أو القطعة مبتدأة ومختتمة بحرف واحد من حروف المعجم ؛ وأول من جاء بشيء من ذلك أبو بكر محمد بن دريد المتوفي سنة - 321، وقد ذكر المسعودي أنه كان شاعراً كثير الشعر يذهب في كل مذهب، غير أنه لم يشتهر من شعره إلا مقصورته التي مدح بها ابن مكيال، وهي مشهورة، وقد نظم ابن دريد المذكور قطعاً مربعة على عدد الحروف لم يلتزم فيها بحراً واحداً بل جعل كل قطعة منها مستقلة عن سائرها في الوزن كما هي مستقلة في الرومي، وأولها قوله في حرف الألف:

أبقيتَ لي سقماً يمازجُ عبرتي

منْ ذا يلذّض معَ السِّقامِ بقاءِ

أشمتَّ بيَ الأعداءَ حينَ هجرتني

حاشاكَ ممَّا يشمتُ الأعداءَ

أبكيتني حتَّى ظننتُ بأنَّني

سيصيرُ عمري ما حيبيتُ بكاءَ

أخفي وأعلنُ باضطرارِ إنَّني

لا أستطيعُ لما أجنُّ خفاءَ

وفيها أبيات جيدة لأن الشعر مع هذا القيد ولا جرم قريب من الانطلاق، إلا حيث تكون الألفاظ المستكرهة في بعض الأحرف المعدودة كالخاء والظاء. ثم جاء بعد ابن دريد أبو الحسن علي بن محمد الأندلسي البرزي فانسحب على آثاره ونسج على منواله، ولكنه أبلغ أبيات كل قطعة إلى العشرة، ولذلك تعرف منظومته بالقصائد المعشرة. وتلاهما صفي الدين الحلي الشاعر الشهير المتوفي سنة 750 فنظم من هذا النوع تسعاً وعشرين قصيدة على عدد الأحرف الهجائية، والتزم هذا العدد بعينه في نسق كل قصيدة، فجاء من ذلك بالشيء العجيب، ولو كان ابن دريد من المصنعين ولام يكن حيث هو من العربية وفنون الأدب لأخمله الصفي. وقد مدح الحلي بقصائده تلك السلطان الأرتق المنصور نجم الدين أبا الفتح ولذلك تعرف بالأرتقيات ومطلع القصيدة الأولى منها:

أبتِ الوصالَ مخافةَ الرُّقباءِ

وأتتكَ تحتَ مدارعِ الظَّلماءِ

أصفتكَ منْ بعدِ الصُّدودِ مودَّةً

وكذا الدَّواءُ يكونَ بعدَ الدَّاءِ

وهي مشهورة في ديوانه، ثم ختمت به الإجادة في هذا النوع على ما أظن، غذ لم يتفق لغيره من ذلك غلا القليل، كأبيات أبي جعفر الألبيري الأندلسي - وكان معاصراً للصفي - فيما التزم في أوله حرف الدال، وقد أوردها صاحب نفح الطيب ( ص42 ج 2 ) وكذلك جرى بعضهم على نمط ابن دريد في قصائد مسدسة في المديح النبوي، وذكر المقري من ذلك قصيدتين في آخر كتابه، وساق هناك قصيدة أخرى للشيخ أبي كعبد الله بن عمران في المديح، وهو يذكر في أول كل بيت حرفاً من حروف المعجم منطوقاً به على أن يكون جزءاً من عروضه، ومطلعها:

ألفَّ، يا خيرَ البريَّةِ هذي

مدحي وما أنا في مقامي هذي

باءٌ بها أظهرتُ صدقَ محبَّتي

وبذلكَ الجاهِ الكريمِ لياذي

ومن هذا النوع أخذ المتأخرون ما يسمونه التطريز، وذلك لنهم إذا أرادوا أن ينظموا في مدح مثلاً جعلوا أوائل الأبيات على حسب حروف هذا الاسم فيبتدئون بالألف، ثم بالحاء، ثم بالميم، الخ. وهو نوع كان يعرف في القرن الحادي عشر بالمشجر وأورد منه ابن معصوم في السلافة بعض مقاطيع، وربما جاءوا بالتشجير في المصراعين فتكون أوائل الشطور الأولى على حروف الاسم المشجر به، وكذلك أوائل الشطور الثانية ؛ وليس في ذلك كله من البراعة إلا ما اصطلحوا عليه من انه صناعة. وللصفي أيضاً أبيات تقرأ طولاً وعرضاً فلا يتغير وضعها، ولم أر غيرها لغيره ما سيجيء في القصائد التي تقلب على وجوه كثيرة ؛ لأن ذلك يكون من قراءتها طولاً وعرضاً وطرداً وعكساً، والأبيات هي:

ليتَ شعري لكَ علمٌ

منْ سقامي يا شفائي

لكَ علمٌ منْ زفيري

ونحوليَ وضنائي

منْ سقامي ونحولي

داوني إذْ أنتَ دائي

يا شفائي وضنائي

أنتَ دائيَ ودوائي

^

ذوات القوافي

هذا نوع من النظم يعطيك أنواعاً من البحور والقوافي كلما قلبته على جهة من جهات الاستخراج نظم عليها.والأصل فيه النوع البديعي الذي سموه التشريع وسماه ابن أبي الإصبع في كتابه بالتوأم، لأن شرطه عندهم أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين.فإذا سقط من أجزاء البيت جزءاً أو جزأين صار من وزن آخر غير وزنه الأول، وعلى هذا النوع بنى الحريري قصيدته في المقامة الثالثة والعشرين، وهي من ثاني الكامل، وأولها:

يا خاطبَ الدُّنيا الدَّنيَّةَ إنَّها

شركُ الرَّدى وقرارةُ الأكدارِ

دارٌ متى ما أضحكتْ في يومها

أبكتْ غداً، بعداً لها من دارِ

وهي تنتقل بالإسقاط إلى ثامن الكامل فتصير:

يا خاطبَ الدُّنيا الدَّنيةِ

إنَّها شركُ الرَّدى

دارٌ متى ما أضحكتْ

في يومها أبكتْ غداً

وقد تنبه الحريري إلى استخراج هذا النوع من قول بعض العرب:

وإذا الرِّياحُ معَ العشيِّ تناوحتْ

هوجُ الرِّماحِ بكثبهنَّ شمالا

ألأفيتنا نفري الغبيطَ لضيَّفنا

قبلَ القتالِ ونقتلُ الأبطالا

فإن هذا الشعر بعد الإسقاط يخرج منه:

وإذا الرِّياحُ معَ العشيِّ

تناوحتْ هوجُ الرِّماحِ

ألفيتنا نفري الفبيطَ

لضيفنا قبلَ القتالِ

فالحريري هو أول من قصد له، ثم وطئ عقبه فيه أصحاب البديع والمتكلفون لمثل ذلك، وقد وجدوا الرجز أوسع البحور فيه، فإنه يقع مستعملاً تاماً، ومجزوءاً، ومشطوراً، ومنهوكاً.فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف، فإذا أسقطت مات بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكاً، وإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي مشطوراً، ويبقى إذا أسقطت ما بعد الثالثة مجزواً، ثم هو تام إذا كان على حاله من غير إسقاط، وعلى ذلك قول أبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي ( صاحب البديعة ):

يرنو بطرفٍ فاترٍ مهما رنا

فهوَ المنى لا أنتهي عنْ حبِّهِ

يهفو بغصنٍ ناضرٍ حلوِ الجنى

يشفي الضَّنى لا صبر لي عنْ قربهِ

وهي أربعة أبيات، والأوجه الثلاثة التي تستخرج منها غير التام وهي:

يرنو بطرفٍ فاترٍ

مهما رنا فهوُ المنى

( وهو المجزوء )

يرنو بطرفٍ فاترٍ

مهما رنا

( وهو المشطور )

يرنو بطرفٍ فاترٍ

فهوُ المنى لا انتهى عنْ حبِّهِ

( وهو المنهوك )قالوا: ولكن القوة في ذلك والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع في بيت واحد، والإعجاز فيه ان يخرج من البيت بيتان كقول ابن حجة الحموي في بديعته مورياً بتسمية النوع:

طابَ اللقا لذَّ تشريعُ الشُّعورِ لنا

على النَّقا فنعما في ظلالهمُ

فإنه يستخرج منه:

طابَ اللقا

على النَّقا

وهو من منهوك الرجز، ويكون الباقي من البيت:

لذَّ تشريعُ الشُّعورِ لنا

فنعما في ظلالهمُ

وهو من المديد، والبيت كله من البسيط، ثم تنبه المتأخرون حين بالغوا في الصناعات وفتقت لهم منها حيلة المنافسة إلى ان يجيئوا بأبيات أو قصيدة من هذا النوع الذي قلد فيه ابن حجة الشيخ عز الدين صاحب البديعية المشهورة، ويقصدوا في قوافيها المقصورة إلى نوع من الترتيب، وبذلك تخرج القطعة أو القصيدة وهي تقرأ طولاً وعرضاً وطرداً وعكساً، ثم تقرأ بالشطرة الواحدة من القوافي الثلاث على وجوه كثيرة لا تحصر إذ لا فائدة في حصرها. .وأقدم ما وقفنا عليه من هذا النوع قطعة للشاعر المقلب بابن معتوق يمدح بها، وهي مثبتة في ديوانه ( ص56 ) وأولها:

فخرُ الورى حيدجريٌ عمَّ نائلهُ

فجرُ الهدى ذو المعالي الباهراتِ علي

نجمُ السَّها فلكيَّاتٌ مراتبهُ

بادي السَّنا نيِّرٌ يسمو على زحلِ

بيثُ الشَّرى قبسٌ تهمي أناملهُ

غيثُ النَّدى موردٌ اشهرُ منَ العسلِ

بدرُ البها أفقٌ تبدو كواكبهُ

شمسُ الدُّنا صبحُ ليلِ الحادثِ الجللِ

وهكذا زاوج في ترتيب القوافي كما ترى، وليس يخفى أن هذا التفكيك في أجزاء القصيدة هو علة تركب القصائد الكثيرة من القصيدة الواحدة، حتى إن بعضهم عمل قصيدة واشتغل بإحصاء الوجوه التي تنظر بها فبلغت في عينه مليون وجه، وذلك عالم من الأرقام في فقر من الكلام. وهذا التجزيء في الشعر ليس حديثاً، بل يرجع عهده إلى عصر سلم الخاسر، فإنه أول من ابتدعه، ذلك أنه رأى أن أقصر ما خصه القدماء من الرجز ما كان على جزأين، كقول دريد بن الصمة:

يا ليتني فيها جذعْ

أخبُّ فيها وأضعْ

فعمل قصيدة على جزء واحد مدح بها موسى الهادي، وسمى الجوهري هذا النوع من النظم بالمقطع ( ص123 ج 1: العمدة ) ومن قصيدة سلم:

مرسى المطرْ

غيثٌ بكرْ

ثمَّ انهمرْ

ألوى المررْ

كمَ اعتسرْ

ثمَّ أيتسرْ

وكمْ قدرْ

ثمَّ غفرْ

ومن ذوات القوافي في نوع من النظم سماه أهل البديع التخيير، وقالوا هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف مختلفة فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها ويرسل بها البيت، فيكون ذلك دليلاً على حسن اختياره، وهو تعليل لا معنى له، لأن تمكن القافية شرط في الشعر، وسواء بعد ذلك ساغ أن يقفى بقواف أخرى أو كان أمره مقصوراً على القافية الواحدة. وإذا تفقدت الشعر في أي عصوره لم تعدم أن تجد البيت أو الأبيات مما يقلب على القوافي، ولكن الحسن من ذلك قول ديك الجن، وأكثر من يرويه يسنده إلى أبى نواس، وهو:

قولي لطيفكِ يثنيني

عنْ مضجعي عندَ المنامْ

فعسى أنامُ فتنطفي

نارٌ تأجَّجُ في العظامْ

جسدٌ تقلَّبهُ الأكفُّ

على فراشٍ منْ سقامْ

أما أنا فكما علمتِ

فهلْ لوصلكِ من دوامْ ؟

فالقوافي التي يمكن أن ينشد بها هذا الشعر هي:

عندَ المنامِ الرُّقادُ

الهجوعُ الهجودُ الوسنْ

في العظامِ هي الفؤادُ

الضُّلوعُ الكبودْ البدنْ

منْ سقامٍ قتادُ

دموعٌ وقودٌ حزنْ

منْ دوامٍ معادُ

رجوعٌ وجودٌ ثمن

ولست أشك في أن البيت الأخير مقحم وليس من نظم صاحب الأبيات، وإنما ألحقوه بها توسعاً في الاحتمال، وزيادة من البيان في المثال ؛ وقد وصلوا في هذا النوع إلى جعل البيت على سبع قواف، اطراد ذلك في قطعة واحدة، وإنما يحسن هذا متى أتفق استخراجه في شعر لا ما قصد إليه، فإن القصد هنا محمل التكلف، وهو يخرج الشعر إلى الصنعة فيسقط بها عن درجته قليلاً أو كثيراً كما مر بك في الصناعات.

القوافي الحسية

هذا النوع عجيب، تنوب فيه الحركة أو الإشارة عن اللفظ في موضع القافية موقعة على عروضها، وهو نهاية في الظرف والملاحة، لأن من المعاني ما قد تكون الحركة أو الإشارة فيه أبلغ من اللفظ دلالة وأبدع موقعاً وأحسن إطرابا، وإنما يكون لها ذلك إذا كان فيها معنى من معاني القلب، فكأن القلب هو الذي ينطق ؛ ولذلك لا يعدو أن يصيب مواقع الهوى ويحرك في النفوس العجب والاستحسان ؛ وذلك كقول بعضهم:

ظفرتُ بمعشوقٍ لهُ الحسنُ حلةٌ

فقبلتهُ شفعاً وقلت له. . .

فقالَ أتهواني ؟ فقلتُ لهُ أنعمْ

فقالَ ومنْ غيري ؟ فقلتُ لهُ. . .

البيتان من الطويل، وقد جعل قافية البيت الأول صوت القبلة مكرراً مرتين كما يدل عليه قوله ( شفعاً ) وقافية الثاني الصوت الدال على النفي مكرراً أيضاً، وهو تنشأ عن القرع بطرف اللسان على أطراف الثنيتين المتقدمتين عن أعلى الثغر، وليس في البيتين من الحسن أكثر من هذه الحركة كما نرى، ولما كانت مما لا سبيل إلى تصوير حروفه بالخط كانت إلى الطبيعة أقرب وكانت لذلك أملح. وللعرب في بعض ذلك تعبير يؤدي معنى الإشارة اصطلاحاً، كتعبيرهم عن صوت النفي في البيت الثاني بقولهم مض، قال في لسان العرب: هو أن يقول الإنسان بطرف لسانه شبه لا، وأنشد:

سألتها الوصلَ فقالتْ مضِّ

وحرَّكتْ ليَ رأسها بالنغضِ

ومن هذه القوافي قول الآخر:

ولقدْ قلتُ للمليحةِ قولي

منْ بعيدٍ لمنْ يحبُّكِ

فأشارتْ بمعصمٍ وبنانٍ:

أيُّها العاشقُ المتيَّمُ

والبيتان من الخفيف، وعجز كل منهما ينقص سببين خفيفين، فجعل تمام الأول حركة اليد التي أشار بها بمعنى ( أقبل ) مكررة، وهي توازن السببين في امتداد الزمن، وجعل تمام الثاني الحركة التي يشار بها بمعنى ( اذهب ) مكررة كذلك، والقافيتان مما يتناول بالبصر ومما لا سبيل إلى تصويره بغير أداته الطبيعية، وقد روى البيتين وزاد فيهما ثالثاً الحسن بن رشيق صاحب ( العمدة )، قال: وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين بن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعراً لا قافية له ؟ قال: وصنع من فوره ارتجالاً:

ولقدْ قلتُ للمليحةِ قولي

من بعيد لمن يحبُّكِ. . .( إشارة قبلة )

فأشارت بمعصم ثم قالت

من بعيد خلاف قولي. . .( إشارة لا لا )

فتنفَّستْ ساعةً ثمَّ إنِّي

قلتُ للبغلِ عندَ ذلك. . .( إشارة امش )

والإشارات في هذه الأبيات إما أن تكون باليد أو بالحركات الشفة على نحو ما سبق، وعلى ذلك تكون الإشارة للبغل كما يفعل المكارون عندنا حين يستحثون الدابة فيطبقون الفكين ويقرعون بطرف اللسان على الثنايا السفلى. ولا بد لتمام الحسن في هذا النوع أن يكون البيت موقوفاً بمعناه على الحركة أو الإشارة في القافية، وإلا انصرف عنه الذهن وجاءت الطبيعة فيه تابعة فكان ذلك مما يكسبه معنى سخيفا ويحيله عن وجه الإبداع فيه، إذ تكون الإشارة في مثل ذلك عيا لا بياناً. ولا تبلغى مثل هذه القوافي أن تكون اختراعاً في الصناعة، لأنها لا تحسن في كل حال، وإنما يقضي بها سبب من الأسباب أيها كان، وما لا يحسن أن يجيى إلا بسبب يقبح إذا جاء من غير سبب، على أنه شيء طبيعي مبذول يتناوله كل من بعث عليه فلا معنى فيه لحقيقة الاختراع، ولعلك إذا تتبعت مواقع ذلك في الشعر رأيت كثيرا منه يصلح أن تكون قوافيه حسية، ولكن الصعوبة في أن تكون هذه القوافي الحسية موزونة حركاتها على الأوزان التي تقابلها من العروض، وهذا هو وجه الصنعة الغريبة فيما تقدم. وهاهنا بديعة أخرى، وهي ما يروى من أن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل كان إذا مدح لا ينظر إلى وجه مادحه، فتلطف ابن مطروح الصاحب جمال الدين الشاعر المتوفى سنة 649 وعمل قصيدة بنى قافيتها على الإشارة فكان كلما انتهى إلى قافيته أشار بما يدل عليها فنظر إليه الملك، ومن هذه القصيدة قوله:

تعشَّقتُ ظبياً وجههُ مشرقٌ كذا

إذا ماسَ خلتَ الغصنَ من قدِّهِ كذا

لهُ مقلةٌ كحلاءُ نجلاءُ إنْ رنتْ

رمتْ اسمها في قلبِ عاشقهِ كذا

ومنها:

أيا نسماتِ الرَّوضِ بالِله بلِّغي

سلامي إلى منْ صرتُ من أجلهِ كذا

وقولي لهُ ذاكَ الغريبُ أملني

إليكَ سلاماً منْ تحيَّتهِ كذا

عساهُ إذا وافتْ تحيَّة عبدهُ

يسائلُ عنْ حالي بأنمله كذا

وهذا النوع من الإشارة وارد بعضه في الحديث الشريف كقوله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت والساعة كهذين ) وهو كذلك شائع في كثير من الكلام ؛ ومن أعجبه أنه لما اجتمع الناس عند معاوية ابن أبي سفيان وقامت الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة، قام رجل يقال له يزيد بن لامقنع، فاخترط من سيفه شبراً ثم قال: هذا أمير المؤمنين ( وأشار بيده إلى معاوية ) فإن مات فهذا ( وأشار بيده إلى يزيد ) فمن أبى فهذا ( وأشار بيده إلى سيفه ) فقال معاوية: أنت سيد الخطباء !

التاريخ الشعريّ

ويسمونه التاريخ الحرفي أيضاً، لأن المرجع فيه إلى حساب الأحرف الأبجدية، ولا يعرف بالتعيين أول من استعمله في الشعر، وقد ذكر أنه كان مستعملاً في الجاهلية الأولى عند شعرائها، وهو وهم، ولكن أقدم ما وقفت عليه من ذلك قول بعضهم في تأريخه لسنة 822:

تاريخهُ: خيرٌ بدا

معَ كمالِ العفَّةِ

ويريد بقوله ( مع كمال العفة ) حرف التاء الذي هو تمام لفظ العفة، وحسابه في الجمل هاء، وهذا النوع يسمونه الذيل، وهو أن يكون جمله ناقصاً فيكمل بحرف أو أكثر مع التنبيه على ذلك، وهذا التشبيه ببعض أنواع المعمى. وأقدم من ذلك - ولكنه ليس على طريقة التأريخ، بل على طريقة الإشارة والرمز - قول الشبيب من أهل القرن السادس في الأمام المستنجد بالله وهو الخليفة الثاني والثلاثون من خلفاء العباسيين:

أنتَ الإمامُ الذي يحكي بسيرتهِ

منْ نابَ بعدَ رسولِ اللهِ أو خلفا

أصبحتَ ( لبَّ ) بني العباسِ كلِّهم

إن عدِّدت بحروفِ الجمَّل الخلفا

وجمل حروف ( لب ) 32 ؛ ولصلاح الدين الصفدي من أدباء القرن الثامن في قلم ممدوحه بدر الدين:

لصفاتِ بدرِ الدِّين فضلُ شائعٌ

تصبو لهُ الأفكارُ والأسماعُ

انظرْ إلى القلمِ الَّذي يحوي فقدْ

صحَّ الحسابُ بأنَّه نفَّاعُ

وذلك أن جمل ( القلم ) 201 و ( نفاع ) كذلك، ومنهى التنطع قول بعضهم وهو من هذا القبيل:

منْ كانَ ( آدم ) جمَّلاً في سنِّهِ

هجرتهُ ( حوّاءُ ) السِّنينَ منَ الدَّمى

وهو يعني أن من كان عمره كجمل ( آدم ) أي 45سنة، هجرته من كان عمرها كجمل ( حواء ) وهو15. وقد ذكر القرمانيفي تاريخه عند الكلام على فتح القسطنطينية سنة 857 وأن السلطان محمداً فاتحها حباه الله هذا الفتح لكونه أعلم الملوك وأعدلهم وأحسنهم سيرة وأخلصهم نية وطوية - قال: وضمن بعضهم هذا المعنى في تأريخ الفتح فقال:

رامَ أمرَ الفتحِ قومٌ أوَّلونَ

حازهُ بالنَّصرِ قومٌ آخرونَ

وقعت لفظة ( آخرون ) تاريخ فتح المدينة، وقيل في تاريخها أيضاً ( بلدة طيبة ) اه. وعندي أن كان منشأ التاريخ في الشعر، وأن البيت الذي سبق ذكر تاريخه لسنة 822 مصنوع للمثال لا غير.ويرجع ذلك أننا لم نجد كتاباً ذكرت فيه التواريخ الشعرية القديمة في الوفيات وأمثالها إلا كتاب ( الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية )، وأقدم تاريخ ذكر في هذا الكتاب هو ما أرخوا به وفاة الشيخ تاج الدين بن إبراهيم المتوفى سنة 782 وقد ذكر صاحب الشقائق هذا العبارة: ( وقال المؤرخ في تأريخ وفاته ):

انتقلَ الشَّيخُ وتاريخهُ

( قدَّسكَ اللهُ بسرِّ رفيعِ )

وهو يذكر تراجم العلماء من سنة 699 ؛ فلو كان التاريخ شائعاً قبل ذلك لكان فيهم من لا تسقط به قيمته عن أن يستحق تأريخاً شعرياً وقد مرت عليهم 73 سنة وهي الفرق ما بين العهدين. وقد أخذ العرب اصطلاح الدلالة بالأحرف على الأعداد قديماً عن السريان، فإنهم كانوا يعبرون عن الأعداد بالأحروف، كالعبرانيين واليونانيين ؛ والحروف عند السريانيين مرتبة ترتيب حروف ( أبجد. .) غير أن العرب زادوا عليها كلمتي ( ثخذ وضظغ ) وهي التي سموها الروادف، وأعدادها من 500 إلى 1000 ؛ لأن هذه الأحرف الستة لا توجد في لغة السريان ولا في لغة العبرانيين ؛ ولكن يوجد فيها ما يقابلها، وهي ستة أحرف فرعية نوعوا بها الأحرف الأصلية التي هي: الباء والجيم والدال والكاف والفاء والثاء، فهذه الأحرف عندهم إما جاسية جافية وإما مخففة لينة، وتعرف باصطلاح السريانيين بالمقساة والمركخة، فإذا كانت جاسية تلفظ كما تلفظ في العربية وتعلم بنقطة فوقها عند السريانيين وفي وسطها عند العبرانيين، وإذا كانت مخففة فإن الباء تلفظ كالفاء الفارسية والجيم كالغين العربية، وتلفظ الدال ذالاً، والكاف خاء، والفاء باءً فارسية، والثاء تاء. وزعموا أن أبجد هوز الخ أسماء لبعض ملوك مدين، وقيل غير ذلك، وهو خلاف لا فائدة في إيرادهه، لأنه مما لا ثبت له من التاريخ ولا من أقوال المحققين، غير أن بعض المتأخرين يرجح أن هذه الأحرف جمعت كذلك بقصد حصرها في ألفاظ يسهل استظهارها ولو لم تكن ذات معان، كما حصروا بعض أنواع الحروف مثل أحرف القلقلة في قولهم ( قطب جد ) ونحوها. وهو اصطلاح فاش في أكثر الفنون، كالنحو والفقه والعروض وغيرها. والأنواع التي اصطلح عليها في هذا التاريخ هي:المستوفى وهو ما لاتحتاج كلماته ضميمة غيرها، كأكثر التواريخ المتداولة.والمذيل، وقد مر مثاله ؛ وعكسه أن يكون التاريخ زائداً فينبه فيه على حروف إذا أسقط جمله من المجموع كان الباقي هو التاريخ، كقول جمال الدين العصامي في تاريخ وصول قاضي مكة وكان اسمه حسناً، وذلك سنة 1074 وهو: ( حسنٌ قاضينا حسن بلا كلام، فإذا أسقط جمل ( بلا كلام ) من جمل ( حسن قاضينا حسن ) كان التاريخ ما بقي ). والمتوج وهو ما تحسب أوائل كلماته دون باقيها، كقول بعضهم لسنة 1102:

قدْ جاءَ عامٌ جديدٌ

لكلِّ خيرٍ يجوزُ

أرِّخْ أوائلَ ( قولي

بكل خير تفوز )

والممثل وهو ما كان بالتمثيل، كقولهم لتاريخ 989 ( إنه محمل بين علمين ) لأن صورة هذه الأرقام تماثل صورة المحمل بين العلمين ؛ ومثله ( علم بين محملين ) لسنة 898. ومن عجيب هذا النوع قول بعضهم يؤرخ وفاة بعض العلماء سنة 888 وهو ( انقلب محراب الديانة والين والزهد ) والمراد حروف الدال في هذه الكلمات، والدال كما لا يخفى ترسم هكذا ( د ) فإذا انقلبت الدالات الثلاث، صارت هكذا ( 888 ) وهو عدد السنة المؤرخ بها، وهذا النوع قل أن يتفق في المنظوم إلا بتكلف سمج. ومن أنواع أخرى قليلة لا طائل تحتها بل هي من التفنن المرذول، وقد استعمل التاريخ في بديعية الشيخ عبد الغني النابلسي ؛ ثم جاء تلميذه الشيخ شاكر النحلاوي ويقولون إنه ابتكر في التاريخ طريقة جديدة، وهي جعل كل شطرة من القصيدة تاريخاً، وأنه نظم في ذلك قصيدة في مدح أستاذه تواريخها لسنة 1136ه. ولكن صاحب الشقائق النعمانية ذكر في ترجمة المولى الشهير بابن الشيخ الشبستري ( ص 60ج ) وقد اشتهر بهذه الكنية ولم يعرف اسمه، أنه نظم قصيدة ( فارسية في ستين مصرع كل بيت تاريخ لسنة 926، والقصيدة تهنئة بجلوس السلطان سليمان بن السلطان سليم، وكان المصراع الأخير تاريخاً لفتح قلعة رودس ؛ وهذا الأديب نفسه صنف أيضاً بالفارسية رسالة في المعمى وجعل أمثلة قواعده كلها على اسم السلطان خان 1ه. .. .فيكون النحلاوي ناقلاً لا مخترعاً وإن كان أول من أدخل ذلك في النظم العربي. ثم اخترع بعده الشيخ أحمد البدير الشاعر طريقة المعجم والمهمل، فأرخ وفاة الأمير منصور الشهابي سنة 1188 في بيت حروفه المهملة تاريخ وحروفه المعجمة كذلك. وتفنن المتأخرون بعد ذلك فجمعوا في البيت الواحد تاريخين متفقين أو مختلفين من الهجري والميلادي، وثلاثة وأربعة أيضاً، ووضعوا طريقة يجتمع بها في بيتين ثمانية وعشرون تاريخاً، وذلك أن تنصف السنة المؤرخ بها، ولا بد أن تكون زوجاً ليكون لها نصف صحيح، ويجعل كل شطر من الأبيات نصفين يكون مجموع جمل معجمه أو مهمله إلى معجم أي شطر أو مهملة، يخرج بقية العدد. وقد زاد أدباء الترك في هذه الطريقة أن يكون كل شطر مهملة في الحساب على آحاد وعشرات ومئين، وكذلك معجمه، فيؤخذ أي عدد من هذه الأعداد ويضم له ما عدا مماثله من أي شطر بعده، فيكون المجموع تاريخاً، وبهذه الطريقة تضمن الأبيات القليلة كثيراً من التواريخ، وذلك لعمري هو العناء الناصب العلم الكاذب، وما لا ينبغي أن يكون له طائل ولا طالب. وهاهنا غريبة في التاريخ، وهي القصيدة التي نظمها الشيخ محمد قيادو التونسي، وهي مؤرخة لسنة 1276ه، ويستخرج منها تواريخ كثيرة جداً لتلك السنة، ويتولد منها قصيدة ثانية يستخرج منها نفس التاريخ، في عدد كثير، وعدة أبيات القصيدة ( الأم ) ستة وثلاثون بيتاً، والملدة منها ثمانية عشر، فيخرج من كل بيتين من الأولى بيت من الثانية، ومطلع الأولى:

خيرُ حامِ مجدٍ مجيرُ العبيدِ

حاطَ خيرَ الجرى لعبدِ المجيدِ

حاطهُ عنْ عثارِ جعدٍ برجفِ

منتجٍ جحدَ عرفِ ربقِ العهودِ

ومن هذين يستخرج مطلع المولدة وهو:

خيرُ حامِ مجيرُ عبدِ المجيدِ

عنْ عثارٍ برجفِ جحدِ عهودِ

فكل شطر برمته تاريخ، ومهمل كل شطر مع مهمل غيره أو معجمه تاريخ، وكذا معجم كل شطر مع معجم غيره أو مهمله تاريخ، وقس على ذلك اعتبار القصيدة بعضها ببعض مما يكون خيراً منه الشاعر أن يشتغل في ( مصلحة الإحصاء ). . . فإن هذا كما يقول الصاحب في قول المتنبي:

أحادُ أمْ سداسٍ في أحادٍ

لييلتنا المنوطةُ بالتَّنادي

إنه من عنوان قصائده التي تحير الأفهام وتفوت الأوهام وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرتيماطيقي. . وقد يظن أن المتأخرين هم الذين انفردوا بالتفنن في التاريخ الشعري على النحو الذي سلف، وهم أهل لذلك في كثير، ولكن هناك عجيبة أخرى، وهي قصيدة لعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري من أدباء الجيلين العاشر والحادي عشر، وهي تسعة عشر بيتاً يستخرج منها سبعة أبيات تكون تواريخ لسنة 998 بطريقة لم أر مثلها للمتأخرين على كثرة ما تكلفوا من ذلك ؛ أما القصيدة فهي مدح الحسن بن أبي نمي بركات.قال ناظمها - بعد أن أوردها في كتابه المسمى ( عيون المسائل من أعيان الرسائل ) ( ص38 ) المطبوع بمصر -: وطريقة استخراج تلك التواريخ بضم الأحرف التي هي أوائل الأبيات مرة، وبضم الأحرف التي هي أوائل بعض الأجزاء ( أي التفاعيل ) مرة أخرى، وقد شرحها صاحبها في كتابه فتلتمس هناك. ثم نظم على هذه الطريقة شهاب الدين أحمد بن الفضل بن محمد المكي من أدباء القرن الحادي عشر، ولكن قصيدته تستخرج منها تسعة تواريخ، وقد ذكرها ابن معصوم في ( السلافة ) ( ص204 ) وذكر أبيات التواريخ التي تستخرج منها، وقال هناك: إنه مني بعد نظمها لشدة الفكر بعلمها وبقي مرتهناً بها أربعة أهلة، وأن علماء عصره قد قرظوا عليها ؛ ثم ذكر منهم عبد القادر الطبري صاحب القصيدة الأولى ( وانظر السلافة أيضاً ص187 ). ^

التخميس والتشطير وما إليهما

سلف لنا الكلام في باب الأوزان العربية ومقدار وفائها بالحاجة الشعرية ومبلغ معونتها في ذلك، وأن القوافي نقرات ونغمات ليس الغرض منها استقامة اللحن واتفاقه مع اهتزازات الطرب، وأن الشأن في ذلك لا يشذ بها اللحن عن قاعدة الذوق التي لا قيد لها إلا ما يشعر به الإنسان في خاصة نفسه، فهي لذلك تابعة لا متبوعة، ثم هي مقدار حظ الغرض الشعري منها، وقد بسطنا ذلك هناك وأمسكنا لهذا الموضع كلاماً نجريه الآن، وذلك في أصل التخميس والتشطير وما إليهما مما صرفه المتأخرون عن وجهه في الإمتاع، وأحالوه عن حظه من الفائدة، فجاؤوا بالمشطر والمربع والمخمس والمسدس والمسبع والمثمن، ولم ينل حقيقة الشعر من كل ذلك إلا هذا المسخ من صورة، وهي جناية الصناعة وكم لها من جنايات. أصل ذلك في الشعر العربي النوع الذي سموه قديماً بالمسمط وقالوا فيه هو أن يبدئ الشاعر ببيت مصرع - ذي قافيتين - ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيماً واحداً من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة، والقافية اللازمة في القصيدة التي تكرر في التمسيط تسمى عمود القصيدة، ويقال للقصيدة من ذلك النوع مسمطة وسمطية، وهو نوع محدث لم يصح وروده عن أحد من العرب، ولذلك يورد الرواة ما يسوقونه منه غير معزو، إلا ما نحلوا امرأ القيس من ذلك، ولعلهم أرادوا به التمهيد والتوطئة للثقة - وذلك سبب من أسباب الوضع كما بسطنا في بحث الرواية والرواة -. قال الجوهري: لامرئ القيس بن حجر قصيدتان سمطيتان، وقد ذكر إحداهما - وهي التي سنأتي ببعضها - ولم يذكر الأخرى ؛ وقال الصاغاني ليس هذا المسمط في شعر امرئ القيس بن حجر، ولا في شعر من يقال له امرئ القيس سواه، وأول هذا المسمط ( 118 ج: العمدة ).

توهمتُ منْ هندٍ معالمَ أطلالِ

عفاهنَّ طولُ الدَّهرِ في الزمنِ الخالي

مرابعُ منْ هندٍ خلتْ ومصائفُ

يصيحُ بمغناها صدى وعوازفُ

وغيَّرها هوجُ الرِّياحِ العواصفُ

وكلُّ مسفٍّ ثمَّ آخرُ رادفُ

بأسحمَ من نوءِ السماكين هطَّالِ

وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيماً على قافية اللام ؛ وكأن التزام اللام في هذا المسمط استدراج للتصديق بأنه لامرئ القيس حقيقة ؛ إذ يذكر بقصيدته الشهيرة التي أولها:

ألا عمْ صباحاً أيُّها الطَّللُ البالي

وبين النفس في الشعرين ما بين سنة قبل الهجرة ومائة وتسعين بعدها. .ولا يلتزم في التمسيط هذا النوع المخمس، بل قد يجاء به على ثلاثة أقسمة، كهذا الذي يروونه لغير مسمى:

خيالُ هاجَ لي شجنا

فبتُّ مكابداً حزنا

عميدَ القلبِ مرتهنا

بذكرِ اللَّهو والطَّربَ

سبتنى ظبيةٌ عطلُ

كأنَّ رضابها عسلُ

ينوءَ بخصرها كفلُ

ثقيلُ روادفِ الحقبِ

وهي أربعة قطع أوردها في ( تاج العروس ).وربما جاءوا في مطلع القصيدة بخمسة أبيات أو أربعة على قافية واحدة، ثم يأتون بالأقسمة الأربعة بعد ذلك ويتبعونها بالقسيم الذي فيه عمود القصيدة، كالنحو الذي ينسب لامرئ القيس، ولا فائدة من التمثيل لذلك ؛ إذ هي قطع معددة تتنفس قوافيها بشء من الضعف ومرض الذوق، ولم ينسحب على أذيالها إلا المتأخرون ؛ ولكنهم خصوا التخميس بما كان على خمسة أجزاء وسموا ما كان على أربعة مربعاً، وما كان عل ستة مسدساً، وهكذا إلى الثمانية. وقد نقل الزبيدي في تاجه عن أبي إسحاق أن كل ما اختلطت قوافيه فهو المخمس، فالمتأخرون إنما رتبوا الأسماء، وكان ذلك لإكثارهم من هذه الأنواع، حتى يكون مل نوع مميزاً باسمه ؛ ولكنهم هجموا من ذلك علة شنعة مرذولة، وهي تناولهم أشعار الناس وتخصيصها بالتشطير والتخميس ؛ وما لذلك قصد الذين وضعوا هذه الأنواع، ولا هو شيء في أصل الفطرة الشعرية، ولكنها المنافسة في الصناعة جعلت النابغين منهم ينهجون هذا المنهج، ليظهروا أن فيهم فضلاً وبقية من المتقدمين، بما يزيدون في معانيهم التي ربما يكون صاحبها قد أماتها ولم يترك فيها مطمعاً، ويلمون ويشدون في ألفاظهم وتراكيبهم، من أجل ذلك كانوا لا يقصدون إلا القصائد الشهيرة المجمع على بلاغتها، والأبيات النادرة، وكما فعل الصفي الحلي وغيره. ولكن الزمن طمس على هذا الأصل، وصارت تلك الأنواع في شعره الجيد أشبه بالزيادة في تراب الميت: لا يجدد موته ولكنه وسواس وعيث. أما أصل التشطير فلم نقف على كلام فيه للمتقدمين، ولانظنهم تكلموا في ذلك، إذ هو مقصور على تعلق الشاعر بكلام غيره، وذلك من صنع المتأخرين، أما المتقدمون فكانت لهم المعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قوي جريء، وهو أدل على حقيقة المقارنة والتنظير بين الكلامين - ولكنا نظن أن أصله ما يسميه العرب بالتمليط والممالطة، وذلك كالذي رواه أبو عمرو بن العلاء من أمر امرئ القيس، وكان يدل بشعره ويتعنت به على الشعراء، فلا يزال ينازع من قيل له إنه يقول الشعر، حتى نازع التوأم جد قتادة بن الحارث بن التوأم.فقال له: شاعراً فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها.فقال: نعم. فقال امرؤ القيس:

أحارِ ترى بريقاً هبَّ وهنا

فقال التوأم:

كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا

ولم يرد التشطير في شيء من المأثور عن الأدباء الذين نبغوا في الصناعات، كالصفي ومن في وزنه إلى أواخر القرن الثاني عشر. والعجيب أن أصحاب البديع يعرفون التشطير البديعي، وهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ثم يصدع كل شطر منهما، كقول أبي تمام:

تدبيُر معتصمٍ، باللهِ منتقمِ

للهِ مرتقبٍ، في اللهِ مرتغبِ

ثم لا نجد أحداً من أصحاب الشروح والحواشي إلى الغباني الذي فرغ من حشيته سنة 1211 يشير إلى هذا النوع، مع انهم ابتدأوا يبسطون التأليف في أنواع البديع من القرن الثامن، ومع رغبة المتأخرين في الخلوص إلى المناسبات والإفاضة فيما يكتبون، وهذا قطعاً في ان تسمية الطريقة المعروفة في النظم بالتشطير لم تعرف إلا في القرن الثالث عشر، أما الطريقة نفسها معروفة في أواخر القرن العاشر وما بعده، ولكنهم كانوا يسمونها ( التصدير والتعجيز ) وأورد ابن معصوم في ( السلافة ) أشياء من ذلك، وذكرفي ترجمة القاضي تاج الدين بن إبراهيم المالكي ( ص133 ج ) أنه كتب تقريظاً على تصدير وتعجيز الشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة المتنبي التي مطلعها:

أجابَ دمعي وما الدَّاعي سوى طللِ

ومن هذا التقريظ قوله: لعمري لقد نسق ذلك التصدير، نسق التسطير، وسبك ذلك التعجيز، سبك الإبريز ؛ فتراه إذا أخرج بيتاً عن معناه، تلاعب به فيما اخترعه من مبناه، وإذا طبق المعنى بالمعنى وأبقاه على أصله، أوصله إلى غاية الإعجاب بفضله اه. فإما أن يكون المتأخرون أخذوا لفظه التشطير من النوع البديعي، أو يحتمل أن يكون بعضهم وقف على هذا التقريظ وتحرقت عليه كلمة التسطير بالتشطير، أو نبهته الأولى إلى الثانية.والله أعلم.

ما يقرأ نظماً ونثراً

ليس يخلو طبع أحد من أوزان القريض، ولا ينفك متكلم من أن يعرض له ما قد يتزن بها الكلمة الطويلة أو الفقرة القصيرة على غير اجتلاب ولا استكراه ؛ قال الجاحظ في نحو هذا ردا على زعم أن قوله تعالى: ( تبت يدا أبي لهب ) شعر لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن -: إنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مستفعلن مفاعلن كثيراً، وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً، ولو أن رجلاً من الباعة صاح: من يشتري باذنجان ! لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولان، فكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد إلى الشعر ؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام ؛ وإذا جاء المقدار الذي يعلم أنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها كان ذلك شعراً.وسمعت غلاماً لصديق لي وكان قد سقى بطنه يقول لغلمان مولاه:( اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى ! ). وهذا الكلام يخرج وزنه فاعلاتن مفاعلن مرتين، وقد علمت أن هذا الكلام لم يخطر بباله قط أن يقول بيت شعر أبداً. فإذا تعمل الكاتب لمثل ذلك بعض كلامه فأخرجه على الصناعتين، كان قد حذا على ما تقدم وقصد غير مقصود، وليس يعسر ذلك فيما يخرج منه البيت والبيتان، أما ما يكتب على أن يكون قصيدة في رسالة ورسالة في قصيدة، فهو ما لم يتفق لأحد أن يجيده على حقيقته ولا يتفق ؛ لأن شرط هذا النوع أن لا يحذف من الرسالة حرف واحد، بل تقرأ كما هي على الإرسال والتقييد. وشرط آخر: أن لا تتبين فيها ما يظهر على القصيد من إيقاع الوزن ونغم القافية وما يكون من شأنه أن يخصصها بالشعر، لأنه هنا مقصود من حيث تنويع الصناعة لا من حيث استقلالعا فهو وجه للكلام، وأنت لو تناولت إحدى القصائد وجهدت أن تقبلها منثوراً على أن لا تحذف منها حرفاً ولا تقدم ولا تؤخر ؛ وكانت هي في سردها ومعانيها مواتية مطاوعة ؛ وهو مما يندر في الشعر، لكنت مع ذلك مغلوباً لطبعك، ولظهر في منطقك الوزن والتقطيع، فكيفما قلبت القصيدة جاءت شعراً خالصاً لا مظهر للنثر في جملته، ولا موضع فيها لاحتمال أن تكون من الصناعتين، ولهذا السبب كان ما ورد مما يقرأ منظوماً ومنثوراً على ما ستعرف الوجه فيه. أقدم ما عرف من هذا النوع ما أورده ابن خلكان في ترجمة الشاعر المصري مظفر - الملقب بموفق الدين المتوفى سنة544 - قال: أحد أصحابه أن شخصاً قال له رأيت في بعض تآليف أبي العلاء المعري ما صورته ( أصلحك الله وأبقاك. . . .). وليس بعجيب أن تصح نسبة تلك الجملة إلى المعري، فإن له من هذه الغرائب أشياء، ولم نعثر على غير جملته حتى تناول هذا النوع شيخ الإسلام إسماعيل المقري فكتب رسالة إلى الملك الأفضل.قال عبد القادر بن محمد الحسيتي الطبري من علماء القرن العاشر وممن استقبلوا القرن الحادي عشر أيضاً: اتفق لنا في بعض المجالس أن الوزير جمال الدين الحريري قرأها علينا ( أي رسالة المقري ) مستعظماً صنع الشيخ وصنيعه، مادحاً معانيه وبديعه، متحدياً الفقير وصاحبه الشيخ وجيه الدين عبد الرحمن بن عيسى بن مرشد بالإنشاء على منوالها والإتيان بمثالها. . . وقد عارض الشيخان رسالة المقري مترادفين في الإنشاء مترادفين في العمل، والتزما في معاضتهما ( السجع في النثر والكثرة في النظم ؛ ولندرة هذا النوع من الكلام رأينا إثبات الرسالتين على هيئتي النثر والنظم فيهما ). ود ذكر الثعالبي في ترجمة بديع الزمان من اليتيمة أنه ( يوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه ؛ فيقرأ من النظم النثر ومن النثر النظم وهو يذهب إلى أن البديع كان شعره في سهولة نثره، ونثره في جزالة شعره ومعانيه ؛ فلعل المقري أو سواه ممن يكون اخترع هذا النوع قد تنبه له من هنا ؛ لأن ذلك ممكن التحقيق. ولم نعثر على شيء من بعد هاتين الرسالتين إلى اليوم.

نوع من حل المنظوم

حل المنظوم نوع من الإنشاء يلتزمون فيه المعنى الشعري لا يزيدون عليه شيئاً إلا ما هو من قبيله وفي سبيله، وقد يحلون الشعر بألفاظه وببعض ألفاظه وبغير ألفاظه ؛ ولكن الصفي ذكر من ذلك نوعاً غريباً لسنا نستطيع أن نزيد في شرحه وتاريخه شيئاً على هذا الذي سننقله عنه، فهو بيان له ؛ وأما بعد الصفي فلم نجد الأدباء يذكرون هذا النوع ولا يستعملونه. قال: مما اقترحه علي الشيخ الإمام العالم القدوة المحقق الفاضل الكامل زين الدين فتى الشيخ العينية الموصلي حين وقف على بعض مقامات أنشأتها كالتوأمية. . .فقال أيده الله: أن من أصنع ما أنشأه الشيخ شمس الدين معد بن نصر الجذري في مقاماته الزينية حل المنظوم الذي في المقامة الثانية، وهو أنه على عمد إلى ثمانية أبيات من الحماسة فجمع حروفها وبسطها رسالته ثم أعادها وجمعها أبياتاً على الوزن والروي من غبر زيادة حرف ولا نقصان حرف.فاعتذرت له بأن الوقت يضيق عن المقام إلى حين إنشائها ؛ فلما رحلت من فنائه وحضرت بعض أندية الأدب جرى ذكر الأنشاء فشرحت لهم الحكاية وما اقترحه الشيخ العلامة الفاضل زين الدين المذكور - رحمه الله تعالى -، فقالوا جميعاً هذه صنعة كبيرة، وهي غاية في الإنشاء تحتاج إلى معرفة علم السياقة، لضبط الحروف والتصرف في إبدالها، ونح جميعاً نقترح عليك ذلك، فإنه الغاية التي إن بلغتها لا يعجزك شيء من إنشاء المقامات، حيث قد سمعنا لك أشياء من ذلك ؛ ولم أجد بداً من إجابة دعوتهم لارتفاع موانع اعتذار ؛ فقلت: قد ملكتم زمام التخير فاتاروا من الشعر ما تأمرون نثره ؛ فقالوا: إن حد القصيدة سبعة أبيات ؛ ولذلك سومح بعدها في الإيطاء وعد ما دونها من الأخطاء، ونحن مقتصرون على السبعة الأول من فاتحة السبع الطول من فاتحة السبع الطول، فقلت اسطروها ليسهل اعتبارها إذ تستبرونها، فسطروها هكذا:

قفا نبكِ منْ ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

بسقطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فحوملِ

فتوضحَ فالمقراةُ لمْ يعفَ رسمها

لما نسجتها منَ جنوبِ وشمألِ

ترى بعرَ الآرامِ في عرصاتهل

وقيعاهنا كأنَّها حبُّ فلفلِ

كأنِّي غداةَ البينِ لمَّا تحمَّلوا

لدى سمراتِ الحيِّ ناقفُ حنظلِ

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهمْ

يقولونَ لاتهلكْ أسى وتحمَّلِ

وإنَّ شفائي عبرةٌ مهراقةٌ

فهلْ عندَ رسمِ دارسٍ منْ معوَّلِ

كدأبكَ منْ أمِّ الحويرثِ قبلها

وجارتها أمُّ الرَّبابِ بمأسلِ

قال الشيخ: فقلت لهم: هذه الأبيات قد تبين تخييرها ولا يمكن تغييرها، فاختاروا الرسالة في أي معنى وعلى المقاصد تبنى، فقال أحدهم: تكون في مخدوم له، أثر بعدي ومطل وعدي.والمعني تعتب وأذكرني سالف ذنب، وأوثر أن تخطب وده وتستنجز وعده، فكتبت:( الكريم مرتجى ؛ وإن كان بابه مرتجا ؛ والندب يلتقى وإن كان بأسه يتقى ؛ والسحب تؤمل بوارقها وإن رهبت صواعقها.ولحلم سيدنا أعظم من العتب بسالف ذنب، فماحي شرف الله بلثم كفوفها أفواه الباد، يغفر الخصية، ويوفر العطية.والمملوك مقر عرف أنه رب حق، بل مالك رق ؛ ومقتص من جوده العميم، نجاز وعده الكريم الكريم، بسالف كرمه المقيم ؛ لا برح إحسانه شاملاً مدى السنين.إن الله يحب المحسنين ). فلما سطروها ونظروها، وعدوا حروفها واعتبروها، فرأوها وما فبلها كفتي ميزان، عرية من الزيادة والنقصان، سألوا أن أجعل ربعها مأهولاً، وأعيدها سيرتها الأولى، فأجبت إلى ما طلبوا، وأمليت وكتبوا:

قفا نبكِ منْ أطلالِ ليلى فنسألِ

دوارسها عنْ ركبها المتحمَّلِ

وننشدُ منْ أدراسها كلَّ معلمٍ

محاهُ هبوبُ الرَّاسياتِ ومجهلِ

ونأخذُ عنْ أترابها منْ ترابها

صحيحَ مقالٍ كالجمانِ المفصَّلِ

معاني هوى أقوى بها دأبَ بينهمْ

كدأبي منْ تبريحِ قلبٍ مقلقلِ

عفتْ غيرَ سبعٍ منْ رواكدَ جثَّمِ

تحفُّ بشفعٍ منْ رواكضَ جفَّلِ

ورسم أواري بحبلِ مديدها

لملِّي سقاهُ حولَ نؤدى معطَّلِ

فرفقاً بها رفقاً وإن هي لمْ تبحْ

بلفظٍ ولا تأوي لسائلٍ منزَّلِ

ما لا يستحيل بالانعكاس

هذه تسمية الحريري لهذا النوع، ويسميه غيره المقلوب، والمستوي ؛ وهو ما يقرأ طرداً وعكساً على وجه واحد، وقد ورد منه في القرآن الكريم ( كلٌّ في فلك ) و ( ربّك فكبِّر ) ولكتن الحريري تصنع له في المقامة السادسة عشرة حنى أوصله إلى السمط السباعي، فجاء به معقداً وأخرجه عن شرط الأدب إلى شرط الصنعة، وذلك قوله: ( لذ بكل مؤمل إذا لم وملك بذل ). قال ابن حجة الحموي - وقد أورد هذه الكلمات وتفث في عقدها -: ( وذكروا أن العلامة القاضي فتح الدين بن الشهيد صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس وصل في تركيب هذا النوع إلى أكثر من هذه العدة، وأن المولى محمد بن البارزي الجهني صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك المحروسة الإسلامية وقف على ما نثره القاضي فتح الدين المشار إليه في هذا النوع قبل تيمورلنك وذكر أنه في غاية العقادة ) وأبلغ ما جاء من هذا النوع في الشعر قول القاضي الأرجاني:

مودَّتهُ تدومُ لكلِّ هولٍ

وهلَ كلُّ مودَّته تدومُ ؟

ومن المستملح قول العماد الكاتب وقد مر على القاضي الفاضل راكباً: ( سر فلا كبا الفرس ) فأجابه الفاضل على الفور وقد فطن لقصده: ( دام علا العماد ) وهي بديهة عجيبة إذا لم يكونا قد فكرا فيها قبل ذلك.وقد نظم الحريري في مقامته تلك أبياتاً خمسة يقول في أولها:

أسى أرملا إذا عرا

وارع إذا المرءُ أسا

فغاية أهل الصناعة بأنه ( هرب القصير من العروض ) ولذلك نظم الصفي أبياته التي أولها:

أنثُ ثناءً ناضراً لكَ إنَّهُ

هنا كلِّ أرضٍ أن أنثّ ثناءَ

وكأن الشعر كله خلا إلا من بيت الأرجاني، فهو في هذه الصناعة الشعر كله. وطبيعة اللغة قابلة لهذا النوع ولكن بمقدار، فإنك تجد في مفرداتها منه أشياء، كلفظ: باب وسلس وتحت، وأمثالها ؛ ثم تراه يتألف غير مقصود إليه بمقدار أيضاً، كقولك: أرض خضرا، وهزم حمزه، ويلعب علي، وحمار رامح ؛ وأمثال ذلك مما لا يكبر على العامة أن يجيئوا به، ولكت الفرق بينهم وبين الخاصة أنه في كلامهم صواب موجود غير مقصود، وفي أكثر ما يتكلف له الخاصة صواب مقصود غيرموجود !

الملاحن

هي من اللحن الذي هو التعريض والإيماء، تقول: لحنت له لحنا إذا قلت له قولاً يفهمه ويخفى على غيره، لأنك تميله بالتورية أو التعمية عن الواضح المفهوم.وملاحنة الرجلين مفطنة أحدهما للآخر باستخراج فحوى قوله وما في نيته وضميره، وهو يشبه في اللغات الأوربية ما يسمونه بالكتابة الخفية أو الكتابة السرية، وهو فن عندهم قديم، غير أن العرب لم يعرفوا إلا في القول والإشارة، فكانوا يتكلمون في ذلك بما يؤخذ على الرمز كما سيجيء، فضلاً عن أن في لغتهم ألفاظاً تحتمل هذا النوع لدلالة اللفظ على معنيين، كأن تقول ما رأيت، أي ما ضربت رئته، وما كلمته أي ماجرحته، وهكذا ؛ وقد ورد بعضها في القرآن، كالضحك بمعنى الحيض ؛ وألف ابن دريد في هذه الألفاظ كتاباً سماه ( الملاحن )، قال فيه: هذا كتاب ألفناه ليفزع إليه المجبر المضطهد على اليمين المكره عليها فيعارض بما رسمناه ويضمر خلاف ما يظهر ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم. وللفقهاء كلف بهذه الألفاظ، إذ تفتح لهم أبواباً كثيرة مما يعرفونه بالحيل الشرعية، ولهم ألغاز ومطارحات لا محل لبسطها هنا، وأهل اللغة يسمونها: فتيا فتية العرب، أو طيب الرب، أو مساجع العرب، وعليها بنى الحريري المقامة الثانية والثلاثين. ومما ورد عن العرب من لحن القول ما رواه القالي في أماليه عن ابن الأعرابي قال: أسرت طيئ رجلاً شاباً من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا به عطية لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيئ لا أزيدكم على ما أعطيتكم ! ثم انصرف.فقال الأب للعم: لقد ألقيت إلى ابني كليمة لئن كان فيه خير لينجون ؛ فما لبث أن نجا واضطرد قطعة من إبلهم فكأن أباه قال له: الزم الفرقدين على جبلي طيئ فإنهما طالعان عليهما، وهما - أي هو وعمه - لا يغيبان عنه. ويروون من مثل هذا أخباراً معدودة لا تدل على شيوعه فيهم ولا تواطؤهم عليه مما يقرب أن يكون أشبه علم عندهم كما فعل المتأخرون في اشتقاق المعمى منه - على ما ستعرفه -. وأما مثل الإشارة من ذلك ما حكاه المدائني من أن رجلاً بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطباً من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها وذهب. فنظر الأحوص والقوم في أمره فعي به، فقال: أرسلوا في قيس بن زهير فجاء، فقال له الأحوص: ألم تخبرني انه لا يرد عليك أمر إلا عرفت مأتاه ما لم تر نواصي الخيل ؟ قال: فما الخبر ؟ فأعلموه، فقال: وضح الصبح لذي عينين، ( فصار مثلاً يضرب في وضوح الشيء ) ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا ينذركم فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنه قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنطلة فإنه يخبر أن بني حنظلة غرتكم، وأما الشوك فإنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلواً أو حامضاً ؛ فاستعد الأحوص.وورد الجيش كما ذكر قيس !هذا عند العرب في جاهليتها، وأما بعد الإسلام فكان مثل هذا قليلاً، كالذي روب من معاوية بن أبي سفيان مازح الأحنف بن قيس، فما رؤي مازحان أوقر منهما، فقال له: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البجاد ؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين.أراد معاوية قول الشاعر:

إذا مات ميتٌ منْ تميمٍ

فسرَّك أن يعشَ فجيء بزادَ

بخبزٍ، أو بتمرٍ، أو بسمنٍ

أو الشيءِ الملفَّفِ في البجادِ

تراهُ يطوفُ الآفاقَ حرصاً

ليأكلُ رأسِ لقمان بنِ عادِ

( انظر 100 ج: الكامل للمبرد ؛ في حب بني تميم للطعام ) والملفف في البجاد وطب اللبن ؛ وأراد الاحنف أن قريشاً كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان.وكان معاوية قرشياً والأحنف تميمياً. ومثل هذا ما أورده الجاحظ في كتاب ( البيان ) ( ص214 ج ): دخل رجل من محارب قيس على بعد الله بن زيد الهلالي وهو عامل على أرمينية وقد بات في موضع غدير قريب منه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها ! قال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلت برقعاً لها فهي في ابتغائه ! أراد الهلالي قول الأخطل:

تنقُّ بلا شيءٍ شيوخُ محاربٍ

وما خلتها كانتْ تريشُ ولا تبري

ضفادعُ في ظلماءِ ليلٍ تجاوبتْ

فدلَّ عليها صوتها حيَّةَ البحرِ

وأراد المحاربي قول الشاعر:

لكلّ هلاليٍّ من اللُّؤمِ برقعٌ

ولابنِ هلالٍ برقعٌ وقميصُ !

ثم فشت صنعة المعمى فتلاحنوا بالإشارة والتصحيف وغيرهما - كما ذكر -ودخل أبو القاسم القطان على الوزير الزبيبي يهنيه بالوزارة، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص ؛ فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ، إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته. ولما فشت صنعة المعمى تلاحنو ببعض أنواعها، ومن ذلك ما ذكره المقري صاحب ( نفح الطيب ) في الملاحنة بالتصحيف، من أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء اشبيلة، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، مكشف وجهها وتكلمت بغير حياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس، والجيارين الذين يصنعون الجير بأشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال: يا ابن عمار، الجيارين ! ففطن إلى مراده وقال في الحال: يا مولاي، والجباسين ! فتحير الحاضرون في ذلك، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد لا تبعها منهم إلا غالية ! وذلك أن المعتمد صحف ( الحيا: زين ) بقوله الجيارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان عندها حياء لازدانت ؛ فقال له: والجباسين، يريد على التصحيف ( والخنا: شين ) أي هي وإن كانتجميلة لكن الخنا شانها. والغاية التي لا يلحق شأوها ما حكاه بعض أهل البديع في مبحث التصحيف عن بعض ملوك المغرب أنه طلب بنت أحد وزرائه فأبى ذلك، فأحضره الملك في ديوانه فقال له: أندلسي، فقال الوزير: أندلسي ! يعني ( أبذل بيتي )، فقال الملك: أندلسي، ( يعني أبذل كل شيء ) أي أن البيت أحقر شيء.فقال الوزير: أندلسي، يعني ( أبذل بنتي ) فقال الملك: أندلسي، يعني ( أبدل نيتي ) أي أرجع عن نيتي لعزلك وظلمك !ويقال إنها حكاية مخترعة.ذكر ذلك الصفي في ديوانه.ولكن اللحن الكتابي قليل في المروي عنهم، وهو على غير قاعدة ولا تواطؤ بين المتلاحنين، ولذلك لم يعد أن يكون كالملفوط به، ومنه ما روي عن الصاحب أن ادبياً رفع إليه كتاباً يطلب عملاً وفي آخره: إن رأى مولانا فعل إن شاء الله !فرد إليه الكتاب، وتواتر الخبر بحصول التوقيع فيه، ولكن الرجل أقبل عليه يراجعه فلم يرى فيه توقيعاً حتى عرضه على أبي العباس الضبيّ فتفقّد أحرفه حتى ظفر بألفٍ وقّع بها الصاحب عند قوله ( فعل إن شاء الله ) فكانت بعد التوقيع ( أفعل. . .) و نحو ذلك: إن الملأ يأتمرون بك ؟. . . وقد بسطنا جانباً من الكلام في هذا توطئة للبحث في الألغاز و المعمّى، لأنهما بسبيله، ولأن الملاحن في هذه اللغة قليلة حتى إن ما لم نذكره منها لا يزيد على ما ذكرنا فيما نعلم، وبعضه يكاد يظهر أنه مصنوع، كهذا الخبر الذي يقولون فيه إن بعض الملوك عزم على قصد عدوّ له، فقدّم ربيئةً يتجسس أحواله، فلمّا صار إلى أرض العدو، شعروا به فقبضوا عليه وأمروه أن يكتب لصاحبه كتاباً يذكر له أنه وجد القوم ضعفاء ويطمعه فيهم ويزيّن له غزوهم، فكتب:( أما بعد فقد أحطت علما بالقوم، وأصبحت مستريحاً من السعي في تعرف أحوالهم وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم، وقد كنت أعهد من أخلاق الملك المهلة في الأمور والنظر في العاقبة، ولكن ليس هذا وقت النظر في العاقبة، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، وقد رأيت من أحوالي القوم ما يطيب به قلب الملك: نصحت فدع ريبك ودع مهلك والسلام ). فلما انتهى الكتاب إلى الملك قرأه على رجاله فقويت قلوبهم وصحت عزائمهم على الخروج، ثم إن الملك خلا بخاصته من الكبراء وأهل الرأي وقال: أريد أن تتأملوا هذا الكتاب، فإني شعرت منه بأمر، وإني غير سائر حتى أنظر في أمري.فقال بعضهم: ما الذي بحظ الملك في الكتاب ؟ قال: إن فلاناً من الرجال ذوي الحصافة والرأي، وقد أنكرت ظاهر لفظه فتأملت فحواه فوجدت في باطنه خلاف ما يوهم الظاهر، وذلك في قوله: ( أصبحت مستريحاً من السعي ) فيريد أنه محبوس، وقوله: ( استضعفتهم بالنسبة إليكم ) يريد أنهم ضعفنا لكثرتهم، وقوله: ( إنكم الفئة الغالبة بإذن الله ) يشير إلى قوله تعالى: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) وقوله: ( رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك ) فإني تأملت ما بعده فوجدت أنه يريد بالقلب: العكس، لأن الجملة الآتية مما يوهم ذلك، فقلبت الجملة وهي قوله: ( نصحت فدع ريبك ودع مهلك ) فإذا مقلوبها ( كلهم عدو كبير.عد فتحصن ) اه. ^

الألغاز والأحاجي والمعميَّات وغيرها

الألغاز:

هي جمع لغز، وأصله الحفرة الملتوية يحفرها اليربوع والضب والفأر، لأن هذه الدواب تحفر جحرها مستقيماً إلى أسفل ثم تحفر في جانب منه طريقاً وفي الجانب الآخر، وكذلك في الجانب الثالث والرابع، فإذا طلب بعضها البدوي بعصاه من جانب نفق من الجانب الآخر.ثم استعملوه في الإتيان بالعبارة يدل ظاهرها على غير الموصوف بها ويدل باطنها عليه، وهي من قبيل الملاحن، وتشارك المعمى والأحاجي أيضاً من حيث التعمية في جميعها وإيرادها على ذلك الوجه المقصود ؛ إلا أن بينها فروقاً في الاعتبار والاصطلاح عند المتأخرين - كما تعرف ذلك فيما نسوقه منها وما نذكره من تاريخها -. أما الألغاز فقد قال فيها السيوطي: هي أنواع ؛ ألغاز قصدتها العرب، وألغاز قصدتها أئمة اللغة، وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازاً.وهي نوعان: فإنها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع، وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلداً حسناً، وكذلك ألف غيره ؛ وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وهلة ؛ وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب. . . ثم أورد أمثلة من ذلك، كالذي أنشده ابن سلام في كتاب ( الأضداد ) لأبي دؤاد الإيادي:

ربّ كلبٍ رأيتهُ في وثاقٍ

جعلَ الكلبُ للأميرِ جمالا

ربَّ ثورِ رأيتُ في جحرِ نملٍ

وقطاةٍ تحمَّلُ الأثقالا

والكلب: الحلقة التي تكون في السيف، والثور: ذكر النمل، والقطاة. . . . . . . . وكالذي أنشده الخليل لأبي مقدام الخزاعي:

وعجوزٍ أتتْ تبيعُ دجاجاً

لمْ يفرخنَ قد رأيتَ عضالا

ثمَّ عادَ الدَّجاجُ منْ عجبِ الدَّهرِ

فراريجَ صبيةً أطفالا

وقال: يعني دجاجة الغزل، وهي الكبة أو ما يخرج عن المغزل، ويعني بالفراريج: الأقبية. وكقول بعضهم من أبيات المعاني يصف نار القرى:

وشعثاءَ غبراءِ الفروعِ منيفةٌ

بها توصفُ الحسناءُ أو هيَ أجملُ

دعوتُ بها أبناءَ ليلِ كأنَّهمْ

وقد أبصروها معطشون قد أنهلوا

أنشدهما أبو عثمان الأشنانداني وقال: يف ناراً جعلها شعثاء لتفرق أعاليها، كأنها شعثاء الرأس، وغبراء يعني غبرة الدخان، وقوله: بها توصف الحسناء، فإن العرب تصف الجارية فتقول: كأنها شعلة نار ! وقوله: دعوت بها أبناء ليل، يعني أضيافاً دعاهم بضوئها فلما رأوها كأنهم من السرور بها معطشون قد أوردوا إبلهم. وكذلك أورد السيوطي مما وقع به الألغاز من حيث اللفظ والتركيب والإعراب كقول بعضهم:

أقولُ لعبدِ اللهِ لمَّا سقاؤنا

ونحنُ بوادي عبدِ شمسٍ وهاشمِ

ومعناه: أقول لعبد الله لما سقاؤنا وهي، أي ضعف، ونحن بهذا الوادي: شم، أي شم البرق عسى يعقبه المطر، وقرينة هاشم لعبد شمس أبعدت فهم المراد، وكتبت ( وها ) بالألف للإلغاز. ثم قال: وأما إلغاز أئمة اللغة قالأصل فيه ما قال أبو الطيب في كتاب ( مراتب النحويين ) عن الخليل، قال: رأيت أعرابياً يسأل أعرابياً عن البلصوص ماهو ؟ فقال طائر، قال: فكيف تجمع ؟ قال البلنصى، قال الخليل: فلو ألغز رجل فقال: ما البلصوص يتبع البلنصى كان لغزاً. وأورد السيوطي من هذا النوع قصيدة ضمنها أبو منصور بن الربيع ألفاظاً من غريب اللغة وأحضرها أبا أسامة اللغوي حين نزل بمدينة واسط على جهة الامتحان لمعرفته، فكتب المسؤول جوابها لوقته مقتضباً، وهو جواب مطول يدل على اتساع في الحفظ والرواية.وقد وقفت على قصيدة مثلها أوردها الصلاح الكتبي في ( فوات الوفيات ) لضياءه الدين القوصي المتوفي سنة 599 وقال إنه وسمها باللؤلؤو المكنونة واليتيمة المصونة في الأسماء بيت، وهي قصيدة منكرة بما تحوي من اللفظ المنكر. وقد ورد عن العرب الإلغاز بطريقة السؤال والجواب على النحو الذي ذهب إليه المتأخرون، مثل ما ذكره علي بن ظافر في كتابه ( بدائع البدائه ) وهو أن عبيد بن الأبرص لقي امرأ القيس فقال له: كيف معرفتك بالأوابد ؟ قال: ألق ما أحببت، فقال عبيد:

ما حبَّةٌ ميتةٌ أحيتْ بميتتها

درداءُ ما أنبتتْ سنّاً وأضراسا ؟

فأجابه:

تلكَ الشَّعيرةُ تسقى في سنابلها

فأخرجتْ بعدَ طولِ المكثِ أكداسا

إلى آخر المحاورة في ( كتاب البدائع )، وصفحة 58 من كتاب المعمى. وقد ابتدأ ولع المتأخرين بهذه الألغاز من القرن السابع - وكانت المحاكاة بها قبل ذلك قليلة - وذهبوا فيها كل مذهب، حتى إن أبا الحسن بن الجياب المتوفى سنة749 رئيس كتاب الأندلس وأستاذ لسان الدين بن الخطيب قد أفرد لها في ديوان شعره باباً جاء فيه بأشياء بديعة ؛ ولعل هذا الباب من الشعر الذي سماه ابن أبي الأصبغ في كتابه ( تحرير التحبير ) عندما عد المناجي التي يقول فيها الشعراء، بباب السؤال والجواب ؛ وبلغ من ولعهم بها أنها كانت ترد على دواوين الإنشاء من الأقطار ؛ وكانوا يجرون فيها طريقة العرب، ويزيدون على ذلك الإشارة إلى الملغز به بالتصحيف والقلب والحذف والتبديل وما أشبهها مما هو من صناعة المعمى، وجملوها بالتورية فزادوها إبداعاً حتى صارت من زينة الشعر، كقول بعضهم في القلم:

وذي خضوعٍ راكعٌ ساجدٌ

ودمعهُ من جفنهِ جاري

مواظبُ الخمسِ لأوقاتها

منقطع في خدمة الباري

وقول القاضي صدر الدين بن الآدمي في كشتوان ( كستبان ):

ما رفيقٌ وصاحبٌ لكَ تلقا

ه معيناً على بلوغ المرامِ

هو للعينِ واضح وجليٌّ

وتراه في غايةِ ( الإبهامِ )

والأمثلة من أنواع الألغاز كثيرة في كتب الأدب، ولكن من بعدها غاية وأبدعها آية لغز الشيخ زين بن العجمي وقد كتبه نثراً، وهو قوله: سألتك أعزك الله عن سائل لاحظ له ف الصدقة. . .الخ ( صفحة 485 خزانة الأدب ). ومن الألغاز نوع عجيب، وهو أن تلغز في اسم ويأتي في اللغز بما يطابق صورة أحرفه في الرسم من الأشياء، وهو نادر جداً في المأثور عنهم ؛ ومنه أن الوليد الوقشي وأبا مروان بن عبد الملك بن سراج القرطبي اجتمعا، وكانا فريدي عصرهما. . .الخ ( ص 120: المعمى والألغاز ). أما ألغاز النحاة والفقهاء وأهل الفرائض ومن ينتحلون الحكم والفلسفة فأكثرها مشهور ولا حاجة إلى البحث فيها، لأن الفن أغلب عليها، ولسنا في ذلك ؛ غير أنا نذكر عجيبة منه لم يتفق مثلها فيما وقفنا عليه من ذلك عيناً أو أثراً، وتلك أن المولى شمس الدين الغفاري من علماء دولة السلطان بايزيد في القرن الثامن وقفوا له على رسالة ضمنها عشرين قطعة منظومة، كل قطعة منها مسألة من فن مستقل، وقد غير فيها أسماء تلك الفنون بطريق الإلغاز امتحاناً لفضلاء دهره، ولم يقدروا على تعيين فنونها فضلاً عن حل مسائلها.قال صاحب الشقائق النعمانية: وشرح هذه المسألة ابنة محمد شاه وعين أسماء الفنون وبين المناسبة فيما ذكره من الألغاز وحل مشكلات مسائلها.ووجه العجب في ذلك مسفر فانظروا فيه. . .

الأحاجي:

هي جمع أحجية، وهي اسم من المحاجاة، ويقال لها أدعية من المداعاة. قال في ( الصحاح ) ويقال: حجياك ما كذا وكذا ؟ وهيلعبة وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم، قال أبو عبيد: هو نحو قولهم: أخرج ما يدي ولك كذا ؛ وتقول أيضاً: أنا حجياك في هذا الأمر، أي من يحاجيك.وقال في ( تاج العروس ): واحتجى: أصاب ما حوجي به، قال:

فناصيتي وراحلتي ورحلي

ونسعا ناقتي لمن احتجاها

فالأحاجي على ذلك تشبه الأغاليط التي يسميها عامة مصر ( بالفوازير ) وهي بهذا المعنى أعم من الألغاز، وإن كان الأصل في كلها واحداً. وهذه الأحاجي غريزية في الفطرة على ما يظهر لي، فإن الطفل الذي هو دليل الطبيعة الأولى في الإنسان يسأل عن أشياء كثيرة بوصفها والإشارة إليها، فإذا سئل هو بمثل ذلك كانت عنده أحاجي ؛ ومما يؤيد ذلك ورود بعض الأحاجي في أسفار العهد القديم كسفر القضاة، وشيء مما يماثلها في الخرافات القديمة أيضاً ( الميثولوجيا ) ويكون تقرير هذه المعاني وإخراجها مخرج الموضوعات النفسية مما علمه الحكماء ملحقاً بالنرد والشطرنج وأمثالهما. وأقدم ما وصل إلينا من أحاجي العرب نوع كان يستعمل في اختبار البداهة وقوة العارضة، فيلقي السائل الكلمة المفردة والمسؤول يتمها في كل مرة حتى يحتبس لسانه أو يكل بيانه، كهذا الذي نقلوه عن هند بنت الخس وهي قديمة في الجاهلية أدركت المتلمس أحد حكام العرب الذي يقال إنه من وصل الوصيلة وسيب السائبة - وهي إمرأة ساجعة متبذلة كانت تحاجي الرجال، إلى أن مر بها رجل فسألتها لمحاجاة ؛ فقال: كاد. . .قالت: كاد الخيل يكون كلباًَ، وانصرف، فقالت له: أحاجيك، فقال: قولي، قالت: عجبت. . .قال عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت. . .قال: عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها. . .ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة. ولكت الحريري المتوفى سنة516 وضع نوعاً من المعمى استعار له اسم الأحجية، وهو أول من اخترعه وسماه كذلك، وقد نظم منه في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية، وقال: وضع الأحجية لامتحان الألمعية، واستخراج الخبية الخفية، وشرطها أن تكون ذات مماثلة حقيقة وألفاظ معنوية ولطيفة أدبية فمتى نافت هذا النمط ضاهت السقط ولم تدخل السفط اه. وذلك النوع كلام مركب يستخرج منه لفظ بسيط لو جزئ انقسم إلى مايعادل ذلك المركب في أجزائه ويرادفها في المعنى، كقوله في أسكة:

يا منْ تبوَّأ ذرَّوة

في الفضلِ فاقتْ كلَّ ذروة

ما مثل قولك: أعطِ إبري

قاً يلوحُ بغيرِ عروه

لأن ( أعط ) يرادفها ( أس ) من الأوس وهو الإعطاء والإبريق بغير عروة يرادفهالكوب. وقول أبي الوفاء العرضي في صهباء:

يا مفرداً فيما جمعْ

وكاملاً فيما ابتدعْ

بينَ لنا أحجيَّةً

حاصلها: اسكت رجع ؟

وقد فلا المتأخرون مركبات اللغة التي يستخرج منها مثل هذه الألفاظ وجمعوا من ذلك كلمات كثيرة، كقولهم: اطلب طرقاً، في ( سلسبيل ) ؛ وتراب مطر، في ( البراغيث ) لأن البرى هو التراب، وقد أخذ بعض المعاصرين هذه الكلمة وجعلها هكذا ( ابن عاجب أمطرا ) يريد: البراء بن حاجب، وهو صحابي. واقتفار الأحاجي ما عرفت من هذا النمط خروج بها عما ليس له حد إلى ما يحد وبذلك تعسفوا بها في هذه البواد وركبوا من أمرها كما رأيت الثور بعد الجواد.وقد ذكر عبد القادر البغدادي صاحب ( خزانة الأدب ) أن أجل التصانيف المؤلفة في الألغاز والأحاجي كتاب ( الإعجاز في الأحاجي والألغاز، تأليف أبي المعالي سعد الوارق الخطيري، قال: وهو كتاب تكل عن وصفه الألسن، جمع فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.اه.

المعمى:

قدمنا أن هذا الفن هو الأصل من حيث الصنعة، وأن الملاحن والألغاز والأحاجي هي منه، بعضها أعان عليه، وبعضه أعان عليها ؛ ونحن موردون هنا قولاً يشمل الجميع توفية للفائدة، وإنما الاتساع مادة الإشباع. نقل البغدادي في ( خزانة الأدب ) عن صاحب ( الإعجاز في الأحاجي والألغاز ) في ذكر أسماء هذا الفن وعودها إلى معنى واحد، أن هذا الفن وأشباهه يسمى المعايا، والعويص، واللغز، والرمز، والحاجاة، وأبيات المعاني، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية، والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمى، والممثل.والمعنى في الجميع واحد، وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته ؛ فإنك إذا اعتبرته من ححيث هو مغطى سميته معمى، مأخوذ من لفظ العمى، وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول، وكل شيء تغطى عنك فهو عمى عليك، وإذا اعتبرتهمن حيث إنه ستر عنك ورمس سميته مرموساً، مأخوذ من الرمس، وهو القبر، كأنه قير ودفن ليخفى مكانه على ملتمسه ؛ وقد صنف بعض الناس في هذا كتاباً وسماه المرموس، وأكثره ركيك عامي ؛ وإذا اعتبرته من حيث إن معناه يئول إليك سميته التأويل. . . .الخ ( ص 116 ج3: خزانة الأدب الكبرى ). وقد ذكر جمال الدين بن نباتة في ( سرح العيون )، المتوفى سنة 768 أن المعمى سمي في عصره: المترجم، وأن الخليل واضع العروض هو أول من استخرجه ونظر فيه، قال: وذلك أن بعض اليونان كتب بلغتهم كتاباً إلى الخليل فخلا به شهراً حتى فهمه، فقيل له في ذلك فقال: علمت أنه لا بد وأن يفتتح باسم الله تعالى، فبنيت على ذلك وقست وجعلته أصلاً ففتحته، ثم وضعت كتاب المعمى اه. وهو خبر لا نراه محتملاً إلا أن يكون ذلك اليوناني مستعرباً وافتتح كتابه حقيقة باسم الله على الطريقة العربية، فلا يبقى ثمةة إلا أن تؤاتي الفطنة ويسعف الإلهام.ونظير ذلك ما فعله شامبليون في قراءة الخط الهيروغليفي الذي كان حجر رشيد بعد أن اعتمد ترجمة اليوناني في المقابلة، وكان ذلك مبدأ لما بعده إلى اليوم. واتمر فن المعمى بعد الخليل أمثلة متفرقة لا تفرد باتدوين ولا تتعشب في المعالجة ؛ حتى كان الجاحظ يقول: ليس المعمى بشيء ؛ قد كان كيسان مستلمي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع ويقرأ خلاف ما يكتب، وكان أعلم الناس باستخراج المعمى ؛ وكان النظام على قدرته على أصناف العلوم لا يقدر على استخراج أخف ما يكون من المعمى. وفي كلمة الجاحظ تحامل بين على الخليل، وما كان النظام وهو ما هو ليتفرغ لشيء كالمعمى حتى يكون عجزه حطاً من الفن ؛ ولا شك أن النظام كان عن سائر الفنون التي لم يزاولها أعجز منه عن المعمى. وتجد شيئاً من تلك الأمثلة المتفرقة في ( يتيمة الدهر ) للثعالبي، وقد ذكر في ترجمة أبي أحمد بن أبي بكر الكاتب، أن أبا طلحة قسورة بن محمد كان من أولع الناس بالتصحيفات، فقال له أبو أحمد يوماً: إن أخرجت مصحفاً أسألك عنه وصلتك بمائة دينار، قال: أرجو أن لا أقصر عن إخراجه ؛ فقال أبو أحمد ( في قشور هينم جمد ) فوقف حمار قسورة وتبلد طبعه، فقال: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل ؛ فقال: أمهلتك سنة ؛ فحال الحول ولم يقطع شعرة ؛ فقال له أبو أحمد: هو اسمك: قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه. . . وبهذا تتبين أن المعمى لم يكن قد بلغ شيئاً مما انتهى إليه عند المتأخرين، وأن المعروفين به كانوا على قلتهم إنما يعرفون بفرط الرغبة وشدة الولوع، لا كما يعرف المميز بالفن على وجه الإحاطة به والختصاص فيه. ومازال ذلك أمره حتى وقع إلى الأعاجم فدونوه واستنبطوا قواعده، وأنزلوا في رتبة بين الفنون والعلوم ؛ وأول من فعل منهم شرف الدين علي اليزدي الفارسي صاحب تاريخ ( ظفر نامه في الفتوحات التيمورية )، وقد أطلقوا عليه لقب الواضع له، وتوفي سنة 830 - قال قطب الدين المكي: وما زال فضلاء العجم يقتفون أثره ويوسعون دائرة الفن ويتعمقون فيه إلى أن ألف فيه المولى نور الدين عبد الرحمن الجامي المتوفى سنة 897 صاحب ( شرح الكافية ) عشر مسائل ؛ فدونت وشرحت، وكثر فيها التصنيف إلى أن نبغ في عصره المولى مير حسين النيسابوري المتوفى سنة 912 فأتى فيه بالسحر الحلال وفاق في تعمقه ودقة نظره سائر الأقران والأمثال ؛ كتب فيه رسالة تكاد تبلغ حد الإعجاز. . .وارتفع شأن مير حسين بسبب علم المعمى مع تعمقه في سائر العقليات، فصار ملوك خراسان وأعيانهم يرسلونأولادهم إليه ليقرأوا رسالته عليه. . .وظهر بعدهما فائقون في المعمى في كل قطر بحيث لو جمعت تراجمهم لزادت على مجلد كبير. وقطب الدين المومأ إليه هو أول من ترجم طرية المعمى عن الفارسية إلى العربية في رسالة سماها ( كنز الأسما في كشف المعمى ؛ وتلاه تلميذه عبد المعين بن أحمد الشهير بابن البكاء البلخي، فألف رسالة سماها ( الطراز الأسمى على كنز الأسما ). وحد المعمى أنه قول يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء بحيث يقبله الذوق السليم، ويشترط فيه أن يكون له في نفسه معنى وراء المعنى المقصود بالتعمية ؛ وقال القطب في الفرق بينه وبين اللغز: إن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفات له تميزه عما عداه كان ذلك لغزاص، وّذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظاً بدلالة مرموزه سمي ذلك معمى ؛ فالكلام الدال على بعض الأسماء يكون معمى من حيث إن مدلولة اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه، ولغزاً من حيث إن مدلولة ذات من الذوات بملاحظة أوصافها ؛ فعلى هذا يكون قول القائل في كمون:

يا أيُّها العطارُ أعربْ لنا

عن اسم شيءٍ قلَّ في سومكا

تنظرهُ بالعينِ في يقظةٍ

كما ترى بالقلبِ في: نومكا

يصلح أن يكون لغزاً بملاحظة دلالته على صفات الكمون، ويصلح أن يكون في اصطلاحههم معمى باعتبار دلالته على اسمه بطريق الرمز اه. ولاستخراج المعمى أعمال مدونة لا تتعلق بالجهة التاريخية منه ولا بالجهة العلمية، ولكنها تتعلق بالجهة العملية، وإذا أخذنا في بسطها احتجنا أن نأتي بتأليف جديد في هذا الفن ؛ وهو ما لا يتبع له الغرض إلا إذا أحفينا في الطلب، ولسنا نستطيع أن نحمل القلم على هذه السنة في سائر الفنون من علم الأدب.

البنود والمستزاد:

هي جمع ( بند ) فارسية معربة، وقد ذكر في التاج أنها تطلق الألغاز والمعميات، على أن المراد بها هنا هذا النوع من السجع الذي بنيت جمله على التوقيع وقسمت إلى أجزاء قصيرة من العروض تنتظم أوزاناً مختلفة فتكسبها شبهاً من الشعر وهي ليست منه. وتلك صناعة في النثر لا يعرف مخترعها، ولكن الكلام كله لا يخلو من بعض جمل تتفق مع هذا النوع اتفاقاً قريباً أو بعيداً، ولا سيما بعض أسجاع العرب، وأنت تعرف ذلك إذا تتبعت واستقصيت. ولا جرم أن كلمة البند المطلقة على هذه الصناعة تدل على واحد من أمرين: إما أنها ملحقة في أصلها بالألغاز والمعميات، وإما أنها من صنعة أحد أدباء العجم، سواء احتذاها على مثال أو ابتدأها ؛ وهذا أرجح الرأيين ؛ لأنه لم يعرف من هذه الطريقة شيء قبل البنود الخمسة التي رصفها الشاعر المعروف بابن معتوق المتوفى سنة 1087 وهي ملحقة بديوانه، وقد جعل الأول في وصف الآيات السماوية، والثاني في وصف الآيات الأرضية، والثالث فيه ذكر نعمة إرسال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ؛ ثم ينتهي في الرابع والخامس إلى مدح شخص مسمى، وهذه المعني كما ترى من أغراض الشعر ؛ فهي دليل على حقيقة الصنعة.ومن البند الأول قوله:أيها الراقد في الظلمة، نبه طرف الفكرة، من رقدة الغفلة، وانظر أثر القدرة، واجل غلس الحيرة، في فجر سنى الخبرة، وارن إلى الفلك الأطلس والعرش، وما فيه من النقش، وهذا الأفق الداكن، في ذا الصنع المتقن، والسبع السماوات ؛ ففي ذلك آيات، هدى تكشف عن صحة إثبات إله، كشف قدرته عن غرر الصبح، وأرخت طرر النجح على نخر ضياه فغدا يغسل من مبسمه الأشنب، في مضمضمتي نور سناه، لعس الغيهب، واستبدلت الظلمة من عنبرها الأسود بالأشهب، واعتاضت من مفرقها الحالك بالأشيب. ومما يعجب له أن ابن معتوق ختم جميع بنوده الخمسة بالراء المفتوحة، ولم يلتزم فيها غير ذلك مما يطرد في الجميع، فكان ختام الأول ( سرّاً وجهاراً ) والثاني ( مساءً ونهاراً ) والثالث ( بهاراً ونضاراً ) والرابع ( عذاراً ) والخامس ( مزاراً ) وقد خفي علينا وجه الحكمة في ذلك، إلا أن يكون من مقتضيات التوقيع، فتكون تلك القوافي قرارات للنغم. ولم يضرب على قالب ابن معتوق إلا القليل، كالأديب المسمى ابن خلفة البغدادي، وهو من أدباء القرن الثاني عشر، فقد عثر له بعضهم على بند من مثل ذلك أوله. أيها اللئم في الحب، دع اللوم عن الصب، فلو كنت ترى الحاجب الزج، فوق الأعين الدج. . .إلى أن يقول في ختامه: لو ترانا كل يبدي لدى صاحبه العتب، ويسدي فرط شوق كامن أضمره القلب سحيراً، والتقى قمصنا ثوب عفاف قط ما دنس بالإثم سوى اللثم، لأصبحت من الغيرة في حيرة، وأعلنت بحب الشادن الأهيف سراً وجهاراً. . . قلت: وهذا عجيب أيضاً، فإن لك يكن ابن خلفه من الضعقاء المقلدين الذين يسقطون بكلمة ويطيرون بكلمة، فإن الراء المفتوحة أو أي قافية مطلقة، تكون شرطاً في ختام هذه البنود، وهو غريب. ولا بد هنا أن نذكر نوعاً قريباً من البنود إلا أنه مستقل باسمه وصفاته، وهو النوع المعروف بالمستواد، وأظن أن مأخذ البند منه ؛ إلا أن الذي أخذه أطلق الوزن وهو في المستزاد مقيد. ولم يقع إلينا سبب هذه التسمية ولا أصلها، غير أني وقفت في ( الشقائق النعمانية ) في ترجمة المولى حضربيك بن جلال الدين، وكان يلقب بجراب العلم، وهو من علماء السلطان محمد الفتح، على منظومة منه، وهي:يا من ملك الإنس بلطف الملكات، في حسن صفات. . .الخ ( ص 154 هامش الجزء الأول من ابن خلكان ). وكذلك أورد لأحمد باشا ابن المولى ولي الدين الحسيني المتوفى سنة 902 قطعة أخرى في معارضة هذه، وليس من عادة صاحب الشقائق أن يورد لمن يترجمهم شيئاً من مثل هذه المختارات ؛ فحرصه على إيراد القطعة الأولى ومعارضتها، يدل على أن النوع غريب عندهم.

المعجم والمهمل:

تقدم في مبحث الخط معنى الإعجام واشتقاقه وتاريخه، والمراد بالمعجم والمهمل فيما سنأتي عليه الآن، هذا النوع من النثر والنظم الذي يلتزمون فيه إهمال بعض الأحرف وإعجام الأخرى ؛ وأول من وضعه وبرز فيه الحريريي صاحب المقامات، ولم يتكلفه أحد قبله فيما نعلم، وإن كان كثيراً ما يتفق في منظوم الكلام ومنثوره، لكن على غير اطراد ولغير قصد، فالاطراد والقصد إذن هما معنى الاختراع فيه ؛ وليس يخلو الكلام بتة من أحرف مهملة وأخرى معجمة، لأن بالقسمين جماع مادته وقوام تركيبه. والذي يدل على أن الحريري هو أول من قصد إلى هذا النمط، ما وطأ له به في المقامة السادسة، إذ يقول عن لسان أبي زيد بعد أن تنقص القدماء لأنهم ليؤثر عنهم إلا لتقدم الموالد، لا لتقادم الصادر على الوارد: ( وإني لأعرف الآن من إذا أنشأ وشى، وإذا عبر حبر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى اخترع خرع ). ثم ذكر أن إنشاء رسالة حروف إحدى كلمتيها يعمها النقط، وحروف الأخرى غبر معجمة ( عضلة العقد ) ومحك المنتقد وأول هذه الرسالة: ( الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين ). ثم عاد إلى ذلك في المقامة السادسة والعشرين، فساق رسالة سماها الرقطاء، لأن أحد حروفها مهمل والآخر معجم، وألها: ( أخلاق سيدنا تحب، وبعقوبته يلب ) إلا أنه اعتبر المد في ( لا ) حركة، كما اعتبر التاء المربوطة في الرسالة الأولى وما بعدها هاءً. وكذلك ذكر في المقامتين الثامنة والعشرين والتاسعة واعلسرين خطبتين عربيتين عن الإعجام ؛ ثم عاود الكرة في المقامة السادسة والأربعين، فجاء بأبيات مهملة الأحرف سماها العواطل، وأبيات معجمة سماها العرائس، وأبيات منها مهملة وأخرى معجمة وسماها الأخياف.فهذه المصطلحات التي أطلقا أسماء، وتقليبه هذا النوع على الأوجه المختلفة والتوطئة التي استخرجناها من المقامة السادسة - كلها أدلة على أن الرجل واضع هذه الطريقة ؛ لأنك لا تصيب هذه العناية في مقاماته لغير هذا النوع مما عرفلمن فبله وإن كان له فيه زيادة، كالنوع الذي لا يستحيل بالانعكاس. وقد زاد الصفي الحلي في تقسم نوع المعجم والمهمل فأتى بأبيات صدورها معجمة وأعجازها مهملة، ولم يأت به الحريري في تقسيمه ؛ ووضع بعض المتأخرين نوعاً جديداً سماه عاطل العاطل، واستخرج ذلك من أن بعض الحروف تكون مهملة ولكن أسماءها في المنطق ليست كذلك، كالعين والميم ؛ وبعضها تكون مهملة الاسم والمسمى، وهي ثمانية أحرف: الحاء، والدال، والراء، والصاد، والطاء، واللام، والواو، والهالء ؛ فنظم منها أبياتاً كأذناب الضباب.وإنما مدار هذه الصناعة على أن تكون في نسق الكلام لا في نسق العقد، ولولا ذلك لجاء الناس منها بالطم والرم، أما أن يخرج إلى التعقيد ويؤخذ بها مأخذ الرقي والطلاسم، فذلك اسم آخر ؛ والخمر إذا فسدت صار اسمها خلا. ومما أذكره بالإعجاب والاستحسان أن بعض علماء القرن الماضي، وهو العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي صادف من بعض الرؤساء فتوراً، ثم انقلب إغفالاً وإهمالاً، فعاتبه برسالة مهملة الأحرف ضمنها نظماً ونثراً، ووقع عليها بهذا التوقيع ( داعٍ محروم ). فكان إهمال أحرفها عتاباً فوق العتاب، وحظا من البلاغة لا يعد في سحر الألسنة ولكن في سحر الألباب. وقد وصل بعضهم بنوع المهمل إلى أن جعلوه كتباً فمنهم من فسر به القصيدة في التصوف، ومنهم من فسر به القرآن الكريم ؛ وما أقبح الفكاهة أن تكون جداً، والفاكهة في بعض الطعام أن تكون كل الطعام، وكذلك فعلوا، ومثلهم في هذه المضيعة كثير.

المتائيم

هذا النوع من الجناس اخترعه الحريري وذكر منه أبياتاً في المقامة السادسة و الأربعين سماها الأبيات المتائيم، لأنها مبنية على الألفاظ المزدوجة، فكأنها جمع متئم، وهي من النساء التي من عادتها أن تلد توأمين، وهي خمسة أبيات، أولها:

زيِّنت زينب بقدٍّ يقدُّ

وتلاهُ ويلاهُ نهدٌ يهدُّ

جندها جيدها وظرفٌ وطرفٌ

ناعسٌ تاعسٌ بحدٍّ يحدُّ

وأخص صفات هذا النوع أنك إذا أصبته عاطلا من النقط مغفلاً من الضبط غمي عليك وجه قراءته فلا تتبين من ذلك شيئاً ؛ وهو نفس الجناس الذي يسميه أهل البديع بالمصحف ويقولون في حده: إنه تماثل ركناه خطاً واختلفا لفظاً كقوله تعالى: ( والذي هو يطعمني ويسقينِ وإذا مرضتُ فهو يشفينِ ) إلا أن هذا النوع قد أضيف على التصحيف فيه التحريف باختلاف الحركة، فهو مصحف محرف ؛ ولم يمثلوا له بغير قول الحريري. وكنت وقفت على كلمات من هذا النوع لبعض الكتاب ولا أدري إذا كان متقدماً على الحريري أو هو متأخر عنه، فلا بد أن يكون أحد هما أخذ عن الآخر، وهذه عبارة ذلك الكاتب ( غرك عزك فصار قصار ذلِّك ذلك فاخش فاحش فعلك فعلَّك بهذا تهدا ) ولكن ما لاشك فيه أن لحريري أول من نظم في هذا النوع ثم وطئوا عقبه فيه، وقد ذكر في كتاب ( الكنز المدفون ) المنسوب للسيوطي بعض أبيات ركيكة على تلك الطريقة أفسدها التحريف ولم تنسب هناك لأحد، ومنها:

دلَّها دلَّها فضنَّت قضيبٌ

واعتدتْ واغتدتْ بعتبٍ تعيبُ

ولم يذلل هذه الطريقة كالصفي الحلي، فإنه جاء منها بأربعمائة فقرة نثراً وثمانين نظماً في عشر أبيات، وضمن ذلك جميعه رسالته التي سماها التوأمية ( وذكرت في ديوانه التوأمية خطأ ) وقد أنشأها سنة 700، وقال في سبب ذلك: إنه أنشأها حين جرى - بحضرة المولى السلطان الملك المنصور نجم الدين أبي الفتح بن أرتق - ذكر أبيات الحريري وعجز المتأخرين عن هذه الصناعة نظماً ونثراً، قال: وكنت أوثر من قيل أن أعرفه طرفاً من صورة واقعتنا بالعراق التي أوجبت انتزاحي، وأعراض بطلب خدمة ببلده مدة مقامي عندهم في ( إنشاء بعض الرسائل المعجزة ) فعندها أنشأت هذه الرسالة في تلك الصناعة وضمنتها ذكر ذلك كله ولقب السلطان لزواله الشبهة عنها. . . .اه. وأول هذه الرسالة:

قبَّل قبل يراك ثراكَ

عبدٌ عندَ رخاكَ رجاكَ

ولا ينظر في هذا النوع إلا إلى محض الصنعة، فهو بعيد من التصفح والانتقاد فيما سوى ذلك ؛ وما أرى الكاتب يحمل منه إلا على مثل مشتبك الأسنة في ساحة الأوراق، وهو إذا ظفر بعد ذلك كان الفتح الذي أقل ما يقال فيه أنه استغلاق. وما دمنا في ذكر الصفي ومخترعاته، ن فإن لهذا الأديب كتاباً سماه الدر النفيس في أجناس التجنيس، اخترع فيه نوعاً مشكبلاً، وذلك أن يجعل أركان التجنيس ثلاثة في صدر البيت وثلاثة في عجزه، وهو نوع لم يأت به غيره، لأنه ألفاظ معدودة، قد نظم في ذلك أبياتاً مطلعها ( ص 399: ديوان الحلي ):

سلْ سلسل الرِّيقِ: لم لم يرو حرّ ظما

بل بلبلَ القلبَ لمَّا زاده ألما

صناعات مختلفة

لسنا نزعم أننا بما على بيانه من هذه الصناعات قد استوفينا هذا البحث تركناه في حكم المفروغ منه، ولكنا إنما جئنا بأشياء استخرجناها من زوايا النسيان، ونفضنا عنها غبار القدم، وأحصيناها من صحف التاريخ إحصاء الحسنات والسيئات ؛ وزوايا النسيان مظلمة، وغبار القدم متحجر، وصحف التاريخ لا تعد ؛ وما عسى أن يسمى هذا العناء الناصب إلا بحثاً ؛ بل عسى أن يكون البحث غير ذلك ؛ فإذا كانت الأيام قد طوت بعض الصناعات في صدور أصحابها، أو ذهبت النكبات بآثارهم، أو قطع الإهمال عرق التاريخ في بعض هذه الآثار حتى أصبح لا يعرف أصله، ولا كيف نشأ وتقلب - فليس ذلك مما يلحق المؤرخ تبعة التقصير فيه ؛ إذ هو إنما يستنطق الآثار، ويتعلق بالأخبار ؛ فأما أن ينقب السماء ويدخل منها إلى الماضي ويبحث فيه عن الغيب ويحدس ويتكهن، فذلك شيء غير التاريخ. ومن أجل هذا رأيت قلمي أصبح يطلب الوقوف بعد أن وصل إلى الصحيفة التي لا يجري فيها إلا قلم الغيب.وسنشير فيما يلي إلى ما بقي من الصناعات التي انقطع دونها التاريخ وكانت دليلاً على غيرها مما انقطع عنا بتاريخه، إن كان ثمة من هذا شيء أو أشياء.

المشجر:

هو نوع من النظم يجعل في تفرعه على أمثال الشجرة - وسمي مشجراً لاشتجار بعض كلماته ببعض، ن أي تداخلها، وكل ما تداخل بعض أجزائه في بعض فقد تشاجر - وذلك أن ينظم البيت الذي هو جذع القصيدة، ثم يفرع على كل كلمة منه تتمة له من نفس القافية التي يتظم بها، وهكذا من جهتيه اليمنى واليسرى، حتى يخرج منه مثل الشجرة، وإنما يشترط فيه أن تكون القطع المكملة كلها من بحر البيت الذي هو جذع القصيدة، وأن تكون القوافي على روي قافيته أيضاً ؛ وهو متأخر عن القرن الحادي عشر،، إذ مر بك في مبحث التشطير أن أدباء ذلك القرن كاموا يشمونه بالمشجر هذا النوع المعروف اليوم بالمظرز، ولا تحضرنا في ذلك أمثلة جيدة نرضاها للتمثيل. ولعل أخذ هذه التسمية مما يسسمونه بشجرة النسب ؛ إذ هما متشابهان في الوضع متفقان على الجملة في الترتيب وهذه الكلمة ( شجرة النسب ) كانت مستعملة في القرن الرابع وما بعده، بدليل وجود بعض كتب في الأنساب مسماة بهذا الاسم ( راجع فهرست المكتبة الخديوية ). غير أن لهذا النوع من الصناعة أصلاً قديماً ؛ إذ عثر بعض أدباء البغداديين في كتاب نيل السعود في ترجمة الوزير داود )، وهو مجموع خطي لم يذكر فيه اسم جامعه كتب سنة 1232 ويحتوي بعض قصائد في مدح هذا الوزير، ثم منتخبات أخرى لشعراء مختلفين، ومنها بيت شعر منسوب لبديع الزمان الهمذاني، وهو من نوع المشجر بعينه، إلا أنه يتفرع من جهة لا من جهتين كما اصطلح عليه المتأخرون. .( ص 386 ج 7: المجلد الثاني من المقتبس ).

المقطع والموصل:

ومعنى الأول أن تكون كلمات المنظومة كلها منفصلة الأحرف رسماً، وهو بخلاف الثاني، فإن جميع أحرفه ينبغي أن تكون متصلة بعضها ببعض في كل كلمة ؛ ولم نر من ذلك شيئاً لغير الصفي الحلي، فربما كان أول من خصصه بالنظم وربما كان متابعاً، على أيهما فذلك من عبث الصناعة ؛ ومثال الموصل قول الصفي:

إّذا زارَ داري زورٌ ودودٌ

أودُّ وأوردهُ ورد ودِّي

وهي ثلاثة أبيات تدور جملتها على هذه الأحرف لأن الحروف التي ترسم منفصلة ومعدودة ؛ ومثال الثاني قوله:

سل متلفي عطفاً عسى يتعطَّفُ

فلقد قسا قلباً فما يتلطَّفُ

وجميعها سبعة أبياة، وكا ذلك في ديوانه.

المصحفات

هذا النوع يلحق بالصناعات، لأن المدار فيه على القصد والتعمل، فتجئ بالألفاظ توهم المدح، فإذا صحفت خرجت ذماً وقدحاً، كما تقول: هو كاتب أمين فإذا صحفته قلت هو كاذب أفين، مثلاً ؛ فذلك كالهجو في معرض المدح الذي يعرفه البديعيون، وهو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، ولكن ذلك في الألفاظ بما يدل ظاهرها وباطنها باعتبار مواقعها في الكلام لا غير. وقد ذكر صاحب الشقائق ( ص 328 ) في ترجمة المولى شمس الدين المتوفى في حدود التسعمائة، وهو من أفراد علماء الموسيقى، أنه كان ينظم القصائد العربية والفارسية والتركية ويمدح بها الأكابر ويرسلها إليهم، وكل قصيدة إذا صحفت من أولها إلى آخرها يحصل منها هجو. وقد ينظمون الأبيات إذا قرنت صدورها وأعجازها كانت مدحاً، فإذا أفردت الصدور خرت منها أبيات في الذم ؛ وأبياتاً أخرى قرنت معكوسة الألفاظ كانت هجاء وهي في طردها مديح. ولم نعثر من نوع المصحفات على شيء من النظم، بل بم نهتد إلى أنه من الصناعات إلا بكلمة صاحب الشقائق التي أوردناها، وهو رجل كان لا يحفل بحياة التاريخ فأماته في كتابه ؛ لأنه قلما ترجم إلا الأسماء والصفات الجامدة، فكأن كتابه بعد عصره إنما يترجم الموتى للموتى، فإنه لم يذكر في ترجمة شمس الدين - على أنه من أفراد الموسيقى ومن عجائب المصنعين - إلا أسطراً، وكذلك شأنه في غيره، وأين من ذلك حقيقة التاريخ ؟.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي