تاريخ آداب العرب (الرافعي)/القرآن الكريم

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

القرآن الكريم

القرآن الكريم

القرآن

آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماءٌ هي منها كواكب، بل الجندُ الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، ألقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه 'أعراف' الضمائر فابتزّ 'أنفالها' وكم صدوا عن سبيله صدّاًَ، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر ؟ واعترضوا بالألسنة ردجاً، ولعمري من يردَّ على الله القدر ؟ وتخاطروا له بسفهائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب وفتحوا عليه من الحوادث كل شدق فيه من كل داهية ناب.فما كان إلى نور الشمس: لا يزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لا يضع منه قطرة في سقائه، ويلقي الصبي غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لا يزال النور ينبسط على غطائه، وهو القرآن كم ظنوا - مما انطوى تحت ألسنتهم وانتشر - كل ظنّ في الحقيقة آثم، بل كلُّ ظنّ بالحقيقة كافر، وحسبوه أمراً هيناً لأنه أنزل في الأرض على بشر.كما يحسب الأحمق في هذا السماء أرضاً ذلك دواب نورانية لأن هلالها كأنما سقط من حافر، وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله:( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل ) ( الأنبياء: 18 )ألفاظ إذا اشتدّت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب. ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان. . .وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى البير، وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير. . .ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قواعده والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة: وإنما هي عند ذلك زجرة واحدة: فإذا الخلف طعامُ الفناء وإذا الأرض 'مائدة'. توهموا السحر ما توهموه، فلما أنزل الله كتابه قالوا: هذا هو السحر المبين. وكانوا يأخذون في ذلك بباطن الظنِّ فأخذوا هذا بحقِ اليقين ( أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون ) ومن الشعر ما تسمعونه أم أنتم لا تسمعون ؟ بل إنه لسحر يغلب حتى يفرق بين المرء وعادته، وينفذ حتى ينصرف بين القلب وإرادته.ويجري في الخاطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء، وإنه لسحر، إذ هو ألحاظٌ لم تعهد كلم أحداقها، وثمراتٌ لم تنبت في قلم أوراقها، ونورٌ عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، ماءٌ يتلألأ كالنور فكأنما عُصر من النجوم، وبلى إنه لشعر ولكن زنة مبانيه في معانيه، وزينة معانيه في مبانيه، فكل معنى ولا جرم من بحر، وكل لفظ كلؤلؤة في النحر، وإنه لشعر، إذ هو آياتٌ لا يجانس كلامها البديع غير كمالها، وحقيقة في الوجود لم يكن يعرف غير خيالها، ومرآة في يد الله تقابل كل روح بمثالها. يقولون مجنون بعض آلهتنا اعتراه، وأساطير الأولين اكتتبها أم يقولون افتراه، بل إن العقل الكبير في كماله ليتمثل في العقول الصغير كأنه جنون، وإن النجم المنير فوق هلاله ليظهر في العيون القصيرة كأنه نقطة فوق نون، وهل رأوا إلا كلاماً تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف سحب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن. لا جرم أن القرآن سر السماء فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون، ( فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ).

فصل

وبعد فإنّا سنقول في القرآن الكريم ممّا يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف عن أوجه الإعجاز في ذلك، لا ننفذ في غير سبب لما نحن بسبيله، ولا نذهب في الكلام عن نتيجة من نتائجه.ولا يكون من شأننا أن نتزيد بما ينزل من غرضنا منزلة القافية، أو نتكثر مما وراءه بمثبتة أو نافية، فإنّ هذا القرآن ما يزال يهدي للتي هي أقوم، وإنَّ النول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد الجهات متصل الحدود يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مستقراً ومستودعاً، وقد جاء بالإعجاز الأبدي الذي يشهد على الدهر ويشهد الدهر عليه، فما من جهة من الكلام وفنونه إلا وأنتَ واجدٌ إليها متوجهاً فيه، وما من عصر إلا وهو مقلّب صفحة منه حتى لتنتهي الدنيا عند خاتمته فإذا هي خلاء 'من الجنة والناس'. ولقد أراد الله أن لا تضعف قوة هذا الكتاب، وأن لا يكونه في أمره على تقادم الزمن خضع أو تطامن، فجاءت هذه القوة فيه بأسبابها المختلفة على مقدار ما أراد، وهي قوة الخلود الأرضي التي خرج بها القرآن مخرج الشذوذ الطبيعي، فلا سبيل عليه ليد الزمن وجوادثه مما تبليه أو تستجده، إنما هي روح من أمر الله - تعالى - هو نزّله وهو يحفظه، وقد قال سبحانه: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون ) ( الحجر: 9 ) ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) ( إبراهيم: 47 ). بيد أنه لا بد لنا من صدر نبتدئ به القول في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءته حتى تكون هذه سبباً إلى الكلام في لغته وبلاغته، ثم إعجازه في اللغة والبلاغة، لأنَّ بعض ذلك يريد بعضه، ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه، فإنّ في يده مفتاح هذا الباب المغلق وما زال الناس قديماً يأخذون في ناحيته ويختفلون إليه ويعتزمون في ذلك.وقليلٌ منهم من وصل.وقليل من هؤلاء من اتصل، فاللهم عونك وتيسيرك.

تاريخ القرآن

جمعه وتدوينه

أنزل هذا القرآن منجّماً في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وبما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرقِ الرواية، وذلك بحسب الحاجة التي تكون سبباً في النزول، ولِيثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول. ولولا نزوله متفرقاً: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه.إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يُلبس الحق بالباطل، وينفّس عليهم أمر الإعجاز.ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل، لأنهم قومٌ لا يقرءون ولا يتدارسون، ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عقبها هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربو عليه ويضعف، وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر الطويل - أمرٌ هو يشبه في مهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم ألبته لا قوة ولا حيلة، فإنّ العجز عن صنع المادة لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية. وبخاصة إذا اعتبرت أن أكثر ما أنزل في ابتداء الوحي واستمر بعد ذلك من لدن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حِراء فيتحنث في الليالي، إلى أن هاجر من مكة - إنما هو من قصار السور، على نسق يترقى إلى الطول في بعض جهاته.وذلك ولا ريب مما تتهيأ في المعارضة بادئ الرأي إذا كانت ممكنة، لأنّه مفصل آيات، ثم لقرب غايته ممن ينشط إلى معارضته والأخذ في طريقته، دون ما يكون ممتد النسق بعيد الغاية، فتصدف النفس عن جملته الطويلة، ويختلف نشاطها فيه لأن للقوة النفسية حدّا إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه، وهذا أمر يعرفه من يرى شاعراً يعد أبيات القصيدة الرائعة قبل أن يقرأها، أو كاتباً ينظر في أعقاب الرسالة الجيدة ولما يأخذ في أوائلها، وهلم مما يجري في هذا المرجى. وقد كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة 622 إلى المدينة، فنزل القرآن مكياً ومدنياً.وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها، وفي بعضها أن ذلك كان قبل موته عليه السلام بأحد وثمانين يوماً، في سنة إحدى عشر للهجرة، وأيّ ذي كان فإن مدة نزول القرآن توفي على العشرين سنة.وإنّما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها: وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على حسب النوازل وكفاء الحادث، ليكون تحولهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه. وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخّاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كلّ منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله.ولكن مما ليس فيه ريب أن منهم قوماً جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد فإن المصاحف التي اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحب ابن مسعود، ومصحف أبيّ، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك، وأمّا أبيّ فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زيد فقرأه بعدهما وكان عرضه متأخراً عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم وبقراءته كان يقرأ - عليه الصلاة والسلام - وكان يُصلي إلى أن لحق بربه، ولذلك اختار المسلمون ما كان آخر كما ستعرفه. أما علي بن أبي طالب فقد ذكروا أن له مصحفاً جمعه لما رأى الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.وفي 'الفهرست' لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفاً بخط عليّ يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبراً شيعياً، لأنه غير شائع. . . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في الصدور، وفيما كتبوه عليه، ثم نهض أبو بكر بأمر الإسلام، وكانت في مدته حروب أهل الردة، ومنها غزوة أهل اليمامة، والمحاربون أكثرهم من الصحابة ومن القرّاء، فقتل في هذه الغزوة وحدها سبعون قارئاً من الصحابة ( ويقال سبعمائة )، وكان قد قتل منهم مثل هذا العدد ببئر معونة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهال ذلك عمر بن الخطاب، فدخل على أبي بكر - رحمهما الله - فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطناً إلى فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت.قال زيد: فدخلت عليه وعمر مسربل، فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، فاقتص أبو بكر قول عمر وعمرُ ساكت، فنفرت من ذلك، وقلت: يفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك ؟ فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء.وقال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب. وهذا الذي فعل أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذي استحر بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعد به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيدٌ نسخة واحدة، وهو قد تتبع ما فيها من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ، ولأن من كتب الوحي، ثم لأنه صاحب العرضة الأخير، وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع: فإنّ في بعض الروايات أن سالماً مولى أبي حذيفة كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما الكتابة فهي لزيد بالإجماع. وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظر بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة 13ه صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حفصة ابنته صدراً من ولاية عثمان، ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كلِّ مصرٍ عن رجل من بقية القراء. فأهل دمشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن أبي مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري - وكانوا يسمون مصحفه 'لباب القلوب' - وقرأ كثيراً من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار - إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المواطن على جهاد أعدائهم - يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أجازها، لا يمنع أن يحيك في صدره بعض الشك وأن ينطوي منها على شيء.وإذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة فلا يلبث أن يجري ذلك الاختلاف مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيراً من بعضه، ويظنُّ منه الصريح والمدخول والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلك، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم ثم مردوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والملاحاة وإلى أن يرد بعضهم على بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه وليس من وراء هذا اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرم أنها الفتنة لا تفنأ بعد ذلك من دم. ولقد نجمت هذه الناشئة يومئذ، فلما كانت غزوة إرمينية وغزوة أذربيجان، كان فيمن غزاهما مع أهل العراق حذيفة بن اليمان، فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، أنهم لا يجرون من ذلك على أصل في الفطرة اللغوية كما كان العرب يقرؤون بلحونهم، ورأى ما يبدر على ألسنتهم حين يأتي كل فريق منهم بما لم يسمع من غيره، إذ يتمارون فيه حتى يكفر بعضهم بعضاً، ولم ير عندهم نكير لذلك ولا إكباراً له، بل كانوا قد ألفوه بين أنفسهم، وصار من عاداتهم وأمرهم، ففزع إلى عثمان فأخبره بالذي رأى، وكان عثمان قد رفع إليه أن شيئاً من ذلك يكون بين المسلمين الذي يقرئون الصبية ويأخذونهم بحفظ القرآن فينشأون وبهم من الخلاف بعضهم على بعض، فأعظم - رحمه الله - أمر هذه الفتنة، وأكبره الصحابة جميعاً، لأن الاختلاف في كتاب الله مدرجة إلى مخالفة ما فيه، ومتى أهملوا بعض معانيه لم يكن بد أن يتصرفوا ببعض ألفاظه، وإنما هو اجتراء واحد فيوشك أن يكون ذلك مساغ للتحريف والتبديل، فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها، حذار تلك الردة المشتبهة، وإشفاقاً على الناس أن يصيروا كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فأرسل عثمان إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم به أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريشٍ فإنه بلسانهم. قال زيد - في بعض الروايات عنه -: فلما فرغت عرضته عرضة فلم أجد فيه هذه الآية: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة - يعني ابن ثابت - فكتبتها 'ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) إلى آخر السورة فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضاً، فأثبتها في آخر براءة ولو تمَّت ثلاثة آيات لجعلها سورة على حدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيها شيئاً، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته فعرض المصحف عليها فلم يختلف في شيء، فردها إلى وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمه فأعطاهم إياها فغسلت غسلاً. قلنا: وكلام زيد نص قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه، إذ كان يعرض ما في الصحف على ما ربط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نصٌ كذلك على أن زيداً كان لا يكتفي نبفسه بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشية أن يكون موضع ظنة وإن كان الصحابة - رضي الله عنهم - قد أجمعوا على الثقة به، فلم يثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظِ غيره، والآخر من حفظه. ثم بعث في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وكانت سبعة - في قول مشهور - فأرسل منها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة واحداً، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام ثم أمر بما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد.وكان جمع عثمان في سنة 25 للهجرة. وإنما أراد عثمان بذلك حسم مادة الاختلاف، لأنه أمر يمد مع الزمن وتنشعب الأيام به.وهو إن أمن في عصره لم يدر ما يكون بعد عصره لم يدر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عرباً على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف.ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته، وأن الاختلاف كان باباً إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئاً أكثر من أنه حصن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنه الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن. ولم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور وإلى اليوم.فإنما هو ترتيب عثمان أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعاً بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديما وتأخيراً: ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو أقله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبيّ بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه ( الفهرست )، وقال ابن فارس: 'إن السور في مصحف عليّ كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبَّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدنيّ، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت.وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضاً، لما مرّ في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم. ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيباً أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدّون في إخراجها وانتساخها.ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات. وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعاباً لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرؤون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانىء قال: كنت عند عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها 'لم يتسن' و'فأمهل الكافرين'، و'لا تبديل للخلق' قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب 'خلق الله' ومحا 'فأمهل' وكتب 'فمهل' وكتب 'يتسنه' ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم. فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول 'إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حفظته الذي جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته الباطن من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطل شيئاً. ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسنّم في الرد والتأويل كل طريق وعر، كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعاً لا يتدارأ فيها الرواة، من علا منهم ومن نزل، وإنَّما كان ذلك لأن القرآن أصل هذا الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن، وتألب الأحداث وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترؤوا على حدود الله وضربتهم الفتن والشبهات مقبلاً بمدبر ومُدبر بمقبل.فصار كل من نزع إلى الاختلاف، يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يتدسس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعنف بها إلى أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهاً. ونحسب أن أكثر ذلك مما افترته الملحدة وتزيّدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيا بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ويرى فيه حجته على مذهبه وبينته على دعواه، ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم في الحق والباطل، ثمّ ضعاف الرواة ممن لا يميزون أو ممن تعارضهم الغفلة في التمييز، وذلك سواء كله ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وقد ودت روايات قليلة في أشياء زعموا أنها كانت قرآناً ورفع.على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرر الأحكام عن ربه إذا لم ينزل به قرآن، لأن السنة كانت تأتي مأتاه، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: 'أوتيت الكتاب ومثله معه' يعني السنن. وعلى هذا الحديث يخرج في رأينا كل ما رووه مما حسبوه كان قرناً فرفع وبطلت تلاوته على قلة ذلك إن صح.لأنه يكون وحياً، وليس كل وحي بقرآن، على أن ما ورد من ذلك ورد معه اضطرابهم فيه وضعف وزنه في الرواية، وأكبر ظناً أنها روايات متأخرة من محدثات الأمور، وأن في هذه المحدثات لما هو أشد منها وأجدى بشؤمه.ولو كان من تلك شيء في العهد الأول لرويت معها أقوال أخرى للأئمة الأثبات الذين كان إليهم المفزع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا يومئذ متوافرين، ولكهم مقرن لذلك قوي عليه، وكانوا يعلمون أن المرآء في القرآن كفر وردّة، وأن إنكار بعضه كإنكاره جملة، وإن أجمعوا على ما في مصحف عثمان وأعطوه بذل ألسنتهم في الشهادة، أي قوتها، وما استطاعت من تصديق. ونحن من جهتنا نمنع كل المنع، ولا نعبأ أن يقال إنه ذهب من القرآن شيء، وإن تأولوا لذلك وتمحّلوا، وإن اسندوا الرواية إلى جبريل وميكائيل ونعتد ذلك السوءة الصلعاء التي لا يرحضها من جاء بها ولا يغسلها عن رأسه بعد قول الله: ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) أفترى باطلهم جاءه من فوقه إذن ؟. . ولا يتوهمن أحمد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نصٌ في أن ذلك القول صحيح ألبته، فإن الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بها أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك العهد هو ما هو، ثم بما وهل عنه بعضهم مما تحدثوا من أحاديثه الشريفة، فأخطأوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يشبه لهم أنه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا. وثبت أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمم لخوف الوهم، مع أن عماراً ممن لا يتهم بتعمد الكذب، ولا بالكذب وهلة، لصحبته وسابقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أذن له عمر في رواية هذا الحديث مع شكه هو في صحته. على أن تلك الروايات القليلة إن صحت أسانيدها أو لم تصح: فهي على ضعفها وقلتها مما لا حفل به، ما دام إلى جانبها إجماع الأمة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق. وبعد فما تلك الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتن التي تعاقبت والأحداث التي استفاضت، والانشقاق الذي ارفضّت به عصا الإسلام - بأقل شأناً ولا أضعف خطراً من هذا كله، ومثله معه من ضروب الأقاويل، حتى لا يقتحم مجدرئ ولا يستهدف مفترل ولا يبالغ مبطل ولا ينحرف متأول، وحتى لا يروى من أشباه ذلك دقيق أو جليل، وإنما قياس الباطل بالعلم الحق، وقياس الظنِّ باليقين الثقة، وأنت تعلم أنّ كلّ ما رووه لم يأت من قبل الإجماع، وليس له من هذه الحجة مادة ولا قوة، ولو أن الأمر كان إلى الرأي والنظر لقلنا: لعله ولعلنا، ولكنّها الرواية وملاكها، والأدلة واشتراكها ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ). ^

القراءة وطرق الأداء

وهذا الفصل مما نتأدى به إلى الكلام في لغة القرآن، فهو سبيلنا إليها في نسق التأليف، إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها. وليس من همنا فيما نأتي به إلا أن نقضي حق التاريخ اللغوي، منصرفين ما وسعنا الانصراف عن الجهة الفنية التي هي جانب من علمي القراءات والتجويد، فإنّ الكلام في هذه الجهة يتسع، وهو غير ما نحن فيه، ومازالت الجهة الفنية من كل علم هي فرع من أصله في التاريخ. نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفصح ما تسمو إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما تقوم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقاً محضاً، في التركيب، والتناسب بين أجراس الحروف والملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت الذي يؤديه، كما بيناه في بابه في الجزء الأول فكان مما لا بد منه بالضرورة أن يكون القرآن أملك بهذه الصفات كلها، وأن يكون ذلك التأليف أظهر الوجوه التي نزل عليها، ثم أن تتعدد فيه مناحي هذا التأليف تعدداً يكافئ الفروع اللسانية التي سبقت بها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، توقيعاً يطلق من نفسه الأصوات الموسيقية التي يشبع بها الطرب في هذه النفس، بما يسمونه في لغة العرب بياناً وفصاحة.وهو في لغة الحقيقة الموسيقى اللغوية. وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به، ومع اليأس من معارضته، على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب، فقد تم له التمام كله، وصار إعجازه إعجازاً للفطرة اللغوية في نفسها حيث كانت وكيف5 ظهرت ومهما يكن من أمرها: ومتى كان العجز فطرياً فقد ثبت بطبيعته، وإن لجَّ فيه الناس جميعاً، لأنه شيء في تلك الفطرة يفهم منه صريحاً ثم لا تنكر هي موضعه منها وموقعه، وإن كابرت فيه الألفاظ وبالغت الأهواء في جحده والانتفاء منه مراءً ومغالبة. والطبيعة قد توجد في مفردات لغتها مترادفات، بحيث يكون الشيئان لمعنى واحد، ولكن لا توجد فيها الأضداد بحال من الأحوال، فلا يكون الشيء الطبيعي محتملاً بصورته الواحدة لأن يكون إقراراً وإنكاراً معاً، ومن ثم لا يستقيم للعرب أن يعارضوا القرآن، إذ كان مأتى العجز من فطرتهم اللغوية، ولا يتوهم ذلك وإن انتشرت لهم في الخلاف كل قالة. ذلك فيما ترى هو السبب الأول الذي من أجله اختلفت بعض ألفاظ القرآن في قراءتها وأدائها اختلافاً صح جميعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحت قراءته، وهو كان أعلم العرب بوجوده لغتها، كما سيأتي في موضعه، إذ لا وجه عندنا للاختلاف الصحيح إلا هذا، فإن القرآن لو نزل على لفظ واحد ما كان بضائره شيئاً وهو ما هو إحكاماً وإبداعاً، فهذه واحدة. وحكمة أخرى، وهي تيسير القراءة والحفظ على قومٍ أميين لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلاً عن أن يكون مما ألفوه. وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، هي أن تكون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم ثم هو مما لا يستطيع لغوي أو بياني في تصوير خيال فضلاً عن تقرير شريعة. ومن أعجب ما رأيناه في إعجاز القرآن وإحكام نظمه، أنك تحسب ألفاظه هي التي تنقاد لمعانيه.ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثبتاً فتصير منه إلى عكس ما حسبت وما تزال متردداً على منازعة الجهتين كلتيهما، حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم وأخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة.لأن ذلك التوالي بين الألفاظ ومعانيها.وبين المعاني وألفاظها، مما لا يعرف مثله إلى في الصفات الروحية العالية.إذ تتجاذب روحان قد ألفت بينهما حكمة الله فركبتهما تركيباً مزجياً بحيث لا يجري حكم في هذا التجاذب على إحداهما حتى يشملها جميعاً. ووجوه الاختلاف الطبيعي - كاختلاف القراءات في العرب - مما لا تفهم له تلك الطباع المختلفة به وجهاً، لأن كل عربي قد ثبت على لحنه في النطق أو القراءة فيحسب ذلك الاختلاف مما لا يحتمله الشيء الثابت.ولهذا جاءت بعض روايات عن الصحابة رضي الله عنهم تصب نبضاً من الشك ربما كانت تضرب به قلوبهم، حين يسمعون الاختلاف بين قراءة وقراءة حتى يصرف الله عنهم ذلك ويربط على قلوبهم، كما روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم، فلما سلم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة.فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال: هكذا نزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا نزلت، ثم قال: 'إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منها'.فتأمل قوله: 'ما تيسر' تصب منها شرحاً طويلاً، وسنقول في هذه السبعة بعد. ورووا أن عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: 'لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد لكثرة الرد.وإن شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهى عن شيء يأمر به الآخر كان ذلك الاختلاف.ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا أن نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن، ولو أعمل أحد أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أن محسن.فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية جحد به كله'. هذا حين كان الاختلاف مما تقضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتفضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجم - لم يعد لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من رأي، بل صار كأنه دربة لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجه ينكر من حقيقتها بما يضيف إليها أو يخلط بها أو يغير منها، وإلى هذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه القرآن العرضة الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرة لولا ما علمه الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي إلى أن انتقل إلى جوار ربه.ومن ثم اختارها المسلمون بعده وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مرّ، ثم تركوا للناس أسانيدهم، إذ كانت الفطرة سليمة بعد. فلما كانت الطيرة والاختلاف لعهد عثمان، وأشفقوا من الضلال في معاسف الرأي ومعانيه، حملوا الناس عليها حملاً وكتبوا بها المصاحف كما تقدم.

القراء

يرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة - رضي الله عنهم - فقد اشتهر بالإقراء منهم سبعة، عثمان، وعلي، وأبي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت أواخر عهد التابعين في المائة الأولى تجرد قوم واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية، لما رأوا من المساس إلى ذلك بعد اضطراب السلائق، وجعلوها علماً، كما فعلوا يومئذ بالحديث والتفسير، فكانوا فيها الأئمة السبعة الذين تنسب إليهم القراءات إلى اليوم، وهم أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفى سنة 154ه، وعبد الله بن كثير المتوفى سنة 120ه، ونافع بن نعيم المتوفى سنة 169ه، وعبد الله بن عامر اليحصبي المتوفى سنة 118ه، وعاصم بن بهدلة الأسدي المتوفى سنة 128ه وحمرة بن حبيب الزيات العجلي المتوفى سنة 156ه، وعلي بن حمزة الكسائي إمام النحاة الكوفيين المتوفى سنة 189ه. وقراءات هؤلاء السبع هي المتفق عليها إجماعاً، ولكل مهم سند في روايته، وطريق الرواية عنه، وكل ذلك محفوظ مثبت في كتب هذا العلم. ثم اختاروا من أئمة القراءة غير من ذكرناهم ثلاثة صحت قراءتهم وتواترت وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني المتوفى سنة 132ه، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 185ه، وخلف بن هشام بن طالب ( ولم نقف على تاريخ وفاته ).وهؤلاء وأولئك هم أصحاب القراءات العشر، وماعداها فشاذ، كقراءة اليزيدي، والحسن، والأعمش، وغيرهم. ولا ذهبن عنك أن هذا الاختيار إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة، على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوفة، على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام، على قراءة ابن عامر، وبمكة، على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، وكان هؤلاء هم السبعة، فلما كان على رأس المائة الثالثة، أثبت أبو بكر بن مجاهد اسم الكسائي وحذف منهم اسم يعقوب. قال بعضهم: والسبب في الاقتصار على السبعة، مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدراً، أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة، هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى ما اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماماً واحداً.ولم يتركوا مع ذلك نقصل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب، وأبي جعفر، وشيبة، وغيرهم.قال: وقد صنف ابن جبر المكي مثل ابن مجاهد كتاباً في القراءات فاقتصر على خمسة، اختار من كل مصر إماماً، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كان خمسة، إلى هذه الأمصار، ويقال أنه وجه بسبعة، هذه الخمسة ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين، لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره 'مراعاة عدد المصاحف' استبدلوا من مصحفي البحرين والمين قارئين كمل بهما العدد. وأول من تتبع وجوه القراءات وألقها وتقصى الأنواع الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع، هارون بن موسى القارئ النحوي المتوفى سنة 170ه، وكان رأساً في القراءة والنحو، ولكن أول من صنف فيها إنما هو أبو عبيد القاسم بن سلام الراوية المتوفى سنة 224ه، وكان أول من استقصاها في كتاب.ويقال إنه أحصى منها خمساً وعشرين قراءة مع السبع المشهورة.

وجوه القراءة

ومنذ بدأت القراءة تتميز بأنها علم يتدارس ويتلقى، بدأت فيها الصناعة العلمية، فحصرت وجوهها وعينت مذاهبها، ومن شأن كل علم أن يكون ضبط الصحيح فيه حداً لغير الصحيح، وقد تكون الأمثلة التي تنزع من العلم للتمثيل بها على صحيحه مما يقتضي التمثيل بضدها على فاسده، فتقلب القاعدة أو الكلمة على وجوهها المتباينة مما اطرد أو شذ، وبهذا يدل على المذاهب الضعيفة ويطرق إلى معرفتها.فعسى أن يكون فيمن يقفون عليها من تنقطع به المعرفة عندها، أو يقف به الهوى على حدها، أو يعجبه منها إن كان له أن يكون صاحب غريب، وأمره عند العامة والجمهور ما عرفت في باب الرواية وأن يتدافعه الناس من رادّ معه وراد عليه، أن يكون هو ضعيف البصر بهذا الأمر قليل التمييز فيه، أو يكون خبيث الدخلة مستجم الباطل، أو من أصحاب العلل والمراء أو شيء مما يجري هذا المجرى، فلا يلبث أن يأخذ بها دون الصحيح.ويتقلد أمرها على وهنه واضطرابه فيعتسر الكلام فيها، ويبالغ في النضح عنها والدفع لما عداها، ويتكلف لتصحيح هذا الفساد كما يتكلف لإفساد الصحيح وتوهينه، ومن ثم ينشأ من العلم علم آخر لم يكن قبل إلا حاجة من التمثيل به لغيره، فاتسع حتى صار في حاجة إلى التمثيل له بغيره. كذلك نشأت القراءات الغريبة في رأينا، فإنّ هذا الشاذّ وهذا الضعيف وهذا المنكر مما لا تحسبه كان معروفاً متلقى بالإسناد الذي لا مغمز فيه وإن لم يقرأ به أصحابه إلا على أنه معروف موثق الأسانيد. ولا بد أن تكون قد شذت وجوه كثيرة من القراءات قبل مصحف عثمان، وخاصة فيمن يقرأ من عرب الأمصار من الأوشاب المستضعفين الذين لم تخلص فطرتهم ولم تتوقح طباعهم، ولك أولئك قد كان لهم في أحيائهم من يقرئهم القرآن، فإن كان قد وقع أمرٌ من ذلك لأصحاب القراءات ومن يتتبعون وجوهها فأخذوا به لأنه عن متقدم يسنده أو يزعمه صحيحاً عمن يسنده فذلك أيضاً قول ومذهب. والعلماء على أن القراءات متواترة وآحاد وشاذة.وجعلوا المتواترة السبع والأحاد الثلاث المتممة لعشرها ثم ما يكون من قراءات الصحابة - رضي الله عنهم مما لا يوافق ذلك.وما بقي فهو شاذ. والقياس عندهم موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه، سواء كان أفصح أم فصيحاً، مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه اختلافاً لا يضر مثله، لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها، والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي.ثم يشترط في تلك القراءة أن توافق أحد المصاحف العثمانية الأركان الثلاثة: موافقة العربية، ورسم المصحف، وصحة السند، فتلك هي القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أطلق عليها أنها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، ولتجيء بعد ذلك عن كائن من كان. أما اشتراط موافقة العربية على أي وجوهها، فذلك إطلاق يناسب ما قدمناه من أمر الفطرة، ومن أجله كان صحيحاً أن لا يعول أئمة القراءة في أمر الجواز على ما هو أفشى في اللغة وأقيس في العربية، دون ما هو أثبت في الأثر وأصح في النقل، لأن العرب متفاوتون في خلوص اللغة وقوة المنطق فإن قرأوا فلكل قبيل نهجه. وأما موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية، فذلك لما صح عندهم من أن الصحابة - رضي الله عنهم - اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة فكتبوا الصراط مثلاً في قوله تعالى: ( اهدنا الصرط المستقيم ) بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل، لتكون قراءة السين ( السراط ) إن خالفت الرسم من وجه، فقد أتت على الأصل اللغوي المعروف، فيعتدلان وتكون قراءة الإشمام محتملة لذلك. وأما اشتراط صحة الإسناد فهو أمر ظاهر ما دامت القراءة سنة متبعة، وكثيراً ما ينكر بعض أهل العربية قراءة من القراءات، لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة، ولا يحفل أئمة القراءة بإنكارهم شيئاً كقراءة من قرأ ( فتوبوا إلى بارئكم ) بسكون الهمزة، ونحوها مما أحصوه في كتبهم. وأول من اشتهر من القراء بالشواذ، وعني بجمع ذلك واستقصائه وإظهاره دون الصحيح، أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي في أواخر المائة الثانية، فقد جمع قراءة نسبها إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومنها ( إنما يخشى الله من عباده العلمَؤا ) وقد أكذبوه في إسناده وجعلوه مثلاً بينهم في القراءات الموضوعة المردودة. ثم اجترأ الناس على القرآن بما فشا من مقالات أهل الزيغ والإلحاد بعد المائة الثانية، ولكن ذلك لم يتناول قراءته، بل تناول مسائل من أمر الاعتقاد فيه، ثم ظهر ابن شنبوذ المتوفى سنة 228ه، وكان رجلاً كثير اللحن قليل العلم، فيه سلامة وحمق وغفلة، فكان من أشهر القراء بالشواذ، ثم أخذ في سبيله أبو بكر العطار النحوي المتوفى سنة 354ه، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وإنما أفسد عليه أمره أنه من أئمة نحاة الكوفيين، فخالف الإجماع وصنع في ذلك صنعاً كوفياً. . .فاستخرج لقراءته وجوهاً من اللغة والمعنى، ومن ذلك قراءته في قوله تعالى: ( فلما استيئسوا منه خلصوا نَجياً ) فإن هذا الأحمق قرأها ( نُجُياً ) فأزالها بذلك عن أحسن وجوه البيان العربي، ولم يبال ما صنع إذا هو قد انفرد بها على عادة الكوفيين في الرواية. .كما مر في باب الرواية في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. استوثق أمرها ولم يعد للشاذ وجه ولا أقيم له وزن، إذ كانت قد دونت العلوم في اللغة العربية وفي القراءات.وأخمل الناس أهل الشواذ، الخلفاء والأمراء فمن دونهم، واعتدلوا لهم السوء والإثم، ورأوا أمرهم الفتنة التي لا يستقال فيها البلاء، فما زالوا بهم حتى قطع الله دابرهم وغابرهم. هذا، وقد أورد ابن النديم في كتابه 'الفهرست' أسماء كثير من أهل الشواذ في كثير من الأمصار، فارجع إليه إن شئت تستقصي فيما لا يفيد.

قراءة التلحين

ومما ابتدع في القراءة والأداء، هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرؤون به على ما يشبه الإقناع وهو الغناء التقي. .ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم ( الترعيد ) وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا كأنه يرعد من البرد أو الألم. .( والترقيص ) وهو أن يروم السكون على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة، ( والتطريب ) وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب موضعه، ( والتحزين ) وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم ( الترديد ) وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. وإنما كانت القراءة تحقيقاً، أو حذراً، أو تدويراً فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ بالتلحين والتطنين عبيد الله بن بكرة، وكانت قراءته حزناً ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عمر بن عبيد الله، فهو الذي يقال له: قراءة ابن عمر، وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه وعرفت به، لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين. وكان القراءة بعده: كالهيثم، وأبان، وابن أعين، وغيرهم ممن يقرأون في المجالس أو المساجد، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دساً خفيفاً، ومنهم من يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم 'أما السفينة فكانت لمساكين' فإنه كان يختلس المد اختلاساً يقرؤها ( لمسكين )، وإنما سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن في قول الشاعر:

أَمَّا القطاةُ فَإِنِّي سَوْفَ أَنْعَتُهَا

نَعْتاً يُوافِقُ عِنْدي بَعْضَ مَفيها

أي ما فيها، وكان ابن أعين يدخل الشيء من ذلك ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء وافتنوا فيه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها. وقال صاحب جمال القراءة: إن أول ما غني به القرآن قراءة الهيثم 'أما السفينة' كما تقدم، فلعل ذلك أو ما ظهر منه. ولم يعرف من مثل هذا شيء لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا لعهد أصحابه وتابعيهم إلا ما رواه الترمذي في الشمائل واختلفوا في تفسيره، فقد روي بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة يوم الفتح ( فتح مكة ) وهو يقرأ ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) قال: فقرأ ورجع وفسره ابن مغفل بقوله: آآآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثلاث مرات ولا خلاف بينهم في أن هذا الترجيع لم يكن ترجيع غناء. وكان في الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - من يحكم القراءة على أحسن وجوهها ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يسمع منه القرآن غضاً طرباً، لفصاحته وعذوبة منطقة واانتظام نبراته، وهو لحن اللغة نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة، على أن كثيراً من العرب كانوا يقرأون القرآن ولا يعفون ألسنتهم مما اعتادته في هيئة إنشاد الشعر، مما لا يحل بالأداء ولكنه يعطي القراءة شبهاً من الإنشاد قريباً، لتمكن ذلك منهم وانطباع الأوزان في الفطرة، حتى قيل في بعضهم: إنه يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب. وهذا عندنا هو الأصل فيما فشا بعد ذلك من الخروج عن هيئة الإنشاد إلى هيئة التلحين، وخاصة بعد أن ابتدع الزنادقة في إنشاد الشعر هذا النوع الذي يسمونه التغيير، ولم يكن معروفاً من إنشاد الشعراء قبل ذلك وهو أنهم يتناشدون الشعر بالألحان فيطربون ويرقصون ويرهجون، ويقال لمن يفعلون ذلك: المغبرة.وعن الشافعي - رحمه الله - أرى الزنادقة وضعوا هذا التغيير ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن. وبالجملة فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد عد علماء القراءة بغير هذا التجويد لحناً خفياً، لأن المختص بمعرفته وتمييزه هم أهل القراءة الذي تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أئمة أهل الأداء. ^

لغة القرآن

الأصل فيمن نزل القرآن بلغتهم، قريش، وقد سلف لنا في مبحث اللغة كلام في معنى الإصلاح الذي خلصت به لغتهم إلى التهذيب، وكيف واروا بينهم في لغات العرب ممن كان يجتمع إليهم من الحجيج أو ينزل بهم من العرب في كل موسم ومتسوق 'وكان طبيعياً أن يكون القرآن بلغة قريش، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشي، ثم ليكون هذا الكلام زعيم اللغات كلها كما استمازت قريش من العرب بجوار البيت، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وغيرها من خصائصهم، وقد ألف العرب أمرهم ذلك واحتملوا عليه وأفردوهم به، فلأن يألفوا مثله في كلام الله أولى. وهذه حكمة بالغة في سياسة هؤلاء الجفاة وتألفهم وضم نشرهم، فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب البتة ولو كامن بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لا يعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات، كالسحر والكهانة وما إليهما وهو الذي افترته قريش ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا، ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وتقولوا من أمثال ذلك يبتغون به أن يحدثوا في قلوب الناس لهذا الأمر خفة الشأن، وأن يهونوا عليهم منه بما هونته العادة، وهم كانوا أعلم بعادات القوم وما يبلغ بهم، حين قعدوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً. وههنا أصل آخر، وهو أن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة القرشية وما أتصل بها، كان ذلك مغمزاً فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيهون ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهباً من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء إلى حال لا يلتئم عليه أبداً، ولو أن شاعراً من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته. وإنما وطأنا بهذا النبذ من القول لأن طائفة من الناس يذهبون إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير القرشية، لكان ذلك وجهاً من إعجازه تلتمس به الحجة ويستبين الظفر، ولخلى عنه العرب فترة وعجزاً.وهو زعم لا يقول به إلا أحد رجلين: من يدري كيف يقول، أو من يقول ولا يبالي أن يدري أنك مطّلع منه على جهل وسفه. ولمّا كان الوجه الذي أقبل به القرآن على العرب وجه تلك البلاغة المعجزة، فقد كان من إعجازه أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغات العرب جميعاً، وإنما سبيل ذلك من لغة قريش.وهذه اللغات وإن اختلفت في اللحن والاستعمال، إلا أنها تتفق في المعنى الذي من أجله صار العرب جميعاً يخشون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم، وهذا المعنى هو مناسبة التركيب في أحرف الكلمة الواحدة.ثم ملاءمتها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساق الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون كالنغم الذي يصب في الأذن صباً، فيجري أضعفه في النسق مجرى أقواه، لأن جملته مفرعة على تناسب واحد. وقد استوفى القرآن أحسن ما في تلك اللغات من ذلك المعنى، وبان منها بهذه المناسبة العجيبة التي أظهرته على تنوعه في الأوضاع التركيبية مظهر النوع الواحد، وهي مناسبة معجزة في نفسها، لأن التأليف بين المواد المختلفة على وجه متناسب ممكن، ولكن التأليف بينها على وجه يجمعها ويجمع الأذواق المختلفة عليها كما اتفق القرآن، أمر لا يقول بإمكانه من يعرف معنى الإمكان.وسنفصل ذلك في موضع هو أملك به متى انتهينا إلى القول في حقيقة الإعجاز. أما اللغات التي نزل بها القرآن غير لغة قريش، فهي لغة بني سعد بن بكر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعاً فيهم، وهي إحدى لغات العجز، من هوازن، ثم سائر هذه اللغات وهي جشم بن بكر، ونصر بن معاوية وثقيف، وتلك هي أفصح لغات العرب جملة، ثم خزاعة، وهذيل، وكنانة، وأسد، وضبة، وكانوا على قرب من مكة يكثرون التردد إليها ومن بعدهم قيس وألفافها التي في وسط الجزيرة. قال بعض العلماء: وقد كانت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: ( لا يلتكم من أعمَلكم ) أي لا ينقصكم بلغة بني عبس، ونقل الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر.أنّ في القرآن من أربعين لغة عربية، وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وتميم، وكندة، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعُمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيّ، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلى، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة.اه. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك، لدروس هذه اللغات وتداخلها وتقطع أسباب المقارنة بينها وبين لغة قريش التي مضوا على استعمالها بعد القرآن وأطبقوا عليها، والعلماء إنما يذكرون من أكثر هذه اللغات في القرآن الكلمة والكلمتين، إلى الكلمات القليلة، وانظر أين يقع مبلغ ذلك من لغة بجملتها ؟ولقد ائتلفت لغة القرآن الكريم على وجه يستطيع العرب أن يقرأوه بلحونهم وإن اختلفت وتناقضت، ثم بقي مع ذلك على فصاحته وخلوصه.لأن هذه الفصاحة هي في الوضع التركيبي كما أومأنا إليه آنفاً، وتلك سياسة لغوية استدرج بها العرب إلى الإجماع على منطق واحد ليكونوا جماعة واحدة، كما وقع ذلك من بعد، فجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام، كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام، وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم، وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهمو وعنهمو، وألحاق الياء في إليه وعليه وفيه، ونحو ذلك، فكان أهل كل لحن يقرأونه بلحنهم. وربّما استعمل القرآن الكلمة الواحدة على منطق أهل اللغات المختلفة فجاء بها على وجهين لمناسبة في نظمه: كبراء، وبريء، فإنّ أهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، لا يعدونها، وتميم وسائر العرب يقولون: أنا منك بريء، واللغتان: في القرآن.وكذلك قوله: ( فأسر بأهلك )، وقوله: ( والليل إذا يسر ) فإن االأولى لغة قريش، يقولون: أسريت، وغيرهم من العرب يقولون: سريتُ، وهذا باب من اللغة لم يقع إلينا مستقى، ولكن علماء الأدب ربما أشاروا إلى بعض ألفاظه في كتبهم، كما تصيب من ذلك في 'الكامل' للمبرد وغيره. وبالوجوه التي أومأنا إليها تختلف القراءات على حسب الطرق التي تجىء منها، فالناقلون عمّن قرأ بلغة قبيلة ينقلون بتلك اللغة في الأكثر، ولذا قيل: إن القراءات السبع متواترة فيما لم يكن من قبيل الأداء أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها فغير متواتر، وهو الوجه المتقبل. ولقد أحصى علماء القراءة في كتبهم ما ورد من ألفاظ القرآن على أحد تلك الوجوه، ومن قرأ بها كلها أو بعضها من الأئمة، وهي عناية ليس أوفى منها، ولا يعرف من مثلها لغيرهم ولغير أهل الحديث في أمة من الأمم: غير أنهم - عفا الله عنهم - أسقطوا من كتبهم كل ما يتعلق بالنسبة التاريخية في اللغات نفسها، إلا ما لا حفل به، وقد أشبعنا القول من هذا المعنى ومن الحسرة عليه في باب اللغة من التاريخ، ولكن القول أنهم لا يزال يشره فيسيل به لعاب القلم. . .كلما توهَّم لذة الفائدة وطعمها

الأحرف السبعة

وروى أهل الأثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: 'أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع' ثم اختلفوا في تأويله وفي تفسير هذه الأحرف ولكن الأكثرين على أنها سبع لغات من لغات قريش وألفافها من ظواهر مكة إلى قيس، وقد سمّيناها آنفاً، وذلك قول لا تخرج عليه إلا بعض ألفاظ الحديث ويبقى سائرها غير متجه. وقال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تختلف بها لغات العرب فوجدتها على سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص، وبجميع ذلك نزل القرآن: الوجه الأول إبدال لفظ بلفظ: كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش قرأها ابن مسعود: كالصوف المنفوش، والثاني إبدال حرف بحرف: كالتابوت والتابوه - وقد مر بك أنها كانت كتابة زيد بن ثابت حتى غيرها عثمان - والثالث تقديم وتأخير، إما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه وسلب ثوب زيد.وإما في االحرف، نحو: أفلم ييأس وأفلم يأيس، والرابع زيادة حرف أو نقصانه، نحو ماليه وسلطانيه، فلا تك في مرية، والخامس اختلاف حركات البناء، نحو فلا تحسبن ( بفتح السن وكسرها )، والسادس اختلاف الإعراب، نحو: 'ما هذا بشرا'، وقرأ ابن مسعود بالرفع، والسابع التفخيم والإمالة، وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب، وقد مر معنى ذلك. قال: فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقاً فيه، ليعلم بذلك أن من زل عن ظاهر التلاوة بمثله أو من تعذر عليه ترك عادته ( اللغوية ) فخرج إلى نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه، وكل هذا فيما إذا لم يختلف في المعاني.اه. وهو قول حسن يحمل به الحديث على معنى القراءات التي هي في الأصل فروق لغوية، وإن كان بعض الأحرف قد قرئ بسبعة أوجه وبعشرة، نحو ( ملك يوم الدين ) و ( عبد الطاغوت ). والذي عندنا في معنى الحديث: أن المراد بالأحرف اللغات التي تختلف بها لهجات العرب، حتى يوسع على كل قوم أن يقرؤوا بلحنهم، وما كان العرب يفهمون من معنى الحرف في الكلام إلا اللغة، وإنما جعلها سبعة رمزاً إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسموات السبع، والأرضين السبع، والسبعة الأيام التي برئت فيها الخليقة وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوي ما وراءها بالغاً ما بلغ، وهذا الرمز من ألطف المعاني وأدقها: إذ يجعل القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله، على أنه مع ذلك لا يبلغ منه شيء في المعارضة والخلافة، وإن تماد العرب في ذلك إلى الغاية، إذ هو لغات تنزل من أهلها منزلة السموات ممن ينظرونها، والأرضين ممن يضربون فيها، وهلم إلى آخر هذا الباب، فذلك قولهم بأفواههم، وهذا قول الله الذي يكابرون فيه ويطمعون أن يسامتوه بأقوالهم، وما لهم منه إلا أن يهتدوا به وينتفعوا بما فيه كما ينتفعون بالسماء والأر ض دون أن يكون لهم من أمرهما شيء.ثم أشار أفصح العرب صلى الله عليه وسلم بظهر كل حرف وبطنه وحده ومطلع كل حد، إلى حقيقة هذا الإعجاز، فإن ظاهر القرآن على أي لغة قرئ بها من لغات العرب إنما هو ظاهر تلك اللغة بعينها، ولكن باطنه صورة السماء في الماء، ومسميات إلهية لا تنال وإن نيلت الأسماء، ثم إن لكل لغة في امتزاجها بالقرآن حداً يقف عنده أهلها، وهو الحد الذي تبتديء منه الجنسية اللغوية، ولكل حد من هذه الحدود مطلع يصدر منه إلى مرتقى هذه الجنسية التي كان القرآن أخص مقوماتها، وذلك في جملته إنما هو الإعجاز كله، والهدى كله، والكمال كله. ولسنا ننكر أن هذا التأويل قد يكون بعيداً بدقائقه عن متناول أذهان العرب، ولا أن فيه شيئاً من الكد، ولكنه على كل حال قريب ممن ورثوا العرب في لغتهم وقصروا عنهم في فهم حقائق الإعجاز بتقصير الفطرة فيهم، ثم لا بد أن يكون العرب قد فهموا الحديث على نحو مما يؤديه تفسيرنا الذي ذهبنا إليه، إذ لا يعرفون من الحرف وظهره وبطنه، والحد والمطلع غير الصفات التي تتعلق باللغة، ولأمر ما كان كلام النبوة خالداً كأنه قيل في كل عصر لأهله وقبيله.وكأن هذا الزمان إنّما هو شاهد يجيء بالبينة على صحة تأويله. ولو أن هذا الحديث قد جاء تأويله نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم يعين المراد منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم: فإن ذهبت مذهبنا، وإلا فخذ مما أحببت أو دع

مفردات القرآن

وفي القرآن ألفاظ أصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً، جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما - وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان - رحمه الله - يقول: 'الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه'. ولقد كان - رضي الله عنه - يجلس بفناء الكعبة ثم يكتنفه الناس يسألونه عن التفسير وثبته من كلام العرب، وأسئلة نافع بن الأزرق التي ألفاها عليه وأومأنا إليها في باب الرواية من تاريخ آداب العرب - مشهورة، وقد أجابه عليها ابن عباس، واستشهد لجوابه بنيف وتسعين بيتاً من الشعر العربي الفصيح، فلا نطيل بسردها، فإن الكلام يتسع بما لا فائدة منه إلا معرفة الألفاظ وتفسيرها. ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يخرجها مخرج الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان، ونحوها مما نقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدثة، أو يكون سياق الألفاظ، قد دل بالقرينة على معنى معين غير الذي يفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: ( فإذا قرأنَه فاتبع قراءنه ) أي فإذا بيناه فاعمل به. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يسمون فهم هذا الغريب ( إعراب القرآن ) لأنهم يستبينون معانيه ويخلصونها، وقد روى أبو هريرة في ذلك: 'أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه' وبهذا الأثر ونحوه مما تأتي فيه لفظة ( الإعراب ) زعم طائفة من أبناء الطيالسة وطائفة من قومنا الذين في قلوبهم مرض، أن اللحن - أي الزيغ عن الإعراب - كان يقع من الصحابة في القرآن لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ضلة من القائلين، وذهاباً إلى معنى ( الإعراب ) النحوي، ثم غفلة عن لغة الاصطلاح، والاصطلاح في أهله ضرب من الوضع: لا يحمل على كلامهم غير ما حملوه عليه. وكذلك عد العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسد مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الوضع الأول، فيكون خاطب العرب بما لم يوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء، لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة. ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في تفسها أنه لا يوجد غيرها يغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفراداً ولا تركيباً وهو قول يحسن بعد الذي بيناه. ومن ألفاظه ما يسميه أهل اللغة بالوجوه والنظائر، والأفراد. أما الوجوه والنظائر فهي الألفاظ التي وردت فيه بمعان مختلفة: كلفظ الهدى، فإنه فيه على سبعة عشر وجهاً، بمعنى: الثبات، والدين، والدعاء، ونحوها.ومن هذه الألفاظ: الصلاة، والرحمة، والسوء والفتنة، والروح، وغيرها.وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن، وسياسة القرينة في العربية شريعة من شرائع الألفاظ. وأمّا الأفراد فهي ألفاظ تجيء بمعنى مفرد غير المعنى الذي تستعمل فيه عادة ولابن فارس في إحصاء هذا النوع كتاب قال فيه: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن، إلا قوله: ( فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم ) فمعناه: أغضبونا.وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب، إلا قوله: ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) فهي القصور الطوال الحصينة.وكل ما فيه من ذكر البر والبحر، فالمراد بالبحر: الماء، وبالبر: التراب، إلا قوله: ( ظهر الفساد في البر والبحر ) فالمراد به البرية والعمران.وعدّ من مثل ذلك وغيره أشياء، فهذا ما يسمونه في لغة القرآن بالأفراد.

تأثير القرآن في اللغة

لا نتكلم في هذا الفصل عن الوجوه اللغوية التي ابتدعها القرآن في الكلام فصارت من بعده نهج الألسنة والأقلام، ولا عن وجوه تأثيره باللغة: فإن لكل من ذلك موضعاً هو أملك به، وإنّما نقص لك طرفاً من القول في هذه اللغة كيف ظهرت في آياته للزمان حتى لا يظن أنها لغة عصرها، وكيف بهرت بغاياته في البيان حتى ليقال إنها لغة دهرها، وكيف جاوز بها قدرها الطبيعي بعد أن صار هو من قدرها. نزل القرآن الكريم بهذه الغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً: فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنّما يتجرأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو كل جزء من أجزائه وفي أجزائه لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهرها على بواطن أسرارها.فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضي العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا كانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود، لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم، ورقة غير ما انتهى إليهم من أمر الحاضرة.وهذا معنى ليس أظهر منه في إعجاز القرآن، فإن اللغة لا تشب عن أطوار أهلها متى كانت من غرائزهم، وإنما تكون على مقدارهم ضعفاً وقوة لأنَّها صورتهم المتكلمة وهم صورتها المفكرة، فهي ألفاظ معانيهم وهم في الحقيقة معاني ألفاظها، ولذلك لا تزيد عليهم ولا نقصون عنها ما دام رسمهم لم يتغير وما دامت عادتهم لم تنتقل، فإن سنح لامرئ من أهل النظر أن يستدل في لغة من اللغات على آثار أمتها بنوع من القيافة المعنوية، كما يستدل صاحب القيافة النظرية من الأثر في الطريق على مذهب صاحبه لا يخطئه، وعلى بعض صفاته لا يتعداها - فذلك ممن لا تهن فيه القوة ولا يبلغ به الإعياء، متى هو تقم فيه بالذهن الثاقب وتعاطاه بالقريحة النافذة، لأنه يستظهر من اللغة الصفات على الموصوف، ويجعل المعروف قياساً لغير المعروف. وأنت إذا صبغت يدك بهذا الفن من القيافة اللغوية، وحاولت أن تستخرج من لغة القرآن ما يصف لك العرب على أخلاقهم وطباعهم ومبلغهم من العلم، فإنك تحاول محالاً، وتكابر فيما يأبى عليك وما ليس في الحيلة إليه غير المكابرة، حتى إن الذي لا يعتقد مستبصراً أن هذا القرآن من عند الله إذا هو نظر فيه وأثبت حقيقته وقوي على تمييزها وكان ممن ينزلون على حكم النظر والمعرفة، فإنه لا يجد مناصاً من رد التاريخ والتكذيب له، ثم الإقرار بأن هذا القرآن إنما هو أثر من لغة قوم جاوزوا في الحضارة حد أهلها من سائر الأجيال.وبلغوا من أحوال المدينة أرقى هذه الأحوال، وكانوا من العلوم في مقاوم معلوم، لأن هذا الماء الصافي الذي يترقرق في عبارته، وهذا النظم الجيد الوثيق، وما اشتم عليه من بدائع الأوصاف، وما فيه من روائع الحكمة ثم ما احتوى عليه من إشارات السماء والأرض، وضراعة الأرض للسماء، إلى ما حله من معضلات الاجتماع، وكشفه من جوه السياستين النفسية والقومية، لا يكون ألبتة في لغة أمة قد أناخت بها أخلاق البداوة في ساقة الأمم حتى عبدت الأصنام، ولم تعرف من الشرائع غير شريعة الإلهام، وما ملكها من ملوك الدهر غير سلطان الأوهام. فهو إذا قرأ قوله تعالى:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا )نقول: إذا هو قرأ هذه الآيات البينات ثم تدبرها وأحسن حملها وتأويلها ولم يكن كدر الحس ولا مريض الذوق، فإن أحرفها تسطع له من نور الأخلاق بما يرى فيه أمة تضج في الحضارة وتختبط، ومدنية تضطرب في أهلها وتختلط، فلو أنّ أعضاء المجمع العلمي الفرنسي لعهدنا أرادوا مخاطبة أمتهم التي أوهاها الترف بلينه، وأخذت في ظن الإثم بيقينه.ورقت فيها الأعراض وبدأ نسلها في الانقراض، وتغالت في وجوه المدح والذم، وسبح شرف أهلها يغتسل في الدم.وهبّت فيها الرذائل بأنواعها، ورمتها كل أمة من أمم الأرض بدائها واسترسلت أخلاق الفتنة بين جراثيمها، وأوشك أن يتصل ما بين تقيها وأثيمها.واجتمعاً فيها النقائض اجتماع جوار، لا اجتماع نفار، من الإلحاد والإيمان، والصلة والحرمان، والحب الذي هو كالدين والعبارة إلى البغض الذي هو كالطبيعة والعادة، والائتلاف الذي ليس له تلاف، والإمساك الذي ليس مساك، إلى غير ذلك مما هو ألوان صورتها الاجتماعية التي هرمت وهي مع ذلك تتصابى، وعلمت وهي على ذلك تتغابى، قلنا: لو أنّ أولئك النفر أرادوا مخاطبة هذه الأمة على أن يتخوّلوها بالموعظة، لما أصابوا في غرضهم أسدّ ولا أحكم ولا أبلغ من تلك الآيات، يعرضونها على القوم فيبصرونهم صورة مجموعهم في مرآتها، ويعرفونهم مبلغ سيئاتهم من حسناتها، وينفضون إليهم جملة الحال في شبه الإيجاز النظري من كلماتها فلو أن ذلك واقع ثم أثرت عن القوم هذه الموعظة ورواها التاريخ بعد الأمد المتطاول، لما استطاع امرؤ ذو علم بالتاريخ وفلسفته أن ينكر أن المراد بها الأمة الفرنسية بعينها في القرن العشرين بعينه، وانظر أين ما بدأت مما انتهيت ؟وما دام ذلك قد تحقق في المعاني، وكانت هي سبيلاً إلى الاستدلال عليه، فالاستدلال بالألفاظ ومسابقتها لتلك المعاني في الدقيق والجليل أيسر وأسهل. فلا مذهب لمن يفهم الكتاب الكريم، ويقف على دفائن الحكمة فيه إلا أن يدفع به المذهب إلى إحدى اثنتين: إما أن يعتقد أنه أنزله الذي يعلم الغيب في السموات والأرض، فجاء كما يراه: أمراً من أمر الله، وإما أن ينكر هذا ويعتقد أن القرآن الذي بعث به النبي الأمي في أولئك الأميين إنما وضع في زمن كانت فيه الأمة العربية غير نفسها، وكانت بالغة ما شاء الله من علم وجهل، وحضارة وبداوة، وصلاح وفساد، إذ يجد ما يصف كل ذلك على حقيقته الصريحة في القرآن.وأيّهما أنكر وأيّهما أقرّ، فإنّه سبيل الحجة إليه ينحوها، وهو يظن أنه يمحوها.ويكشفها، ويحسب أنه يكسفها ( بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كَرهون ). ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن قد جمع أولئك العرب على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية التي جعلت أهل كل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مرغباً، إذ يرونها كمالا لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه.ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء - كهذا الكمال البياني في القرآن - أن يجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسباب المتباينة، والصفقات المتعادية، ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقيادا يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها، ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرة والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموا، حتى تتسع بينه وبينهم الغاية. وقد كان العرب على حال يتوهم فيها كل قبيل منهم أنه أسلم فطرة في اللغة وأبين مذهبا في البيان، لأنهم لا يجدون من ذلك من ذلك إلا أمثلة ترجع إلى الفطرة وتختلف باختلافها، ولا يجدون المثال الفطري الكامل الذي تقاس إليه القدرة والعجز في ذلك قياساً لا يلتاث ولا يختلف، ولا يحط من صنف حقه أن يزاد فيه، ولا يزيد في صنف حقه أن يحطّ منه. ومن أعضل الأمور وأشدها التباساً أن يكون امرؤ من الناس قادراً على أن يقيس ببيانه، أو علمه بمذاهب البيان - قدرة أقوام وعجزهم في أمر معنوي كاللغة، متى كانت مذاهبهم إلى أنواع من الاختلاف في القدرة والعجز، وخاصة إذا كان أمر اللغة فيهم إلى السليقة والفطرة، فإن من ينتصب لذلك وإن أراد أن يسقط، وحاول أن لا يحول - فهو لا بد مخطئ تعيين المراتب في المقدار الفاضل، وتعيين ما يقابلها في المقدار المفضول، ثم مخطئ في تمييل الحكم بين المقدارين، ولا يجيء من رأيه غلا بما تعرض فيه الخصومة أو تطول، لأن قياس مثل ذلك من الفطرة لا يتهيأ إلا بعمل يحتوي كل دقائقها وما يمكن أن تبلغ إليه من الكمال المطلق الذي هو الحد الأعلى في طبيعة تركيبها، ومثل هذا لا يكون ألبتة من إنسان ينزل على حكم هذه الفطرة نفسها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن قابل الكمال لا يكون في نفسه حداً للكمال، ومن أجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أفصح ذي لسان وأبلغ ذي لبّ، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها، كما ستقف عليه في موضعه. فيلزم من ذلك أن يكون القياس الذي أشرنا إليه أمراً فوق الطبيعة وليس فوقها إلا أمر الله، وهو القائل - عز وجلّ -:( ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءاناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون ). وينبغي لك أن تطيل النظر في قوله تعالى: ( غير ذي عوج ) وتقف على موقع هذا الفصل من الآية، وتتأمل لفظة ( العوج ) فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه.فتراها تصف القرآن بأنه فطرة هذه الفطرة العربية نفسها.وإنّها لكلمة من الوصف الإلهي ترجح في موقعها بالكلام الإنساني كله. فقد وضح لك أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته، ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بدّ، حتى تنتقض الفطرة وتختبل الطباع، ثم يكون مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة، إذ لا يخلفهم عليها إلا من هو أشد منهم اختلاطاً وأكثر فساداً، وهكذا يتسلسل الأمر حتى تستبهم العربية فلا تبين - وهي أفصح اللغات - إلا بضرب من إشارة الآثار، وتنزل منزلة هذا ( الهير غليف ) الذي قبره المصريون في الأحجار وأحيته هذه الأحجار. وذلك معنى من أبين معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن، ولقد كان أسلوبه البياني الذي جمع له العرب هو الذي اقتضى ما أحدثه العلماء بعد ذلك من تتبع اللغات وتدوينها ورواية شواهدها، والتحمل لها، فكان صنيعهم صلة بين اللغة وبين العلوم التي أفرغت عليها من بعد، لأن لغة من اللغات لا تحيا ولا تموت إلا بحسب اتصالها بمادة العلم الذي به حياة أهلها وموتهم، وهي لا يلبسها العلم إلا إذا كانت قشيبة محكمة، لا تضيق عن أنواعه وفروعه ولا يخلقها الاستعمال. وإنّما شباب هذه الحياة اللغوية أن تكون اللغة لينة شديدة كما يكون كما الإنسان بقوة الخلق والخلق: وهذا وجه لو لم يقمها عليه القرآن لما استقامت أبداً، ولا وقف على طريقه، ولا تلاقى فيه آخرها بأوّلها، لما أومأنا إليه.وسنزيد هذا المعنى بياناً إن شاء الله. ويبقى وجه آخر من تأثير القرآن في اللغة، وهو إقامة أدائها على الوجه الذي نطقوا به، وتيسير ذلك لأهلها، في كل عصر، وإن ضعفت الأصول واضطربت الفروع، بحيث لولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها. وهذا أمر يكون في ذهابه ذهاب البيان العربي جملته أو عامته، لأنّ مبناه على أجراس الحروف واتساقها، ومداره على الوجه الذي تؤدى به الألفاظ، وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يحكمون منطقهم وما يصنعون بالأساليب المدمجة والفقر المتوثقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجود الكلام في جزالته وقوة أسره وصلابة معجمه إلى الفسولة والضعف، وإلى البرد والغثاثة، كأنما يموت في ألسنتهم موتاً لا رحمة فيه. . لا جرم أن اللغة التي يذهب منها ذلك لا ينطق بها إلا على الحكاية السقيمة، ولا جرم أن بعض السقم يدفع إلى بعضه، وأنّ جملة ذلك تفضي إلى الموت. فهذه معان سامية غريبة انفردت بها العربية، ولولا القرآن ما كانت فيها وما ينبغي لها بكلام غيره، إذ ليس في غيره ما يبلغ أن يكون حداً للكمال اللغوي في الفطرة، فيتعلق بمثل أثره في العرب وأحوالهم وتاريخهم، أو يقع من ذلك على مقدار مقسوم، أو يكون له فيه حق معلوم. ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ). صدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلاً ؟

الجنسية العربية في القرآن

لك بعض ما تناصرت عليه الأدلة واجتمعت على صحته، من تأثير القرآن في اللغة وما أصلح الله لأهلها في هذه البقية، حفظاً لكتابه، وإظهاراً لوجه من وجوه إعجازه الخالدة، ولكن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.وحسبه معجزة ما تقول فيه من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجاراً في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية، في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشد بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا انضموا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما إن يزالوا في التاريخ مرة أضوله، ومرة فصوله، وإن لم يقوموا أحياناً بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها، ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها. ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردها من الفائدة، فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب هذا العالم كما سيأتيك بيد أن سبيل ذلك من اللغة، فإن القرآن تنزل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما نهيأ له من أسبابها الطبيعية، إذ كان بما احتواه من الأساليب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوية، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني - قد هتك الحوائل ومحا الفروق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألوا عما يدنيها إليه معالجة واكتساباً، ولو أنهم تمالأوا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعادياً في الرأي، وتباعداً عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصاً فطرياً وهو يحسبه كمالاً، ويبعد الكامل عن حقيقة ما يلتمسه من الكمال بعد أن يرى غيره قد حسبه نقصاً، لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان، ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق، وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن. تلك سياسة هذا القرآن: جمع العرب لمذهب الأقدار وتصاريف التاريخ.رأي ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة.فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها، فإن كل أمة تستفيد عقلها الحاضر من ماضيها، لتفيد مستقبلها من هذا العقل بعينه، فلما استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم، وطرحت عليها نقائصها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها، فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة، وراءها خيوط من الأعنة، حتى أصبح تاريخ الأرض عربياً، وصار بعد الذلة والمسكنة أبياً، واستوسق لهم من الأمر ما لم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب، حتى كأنما زويت لهم جوانب الأرض، وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها، لا غزاة يفتحونها، فلا يبتديء السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره.ولا يكاد يشير إلى ( قطر ) من أقطارها إلا أراك كيف تدور عليه ( الدائرة ). وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه، فإنما هو أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءً كضوء الصواعق، وحركة كحركة الزلازل، وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض، فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة، أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ.ولو أن رمال الدهناء نفضت على الأرض جنوداً عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل، وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب، ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي الزمن في أرسامها، إذ كان لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها. . .ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم، حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض.وكان أهل السرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن، بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستقين أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها، لأن القرآن هو صفيّ تلك الطباع، وصقل جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة.فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصل بما أعد لهم. ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها، وصرفها في وجوه معانيه - ما بلغ من القوم رأياً ولا نية، ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم - ما يذهب به جملة ويمسح أثره في القلوب، ولا يدع له مساغاً إلى ما وراء السمع، لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب، وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة، ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى، كلها فصيح وكلها بيان، وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها، وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك، وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن أخلاقها وعاداتها.ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة، قرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كأنما هي ليست من لغة أحدهما، فلا تبلغ منه ولا تمسه، كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من الكرم يلقاها جواد وبخيل. أنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلت تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك من الخواطر إلا ما أحكمه العقل - فإنك واجد منه سبيلاً إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع الهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالعنف محضاً بعد اللين ممزوجاً، حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم، بل ردّد ذلك وكرره، وعمّهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم، وأهاج منهم حميّة الجاهلية، وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى، وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواة في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال، ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوالا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير، وإلا فما بال هؤلاء العرب قد خرجوا من تاريخهم بعد الإسلام كأنما نزعوا جلدتهم نزعاً، على حين كانت لهم الأمور المطمئنة، والصفات المتوارثة، من أخلاق شبوا عليها، وعادات ينازعون إليها، وطبائع هم بها أخص وهي بهم أملك، ولم يكونوا مقطوعين عن التاريخ، بل كان لهم ماض كأحسن ما تكلف به الأمم، وكانوا عليه أحرص ما تكون أمة على ماضيها - كما نصفه في غير هذا الموضع - فلا الزمان تولاهم بعمله وهدم في أرضهم بمقدار ما بنى أو قريباً من ذلك، ولا هم ورثوا طباعاً من طباع وأخلاقاً من أخلاق وخرجوا من ماضيهم كما تخرج أمة من أمة في سلسلة طويلة الذرع من حلقات الأجيال التي هي درجات للنشوء في تاريخ كل مجتمع، ولا رأيناهم فيما وراء ذلك كالشعوب التي تمخضها الحوادث مخضاً شديداً، وتتعاورها بالحروب والفتن، فتهدمها أنقاضاً ولا تبدل منها إلا الشكل الاجتماعي، وإلا هيئة الوضع، والأمة بعد ذلك هي هي كيف هدمت وكيف بنيت: لا تزال على أعراقها وأخلاقها، وربما عصفت الثورة الكبرى بأمة من الأمم، وألحت عليها بالفتن دائبة، ثم تسكن العاصفة، وتقر الزلزلة، وتطمئن الأرض وأهلها، ولا يكون من جداء ذلك كله إلا اصطلاح لغوي في تاريخ الأمة لا يغني من الحق شيئاً، كأن تكون الأمة غريرة جاهلة مستبداً بها على وجه من الاستبداد، ثم تصير بعد الثورة غريرة جاهلة أيضاً، ولكن في استبداد على وجه آخرفالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلة الزمان في عمله وآثاره، لأن الذي أنزله بعلمه وقدره بحكمته إنما هو خالق الزمن نفسه، فهدم في نفوس العرب، وكان هدمه بناء جديداً جعل الأمة نفسها قائمة على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ، وهذا هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي.وبين شيء يسمى ممكناً وشيء يسمى معجزاً. بلى، ولقد يخيل إليّ أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرؤوس.فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة، ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة، وكل ما يجيء من قبل الطبع وعلى حكم الفطرة لا يراه أهله نظراً يبلونه أو يردونه، ولكنهم يرونه ضرورة مقضية ليس لهم على حال بد من قبلوها.وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم، ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض، ولم يتخذوا السيف ناباً إلا ليأكلهم، ولا الحرب ضرساً غلا لتمضغهم. . .وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية. ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت، إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع الطود الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين، إن يكن منها فهو لعمرك استخذاء، وإن كان من الجبل فهو لعمري استهزاء. . . ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح، إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم، وساوى بين نفوسهم، وأجرأهم على المعدلة في أمورهم، فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت، لأنها لا توجهه إلا لله، فكان بينها وبين الله كل ما تحت السماء.ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية، فإنّ القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة، ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد، وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها، على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم التربية في الأمم بأبدع منها. فإما التوفيق بين مذاهب قلوبهم، فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير، وأما التأليف بين ألسنتهم فيما ذهب إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر، ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظاً وحفظاً وأداء، لا يجد إليه التبديل سبيلاً، ولا يأتيه الباطل موجهاً أو محيلاً، ولا يدخله التحريف كثيراً أو قليلاً، بحيث كأنه عقدة لغوية لا تتحلل منها الألسنة المختلفة أبداً، وهذا من أرقى معاني السياسة، فإنّ الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق، وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها، فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد، وفيها كذلك التغرير والخطار، والكذب والخداع، ولكل من أهلها شرعة ومنهاج. فبقاء القرآن على وجهه العربي، مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم، من الأسود، إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد، فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه، وانتفى من صفته الطبيعية، لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله، إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه. وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى: فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال، ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة، ولا يؤثرون عليه رضى، ولا يعدلون به عدلاً، ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله، ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه، ثم هم لا يرون أنفسهم المؤمنة في إحساس الفطرة، ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها ( أي الأرض ) ويشبه بعضها بعضاً بالصفة والخاصة أنى وجدت وكيف اتفقت وعلى أي حالة كانت، وهذا كله مشاهد فيهم على أتمه وأبلغه، بعد كل ما رهقهم بالعجز عن مداولة الأيام، وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام. على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسونه، ولا يتصلون إلى سببه، وكأنما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم، وقد بقي القرآن على ذلك معروفاً مجهولاً، بنفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجعلون ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليهم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا ). وإن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن: أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية، من الأنفة والعزة والصوت والغلب: وما يكون من هذا الباب الاجتماعي الذي لا يزال يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض. كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غمرهم، وكانوا أهل ذمتهم: لانتحالهم العربية طوعاً أو كرهاً، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت، ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة، وما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية، بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ، وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها، حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط، ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعياً أو ملتهماً.ثم لا يمكّن لهم من دينهم، ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استحقاقهم بالأمة التي وثبت لهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد، فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان، ولا تشدد للسان خذله القلب، ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم، وتلك سنة من السنن ( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً ) ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن، وهو بعد زمام السياسة مهما جمحت في الأرض. ولقد ترى اليوم هذه التوراة وهذه الأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصلية إلا شرذمة قليلة من اليهود وغير اليهود الذي يعيشون على أحلام الذاكرة.ولا نرين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد، ثم استبدلت الألسنة واللغات بهذه الكتب، فهي شريعة ولا هي جنسية جامعة، وإنما نراها في كل أمة من الأمم نفسها، ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها، وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرؤون فيها إلا إذا أرادوا الاستغراق في رؤيا تاريخية، والعارف عارف من يثبت فصولها ومعانيها، أو يعرف ذلك فضل معرفة. وانظر كم تر بين صنيع القبائل الجرمانية ( الغوط ) وبين صنيع العرب، فإن أولئك أعاروا على إيطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا أن ملكوها حتى ملكتهم، إذ تركوا أهلها وعادتهم من اللغة - وغير اللغة - ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية، حتى رغبوا في العلم، فاستجادوا المهرة من علماء الرومان، ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها، فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية، وهم قرؤوها بها وأقروها عليها، فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها، وأدالت اللغة الرومانية لأهلها منهم، فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا في لغة قبلها ألا فأقبل أنت على هذا المعنى وتدبره حتى تحكم ما وراءه، فلقد تركوها آية بينةوبعد، فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض.ولن تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية.وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها.واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق، وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد، إذ تعلق الدين والسياسة معاً بقرع واحد من الفروع، هو الذي نقلت إليه التوراة، فاهتر وربا وأروق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هي معه إلى زيغ حتى انطوت في ظله، ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي، ونسيت نسيان الميت. وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان: الإنكليزي، والهولاندي، وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر، ثم أناف الإنكليزي حتى صار ما عداه من ظله، وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت في الأصل الجرماني، كالأسوجي والايسلندي وغيرهما. واللاتينية، فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطيانية والإسبانية وغيرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهاً في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود. فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي، حتى صارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. .لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادة العقل بل مادة الحياة، وقد يكون العقل في يد صاحبه يضن به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله - سبحانه -: ( إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحَفظون ). ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية زمنا بعد زمن، ولخرجت بها الكتب، ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي - من يضطلع من ذلك بعمل، إن لم يكن مفسدة فمصلحة يزعمها، كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية، حتى خرج منها اللسان الطلياني، وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي، وهو العامي من اليونانية.ولو أنّ أحدا استقبل من ذلك شيئاً وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمراً بعض ما فيه العنت كله والضياع بجملته، ولشق على نفسه في بلوغ إرادة لها من شعور كل نفس عدو، حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس في بدء لأن له مدة نفسه وحدها وللناس عمر التاريخ كله، ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين، وأراد أن يتولى عمل التاريخ، فليس بدعاً أن يجعله التاريخ بعض عمله، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. ^

آداب القرآن

ونحن الآن تلقاء نوع آخر من الإعجاز الأدبي، وهو ضريب تلك المعجزة السياسية التي أومأنا إليها في الفصل المتقدم، وسنقول فيه على وجه من الإيجاز والتحصيل، فإنَّ آداب هذا الكتاب الكريم إنما هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع أنّى وجدت وحيث تكون.إذا لم يراوغ الناس معنى الإنسانية في أنفسهم، ولم يتمنوا فيها الأماني الباطلة، ولم يصدموها بالعنت بين كل رغبة ورغبة وبين كلّ رأي ورأي، لا ترى أنّ أمّة تفضل حتى تضيق هذه الآداب عنها، أو قبيلاً يلتوي حتى تكون منه بمقصر، أو قوماً يصلحون حتى لا تصلح لهم، فإنها بعد آداب الفطرة التي لا تتغير في هذا الخلق، على ما بين طوائفه من التباين، وعلى الضروب المختلفة من أسباب هذا التباين وعلله، مما ترجع جملته إلى تنوع الصورة النفسية العامة التي تنشأ من الأفكار والعادات وما إليها من الأجزاء التاريخية التي تجتمع منها الأمم، وتنشأ منها قواعد الحكم وضوابط الاجتماع ونحوها من الكليات التي يتألف تاريخ الأمة من آثارها. ولا شيء يشبه نظام هذه الفكرة في تسويتها بين الناس على ما وصفنا من أمرهم، إلا نظام الجاذبية في تأليفه بين الأجرام المتفاوته وإمساك جملتها على اختلاف ما بينها وتباعدها فيما وراء ذلك، وليس نظام الجاذبية في التسبب لإصلاح العالم الكبير إلا شبهاً من الفطرة النفسية، ولا نظام هذه الفطرة في الإنسان الذي هو العالم الصغير إلا شبهاً من تلك الجاذبية.وكلاهما يغني شأناً أراده الله من خلق السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. وقد خرج الناس من أصل واحد ولا تزال طبيعة لحياة فيهم واحدة، فكل ما أمكن أن يرجع إلى النفس الإنسانية ونظامها فهو في أصله وطبيعته شيء واحد وجنس متميز، وإنما الذي يتغير في الإنسان مظاهر فكره، إذ هو يستمد هذا الفكر مما يتقلب عليه من الحوادث، ومما يريغه من الأمور، وذلك شيء ليس في الناس على قدر واحد ولا صفة معينة ولا أمر مستقر، لا يغادر الدهر أن يزيد بسبب وينقص بسبب، والناس بعد ذلك متفاوتون فيه بالزيادة والنقص جميعاً.فما كان من الآداب الاجتماعية ناشئاً من العادة التي هي بعض مظاهر الفكر، فهو كالعادة نفسها: يدور معها ويتغير بحسبها، وما كان منها راجعاً إلى طبيعة النفس التي هي مصدر الفكر، فهو يشبه أن يكون طبيعة للاجتماع الإنساني وعلى مقدار ما فيه من قوة الملاءمة لطبيعة النفس أو ضعف هذه الملائمة يكون ضعف الحياة الأدبية فيه أو قوتها. وما يزال أمر الآداب الصحيحة في كل جيل من الناس يرمي إلى غاية بعينها من الإنسانية المطلقة التي لا تحد بألوان المصورات كما تفصل حدود الأمصار والممالك، فإنَّ الله لم يلون الناس تلوينا جغرافياً. .وذلك مما يدل على أنّ نوعاً من الإنسان لا تجزئه شرائع أرضه وعاداتها عن الآداب النفسية التي تجعل الفرد إنساناً من الناس قبل أن تجعله تلك الشرائع وتلك العادات فرداً من أمة، فإن فصل ما بين حق الأمة على الفرد من أبنائها، وبين حق الآداب عليه، وهو أن كل أمة تريد أفرادها على أن يكونوا أبداً مع الحال التي تتفق بها مصلحة على وجه أمرها، وإن كان في ذلك المفسدة وكان فيه معنته ومأثم، وكان فيه كل ظلم للإنسانية ومراء في الحق وإصرار على الباطل، وأن لا يدعوا لها سبيلاً إلا ركبوه، ولا هوى إلا حطونه فيه، ولا منفعة إلا هدموا دور جيرانهم ليفتحوا بابها، ولا حاجة إلا قطعوا أسباب حلفائهم ليعترضوا أسبابها، فإنّ هذه الإنسانية وهذا الحق وذلك الباطل ليست غير أدوات سياسية تعمل في تحريك كل مجموع سياسي يسمونه الأمة، وقلما تتخذ السياسة لها فعلاً إذا أرادت أن تضرب في الأرض، إلا من 'جلود' القوانين الممزقة. غير أنّ الآداب تحتم على الفرد أن يكون أبداً مع الحق، لا مع الحالة التي تسمى حقاً في لسان من تنفعه وباطلاً في لسان من تضره، إذ الحق في اعتبار الآداب ما كانت في مصلحة الإنسانية نفسها باعتبار النظام الذي يعمها، لا مصلحة جزء منها باعتبار النظام الذي يخصه، ومبدأ الإنسانية قائم على أن الله لم يخلق إلا صنفاً واحداً من الناس، ولكن مبدأ كل أمة سياسية أنها هي ذلك الصنف الواحد. فلولا الآداب النفسية في طبائع الإنسان، وما تمكنه من صلات الناس بعضهم ببعض، وما تعطف منهم جماعة على جماعة، وما تطلق من حد المساواة، وما تحد من معنى الجزية، لكان وجه الأرض قد تغير بما يشملها من الفوضى الإنسانية، ولانتقض أمرها، ثم لكانت الشرائع نفسها أشد في إفسادها من الفساد كله، ثم لصارت كل أمة كأنها جنس من الحيوان: في قيامه بنفسه، وانفراده بنوعه، وتميزه بالعداوة لغيره، فهَهنا آكل وهَهنا مأكول، فإذا العالم قد أودى وقطع دابر القوم الذين ظلموا. والشريعة في الجملة لا تعدوا أن تنزل من كل مجموع من الناس منزلة المرشد المصرف للأفعال على جهة بيّنة من الحكمة، وطريقة لائحة من المنفعة، فهي في الحقيقة عقل هذا المجموع الذي يعقل به وينقاد لأمره، ثم هي بعد ذلك من المنزلة في نفسها بحسب ما تبلغه من الوفاء بأسباب السعادة، والكفاية بحاجات الاجتماع، إلى سائر ما تشبه فيه العقل الإنسانية التي بها الحياة، والتي هي الكفيلة دائماً بتحقيق النسبة بين العقل وبين أغراضه المعقولة وبين الأشياء التي هي مادة هذه الأغراض. فالآداب لا تكون في الإنسانية إلا شرائع، ولكن الإنسان إذا عري من الأدب النفسي، فربما شرع لنفسه ما لا يصنع الشيطان أخبث منه بل ما يركض فيه الشيطان ركضاً، وقلما انتفع من لا أدب له بشريعة من الشرائع وإن كانت في الغاية التي لا مذهب وراءها في تهذيب النفس ودرء المفسدة عنها بحسم مادتها أو ما سبيلها أن تردبه، من تقويم الطباع، وتثقيف الأخلاق وتثبيت الإرادة، وتعيين الحد النفسي لكل منزع إلى الخير وإلى الشر، حتى تستوضح للمرء مذاهب نفسه، فيمضي إذا مضى على بينة، ويعدل إذا عدل عن بينة وانظر ما عسى أن يكون موقع الشريعة من نفس ترى أن كل هذه الآداب التي توجب لها المنافع على الناس مجتمعين لا توجب عليها للناس منفعة. من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخلق الإنساني المحض الذي لا يضعف معه الضعيف دون ما يجب له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدب عقيدة لا فكراً إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازع كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عين الله لا تنفك ناظرة إليه من ضميره. وبين أن الاجتماع إنما هو شيء روحاني، وأنّ الأمة لا تجتمع إلا بقوة من قوى التجاذب الروحي، تبنى عليها الإغراض الاجتماعية التي هي المبادئ الأولى في الحياة.وعلى حسب الصفة الروحانية التي يقوم بها الاجتماع، ثم قوة المادة الروحية فيها، يكون أمر هذا الاجتماع إلى القوة أو الضعف، وإلى الثبات أو الاضطراب، وإلى أن يكون مستحصداً أو منتكثاً، وعلى قدر ما يفقد من صفته يفقد من نفسه، فإذا زالت تلك الصفة وانسلخ منها، تعاورته صفات المادة فصار كالشيء المادي الذي تعمل فيه كل الأسباب الظاهرة تركيباً وتخليلاً، فلا يتصل الفرد بغيره من الأفراد اتصالاً ثابتاً لا تنفصم عروته، ثم لا يكون من الأفراد إلا مجموع فرد إلى فرد على هذه الصفة عينها، وما من شعب منحط إلا وهو مثال لهذا الاجتماع المادي الذي يمتاز أكثر ما يمتاز بالصفة العددية وما كان من اسبابها مما هو على الضم، والضم وحده لا يغني في الاجتماع شيئاً. وأنت إذا تدبرت هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنّك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجعاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله، فحيثما استقرت منها ذرة وقع وراءها عربي بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داع للصنم وراع للغنم، وعالم على وهم، وجاهل على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إليهم أطرافها. وليس من دليل في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلاً اجتماعياً كذلك الجيل الأول في صدور الإسلام، حين كان القرآن غضاً طرياً، وكانت الفطرة الدينية مؤاتية، وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقاً جديداً، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعاً، والعلوم قاطبة، لم تنشئ جيلاً من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكن الإيمان إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون في الإنسان من طهار الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحق، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله. وهذا على كثرة عديدِهِم و ترادف تلك الآداب فيهم، و تظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم، وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك، بل يجعل هذه الأرض مثال السماء لأنه في نفسه مثال الملك. وماذا تريد من علوم الأخلاق وعِبَرِ الاجتماع وفلسفة التربية وآداب السلوك وما إليها مما يُبتغى ذريعة في كل وجه من إصلاح الإنسانية.إذا كانت كل هذه إنما تلتمس الناقص أو المعوج أو الفاسد أو الضال، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصح إليه على طريق من الجدل والمدافعة والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغاً ولا تؤخذ إلا على أنها ثِقاف ودربة وتمكين، وما كل الناس يحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا القيام، وهي بعد وإن كانت علماً غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة ويشوبها الاجتماع ويفسد عليها الظن والتأويل.فكل كتاب من كتبها خيال رجل كامل على الحقيقة ؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجل في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه - لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة ( اليمين ) جميعاً ؛ إلا أن تصيب ذلك في الفطر والندرة. وإنما كان ما علمت، لقصور هذه الآداب عن استبطان حقائق الفطرة الإنسانية، والكشف عن دخائلها، واستنارة دفائنها، ونمثل مذاهبها النفسية على الوجوه التي تذهب إليها هي لا تلك الوجوه التي يمضي فيها النظر والتأمل والحدس والقياس والتنظير ونحوها من وسائل العلماء إلى الاستنباط والاستنتاج والى القطع والتقرير، حتى خرجت تلك الآداب من أن تكون آدابا إلى أن صارت قضايا متداخلا بعضها في بعض، واقيسة يفضي بعضها إلى بعض، فصارت كالشيء المختلف الذي لا ينفك يخذل بعضه بعضا ؛ لحملها على العقل دون الخلق، واعتمادها على جملة الفائدة دون الطريقة التي تنتهي إلى الفائدة، وبذا ضعفت آثارها في النشء من دون الطفولة، فضلا عن ذوي العنفوان من الأحداث ومن أغفال الرجال، إذ لم تمازج أنفسهم ولا داخلت طبائعهم المتطلعة التي إنما يكون الشر بها شرا، فلم تثبت ثبات العادة، ولا أغنت غناء الدين، وبقيت التربية كما هي: للدين والعادة. وانما انفردت آداب القران الكريم في ذلك الجيل الذي عرفت من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحيا يوحى إلى كل من يفهمه ويقف عنده متثبتا بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكر ويملأ الصدر عجبا ؛ وهذا تفسير ما جاء في الأثر من أن 'من قرأه فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه'. وذلك - أي ما وصفناه من شبه الوحي - ظاهر التحقيق فيمن تدبر القرآن من أهل الذوق في اللغة والبصر بأسرارها والمعرفة بوجوه الخطاب والحنكة في سياسة المنطق، فكيف به في قوم كالمضرية من هذه الغرباء: تنبع اللغة من ألسنتهم، وتجري الفصاحة على ما أجروها، وتنزل البلاغة على حقوقها وعلى أماكن حظوظها من حكمهم ورضاهم، وهم بعد ذلك من هم في تصريف القول والافتنان فيه، وسعة الحيلة في التأني لإبرازه واجتماعه على الغاية، حتى تعود الجملة الطويلة لفظاً واحداً، والمعنى البعيد لحظاً قريباً وحتى تصير حروفهم كنبض البرق في اشتماله ما بين أقطار السموات، على أنه إشارة ودون الإشارة، ثم كيف بذلك في قوم كأولئك العرب وهم كانوا من حس الفطرة بحيث يفسخ البيان عقد طباعهم، وينض قواهم المبرمة، ويرخي معاقدهم الوثيقة، بل كيف به يومئذ، وقد كانوا يأخذونه عن لسان أفصح خلق الله منطقاً، وأصحّهم أداءً، وأجملهم إيماء، وأبدعهم في الإشارة، وأبينهم في العبارة.وهو صلى الله عليه وسلم كان بينهم مظهر خطاب الله لأولي الألباب، وتفسير كلّ ما في القرآن من الأخلاق والآداب. بذلك استطاع القرآن أن يؤلف من العرب، وكانوا بشراً لا نظام لهم - أكبر جماعة نفسية عرفها تاريخ الأرض، وكان عملها في الأرض وفي تاريخها على حساب ذلك في روعته وغرابته وقوته وفائدته، إذ وجدت من آداب القرآن قلباً اجتماعياً عاماً استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والاعتقاد، وأحالها كلها فكراً واحداً يستمد قوته من الخلق الذي قلم به لا من العقل الذي ينشأ عنه، وليس يخفى أنّ العقل هو مظهر تاريخ الأمة ولكن الخلق دائماً لا يكون إلا من مصدر هذا التاريخ فلا جرم لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذ لم يكن قائماً على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق. وإنما صح هذا لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ الذي تحوله الأمة لنفسها من أعمار أبنائها والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في هذا الأمة كلها لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين طبقات هذا الأمة نازلها و عاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد. ولايشتدّ القرآن الكريم في شيء فيجيء به على العزيمة القاطعة التي لا مساغ للعذر فيها ولا وجه للتعلل عندها، كما تعرف ذلك منه في الأخذ بالأخلاق الاجتماعية، فإنه لم يجعل في أمرها على الناس هويداء ولا رويداء، بل إمضاها وأعلنها ورفع من شأنها وجعلها من عزائمه، حتى لايشك فيها من عسى أن يشك في غيرها، ولا يرتاب من ربما كانت الريبة من أمره وحتى أنه لما وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبلغ الصفات وأشرفها و أسناها، لم يزد على قوله: ( وإنكَ لعلى خلقٍ عظيمٍ ). فكان الأصل الأول فيه لهذه الأخلاق هو ( التقوى ).وهي فضيلة أراد بها القرآن إحكام مابين الإنسان و الخلق، و إحكام مابين الإنسان و خالقه ولذلك تدور هذه الكلمة و مشتقاتها في أكثر أياته القرآنية و الاجتماعية ؛ و المراد بها أن ينفي الإنسان كل مافيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره، لتكون حدود المساوة قائمة في الاجتماع، لاتصاب به ثلمة ولا يعتريها وهن: وكل ما أصاب الاجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين بديّا.لأنّ هذه التقوى هي مصدر النيّة في المؤمنين بالله، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالا ولا تنفكّ متطلعة منازعة، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويغمضون في تقواه و يترخصون في زجْره ووعيده، فكأنهم لا يبالون ما بالوا أمر أنفسهم، وكأنّ ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لا يحفل بالله نفسه، وهو أمر كما ترى.يريد القرآن أن يكون المنبع الإنسانيّ في القلب، ثمّ أن يبقى هذا المنبع ما بقي صافياً ثرّاً لا يتعكر ولا ينضب، كأنمّا في القلب سماء ما تزال تمدّ له من نور وهدى ورحمة. وهذا الأصل - أصل المساواة - هو الذي كشفه القرآن بقوله - عزّ وجلّ -: ( يأيّها الناس إنّا خلقنكم مّن ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقكم ) فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعيّة التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفرق فيها الجنس الإنسانيّ كلّه وهي الخلق من ( الذكر والأنثى ): وكيف وصف الغاية الاجتماعيّة للناس شعوباً وقبائل بأنّها ( التعارف )، لم يزد على هذه اللفظة التي لا تشذّ عنها فضلية من فضائل الاجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة اجتماعيّة يمكن أن تدخل في مدلولها ولن تجدها إلّا منصرفة عنها في الغاية. ثمّ تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبيّ العظيم، فجعل أكرم الناس المتساوين جميعاً في الحالتين الفرديّة والاجتماعيّة، هو أتقاهم، أي أعظمهم خلقاً، لا أوفرهم مالاً، ولا أحسنهم حالاً، ولا أكثرهم رجالاً، ولا أثقبهم فهماً، ولا أعلمهم علماً. ولا أقواهم قوّة، ولاشيء من ذلك وأشباه ذلك ممّا لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلّا في إدبار الدولة واضطراب الاجتماع وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنّه دربة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائل صرفة لا شوب فيهاولا يمكن أن تفسر ( التقوى ) على التحديد والتعيّين في كلمة تستوعب كلّ معانيها وما يتّصل بها إلّا كلمة واحدة، هي ( الخلق الثابت ) ومهما أدرتها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلّها فإنّك لا تجد اسماً واحداً يلبسها لا فاضلة عنه ولا مقتصّراً عنها. لا جرم أنّ هذا الأصل الاجتماعيّ الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الأية، هو الأصل الذي انشعبت منه كلّ فضائل المساواة والحريّة، وإنّه لذلك مقام على الايمان، إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وإنّه يقضي بكلّ أنواع الحريّة التي تفيد الاجتماع، وكلّها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أنّ الذي ننبه عليه من فضلية التقوى أو الخلق الثابت في القرآن، أنّه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطّباع الموروثة وما لا بدّ للنفس الإنسانيّة في التخلّق به من الكد والمعالجة ومن شدّة الاعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانيّة التي هي أصل الفطرة وغريزة الجبلّة - أن هذا كلّه في وصف الفضيلة وجماع الأمر لا يزيد عب كونه ( أقرب للتقوى ) وذلك في قوله تعالى: ( ولا يجرمنّكم شنان قوم على ألّا تعدلوا اعدلواْ هو أقرب للتّقوى واتّقواْ ) والشنان: العداوة والغصب وما في حكمهما.وهذا على أنّهما ( من قوم ) لا من فرد كما ترى في الأية الكريمة ؛ فينطوي في هذه الإضافة الحرب والاستعمار وغيرهما فتأمّله. ثمّ اعتبر القرآن أنّ خير الأمم على الإطلاق إنمّا هي الأمّة التي تتبسّط ي مناخي الاجتماع على هذا ( الخلق الثابت )، فإنّ مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعيّة إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهيّ عن المنكر ؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثمّ مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد: وهو الإيمان بالله ؛ فالأمّة التي تكون لأفرادها فضلية التقوى، تكون لها من هذه الفضلية صفات اجتماعيّة مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخيّة واحدة، وهي أنّها خير أمّة على هذا جاء قوله تعالى: ( كنتم خير أمّةٍ أخرجت للناس تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكر وتؤمنون َ بالله ) فتأمّل كيف قدّم وأخّر ؛ فإنّك لا تجد هذا النسق إلّا ترتيباً لمنازل الفضلية الاجتماعيّة الكبرى تجعل الأمّة في خير أمّة ؛ وبالحري لا تجد هذا الترتيب إلاّ نسقاْ في وصف الآداب الإسلاميّة التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوها وأخذوا بها خير أمّة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه. وإنما أركان الفضلية الاجتماعيّة الكبرى في ثلاث.كلّها حريّة واستقلال:استقلال الإرادة وقوّتها وهذا هو الذي يكون عنه ( الأمر بالمعروف ) لا يكون بدونه ألبتة. استقلال الرأي وحريّته، ويكون منه ( والنهيّ عن المنكر ) ولا يمكن أن يكون بغيره. استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيماناً على الحقيقة بدونه ثمّ هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين أنفاً ويشدهما ويقيم وزنهما الاجتماعيّ، فيبعث على الأمربالمعروف والنهيّ عن المنكر بثقة إلهيّة لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعري الناس من ضعف الطباع الإنسانيّة، كالجبن والنفاق، والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجلة.ونحوها ماينقم الناس بعضهم من بعض.وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدّها عمّا هي بسبيله.فإنّ كلّ هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفّق مع صحّة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقويّ والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك ومتى كان الأمربالمعروف والنهيّ عن المنكر غير راجعين إلى الإيمان بالله دخلا في الأهواء الإنسانيّة، فتجيء بها علّة وتذهب بها علّة، فيعود أمر الإنسانيّة إلى التأكّل والمهارشة والنزاع الحيوانيّ فإنّ الحيوان في كلّ ما يسطوبه إنمّا يأمربمعروف هو معروفه وينهى عن منكرهو منكره وحده. فانظر.هل جاءت علوم الفلسفة والاجتماع بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن بما ينقض هذه الحقيقة ؟ وهل قرّرت إلاّ تفسيرها بوجوه ضعيفة مضطربة لاتبلغ في الكمال مبلغها ولا تقارب هذا المبلغ ؟ وهل في الآداب الإنسانيّة التي قامت عليها الأمم لهذا العهد مثل أن تكون سعادة الإنسان منفعة الناس، وإن احتمل في ذلك المكروه، واقتحم الصّعاب وبذل من ذات نفسه وحفظ من حقّ غيره ما يضيّعه ولو ضاع هو فيه، وذكر من واجبه ما ينساه ولو كان ذلك ممّا يفقده وينسيه، ثمّ لايكون هذا حتى يكون مقدّماً على سعادة نفسه التي هي الايمان، تقدم السبب على المسبّب: كما يؤكّد ذلك نسق النظم في الأية الشريفة التي مرت بك. اللهم إنّه دينك الذي شرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنسانيّة الذي قلت فيه: ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت اللهِ الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللهِ ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمونَ ). تلك جملة من القول في الخلق والعقل ؛ فلمّا ضعفتْ أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغن عنهم من الخلق شيئاً، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الامبراطرة الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمّة في العلوم والآداب، إذ امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معاً، إذ كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر ممّا كان لها من قوّة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فأنّه يعلو، غير أنّ علوّة لا يكون من بعد إلاّ سبباً في سقوطهوما فرّط المسلمون في أداب هذا القرآن الكريم إلاّ منذ فرّطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمه، ولا يدركون حكمه، ولاينزعون أخلاقه و شيمه ؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عريبّة كانت شرّاً من العجمة الخالصة واللّكنة الممزوجة، فلا يقرّون هذا الكتاب إلّا أحرفاً، ولاينطقون إلّا أصواتاً، وتراهم يرعونه أذانهم و هم بعد لا يتناولون معاني كلام الله إلّا من كلام الناس، وفي هؤلاء الجاهل والفاسق والوضّاع والقصّاص وذو الغفلة والمتّهم في دينه وفهمه، ومن أكبر عرضه من القرآن حجج المخاصمة وبيّنات الجدل في مقارعة أو الردّ على مذهب أوه التأوّل لرأي أو النضح عن فئة، أو مايشابه ذلك وأولئك جمهور من يفهم عنهم المسلمون إلّا نادراّ، ولا حكم للنادر. وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبين ما في البيان، وأسدّ ما في الرأي، وأبدع ما في النصيحة، وبما هو التامّ الجامع لكلّ ذلك - إذا جعلت تملأ به مسامع الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهاً من وجوه الاستهواء، ولا تملك إليهم سبباً من أسباب التأثير، ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها - إلّا في فنون من جهل الجهلاء ولغط العامّة وأوهام السّخفاء، وفي انتقاص الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلّا قلوبهم مساغاً ( بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ). لاجرم كانت هذه علّة العلل في أنّ القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهله ما كان له من قبل، ولا بعض ما كان له ؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يجروه من ذلك على حقّه، بل أصبحوا لا يستحون من الله أن يجعلوا قراءة كتابه ضرباً من العبادة اللفظيّة يرجون عند الله حسابها ؛ ويبتغون في الأعمال ثوابها، ولا يشكون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابها، على أنهم ( يخدعونَ اللهَ والذينَ أمنوا وما يخدعونَ إلّا أنفسهم وما يشعرونَ ). ذلك وجه الإعجاز الأدبي في القرآن، وهو متصل باللغة اتّصالاَ سببيّاَ كما رأيت ؛ ثمّ هو وراء الجنسيّة العربيّة التي بسطنا القول فيها ؛ لأنّه تحقيق تلك العصبيّة الروحيّة، أمّا حقيقة هذا الإعجاز ممّا يتعلّق بحال الآداب نفسها وكونها أداب الفطرة المحضة التي تمادّ الزمن لأنّها مادة الإنسانيّة، ولأنهّا فصل مابين الإنسان في حيوانيته وبين هذا الحيوان الناطق في إنسانيته ؛ فالقرآن كلّه برهان هذه الحقيقة، ونحن ملمّون بها إلماماً على ما بنا من الضعف وعلى ما بها من القوّة، وعلى أنّه ينبغي أن تكون الإفاضة فيها غرض كتاب برأسه في بيان ما هي الجهات المقابلة من علوم التربيّة والاجتماع وفلسفة الشرائع، فإنّ هذه العلوم بما انتهت إليه وعلى جملتها وتفصيلها، ليست إلّا شروحاً مبسوطة للمبادىء القليلة التي هي ملاك الآداب، والتي حصرها القرآن حصراً محكماً، وجاء بها على سردها وجهاتها، كما يتبيّن ذلك من يقرؤه قراءة بحث وتأمّل ؛ ومن زعم أنّ هذه الآداب علم أو هي تكون علماً فلا يقصّر سبيل الحجة إليه طول الخصومة في زعمه مهما أطلنا ؛ فإنّ أصل الأمر في الآداب حالة النفس لا العقل ؛ وكم رأينا في أجهل الناس من سلامة النفس ورحب الذّرع وإخلاص الطويّة وصدق اللسان والقلب وضروب من الآداب كثيرة، مالم نر بعضه ولا الخالص من بعضه في العلماء عامّتهم أو أكثرهم ؛ وإنّما ( ذلكَ هدى اللهِ يهدى بهِ من يشاء ومن يضللِ الله فما له من هادٍ ). وقوام الإنسانيّة في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إليه أداب القرآن:الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبّد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلة فاصلاً طبيعياً بين فرد وفرد، وبين أمة وأخرى، فتقسّم هذا الجنس أنواعاً متباينة بطبيعتها، ثمّ ينشقّ النوع إلى أجناس، ثمّ كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظام الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسان مع تقادم الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعة ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع. الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانيّة فيما يبتلى به الإنسان من الخير والشرّ فتنة، حتى لا يحيف القويّ ولا يستيئس الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تبانيها في السياسة إلى جهة واحدة من هذه النسبة المعيّنة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزاهز، كالحروب ونحوها، إلّا عملاّ إنسانيّاً ينبتغى به دفع اعتداء وإقرار حق وردّ باطل وتقويم زيغ، إلى أمثالها ممّا هو في حدود المرحمة والمبرة، وليس يعدو بحال من الأحوال أن يكون وسيلة من وسائل الزجْرِ والتأديب، إذ قد خلا من ابتغاء الهلكة ورغبة الفناء وإبادة الخضراء، وبرىء من معايب هذه السياسة الحيوانية التي لا تقوم لها قائمة إلاّ باعتراض الغفلة وانتهاز الضعف وبالكيد والمخاتلة، وتنزّه مع ذلك عن دناءة الممقصد وسفال الغاية وسوء الذريعة، وعن الخبث الإنسانيّ في الجملة. الثالثة: حدّ هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوّة الأزليّة، حتى يتحقّق معنى المساواة فيها، فإنّ كلّ ما هو أدنى فهو سواء في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض.ولولا هذا الحدّ لما أمكن أن يجمع الناس على أداب يكون من غايتها أن تحوط الإنسانيّة فيهم، إذ يبعدون هذه الإنسانيّة من قلوبهم إلى ما وراء إنكار والتكذيب لها، فلا يبقى لأدابها وجه تعتبر منه أو يؤخذ به في أمرها ومن ثمّ لا تكون الإنسانيّة إلاّ الغلطة والفظاظة في الأقوياء، وإلاّ الذلّة والمسكتة في الضعفاء، وتكون كلّ ذرة تسقط على الأرض من نعل القوي تفتح في الأرض قبراً لرجل ضغيف، فلا تعمل في العمران يومئذ إلاّ ألات الهلاك والدمار، حتى يبقى الإنسان من الدينا كأنّه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ولذا كانت الأديان الإلهيّة كلّها متّفقة في حدّ هذه النسبة التي أشرنا إليها، بل كان الحدّ أساس الاعتقاد في جميعها، لأنّه أساس كلّ نظام إنسانيّ في الأرض. وهذه الثلاث فإنّما هي جماع ماتقول به الإنسانيّة المحضة في صفاتها الإلهيّة التي هي غريزة النفس وصلة مابين المخلوق والخالق، ولذا أمكن أن تكون ( فطرتَ اللهِ التي فطرَ النّاسَ عليهاَ ) وأن تكون من أداب كلّ عصر وجيل، لاتعترضها حدود الزمن ؛ ولاينال منها تقلّب الأيام ؛ ولاتغادر الدهر أن يراها الإنسان من نفسه بحيث وضعها الله، وهي بعد أمهات الفضائل وأصلها الذي تنشقّ منه.وقد نرى هذه الفضائل الاجتماعيّة على اختلافها باختلاف أطوار الناس، على تفاوت مقاديرها فيهم، كيف تلتقي إلى هذه الثلاث ؛ وكيف تدور عليها حتى لا يقطع على الرذيلة بأنّها رذيلة إلاّ كانت تعدو على جهة من تلك الجهات في سبيلها أو غايتها، فأمّا أن تكون في الأرض رذيلة لا تفسد شيئاً من ذلك ولا تلمّ به، فهذا ما لا يكاد يصحّ في عقل صحيح. وأنت إذا تدبّرت أداب القرآن الكريم حيث أصبتها منه، رأيتها قائمة على تلك الثلاث جميعاً.فإنّ روح هذه الآداب كلّها في ثلاث كلمات من قوله - تعالى - ( وما أنزلناَ عليكَ الكتابَ إلاّ لتبينَ لهم الذي اختلفواْ فيه وهدى ورحمةً لقومٍ يؤمنونَ ). فليس في الناس اختلاف كاختلافهم في كلّ ما يردّ إلى تعيين حقيقة النسبة في المساواة بين الإنسان والإنسان، وما الظلم والتعسف والمكابرة والمخاتلة ولا كلّ الرذائل الاجتماعيّة، إلاّ مظاهر متعّددة لهذا الاختلاف بعينه ؛ ولا القوانين والعادات والشرائع وكلّ الفضائل الاجتماعيّة، إلاّ وسائل مختلفة لتبيّن هذا الاختلاف على حدود بيّنة من الحقّ.وهيهات أن يكون للناس هدى إلاّ بالطرق التي يتخذونها لحياطة تلك النسبة ويأخذ بها بعضهم بعضاً.وهيهات أن يصيبوا أثراً من الرحمة لأنفسهم إلاّ بحدّ تلك النسبة وإقامة هذا الحدّ على التقوى التي هي مظهر الإيمان فيما بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وكلّ الوسائل التي تعمل في النهضة الإنسانيّة فإنمّا هي ترجع إلى ثلاث كلمات تقابل تلك الثلاث أيضاً وهي: صلة الحريّة بالشريعة وصلة الشريعة بالأخلاق وصلة الأخلاق بالله.وعلى تفصيل هذه الثلاث جاءت أداي القرآن الذي لو بلغت الإنسانيّة في وصفه بما وسعها ما بلغت مثل قوله تعالى فيه: ( مثانىَ تقشعرّ منه جلود الذينَ يخشونَ ربهم ثمَّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكرِ اللهِ ذلك هدى اللهِ يهدى بهِ من يشاء ).فانظر كيف يكون تصوير العاطفة وتأثيرها العصبيّ وما وراء تأثيرها. لا غزو كان هذا القرآن من أجل ذلك إنمّا يصف جمل الآداب، أي الكليّات الأدبيّة التي تلائم الفطرة في مختلف أزمانها، ولا يقرّر الأخلاق تقريراً وضعيّاً على أسلوب الكتب والمصنفات، فيضعها على أنّ لها قواعد وضوابط وأشباه القواعد والضوابط، ممّا هو مثار الاختلاف ومبعث الفرقة في مذاهب الحكماء، وممّا لا تكون الآداب معه إلاّ معادة على الناس في كلّ عصر بنوع من التنقيح وضرب من التغيير يناسبان اختلاف كلّ عصر عن الذي قبله، بل إنّ المعجزة في هذه الآداب الكريمة أنّها تقرّر الأخلاق تقريراً عاماًَ، فيصفها القرآن على أنّها هي القواعد لغيرها، والضوابط لما يبتنى عليها، ويوردها في أحسن الحديث ؛ ويعترض بها وجوه القصص ويقلّبها مع أغراض الكلام ثمّ لا يكون في ذلك وجه من وجوه الخلاف بينها وبين الفطرة الإنسانيّة، على ما في تلك الآداب من إطلاق، وعلى أنّها غير ملحوظ فيها دولة بعينها أو أمّة بأوصافها، أو نحو ذلك من ضروب الحدّ والتعّيين ؛ فليس فيها من روح الزمن إلاّ روح الزمن كلّه بحيث لا يتأتّى للفيلسوف ولا المؤرّخ إلى أن يردّ أحدهما أو كلاهما في جملتها إلى عصر بعينه لا تعدوه، أو يقصرها على حدّ تقفها عنده الإنسانيّة وتتقدّم بغيرها ممّا يقال فيه إنّه الأصلح أو الأنفع، ولو أنّ الدهر قد فني ثمّ نزع كلّ أمة شهيد وعرضت عليهم أداب القرآن فقابلوها بفضائل أدابهم واعترضوا بعض ذلك ببضعه ثمّ قيل هاتوا برهانكم عليها، لأقرّ الزمن بألسنتهم جميعاً أنّها الحقّ وأنّ الحقّ لله. من أجل ذلك تجد الخطاب الأدبيّ مطلقاً في القرآن كلّه كأنّه نظام إنسانيّ عامّ لا يراد به إلاّ حرية المنفعة للنوع كلّه، ثمّ الموازنة بين مقدار هذه المنفعة و بين مقدار الحريّة التي تنال بها، ليكون كلّ شيء في نصابه الاجتماعيّ، فإنّ إطلاق الحريّة عبث، وإطلاق المنفعة ضرر أو ضرار، ولو سوّغت كلّ أمّة أن تقارف ماتريد بمقدار مايهيئ لها ضعف غيرها من الحريّة في بسط يدها لكان من ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير. وإنّ كلّ أمّة اضطربت فيها الموازنة بين الحريّة والمنفعة، فإنمّا يكون ذلك حاضر تاريخها مبدأ العبودية لغيرها ؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه العلوم الاجتماع لهذا العهد. كذلك كلّ ما في القرآن الكريم من الأمر والنهي، فإنمّا يراد به ضبط الصّلة بين عالم العقل وعالم المادّة على وجه بيّن ؛ ولولا ذلك ما كانت هذه الآداب زمنية تحيي روح الزمن كلّه، بل لكانت من غير هذا العالم، فلا يستقيم لها بشيء ولا تستقيم هي لشيء ثمّ لا تكون في الناس إلاّ عنتاً وإرهاقاً ولا يتهيّأ معها صرف ولا عدل، ولا يكون منها في الزمن إلاّ اسمها، وإلاّ الخبر أنهّا كانت يوماً فتلحق في التاريخ بباب الفضائل الذي لا يلجه إلاّ القليل، مع أنّ وراءه كلّ أسماء الحكماء والفلاسفة. والإنسان إنمّا يصرف ما يشاء من النواميس الثابتة لعالم المادّة فيما يرجع بالنفع والضرر، فإذا أطلقت يده في ذلك فكأنّه جزء ناقص من نظام الكون ؛ أو جزء ينقصه شيء من هذا النظام ؛ بيد أنّ الآداب إذا أحكمت صلته بذلك العالم المادّي على وجه بين حلاله وحرامه، فلا ينحاز إلاّ في حدّ من الحدود المرسومة، ولا يبغي شيئاً لم تتعيّن تبعته، ولا يستدخل في أمر إلاّ وهو في ربقة من نظامه الاجتماعيّ فإنّه يكون قد استكمل حينئذ ما كان ينقصه، أو ما كان يجعله ناقصاً إن خلا منه، وما دامت الحياة مادّة، فللمادّة حكمها في الحياة. وما تدبّر هذا القرآن أحد قطّ إلاّ وجده يطلق لكلّ إنسان - على القوّة والضعف والعزّة والذّلّة - إرادة اجتماعيّة أساسها الفضلية الأدبيّة: حتى لا تكون بطبيعتها إلاّ جزءاً من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادة المجموع، ولقد كانت تلك الإدارة الاجتماعيّة هي الحلم السماويّ الذي أطبق عليه الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعاً، ولم يتحقّق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيح لأداب القرآن ؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبيّة بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتّفق لها أن تبلغ من الفطرة ؛ فكانت أعمالها مظاهر لتلك القوة التي سمّنياها ( الإرادة الاجتماعيّة ) ولو أنّ العلوم كلّها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئاً من غنائه، ولا ردّت عليهم بعض مردّه ؛ فإنّ الفضيلة العقليّة التي أساسها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظريّة التي ربمّا اهتدى بها المرء وربمّا ظلّ بها على علم، ولكنّ الفضيلة الأدبيّة تدفع إلى الإرادة العمليّة دفعاّ ؛ لأنّ هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل، ومتى صحّت إرادة الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعة من عمل الأمّة، ولا بدّ أنّ الأمّة القائمة بأفراد من أمثاله قطعة من عمل التاريخ الاجتماعيّ ؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب التاريخ، وهو وليّهم بما كانوا يعملون. ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلاّ أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأ قبل أن يجعل له شريعة، ثمّ لا يقيم الشريعة إلاّ على هذا المبدأ، فيكون المرء محكوماً بيقينه وفكره لا بظنّه ولا بعادته ؛ وبذلك يكون بناؤه الإنسانيّ قاراً في حيزه الإنسانيّ. وإنه ليستحيل البتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعيّ ما دام له يقين ثابت في أداب المجموع. هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنيّة في كلّ ما تقدّم، تفادياً من الإطالة واقتصاراً على غرض الكتاب، ممّا يجزئ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على الكثير وإن لم تكن هي إيّاه غير أنهّا تعنيّه وتصفه، ومن ضرب بالحدود على فضاء واسع من الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئ النظر الهين أن يطبقه ويستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك من تعرّفه وقياسه واستخراج مبلغ ذرعه ما يبلغ العنت ؛ ما ليس في العنت أبلغ منه. وبالجملة فإنّ القرآن إنمّا يريد بآدابه وعظاته الإنسان الاجتماعيّ لا الصورة الإنسانيّة التي تخلقها العصور التاريخيّة والسياسيّة أصنافاً من الخلق، أو تفتري عليها ضروباً من الافتراء، فهو يريد كلّ ما فيه من الآداب الاجتماعيّة على هذه الجهة لا يعدوها، وليس فيه من آية من الأدب والأخلاق إلاّ وهو يريغ بها ناحية من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روح في أنفس المسلمين لاتغييّر في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنهّا فيهم طبيعة وراثيّة، ولقد كانت هذه الروح - ولم تزل - هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادوا استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممّن اشتدّوا عليه ليخذلوه، ثمّ كانوا بعد ذلك من أشدّ أهله في نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلام لا دعوة له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما شاء الله، إلاّ القدرة التي هي مظهر آدابه أو روح هذه الآداب ؛ فحيثما وجدت طائفة من أهله وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم وإن لم يتسخّر هو من ورائهم الدّعاة المنتخبين ولم يستحثّهم للجولة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدينا ليترامى بهم إلى غرضه في كلّ شرق وتلك دلالة صريحة على أنّه الدين الطبيعيّ للإنسانيّة، إذ تأخذ فيه النفس عن النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط. .وهي حقيقة زمنيّة لم يزل كلّ عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلهاوبعد فما أفصح وأبلغ، وما أصحّ وأوضح ما ورد في صفة القرآن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليسَ بالهزل ).ونحن فما عدونا في كلّ ما قدمناه تفسير هذه الكلمات القليلة، وإنّ فيها بعد لفضلاً، لو وجد له فاصلاً، وقولاً طائلاً، وأصاب له قائلاً.

القرآن والعلوم

وللقرآن وجه اجتماعيّ من حيث تأثيره في العقل الإنسانيّ، وهو معجزة التاريخ العربيّ خاصة، ثمّ هو بآثاره النامية معجزة أصليّة في تاريخ العلم كلّه على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليوم أنهّا لم تكن قبل إلاّ سبباً، فإنّ في الحقّ ما يسع الأشياء وأسبابها جميعاً. وليس يرتاب عاقل - ممّن يتدبرّون تاريخ العلم الحديث، ويستقصون في أسباب نشأته، ويتشبّثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه ؛ وعند الرأي إذا قطعوا به - أنّه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو في كلّ ما يستطيل به، وفي تقدمة وانبساط ظلّ العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحار عمرانه.فإنمّا كان القرآن أصل النهضة الإسلاميّة وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلة في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها، وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط، وتوفير مادّة الرّوية عليه بما كان سبباً في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفات أخرى ليس هذا موضع بسطها - وإنّ لها لموضعاً متى انتهينا إلى بابها من الكتاب - وهذا كلّه كان أساس التاريخ العلميّ في أوروبا.فما من موضع في هذا ( الأساس ) القائم إلاّ وأنت واجد من دونه قطعة من الآداب الإسلاميّة أو العقول الإسلاميّة، أو الحضارة الإسلاميّة، فالقرآن من هذا الوجه إنمّا هو الباب الذي خرج منه العقل الإنسانيّ المسترحل، بعد أن قطع الدهر في طفولة وشباب. وكلّ دين سماويّ فإنمّا هو طور من أطوار النموّ في هذا العقل الإنسانيّ يستقبل به الزمن درجات جديدة في نشأته الأرضيّة ؛ فما التاريخ كلّه إلاّ مقياس عقليّ درجاته وأرقامه هذه العصور المختلفة التي يستعين العقل منها مقدار زيادته من مقدار نقصانه. وأماّ من وجه آخر فإنّ القرآن إنمّا هو الدرجة الأبديّة التي أجاز عليها العالم في انتقاله من جهة إلى جهة.وإنّا لمستيقنون أنّ هذه الدرجة هي نفسها التي سيجيز عليها العالم كرة أخرى ( الله عاقبة الأمور ). وأماّ إنّ هذا القرآن معجزة التاريخ العربيّ خاصة وأصل النهضة الإسلاميّة، فذلك بين من كلّ وجوهه ؛ غير أنّنا سنقول في الجهة التي تتّصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن فيه من هذا الفصل، وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلميّ وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فنقتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية. اختلف المسلمون في قراءة القرآن لعهد عثمان - رضي الله عنه - كما تقدّم في موضعه، وبدأت ألسنة الحضريّين ومن في حكمهم من ضعاف الفطرة العربيّة ؛ تجنح إلى اللحن وتزيغ عن الوجه في الإعراب، وجعل ذلك يفشو بين المسلمين بعد أن اضطراب كلام العرب فداخله الشيء الكثير من المولّد والمصنوع ؛ وذهب أعل الفتن يتأوّلون عن معاني القرآن ويحرّفون الكلم عن مواضعه، وخيف على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الأصل الثاني بعد القرآن ؛ ثمّ فشا الجهل بأمور الدين، وضعف عامّة الناس عن حمل العلم وطلبه، واقتصروا من ذلك على أن يفرغوا إلى العلماء بالمسألة فيما يحدث لهم وما يرجون أن يتفقّهوا فيه، ثمّ تباينت آراء العلماء واختلفت أفهامهم فيما يستنبطون من الأحكام وما يتأوّلون لها من الكتاب و السّنّة، واختلط أمر الناس، وأقبلت عليهم الفتن كقطع الليل، وامتدّت إليهم كأعناق السيل، فكان ذلك كلّه ممّا بعث العلماء أن يفترقوا على جهات القرآن ؛ حياطة لهذا الدين.وقياماً بفروض الكفاية، يستقبل بعضهم بعضاً بالرّفد والمعاونة، ويأخذون على أطراف الأمر كلّه، وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة - رضي الله عنهم - يوم كان العلم فروعاً قليلة، أذ كانت الأعلام بيّنة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبّوة واضحة، ومن ثمّ جعلت العلوم تنبع من القرآن ثمّ تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمدّ بعضاً. قال أحد العلماء: ( فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحريز كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كلّ عشر آيات ؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرّض لمعانيه، ولا تدّبر لما أودع فيه فسمّوا القرّاء ),( واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنيّ من الأسماء والأفعال والحروف العامّة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال.واللازم والمتعدي، ورسوم خطّ الكلمات وجميع ما يتعلّق به، حتى إنّ بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة ). ( واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدلّ على معنى واحد، ولفظاً يدلّ على معنيين، ولفظاً يدلّ على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفيّ منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كلّ منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره ). ( واعتنى الأصوليّون بما فيه من الأدّلة العقليّة والشواهد الأصليّة والنظريّة، فاستنبطوا منه، وسمّوا هذا العلم بأصول الدين ). ( وتأمّلت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي لعموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ). وتكلّموا في التخصيص والأخبار والنصّ والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، وإلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسمّوا هذا الفنّ أصول الفقه ). ( وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام ؛ فأسّسوا أصوله، وفرّعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسمّوه بعلم الفروع، وبالفقه أيضاً ). ( وتلمّحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودوّنوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأولّ الأشياء ؛ وسمّوا ذلك التاريخ والقصص ). ( وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا ممّا فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار - فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسمّوا بذلك الخطباء والوعّاظ ). ( وأخذ قومّ ممّا في آية المواريث من الذكر الّسهام وأربابها وغير ذلك - علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ). ( ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدّالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت ). ( ونظر الكتّاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع ). انتهى تحصيلاً. وإنمّا أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبيّ أميّ وقوم أمييّن لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروباُ من الصفات، وأنواعاً من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلاً ممّا يجري هذا المجرى، فلمّا نزل القرآن بعانيه الرائعة التي افتنّ بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وما درى عربيّ واحد من أولئك لم جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنون المتعدّدة، التي يهيج بعضها النظر، ويشحذّ بعضها الفكر، ويمكّن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل ؟ بيد أنّ الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلاً بيّناً منه على أنّ القرآن كتاب الدهر كلّه ؛ وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة ؛ فعلمنا من صنيع العلماء أنّ القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمّة من كلّ معنى علماً برأسه، ثمّ يعمل الزمن عمله فتخرج الأمّة من كلّ علم فروعاً، ومن كلّ فرع فنوناً، إلى ما يستوفي هذا الباب على الوجه الذي انتهت إليه العلوم في الحضارة الإسلاميّة ؛ وكان سبباً في هذه النشأة الحديثة من بعد أن استدارا الزمان وذهبت الدينا مستدبرة وأنشأ الله القرون والأجيال لتبلغ هذه الحادثة أجلها ويتناهى بها القضاة وإن من شيء إلاّ عند الله خزانته، ولكنّه - سبحانه وتعالى - يقول: ( وما ننزله إلاّ بقدرٍ مّعلومٍ ). ولقد كانت النهضة العلميّة في زمن بني أميّة قائمة بأكثر العلوم الإسلاميّة التي مرّت الإشارة إليها، حتى امتهد أبو جعفر المنصور ؛ ثمّ الرشيد من بعده للنهضة العباسيّة الكبرى التي نشأت من جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمناً وافتراق الكلمة بينهم - ومن إقبال الناس على طلب والاستيعاب ؛ فكان ذلك تهئية لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إليها وظهور أهلها وانحياز السنّة عنها جانباً، ثمّ اجتماعها على مناظرتها ؛ فإنّ لمنصور لماّ حجّ في سنة163 ه لقيه مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه - بمنىّ على ميعاد، بعد الذي كان ممّا أنزل به جعفر بن سليمان عامل المنصور على المدينة من الضرب بالسوط وانتهاك الحرمة وإزالة الهيبة قال مالك - رحمه الله -: ( ثمّ فاتحني ( يعني المنصور ) فيمن مضى من السلف والعلماء فوجدته أعلم الناس بالناس ؛ ثمّ فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظاً لما روى، واعياً لما سمع، ثمّ قال لي: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودّون منه كتباً، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذّ ابن مسعود، واقتصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، ونعهد إليهم أن يخالفوها ولا يقضوا بسواها. فقلت أصلح الله الأمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا.فقال أبو جعفر: ( يحملون عليه وتضرب عليه هاماتهم بالسيف وتقطع ظهورهم بالسياط ) فتجعّل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد ابني ( المهدي ) العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله ). ثمّ قدم المهديّ على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه ( الموطّأ ) فأمر بانتساخها وقرئت على مالك.إلى أن كانت سنة 174 ه فخرج الرشيد حاجّاً، ثمّ قدم المدينة زائراً، فبعث إلى مالك فأتاه فسمع منه كتابه ذلك، وحضره يؤمئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف من رؤسائهم أحد إلاّ وحضر الموسم مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موطأه كلّه، ثمّ أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأول. لا جرم كان هذا سبباً اجتماع كلمة الفقهاء، إن لم يكن ديانة فسياسة، ولم يؤثر من بعدها عن جماعة أهل العراق ما كانوا يستطيلون به على أهل الأمصار الأخرى، من عرض الدعوة وتطويل الحديث، وتخطئة من لا يليهم أو يواليهم ؛ وقد كانوا قبل ذلك يربونهم ويضيّقون عليهم متنفّسهم من العلم، ويرون أنّ هذا العلم عراقيّ، وأنّ ليس الأمر مع غيرهم بحيث إذا هو جدّ فيه رأى المادّة مؤاتية وبلغ منه مثل الذي بلغوه وكان دركه حقيقاً بأن يسمّى عندهم دركاً، ولعلّ ذلك جاءهم في الأصل من قبل العربيّة وأهلها، فقد علمت من ( باب الرواية ) كيف كانوا يبسطون ألسنتهم ويتنبّلون بعلمهم ويذهبون بأنفسهم ؛ إذ لم يكن في الأرض أعلم منهم بالعربيّة ؛ ولا أوثق في روايتها، ولا أجمع لأصولها، ولا أصحّ في ذلك كلّه. ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظريّة والعلل الباعثة عليها، ومن كان مع أهلها من الخلفاء ومن كان عليهم فلذلك موضع في كتاب التاريخ هو أملك به وأوفى، غير أنّنا نوثّق الكلمة في أنّ القرآن الكريم هو كان سبب العلوم الإسلاميّة ومرجعها كلّها - بأنّه ما من علم إلاّ وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادّة علمهم أو مادّة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامّة وأشباه العامّة شديدة على أهل العلوم النظريّة ؛ إلاّ أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسباً من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصداً من مقاصده، أو يريغوا معنّى من معاني التفقه في الدين والنظر في آثار الله، إلى مايشبه ذلك ممّا يكون في نفسه صلة طبيعيّة بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم. وما يزال أثر ذلك ظاهراً في فواتح الكتب العلميّة لذلك العهد على اختلافها فما تستفتح من كتاب إلاّ أصبت في مقدمته غرضاً من تلك الأغراض التي أشرنا إليها او ما يصلح أن يكون غرضاً منها ؛ ثمّ هو أمر ليس أدلّ على تحقيقه من كتب التفسير، فإنّه لا يعرف في تاريخ العالم كلّه - من لدن أرّخ الناس - كتاب بلغت عليه الشروح والتفاسير والأقوال والمصنفات المختلفة ما بلغ من ذلك على القرآن الكريم ولا شبيهاً به ولا قريباً منه، حتى فسرته الرّوافض بالجفر، على فساد ما يزعمون وسخافة ما يقولون، وعلى سوء الدعوى فيما يدّعون من علم باطنه بما وقع إليهم من ذلك الجفر واستنبط منه غيرهم إشارات من الغيب بضروب من الحساب، كهذا الذي ينسبونه إلى الحسن بن عليّ - رضي الله عنه - من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في رؤياه ملوك بني أميّة رجلاً رجلاً، فساءه ذلك، فأنزل الله عليه ما يسرّي عنه من قوله في القرآن: ( إنّا أنزلناه في ليلةِ القدرِ ومآ أدراكَ ما ليلة القدرِ ليلة القدرِ خيرُ مّن ألفِ شهرٍ ) قالوا يعني بألف شهر مدّة الدولة الأمويّة فقد كانت أيّامها خالصة ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر مجموعها ألف شهر سواء وحتى زعم بعضهم أنّ الكلمات التي في أوائل السور إنمّا تحتوي مدى أعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإنّ فيها تاريخ ما مضى وما بقي مضروباً بعضها في بعض، إلاّ كثير من مثل هذا ممّا يخطئه الحصر، وإنمّا أشرنا إلى بعضه لغرابته، ولأنّ أغرب ما فيه أنّه عند أهله من بعض ما يفسّر به القرآن. وقد أوردنا في باب الرواية من التاريخ أنّ أبا عليّ الأسواريّ القاصّ البليغ، فسّر القرآن بالسيّر والتواريخ ووجوه التأويلات، فابتدأ في تفيسر سورة البقرة، ثمّ لبث يقصّ ستاً وثلاثين سنة، ومات ولم يختمه، وكان ربمّا فسر الآية الواحدة في عدة أسابيع لا يني ولا يتخلّف، وليس في هذا الخبر شيء من المبالغة أو التزيّد، بل عسى أن يكون الأمر مع أهل التحقيق والاطلاع أبلغ منه، وهذه كتب التفسير التي عدّها صاحب ( كشف الظنون ) وسرد أسماءها في كتابه، تبلغ ثلثمائة ونيّفاً، والرجل إنمّا عدّ بعضها كما يقول.وأنت فلا يذهبنّ عنك أن كلّ كتاب مها فإنمّا هو المجلدات الكثيرة إلى مائة مجلّد، وإلى ما يفوق المائة أحياناً، فقد رأينا في بعض كتب التراجم أنّ أبا بكر الأدفويّ المتوفى 388 صنّف ( كتاب الاستغناء ) في تفسير القرآن في مائة مجلّد، وكان منفرداً في عصره بالإمامة في أنواع من القراءات والعربيّة وفنون كثيرة من العلم، وذكر الفيلسوف ( أرنست رنان ) إنّه وقف على ثبت يدلّ على أنّه قد كان في إحدى مكاتب الأندلس التي أحرقت تفسير القرآن في ثلثمائة مجلد.و ذكر الشعرانيّ في كتابه ( المنن ) تفسيراً قال إنّه في ألف مجلد. وهذا كلّه غير ماأفرد بالتصنيف من الكتب والرسائل التي لا تحصى في مسائل من القرآن وفي مشكله وغريبه ومجازه ومعانيه وضميره وشواهده وأسلوب نظمه والمتشابه من آياته وأمثاله وحروفه وإعرابه وأسمائه وأعلامه وناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله، إلى كثير من مثل ذلك ممّا حفيت فيه أقلام العلماء، بحيث لا يعلم إلاّ الله وحده كم يبلغ ما وضع لخدمة كتابه الكريم ؛ ولا يعلم الناس من ذلك إلاّ إنّه معجزة من معجزات التاريخ العلميّ في الأرض لم يتّفق له في ذلك شبيه في أول الدنيا إلى اليوم، ولن يتّفق. وقد استخرج بعض علمانئا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع وما يحقّق بعض غوامض العلوم الطبيعيّة، وبسطوا كلّ ذلك بسطاً ليس هو من غرضنا فنستقصي فيه على أنّ هذا ومثله إنمّا يكون فيه إشارة ولمحة ولعلّ متحقّقاً بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم ولا يلتوي عليه أمر من أموره. .لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدلص عليها وإن لم تسمّها بأسمائها، بلى وإنّ في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعوناً على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه، وإنّ فيها لجماماً ودربة لمن يتعاطى ذلك ؛ يحكم بها من الصواب ناحية، ويحرز من الرأي جانباً ؛ وهي تفتق لها الذهن، وتؤاتيه بالمغفرة الصحيحة على ما يأخذ فيه، وتخرج له البرهان وإن كان في طبقات الأرض، وتنزل عليه الحجة وإن كانت في طباق السماء. ولا جرم أنّ هذه العلوم ستدفع بعد تمحيصها واتّصال آثارها الصحيحة بالنفوس الإنسانيّة إلى غاية واحدة، وهي تحقيق الإسلام، وإنّه الحقّ الذي لا مرية فيه، وأنّه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنّه لذلك هو الدين الطبيعيّ للإنسانيّة ؛ وسيكون العقل الإنسانيّ آخر نبيّ في الأرض، لأنّ الذي جاء بالقرآن كان آخر الأنبياء من الناس، إذ جاءهم بهذا الدين الكامل، ولا حاجة بالكمال الإنسانيّ لغير العقول ينبّه إليه بعضها بعضاً، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرضوقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفاً، وذلك قوله تعالى: ( سنريهم آياتنَا في الأفاقِ وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ أولم يكفِ بربكَ أنّه على كلّ شيءٍ شهيد ) ؟ ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانيّة كلّها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ( في الأفاقِ وفي أنفسهم ) هذه آفاق، وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شيء. ذلك وأنّ من أدلة إعجاز هذا الكتاب الكريم أن يخطئ الناس في تفسيره على اختلاف العصور، لضعف وسائلهم العلميّة ولقصر حبالهم أن تعلّق بأطراف السموات أو تحيط بالأرض، ثمّ تصيب الطبيعة نفسها في كشف، معانيه ؛ فكلّما تقدّم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعيّة ناصعة حتى كأنّه غاية لا يزال عقل الإنسان يقطع إليها، حتى كأنّ الآلات حينما توجّه لآيات السماء والأرض توجّه لآيات القرآن أيضاً: ( والله غالبُ على أمره ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمونَ ). ذلك هو الأمر في العلوم الأولى ثمّ الله ينشئ النشأة الآخرة.

سرائر القرآن

بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابنا هذا من كتابنا هذا خرج في الاستانة القديمة. .كتاب جليل للقائد العظيم والعالم الرياضيّ الفلكيّ المشهور الغازي أحمد مختار باشا رحمه الله -، أسماه ( سرائر القرآن ) وبناه على سبعين آية من كتاب الله تعالى فسّرها بآخر ما انتهى إليها العلم الحديث في الطبيعة والفلك، فإذا هي في القرآن منطبق السماء عن نفسها، لا يتكذّب ولا يزيغ ولا يلتوي، وإذا هي تثبت أنّ هذا الكتاب الكريم سبق العقل الإنسانيّ ومخترعاته بأربعة عشر قرناً إلى زمننا، وما ذاك إلاّ فصل من الدهر، وستعقبه فصول بعد فصول. ومعلوم أنّ الزمن تقسيم إنسانيّ محض يلائم وجود الإنسان وفناءه على هذه الأرض المحدودة بمادّتها وأجلها، وإلاّ فليس في الحقيقة أزمان تبتديء أو تنتهي، فإذا ثبت للقرآن المجيد سبقه ما تتوهّمه زمناً وتقدمه حدوداً من آخر حدود العقل الإنسانيّ، على حين أنّه أنزل في حدود غيرها بعيدة ضعيفة لا علم فيها ولا آلات علم - فحسبك بذلك وحده برهاناً على أنّ هذا الكتاب جملة من الأزل تحوّلت في معنى ومنطق، وجاءت لغرض وغاية، ولامست الناس لتكون فيهم سبباً لرسوخ الإيمان، ثمّ نظاماً للإيمان نفسه، ومتى رسخ الإيمان فقد رسخ العالم كلّه في النفس الإنسانيّة.وهذا عندنا من بعض السرّ فيما جاء في الكتاب الكريم من آيات السموات والأرض والنظر والاستدلال، ومن طرق التعبير، التعبير النفسيّ بالأمثال والقصص ونحوها. ثمّ إنّ في ذكر الآيات الكونيّة والعلميّة في القرآن دليلاً على إعجاز آخر فهو بذلك يومئ إلى أنّ الزمن متّجه في سيره إلى الجهة العلميّة القائمة على البحث والدليل، وأنّ الإنسانيّة ذاهبة في أرقى عصورها إلى المذهب، وأنّ الدين سيكون عقليّاً، وأنّ العقل هو آخر أنبياء الأرض، فوجود ذلك فيه قبل أن يوجد ذلك في الزمن بأربعة عشر قرناً، شهادة ناطقة من الغيب لا يبقى عليها موضع شبهة، فإن أسفر الصبح وبقي بعض الناس نياماً لا يرونه وقد ملأ الدنيا فذلك من عمى النوم في أعينهم.وآخرون لا يرونه من نوم العمى في أعينهم والصبح فوق هؤلاء وهؤلاء.و ( فمن أبصرَ فلنفسه ومن عمىَ فعليها ). قال الغازي في مقدّمة كتابه: ( وفي القرآن غير ما يكفل للهيأة الاجتماعيّة سعادتها وسلامتها في معاشها ومعاده ممّا حواه من الدساتير الأخلاقيّة والقضائيّة والإداريّة والسياسيّة وعظة الأمثال والقصص - فيه إشارات وآيات بيّنات في مسائل ما برحي العلوم الطبيعيّة تحاول الكشف عن كنهها منذ عصور، ولا سيّما في علم التكوين والتخريب ( القيامة ) الذي دلّ الآن بنظريات الأخصائيين من علماء الفلك ومباحثهم ومشاهداتهم في طور التقدّم والارتقاء وإنّك لا تكاد تقلب من المصحف الشريف بضع صفحات حتى تجد آية في أسرار الكائنات وأحوال السماء منظومة في نسقها بمناسبة من أبدع المناسبات ). قال: ( وقد فهموا من علم الهيأة السماويّة عظمة الله - تعالى - بعظمة الأجرام التي كانوا يحسبونها نقطاً صغيرة منثورة في السماء.خذ لذلك مثلاً: إدراك عظمة الشمس وكوكب الشّعرى بالنسبة إلى الأرض، فإنّ هذه الأرض إذا نحن فرضناها فرضاً بحجم الحمّصة، تكون مساحة الشمس بالنسبة إليها كمساحة مائدة مستديرة طول قطرها ذراع فرنسيّة، ومساحة سطح كوكب الشّعرى الذي قال الله فيه: ( وأنّه هوَ ربّ الشّعرى ) تبلغ مائة ذراع فرنسيّة بالقياس إلى تلك الحمّصة ). ( وممّا أفدناه من تلك المباحث أنّ عالمنا الناسوتيّ الذي نسميه ( العالم الشمسيّ ) - وتؤلفه طائفة مستقلّة من الأجرام السماويّة تعدّ بالمئات أهمّها شمستا المنيرة وأرضنا وأخواتها من السيارات وما يتبعهنّ من النجوم ذوات الأذباب - يدور بسرعة عشرين ألف ذراع فرنسيّة في الثانية الواحدة، مجتازاً فضاء الله الذي لا نهاية له، كما أشار الله - تعالى - إلى ذلك بقوله: ( والشمس تجري لمستقرّ لها ) ( وأنّ المجرّة العظمى المحيطة بالسماء تحتوي مئات الألوف من العوالم الأخرى. .إلى أن قال: ( إنّ القرآن الكريم آيات بيّنات عن تكوين العالم، كيف كان هذا التكوين، وعن الأطوار التي تنقّل فيها، وعن خلقة الموجودات، وأسباب الحياة، وعن آخرة كرتنا الأرضيّة وعاقبتها التي ستصير إليها في النهاية، ولقد كانت معاني هذه الآيات الشريفة منظوراً إليها فيما مضى من جهة العقائد حسب، ولم يكن أحد يستطيع أن يذهب في تأويلها مذهباً يصدر فيه عن علم، ولكنّ هذه الحالة قد تغيّرت الآن، لأنّ الحكماء الذين نبغوا في العصرين الأخيرين قد أبانوا بمباحثهم العلمية وما كشفوه من الغوامض الدقيقة عن قدرة الله بأجلى بيان، حتى أصبحت علم التكوين صالحة لتفسير آيات الله - سبحانه وتعالى - تفسيراً بديعاً، مع أنّها هي في حالتها الراهنة لم تبلغ بعد حد الكمال ). وبعد أن وصف همم علماء الفلك والرياضة، ووسائلهم ومعرفتهم المسائل الدقيقة، عن الكواكب والشموس والعوالم، وعن حقيقة هذه الكرة التي نعيش عليها وما أفاده المجتمع البشريّ من ذلك، قال: وأفدنا نحن - معشر المسلمين - فوائد عظمية خاصّة بنا، لأنّ هذه المخترعات والمستحدثات وما أدّت إليه من أدلة ونظريات - قد جاءتنا ببرهان جديد على إعجاز القرآن الذي ندين لله عليه، فقرّت بذلك أعين المؤمنين، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. . .قال: وسيرجع الفلكيون موحّدين إذا علموا أنّ الأسرار العلميّة التي يحسبونها جديدة، هي في القرآن كما ظهرت لهم، ومثل من ذلك أنّ العالم الفلكي م.بوانكاريه، قال في مقدمة كتابه المطبوع في سنة 1911 م وهو يبحث في دقة نظام هذه الكائنات وما فيها من مظاهر الكمال، ليس ذلك من الأمور التي يمكن حملها على المصادفة والاتفاق، وأحسب أنّ القدرة التي لا أول لها ولا آخر سنّت للكائنات هذه النظام في عهد ما على أنّ يستمرّ حكمه إلى الأبد، فأذعنت الكائنات لإرادتها راضية طائعة.ثمّ آقرأ قوله تعالى: ) ( ثمّ استوى إلى السماءِ وهي دخانُ فقالَ وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين َ ) ( وتأمل ما في الآية من معان ورموز ؛ ثمّ تصوّر ما في ذلك من ذوق وجدانيّ لأهل العرفان، وقل: ( تبارك الله والمنّة لله ). كتاب سرائر القرآن ثلاثة فصول: الول في كيفية تكوين العالم ووجود الحياة.والثاني في يوم القيامة أو خاتمة عمر الأرض.والثالث في المباحث والآيات القرآنيّة المتعلقة بإعادة الخلق وكلّ مطبق على نظريات وآراء الحكماء الأولين واآخرين إلى عصرنا، ثمّ ما يؤيّد حقيقة ما انتهوا إليه من آيات القرآن الكريم.وكان الغازي يفكر في هذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً، فرحمة الله كفاء ما أحسن إلى أمّته.

تفسير آية

وقد رأيّنا أن نسوق هنا تفسير آية من القرآن الكريم أصبناه في بعض كتب الحكيم العلامة داود الأنطاكي المتوفى سنة 1008 للهجرة، فتح عليه به وهو في أضعف الأزمنة وأشدّها انحطاطاً وفقراً من الوسائل العلميّة. ولا تنسى أنّ الآية أنزلت على نبيّ أميّ في قوم لا يعرفون كثيراً ولا قليلاً من علم التشريح أو علم التكوين، ثمّ إنهّا كذلك ليس في صناعتها البيانيّة شيء ممّا تتحسّن به البلاغة فيبين بنفسه ويجعل للكلام شأناً في تمييزه واستخراج معانيه، كالاستعارة والكناية ونحوها ؛ و لكنّها قائمة على الدقائق التركيب العلميّ والملأمة كل الملأمة بينها وبين دقائق التعبير ؛ ففيها إعجاز في المعنى، ثمّ إعجاز في الصورة ؛ مع إنّها في غرضها وسياقها مظنة أن لا يكون فيها من ذلك شيء ؛ إذ هي عبارة علميّة تسرد سرداً على تكون التقرير والحكاية هذا ممّا يسمو بإعجازها سمّواً على حدة، فإنّه يضع فوق البلاغة ما تكون البلاغة في العادة والطبيعة فوقه. وكلّ ما هذه سبيله من الأيات العلمية في القرآن الكريم فأنت لا بدّ واجد فيه من قوة المعاني أكثر ممّا في العقل العربيّ من قوة الفهم وقوة التعبير ؛ لتكون قوة الدلالة فيه يوم تتهّيأ للأمم وسائلها العلميّة دليلاً من أقوى أدلة الإعجاز. أما الآية فهي قوله تعالى: ( ولقد خلقنَا الإنسانَ من سلالةٍ مّن طينٍ ثمّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مّكينٍ ). والتفسير: قال جلّ من قائل: ( ولقد خلقنَا الإنسانَ ) يعني إيجاداً واختراعاً، لعدم سبق المادة الأصليّة ( من سلالة ) هي خلاصة المختارة من الكيفيات الأصلية بعد الامتزاج بالتفعل الثاني ممّا ركب منها بعد امتزاج القوى والصور، والتنويه باسمه إمّا للصورة والرطوبات الحسيّة، أو لأنّه السبب القوى في تحجّر الطين وانقلابه وكسر سورة الحرارة وإحياء النبات والحيوان اللذين هما الغذاء الكائنة عنه النّطف، وهذا الماء هو المرتبة الأولى والطور الأول، وقوله ( من سلالة ) يشير إلى أنّ المواليد كلّها أصول للإنسان وإنّه المقصود بالذات الجامع لطباعها، ثمّ جعله نطفة بالإنضاج والتخليص الصادر عن القوى المعدّة لذلك، ففي قوله ( ثمّ جعلناه نطفةً ) تحقيق لما صار إليه الماء من خلع الصور البعيدة ؛ والضمير إمّا للماء حقيقة أو للإنسان بالمجاز الأولى ). ( وقوله: ( في قرارٍ مّكينٍ ) يعني الرّحم، وهذا هو الطور الثاني، ثمّ قال مشيراً إلى الطور الثالث: ( ثمّ خلقناَ النطفةَ علقةً ) أي صيرناها دماً قابلاً للتمدّد والتخلّق باللزوجة والتماسك، ولمّا كان بين هذه المراتب من المهلة والبعد ما سنقّرره، عطفها ب ( ثم ) المقتضية للمهلة - كما بيّن أدوار كواكبها، فإنّ زحل يلي أيام السلالة المائية لبردها، والمشتري يلي النطفة لرطوبتها، والمريخ يلي العلقة لحرارتها وهذه الثلاثة هي أصحاب الأدوار الطوال ). ( ثمّ شرع في المراتب القريبة التحويل والانقلاب التي يليها الكواكب المتقاربة في الدورة وهي ثلاثة: ( أحدها ) ما أشار إليه بقوله ( فخلقناَ العلقةَ مضغةً ) أي حولنا الدم جسماً صلباً قابلاً للتفصيل والتخليط والتصوير والحفظ وجعل مرتبة المضغة في الوسط، وقبلها ثلاث حالات وبعدها كذلك.لأنّها الواسطة بين الرطوبة السيالة والجسم الحافظ للصور ؛ وقابلها بالشمس، لأنّها بين العلوي والسفليّ كذلك، وجعل التي قبلها علوية، لأنّ الطور الإنسانيّ فيها لا حركة له ولا اختيار، فكأنّه هو المتولية أصالة وإن كان في الحالات كلّها كذلك لكن هو أظهر، فانظر إلى دقائق مطاوي هذا الكتاب المعجز وتحويله العلقة إلى المضغة يقع في دون الأسبوع. وثانيها: مرتبة العظام المشار إليها بقوله: ( فخلقنَا المضغةَ عظاماً ) أي صلّبنا تلك الأجسام بالحرارة الإليهّة حتى اشتدّت وقبلت التوثيق والربط والإحكام والضبط، وهذه مرتبة الزّهرة، وفيها تتخلّق الأعضاء المنوية المشاكلة للعظام أيضاً ويتحوّل دم الحيض غاذياً كما هو شأن الزهرة في أحوال النساء. وقوله: ( فكسوناَ العظامَ لحماً ) أي حال تحويل الدم غاذياً للعظام لا يكون عنه إلا اللحم والشحم وكلّ ما يزيد وينقص، وهذا شأن عطارد، تارة يتقدّم وتارة يتأخّر ويعتدل، وكذا في اللحم البدن، وهذه المرتبة هي المرتبة هي التي يكون فيها الإنسان كالنبات، ثمّ يطول الأمر حتى يشتدّ، ثمّ يتمّ إنساناً يفيض الحياة والحركة بنفخ الروح، فلذلك قال معلماً للتعجب والتنزيه عند مشاهدة دقيق هذه الصناعة ( ثمّ أنشأناه خلقاً أخرَ فتباركَ الله أحسن الخالقينَ ) وهذا هو الطور السابع الواقع قي حيّز القمر ). وفي هذه الآية دقائق:الأولى: عّبر في الأول بخلقنا، لصدقه على الاختراع، وفي الثاني بجعلنا لصدقه على تحويل المادة، ثمّ عبر في الثالثة وما بعدها كالأول لأنّه أيضاً إيجاد ما لم يسبق. الثانية: مطابقة هذه المراتب لأيام المذكورة ومقتضاتها للمناسبة الظاهرة وحكمة الربط الواقع بين العوالم. الثالثة: قوله فكسونا ؛ وهي إشارة إلى أنّ اللحم ليس من أصل الخلقة اللازمة للصورة، بل كالثياب المتّخذة للزينة وللجمال ؛ وأنّ الاعتماد على الأعضاء والنفس خاصّة. الرابعة: قوله تعالى: ( ثمّ أنشأناه ) سمّاه بعد نفخ الروح إنشاء لأنّه حينئذ قد تحقّق بالصورة الجامعة ). الخامسة: قوله خلقاً ولم يقل إنساناً ولا آدمياً ولا بشراً لأنّ النظر فيه حينئذ لما سيفاض عليه من خلع الأسرار الإلهيّة، فقد آن خروجه من السجن وإلباسه المواهب، فقد يتخلّق بالملكيات فيكون خلقاً ملكيّاً قدسيّاً، أو بالبهيميّة فيكون كذلك، أو بالحجريّة إلى غير ذلك ؛ فلذلك أبهم الأمر وأحاله على اختياره وأمر بتنزيهه على الأمر الذي لا يشاركه فيه غيره. وفي الآية من العجائب ما لا يمكن بسطه هنا، وكذلك سائر آيات هذا الكتاب الأقدس: ينبغي أن تفهم على هذا النمط.انتهى كلام الحكيم المفسّر. وأنت لو عرضت ألفاظ هذه الآية على ما انتهى إليه علماء تكوّن الأجنة وعلماء التشريح وعلماء الوراثة النفسيّة، لرأيت فيها دقائق علومهم، كأنّ هذه الألفاظ إنمّا خرجت من هذه العلوم نفسها، وكأن كلّ علم وضع في الآية كلمته الصادقة، فلا تملك بعد هذا أن تجد ختام الآية إلاّ ما ختمت هي به من هذا التسبيح العظيم ( فتبارك الله )^

إعجاز القرآن

وهذا هو الغرض الذي أردنا إليه الكلام في كلّ ما مرّ من هذا الباب جهة إلى جهة، وأرغنا معانيه فصلاً إلى فصل، وخضنا في ضروبه معنّى إلى معنّى، وقد وقّفناك منه على وجوه عدّة، من سرّ كان مكتوماً، وخبء كان مجهولاً، ومقطع من الحقّ كان مشتبهاً، وكلّها خارج عن طوق الإنسان عندما يتعاطى وعندما يتوهّم وعندما يثبت، وكلّها لم يشهده الزمن إلاّ مرّة واحدة. وإنمّا الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانيّة في محاولة المعجزة ومزاولته على شدّة الإنسان واتّصال عنايته، ثمّ استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدّمه ؛ فكأنّ العالم كلّه في عجز إنسان واحد ليس له غير مدّته المحدودة بالغة ما بلغت ؛ فيصير من الأمر المعجز إلى مايشبه في الرأي مقابلة أطول الناس عمراً بالدهر على مداه كلّه.فإنّ المعمر دهر صغير، وإنّ لكليهما مدة في العمر هي من جنس الأخرى ؛ غير أنّ واحدة منهما قد استغرقت الثانية ؛ فإنّ شاركتها الصغرى إلى حد فما عسى أن يشركهما فيما بقي. ونحن الآن قائلون فيما هو الإعجاز عند علمائنا - رحمهم الله - وما وضعوه فيه من الكتب ؛ ثمّ ما هي حقيقته عندنا ؛ ثمّنبسط الكلام فضلاً من البسط في الإعجاز القرآن بأسلوبه وبيانه ممّا يماسّ اللغة ويستطرق إليها - نستتّم بذلك القول فيما انتهى إليه جهدنا من قليل ما استطفّ لنا من أسراره العجيبة، وإنّ قليلها لكثير على الإنسان بالغة ما بلغت قوّته. ولسنا ندّعي أننّا أشرفنا على الأمد وأوفينا على معجزة الأبد ن فإنّ هذا الأمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمس جوانبه، واقتحم مصاعبه، وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه تركيبه بصورة كلاميّة من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كلّ جهة، وتعاوروه من كلّ ناحية، وأخلقوه جوانبه بحثاً وتفتيشاً.ثمّ هو لايزال عندهم على ذلك خلقاً جديداً، ومراماً بعيداً، وصعباً شديداً وإنمّا بلغوا منه إذ بلغوا منه نزراً تهيّأت لضعفه أسبابه، وقليلاً عرف لقتله حسابه، وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذّر الذي وقفت عنده الأعذار ؛ والإبتغاء الذي انحطّ عنده قدر الإنسان لأنّه ممّا سمحت به الأقدار.

الأقوال في الإعجاز

واعلم أننّا لسنا نلتمس بما نتأتّى إليه من هذا الفصل، ونستأتي به تعب الكتابة في سرده، ونصبنا له من استقراء مذاهب القوم وآرائهم - أن نقيم من ذلك برهاناً صحيحاً، أو نقدّم رأياً صريحاً، فإنّ هذا بعض ما لا يطمع فيه ولا يردّ التعب منه شيئاً على المباحث يكون فيه مطمع فلقد أبعد القوم في المقايسة وأمعنوا في المذاكرة، وأطالوا في الخصومة، وفخّموا ما شاءوا، ومضغوا من الكلام ما ملأ أفواههم، وجاءوا بما هو لعمري فلفسة ومنطق ؛ بيد أنّهم في كلّ ذلك إنمّا توافوا على صنيع واحد من الردّ بعضهم على بعض فمن فلج بحجته فقطع خصمه عن المعارضة، وأفحمه دون المناضلة كان الرأي في الإعجاز ما رآه هو، وكان أكبر البرهان على صوابه عجز خصمه عن تخطئته. . وهذه سبيل من الكلام لا يزال أذاها حاضراً، وسالكها حائراً، فإنّه ما يندفع إليها رأيان متناقضان إلاّ كان أقواهما معتبراً صواباً بحتاً، لا بقوّته ولكن بضعف الآخر، وإن كان هو في نفسه خطأ صراحاً وفساداً صرفاً أو جهلاً وإحالة. وقد مضى أكثر المتكلمين من رؤوس الفرق الإسلاميّة على أن لا يبالون أن يضربوا بآرائهم صفحاً، ولهم في ذلك صلابة يوهمون أنّها صلابة أهل الحقّ وعناد يتلبس باليقين على العامّة وأشباه من أتباعهم فلا تنفعهم نافعة حتى يأخذوا بآرائهم وينتحلوها، ثمّ لا تكون لهم الخيرة من أمرهم بعد ذلك فيما يأخذون ومن يدعون. وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أنّ كلّ فرقة انشعبت في الإسلام وانبسط لها ظلّ - فإنمّا هي عقل رجل ذكيّ واحد ؛ بالغاً ما بلغ أتباعها ومنتحلو عقائدها ؛ فإنّ نبغ في هؤلاء عقل آخر انصدعت الفرقة فخرجت منها فرقة ثانية، وهلمّ جرا. فالمقرّ من أولئك كالمنكر من هؤلاء، مادام سبيل جميعهم من صناعة الكلام، وعلى ناحية المكابرة، وما دام نفي الشك بقوة المنطق كأنّه في المنطق إقرار اليقين بقوة الحقّ فإن سقطت الشبهة وبطل الاعتراض - ولو من عجز أو عيّ أو ما هو في حكمها من عوارض المنطق - فلذلك هو العلم المحض والرأي الصريح، وإلاّ فما دام للشبهة ظل، وللاعتراض وجه - ولو من المعارضة والمكابرة - فلا قرار لذلك الرأي، ولا ثبوت لذلك العلم، ولا يبلغ الجدال منهما رأياً ولا علماً. وعلى هذه الجهة رأينا كلّ أقوالهم في إعجاز القرآن: لا يصنعون شيئاً دون أن ينكر ويدفع، فإمّا أن تتعارض الحجج الكلاميّة فتسقط بعضها بعضاً، وإمّا أن تقوى واحدة منهن فتسقط الباقيات وتبقى هي كلاماً من الكلام لا تصلح لنفي ولا إثبات. وليس من طلب الحقّ ليعرفه كالذي يطلبه ليعرف به، فإنّ الأول ينصف من نفسه كما ينتصف لها، ولكنّ الثاني خصم لا يريده إلا جدلاً وله مع الجدل قوة الحرص على المؤاربة، وشدّة الصريمة في مراوغة ؛ كيما تنتهي إليه الحجة ويقف عنده البرهان فيكون له الصوت المردد ويصير إليه مرجع القول في النّحلة أو المذهب، فهو يعتسف لذلك ولا جرم يسلك كلّ طريق، ويركب كلّ طريق، ويركب كلّ صعب، ويتحمّل من كلّ وجه، ويتعنّت بكلّ آية، وليس له همّ دون قوة الإقناع المنطقيّة، ودون الإفحام والتعجيز ومن ثمّ لا يبالي أن يتورّد خصمه بالسفه، أو يقرّ له بالسخف، أو يتبسّط على الباطل أو يحتجز دون الحقّ، ما دامت هذه كلّها أدوات في صناعة الكلام، وما دام الكلام قادراً بأدواته على أم يصنع الحقّ أو ما يسمّى حقّاً، وإن كانت الصنعة فاسدة أو سقيمة، وكانت التسمية من خطأ أو ضلال. من أجل ذلك قلنا أنّه لا يستقيم لنا برهان صحيح ممّا نصبنا لاستقرائه في الفصل، ولكنّ أكبر غرضنا منه أن ندلّ على تاريخ الكلام في القرآن وإعجازه ؛ فإنّ ذلك واضح النسق بين السرد فيما تهيّأ لنا من هذه الآراء التي نؤديها كما هي: وفاء بحقّ التاريخ وتوفية لفائدة ما نحن بسبيله. كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن، مقالة تعزى إلى رجل يهوديّ يسمّى لبيد بن الأعصم فكان يقول: إنّ التوراة مخلوقة، فالقرآن كذلك مخلوق، ثمّ أخذها عنه طالوت ابن أخته وأشاعها، فقال بها بنان بن سمعان الذي إليه تنسب البنانيّة، وتلقّاها عنه الجعد بن درهم ( مؤدّب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ) وكان زنديقاً فاحش الرأي واللسان، وهو أول من صرّح بالإنكار على القرآن والردّ عليه، وجحد أشياء ممّا فيه.وأضاف إلى القول بخلقه أنّ فصاحته غير معجزة، وأنّ الناس بقدرون على مثلها وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلاّ من بعده، إذ كان أول من تكلّم بها في دمشق عاصمة الأموييّن، وكان مروان ( ويلقّب بالحمار ) يتبع رأيه، حتى نسب إليه، فقيل مروان الجعديّ. ولم تظهر بعده فتنة القول بخلق القرآن إلا زمن أحمد بن أبي دؤاد وزير المعتصم ( سنة220 ) وكان أول من بالغ في القول بذلك عيسى بن صبيح المقلب بالمزدار الذي إليه تنسب المزدارية كما سيأتي. ثمّ لمّا نجمت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة ممّا وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شئون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظراً صرفاً، وبين الدين على كونه يقيناً محضاً وتغلغلوا في ذلك حتى خالف بعضهم بعضاً بمقدار مايختلفون في الذكاء وبعد النظر، فتفرقوا عشر فرق، واختلفت بهذا آراؤهم في وجه إعجاز القرآن اختلافاً يقوم بعضه على بعض، فيبدأ فارغاً وينتهي كما بدأ وإن كثر في ذات نفسه. فذهب شيطان المتكلمين أبو إسحاق إبراهيم النّظام إلى أنّ الإعجاز كان بالصّرفة، وهي أنّ الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصّرف خارقاً للمادة.قلنا وكأنّه من هذا القبيل هو المعجزة لا القرآن. وهذا الذي يروونه عنه أحد شطرين من رأيه ؛ أمّا الشطر الآخر فهو الإعجاز إنمّا كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية. وقال المرتضى من الشيعة: بل معنى الصّرفة أنّ الله سلبهم العلوم. . .التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن.فكأنّه يقول إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ولا يستطيعون ما وراء ذلك ممّا لبسته ألفاظ القرآن من المعاني ؛ إذا لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأي بين الخلط كما ترى. غير أنّ النظّام هو الذي بالغ في القول بالصرفة حتى عرفت به، وكان هذا الرجل من شياطين أهل الكلام، على بلاغة ولسن وحسن تصرّف، بيد أنّه شبّ في ناشئة الفتنة الكلاميّة، فلم ينتفع بيقين.وقال فيه الجاحظ وهو تلميذه وصاحبه وأخبر الناس به: ( إنمّا كان عيبه الذي لا يفارقه، سوء ظنّه وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف.ولكنّه كان يظنّ الظنّ ثمّ يقيس عليه وينسى أنّ بدء أمره كان ظنّاً، فإذا أتقن ذلك وأيقن، جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه ؛ ولكنّه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكان كلامه إذا خرج مخرج الشهادة القاطعة لم يشكّ السامع أنّه إنمّا حكى ذلك عن سماع قد قلنا: وهذا بعض ما ذهب بفضل بلاغته، وغطّى على أثره، ونقض أمره عروة عروة، وجعله في أكثر آرائه بعيداً عمّا هو من غايته، مدفعاً إلى ما ينزل عن حقّه ؛ حتى جاء رأيه الذي علمت في مذهب الصّرفة دون قدره بل دون علمه، بل دون لسانه، وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم الذين افتتحوه وابيدعوه، لكان ذلك مذهباً من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنّهم قد عرفوا، وإلاّ فإنّ من سلب القدرة على شيء بانصراف وهمه عنه، وهو بعد قادر عليه مقرن له، لا يكون تعجيزه بذلك في البرهان إلاّ كعجزه هو البرهان، إذ كان لم يعجزه عدم القدرة.لكن أعجزه القدر وهو لا يغالب والمرء ينسى ويذكر، وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزاً، وقد يعتريه السأم ويتخوّنه الملال، فينصرف عن الشيء وهو له مطيق، وذلك ليس أحقّ بأن يسمّى عجزاً من أن يسمّى تهاوناً، ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة. على أنّ القول بالصّرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام الفاشي من لدن قال به النظام، يصوّبه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغويّ وما إلى ذلك، ولكنّ القوم - عفا الله عنهم - أخرجوا أنفسهم من هذا كلّه، وكفوها مؤنتة بكلمة واحدة تعلّقوا عليها، فكانوا فيها جميعاً كقول هذا الشاعر الظريف الذي يقول:

كأنّنا والماء منْ حولنا

قوم جلوس حولهمْ ماء

ولم نر أحداً فسّر هذه الكلمة ( الصرفة ) كابن حزم الظاهري، فإنّه قال في كتابه ( الفصل ) في سبب الإعجاز: ( لم يقل أحد إنّ كلام غير الله تعالى معجز، لكن لمّا قاله الله - تعالى - وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته. . .قال: ( وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره ).نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافياً أيضاً ؛ لأنّه لمّا قاله ابن حزم وجعله رأياً له، أصاره لا يحتاج إلى غيره. . .وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلاّ إثبات أنّه كلام الله تعالى ؟وعلى الجملة فإنّ القول بالصّرفة لا يختلف عن قول العرب فيه: ( إن هو إلا سحر يؤثر ) وهذا زعم ردّه الله على أهله وأكذبهم فيه وجعل القول به ضرباً من العمى ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرونَ ) فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد. أمّا الجاحظ فإنّ رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربيّة، وهو أنّ القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أنّ الرجل كثير الاضطراب، فإنّ هؤلاء المتكلمين كأنمّا كانوا من عصرهم في منخل. . .ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصّرفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها عن عرض، فقد سرد في موضع من كتاب ( الحيوان ) طائفة من أنواع العجز، وردّها في العلّة إلى أنّ الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم، ثمّ عدّ منها: ( ما رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحدّاهم الرسول بنظمه ) وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه وهو شيئ ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلاّ من تنبّه له أو نبّه عليه، أو هو يكون ناقلاً، ولا ندري. وبعض الفرق، فإنّهم يقولون: إنّ وجه الإعجاز في القرآن هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم، في مطالعه ومقاطعه وفواصله ؛ أي فكأنّه بدع من ترتيب الكلام لا أكثر. وبعضهم يقول: إنّ وجه الإعجاز في سلامة ألفاظه ممّا يشين اللفظ: كالتعقيد والاستكراه ونحوهما ممّا عرفه علماء البيان، وهو رأي سخيف يدلّ على أنّ القائلين به لم يلابسوا صناعة المعاني. وآخرون يقولون: بل ذلك في خلوّه من التناقض واشتماله على المعاني الدقيقة. وجماعة يذهبون إلى أنّ الإعجاز مجتمع من بعض الوجوه التي ذكرناها كثرة أو قلّة، وهذا الرأي حسن في ذاته، لا لأنّه الصواب، ولكن لأنّه يدلّ على أنّ كلّ وجه من تلك الوجوه ليس في نفسه الوجه المتقبّل. أمّا الرأي المشهور في الإعجاز البيانيّ الذي ذهب إليه عبد القاهر الجرجانيّ صاحب ( دلائل الإعجاز ) المتوفى سنة 471 ( وقيل 474 ) فكثير من المتوسمين بالأدب يظنّون أنّه أول من صنّف فيه ووضع من أجله كتابه المعروف، وذلك وهم، فإنّ أول من جوّد الكلام في هذا المذهب وصنّف فيه، أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطيّ المتوفى سنة 306، ثمّ أبو الرّمانيّ المتوفى سنة 382، ثمّ عبد القادر، وهذا الرأي كان هو السبب في وضع علم البيان، كما نبسطه في موضعه من تاريخ آداب العرب إن شاء الله. ومذهب آخر لطائفة من المتأخرين: وهو أنّ وجه الإعجاز ما تضمّنه القرآن من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة، في الفواتح والمقاصد والخواتيم في كلّ سورة وفي مبادئ الآيات وفواصلها قالوا: والمعوّل على ثلاث خواص:الفصاحة في ألفاظه كأنّها السّلسال. البلاغة في المعاني بالإضافة إلى كلّ مثل ومساق كلّ قصة وخبر في الأوامر والنواهي وأنواع الوعيد ومحاسن المواعظ والأمثال وغيرها ممّا اشتمل عليه ؛ فإنّها مسوقة على أبلغ سياق. صورة النظم، فإنّ كلّ ما ذكره من هذه العلوم مسوق على أتمّ نظام وأحسنه وأكمله.اه. ومحصل هذا المذهب أنّ الإعجاز في القرآن كلّه لأنّ القرآن كلّه معجز. .وهو معجز لأنّه معجز. ولجماعة من المتكلمين وأهل التقسيمات المنطقيّة على اختلاف بينهم شبه ومطاعن يوردونها على القرآن.وهي نحو عشرين وجهاً، كلّها سخيف ركيك وكلّها واه مضطرب، كلّها غثّ بارد، منها قولهم: إنّ معارضته التي بأنّها مستحلية، حاصلة فعلاً ؛ فإن الله يقول: ( وإن كنتم في ريبٍ مّمّا نزّلناَ على عبدناَِ فأتواْ بسورةٍ مّن مّثلهِ ) قالوا: وكلّ من قرأ سورة منه فقد أتى بمثلها، أي لأنّ من قرأها مثل التي هي في المصحف حرفاً حرفاً لا تختلّف ولا تزيد ولا تنقص. . .فصار الإعجاز عند العلماء من المتأخرين يثبت بنفي هذه الشبه ونقضها، لأنّ سفوط الشبهة الواردة على الدليل، هو نفسه دليل صحته. وهذا برهان لم يكن لهم بدّ منه ؛ فإنّ إنكار الإعجاز لم يقل به أحد من المتأخرين، وإنمّا وقع إليهم على هيئته في كتب الكلام وكتب التفسير التي يدرسونها ؛ فهو رأي ميّت، لو أنكروه بكلّ دليل في العلم لم يزده ذلك موتاً في الأرض ولا في السماء. تلك هي أصول الأدلّة لمن يقولون بالإعجاز، لا نظنّ أنّه فاتنا منها شيء إلاّ أن يكون قبيلاً ممّا زعمه بعضهم من أنّ حقيقة هذا الإعجاز هي أنّ العرب لم يعلموا وجه الترتيب الذي لو تعلموه لوصلوا به إلى المعارضة. . .وهو دليل لا يثبت شيئاً إلاّ عجز قائله وحده. فإن قلت: أتنكر أنّ ما زعموه هو الدليل على الإعجاز وأنّه لا ينهض دليلاً ولا يتماسك إذا نهض، وأنّه زعم على الهاجس ورأي على ما يتّفق، وأنّ مسألة الإعجاز لا تحل بصناعة الأقيسة وملابسة الجدال، وأنّ هذه التقسيمات وصل لا يغني وحشو لا يسمن ؟ قلت في ذلك: لشدّ ما. . . أمّا الذين يقولون إنّ القرآن غير معجز، لا بقوة القدر ولا بضعف القدرة، فقد ذكرنا من أمرهم طرّفاً، وأشدّهم بعد الجعد بن درهم: عيسى بن صبيح المزدار وأصحابه المزداريّة، وكان عيسى هذا تلميذاً لبشر بن المعتمر - من أكبر شيوخ المعتزلة وأفرادبلغائهم - ثمّ كان مبتلى بجنون التكفير، حتى سأله بن السّنديّ مرّة عن أهل الأرض جميعاً، فكفّرهم، فأقبل عليه وقال: الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلاّ أنت، وثلاثة وافقوك ؟. . .ومع هذا فكان الرجل من الزهد والورع بمكان حتى لقّبوه راهب المعتزلة. وقد زعم أنّ الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظماً وبلاغة ؛ وعلى ذلك أصحابه، وهو جنون بلا ريب ليس أقبح منه إلاّ جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العنانيّ الذين يزعمون أنّ كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن.وذلك زعم يكثر أن يكون جهلاً وسخفاً من قوم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وإنمّا هو بعض ما يزينّه شيطان النفاق ( وليعلمنّ الله الّذينَ أمنواْ وليعلمنّ المنافقينَ ).

مؤلفاتهم في الإعجاز:

قد رأيت أنّ أقوال الأولين في إعجاز القرآن وأدلتهم عليه ممّا لا يحتمل البسط والاتّساع إلى ما تفرد له الكتب وتوضع فيه الدواوين.وتلك آراء كانوا يتواردون في المناظرة عليها ويتجارون في تصويبها والاحتجاج لها في مجامع سمرهم وحلقات دروسهم، إذ كان الناس إجماعاً على القول بالإعجاز والمشايعة فيه وكانت الكلمة لا تزال متخلّفة فيهم عن العرب، فهم على علم مذكور من أوّليتهم وسلفهم الذين أعجزهم القرآن الكريم، وعلى عيان حاضر من فصحاء البادية الذين يختلفون إليهم، ومن أهل العربيّة وطائفة الرواة وهذا كلّه ممّا يستند إليه الطبع وإن كان طبع العامّة الذين فسدت لغتهم وآلتوت ألسنتهم. ومرّ الناس على ذلك إلى أوائل المائة الثالثة، فلمّا فشت مقالة بعض المعتزلة بأنّ فصاحة القرآن غير معجزة ؛ وخيف أن يلتبس ذلك على العامّة بالتقليد أو العادة، وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة ولا سليقة لهم في الفصاحة ولا عرق لهم في البيان، مسّت الحاجة إلى بسط القول في فنون سنة 255 كتابه ( نظم القرآن ) وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أول كتاب أفرد لبعض القول في الإعجاز أو فيما يهيئ القول به، وقد غضّ منه الباقلانيّ بقوله: إنّه لم يزد فيه على ماقاله المتكلمون قبله ؛ ولم يكشف عمّا يلتبس في أكثر هذا المعنى ( أي الإبانة عن وجه المعجزة ) وذهب عن الباقلانيّ - رحمه الله - أنّ ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث، غير الذي دعاه هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول الجاحظ أكثر من توكيد القول في الفصاحة والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي آبتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وضعت بعد. بيد أنّ أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنمّا هو فيما نعلم كتاب ( إعجاز القرآن ) لأبي عبد الله محمد بن زيد الواسطيّ المتوفى سنة 306، وهو كتاب شرحه عبد القاهر الجرجانيّ شرحاً كبيراً سمّاه ( المعتضد )، وشرحاً آخر أصغر منه.ولا نظنّ الواسطيّ بنى إلاّ على ما آبتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في ( دلائل الإعجاز ) على الواسطيّ، ثمّ وضع أبو عيسى الرّمانيّ المتوفى سنة 382 كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة، وجاء القاضي أبو بكر الباقلانيّ المتوفى 403 فوضع كتابه المشهور ( إعجاز القرآن ) الذي أجمع المتأخرون من بعدهه على أنّه باب في الإعجاز على حدة، والغريب أنّه لم يذكر فيه كتاب الواسطيّ ولا كتاب الرّمانيّ، ولا كتاب الخطابيّ الذي كان يعاصره، وسنشير إليه، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنّه هو ابتدأ بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتّسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أنّ عهد هذا التأليف لا يردّ في نشأته إلى غير الجاحظ. على أنّ كتاب الباقلانيّ وإن كان فيه الجيّد الكثير، وكان الرجل قد هذّبه وصفّاه وتصنّع له، إلاّ أنّه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهاً من التأليف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: ( لم يكشف عمّا يلتبس في أكثر هذا المعنى ).فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانيّة بين جنس وجنس من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشر إليه أمثلة من كلّ قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدّها في محاسنه وهي من عيوبه. وكان الباقلانيّ - رحمه الله وأثابه - واسع الحيلة في العبارة ؛ مبسوط اللسان إلى مدّى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ ومذهب مقلّده ابن العميد، على بصر وتمكّن وحسن تصّرف، فجاء كتابه وكأنّه في غير ما وضع له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة إلى النقل، إذ كان أكبر غرضه في هذا الكتاب أن ( ينبّه على الطريقة ويدلّ على الوجه، ويهدي إلى الحّجّة ) وهذه ثلاثة لو بسط لها كلّ علوم البلاغة وفنون الأدب لوسعتها، وهي مع ذلك حشو ووصل. على أنّ كتابه قد استبدّ بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربيّة والبيان والنقد ووفى بكثير ممّا قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عدّوه الكتاب وحده ؛ لا يشرك العلماء معه كتاباً آخر في خطره ومنزلته وبعد غوره وإحكام ترتيبه وقوة حجّته وبسط عبارته وتوثيق سرده، فانظر ما عسى أن يكون غيره ممّا سبقه أو تلاه. وما زاد الباقلانيّ - رحمه الله - على أن ضمّن كتابه روح عصره، وعلى أن جعله في هذا الباب كالمستحثّ للخواطر الوانية والهمم المتثاقلة في أهل التحصيل والاستعياب الذين لم يذهبوا عن معرفة الأدب، ولم يغفلوا عن وجه اللسان ولم ينقطعوا دون محاسن الكلام وعيوبه، ولم يضلّوا في مذاهبه وفنونه، حتى قال: إنّ الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها، وقد كانت علوم البلاغة لم تهذّب لعهده، ولم يبلغ منها الاستنباط العلّميّ، ولم تجرّد فيها الأمهات والأصول: ككتب عبد القاهر ومن جاء بعده، فبسّط الرجل من ذلك شيئاً، وأجمل شيئاً ؛ وهذّب شيئاً ونحا في الانتقاد منحى الذين سبقوه من العلماء بالشعر وأهل الموازنة بين الشعراء، وكانت تلك العصور بهم حفيلة. وبالجملة فقد وضع ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصر، بيد أنّ القرآن كتاب كلّ عصر، وله في كلّ من قبلنا، وسيقول من بعدنا فيما يفتح الله به ؛ إن ذلك على الله يسير. وممّن ألّفوا في الإعجاز أيضاً على وجوه مختلفة من البلاغة والكلام وما إليهما: الإمام الخطابيّ المتوفى سنة 388، وفخر الدين الرازيّ المتوفى سنة 606، والأديب البليغ ابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654، والزملكانيّ المتوفى سنة 727 وهي كتب بعضها من بعض. ومن أعجب ما رأيناه أنّ لابن سراقة كتاباً في الإعجاز ( من حيث الأعداد ذكر فيه من واحد إلى ألوف ) وهي عبارة مقتضبة رأيناها في ( كشف الظنون ) ولم يكشف لنا عن معناها، فلا ندري أبلغت وجوه الإعجاز في كتابه ألوفا، أم هذه الألوف غير معجزة، أو هو يحصي ألوفا من آيات القرآن والقرآن كلّه معجزة ؟ على أننّا رأينا في بعض الكتب نقلاً عن كتاب ابن سراقة هذا ما يأتي: ( اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، في ذلك وجوهاً كثيرة كلّها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجاز جزءاً واحداً من عشر معشاره ). قلنا: ولعلّ المؤلف في كتابه نهاية هذا الحساب العشريّ ؛ على أنّ كتابه لو كان ممّا ينفع الناس لمكث في الأرض. . .والله أعلم. ^

حقيقة الإعجاز

أمّا الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حقّقناه بعد البحث، وانتهينا إليه بالتأمّل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية، وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد أسلوبه ؛ ثمّ ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقابلة، واكتناه الروح التاريخيّة في أوضاع الإنسان وآثاره وما نتج لنا من تتبّع كلام البلغاء في الأغراض التي يقصد إليها، والجهات التي يعمل عليها، و في ردّ وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغويّ التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حيّ من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقّة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدّة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه - نقول إنّ الذي ظهر لنا بعد كلّ ذلك واستقرّ معنا، أنّ القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانيّة مبلغاً وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة ؛ وإنمّا هو أثر كغيره من الآثار الإلهيّة، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأنّ له مادّة من الألفاظ كأنهّا مفرغة إفراغاً من دوب تلك المواد كلّها.وما نظنّه إلاّ الصورة الروحيّة للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحيّة للعالم كلّه. فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنسانيّ ؛ ومعجز كذلك في حقائقه ؛ وهذه وجوه عامّة لا تخالف الفطرة الإنسانيّة في شيء ؛ فهي باقية ما بقيت، وقد أشرنا إليها في بعض الفصول المتقدّمة ؛ على أنهّا ليست من غرضنا في هذا الباب وإنمّا مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربيّ.لأننا إنمّا نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير. ونحن في كلّ ما نضعه من هذا الكتاب إنمّا نسلك الجانب الضيّق من الطريق، ونقتصّ الأثر الطامس، ونلتزم الخطّة التي تحمل عليها النفس حملاً.وقد كان فيما قدّمناه، بل فيما دونه، مقنع، لو آثرنا ما تستوطنه النفس، عطفاً على ما تنازع إليه من السكون كلّما انتهت إلى حجّة واضحة، أو استبانت لائحة مفسّرة ؛ ولكنّنا نمضي ما اعتزمنا ؛ فاللهمّ عونك واللهمّ عونكهذا، لابدّ لنا قبل الترسّل في بيان ذلك الإعجاز أن نوطّئ بنبذ من الكلام في الحالة اللغويّة التي كان عليها العرب عندما نزل القرآن، فسنقلّب من كتاب الدهر ثلاث عشرة صفحة تحتوي ثلاثة عشر قرناً ؛ لنتّصل بذلك العهد حتى نخبر عنه كأننّا من أهله وكأنّه رأي العين ؛ وإنمّا سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه الشاهدان: العين، والأذن ؛ إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن يشهد عليهما أحدهما أو كلاهما. بلغ العرب في عقد القرآن مبلغاً من الفصاحة لم يعرف في تاريخهم من قبل، فإنّ كلّ ما وراءه إنما كان أدواراً من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطًرادها على سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وافتنّوا فيه، وتوافى عليه من شعرائهم أفراد معدودون كان كلّ واحد منهم كأنّه عصر في تاريخه بما زاد من محاسنه وابتدع من أغراضه ومعانيه.وما نفض عليه من الصّبغ والرونق ؛ ثمّ كان لهم من تهذيب اللغة، واجتماعهم على نمط من القرشيّة يرونه مثالاً لكمال الفطرة الممكن أن يكون: وأخذهم في هذا السّمت - ما جعل ( الكلمة ) نافذة في أكثرها لا يصدّها اختلاف من اللسان، ولا يعترضها تناكر في اللغة ؛ فقامت فيهم بذلك دولة الكلام ؛ ولكنّها بقيت بلا ملك، حتى جاءهم القرآن. وكلّ من يبحث في تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتى حكمة فإنّه يرى كلّ ما سبق على القرآن - من أمر الكلام العربيّ وتاريخه - إنمّا كان توطيداً له وتهيئة لظهورهه وتناهياً إليه ودرية لإصلاحهم به وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوّية غير أهل هذه الجزيرة، فما كانفيهم كالبيان آنق منظراً وأبدع مظهراً وأمدّ سبباً إلى النفس وأردّ عليها بالعاقبة ؛ ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فزعاً، وأقوم في سمائهم شرعاً، وأوفر في أنفسهم ريعاً وأكثر من سوقهم شراء وبيعاً، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفذ عجبه على طرح النظر وإبعاده وإطالة الفكر وترداده، وأيّ شيء في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغويّة تنتهي بمعجزة لغويّة ثمّ يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمّه ممّا تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم أخرى من تلك المعجزة. هذا على أنّه - كما علمت - أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف من مذاهب تربية الأمم ؛ ولا هو كان طباقاً لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي تظهرها العادات على كلّ دين وشريعة وسياسة، إذ كانت ميراث الدهر، وكانت مستقرة على عرق سار ؛ وفي كلّ شبه نازع، وكانت روح المجموع لا تكون إلاّ منها، ولا تعرف إلاّ بها ولا تظهر إلاّ فيها فما عدا أن سفّه أحلامهم، ونكّس أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى أبائهم الأولين، وقام على رؤوسهم بالتقريع والتأنيب، وهم أهل الحميّة والحفاظ، وأهل النفوس التي تصبّ كالمعاني في الألفاظ ؛ ثمّ ذهب بطريقة كانت لهم معرفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق العمر إلى الفناء فكأنمّا طلع بهم من أولها، وكأنهمّ بعد ذلك على آدابه نشأوا وهم أغفال وأحداث، بل كأنهمّ سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة، فكانوا هم الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقاً للحديث الشريف:: ( خير القرون قرني ثمّ الذي يليه ). لعمرك إنّ هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلاّ أنّ أول جيل أنسل من هؤلاء القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره في أقفال الأرض وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن وكأنّه دار معها في الأصلاب دهراً طويلاً حتى أحكمته الوراثة الزمنيّة، وردّت عليه من الطباع ما لا يتهيّأ إلاّ في سلالة بعد سلالة، وجيل بعد جيل، من قوم قد مرّوا منذ أولهم في أدوار الارتقاء على سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم في أثناء ذلك طبع من طباع الاجتماع، ولا رذلت شيمة، ولا آلتوت طريقة، ولا سقطت مروءة، ولا ضلّ عقل، ولا غوت نفس ولا عرض لهم بغي، ولا أفسدتهم عادة.وأين هذا كلّه أو بعضه من قوم كانوا بالأمس عاكفين على الأوثان فأكل بعضهم بعضاً، ولهم العادات المزدولة، والعقائد السخيفة، والطّباع الممزوجة، إلى غيرها ممّا يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضلية: كحميّة الأنف، واستقلال النفس، وممّا كان من عكس ذلك: كالتسيلم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ، والمضيّ على ما وجدوا، ثمّ الموت على ما ولدوا ؟لاجرم أنّ في ذلك سرّاً من أسرار الفطرة، فلولا أنّ أكبر الأمر بينهم كان للفصاحة وأساليبها، بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغويّة وما بلغوا منها كما فصّلناه في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنّها أعصاب نفسيّة في أذهانهم، تنبعث فيها الإدارة بأخلاق من معاني الكلام الذي يجري فيها.وتعتزّهم على أخلاقهم وطباعهم فتصرفهم في كلّ وجه، كأنّها إدارة جبار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتّئد. ولولا أنّ القرآن الكريم قد ملك سرّ هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم بردّه، ولا لهم معه، ممّا يشبه على التمام أساليب الاستهواء في علم النفس، فاستبدّ بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه، حتى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون في نقصها واستقاموا لدعوته وهم يبالغون في رفضها. . .فكانوا يفرّون منه في كلّ وجه ثمّ لا ينتهون إلاّ إليه، إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربيّة.والمكابرة في الأمور النفسيّة لا تتجاوز أطراف الألسنة، فإنّ اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور ويكابر فيه، إذ هو أداة مغلبّة تتعاورها الألفاظ كما يرمي بها في حقّ أو بطال تمتنع على من أرادها لأحدهما أو لهما جميعاً. . . .. .قلنا لولا ذلك على الوجه الذي عرفت، لما صار أمر القرآن إلى أكثر ممّا ينتهي إليه أمر كلّ كتاب في الأرض ؛ بل لما كان له في أولئك العرب أمر ألبتة ؛ لأنّهم قوم أميّون، قد تأثلت فيهم طباع هذه الأميّة، وكان لهم الشيء الكثير من العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ثمّ هم لم يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم ومن جنح إلى التألّه منهم: كأمية بن أبي الصلت وقسّ بن ساعدة، وغيرهما. وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه، ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون، ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمراً من ذلك ما حفلوا به ؛ ولا استدعى هو منهم الإجابة ؛ لأن لهم منزعاً في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من دول الأرض، ولا أفلح في ذلك من حاوله من ملوك هذه الدول في الأكاسرة والقياصرة والتبابعة.بل خلقوا عرباً يشرقون ويغربون مع الشمس حيث ارتادوا ؛ وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدينا ولم يقلّبهم على تصاريف الأمور غير القرآن. فلو أنّ هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي ألقيت إليهم، لما نال على الدهر منالاً، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثمّ لكانت سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، وهو لم يخرج عنكونه في الجملة كأنّه موجود فيهم بأكثر معانيه، قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثمّ لتقضوه كلمة كلمة، وآية آية، دون ان تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم، ولكان لهم وله شأنّ غير ما عرف، ولكنّ الله بالغ أمره، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أنّ هذا القرآن يكبر أن يكون حيّاً بروح عصره الذي أنزل فيه، فلا يستطيع من لا يقول بإعجازه أن يقصره على زمن الجاهليّة أو يتعلّل في ذلك، وهو بعد من الإحكام والسموّ شرف الغاية وحسن المطابقة بحيث تتعرّف منه روح كلّ أمة قد فرعت الأمم، واستولت على الأمد التاريخيّ، ونالت ما لا ينال إلاّ مع بسطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه العمل، وفضل من القوّة، ومع كمال المنزلة في كلّ ذلك وأشباهه من مقومات الأمّة، فذلك ما علمت. وإنّ ههنا وجهاً آخر هو أعجب ممّا أومأنا إليه، على انّه ضريبه في الحكمة وقسيمه في الاعتبار ؛ إذ هو متعلّق بطبيعة الأرض، كما أنّ ذلك متعلّق بطبيعة أهلها فإنّ من الثابت البيّن أنّ لهيئة الطبيعة جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق ؛ فترى في الجهات المقفرة أو المخفوّفة أو التي يلقي منظهرها في نفسك الرهبّة دون المحبة، والفزع دون الاطمئنان - أقواما كأنمّا نشأوا في معابد، وولدوا في الصوامع ؛ فليس في أخلاقهم إلاّ الاستسلام للوهم والتخيّل، وإلاّ الخوف من كلّ شيء تكون فيه روح الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان، وتزوج السّعالي، ومجاوبة الهواتف، والروغان عن الحنّ إلى الجنّ، واصطياد الشّق، ومحاربة النسناس، وصحبة الرئي، وما كان لهم من خدع الكاهن، وتدليس العرّاف، ومن العيافة والتنجيم والزّجر والطرق بالحصى وغيرها من خرافاتهم المعروفة، ثمّ الخوف من كلّ شيء تعرف فيه روح الطبيعة، كالأوثان وسائر ما قدّسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة، لأنّ هذه الصفات وأمثالها تكتسب من طبيعة الخيال حدّة وشدّة وأنت واجد عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة مطمئنة لا تجتاح أهلها ولا ترميهم بالفزع فإنّهم لا يقرّون على خوف وتوتب، ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادة ما يخيفهم أو تقديس ما اتصلت به روح الطبيعة، ثمّ لا يكونون إلاّ أهل عمل بالحواسّ دون الماضي الذي يجتمع عليه حرص أولئك لأنّه غيب الطبيعة التي يقدّسونها، فكان من أخلاق العرب ماهو مشهور عنهم: من التفاخر بالآباء والأجداد، والذهاب مع الوهم في كلّ مذهب، وعدن المبالاة إلاّ بما يلحقهم بآبائهم ويجعلهم في عداد الماضين، ليكون لهم فيمن يخلفهم من الشأن والتقديس والتعظّم بهم ما كان فيهم لمن تقدمهم فيتّقون سوء القالة وخبث الأحدوثة، وسائر ما يفسد عليهم هذا الشأن، بكلّ ما وسعهم لا يألون في ذلك جهداً، ولا يغمضون فيه ولا يتقدّمون في سدّ غيره قبل إحكامه واستفراع قوتهم له، إلى غير هذا ممّا هو معروف متظاهر عنهم.ثمّ كان هواهم كلّه في الشعر، لأنّه عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، وهو الصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم ؛ فجاء القرآن يسفه تلك الطباع منهم، ويحول بينهم وبين ذلك الماضي، ويصرفهم إلى العمل، ويذهب عنهم نخوة الجاهليّة وتعظمها بالآباء، ويأتيهم بالبصائر من ربهم، ويهديهم بالعقل إلى أسرار الطبيعة ليعلموا أنّها مسخرة لهم فلا يسخروا أنفسهم لها، وحرّم عليهم التقديس وما في حكمه، وبصّرهم بما مسّهم من طائف الشيطان وما نزعهم من أمره، خيالاً أو شعراً أو عبادة، وجعل أفضل الفضائل في الذي قام يدعو وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه ابن يومه، وابن عمله، وابن عقله، فلا هو مفاخر ولا واهم ولا شاعر، وتلك أخصّ فضائلهم الاصطلاحيّة، وخاطبه بهذه الآية الكريمة التي هي روح الثبات في أمم العلم والعمل، وهي قوله: ( وإن كذبوكَ فقل لّى عملى ولكم عملكم أنتم بريئونَ ممّا أعمل وأنا برئْ ممّا تعملونَ ).فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن مع ذلك كلّه ممّا يطابق أرض العرب في طبيعتها وهي ما علمت ؟ وكيف يتّفق أن يكون كلّ ذلك من صنعة رجل قد نشأ فيهم واتّصل بهم وذهبت عروقه بينهم واشجة، وهو من صميمهم نسباً ووراثة، يعرفونه ويحقّقون جملة أمره. . .ولم يخرج عنهم قطّ للعلّم أو الطلب، ولا طرأ عليهم من غير أرضهم، ولا أنكروا عليه أمراً من لدن نشأته إلى حدّ الكهولة، وإلى أن دبّ الشيب في عذاريه وهم مستيقنون أنّه ما كان يتلو من قلبه من كتاب ولا يخطّه ؟وما عهدنا رجلاً من علماء التاريخ قد أهاب بأمّة طبيعيّة كالعرب، ذات بأس وصرامة وحميّة وحفاظ وذات خيال وتصوّر - يدعوها أن تخلع نفسها ممّا هي فيه وأن تضع أعناقها للحقّ الذي لم تألفهم حقاً، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها، وتسوّغه تاريخها وعاداتها وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها وهم لا يرونه في ذلك إلاّ مسخوط الرأي، ذاهب الوهم، بعيداً منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعاً، ولا يرون من أمره ذلك إلاّ قلة وضرعاً وهواناً واستخفافاً وإن كانوا يعرفونه بحسن الخلق وصفاء الذمة وتخشّع السمت، ويعرفون أنّه لا يريد ملكاً ولا يبغي دولة ولا يتصنّع لحدث من الأحداث السياسيّة ولا يهتبل غرة ذاهلة ولا يستعدّ لنهزة سانحة ( وقالواْ قلوبناَ في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليهِ وفي إذاننَا وقرُ ومن بيننا وبينكَ حجابُ فاعمل إنّناَ عاملونَ ). ثمّ هو على هذا كلّه من أمره وأمرهم لا يتأتّى إليهم بالتمويه، ولا يداخلهم بالنفاق، ولا يتألّفهم على باطلهم، ولا ينزل في العقيدة على حكمهم، ولا يداهن في خطابهم، ولا يرفق بهم يتخيّلون وما يعبدون، ولا يحكم ذلك الأمر من ناحية الدهاء والمخاتلة، فيقرّهم على طباعهم ودعاداتهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويمدّ لهم في الغيّ مدّاًَ من أمر ما أعجبهم ومن شأن ما استخفّهم كما يصنع دهاة السياسة وقادة الأمم، وكما صنع داهية أوربا نابليون ؛ الذي انتحل الكثلكة في حرب الفنديّين، وأسلم في مصر، وجهر بعصمة البابا في حرب إيطاليا ؛ وقال مع ذلك: لو كنت أحكم شعباً يهودياً لأعدت هيكل سليمانثمّ يكون مع هذا كلّه من فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر ويستوسق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن يد وهي صاغرة للحقّ وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها المستنفزة وتعطف عليه بقلوبهم الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفّه لأحلامهم، والطاعن عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعاداتهم، وهو الذي خرج من الأمة أولاً، ثمّ أخرج الأمة كلّها من نفسها آخراً كما اتّفق للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ماعهدنا ذلك، ولا عهدنا أنّ الأمم تخرج من طبائعها النفسيّة وتستقيم لمن يلتوى لها مثل هذا الالتواء، وتدخل في أمر، وتثبت على طاعته ومحبته وهو أضعف ناصراً وأقلّ عدّا ؛ إلا أن يغلبها على أنفسها، ويمتلك الخيال بالعنف عليه، ويسبدّ بالتصوّر وهو يسترذله ؛ ومن أين له ذلك إلاّ أن يأتي الفطرة التي هي أساس هذه كلّها، فيملكها، ثمّ يصوغها، ثمّ يصرفها، فإنّ الذي لا يدفع الطبع لا يدفع الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغابئها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد ذلك من كان، وإن جهد وإن بالغوهذا الذي وصفناه، أمر لو ذهبت تلتمسه في تاريخ الأرض كلّها ما رأيت أسبابه الفطريّة في غير أولئك العرب، ولا رأيت تحقيقه في العرب إلاّ من ناحية القرآن وإعجازه، بنظمه وأساليبه وافتنانه على هذه الوجوه المعجزة، التي أقلّ ما توصف بها أنّها السحر، بل السحر بعضها وكان ذلك فيهم فيكونون هم دليله من بعد. وليت شعري ما هو أمر المعجزة في العقل، إن لم يكن هذا من أمره ؟ ( ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ من دونه هو الباطل، وأنّ الله هو العليّ الكبير ).

التحدي والمعارضة:

كان العرب قد بالغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة، ومن دّقة الحسّ البيانيّ، حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنّهم لأول دعوة من بلغائهم وفصحائهم، مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض، وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحسّ باختلاف قبائلهم ومعايشهم، لأنّ الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة، ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلاّ أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يردّ بعضها بعضاً ويدوربعضها على بعض، فيكون كلّ فرد منهم كأنّه لفظ حيّ، وكأنّ معنى حياته في الألفاظ وفيه معاً. وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمّة ظهوره في جاهليّة العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليّتهم الثانية من بعده، حين استفحل أمر الفرق الإسلاميّة واستحرّ الجدال بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلاّ خواصّ واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلاّ الدين والعقل. فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظاً وأسلوباً وعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربيّة التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها، وكانت رأسع أمره وقوام تدبيره، إذ هي بصبغتها العقليّة ومعناها النفسيّ ؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلاّ إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به، بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف ولاضطراب، شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشكّ واليقين. ومن طباع النفس التي جبلت عليها، أنّها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعدّه أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همّها وأصابها الوهن في ذلك، وضربه الخذلان باليأس، فقلّما تنفعها نافعة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى ؛ وقلّما تصنع شيئاً دون التراجع ولاسترسال فيما انحدرت إليه ومجاوزة ما لا تستطيع إلى ما تستطيع. فمن ثمّ لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم، ومن جهة الكلام الذي هو سيد عملهم، بل تصدّعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها، وهم كالحصى عدداً وكثرة، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه، وإلاّ نفر قليل معه، لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مفادتهم ونصرهم إلاّ بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم، فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإنّ لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها، ولهذا قام كلّ فرد منهم في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكأنّه في نفسه قبيلة في مقدارحميتها وحفاظها ونجدتها، وهذا هو حقّ الشعور الذي كان يشعر به كلّ مسلم في السرايا والجيوش التي انصبّت على الأمم أول عهدهم بالفتوح، حتى نصروا بالرعب من بعيد و قريب، وكأنّما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم، وتعدّ المراصد لعدوّهم من نفسه، وتسلبه ما لا يسلبه إلاّ الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا، ويريد أعداؤهم أن يحيوا فيموتوا. . . .وإلاّ فأين تلك الشراذم العربيّة القليلة، من جيوش الروم والفرس، وهي فيها كالشامة في الجلد البعير، ولو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أنّ تخيفيهاعلى أنّ من أعجب ما في أمر العرب أنّهم كانوا يتخاذلزن عن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه، وما اعترضتهم في حجّهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبّة هذا الأمر، وأنّه ذاهب بطريقتهم لا محالة، فلم يجمعوا كيدهم، ولم يصدموه، بل استأنوا به ولبسوه على أمر، وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة، وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة، وليس في ذلك سببّ وراء القرآن ؛ فإنّ كلّ آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعيّ، وتخذلههم في أنفسهم، فلا يحسّون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة.ويكسر ذلك عليهم أمرهم.فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوا له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة، وعزائم واهية، وأمور منتشرة، وخواطر متقسّمة، وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال: من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه، وكان عبرة لغيره، حتى ما يعتزم لهولها كرّة أخرى، فمن سكن بعدها فقد سكنونزل القرآن على الوجه الذي بيّنّاه، فظنّه العرب أوّل وهلة من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وروّحوا عن قلوبهم بانتظار ما أمّلوا أن يطّلعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنسانيّ من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوّة البيانيّة بعد إمعانها، وجماحها الذي لابدّ منه بعد إذعانها، ثمّ ماهو في طبع كلّ بليغ من اختلاف في درجات البلاغة علوّا ونزولاً، على حسب ما لا بدّ منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسيّة المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، ممّا ينقسم إليه الخطاب ويتصّرف القول فيه.ومرّوا ينتظرون وهم معدّون له التكذيب، متربصون به حالة من تلك الأحوال، فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام ؛ وديباجة كالسماء في استوائها: لا وهي ولا صدع، إذا عصمة قويّة، وجمرة متوقّدة، وأمر فوق الأمر وكلام يحاورن فيه بدءاً وعاقبة. وقد كان من عادتهم أن يتحدّى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد و الخطب، ثقة منهم بقوة الطبع، لأنّ ذلك مذهب من مفاخرهم، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلوّ الكلمة ؛ وهم مجبولون عليه فطرة.ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحدّاهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقاً كأنّها قضية من قضايا المنطق التاريخيّ، فإنّ حكمة هذا التحدّي وذكره في القرآن، وإنّما هي أن يشهد التاريخ في كلّ عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدّ والفصحاء اللّسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجئ من الزمن، مولد أو أعجميّ أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أنّ العرب كانوا قادرين على مثله، وأنّه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلاّ الضعيف و بالله من سموّ هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخيّة لأهل الدهر. أمّا الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أنّ التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثمّ بعشر سور مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلاّ النظم والأسلوب، وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . .ثمّ قرن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثمّ استفزّهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفج الرّماد الهامد، فقال: ) ( وإن كنتم في ريبٍ مّمّا نزّلنا على عبدناَ فأتواْ بسورةٍ من مثلهِ وادعواْ شهداءكم مّن دونِ الله إن كنتم صادقينَ فإن لّم تفعلواْ ولن تفعلواْ فاتّقواْ النّارَ الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرينَ ) ( فقطع لهم أنّهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلاّ من الله، ولا يقولها عربيّ في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرّت فيهم ودارت علىالألسنة، وعرفوا أنّها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم آخر الأبد فما فعلوا ولا طمعوا قطّ أن يفعلوا.وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلمّا رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كلّ سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف، كما يبذل المحرج آخر وسعه، وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهن حجّته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا: ساحر، شاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأولين، وإنمّا يعلّمه بشر وأمثال ذلك ممّا أخذت به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز، إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطّباع والعادات، تلميحاً كما تقدّم، وتصريحاً كقولهم: ( أئنّا لتاركواْ إلهتنا لشاعرٍ مّجنون ).وقولهم: ( مّا سمعنا بهذا في إبآئنا الأوّلين ). وأمر العادة ممّا تخدع به النفس عن الحق، لأنّها أعراق ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع، وخاصة في قوم كالعرب كان شهأن الماضي عندهم ما رأيت في موضع سلف، وكانت العادة عنّدهم ديناّ حين لم يكن الدين إلاّ عادة. قال الجاحظ: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ماكانت عدّة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصريق رسالته ؛ دعاهم بالحجّة، فلمّا قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحميّة دون الجهل والحيرة، حملهم على حظّهم باسيف.فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليّهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحاً ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة ؛ أو بآيات يسيرة، فكلّما ازداد تحدّياً لهم بها، وتقريعاً لعجزهم عنها، تكشّف من نقصهم ما كان مستوراً، وظهر منه ما كان خفيّاً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات.فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلّفه، ولو تكلّفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنّه قد عارض وقابل وناقض، فدّل ذلك العاقل على عجز القوم، وكثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم ؛ وكثرة شعرائهم ؛ وكثر من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمّته، لأنّ سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله ؛ وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه ؛ وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ؛ ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثمّ تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم.فمحال - أكرمك الله - أن يجتمع هؤلاء كلّهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البيّن مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشدّ الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكمّا أنّه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفون ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه.1ه. على انّ التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنّهم عارضوا القرآن، فمنهم من أدّعى النبوّة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآناً كيلا تكون صنعته بلا أداة. . .على أنّه لا أتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه طائفة يستنفرون لأمره ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطاً وضروباً، وقد تبعوه وشمّروا في ذلك حميّة وعصبيّة، وحدباً من الطباع على الطباع فهم في غنى عن نبّوته وقرآنه، وإنمّا رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ماتنزعهم إليه الطبيعة، مقاربة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يردّ ذلك مغنماً، أو ينفّلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثّب إذا صادفوا غرّة وأصابوا مضطرباً، إلى غير ذلك ممّا تزينه المطمعة، ويغرّبه الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل، وبكلّ طائفة من الرأي وبقية من الوهم وتستوي فيه الشّمال واليمين، وتتقدّم فيه الرؤوس والأرجل مبادرة لا يدرى أيّهما حامل وأيّهما محمول. . . ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة وظنّ أنّه قادر عليها يضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كلّ أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة تعرض لك من حمر الوحش في جانب البرّ الواسع ثمّ تغيب وتسفي الريح على آثارها وسنعدّ لك عداً، لتصدر في هذه الدعوى عن رويّة، وتحكم في تاريخ المعارضة عن بيّنة، وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل أنّهم بلغوه، فإنّ حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن.وإنّ الحقّ ليجمع عليه الناس كافة ثمّ يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط، فتكون مكابرتهم فيه وجهاً من الوجوه التي يثبت بها ويغلب:فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب، تنبّأ باليمامة في بني حنيفة عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم، وكان يصانع كلّ إنسان ويتألّفه، ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح، لأنّه إنمّا يتّخذ النبوّة سبباً إلى الملك حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده، وكتب إليه في سنة عشر للجهرة: ( أمّا بعد: فإنّي شوركت في الأرض معك، وإنمّا لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكنّ قريشاً قوم يعتدون. . .). وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرّجّال قد هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين، فبعثه معلّماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشدّ من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، إذ شهد أنّه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول إنّ مسيلمة قد أشرك معه فصدقوه واستجابوا له ؛ وأمروه بمكاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم ووعدوه - إن هو لم يقبل - أن يعينوه عليه، فكان الرجّال لا يقول شيئاً إلاّ تابعه مسيلمة ؛ وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب، ليحكيه ويتشبّه به، وما قطّ عارضه في شيء إلاّ انقلبت الآية معه وأخزاه الله، وفي تاريخ الطبريّ من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحّت أو لم تصحّ. وقد زعم مسيلمة أنّ له قرآناً نزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمّى رحمن. . .يبد أنّ قرآنه إنمّا كان فصولاً وجملاً، بعضها ممّا يرسله، وبعضها ممّا يترسّل به في أمر إن عرض له، وحادثة إن اتّفقت، ورأي إذا سئل فيه وكلّها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان، لأنّه كان يحسب النبوّة ضرباً من الكهانة، فيسجّع كما يسجّعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا، ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه، ولم يجدوا كلام الكهان إلاّ سجعاً فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتي إلى أنفسهم منها. ومن قرآنه الذي زعمه قوله - أخزاه الله -: والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمنا. . .لقد فضّلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه والباغي فناوئوه. . . وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرّم المذق فما لكم لا تمجعون. وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل. . . وقال الجاحظ في ( الحيوان ) عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل من قرآنه ياضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين.نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدّرين، ولا الشارب تمنعين. . . وكلّ كلامه على هذا النّمط واه سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكنّ لذلك سبباً نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به. ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسيّ، ويلقّب ذا الخمار لأنّه كان يقول: يأتيني ذو خمار، وكان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب ؛ وقد تنبّأ على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن، ولا يذكرون له قرآناً غير أنّه كان يزعم أنّ الوحي ينزل عليه، وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ أكبّ ثمّ رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت، يعني: شيطانه، وهذا الأسود كان جباراً، وقتل قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة. طليحة بن خويلد الأسديّ، وكان من أشجع العرب، ويعدّ بألف فارس، قدم على النبيض صلى الله عليه وسلم في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثمّ لمّا رجعوا تنبّأ طليحة، وعظم أمره بعد أن توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكان يزعم أنّ ذا النون يأتيه الوحي - وقيل بل يزعمه جبريل ولكنّه لم يدّع لنفسه قرآناً: لأنّ قومه من الفصحاء، ولم يتابعوه إلاّ عصيّبة وطلباً لأمر يحسبونه كائناً في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم، وإنمّا كانت كلمات يزعم أنّها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة، رأيناها في معجم البلدان لياقوت، وهي قوله: إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئاً، فاذكروا الله قياماً فإنّ الرغوة فوق الصريح. وقد بعث أبو بكر - رضي الله عنه - خالد بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة.فلمّا التقى الجمعان تزمّل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحيّ وطال ذلك منه، وألحّ المسلمون على أصحابه بالسيف، فقال عيينة: هل أتاك بعد ؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد فأعاد إليه مرتين، كلّ ذلك يقول: لا.فقال عيينة: لقد تركك أحوج ما كنت إليه فقال طليحة: قاتلوا عن أحسابكم، فأمّا دين فلا دين ثمّ انهزم ولحق بنواحي الشام.أسلم بعد ذلك، وكان له في واقعة القادسيّة بلاء حسن. وسجاح بنت الحارث بن سويد التميميّة.وكانت في بني تغلب ( وهم أخوالها ) راسخة في النصرانيّة، وقد علمت من علمهم وتنبّأت فيهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، فاستجاب لها بعضهم وترك التنصّر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل، وكانت تقول لهم: إنمّا أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فالملك ملككم.وقد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر - رضي الله عنه -، ومرّت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها.وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها ؛ وخافها مسيلمة، ثمّ اجتمعا وعرض عليها يتزوجها.قال: ( ليأكل بقومه وقوم العرب ) فأجابت، وانصرفت إلى قومها ؛ فقالوا: ما عندك ؟ قالت: كان على الحقّ فاتبعته فتزوجته.ولم تدع قرآناً، وإنمّا كانت تزعم إنّه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعاً، كقولهم حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفّوا دفيف الحمامة، فإنّها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة. وفي رواية صاحب الأغاني: أنّه كان فيما ادّعت، أنّه أنزل عليها: ياأيّها المؤمنون المتّقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكنّ قريشاً قوم يبغون.وهي كلمة مسيلمة، وقد مرّت آنفاً. ثمّ اسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها، وما كانت نبّوتها إلاّ زفافاً على مسيلمة.وما كانت هي إلاّ امرأةوالنّضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدّعوا النبوة ولا الوحيّ ولكنّهم زعموا أنّهم يعارضون القرآن، فلفّق النضر هذا شيئاً من أخبار الفرس وملوك العجم، ومخرق بذلك لأنّه جاء بأخبار يجهلها العرب. . .ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل، لحماقته فيما زعم، وإنمّا ذكرناه نحن إذ كنّا لا نرى الباقين أعقل منه. . . وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور: زعموا أنّه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثمّ مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. وهذا عندنا إنمّا هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أنّ كتاب الدرة اليتيمة لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأنّ الكذب لا يدفع إلاّ الكذب، وإذا قال هؤلاء إنّ الرجل قد عارض وأظهركلامه ثقة منه بقوّته وفصاحته، وإنّه في ذلك من القرآن وطبقته، وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر، قال أولئك: بل عارض ومزّق واستحيا لنفسه. . . أما نحن فنقول: إنّ الروايتين مكذوبتان جميعاً، وإنّ ابن القفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة ؛ لا لشيء من الأشياء إلاّ لأنّه من أبلغ الناس.وإذا قيل لك إن فلاناً يزعم إمكان المعارضة ويحتجّ لذلك وينازع فيه، فاعلم أنّ فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين: إما جاهل يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس ؛ ولن يكون ( فلان ) ثالث ثلاثةوإنمّا نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من البلغاء، لأنّ فتنة الفرق الملحدة إنمّا كانت بعده، وكان البلغاء كافّة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه ؛ ثمّ كان ابن المقفع متّهماً عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة. ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب، وكان متّهماً بها أو كان له عرق في المجوسيّة، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة: لا لأنّنه زنديق، ولكن لأنّه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة. وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أنّ حكم قابوس بن وشمكير وقصصه، هي من بعض المعارضة للقرآن ؛ فكأنّهم يحسبون أنّ كلّ ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله ؛ وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ؟ ومثل قولهم: إنّ القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها. وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي وكان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام ؛ فبسط لسانه في مناهضة الشريعة، وذهب يزعم ويفتري، وليس أدلّ على جهله وفساد قياسه وأنّه يمضي في قضية لا برهان له بها - من قوله في كتاب ( الفريد ): ( إنّ المسلمين احتجّوا لنبوة نبيّهم بالقرآن الذي تحدّى به النبيّ فلم تقدر على معارضته ؛ فيقال لهم: أخبرونا: لو أدّعى مدع لمن تقدّم من الفلاسفة. . .مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، إنّ إقليدس، ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوّته تثبت ؟ ). قلنا: فاعجب لهذا الجهل الذي يكون قياساً من أقيسة العلم. . .واعجب ( للكلام ) الذي يقال فيه: إنّ هذا الكتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب ؛ ولمّا كان كذلك فأحدهما مثل الآخر ؛ ولمّا كان أحدهما معجزاً فالثاني معجز لا محالة.وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني.وما دمنا نعرف أنّ صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوّة فنبوة صاحب الأول لا تثبت. . .لعمري إنّ مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الروانديّ سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشدّ هذيان عرفه الأطباء قط ؛ وإلاّ فأين كتاب من كتاب ؟ وأين وضع من وضع ؟ وأين قوم من قوم ؟ وأين رجل من رجل ؟ ولو أنّ الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخطّ عليه، لكان كلّ كتاب في الأرض ككلّ كتاب في الأرض ولا طردّ ذلك القياس كلّه على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا: إنّ كلّ حمار يتنفس، وابن الراونديّ يتنفس، فابن الراونديّ يكون ماذا. .؟ ولو أنّ مثل هذه السخافة تسمّى علماً تقوم به الحجّة فيما يحتجّ له ويبطل به البرهان فيما يحتجّ عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولاحقّ معروف ولاشيء يسمّى باسمه، ولكان هذا اللسان المتكلّم قد عبدته أمم كثيرة، لأنّ فيه قوة من قوى الخلق، ولأنّك لا تجد سخيفاً من سخفاء المتكلمين الذين يعتدّون من ذلك علماً - كابن الراونديّ مثلاً - إلاّ وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل إلهه هواه، أم جعل إلهه في فمه. . . وقد قيل إنّ هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سمّاه ( التاج ) ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب، مع أن أبا الفداء 2 نقل في تاريخه أنّ العلماء أجابوا عن كلّ ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من ( كفرياته ) وبيّنوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة.والذي نظنّه أنّ كتاب ابن الراوندي إنمّا هو في الاعتراض على القرآن ومعارصته على هذا الوجه من المناقضة، كما صنع في سائر كتبه ؛ كالفريد، والزمرّدة، وقضيب الذهب، والمرجان فإنّها فيما وصفت فيه ظلمات بعضها فوق بعض، وكلّها اعتراض على الشريعة والنبّوة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح، ولا يقيم وزنها علم راجح. وقد ذكر المعرّي هذه الكتب في رسالة الغفران، ووفى الرجل حسابه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلو من السّجع.وناهيك من سجع المعريّ الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنىوممّا قاله في التاج، وأمّا تاجه فلا يصلح أن يكون فعلاً. . .وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة: أفّ وتف وجورب وخفّ.وقيل: وما جورب وخفّ ؟ قالت: واديان بجهنموهذا يشير إلى أنّ الكتاب كذب واختلاق وصرف لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة ؛ وإلاّ فلو كانت معارضته لنقض التحديّ وقد زعم أنّه جاء بمثله لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة، كما أصبنا من ذلك لغيره. وشاعر الإسلام أبو الطيّيب المتنبيّ المتوفى قتيلاً سنة 354 فقد ادّعى النبوّة في حدثان أمره، وكان ذلك في بادية السمّاوة ( بين الكوفة والشام )، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، وكان يمخرق على الناس بأشياء وصف المعريّ بعضها في رسالة الغفران، وقيل إنّه تلا على البوادي كلاماً زعم أنّه قرآن أنزل عليه يحكمون منه سوراً كثيرة، قال عليّ بن حامد: نسخت واحدة منها فضاعت منّي وبقي في حفظي من أولها: والنجم السيّار، والفلك الدوّار، والليل والنهار، إنّ الكافر لفي أخطار.إمض على سنتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين ؛ فإنّ الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضلّ عن سبيله ). ونحن لا نمنع أن يكون للرجل شيء من هذا ومثله، وإن لم يكن في طبقة شعره ولا في وزن ما يؤثر عنه من فصول النثر، كقوله وقد كتب به إلى صديق له في مصر كان يغشاه في علّته حين مرض، فلمّا أبلّ انقطع عنه فكتب إليه: ( وصلتني - وصلك الله - معتلاً ؛ وقطعتني مبلا ؛ فإن رأيت أن لا تحبّب العلة إليّ ولا تكدر الصحة عليّ، فعلت إن شاء الله ) فإنّ هذا وشبهه إنما هو بعض شعره منثوراً، وهي المعاني التي تقع في خواطر الشعراء قبل النظم، وما من شاعر بليغ إلاّ هو يحسن أن يقول هذا وأحسن منه، وإن كان فيما وراء ذلك من صناعة الترسل ودواوين الكتابة لا يغني قليلاً ولا كثيراً. ولم يكن المتنبيّ كاتباً، ولا بصيراً بأساليب الكتابة وصناعتها ووجوهها، ولا هو عربي قحّ من فصحاء البادية، وإن كان في حفظ اللغة ما هو ؛ فليس يمنع سقوط ذلك الكلام الذي نسب إليه من أن تكون نسبته إليه صحيحة لأنّه لو أراده في معارضة القرآن ما جاء بأبلغ منه ؛ وما المتنبيّ بأفصح عربيّة من العنسيّ ولا مسيلمة، وقد كان في قوم أجلاف من أهل البادية، اجتمعت لهم رخاوة الطباع، واضطراب الألسنة، فلا تعرفهم من صميم الفصحاء بطبيعة أرضهم، ولاتعرفهم في زمن الفصاحة الخالصة، لأنّهم في القرن الرابع، وإذا كانت حماقات مسيلمة قد جازت على أهل اليمامة والقرآن لم يزل غضّاً طرياً ونور الوحي مشرق على الأرض بعد، فكيف بالمتنبئ في بادية السماوة وقوم من بني كلب وهل عرف الناس نبياً بغير وحي ولا قرآن ؟وأبو العلاء المعريّ المتوفى سنة 449، فقد زعم بعضهم أنّه عارض القرآن بكتاب سمّاه ( الفصول والغايات، في مجاراة السور والآيات ) وأنّه قيل له: ماهذا إلا جيد، غير أنّه ليس عليه طلاوة القرآن فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون. . . وقيل: إنّ من كتابه هذا قوله: ( أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إنّ الكافر لطويل الويل وإنّ العمر لمكفوف الذيل ؛ تعدّ مدارج السيل ؛ وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج ). فلفظة ( ناج ) هي الغاية، وما قبلها فصل مسجوع، فيبتدئ بالفصل ثمّ ينتهي إلى الغاية، وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم، لأنّها تأتي خواتم لآياته، فكأنّ المعارضة نقض للوضع ومجاراة للموضوع، وكأنّها صنعة وطبع. وتلك ولا ريب فرية على المعرّية أراده بها عدو حاذق، لأنّ الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلاّ أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأنّ البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصاباً لألفاظها، وتوطيناً لغرابئها كما يصنع ؛ وأنّ الفصاحة شيء غير صلابة الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثّراً يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه في جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية ؛ وأنّه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى وفساد المذهب الكتابيّ وضعف الطريقة البيانيّة شرّ من هذا كلّه، وما أسلوب المعري ألاّ من هذا كلّه. على أنّ المعريّ - رحمه الله - قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراونديّ، فقال: وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن المحجّة ومقتدي.أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوّه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ماهو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب. . . .وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزّهرة البادية في جدوب ذات نسق 1 ه. ولا يعقل أن الرجل قد أسّر في نفسه غير ماأبدى من هذا القول ولم يضطرّه شيء إليه، ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلوّ رسالته منه تضييعاً ولا ضعفاً، ولا نشكّ في أنّه كان يستسرّ بهنات ممّا يضعف اعتقاده ولكنّ أمر القرآن أمر على حدة ؛ فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة. وبعد، فهذا الذي وقفناك عليه هو كلّ ماصدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة ؛ أمّا إنّ القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدّهم الجنّ بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيراً فهو مانبسطه فيما يلي، وذلك هو الحقّ الذي لا جمجمة فيه، ولا يستعجم على كلّ بليغ له بصر بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة، وقد تفقّه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه، وكان يجري من هذه الصناعة البيانيّة على أصل ويرجع فيها إلى طبع. وإنّ شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستفاضة المادّة وتمكّنه من فنون القول وتقدّمه في مذاهب البيان ؛ فكلّما تناهى في علمه تناهى كذلك في علمه بالعجز وما أهل الأرض جميعاً في ذلك إلاّ كنفس واحدة ( ولو أنمّا في الأرضِ من شجرةٍ أقلامُ والبحر يمدّه من بعدهِ سبعة أبحرٍ مّا نفدتْ كلمات إنّ اللهَ عزيزُ حكيم ). ^

أسلوب القرآن

وهذا الأسلوب فإنّما هو مادة الإعجاز العربيّ في كلام العرب كلّه، ليس من ذلك شيء إلا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن معجزاً وهو الذي قطع العربّ دون المعارضة، واعتقلهم عن الكلام فيها، وضربهم بالحجّة من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكّأون.ثمّ هو الذي مثلّ لهم اليأس قائماً لا يتّصل به الطمع، وصوّر لهم العجز غالباً لا تنال منه القدرة، فأحرز طباعهم في ناحية من الضعف والاستكانة، حتى كأنّها غبر طباعهم في تثلّمها بعد انتضائها وتراجعها بعد مضائها، وقد كانوا يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ويتناقضون في أغراضه وعانيه، حين لم يكن من الفرق عند فصائحهم بين فنّ وفنّ من القول إلاّ ما يكون من تفاوت النعاني واختلاف الأغراض وسعة التصرّف، وكان أسلوب الكلام قبيلاً واحداً وجنساً معروفاً، ليس إلاّ الحرّ من المنطق والجزل من الخطاب، وإلاّ اطراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها، لا يغتصبون لفظة، ولا يطردون كلمة، ولا يتكلّفون لتركيب، ولا يتلوّمون على صنعة، وإنمّا تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبعة ؛ فنسق الألفاظ إلى ألسنتهم، وتتوارد على خواطرهم، وتجري مع أوهامهم، وتستجيب فيهم لكلّ حركة من النفس لفظة المعنى الذي هو أصل هذه الحركة، ثمّ لا تكون هذه اللفظة إلاّ كأنهّا خلقت لذلك المعنى خلقاً، أفرغت عليه إفراغاً، حتى لا يناسبه غيرها فيما يلتئم على لسان المتكلم، ولا يكون في موضعها أليق منها في مذهبه ولحن قومه وطريقة لغته. فلمّا ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانهم متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق.ليس في ذلك إعنات ولا معاياة، غير أنّهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوده تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، و كلماته في جملها، و نسق هذه الجمل في جملته - ما أذلّهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعرّ منه الجلود ؛ حتى أحسّوا بضعف الفطرة القويّة، وتخلّف الملكة المستحكمة ؛ ورأى بلغاؤهم أتّه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأنّ هذا التركيب هو روح الفطرة اللغويّة فيهم، وأنّه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغويّ الذي عرف أرواحهم وأطّلع على قلوبهم، بل هو السرّ الذي يفشي بينهم نفسه وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبّبن في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحسّ، فليس للخلابة أو المؤاربة وجه في نقض تاثيره وإزالته عن موضعه، ومن استقبل ذلك بكلامه أو أراده بأي حيلة، فقد استقبل ردّ النفوس عن أهوائها، وردع القلوب عن محبتها، وحاول معارضة أقوى مافي النفس بأضعف ما فيها ؛ وهذا شيء - فيما يعرفونه - لا يستقيم لامرئ من الناس ببيان ولا عصبية ولا هوى ولا شيء من هذه الفطرة إلاّ أن يبدأ الخلق فيكون إلهاً، وهذا كما ترى فوق أن يسمّى أو يعقل. وقد استيقن بلغاء العرب كلّ ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة، إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوة ويحيل الطبع ويخاذل النفس مصادمة لا حيلة ولا خدعة، وإنمّا سبيل المعارضة الممكنة التي يطمع فيها أن يكون لصاحبها جهة من جهات الكلام لا تؤخذ عليه، وفنّ من فنون المعنى لم يستوف قبله، وباب من أبواب الصنعة لم يصفق من دونه، وأن تكون وجوه اليبان له معرضة يأخذ في هذا ويعدل عن ذلك ؛ حتى يستطيع أن يعارض الحسنة بالحسنة، ويضع الكلمة بإزاء الكلمة، ويقابل الجملة بالجملة، ثمّ يصير الأمر بعد ذلك إلى مقدار التأثير الذي يكون لكلامه، وإلى مبلغه في نفوس القوم ؛ من تأثير الكلام الذي يعارضه. ومذهب الحيلة على التأثير مذهب واسع لا يضيق بالبلغاء كلّهم إذا تكافأوا في الصناعة والبصر بأسبابها ؛ لأنّ كلّ واحد منهم ينتحي بكلامه جهة جهة من جهات النفس، ويأخذ في سبيل من طباعها وعاداتها، وهو لا بدّ واجد في كلام غيره موضع فترة من الطبع أو غفلة من النفس، أو أثراً من الا ستكراه يبعث عليه باعث من أمور كثيرة تعتري البلغاء في صناعتهم، فيضطرب لها بعض كلامهم، ويضعف بعض معانيهم، ويقع التفاوت في الأسلوب الواحد ضعفاً وقوة.فإذا هو أصاب ذلك فعسى أن يقابله من نفسه بطبع قويّ ونفس مجتمعة، ووزن راجح، أو شيء من أشباهها، فيكون قد ظفر بمدخل يسلك منه إلى المعارضة، ويظهر به فضل كلام على كلام، ومقدار طبع من طبع، وقوة نفس من نفس، ولولا ذلك وأنّه من طباع البلغاء ؛ وممّا لا يسلم منه ذو طبع، لما أن يتناقض شاعران أو يتساجل راجزان، أو يتراسل كاتبان، أو يتقارض خطيبان، أو يواجه كلام كلاماً في معرض المقابلة، أو يرجح في ميزان المعادلة. فأمّا أن يكون الكلام الذي يقصد إليه بالمعارضة كهذا القرآن: أحكم دقيقه وجليله، وامتنع كثيره وقليله، وأخذ منافذ الصنعة كلّها، واستبرأ المعنى الذي هو فيه إلى غايته، وقطع على صاحبه أمر الخيار في الوجه الذي يعارضه منه، وكان من وراء ذلك باباً واحداً في امتناعه، لا موضع فيه للتصفح، ولا مغمز للّثقاف، ولا مورد للمقالة ؛ وقد توثّقت علائقه، وترادفت حقائقه، وتواردت على ذلك دقائقه: ثمّ كانت جملته قد أحرزت عناصر الفطرة البيانيّة وجمعت فنونها، واحتوت من الكمال الفنيّ ما كان إحساساً صرفاً في نفوس أهله، يشعرون به وجداناً، ولا يقدرون على إظهاره بياناً - فلذلك ممّا لا سبيل للنفس إلى المكابرة فيه بحال من الأحوال، أو ابتغائه بالمعارضة ومطاولته بالقدرة على مثله، إذ هو بطبيعته المعجزة لا ترى فيه النفس إلاّ مثالاً للعلّم تعرف به مقدار ما انتهت إليه من إحكام العمل. وهذا هو سبيل آثار النوابغ الملهمين الذين انفرد كلّ منهم بحيزه من الفنّ ؛ فإنّ المعجز من هذه الآثار - إذا بلغ أن يتجوّز في العبارة عنه بهذا الوصف - لا يكون إعجازه إلاّ على قدر ما يحتوي من كمال الفطرة الفنيّة، فتتمثل أنت منه ما كان في النفس إحساساً صرفاً، وأملاً محضاً، ثمّ يتصفّحه من يريد معارضته فيراه بعينه ماثلاً مصوراً حتى لا يشكّ في إمكانه ومطاوعته، ويبتغيه حين يبتغيه فإذا هو قد عاد في نفسه إحساساً وأملاً لا سبيل عليهما للقدرة الفنيّة. وهذا هو معنى العجز، وذلك هو معنى الإعجاز، ولا يزال يتّفق منه في الأعمال الناس على حساب ما يكون من اختلاف درجاتهم ومبلغ طاقتهم ؛ وما من ذي فنّ نابغ إلاّ وأنت واجد حسن عمله دون أمله هو في هذا الحسن، ودون إحساسه بهذا الأمل ؛ حتى إنّك لتعجب بما ظهر من قدرته الفنيّة في الذي تراه أحسن شيء، على حين إنّه هو لا يعجب إلاّ بالأصل الكامل الذي توهّمه في نفسه، ووجد بيانه في خاطره، والذي لم يستطع أن يخرجه كاملاً، لأنّ من طبيعة الإحساس أن يظهر فيه كمال النفس مادام في النفس، فإذا هو انقلب في الحواس عملاً ظهر فيه نقص الحواسولما كان مرجع تقدير الكلام في بلاغته وفصاحته إلى الإحساس وحده - وخاصّة في أولئك العرب الذين من أين تأملتهم ورأيتهم كأنّما خلقوا خلقاً لغوياً، وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحسّ به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان ومذاهب النفس إليه - فقد أحسّوا بعجزهم عمّا امنتع ممّا قبله، وكان كلّ امرئ منهم كأنّما يحمل في قرارة نفسه برهان الإعجاز، وإن حمل كلّ إفك وزوّر على طرف لسانهولهذا انقطعوا عن المعارضة، مع تحدّيهم إليها على طول المدّة وانفساح الأمر وعلى كثرة التقريع، والتأنيب، وعلى تصغير شأنهم وتحقيرهم، وذلك بالنزول عن التحدي بمثل القرآن كله، إلى عشر سور مثله، إلى عشر مفتريات لا حقيقة فيها، إلى سورة واحدة من مثله، ولو هم أرادوا هذه السورة الواحدة ما استطاعوها، لأنّ إحساسهم منصرف إلى الكمال اللغويّ في القرآن، مستغرق فيه، فلا يرون المعارضة تكون إلاّ على هذا الأصل، أو تتحقّق إلاّ به: وهو شيء لا تناله القدرة، ولا تيسّره القوّة ؛ لأنّه على ظهوره في أسلوب القرآن، باطن في أنفسهم، تقف عليه المعرفة ولا تبلغه الصفة: كالروائح والطّعوم والألوان وما إليها. فلو ذهبوا إلى معارضة السورة القصيرة على قلّة كلماتها، وعلى أنّها نفس واحدة وجملة متميّزة، لضاق بهم الأمر بمقدار ما يظنّ الجاهل أنّه يسعهم ؛ فإنّ ذلك الإحساس لا يزايلهم ولا يبرح يورد عليهم محاسن ذلك الأسلوب جملة.ويغمرهم بها ضربة واحدة تنثال في ههنا و ههنا ؛ فلا يكون إلاّ أن يقفوا متلدّدين وقد حاروا في أيّ جهة يأخذون، وأيّ جانب يتوجّهون إليه، ولا يكون من همّهم تعرّف ذلك دون تحقيقه، ولا تحقيقه دون الإتيان به، ولا المجيء به دون أن يساوي ذلك الأصل الذي في أنفسهم، ولا هذه المساواة دون أن تذهب السورة التي يجيئون بها بكلّ ما وقر في أنفس العرب الفصحاء واستولى على إحساسهم من بلاغة القرآن وفصاحة نظمه، وذلك أمر بعضه أشدّ من بعض وأبلغ في الاستحالة. فإن وجد منهم سفيه كمسيلمة، يحمله جنون العظمة وحبّ الغلبة والتحمّد في الناس، ثمّ كدر الفطرة وغلظ الإحساس في نفوس أتباعه - على أنّ يتعقّب السورة أو بعض السورة بالمعارضة، لايبالي موقع كلامه، وعلى أي جنبيه كان مصرعه ؛ فلن يكون له مذهب إلا مقابلة الكلمة بالكلمة والوزن بالوزن كما قال في معارضته: ( إنّا أعطيناك الكوثر فصل لربّك وانحر ) فقد قال إنا أعطيناك الجماهر ؛ فصلّ لربك وجاهر. . .، إلى آخر ما حكوا من سخافاته وحماقاته التي التمس منها الحجّة له فكانت فيها الحجة عليه، وأراد أن يستطيل بها فتركه مثلاً في الحماقة والسخرية ؛ وسنكشف بعد عن سبب هذا الخطل في كلام مسيلمة. لا جرم كان من الرأي الفائل والمذهب الباطل قول أولئك الذين زعموا أنّ الإعجاز كان بالصرفة، على ما عرفت من معناها ؛ وما دعاهم إلى القول بها إلاّ عجبهم كيف لم يأت للعرب أن يعارضوا السورة القصيرة ة الآيات القليلة مع هذا التحدّي ومع هذا التقري، وهم اللّدّ الخصمون، والكلام سيد عملهم ولهم فيه المواقف والمقامات، بيد أنّ أولئك لو كان لهم إحساس العرب أو لم ياخذوا الأمر على ظاهره وردّوه إلى أسبابه في الفطرة لرأوا أنّ معنى العجز هو في الكثير والقليل فإنّ التحدي بالسورة الواحدة طويلة أو قصيرة، لم يكن في أول آية نزلت من القرآن. .كان بعد سور كثيرة منه، وبعد أن ذهبت في العرب كلّ مذهب ؛ وهو أمر غريب في استلاب حسّ القوم والتأتي إلى تعجيزهم، فإن أعجبك شيء من سياسة البيان المعجزة واشتقاق المستحيل من الممكن ؛ فذلك فليعجبك. وههنا معنّى دقيق في التحدي، ما نظنّ العرب إلاّ وقد بلغوا منه عجباً: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قصصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجّة ونحوها، أو في بعض عبارته لتحقيق النعمة وترديد المنّة والتذكير بالنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون هذا الباب ؛ وهو مذهب للعرب معروف، ولكنّهم لا يذهبون إليه إلاّ في ضروب من خطابهم: للتهويل والتوكيد، والتخويف والتفجع وما يجري مجراها من الأمور العظيمة ؛ وكلّ ذلك مأثور عنهم منصوص عليه في كثير من كتب الأدب والبلاغة. بيد أنّ وروده في القرآن ممّا حقّق للعرب عجزهم بالفطرة عن معارضته وأنّهم يخلّون عنه لقوة غريبة فيه لم يكونوا يعرفونها إلاّ توهماً، ولضعف غريب في أنفسهم لم يعرفوه إلاّ بهذه القوة، لأنّ المعنى الواحد يتردّد في أسلوبه بصورتين أو صور، كلّ منها غير الأخرى وجهاً أو عبارة، وهم على ذلك عاجزون عن الصورة الواحدة، ومستمرّون على العجز لا يطيقون ولا ينطقون.فهذا لعمرك أبلغ في الإعجاز وأشدّ عليهم في التحدي ؛ إذ هو دليل مجاوزتهم مقدار العجز النفسيّ الذي قد تمكن معه الاستطاعة أو تتهيّأ المعاريض حيناً بعد حين، إلى العجز الفطريّ الذي لا يتأول فيه المتأول ولا يعتذر منه المعتذرون ولا يجري الأمر فيه على المسامحة. وقد خفي هذا المعنى ( التكرار ) على بعض الملحدة وأشباههم ومن لا نفاذ لهم في أسرار العربيّة ومقاصد الخطاب والتأتي بالسياسة البيانيّة إلى هذه المقاصد، فزعموا به المزاعم السخيفة وأحالوه إلى النقص والوهن، وقالوا إنّ هذا التكرار ضعف وضيق من قوّة وسعة، وهو - أخزاهم الله - كان أروع وأبلغ وأسرى عن الفصحاء من أهل اللغة والمتصرفين فيها، ولو أعجزهم أن يجيئوا بمثله ما أعجزهم أن يعيبوه لو كان عيباًوفي بعض ذلك التكرار معنى آخر فظن إليه بعض علمائنا ولم يكشف لهم عن سّره، وأول من نبّه عليه الجاحظ في كتاب ( الحيوان ) إذ قال: ( ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحيّ والخذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطاً وزاد في الكلام ) أي كأنّ ذلك مبالغة في إفهامهم وتوسيع في تصوير المعاني لهم وتلوينها بالألفاظ، إيجازاً في موضع وإطناباً في موضع إذ كانوا قوماً لا سليقة لهم كالعرب وليسوا في حكمهم من البيان، فلا يمضي كلامه لسننه بلا اعتراض من تنافر التركيب وثقل الحروف وجفاء الطبيعة اللغويّة، فلهذا ونحوه كان لا بدّ في خطابهم من التكرار والبسط والشرح، بخلاف العرب، فإنّ الخطاب يقع إليهم على سنن كلامهم من الحذف، والقصد إلى الحجّة، والاكتفاء باللمحة الدالّة، وبالإشارة الموحى بها، وبالكلمات المتوسمة، وما يجري هذا المجرى، وهو قول صحيح في الجملة بيد إنهم أخطأوا وجه الحكمة فيه ؛ فإن اليهود لم يكونوا من الغلظة والجفاء والاستكراه بحيث وصفوهم، أو بحيث يجوز ذلك في صفتهم، وإنّ فيهم لمتكلمين، وإن منهم لشعراء والخطاب في القرآن كان يسمعه العرب واليهود جميعاً، فلا هؤلاء ينكرون من أمره ولا أولئك. ونحن فما ندري كيف نبلغ صفة هذا الوجه المعجز الذي غاب عن العرب ولم يدركه إلاّ المقصودون به، و هم الذين وصفوهم بتأخر المعرفة وبلادة الذهن، وهم أحبار اليهود ورؤساؤهم وأهل العلم فيهم، وما يمكن أن يهتدي إلى هذا الوجه بليغ عربيّ من بلغاء ذلك العهد إلاّ بوحي وتوفيق من الله، فإنّه في الحقيقة سرّ من أسرار الأدب العبرانيّ، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصة ليعلموا أنّه وضع غير إنسانيّ، وليحسّوا معنى من معاني إعجازه فيما هم بسبيله، كما أحسّ العرب فيما هو من أمرهم ؛ إذ كان أبلغ البلاغة في الشعر العبرانيّ القديم أن تجتمع له: رشاقة العبارة، وحسن المعرض، ووضوح اللفظ، وفصاحة التركيب، وإبانة المعنى، وتكرار الكلام لكلّ مايفيده التكرار وتوكيداّ ومبالغة وإبانة وتحقيقاً ونحوها، ثمّ استعمال الترادف في اللفظ والمعنى، ومقابلة الأضداد وغيرها، وممّا هو نفسه تكرار آخر للمحسّنات اللفظيّة، وتحسين للتكرار المعنويّ. وإنّا لنظنّ أنّ تهمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه شاعر لم تكن ابتداء إلاّ من قبل بعض اليهود.ثمّ تعلّق بها بعض العرب مكابرة، فإنّهم ليعرفون أنّ القرآن ليس بشعر من شعرهم، ولا هو في أوزانه وأعاريضه وفنونه وطرقه، ولكنّهم تجوّزوا إلى ذلك ببراعة العبارة، وسموّ التركيب، وتصوير الإحساس اللغويّ بألوان من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها ممّا يكون القليل من جيّده خاصاً بالفحل من شعرائهم.ويكون مع ذلك حقيقة الإحساس اللغويّ في شعره، وأين هذا الوجه البعيد الذي لا يستقيم في الرأي إلاّ بعد التمحّل له، والتجوّز فيه من قولهم إنّه من قولهم إنّه ( شاعر ) ؟ ولفظ الشاعر عندهم متعين المعنى متحقّق الدلالة ليس فيه لبس ولا إبهام ولا تجوّز ؟. على أنّ كلامنا آنفاً في عجز العرب عن معارضة السورة القصيرة من القرآن، وعدم تأتيهم لذلك بالسبب الذي بيّناه، لا يؤخذ من أنّ غير العرب المحدثين والمولّدين وسائر من يكونون عرباً في اللسان دون الفطرة، يستطيعون مالم يأت لأولئك ؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساس لغويّ تستبدّ به روعة الكلام وتصرّفه بالكثير عن القليل لتمثل الأصل اللغويّ الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز لأنّه سرّ التركيب والنظم.فيقال من ذلك إنّ المولّدين ومن في حكمهم تتهيّأ لهم معارضة السور القصار والآيات القليلة، ويتأتون إلى ذلك بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفّر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنّهم مع هذه الوسائل كلّها أبعد من العرب في أسباب العجز، وادنى إلى التقصير، وأقرب إلى الهجنة إذا هم تعاطوه ؛ لأنّ أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنّه لا يعدو حالة من حالتين:إمّا أن يتعلّق على الألفاظ وأوزان الكلام في اللسان ويمضي في مثل نظم القرآن، فينظر في الحرف بين الحرفين ملاءمة واحتباكاً، وفي الكلمة بين الكلمتين تناسباً واطراداً، وفي الجملة إزاء الجملة وضعاً وتعليقاً، ويمرّ ذلك حتى يخرج من السورة، وهذه أسوأ الحالين أثراً عليه وأشدّها إزراء به وأبلغها فصيحة له، لأنّها تنادي على كلامه بالصنعة، وتدلّ في مقاطعه على مواضع الكلام والفتور، وتومئ في نظامه إلى عثرات الطبع إذ يعمل على السخرة ويأخذ بالمحاكاة دون أن يذهب في البيان على سجيته، ويمضي في أسلوبه الذي يتعلّق بمزاجه وأحواله النفسيّة.وهذا مع ضيق الكلمات القليلة أن تسع شيئاً من المحسّنات أو تستوفي وجهاً من وجوهها، ومع أنّ المقابلة بين الأصل والمعارضة ستؤدّي إلى البحث في سرّ النظم وطريقة التأليف من الجملة إلى الكلمة إلى الحرف، وهو مذهب استبّد به نظم القرآن - كما ستعرفه - حتى كأنّه استوفى من اللغة كلّ ما يمكن أن يتهيّأ منه ؛ فإمّا ألفاظه بأعيانها وأجراس حروفها إذا أريد مثل نظمه، وإمّا الخروج بالكلام إلى نظم آخر في طريقة غير طريقته ؛ وذلك من أعجب ما فيه حتى ما يقضي منه البليغ عجباً ومهما أراغ الإنسان وجه التخلّص إلى معارضته بمثل نظمه فإنّه يرى نفسه بإزاء ألفاظه من أين دار وكيف انقلب، ولا تنصرف هذه الألفاظ عنه إلاّ أن يزيع طريقة أخرى من الكلام فتتلقّاه اللغة بألفاظها وتراكيبها من كلّ جهة حتى يسعها وتسعه. فهذه هي إحدى الحالتين ؛ والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهباً لا يتقيّد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وأنّما همّه في المعارضة أن يجوّد ويبيّن اللفظ ويجزل قسطه من الصناعة، وأن يتولّى الكلام بالرويّة والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها، لأنّ مثل ذلك لا يتأتّى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، وإلاّ أن تكون مثلاً مضروباً، أو حكمة مرسلة، أو نحو ذلك ممّا يقصّر بطبيعته في الدلالة وتستوفي القصة أو الحالة المقرونة به شرح معناها ويكون هو روح هذا المعنى ؛ فإنّه ما من حكمة أو مثل أو ما يجري مجراها إلاّ وأنت واجد لكلّ من ذلك قصة قيل فيها، أو حالة قيل عليها ؛ ثمّ لا يقع من نفسك موقعاً يهزّ ويعجب حتى تكون القصة أو الحالة أو ما تفهمه منهما قد سبقته إلى نفسك، أو صارت معه إلى ذلك الموضع منها، فإن أنت وقفت على حكمة لا تعرف وجهها، أو سمعت مثلاً لم يقع إليك مساقه، أو لا تكون معه قرينة تفسره، فقلّما ترى من أحدهما إلاّ كلاماً مقتضباً أو عبارة مبهمة.تخرج مخرج اللغز والمعاياة، واحتاج على كل ّ حال إلى رويّة تتنزّل منه منزلة ذلك الشرح الذي يعطيه مساق القصة أو صفة الحالة، وانظر أين هذا من أغراض السور والآيات الكريمة ؟فأنت ترى أنّ معارضة السور القصار أشدّ على المولّدين ومن في حكمهم من إرادة الطوال بالمعارضة، وإن أرادوا مثل النظم أو لم يردوه، على أن المعارضة لا تكون شيئاً يسمى، ما لم تكن بمثل النظم والأسلوب ؛ أمّا النظم فقد علمت وجه استحالته، وأمّا الأسلوب فستعلم وجه الأمر فيه. . . وهذه الطّوال، فكلّ آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلّها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضة ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلّق الآية بما قبلها، وتسّببها لما بعدها ؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجول الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد ؟وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات الماديّة التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما هي، إلاّ في شيء واحد وهو في القرآن سرّ الإعجاز إلى الأبد، وذلك أن معجزات الصناعة إنمّا هي مركبات قائمة من مفردات ماديّة، متى وقف امرؤ من الناس على سرّ تركيبها ووحه صنعتها فقد بطل إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صور فكريّة لابدّ من أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور - ولا تجزئ فيها الصناعة وآلاتها - من صفاء الطبع ودقّة الحسّ وسلامة الذوق ونحوها ممّا يرجع أكثره إلى الفطرة النفسيّة في أي مظاهرها. فالمعجز من هذه الصور الفكريّة بإحدى الخصائص كنظم القرآن معجز إلى الأبد، متى ذهب أهل هذه الخصوصيّة التي كان بها الإعجاز، كالعرب أصحاب الفطرة اللغويّة والحسّ البيانيّ الذين صرفوا اللغة وشقّقوا أبنيتها وهذّبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها، وكانوا يستملون ذلك من أسرار الطبيعة في أنفسهم، أسرار أنفسهم في الطبيعة ؛ ثمّ ذهبوا وبقيت اللغة في أصولها وأبنيتها وطرق وضعها ومحاسن تأليفها على ما تركوها.وإنّ العصر الطويل من عصورها ليدبر عنها كما يموت الرجل الواحد من كتّابها أو شعرائها ليس لأحدهما من الأثر في ذلك الخصائص أكثر ممّا للآخر، على تفاوت ما بين العصر الطويل بحوادثه وأهله، وبين الرجل الفرد في خاتمة نفسه. وذلك لأنّ الفطرة التي تصرّفها قد ذهبت، وانقطعت من الزمن أسباب الطبيعة، فليس يمكن أن تعود أو تتّفق، إلاّ إذا استدار الزمن كيوم خلق الله السموات والأرض، وعدا التاريخ الإنسانيّ من أوله، أو بعث أولئك العرب أنفسهم نشأة أخرى، بأيامهم وعاداتهم وأخلاقهم وسائر ما كان لهم من أسباب الفطرة.وإذا وقع هذا الأمر كلّه ولم يعد في الفرض من مستحيل، فكلّ ما هناك أنّ إعجاز القرآن الكريم لا ينتهي من الأبد ولكنّه يبتدئ في أولئك العرب مرة أخرى إلى الأبد. وفي القرآن مظهر غريب لإعجازه المستمرّ، لا يحتاج في تعرّفه إلى روية ولا إعنات، وما هو إلاّ أن يراه من اعترض شيئاً من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه ؛ لأنّه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبين عن نفسه بنفسه، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه. ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنّه مباين بنفسه لكلّ ما عرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، وعلى أن يؤاتي بعضه بعضاً، وتناسب كلّ آية منه كلّ آية أخرى في النظم والطريقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواء في ذلك ما كان مبتدأ به من معانيه وأخباره وما كان متكرراً فيه، فكأنّه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كلّ بليغ من التفاوت باختلاف الوجوه التي يصرفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثمّ ما يكون من فترة الطبع ومسحة النفس في جهة بعث عليها الملل، أو جهة استؤنف لها النشاط، ثمّ ما لا بدّ منه من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها، ممّا يختلف البلغاء في علمه والإحاطة به، أو التأتي له والانطباع عليه ؛ وهذا كلّه معروف متظاهر في الناس لا يمتري فيه أحد. وليس من شيء في أسلوب القرآن ويغضّ من موضعه، أو يذهب بطريقته أو يدخله في شبه من كلام الناس، أو يردّه إلى طبع معروف من طباع البلغاء، وما من عالم أو بليغ إلاّ وهو يعرف ذلك ويعدّ خروج القرآن من أساليب الناس كافّة دليلاً على إعجازه، وعلى أنّه ليس من كلم إنسان، بيد أنّنا لم نر أحداً كشف عن سرّ هذا المعنى، ولا ألّم بحقيقته، ولا أوضح الوجه الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كلّ ماعرف من أساليب الناس ولم يشبه واحداً منها، ونحن نوجز القول فيه لأنّه أصل من أصول الكلام في أساليب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله. فقد ثبت لنا من درس أساليب البلغاء، وترداد النظر في أسباب اختلافها وتصفّح وجوه هذا الاختلاف، وتعرف العلل التي أثرت في مباينة بعضها لبعض، من طبيعة البليغ وطبيعة عصره - أنّ تركيب الكلام يتبع تركيب المزاج الإنسانيّ، وأنّ جوهر الاختلاف بين الأساليب الكتابيّة، في الطريقة التي هي موضع التباين لا في الصنعة كالمحسنات اللفظية ونحوها - إنمّا هو صورة الفرق الطبيعيّ الذي به اختلفت الأمزجة بعضها عن بعض على حسب ما يكون فيها أصلاً أو تعديلاً ؛ كالعصبيّ البحت، والعصبيّ الدمويّ، وغير ذلك ممّا هو مقرر في الفروع الطبيّة، حتى كأنّ الأسلوب في إنشاء كلّ بليغ متمكن ليس إلاّ مزاجاً طبياً للكلام، وما الكلام إلاّ صورة فكرية من صاحبه.وقد أمعنا في هذا الاستنتاج، وقلّبنا عليه كلّ ما نقرؤه من أساليب العربيّة - وهي معدودة - ومررنا على ذلك زمناً، حتى صار لنا أن نستوضح أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، بردّ ذلك إلى الأوصاف النفسيّة التي تكون من تأثير الأمزجة والتي قلّما تتخلّف في الناس، وبها أشبه بعضهم بعضاً، وبها كان التاريخ يعيد نفسه. وأنت تتبيّن هذه الحقيقة إذا عرفت أديباً ليمفاويّ المزاج مثلاً، وأردته على أن يأخذ في أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبيّة.فإنّه لا يصنع شيئاً، وإذا نتج له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلاّ مضطرباً متعثراً مطّبقاً بأبواب التعسف والتكلّف، وكأنّه نتاج بين نوعين متباينين من الخلق ؛ ولكنّ هذا الأديب عينه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترسّل المتداخل الذي ليس حذراً ولا مساوقة كترسّل الجاحظ أضرابه - فقد لا يتعلّق بجيّده في ذلك شيء. ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبون كيف لا يتهيّأ لأحدهم أسلوب كأسلوب ابن المقفع او عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقلّ له طريقة من ذلك على كثرة ماحاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته ؛ ولا يدرون أنّهم يحملون سرّ إخفاقهم، وأنّ أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطاً بين أسلوبين. وهذا عبد الحميد الكاتب رأس تاريخ الكتابة العربيّة وواضع طريقتها، فقد أخد نفسه بحفظ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرادها على طريقته، ثمّ جاءت كتابته فناً آخر لم يستحكم اتفاق الأسلوب بينها وبين ما أثر من كلام الإمام عليّ، وقد قيل إنّ ( نهج البلاغة ) مصنوع، وضعه الشريف الرضيّ ونحله أمير المؤمنين، والصحيح أنّ فيه الأصيل والمولدّ.وربمّا انفراد وربمّا تمازجا، ونحن نستطيع بطريقتنا أن نزايل بين ما فيه من ذلك، ونبيّن وضعاً من وضع ؛ فإنج المزاجين لمختلفان كما يعرف من صفة الإمام عليّ ومن صفة الشريف. من ذلك يخلص لنا أنّ القرآن الكريم إنمّا ينفرد بأسلوبه، لأنّه ليس وضعاً إنسانيجاً ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوباً من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بدّ في طريقته ونسقه ومعانيه ( ولو كانَ من عندِ غيرِ اللهِ لوجدواْ فيهِ اختلافاً كثيراً ) ؛ ولقد أحسّ العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم ولولاه ما أفحموا ولا انقطعوا من دونه، لأنّهم رأوا جنساً من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعة غير مخلوقة ؟ولماّ حاول مسيلمة أن يعارضه جعل يطبع على قالبه، فجاء بشيء لا يشبهه ولا يشبه كلام نفسه، وجنح إلى أقرب ما في الطباع الإنسانيّة وأقوى مافي أوهام العرب من طرق السجع، فأخطأ الفصاحة من كلّ جهاتها، وإنّالرجل على ذلك لفصيح. وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب مادامت الأرض أرضاً، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: ( قل لّئنِ اجتمعتِ الإنس والجنّ على أن يأتواْ بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعضهم لبعض ظهيراً ) صدق الله العظيم. وبعد فأنت تعرف أنّ أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لحرّ اللفظ ونادر المعنى، وأخلقه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسم مادّة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلاماً فتراه نفساً حيّة، كأنّها تلقي عليك ما تقرؤه ممزوجاً بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك - إن كنت بصيراً بالصناعة متقدّماً فيها - كلّ مدخل، ولا تدع فيها إحساساً إلاّ أثارته، ولا إعجاباً إلاّ استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهاً من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه، وتقرؤه وكأنّك تسمعه، ثمّ لا يلج إلى فؤادك حتى تصير كأنّك أنت المتكلم به، وكأنّه معنى في نفسك ما يبرح مختلجاً ولا ينفكّ ماثلاً من قديم ؛ مع أنّك لم تعرفه إلاّ ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له ؛ وذلك بما جوّده صاحبه، وبما نفث فيه من روحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتّسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعاً من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعاً فكأنّه مادة روحيّة منه. وقد رأينا بلغاء هذه الطريقة في الأساليب العربيّة، يتوخّون إليها في تصاريف الألفاظ، وتمكين الأسلوب، وإرهاف الحواشي، واجتناب ما عسى أن تبعث عليه رخاوة الطبع وتسمّح النفس، من حشو أو سفساف أو ضعف أو قلق، ثمّ التوكيد للمعنى بالمترادفات المتبانية في صورها، ثمّ الاستعانة بالمعطوفات على النسق، وبالإسجاع على الأسلوب، وبوجوده الصنعة البيانيّة على كلّ ذلك، فلا تقرأ سطراً من كلامهم إلاّ أصبت ماء ورونقاً، ولا تمرّ فيه حتى يقبل عليك بالصنعة من وجهها المصقول، وحتى يبادرك أنّه التنقيح والتهذيب بين الكلمة وأختها، والجملة وضريبتها وحتى لو كنت ذا بصر بالصناعة، وقد عركتك وعركتها ؛ وكنت أملك بصعابها، وأخبر بشعابها - لعرفت فضول الكلام كيف حذفت، وألفاظه كيف نزّلت، ومحاسنه كيف رصّعت، ووجهه كيف مسح، وخلقه كيف حذفت، ثمّ لاستطعت أن تعين في موضع من كلام كانت زفرة الضجر من صانعه، وعلى أيّ كلمة وقفت أنفاس الملل، وعند أيّ مقطع كانت فترة الطبع، وأين ضاق وأين اتّسع، وإن كان هذا الكلام الذي نحن في صفته كلّه بعد نسقاً واحداً وصنعة مفرّغة، يعلم ذلك من يعلمه ويجهله من يجهله. فانظر، هل تحسّ شيئاً من كلّ ما تقدّم أو من شبه ما تقدّم في أسلوب القرآن الكريم ؟ وهل ترى فيه من الغرابة التي يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد رصفه وحبكه، إلاّ أن غرابته في كونه منسجماً لا غرابة فيه ؟ وهل عندك أغرب من هذه السهولة التي يسيل بها القرآن، وهي في كثير من كلام وكثير من أغراضه تقتضي الابتذال، وفي القرآن كلّه على تنوّع أغراضه لا تقتضي إلاّ الإعجاز ؟وانظر، هل ترى هذه السهولة الغريبة في نفسها ممّا يمكن أن يحسّ فيها روح إنسانيّ كسائر الأساليب، أم هي سهولة الأوضاع الإلهيّة التي يعرفها كلّ الناس ويعجز عنها الناس كلّهم، ثمّ يعرف العلماء منها غير ما يعرفه الجهّال، ثمّ يمتاز بعض العلماء في المعرفة بها على بعض، ثمّ يبقى فيها سرّ الخلق مع كلّ ذلك مكتوماً لا يعرف، وما هو سرّ الإعجاز وتأمل، هل تصيب في القرآن كلّه ممّا بين الدّفتين إلاّ رهبة ظاهرة لا تمويه في شيء منها، وإلاّ أثراً من التمكّن يصف له منزلة المخلوق من أمر الخالق، وإلاّ روحاً أكبر من أن يكون نفساً إنسانيّة أو أثراً من آثار هذه النفس، ثمّ هل تجد في أغراضه إلاّ ما كان في وضعه مادجة لتلك الرهبة ولذلك الأثر وذلك الروح ؟هذا على أنّ فيه من المعاني الكثيرة والأغراض الوافرة، ممّا لو كان في كلام الناس لظهر عليه صبغ النفس الإنسانيّة لا محالة، بأوضح معانيه وأظهر ألوانه ؛ وبصفات كثيرة من أحوال النفس، وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك ممّا يستفيض فيه الكلام الإنسانيّ، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بياناً، وأفصحهم عربيّة لترى فرق مابين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإلهيّة والطبقة الإنسانيّة في السّعة والتمكّن، فإنّ هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثمّ لا دليل عليه لمن يريد أن يستدل إلاّ الحسن. ومعنى آخر، وهو أننّا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسّر في كلّ عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتحميص، وقد فهمه عرب الجاهليّة الذين لم يكن لهم إلاّ الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيراً من حقائقه التي كانت مغيّبة وفي علم الله ما يكون من بعد، وإنّ ماعهد من كلام الناس لا يحتمل كلّ ذلك ولا بعضه، بل هو كلّما كان أدنى إلى البلاغة كان نصاً في معناه، ثابتاً في حيّزه، تجمد الكلمة أو الكلمة على معنى بعينه قد يستقيم وقد ينتقص، وكيفما قلبّته رأيته وجهاً واحداً وصفة واحدة لأنّ الفصاحة لا تكون في الكلام إلاّ إبانة، وهذه لا تفصح إلاّ بالمعنى المتعيّن وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه. وأكبر السبب في ذلك أنّ هذا القرآن الكريم ليس عن طبع إنسانيّ محدود بأحوال نفسيّة لا يجاوزها، فهو يداور المعاني، ويريغ الأساليب ويخاطب الروح بمنطقها من ألوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألّف الناس بهذه الخصوصيّة فيه، حتى ينتهي بهم ممّا يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نصّ اليقين ومقطع الحق ؛ وتراه في أوضاعه من أجل ذلك يستجمع درجات الفهم كأنّ فيه غاية لكلّ عقل صحيح، ولكنّه في نفسه أو أسرار تركيبه آخر ما يسمو إليه فهم الطبيعة نفسها ؛ بحيث لو هو علا عن ذلك لخفي على الناس، ولو نزل عن ذلك لما ظهر في الناس ؛ لأنّ علوه يفوت ذرعهم، ونزوله يوجدهم السبيل إلى معارضته ونقضه، وكلا هذين يجعل أمره عليهم غمّة فلا يتّجهون إلى صواب.وإنمّا هو في نفسه وفي أفهام الناس كما وصفه الله ( بالحقّ والميزانَ ) كلّ الناس يعملون لفهمه ويدأبون عليه، ولكلّ درجات ممّا عملوا.

نظم القرآن

ذلك بعض ما تهيّأ لنا من القول في الجهات التي اختصّ بها أسلوب القرآن فكانت أسباباً لانقطاع العرب دونه وانخذالهم التي أسباب لا يمكن أن يكون وجماع الطبائع، ولا أثر لها بعد في نفس كلّ هذه اللغة، لأنّها خارجة عن قوى العقول وجماع الطبائع، ولا أثر لها بعد في نفس كلّ بليغ يعرف ماهي البلاغة وكيف هي، إلاّ استشعار العجز عنها والوقوف من دونها.وإنمّا تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سرّ الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم ؛ وهو سرّ لا ندّعي أننا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أسبابه، وإنمّا جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونعيّن بعض أوصافه من ناحية، فإنّ هذا القرآن هو ضمير الحياة العربيّة، وهو من اللغة كالروح الإلهيّة التي تستقرّ في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود ؛ ثمّ لا يدّل عليها حين التعرف إلاّ بصفات كلّ نفس لمواقع تلك الآثار منها، كأنّ هذه الروح تحاول أن تفصح عن معاني النبوغ الفنيّ في آثارها الخالدة، فلا تجد أقرب إلى غرضها من أن تهيج عن معاني النبوغ الفنيّ في آثارها الخالدة، فلا تجد أقرب إلى غرضها من أن تهيج الإحسان بها في كلّ نفس، فيجزئ ذلك في البيان عنها، لأنّ الإحساس إنمّا هو اللغة النفسيّة الكاملة. والكلام بالطبع يتركّب من ثلاثة حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجمل هي من الكلم.و قد رأينا سرّ الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلّها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به ؛ فليس لنا بدّ في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعاً. ولا يذهبنّ عنك أنّ هذه المذاهب الكلاميّة التي بنيت عليها علوم البلاغة ووضعت لها أمثلة هذه العلوم، إنمّا هي من وراء ما نعترضه في هذا الباب فليست من غرضنا في جملة ولا تفصيل، وحسبك فيها كتاب ( دلائل الإعجاز ) لعبد القاهر الجرجانيّ، ونحن إنمّا نبحث في القرآن من جهة ما انفرد في نفسه على وجه الإعجاز، لا من جهة ما يشركه فيه غيره على أيّ وجه من الوجوه وأنواع البلاغة مستفيضة في كلّ نظام سويّ وكلّ تأليف مونق، وكلّ سبك جيّد، وما كان من الكلام بليغاً فإنّه بها صار بليغاً، وإن كانت هي بعد في أكثر الكلام إلى تفاوت واختلاف. ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء، وأنّ نظم القرآن يقتضي كلّ مافيه منها اقتضاءاً طبيعياً بحيث يبنى هو عليها لأنّها في أصل تركيبه، ولا تبنى هي عليه ؛ فليست فيها استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء من مثل هذا يصحّ في الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يربّى عليه، ولو أدرت اللغة كلّها على هذا الموضع.فكأنّ البلاغة فيه إنماّ هي وجه من نظم حروفه بخلاف ما أنت واجد من كلام البلغاء، فإنّ بلاغته إنّما تصنع لموضعها وتبنى عليه، فربّما وفت وربّما أخلفت، ولو هي رفعت من نظم الكلام ثمّ نزل غيرها في مكانها لرأيت النظم نفسه غير مختلف، بل لكان عسى أن يصحّ ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم، وأن نعرف له بذلك مزية في التوازن حروفه وائتلاف مخارجها وتناسب أصواتها، ونحو هذا ممّا هو أصل الفصاحة، وممّا لا تغني فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا غيرها.لأنّه وجه من تأليف الحروف ونسق اللفظ فيها ؛ وأنواع البلاغة إنمّا هي وجوه التأليف بين معاني الكلمات.فالحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه، لأنّه يمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة، وهذا هو السرّ في إعجاز جملته إعجازاً أبديّاّ، فهو أمر فوق الطبيعة الإنسانيّة، وفوق ما يتسبّب إليه الإنسان إذ هو يشبه الخلق الحيّ تمام المشابهة، وما أنزله إلاّ الذي يعلم ( السرّ ) في السموات و الأرض.فأنت الآن تعلم أنّ سرّ الإعجاز هو في النظم، وأنّ لهذا النظم ما بعده ؛ وقد علمت أنّ جهات النظم ثلاث: في الحروف، والكلمات، والجمل، فهاهنا ثلاثة قصول تعرفها فيما يلي:

الحروف وأصواتها

بسطنا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب حاشية الكلام في الأسباب اللسانيّة التي جرت عليها الفصاحة العربيّة، وكانت معدلاً لألسنة القوم بين الاستخفاف والاستثقال، وبين اللّين في حرف والجسأة في حرف، وبين نظم مؤتلف ونظم مختلف، فانتزعوا بها وجوه التأليف والتركيب في ألفاظهم وجملهم على سنن لائح ونسق واضح، وأفضينا من كلّ ذلك إلى مخارج حروفها وصفاتها.بيد أننّا لم ننبّه ثمة إلى أنّ هذه المخارج وهذه الصفات إنمّا أخذ أكثرها من ألفاظ القرآن لا من كلام القرآن، وتألّفت لها حروف هذه الألفاظ، إنمّا هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب، ولكنّها ظهرت فيه أول شيء على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فجعلت المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن، ولا تلوي من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بد من الاسترسال إليه والتوفر على الاصغاء، لا يستمهله أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة ؛ فإنّه إنمّا يسمع ضرباً خالصاً من الموسيقى اللغويّة في انسجامه واطّراد نسقه واتزانه على أجزاء النفس مقطعاً مقطعاً ونبرة نبرة كأنّها توقّعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة. وهذا نوع من التأليف لم يكن منه في منطق أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء إلاّ الجمل القليلة التي إنمّا تكون روعتها وصيغتها وأوزان توقيعها من اضطراب النفس فيها إذ تضطرب في بعض مقامات الحماسة أو الفخر أو الغزل أو نحوها فتنتزي بكلام المتكلم من أبعد موضع في قلبه حتى تنتهي به إلى الحلق ثمّ ترسله من هناك وكأت ألفاظه عواطف تتغنّى. وقد كان منطق القوم يجري على أصل من تحقيق الحروف وتفخيمها، ولكنّ أصوات الحروف إنمّا تنزل منزلة النبرات الموسيقيّة المرسلة في جملتها كيف اتّفقت، فلا بدّ لها من ذلك من نوع في التركيب وجهة من التأليف حتى يمازج بعضها بعضاً، ويتألف منها شيء مع شيء، فتتداخل خواصّها، وتجتمع صفاتها، ويكون منها اللحن الموسيقيّ، ولا يكون إلاّ من الترتيب الصوتيّ الذي يثير بعضه بعضاً على نسب معلومة ترجع إلى درجات الصوت ومخارجه وأبعاده. فكان العرب يترسّلون أو يحذمون في منطقهم كيفما اتّفق لهم، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت ؛ دون تكييف الحروف التي هي مادّة الصوت، إلى أن يتّفق من هذه قطع في كلامهم تجيء بطبيعة الغرض الذي تكون فيه، أو بما تعمّل لها المتكلم، على نمط من النظم الموسيقيج، إن لم يكن في الغاية ففيه ما عرفوه من هذه الغاية. فلمّا قرئ عليهم القرآن، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحاناً لغويّة رائعة ؛ كأنّها لاتئلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها فلم يفتهم هذا المعنى، وإنّه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم ؛ حتى إنّ من عارضه منهم، كمسيلمة، جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظماً موسيقيّاً أو باباً منه وطوى عمّا وراء ذلك من التصرّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البيانيج، كأنّه فطن إلى أنّ الصدمة الأولى للنفس العربيّة، وإنمّا هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها ؛ وليس يتّفق ذلك في شيء من كلام العرب إلاّ أن يكون وزناً من الشعر أو السجع. وأنت تتبيّن ذلك إذا أنشأت ترتّل قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن، ممّا تراعي فيه أحكام القراءة وطرق الأداء، فإنّك لا بدّ ظاهر بنفسك على النقص في الكلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن، بل ترى كأنّك بهذا التحسين قد نكرت الكلام وغّيرته، فأخرجته من صفة الفصاحة، وجردّته من زينة الأسلوب، وأطفأت رواءه ؛ وأنضبت ماءه، لأنّك تزنه على أوزان لم يتّسق عليها في كلّ جهاته، فلا تعدو أن تظهر من عيبه مالم يكن يعيبه إذا أنت أرسلته في نهجه وأخذته على جملته. وحسبك بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنّه ممّا لا يتعلق به أحد، ولا ينّفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلاّ فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعض مناسبة طبيعيّة في الهمس والجهر، والشدّة والرخاوة والتفخيم والترقيق ؛ والتفشّي والتكرير، وغير ذلك ممّا في الهمس والجهر، والشدّة والرخاوة والتفخيم والترقيق ؛ والتفشّي والتكرير، وغير ذلك ممّا أوضحنا في صفات الحروف من باب اللغة في تاريخ آداب العرب. ولقد كان هذا النظم عينه هو الذي صفّي طباع البلغاء بعد الإسلام، وتولجى تربية الذوق الموسيقيّ اللغويّ فيهم، حتى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم - ممّا يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف - ما لم يكن مثله للعرب من قبلهم، وحتى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسّل على جفاء كان فيهما، إلى سجع وترسل تتعرّف في نظمها آثار الوزن والتلحين، على ما يكون من تفاوتهم في صفة ذلك وقداره، ومبلغهم من العلم به، وتقدّمهم في صنعته. ولولا القرآن وهذا الأثر من نظمه العجيب، لذهب العرب بكلّ فضيلة في اللغة، ولم يبق بعدهم للفصحاء إلاّ كما بقي من بعد هؤلاء في العاميّة، بل لما بقيت اللغة نفسها، كما بسطناه في موضعه. وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مداً أو غنة أو ليناً أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها ؛ ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع ؛ أو الإطناب والبسط ؛ بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها، مما هو بلاغة الأصوات في لغة الموسيقى. فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن على طرق الأداء الصحيحة لرأينا أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها في هز الشعور واستثارته من أعماق النفس ؛ وهو من هذه الجهة يغلب بنظمه على كل طبع عربي أو أعجمي، حتى إن القاسية قلوبهم من أهل الزيغ والإلحاد، ومن لا يعرفون لله آية في الآفاق ولا في أنفسهم، لتلين قلوبهم وتهتز عند سماعه، لأن فيهم طبيعة إنسانية، ولأن تتابع الأصوات على نسب معينة بين مخارج الأحرف المختلفة، هو بلاغة اللغة الطبيعية التي خلقت في نفس الإنسان، فهو متى سمعها لم يصرفه عنها صارف من اختلاف العقل أو اختلاف اللسان ؛ وعلى هذا وحده يؤول الأثر الوارد أن في الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً، لأنه يجنب هذا الكمال اللغوي ما يعد نقصاً منه إذا لم تجتمع أسباب الأداء في أصوات الحروف ومخارجها، وإنما التمام الجامع لهذه الأسباب صفاء الصوت، وتنوع طبقته، واستقامة وزنه على كل حرف. وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها ؛ أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن، فإن لم تنته بواحدة من هذه، كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى، كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واحده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو ضروب أخرى من النظم الموسيقي. وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة ؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضرباً من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه للعجز، فتألقت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللا بيناً، أن ضعفاً ظاهراً في نسق وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولاً وبعضها عرضاً، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة. ومما انفرد به القرآن وباين سائر الكلام، أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة ؛ وكلما أخذت فيه وجهة الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضاً طريجاً، وجديداً مؤنقاً، وصادفت من نفسك له نشاطاً مستأنفاً وحساً موفوراً، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوق الحروف ويستمري تركيبها ويمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرا ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه.وهو لعمر الله أمر يوسع فكر العاقل ويملأ صدر المفكر، ولا نرى جهة تعليله ولا نصحح منه تفسيراً إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها، ثم اختلاف ذلك من الآيات بسطاً وإيجازاً، وابتداء وردجاً، وإفراداً وتكريراً. هذا على أنه ترسيل واتساق وتطويل، لا يضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقيج ؛ ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان وضروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت وطريقة تصريفه وتوقيعه، لا إلى أصوات الحروف ووجه تأليفها وتتابعها فيحسن مع أهل الصناعة وإن كانت حروفه غثة التركيب سمجة المخارج وكانت جافية كزة.حتى إذا صار إلى من لا يحسن أن يوقع عليه الصوت ويطرد له اللحن من غير حذاق المغنين، خرج أبرد كلام وأرذله وأسمه، وجاء وما تعرف من الكلال والفتور والتهالك في كلام أكثر مما تعرف منه. وبهذا الذي قدمناه يفسر قوله صلى الله عليه وسلم: ( القرآن صعب مستصعب على من كرهه ؛ لأن كرهه لا يكون إلا زعماً وتكلفاً من اللسان ؛ فأيما امرؤ سمعه أو فهمه أحبه وسوغه من شعوره ونفسه ؛ فمن أين تدخل الكراهة على النفس ولا سبيل إليها في الكلام إلى السمع والفؤاد ؟ ). ولا يذهبن عنك أن الحروف لم تكن في القرآن على ما وصفنا بأنفسها دون حركاتها الصرفية والنحوية، وليست هذه الحركات إلا مظاهر الكلم فمن ههنا يستجر لنا القول في النوع الثاني من سر الإعجاز. . .

الكلمات وحروفها

والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس ؛ لأنها تلبس قطعة من المعنى فتختص به على وجه المناسبة قد لحظته النفس فيها من أصل الوضع حين فصلت الكلمة على هذا التركيب. وصوت النفس أول الأصوات الثلاثة التي لابد منهال في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمع الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصورها النفسية، فيجري في النفس مجرى الإرادة، ويذهب مذهب العاطفة، وينزل منزلة العلم الباعث على كلتيهما، فإن البيان لا يؤلف أصواتاً لرياضة الصدر بها وصلابة الحلق عليها ولكنه صور نفسية في الطبيعة وصور طبيعية في النفس، فإذا لم يكن حيجاً ناطقاً يلمح بعضه بعضاً، ولم يكن بتركيبه وطريقة نظمه كأنما يحمل من معناه للنفس عنه، وصارت معانيه كأن ليس لها أصول فيها، وكأنها مادة جامدة، أو روح مادة ميتة، بل هو ربما سفل إلى منزلة الإشارة التي هي اللغة الأولى منذ كان الإنسان يتكلم بحواسه، والتي هي اضعف الكلام وأخفاه وأشد التباساً في مذاهب المعاني النفسية، لأنها ( أي الإشارة ) باب من النطق الصامت ؛ كما أن ذلك لوزن من الصمت الناطق. أما الأصوات الثلاثة التي أومأنا إليها فهي:1 - صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة وعلى نضد متساو، بحيث تكون الكلمة كأنها خطوة للمعنى في سبيله إلى النفس، إن وقف عندها هذا المعنى قطع به. 2 - صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لا يخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها. 3 - صوت الحس، وهو أبلغهن شأناً، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورد عليها من وجوه البيان، أو يسوق إليها من طرائف المعاني، يدعها من موافقته والإيثار له كأنها هي التي تريده وكأنها هي التي تحاول أن يتصل أثرها بالكلام، إذ يكون قد استحوذ عليها وانفرد منها بالهوى والاستجابة. وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة، فإن خرج مما وقفت عنده الطباع النفسية فلم يكن في بعض الكلام مقداراً معيناً تحسه وتفقده في جهة، وتراه مرة ماثلاً ومرة زائلاً، بل صار كأنه روح للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي - فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون خلقاً روحياً ؛ وكأنه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة. ولو تأملت هذا المعنى فضلاً من التأمل، وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه، لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم، بحيث لو خلا منه لأشبه أن يكون إعجازه صناعياً عند العرب - أن يبقى معجزاً - ولو هم فقدوا هذا المعنى من أكثره أو من أقله، لقد كانوا وجدوا مذهباً فيه للقول ومساغاً للرد، ولظلوا في مرية منه، ثم لسارت عنهم الأقاويل في معارضته واعتراضه. ذلك بأن صوت النفس طبيعي في تركيب لغتهم، وإن كان فيها إلى التفاوت كمالاً ونقصاً، وصوت الفكر لا يعجزهم أن يستبينوه في كثير من كلام بلغائهم، أما صوت الحس فقد خلت لغتهم من صريحة وانفرد به القرآن وقد كانوا يجدونه في أنفسهم منذ افتنوا في اللغة وأساليبها ولكنهم لا يجدون البيان به في ألسنتهم ؛ لأنه من الكمال اللغوي الذي تعاطوه ولم يعطوه، وإنما كانوا يبتغون الحيلة إليه بألوان من العادات وضروب من التعبير النفسي، إذا هي اتصلت بالحس البياني الذي ميزتهم به الفطرة أشبهت أن تكون استواء حسياً، وبهذا خلص إليهم كلام شعرائهم وخطبائهم. وبلغ من أنفسهم ومازجها، وكان منها في محل وموقع ؛ على أننا نقرأ اليوم أكثره ولا نجده بتلك المنزلة. وإنما مثل ذلك كمن يفتتن بالجمال، فهو إذا رأى الوجه الجميل كانت نظرته إليه كلاماً نفسياً لو جهد البلغاء جهدهم على أن يحكموه بالعبارة كما هو نفسه لأعيتهم وسائل البلاغة أن يمهدوا منها لهذه الحالة النفسية ؛ ولجاءوا من كلامهم بالحس المغمور الذي لا يعدم بعض النقص والاضطراب مما حسبوه قد تكامل واستقرج. وهذا مثال يطرد في كل ما أنت واجده من البلاغة العربية.فلا ترى شيئاً منها يروعك ويملك عليك المذاهب من نفسك بالتئام أجزائه ورشاقة معرضه وحسن تصويره، غلا وقعت منه على ضرب من الاستعانة بالخيال الشعري أو العادة الثابتة أو العاطفة المطمئنة أو نحوها.القرآن لا يستعين بشيء من ذلك في إحكام عبارته والتأني بها إلى النفس وانتظام أسباب التأثير فيها، وليس إلا أن تقرأه حتى تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماته وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى - بأنه كلام يخرج من نفسك، وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتاً، واستحال كل ما فيك من قوة الفكر والحس إليها وجرى فيها البيان، فصرت كأنك على الحقيقة مطوي في لسانك. وأعجب شيء في أمر هذا الحس الذي يتمثل في كلمات القرآن أنه لا يسرف على النفس ولا يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كل أنواع التأثير عليها، فلا تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخونها الملال.ولا تزال تبتغي أكثر من حاجتها في التروح والإصغاء إليه والتصرف معه والانقياد له، وهو يسوغها من لذتها ويرفه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان، مع أن أبلغ ما تفق للبلغاء لا تجمع منه النفس بعض ذلك حتى يتعسفها ويثقل عليها وتبتلى منه بالتخمة وسوء الاحتمال، وحتى لا تكون البلاغة في سائره بعد ذلك إلا طمعة خبيثة لأنها جاءت من وراء القصد وفوق الحاجة فلا تعدم النفس أن تجد من جماله قبحاً، ومن صوابه خطأ ؛ ولا يمتنع أن يكون فيه النافر والقلق والمحال عن وجهه وما إلى ذلك مما تسكن النفس إلى تأمله وتستجم بتصفحه والبحث عنه واعتراضه في سياق الكلام ونسق التركيب. وهذا أمر ليس في قدرة أحد أن ينفيه عن كلام البلغاء متى امتد به النفس واتسقت له المعاني وتداخلت فيه الأغراض، ولا نرى أحداً يقدر على أن يثبت منه شيئاً في القرآن، لأن طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة، كما يكون للخالص من ضروب الموسيقى، على ما هو معروف من تأثيرها في النفس ووجه هذا التأثير، بل للنفس العربية كالحداء للإبل العربية ؛ مهما كدها السير لم يزدها إلا إمعاناً فيه ولم تستأنف منه إلا نشاطاً واعتزاماً حتى ليذهب بها المراح وكأنها تريد أن تسابق الحروف والأصوات المنبعثة من أفواه من يحدونها. ولو ذهبنا نبحث في أصول البلاغة الإنسانية عن حقيقة نفسية ثابتة قد اطردت في اللغات جميعاً وهي في كل لغة تعد أصلاً في بلاغتها، لما أصبنا غير هذه الحقيقة التي لا تظهر في شيء من الكلام ظهورها في القرآن وهي: ( الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي ).وما تعرف في هذه الأساليب العربية خاصة - وقد مخضناها جميعاً وفررنا باطن أمرها - إلا إسرافاً على هذا الحس، أو تراجعا من دونه ؛ فأما أمر بين ذلك على أن يكون قصداً، وألا يكون إلا المحض من هذا القصد، وأن لاتجده إلا سواء في محض الاعتبار من حيث أجريته على هذه الحقيقة فلا يكون من شأنه أن يستوي معك في جهة ويلتوي عليك من جهة - فهذا ما لا نعرفه على أتمه وأبينه في القرآن، ولا نعرف قريباً منه إلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بين الجهتين ما بينهما. ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة كما تجد من كل ذلك في أساليب البلغاء، بل نزلت كلماته منازلها على ما استقرت عليه طبيعة البلاغة، وما قد يشبه أن يكون من هذا النحو الذي تمكنت به مفردات النظام الشمسي وارتبطت به سائر أجزاء المخلوقات صفة متقابلة بحيث لو نزعت كلمة منه أو أزيلت عن وجهها، ثم أدير لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها، لم يتهيأ ذلك ولا اتسعت له اللغة بكلمة واحدة، كما سنبينه في موضع آخر، وهو سر من إعجازه قد أحس به الرعب، لأنهم لا يذهبون مذهباً غيره في منطقهم وفصاحة هذا المنطق، وإنما يختلفون في أسباب القدرة عليه ومعنى الكمال فيه، ولو أنهم وجدوا سبيلاً إلى نقص كلمة من القرآن لأزالوها وأثبتوا فيه هذا الخطأ أو ما يشبه الخطأ في مذهبهم، غذ كان من المشهور عنهم مثل هذا الصنيع في انتقادهم وتصفحهم بعضهم على بعض في التحدي والمناقضة. لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجزي واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد شرط الفصاحة ؛ لأن لكل لفظ صوتاً ربما أشبه من الكلام ومن طبيعة المعنى الذي هو فيه والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان بغير ذلك أشبه. فلا بد في مثل نظم القرآن من إخطار معاني الجمل وانتزاع جملة ما يلائمها من ألفاظ اللغة، بحيث لا تند لفظة، ولا تتخلف كلمة ؛ ثم استعمال أمسها رحماً بالمعنى، وأفصحها في الدلالة عليه، وأبلغها في التصوير، وأحسنها في النسق، وأبدعها سناء، وأكثرها غناء، وأصفاها رونقاً وماء، ثم اطرد ذلك في جملة القرآن على اتساعه وما تضمن من أنواع الدلالة ووجوه التأويل ثم إحكامه على أن لا مراجعة فيه ولا تسامح، وعلى العصمة من السهو والخطأ في الكلمة وفي الحرف من الكلمة، حتى يجيء ما هو كأنه صيغ جملة واحدة في نفس واحد وقد أديرت معانيها على ألفاظ في لغات العرب المختلفة فلبستها مرة واحدة، وذلك ولا ريب مما يفوت كل فوت في الصناعة، ولا يدعيه من الخلق فرد ولا جماعة. ولقد صارت ألفاظ القرآن بطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحداً من البلغاء لا تمتنع عليه فصح هذه العربية متى أرادها، وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه، وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها، لأنها في القرآن تظهر في تركيب ممتنع فترف به، ولهذا ترتفع إلى أنواع أسمى من الدلالة اللغوية أو البيانية التي هي طبيعية فيها، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم وتكون بتركيبها المعجز طبقة عقلية في اللغة، ومن ثم تتنزل الأفكار منزلة التوهم الطبيعي الذي يؤثر بالصفة ما يؤثر بالشيء الموصوف بل بما وفى وزاد، كما ترى فيمن يهتز للشعر ويطرب له ويملكه رق أعصابه النفسية، فإنه يبصر الشاعر الفحل الذي أعجب به فتوهم في رأسه المعنى الكريم والخيال البارع والتعبير الذي هو ضرب من الوحي، وكأنما يتخيل من الرأس صومعة إلهية تهبط عليها ملائكة الحكمة والبيان، وإنه ليتوهم ذلك فيهتز له هزة عصبية واضحة تعرفها في انتشائه والتماع عينيه واستطارة ألحاظه وما تنطق به معارف وجهه، وإن ذلك ليأخذ منه ما تأخذ القصيدة البارعة والكلمة النادرة، وإنه على ذلك في نفسه لشديد، فكهذا ما سميناه باب التوهم الطبيعيج، وهو بمنزلة من الحقائق النفسية. ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضاً، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ وربما كانت أوكس النصيبيين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان، واكتنفها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة:من ذلك الفظه ( النذر ) جمع نذير ؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتوليها على النون والذال معاص، فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام.فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه ؛ ولكنه في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنّذُرِ )، فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال ( لقد )، وفي الطاء من ( بطشنا ) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو ( تماروا )، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفاً بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة.ثم ردد نظرك في الراء من ( تماروا ) فإنها ما جاءت إلا مسادنة لراء ( النذر ) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون ( أنذرهم ) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في ( النذر ). وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجباً في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم فيه النظر وأحكمته الرؤية وراضه اللسان، وليس منها إلا متخير مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يلتمس وعلى أي جهة يستطاع ؟ وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها - فضلاً عن القرآن كله ؟ - وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية ؟ والبليغ من الناس متى اعتسف هذا الطريق ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه ففقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتناثرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لج في المكابرة لجت البلاغة في الآباء، فمثله كمن يمشي مستديراً ويحسب أنه يتقدم، لأنه - زعم - لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده، ولأن نظره ما يزال ثابتاً فيما يستقبله. إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يلم به من تلك الجهة أو يجعل طريقه عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهاماً ووحياً، لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسر له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من التواء ومن مغمز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة جملة أو بيتاً من قصيدة أو شطراً من بيت، لا يطرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقاً ؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضرباً موسيقياً، وينظم نظماً مطراداً، ويهدف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف، ويعصب الحركة بالحركة، ويجري بعضاً من بعض - فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ، فليس يستقيم في ألفاظ ذات معان، فهو لغو من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرناً.ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة. وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكرم عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلاً بطبيعة وطبعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجاً سرياً، فكانت من احضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقاً وأخفها تركيباً، إذ تراه قد هيأ لها أسباباً عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: ( لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ ) فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات ؛ غذ تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ) فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها. وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء، لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عرب ولم يكن في الأصل عربياً: كابراهيم واسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها ؛ ولا يجيء به مع ذلك غلا أن يتخلله المد كما ترى ؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان. وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة ( ضيري ) من قوله تعالى: ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ ) ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه ؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها ؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء ؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله مع أولادهم البنات فقال تعالى: ( أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ ) فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملأمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها ؛ وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى ؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، و خاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية. والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها هيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسياً، وفي تألف أصواتها معنى مثله في النفس ؛ وقد نبهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب. وإن تعجب فعاجب لنظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غنتين في ( إذن ) و ( قسمة ) وإحداهما خفيفة حادجة، والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست غلا مجاورة صوتيج لتقطيع موسيقى وهذا معنى أربع للثلاثة التي عددناها آنفاً، أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة - على غرابتها - إنما هي أربعة أحرف أيضاً. ثم الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفاً: كقوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ) وقوله: ( فَلَمّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىَ وَجْهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً ) فإن النحاة يقولون إن ( ما ) في الآية الأولى و ( أن ) في الثانية، زائدتان، أي في الإعراب.فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لوناً من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإنه المراد بالآية الأولى، تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في ( ما ) وصفاً لفظياً يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها ( وهو لفظ رحمة ) مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى. والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه - عليهما السلام - وأن ذلك كأنه كان منتظراً بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة ؛ وهي ( أن ) في قوله: ( أن جاء ). وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجال يعتسف الكلام ويقضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره. .فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب.ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعه ويقصر به علمه، ولا يدع مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مطلعه ومأتاه فيمضي القول على ما خيل ؛ ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالة من أن يكابر عليها ؛ ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال، ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتجج، وما في الخطأ جهة ثالثة إلا أن يصير على الخطأ. ومما لا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صبت على الجملة صبجاً - أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعاً ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة ( اللب ) فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: ( إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ ) وقوله: ( وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) ونحوهما، ولم تجيء فيه مفردة، بل جاء في مكانها ( القلب )، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثم فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة ؛ تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها ؛ نصباً أو رفعاً، أو جراً ؛ فأسقطها من نظمه بتة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة ( الجب )، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة. وكذلك لفظة ( الكوب )، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ ( أكواب ) الذي هو الجمع. و ( الأرجاء ) لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعاً وترك المفرد - وهو الرجا: أي الجانب - لعله لفظة، وأنه لايسوغ في نظمه كما ترى. وعكس ذلك لفظة ( الأرض ) ؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسر الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجد لها كل فكر سجدة طويلة، وهي في قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) ولم يقل: وسبع أرضين ؛ لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالاً، وأنت فتأمل - رعاك الله - ذلك الوضع البيانيج، واعتبر مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائع، وبالغ الأسباب، وأحكم ما قبله وما وراءه. . ومن الألفاظ لفظة ( الآجر ) وليس فيها من خفة التركيب إلا الهمزة وسائرها نافر متقلقل لا يصلح مع هذا المد في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلما احتاج إليها لفظها ولفظ مرادفها وهو ( القرمد ) وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألطف عبارة وأرقها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف بفضح الصبح، وذلك في قوله تعالى: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ ) فانظر، هل تجد في سر الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرع أو أبدع من هذا ؟ وأي عربي فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يملكه حسه ولا يسوغه حقيقة نفسه ولا يجن به جنوناً ولا يقول آمنت بالله ربجاً وبمحمد نبياً وبالقرآن معجزة.وتأمل كيف عبر عن الآجر بقوله: ( فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ ) وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله: ( فَأَوْقِدْ ) وما يتلوها من رقة اللام، فإنها في أثناء التلاوة مما لايطاق أن يعبر عن حسنه، وكأنما تنتزع النفس انتزاعاً. وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجازاً آخر ؛ فإنها تحقر شان فرعون، وتصف ضلاله، وتسفه رأيه، غذ طمع أن يبلغ الأسباب أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سلماً، إلا شيئاً يصنعه هامان من الطين. . وما يشذ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز ؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز ؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروفه ومكانه من النطق في الجملة ؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئاً فيما ليس فيه شيء. تأمل قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمّلَ وَالضّفَادِعَ وَالدّمَ آيَاتٍ مّفَصّلاَتٍ ) فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ ( الطوفان والجراد والدم ) وأثقلها ( القمل والضفادع ) فقدم ( الطوفان ) لمكان المدين فيها ؛ حتى يأنس اللسان بخفتها ؛ ثم الجراد وفيها كذلك مد ؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئاً بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لمكان تلك الغنة فيه ؛ ثم جيء بلفظة ( الدم ) آخراً، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفاً ؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب. وأنت فهمها قلبت هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع ؛ لو قدمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأعنتك أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أحالك ذلك عن قصد الفصاحة وقطعك دون غايتها.ثم لخرجت الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسواء ؛ ليس يظهر أخفها من أثقلها ؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيها ليس فيه إعجاز بطبيعته. وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقص في أمثلته لأنه أمر مطرد - تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة الوضع ولن تستوي هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن هنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث. ^

الجمل وكلماتها

والجملة هي مظهر الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، غذ يحيل بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معان تصورها في نفسه أو تصفها، ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها.على حين قد لايراها المتكلم الذي أهدفها لكلامه غرضاً ولكنه بالكلام كأنه يراها. ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إليها كأنها في الاعتبار بقية الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقية حس آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة. فإذا ركب الكلام على اصل من التركيب لا يتأدى بالمعاني إلى ابعد من مظاهر الحسج، فهذا هو الكلام الطبيعي الذي لا يزيد من فضيلة المتكلم أكثر مما تزيد وخفة المنزلة بحيث يخرج الناس جميعاً بالسواء فيه ليس لأحد منهم على أحد فضل، مادام الكلام سواء فيهم من اصل الخلقة وطبيعة الحياة. أما إذا خرج الكلام إلى أن يكون في أوضاعه ومعانيه كأنه تصرف من الحواس في أنواع الإدراك ودرجاته كتصرف النظر في اكتناه الجمال وإدراك معانيه ؛ أو السمع في استبانة الأصوات وحس نغماتها، إلى ما يشبه ذلك من صنع سائر الحواس في كمالها العصبي - فهذا هو الكلام النفسي الذي يضيف إلى صفة المتكلم صفة البلاغة ويرتفع به عن أن يكون إنساناً من الجنس إلى أن يكون - بفضيلة البلاغة - مادة إنسانية لجنس الإنسان. فإذا ارتفع الكلام إلى أن يصير في تقبيله ومداورته كأنه طرق ما بين الحواس في أنواع إدراكها وبين النفس، فلا يخطئ التأثير ولا ينافر جهة من جهاته ولا يعدو أن يبلغ من الفؤاد مبلغه الذي قسم له - فذها هو الكلام الذي يبين البليغ ويفرده من قومه ويجعله مهوى قلوبهم وسمت أبصارهم غذ يكون في نفسه من هذه القوة البيانية ما يجعله خليقاً أن يعتده التاريخ أحد المجاميع النفسية في الأرض، وهم الذين لا يكثرون بعددهم، ولكن بمواهبهم ؛ حتى عن أحدهم ليكون أمة في نفسه.ويكون عمله تاريخ عصر من أمجه ؛ وهم أولئك الأفراد العظماء الذين تبتدئ درجاتهم مما بين الخلق بعضهم من بعض، إلى ما بين الخلق و الخالق، من الشعراء إلى الأنبياء. فإذا بعد الكلام وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرق تصويره كأنما يفيض النفس على الحواس إفاضة، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة وبيان أمة برمتها، لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يقبله عن جهته، وإلى أن يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، وكأنهم معه طبقة واحدة وفي طوق واحد من العجز ؛ يعينهم طلبه، ويعنتهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهاً من القدرة فذلك هو الكلام المعجز، بل هو معجزة الطبيعة الكلامية التي لم تعرف في تاريخ أمة من أمم الأرض، ولا عرف أن بلغاء أمة من أمم الكلام قد أقروا وأجمعوا عليها إجماعاً يتوارثونه علماً ونظراً على انفساح التاريخ وتعاقب الأجيال، إلا ما كان من ذلك في القرآن، وما يزال الإجماع منعقداً عليه ما بقي في الأرض لفظ من العرب. وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدراً على تركيب الحواس النفسية في الإسنان تقديراً يطابق وضعها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قبل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوق، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخلق، لأنه تفصيل للحروف على النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته ولا يرد غيرها مردها ولا يأتلف ائتلافها ولا يجري فيها، إلى نحو ذلك مما أجرى عليه نشء الخلق وبعث الحياة، ثم اشتمالها على سر التركيب المكنون الذي جعل البلغاء منها بمنزلة الأطباء في سعة العلم بتركيب الأجسام الحية من الخلية فما فوقها، دون العلم بالوجه الذي يمكن به التركيب، على أنهم لا يفوتهم شيء من دقائقه ولا يعزب عنهم مثقال ذرة من مادته، وهي بعد مبذولة لهم يقلبونها ويستوضحونها ويزدادون بها على الدهر خبرة، ثم ينصرفون عنها وهم في العلم غير من كانوا وهي لاتزال عندهم على ما كانت. ولم نر شيئاً كان أمره مع العلم ذلك الأمر إلا أن يكون إلهياً، فقد فرغ الناس من كل ما وضع الناس، وعارض بعضهم بعضاً، وأبر بعضهم على بعض ولم يسلم للمتقدم من الفضل على المتأخر إلا فضيلة احترام الموت واستحياء التاريخ، وقد بدلت الأرض غير الأرض وليس فيها من أثر واحد لم يتناوله ناموس النشوء بالنقض من إحدى جهاته على هرم الدهر وتقادمه، غير القرآن ؛ فإنه طبقة وحده في إعجاز تركيبه وسلامة معانيه، لم تنقض منه آية ولا كلمة ولا ما دون الكلمة، ولا ذكر معه شيء من كلام البلغاء.ولا عورض به ولا أزيل عن موضعه، ولا وزنه عقل إلا كان مرجوحاً أبداً، وما أراده أحد إلا أراده بغير طريقته، ولا بحث عن طريقته إلا عي بإدراكها وبعل بها ولم يدر ما هي ولا كيف وهي ولا من أين يأتي لها، وصار أمره نشراً لا نظام له وعاد علمه جهلاً لا بصيرة معه: ولعمري إنه ليس في العجائب كلها شيء أعجب من إمكان أن يكون القرآن مع هذا الإعجاز كله غير معجز. . . ولقد كانت هذه الطريقة المعجزة التي نزل بها القرآن هي السبب في حفظ العربية واستخراج علومها ؛ وما كان أصل ذلك غلا التحدي بها، فإن من حكمة هذا التحدي أن يدعوهم إلى النظر في أساليبه ووجه نظمه وتدبر طريقته، وأن يزوروا أنفسهم منه ويزنوها به، حتى إذا استيقنوا العجز وأطرقوا عليه، كان لك سبباً لمن يخلفهم على اللغة إلى استبانة وجوه الإعجاز، فكشف لهم عن فنون البلاغة، وتأدت بهم إلى حيث بلغوا من تتبع كلام العرب والاستقصاء فيه والكشف عن محاسنه، وأغرى بعض ذلك من بعضه، وأعان كل على كل، حتى اجتمعت المادة وتلاحقت الأسباب ولولا ما صنعوا لخرج الناس إلى العجمة، ولذهبت هذه الآداب ولما بقي في الأرض إلى اليوم من يقول إن القرآن معجز. وذلك بأن العرب لم يكن لهم من البلاغة إلا علم الفطرة، ولم يكن لمن بعدهم من هذه الفطرة إلا ما ترجعه الوراثة من أوليتهم، وهو شيء تتولاه العصور بالتحول والزيغ، وتدأب عليه بالنقض والاختلاف، حتى يخرج عن أصله إلى أن يكون أصلاً جديداً، ثم إلى أن تنشق منه أصول أخرى وهي الطريقة التي تنشأ بها اللغات وتستمر وتذهب في الاشتقاق، فلا يبقى على ذلك من البلاغة العربية شيء ينفذ إليه العلم أو تستطيعه القدرة، إذ تكون العربية نفسها قد درست وانتثرت بقاياها في القبور والأنقاض. ومن البين أن أخص أسباب الارتقاء كائن فيلا الغلبة، والتميز والانفراد حيث وجدت، - فلو جاء القرآن كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صلح أن يكون سبباً لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية ؛ لا ينفرد ولا يستعلي. فتدبر أنت هذا الأمر العجيب الذي كان الأصل فيه نزول آيات التحدي، وتأمل كيف أثبت القرآن إعجازه على الدهر بهذه الآيات القليلة، وكيف ضمن بما وراءها نشأة العقول التي تدرك هذا الإعجاز وتقر به، وتكون مادة لتاريخه الأبدي، لا تضعف ولا تنحسم ؟ وهل بعد هذا من ريب في قول الله - تعالى - يخاطب الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ( وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) فقد علم الله هذا الأمر كيف يكون وكيف يثبت، فقدره بعلمه وفصله بحكمته قبل أن يقع، فانظر إلى آثار رحمة الله. أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرته وكيفما تأملتها وأين اعترضتها من مصادرها ان مواردها ومن أي جهة وافقتها ؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب ؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلاف حروفها وتباين معانيها وتعدد مواقعها من أن تكون جوهراً واحداً في الطبع والصقل، وفي الماء والرونق ؛ كأنما تتلامح بروح حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالط إحساسك فلن تكون معها إلا على حالة واحدة. تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلك بالطرب، وتشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام، وتصفحت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفل، أو يستمر وينتقص، أو يأتلف ويختلف. . .إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلال أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخليقة وطريقة النشأة وأسباب التحصيل وآلات الصناعة إذ كل ذلك ليس في كل الطباع الإنسانية على سواء. فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكامل وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها ويغلب عليك شبيه في التمثيل مما يغلب على أهل الحس بالجمال إذا عرضت لأحدهم صورة من صوره الكاملة، فإن لهم ضرباً من النظر يعتريهم في تلك الحالة خاصة، ولو سميته حس النظر الفكري لم تبعد، فهو يبتدئ في الصورة الجميلة ويستتم في النفس، فلو أنها أغمضت العين دونها لبقيت الصورة ماثلة بجملتها في الفكر، ولو وقفت العين على وجهة واحدة منها لوصلها الفكر بسائر أجزائها فتمثلت به سوية التركيب تامة الخلق، في حين لا ترى العين إلا هذه الجهة وحدها. وذلك أمر متحقق بعد في القرآن الكريم: يقرأ الإنسان طائفة من آياته فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحس ترافد ما بعدها وتمده، فلا تزال هذه الصفة في لسانه ولو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزنها عن ظل هي فيه.أو دفعتها عن ماء هي إليه، ولا يرى ذلك كله إلا سواء وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، لا يغتمص في هذا إلا كاذب على دخلة ونية، ولا يهجن منه إلا أحمق على جهل وغرارة، ولا يمتري فيه بعد هذين إلا عامي أو أعجمي. . .وكذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. إن طريقة نظم القرآن تجري على استواءٍ واحدٍ في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحس الكلمة وصفتها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام، وبالاستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوت ذلك ولا يختل، فمن أين يدخل على قارئه ما يكد لسانه، أو ينبو بسمعه ؛ أو يفسد عليه إصغاءه أو يرده عما هو منه بسبيله ؛ أو يتقسم إحساسه ويتوزع فكره ؛ أو يورده الموارد من ذلك كله أو بعضه ؛ إلا أن يكون هذا القارئ ريضاً لم تفلح فيه رياضة البلاغة ؛ ولا أجدى عليه التمرين والدربة ؛ فخرج ألف اللسان بليد الحس متراجع الطبع، لم يبلغ مبلغ الصبيان في إحساس الغريزة وصفاء هذه الحاسة واطراد هذا الصفاء. فإننا لنعرف صبيان المكاتب - وقد كنا منهم - وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه، إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو متون العلوم أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان، لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل، حتى لا يجمعوا منه قدراً في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن: على أنهم يبلغون من هذا بالعفو والأناة، ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد. وقد ينسى أحدهم الآية من القرآن فينقطع إلى الصمت من قراءته، أو تتدخل في لفظه بعض الآيات المشابهة في السور، أو يسقط بعض اللفظ في تلاوته فيضل في ذلك، ثم لا ييسره للذكر، ولا يذكره بالآية المنسية أكثر ما يتذكر، إلا نسق الحروف في بعض كلماتها، ولا يبين له مواقع الكلم المتشابهات، إلا نظام كل كلمة من آيتها، ولقد كان ذلك أكثر ما كنا نستعين به أيام الحداثة على اتقاء الغلط والمداخلة والسهو، وكنا نفزع إليه إذا جلسنا بين يدي فقيهنا - رحمه الله - مجلس القراءة ( والتسميع ).وقد عرفنا أن تأذي سمعه مقرون بأذى عصاه. . .وكم تواصفنا مع أذكياء الصبيان في ( الكتاب ) فما رأينا منهم إلا من أدخر لمحنته من ذلك أشياء. لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل الذي أومأنا إليه: نمطاً واحداً في القوة والإبداع، ولا تقع منه على لفظٍ واحدٍ يخل بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام الإلهي وما دام في موضعه من النظم والسياق فإذا حرفت ألفاظه من مواضعها، أو أخرجتها من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حصلت معك ألفاظ كغريها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها - وهي في الحالين لغة واحدة - كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لبعد ما كانت فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن، أصبت أمراً بالخلاف، رأيت لكل لفظه روحاً في تركيبها من الكلام فإذا أفردتها وجدتها قريبة مما كانت، لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى إذا أبنتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينت فيها الوحشة والقلة شبيه الذي يعرض للغريب إذا نزح عن موطنه وبان من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعياً لأن حقيقة التركيب إنما هي صفة الوحي في هذا الكلام. وهذه الروح التي أومأنا إليها، ( روح التركيب )، لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس ؛ ولولاها لم يكن بحيث هو كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم: فمن ههنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة ؛ هي صفة إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وإن كان فيما وراء ذلك متعدد الوجوه التي يتصرف فيها من أغراض الكلام ومناحي العبارات عل جملة ما حصل به من جهات الخطاب: كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال، إلى نحوها مما يدور عليه. ولولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة، على مقدار ما بين هذه المعاني ومواقعها في النفوس ؛ وعلى مقدار ما بين الألفاظ والأساليب التي تؤديها حقيقة ومجازاً.كما تعرفه من كلام البلغاء عند تباين الوجوه التي يتصرف فيها، إلى أنهم قد رفهوا عن أنفسهم وكفوها أكبر المؤنة فلا يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض ومعان يعذب فيها الكلام ويتسق القول وتحسن الصنعة مما يكون أكبر حسنه في مادته اللغوية، وذلك شائع مستفيض في مأثور الكلام عنهم، ثم هم مع هذا يستوفون المعنى الواحد على وجهه، فإذا تحولوا إلى غيره وأفضوا بالكلام إلى سواه رأيت من اقتضابهم في الأسلوب ومن التذاكر في وضع المعنى إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه. وعلى أنا لم نعرف بليغاً من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع وتقرير النظر وتبين الأحكام ونصب الأدلة وإقامة الأصول والاحتجاج لها والرد على خلافها، إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب ؛ وأنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر، والأسلوب الرائع، والصنعة المحكمة والبيان العجيب، والمعرض الحسن، فإذا صرت إلى ضروب من تلك المعاني، وقعت ثمة على شيء كثير من اللفظ المستكره، والمعنى المستغلق، والسياق المضطرب، والأسلوب المتهافت والعبارات المبتذلة، وعلى النشاط متخاذلاً والعرى محلولة، والوثيقة واهنة، وتبينت كلاماً لا تطمئن إليه في أكثر جهاته حتى لتعجب أن صاحبه وصاحب ذلك الكلام رجل واحد. وإنما وقع للبلغاء هذا النقص من جهة التركيب، إذ ليس في كلامهم روح كروح النظم في القرآن، ولا هذه الروح مما تطوعه قوى الخلق ؛ فلما صاروا إلى الوضع الذي تضعف مادته اللغوية من الحقيقة والمجاز وما إليها، صاروا إلى الضعف الذي لا قبل لهم ولا حيلة لهم فيه إلا مداورة الكلام وتعريض العبارة وتشقيق المعنى، فذهبوا إلى الخلق والتهافت وتصدير القول بالرقع من ههنا وههنا، فحيث أصبت كلمة رائعة أصبت منها رقعة، وكان ما اتفق لهم من هذه الصنعة في تحسين الكلام دليلاً على قبحه ؛ وكان قحاً جديداً. وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها ؛ وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمع لما في نفسك وأبين لهذه الحقيقة، غير كلمة الإعجاز. وما عسى أن تقول في كلام ترى للفظ من الألفاظ فيه معنى ؛ ثم ترى كأن لهذا المعنى في التركيب معنى آخر، هو الذي يفيض على النفس ويتصل بها فكأنه كلام مداخل وكأن اللغة فيه لغتان. ثم ما أنت قائل في كلام جاء من الإبداع في التأليف ومن وجوه التفنن في تلوين المعاني بحيث نفى العرب جميعاً عن لغتهم وهم في أرقى ما اتفق لهم من الصور اللغوية، واستبد بها دونهم واستغرق كل ما جاء به من محاسن البيان حتى لم يدع لمن يقابل بينه وبين كلامهم إلا حكماً واحداً تنتهي إليه المقالة من أي جهاتها سلك ؛ وهو أن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة. ثم ماذا يبلغ القول من صفة هذا التركيب العجيب، وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستفيد كل ما في العقول البيانية من الفكر، وكل ما في القوى من أسباب البحث ؛ كأنما ركب على مقادير العقول والقوى وآلات العلوم وأحوال العصور المغيبة ؛ فتراه يتخير من الألفاظ على درجات ليس معنى العجب فيها أن يقع التخير عليها، ولكن العجب أن تستجيب ألفاظه على هذا الوجه المعجز الذي لا يكون في اللغة إلا عن قدرة هي عين القدرة التي ألهمت أهلها الوضع والتعبير وتشقيق الكلام، حتى حصلت لغتهم كاملة في كل ذلك، أي معنى أعجب من أن تتجاذبك معاني الوضع في ألفاظ القرآن فترى اللفظ قاراً في موضعه لأنه الأليق في النظم، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى، ومع ذلك الأقوى في الدلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة، ومع ذلك الإبداع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية مما يتقدمه أو يترادف عليه، حتى خرج بذلك كله في تركيب، قصر معارضته أن تنتهي إليه بعينه، ولا مثل له إلا ما يتردد منه على لسان قارئه، وحتى خرج التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى من نفس اللغة العربية مخرج الترجمة إلى غيرها من اللغات إذا لم تحمل لغة من لغات الأرض حقيقة ما تعينه ألفاظه على تركيبها المعجز بل هو في ذلك يعجزها جميعاً ويخرج عن طوق أهلها وإن تساندوا فيه، وإنما جهد ما تبلغه تلك اللغات أن تجيء بشبه معانيه، قصداً في بعضها ومقاربة في بعضها مع الاستعانة بالشرح المبسوط والعبارة الملونة، وعلى أنه ليس ضرباً من ضروب الصناعات اللفظية التي لا يتفق فيها أنت تنقل من لغة إلى لغة. وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظاً أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولجى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها، حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه بأعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمة سواءً إلا في المعجز الذي يساوي بين القوى في المعجز وهي بعد ذات بينها مختلفات ؟

فصل غرابة أوضاعه التركيبية

وههنا أمر دقيق لا بد لنا من طلب وجهه، لأنه شطر الإعجاز في القرآن الكريم وسائر ما قدمناه شطر مثله ؛ وذلك أنك حين تنظر في تركيبه لا ترى كيفما أخذت عينك منه إلا وضعا غريباً في تأليف الكلمات، وفي مساق العبارة، ؟ وبحيث تبادرك غرابته من نفسها وطابعها بما تقطع أن هذا الوضع وهذا التركيب ليس في طبع الإنسان، ولا يمكن أن يتهيأ له ابتداء واختراعاً دون تقديره على وضع يشبهه، أو احتذاء لبعض أمثلة تقابله، لا تحتاج في ذلك إلى اعتبار ولا مقايسة، وليس إلا أن تنظر فتعلم. ولو ذهبت تفلي كلام العرب من شعر شعرائهم ورجز رجازهم وخطب خطبائهم وحكمه حكمائهم وسجع كهانهم، من مضى منهم ومن غبر على أن تجد ألفاظاً في غرابة تركيبها ( التي هي صفة الوحي ) كألفاظ القرآن، وعلى أن ترى لها معاني كهذه المعاني الإلهية التي تكسب الكلام غرابة أخرى يحس بها طبع المخلوق ويعتريه لها من الروعة ما يعتري من الفرق بين شيء إلهي وشيء إنساني - لما أصبت في كل ذلك مما تختاره إلا لغة وأوضاعاً ومعاني إنسانية، تقع بجملتها دون قصدك الذي أردت، ولا ترضاها للتمثيل والمقابلة، ولا تراها تحل مع القرآن إلا في محل نافر ولا تنزل منه إلا في قاصية شاردة ؛ ثم لوجدت فرق الغرابة الإلهية بين اثنينهما في الكلام عين ما تعرفه من الفرق بين الماء في سحابه، والماء في ترابه. وما من بليغ يتدبر هذه الأوضاع في القرآن ؛ ثم تحدثه النفس أن خاطراً إنسانياً يتشوف إلى مثلها، أو يصل بها سبباً من أسباب المطمعة، أو يظن أنه قادر عليها، إذ يرى غرابة الوضع في تركيب الألفاظ أشبه شيء بالتوقيف الإلهي في وضع الألفاظ نفسها لو كان وضعها ابتداء واختراعاً في اللغة وكان ذلك في زمنه ( أي البليغ ) أو بعين منه بحيث تظهر له غرابة الوضع اللغوي خالصة جديدة، لا شوب فيها مما يألفه السمع أو تمكنه العادة، أو نحو ذلك مما يجعل الغريب مأنوساً، أو يأخذ من غرابته أو يصقل بعض جهاتها.فيظهر الأمر الغريب وكأنه غير ما هو في نفسه. على أنه لا يجد مع تلك الغرابة في أوضاع القرآن، إلا ألفاظاً مؤتلفة متمكنة، التئام سردها وتناصف وجوهها ؛ لا ينازع لفظ واحد منها إلى غير موضعه، ولا يطلب غير جهته من الكلام.ولعمري إن اتفاق هذا الإحكام العجيب مع غرابة الوضع، لهو أغرب منها في مذهب البلاغة، وأدخل في باب العجب، ولولا أن الأمر إلهي، ولا عجب من قدرة الله. وقد كان العرب إنما يركبون ألفاظهم في معان مألوفة وعلى سنن معروفة فإن وقع فيها شيء غريب فلا يكون من ائتلاف اللفظ مع اللفظ وإنما يجيء من أبواب أخرى تتعلق بهيئة التركيب نفسه ؛ على ما عرف من جهات البلاغة وفنونها.وذلك شيء لا ينقض العرف، بل يتهيأ مثله لكل من تسبب له وأخذ في طريقته، وكثيراً ما اتفق للمتأخر فيه أبدع مما جاء به المتقدم ؛ لأنه أمر عموده الطبع ؛ وأسبابه في الاكتساب والتمرين، والبراعة فيه بالتوليد والمحاكاة والتأمل ؛ وهذه ضروب كلما اتسعت أمثلتها اتسعت فنونها، لاشتقاق بعضها من بعض ؛ وبها انتهت البلاغة في المتأخرين إلى ما انتهت إليه مما ذهب أكثره من علم المتقدمين في صدر اللغة. وتلك الغرابة التي أومأنا إليها، وقد يتفق الشيء منها لأفراد الفصحاء وأئمة البيان، مما ينفذ فيه الطبع اللغوي، والمنزع القوي، وهو من غرابة القريحة فيهم ؛ على أن ذلك لا يعدو كلمات معدودة: كقول امرئ القيس في الجواد ( قيد الأوابد ) وقول أبي تمام في الرأي: ( وطن للنهى ) ونحو ذلك من الكلمات الجامعة التي تتفق لفحول الشعراء والبلغاء، مما هو في الحقيقة وضع لغوي مركب، يشبه الوضع اللغوي في الكلمات المفردة، فيتناول اللغة والبلاغة جميعاً، وتكون فضيلة في الجهتين. بيد أنك ترى جملة تراكيب القرآن من غرابة النظم، على ما يشبه هذا الوضع في ظاهر الغرابة وترى فيه من البلاغة الجامعة خاصة أضعاف ما أنت واجده لأهل اللغة كلهم من الشعراء والخطباء والكتاب، وهذا الضرب من البلاغة تحصى منه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مل يرجح بكثير من الناس.ولكن لا يعمهم ؛ وهو باب من أبواب بلاغته - عليه الصلاة والسلام - بل من أخص أبوابها.كما نبسط في موضعه.متعاقبة.ولا يلبث اللفظ أن يوضع حتى يجري في الاستعمال ويستوفي وجوه التركيب التي يلقب عليها.فنزول القرآن في بضع وعشرين سنة.واجتماعه من سبع وسبعين ألف كلمة ونيف ؛ بهذه التراكيب التي لم تعد للعرب في غرابة أوضاعها التركيبية، وهو أهل الوضع والمتصرفون في اللغة بقياس القريحة وعلى أصل الفطرة - هو مما يحقق إعجازه الأبدي على وجه الدهر، إذ يستحيل بتة أن يتفق لعير أولئك العرب في باب، إفراداً وتركيباً على طرقه المعروفة ما اتفق للعرب، ولا بعضه، ولا قليل من بعضه، إلا إذا انشقت من لغتهم لغة أخرى على غير سننها وأصولها، كما ترى في غرابة كثير من الأوضاع العامية في كل لهجة من لهجاتها، لأن هذا الانشقاق وضع جديد جاء من تكييف المادة اللغوية على وجه غريب، وإن كانت هذه المادة في نفسها قديمة. وكل العلماء قد مضوا على أن ألفاظ القرآن بائنة بنفسها، مميزة من جنسها فحيثما وجد منها تركيب في نسق من الكلام، دل على نفسه وأوأمات محاسنه إليه ورأيته قد وشح ذلك الكلام وزينه وحرك النفس إلى موضعه منه ؛ وهو بعد أمر واقع لا وجه للمكابرة فيه، ولا نعرف له سبباً إلا ما بيناه من الصفة الإلهية في معانيه، وغرابة لوضع التركيبي في ألفاظه، فإن ذلك يتنزل منزلة الوضع الجديد في الكلام المألوف، فلا يبنئ الوضع الغريب عن نفسه بأكثر مما تدل عليه ألفة المأنوس الذي يحيط يه.ومن أجل ذلك كله قلنا إن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدوها القرآن تراكيب خالدة ؛ وأن لهذه اللغة معاجم كثيرة تجمع مفرداتها وأبنيتها، ولكن ليس لها معجم تركيبي غير القرآن. وإنما سميناه ( المعجم التركيبي ) لأنه أصل فنون البلاغة كلها فما يكون في المنطق العربي نوع بليغ إلا هو فيه على أحسن ما يمكن أن يتفق على جهته في الكلام، وقد رأيناه في كل أنواع البلاغة يجنح إلى الوضع والتأصيل حتى أنك لو قابلت ما فيه من أمثلتها بأحسن ما استخرجه العلماء من جملة كلام العرب، لأصبت فرق ما بين ذلك في سمو الطبيعة اللغوية وأحكام البيان وانتظام محاسنه، كالفرق الذي تكشفه المقابلة ما بين النبوغ والتقليد ولله المثل الأعلى. ولقد كان هذا القرآن الكريم بما استجمع من ذلك، هو ( علم البلاغة ) عند أولئك العرب الذين كانت البلاغة فيهم إحساساً محضاً، ثم صار من بعدهم بلاغة هذا العلم في المولدين، وهو على ذلك ما بقيت الأرض، فكان العرب يتلقون عنه البلاغة بوجدان الحاسة اللغوية وإحساس الفطرة، كما يتلقى أهل الفن الواحد قواعد النبوغ عن المثال الذي يخرجه لهم نابغة الفن. من ههنا كانت دهشتهم له، وكان عجبهم منه، إذ رأوه يجري مجرى الفن مما لا يعرفون له فنا، ووجدوه في ذلك ببلاغة البلغاء جميعاً، واستيقنوه فوق ما تسع الفطرة، ثم صار من بعدهم يأخذ منه أصول هذا العلم، عصراً بعد عصر، وقبيلاً بعد قبيل، حتى استقرت البلاغة على ( قواعدها ) وهو مع ذلك بحيث كان، لا الفطرة استوفت ما فيه من الصناعة ؛ ولا يزال بعد كأنه في نمط بلاغته سر محجب. وهذا أمر لم يقع له نظير في التاريخ ولن يقع بعد.وما من أمة في الأرض غير العرب استوفت وجوه البلاغة في لغتها من كتاب واحد ( على أن تكون هذه اللغة من أوسع اللغات وأبلغهن قصداً واستيفاء كالعربية ) سواء كان لها ذلك المكتب قبل أن توضع علوم بلاغتها وقبل أن يعرف منها باب أو فصل من باب أو مثال من فصل كما وقع في العربية، أو بعد أن وضعت، ولا سواء في المنزلة والإعجاز أن يكون الكتاب كذلك.

فصل البلاغة في القرآن

وبعد فلا سبيل من كتابنا هذا إلى بسط الكلام وتقسيمه فيما تضمنه القرآن من أنواع البلاغة التي نصب لها العلماء أسماءها المعروفة: كالاستعارة والمجاز وغيرهما، فضلاً عن أنواع البديع الكثيرة ؛ فإن ذلك يخرج الكلام مخرج التأليف وبناء القول على هذه الفنون نفسها، وهو معنى كان استخراجه من القرآن باباً مفرداً صنف فيه جماعة من العلماء المتأخرين: منهم الإمام الرازي المتوفى سنة 606، فقد لخص كتابي ( أسرار البلاغة ) و ( دلائل الإعجاز ) للجرجاني، واستخرج منهما كتابه في إعجاز القرآن وهو كتاب معروف، أحسن في نسقه وتبويبه، ثم الأديب ابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654 فقد صنف كتاب ( بدائع القرآن ) أورد فيه نحو مائة نوع من معاني البلاغة وشرحها، واستخرج أمثلتها من القرآن، ثم ابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751 وقد أشرنا في غير هذا الموضع إلى تصنيفه ( كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان ) وهو في معناه بتلك الكتب كلها. هذا إلى أن كل ما كتبه المتقدمون في علوم البلاغة وإعجاز القرآن: كالرماني، والواسطي، والعسكري، والجرجاني، وغيرهم.فإنما ينحون به هذا النحو من انتزاع أمثلته في القرآن، والإضافة في أبوابها، ثم ما يداخل هذه الأبواب من فنون الكلام شعره ونثره، ومن أجل ذلك قلنا آنفاً: إن القرآن كان علم البلاغة عند العرب، ثم صار بعدهم بلاغة هذا العلم. بيد انه لا يفوتنا التنبيه على أن كل ما أحصاه العلم من أنواع البلاغة في القرآن الكريم، فإنما هو جملة في طبيعة هذه البلاغة مما يمكن أن يقلب عليه الكلام في وجوه السياستين البيانية والمنطقية، بحيث يستحيل البتة أن يوجد في كلام عربي نوع من ذلك وقد خلا هو منه، إلا أن يكون من باب الصنعة والتكلف الذي يتلوم الأدباء على صنعه ويذهبون فيه المذاهب الكثيرة من النظر والإعداد والتنقيح ونحوها، ثم لا يعطيه معنى البلاغة مع كل هذا العنت إلا اصطلاحهم أنفسهم على أنهم من البلاغة. ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز، أو بالكناية لأنها كناية، أو ما يطرد مع هذه الأسماء والمصطلحات إنما أريد به وضع معجز في نسق ألفاظه وارتباط معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق، فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير، ويتجوز حين يتجوز، ويطنب ويوجز ويؤكد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أحصي في البلاغة ومذاهبها، لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزاً في جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقص يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكمل منه وأبلغ في القصد والاستيفاء. فالعلماء يقولون إن كل ذلك فنون من البلاغة وقع بها الإعجاز، لأنهم اصطلحوا على هذه التسمية التي حدثت بعد العرب، ولو قالوا إن القرآن معجز في العربية لأن الفطرة والعقل لا يبلغان مبلغه في سياستي البيان والمنطق بهذه اللغة، لكان ذلك أصوب في الحقيقة، وأبلغ في حقيقة الصواب، وأمكن في معنى الإعجاز، وأتم في هذا الباب كله، ما دام في لسان الدهر حرف من العربية. وأعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجاز القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياستين، والتأني إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه، وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورة الكلام على ذلك - إلا تأمله على هذه الوجوه، وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، وفي طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفس به، أو تدافعه، وتلتوي عليه من قبله، ثم طبقات هذا المعنى بعينه، وتقديرها على طبقات الأفهام، واعتبارها بما هو أبلغ في نفسه وأعم في وضعه، ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله، واندماجه فيما بعده، ومساوقته لأشباهه ونظائره حيث اتفق منها في الكلام شيء.ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصالتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اختير كل لفظ في موضعه، أو عدل إليه عن غيره، من حيث موافقته لمعنى الجملة ونظمها، ومن حيث دلالته في نفسه، وملاءمته لغيره، ثم النظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها اللغة ووجه اختير الحرف أو الصيغة، وموضع ذلك في الغناء، والإبلاغ في الدلالة من سواه، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، مما هو خاص بهذه الطريقة حسب ما توجهه المعاني، فإن كل ذلك في القرآن الكريم على أتمه، وليس فيه اضطراب أو التواء، ولا يجوز فيه عذر ولا تسويغ، وهو منه بحيث يدعو بعضه إلى بعض، ويريد بعضه بعضاً مما ينفي عنه التصنع والتكلف والمحاولة، ويدل على أنه كالمفرغ جملة واحدة، ثم هو أمر لا يجتمع البتة في كلام أحد من الناس ولا يستوسق على البلاغة الإنسانية.وما علوم البلاغة كلها إلا بعض الوسائل في التنبيه إليه، فهي تعطي القدرة على النظر والفهم ولكنها لا تعطي بمقدار ذلك في العمل والصنعة. ومهما كان العرب من الرياضة والتمرين واعتياد النفس وإدمان الدربة وذكاء الفطرة ودقة الحس، فإن هذه كلها تجري مجرى تلك العلوم في نسبة القدرة على الفهم - إلى القوة على العمل.الناس كلهم علم واحد في أن هؤلاء العرب يفهمون الشعر، ولكنا لم نجدهم كلهم شعراء، ورأينا الشعراء منهم متفاوتين وعرفنا التفاوت بينهم واضحاً، حتى لينفرد الواحد من الجميع في فن من أغراض الشعر، ثم لا يبينه منهم إلا بلاغة التراكيب، ومبلغ قوته في سياستي البيان والمنطق، وما قلناه في الشعراء فهو في صدقه على الخطباء هو بعينه، والخطابة أمس بما نحن فيه وأدنى إلى القصد منه، لا يقطعها من دونه ما عسى أن تنقطع عنده الحجة في الشعر، وإن كان الباب واحداً. وأنت إذا اعتبرت القرآن على تلك الوجوه التي فصلناها، رأيته أعلى من البلاغة التي وضعت لها تلك الفنون، فإن هذه من بيان اللسان الذي لا يرتفع عن طبقة اللغة ولا يخرج من وجوه العادة في تصريفها، وسنن أهلها في إبراز معانيها، وهذا أمر يقع فيه التفاوت، ويخرج بعضه إلى الأحكام وبعضه إلى التسامح وبعضه أمر يبين ذلك، لأن حالات المعاني مختلفة مع النفس فبعضها مما ينقاد، وبعضها مما يستكره، ثم النفوس مختلفة على حسب ذلك جماماً ونشاطاً أو ضعفاً وتخاذلاً، ومهما يكن في آثارها من بلاغة المعاني وإحكامها، ورونق العبارة ونظامها، فإن نفساً أنفذ من نفس، وحساً أدق من حس، وقوة أبلغ من قوة، وإحاطة أوسع من إحاطة. ومن هاهنا نجد العبارة البليغة الواحدة كثيراً ما تقع المواقع المختلفة على طبقات متعددة في أهل النظر حين يتأملونها ويصفونها، فإن بقيت على بلاغتها مع جميعهم لم يردها أحد ولا أنكرها، فلا بد من اختلاف هذه البلاغة حينئذ حتى تكون عند أقواهم كأنها ما هو عند أضعفهم، وحتى يخيل إلى الضعيف أن القوي إنما يتعنت في حكمه ويذهب بنفسه مذهب قوته، ويخيل إلى هذا القوي الضعيف لا يمحض نفسه ولا يستقصي في نظره ولا يقول بعلم، ولكل وجهة هو موليها، وإنما اختلاف بينهم من حيث اختلفت القوى.

فصل الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية

والقرآن وإن كان لم يخرج عن أعلى طبقات اللغة، ولا برز عن وجوه العادة في تصريفها، غير أنه أتى بذلك من وراء النفس لا من وراء اللسان.فجعل من نظمه طريقة نفسية في الطريقة اللسانية، وأدار المعاني على سنن ووجوه تجعل الألفاظ كأنها مذهب هذه المعاني في النفس، فليس إلا أن تقرأ الآية على العربي أو من هو في حكمه لغة وبلاغة، حتى تذهب في نفسه مذهبها: لا تني ولا تتخلف، على حين أن أكثر المعاني الإنسانية يجيء من النقص في السياسة البيانية، بحيث ترى نفس السامع أو القارئ هي التي تذهب فيه فتأخذ إلى جهة وتعدل عن جهة، وتصعد في ناحية وتستبطن في ناحية أخرى، ولا يكون من شأنها أن تنقاد وتذعن، ولكن أن تكابر وتأبى أو تتصفح وتستدرك أو تستحسن وتزدري، لأن المعنى قد ألقي إليها في ألفاظ تقصر بحقيقته النفسية في تركيبها ونظمها أو تضعف هذه الحقيقة، أو تلبسها بغيرها، أو تهمل تصورها لوناً من الألوان، أو تجيء بها على الشبه والمحاكاة مما لا يبلغ الحق في تصورها والتنبيه عليها. وقلما تصيب لأحد من بلغاء الناس كلاماً قد أحكمت ألفاظه من هذه الوجوه كلها، فإنك لتستطيع أن تجد في كل كلام بليغ معاني قد جلبت لألفاظها، ولكنك لا تستطيع أن تجد في القرآن كله إلا ألفاظاً لمعانيها، وإن فتشت وجهدت وطلبت في ذلك الفرطة والندرة وهذا فصل ما بين الكلام المعجز الذي يؤخذ من وراء النفس، وبين غيره مما يكون بعضه من النفس وبعضه من اللسان. وعندنا أنه لا يمكن أن يتجه للباحث طريق الإعجاز المطلق أو يستقيم عليه، إلا إذا تدبر القرآن على تلك الوجوه التي أشرنا إليها، وقلب ألفاظه ومعانيه، وعرف من أين تلوى عروة اللفظ ومن أين معقد المعنى، فإن ذلك يدفع به لا محالة إلى القطع بأنه غير إنساني، وأن ليس في طبع الإنسان أكثر من فهمه وما نشك على حال في أنها كانت هي طريقة العرب في الإحساس بإعجازه، إذ ليس إلى الحقيقة غيرها من سبيل، وهم كانوا أعرف بكلامهم وسننه ووجهه، وما يمكن أن يتفق في الطباع وما لا يتفق. وما أخطأ هذه الطريقة أحد إلا أخطأ وجه الإعجاز العربي، وإلا فما بال كثير من بلغاء المتكلمين، وما بال أهل العربية من فنونها، وما بال أكثر علماء البلاغة نفسها لا يهتدون في الحكم عليه إلى أبعد من أنه معجز بقوة الإيمان وما إعجازه إلا في قوة تركيبه على ما بسطناه بحيث لا تقرن إليه قوة إنسانية إلا خرج عن طوقها، وكان جهدها الذي تجهد كأنه في معارضته قوة من ضعف، أو عفو من جهد القوي، فكأنها لم تصنع شيئاً فيما صنفت، وجهدت وكأنها لم تجد. وليس شيء أقرب في الدلالة على ذلك لمن لم ينهض به طبعه، أو كان لم يتيسر لهذا الأمر بأدواته ولا أوفى بغرضه من أن يتأمل أمثلته في كل باب طبيعي من أبواب البلاغة العالية، فإنه سيرى منها الباب كله ويرى ما عداها واقعاً من دونه حيث وقع.

فصل أحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة

وبقي سر من أسرار هذه البلاغة المعجزة نختم به الباب، وهو شيء لا نراه يتفق إلا في قليل من كلام النوابغ المعدودين الذين يكون الواحد منهم تاريخ عصر من عصور أمته، أو يكون عصراً من تاريخها، وهو إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة لا على طريقة المنطق فإن الفرق بين الطريقتين أن هذه المنطقية منها تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، ويراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب، إلزاماً بالعقل لا بالشعور، وبطبيعة السياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة، وتتسع لها المغالطة، وتنتدح فيها أشياء من مثل ذلك، فراراً من الإلزام ودفعاً لحجته، وإن كان في نفسه واضحاً مكشوفاً، والبرهان طبيعة قائمة معروفاً. بيد أن طريقة البلاغة إنما يراد بها تحقيق المعنى، واستبراء غايته، وامتلاخ الشبهة منه، وأخذ الوجوه والمذاهب عن النفس من أجزائه التي يتألف منها، بعد أن تستوفي على جهتها في الكلام استيفاء يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء، حتى لا تصدف عنه، ولا تجد لها مذهباً ولا وجهاً غير القصد إليه، فيكون من ذلك الإلزام البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتماً مقضياً. وهذا غرض بعيد وعنت شاق لا تبلغ إليه الوسائل الصناعية مما يتخذ إلى إجادة الكلام وإحكام صنعته البيانية، وإنما يتفق لأفراد الحكماء ودهاة السياسة ما يتفق منه، وحياً وإلهاماً، وإنما يلقونه على جهة التوهم النفسي والذي تتخلق منه خواطر الشعراء، فنحن نعرف علماً وتجربة أن الشاعر قد يعالج المعنى البكر، ويريغ الوجه المخترع، فيكد في تمثل ذلك حتى يتسلط أثر الكد على فكره، ويضرب الملل على قلبه، ويصرفه الضجر، ثم لا يعطيه كل هذا طائلاً، ولا يرد عليه حقاً من المعنى ولا باطلاً، وما فرط ولا أضاع ولا قصر ولا استخف، ولا كان في عمله إلا من وراء الغاية، وقد تقع إليه في تلك الحال معان كثيرة تفترق وتلتقي، ولكن ليس فيها المعنى الذي من أجله نصب وإليه تأتي، فيضرب عنه بعد المحاولة، ويقصر بعد المطاولة حتى إذا استجمت خواطره، واستحدث منها غير ما كان فيه، وتلقى جهة أخرى من الكلام، وقع إليه ذلك المعنى بعينه، وجاءه عفواً بلا تكلف، وهو لم يعوده ولا قصد إليه، وقد كان بلغ منه كلال الحد واضطراب الحس مبلغ الرهق والمعاناة، وإنما ألهمه في تلك الحال إلهاماً، فعاد ما يمكن بكل سبب، ممكناً بغير سبب. وربما أراد الشاعر معنى من هذه الخواطر النادرة، فلا يكاد يبتدئ التفكير فيه أو يهم بذلك، حتى يراه قد حصل في نفسه وهو لما يتمثل أجزاءه ولا استتم تصورها.ولا كان إلا أنه أراد ما اتفق، واتفق له ما أراد.ودع عنك أقوال الفلاسفة من علماء النفس وغيرهم، وما يعتلون به لمثل ذلك من أعمال الدماغ، فلو أن فيهم شاعراً لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر ملهم، وكأنما تحدث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب. وإذا رجعنا إلى العقل ورأيه في استبانة هذا الشكل، وضربنا مها شبهاً مما يضرب الطبيعيون لله من أمثالهم إذا تناولوا البحث فيما هو من علم الله، قلنا: كان من العقل.وصار إلى العقل.وليس شيء فوق العقل إلا لأنه لم يرتفع إليه بعد.لما صدرنا عن هذا العقل، إلا بالبيان الغامض، وبالرأي المشتبه، وبما يكون العاقل فيه كالمتعلل أو المتمحل له، وكشف لنا العقل عن هذا السر بسر مثله، لا يقضي هو فيه ولا ينبغي صدق أسبابه إذ يحيلنا على ما في الطبيعة من ذلك وأشباهه، فإن الإلهام أقدم منه في الوجود وأظهر منه أثراً، وأوضح منه سنة، وما بالعقل يبني الطائر عشه ويقطع بعض الطير إلى وطنه من أقاصي الأرض أو يجيء من غايته، ولا بالعقل يصنع النمل ما يصنع ويأتي النحل ما يأتيه من دقائق الهندسة وغير الهندسة، إلى أمثال لذلك كثيرة، ولا أخذت هذه الأحياء الطبيعية على الإنسان ولكن الإنسان هو أخذ عنها واهتدى بهديها واتجه بعقله فيما وجهته إليه ولو أن في رأس النملة عقلاً تدرك به ما تأتي وما تدع، وتخرج به مما تعرف إلى ما تجهل، وتستعمله مع حذقها الطبيعي فيما يستعمل العقل له، إذن لما جلس في كرسي أكبر علماء الاقتصاد في هذه الأرض كلها إلا نملة من النمل. بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضاً، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعاً، أما هذا ( أي الحيوان ) فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبداً إلا كما هو، ولا يعطي الإرادة المطلقة لأنها دون الإلهام.وأما ذلك ( أي الإنسان ) فلا يلقاه إلا في أحوال شاذة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبداً غير من هو، ولا يسلب الإرادة لأن الإلهام فوقها. ولو استطاع الناس يوماً أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعاً، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويتيسرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ لتفاوت الأمر تفاوتاً قبيحاً، ولما بقي في الأرض إنسان يسمى إنساناً ولكن الله تعالى يقلب أفئدتهم، وأبصارهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكل يغني شأنه ( فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأمْثَالَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي أومأنا إليها وهي في لغة كل أمة أبلغ البلاغة، غير أنها في القرآن الكريم ما يعجز الطوق، ولا تحتمله قوة النبوغ الإنساني، فقد أحكمت في آياته إحكاماً أظهرها مخلوقة خلقاً إلهياً، ولا مصنوعة صنعة إنسانية، وجعل كل آية منها كأنها في الكلام نفس كلامية. ولا نظن بتة أن عربياً يطمع في مثل ما جاء به أن يطوعه له الوهم، مهما بلغ من سمو فطرته ورقة حسه، ومن بصره بطرق الوضع التركيبي، ونفاذه في أسرار البيان وتقليب أوضاع اللغة، فإن الشأن ليس في هذه اللغة ومتعلقاتها بمقدار ما هو في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين، وهذا باب لا ينفذ فيه إلا من كان شعوره وعقله وبيانه فوق الفكرة في أكمل ما يتهيأ لها من كمال الحقيقة الإنسانية التي تجمع تلك الصفات الثلاثة: ( البيان والعقل والشعور ) والتي يقال لها من أجل ذلك: ( النفس الناطقة ) وليس في الناس جميعاً من يصح أن يقال فيه إنه فوق الفطرة بالمعنى الصحيح، وإن كان هو بسمو فكرته فوق الناس. ولو ذهبت تعتبر القرآن كله لرأيت تلك الطريقة فيه أظهر الوجوه التي تبينه من كلام الناس وتجعله قبيلاً وحده، فإن لبلغاء الناس كلاماً جيداً في كل أبواب البيان، بيد أنك حين تأخذه متفاوتاً في أجزاء تلك السياسة المنطقية، وحين تدعه متفاوتاً في طريق النظم التي خرج بها القرآن كما عرفت من قبل: فلا هو من ذلك في نسق ولا طريقة. وما نشك على حال أن فصحاء العرب وأهل البلاغة فيهم قد أدركوا بفطرتهم هذه الطريقة المعجزة التي تنصرف إلى وجه ثم تجيء من وجه آخر، ولا أنهم قد عرفوا أن هذا مما لا تقوم به البلاغة وضروبها، وأن غاية كد العقل في مثله أن يبعد بالمعنى عن صنعة اللسان، وغاية كد اللسان أن يدخل الضيم فيه على صنعة العقل، فإن دق المعنى ولطفت مذاهبه وأحكمت الحيلة في تصريفه، قصر عنه البيان الذي ألفوه مذهباً لفظياً، وعرفوه افتناناً في الصنعة والتركيب، كما بسطناه في مواضع كثيرة، وإن صرح المعنى واستبان ولانت أعطافه وجاء على نسقهم في المحاورة والمخاطبة خرج على قدر ذلك وغلبت عليه الألفاظ ولم يكن بتلك المنزلة. وهذا بعض ما أيأسهم من المعارضة تيقناً أنه لا قبل لهم بها، واستبصاراً في حقيقة هذا الكلام، وأنه مما لا يستشري الطمع فيه، وأنه وحي يوحى، وهو عينه أيضاً بعض ما اجتذبهم إليه وعطفهم عليه، حتى كان بلغاؤهم يستمعونه وتصغي إليه أفئدتهم، ثم يتلاومون على ذلك، كما مر في خبر أبي جهل وصاحبيه، وحتى قالوا كما حكى الله عنهم وأسجله في كتابه ليكون ثبتاً تاريخياً للعقل الإنساني: ( لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ ) فجعلوا كل أمرهم وأمره في آذانهم كما ترى، وما هي إلا سبيل الكلام إلى النفس، وكأنهم أقروا أنهم المغلوبون ما سمعوه، وليس البيان عما نحن فيه آبين من هذا إخباراً عن حقيقة أو حقيقة من الخبر أو خبراً حقاً. وعلى تأويل ما عرفته من هذه السياسة المنطقية، تحمل كلمة الوليد بن المغيرة المخزومي في خبره المشهور: فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله.فقال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.قال أبو جهل: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحكم ما تحته.قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: فدعني حتى أفكر.فلما فكر قال: وهذا سحر يؤثر يأثره عن غيره. ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم قال لهم الوليد: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) رأياً لا يكذب بعضكم بعضاً.فقالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، ولا هو بزمزمته ولا سجعه.قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون لا بخنقه، ولا وسوسته.قالوا: فنقول شاعر، قال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه.قالوا فنقول ساحر، قال ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده.قالوا: فما نقول ؟ قال ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق، وإن أقرب القول إنه ساحر، وإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه، والمرء وزوجته، والمرء وعشيرته فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس.أ ه.فتأمل كيف وصف تأثير القرآن في النفس العربية، حتى ينتزع الرجل من أهله وعشيرته وخاص أهله وعشيرته انتزاعاً كأنه مسلوب العقل، فلا يتمكث ولا يلوي عن شيء، وإذن ذلك الكلام كله لو أريد إجمالاً لم تسعه غير هاتين الكلمتين: ( السياسة المنطقية ). ولو أنعمت على تأمل هذه الجهة لانكشف لك السبب الذي من أجله لا نرى في كل ما يؤثر عن أهل هذه اللغة قولاً معجزاً، ولو اعترضت كثيراً وكثيراً من الجيد الرائع في الكلام، وقرنت بعضه إلى بعض، وبلغت من البيان ما أنت بالغ، لأن كل ذلك ليس من القرآن في نسق ولا طريقة، وإن اتفق له منهما شيء اختلفت عليه منهما أشياء. بيد أنك تقرأ الآيات القليلة من هذا الكتاب الكريم، فتراها في هذا النسق وتلك الطريقة بكل ما في اللغة، لأنها متميزة بصفتها، وبائنة بنسقها، ومتى اعتبرنا الشيء بطريقته التي يغالي به من أجلها، كان الترجيح عند المعادلة للطريقة نفسها، فلا عجب أن ظهرت طريقة القرآن بالكلمات القليلة منها على جملة اللغة بما وسعت، ولا بدع أن يكون التحدي من هذه الطريقة بمثل تلك الكلمات على قلتها ( وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ). ^

الخاتمة

وبعد، فلا بد لنا من التنبيه على أنا في كل ما أسلفنا من القول في إعجاز القرآن أو الإشارة إلى بعض الوجوه المعجزة فيه، إنما أجملنا تفصيلاً، وأتينا بما أتيناه به تحصيلاً، فاكتفينا من ذلك بما يرشده إلى أمثاله، واقتصرنا من كل وجه على أصل المعنى دون مثاله، فإن القرآن الكريم ليس كتاباً يتخير منه فيستجاد بعضه، ويصفح عن بعضه، إنما هو طريق مستبصر: من أين أخذت فيه نفذت، ومن حيث تأديت به تهديت، وهو في كل معنى مما قدمناه سنه القائم، ومثاله الدائم. ولقد صدفنا عن كثير مما اعترضنا وكان لا بد من انبساط القول فيه واتساع المادة به، مما لو تقصيناه لطال وبلغ بالقارئ مبلغ الملال، وعلى أنا لو ذهبنا نستقصي في استخراج كل معنى على حدوده وجهاته، ونستحمل النفس حاجة الشرح والتمثيل، والموازنة والتعديل، ونوسع هذا الباب اعتباراً ونظراً لخرجنا منه إلى ما يستنفذ العمر كله وإن كنا لا نهاون بالنفس ولا نرفق بها في العمل، ولصرنا من بعد ذلك إلى فصل تعجز عنده المؤنة، ويقصر مقدار العقل دونه، فإنما هو كتاب الله أحكمت آياته ثم فصلت من لدنه على حكمته وعلمه، فإن نفذ من أسراره في النظم والنسق، بقي ما وراء ذلك مما هو علة النظم والنسق، وإن استطعنا القول في كيفية إجماله، لم نستوعبه في كيفية تفصيله، إنما طريقنا في كل ذلك دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير، وجهدنا فيه أن نلزم جانب الأصل اللغوي في الإعجاز حتى لا ندع أحداً على لبس من هذا الأمر، الذي هو علة ما ورائه وله لما بعده، وغايتنا منه أن نكشف عن أسرار المعجزة التاريخية التي بقيت إلى اليوم معضلة في تاريخ الأرض، وهي تأليف العرب على تعاديهم وتنافرهم، والزحف بهم على قلتهم وضعف وسائلهم، وتوثبهم على فقرهم وغنى سواهم حتى اكتسحوا دولة الفرس، والتحفوا على مملكة الروم، وهما يومئذ الدنيا القديمة وهما العينان في رأس التاريخ، وقد توافقت جيوشهما والتحمت في مواطن القتال، وسعروا الأرض ناراً وحرباً مدة ثلاثة قرون أو حول ذلك، حتى استحكمت لهم صيغ الحروب، واستجمعوا فيها الرأي من جهاته، وكانت لهم الدربة على قيادة الجيوش، وكانوا أهل الرياسة والنباهة في كل ما وصفناه. ولولا القرآن وما بسطنا من أمره في كل ما سلف، وأنه على تلك الجهات المعجزة، لما أدرك العرب في أمرهم دركاً، ولفاتهم من ذلك الفوت كله، وإنما العرب نفوسهم وقرائحهم، وإنما القرآن بلاغته وفصاحته، وعلى هذا قوله تعالى في خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم ( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ )، فلذلك ما علمت. ونحن نرجو في البيان الذي قصدنا إليه، أن نكون قد عرفنا على حقه وصدقه، وجئنا به من فصه ونصه، بلغنا من جملته ما لا يقصر عن الإفادة، إن قصر عن الإجادة، وما لا ينزل مقداره إلى حد النقصان إن لم يبلغ حد الزيادة، وأن نكون قد كفينا، وإن لم نكن استوفينا، فإنما هو أمر كما عرفت، لم يوطئ له من قبلنا بأسباب، وبناء من الكلام قد أشرفوا عليه ولكنهم لم يأتوه من هذا الباب. ^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي