تاريخ آداب العرب (الرافعي)/اللغات واللغة العربية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

اللغات واللغة العربية

اللغات واللغة العربية

أصل اللغات

اللغة بنت الاجتماع، وليسمن السهل أن تحدد الطفولة التاريخية للإنسان، ولكن العلماء وأهل البحث ممن تقدم نظرهم يهجمون من ذلك على المشتبهات، ويعتقدون من النسب المختلفة سلسة طويلة يسلكون فيها العصور التي جمعها التاريخ، وينتهون من ذلك إلى طرف دقيق يتلمسه التصور، لأن مادته من الوهم المصمت، وهذا الطرف هو عندهم أصل الإنسان أو طفولة تاريخه الهرم. منذ خلق اللسان خلقت الأصوات، وهي مادة اللغة، ولكن الطفولة الفريدة تدلنا على أن الطفل يبتدئ من أبسط درجات النطق الطبيعي الذي هو محض أصوات مصبوغة بصبغة من الشعور تكون هي حقيقة الدلالة المعنوية فيها، فيكون كأنما يلهم المنطق بهذه الأصوات التي هي لغة روحه، ثم يدرك معاني تلك الدلالة ويميز بين وجوهها المختلفة، ثم ينتهي إلى الفهم فيقلد من حوله في طريقة البيان عنا بالألفاظ، متوسعاً في ذلك على حساب ما يتسع له من معاني الحياة، إلى أن تنقاد له اللغة التي يحكيها ؛ ولولا التقليد الذي فطر عليه ما بلغ من ذلك شيئاً. وعلى هذا القياس رجع العلماء إلى طفولة التاريخ فمنهم من رأى أن الإنسان كان محاطاً بالسكوت المطلق، فذهب إلى أن اللغة وحي وتوقيف من الله في الوضع أو في الموضوع، وهو مذهب أفلاطون من القدماء، به أخذ ابن فارس والأشعري وأتباعه من علماء العرب. وفريق آخر ذهب لإلى أن الإنسان طفل تاريخي فاللغة دس تقليدي طويل مداره على التواطؤ والاصطلاح ؛ وهذا هو المذهب الوضعي، وبه قال ديودورس وشيشرون، وإليه ذهب أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني وطائفة من المعتزلة. وبالجملة فإنه لم يبق من أصول الاستدلال على تحقيق هذا الرأي غلا تتبع منطق الحيوان الذي يسرح في حضيض الإنسانية، وتبين وجوه الدلالة في أموره، واستقراء مثل ذلك في الأمم المتوحشة التي لا تزال من النوع الإنساني الأدنى ؛ وقد رأوا أن الحيوان يفهم بضروب الحركات والإشارات والشمائل وتباين الأصوات باختلاف معانيا لدلالة، وهذا أمر تحققه رواض الدواب وسواسها وأصحاب القنص بالكلاب والفهود ونحوها فإنهم يدركون ما في أنفسها الحيوانية باختلاف الأصوات والهيئات والتشوف واستحالة البصر والاضطراب وأشباه ذلك، من ثم قيل إن أول النطق المعقول كان بدلالة الإشارة كما يصنع الخرس ؛ فكأن معاني الحياة لما لم تجد منصرفاً من اللسان فاضت على أعضاء البدن وترى أثر ذلك لا يزال باقياً في الدلالة على المعاني الطبيعية والموروثة من أول الجهر: كالتقطيب وتزوية بعض عضلات البصر في الغضب ؛ ثم انبساط الأسارير واستقرار النظر، في الرضا والسرور ؛ ونحو ذلك مما تراه لغة طبيعية في الخليقة الإنسانية. ورأوا أيضاً أن لبعض القبائل المتوحشة من سكان أستراليا وأواسط أمريكا الجنوبية ألفاظاً، ولكنها محض أصوات لا تدل على المعاني المقصودة إلا إذا صحبتها الإشارة والحركة والاضطراب، بحيث إن العين هي التي تفهما لا الأذن ؛ وهم إذا انسدل الليل وأغمدت الألحاظ في أجفانها حبسوا ألسنتهم وباتوا بحياة نائمة ؛ ومن ثم قيل إن الإنسان استعمل الصوت للدلالة بعد أن استكمل علم الإشارة ولذلك بقي الصوت محتاجاً إليها احتياجاً وراثياً ثم ارتقى الإنسان في استعمال الأصوات بارتقاء حاجاته وساعد على ذلك مرونة أوتار الصوت فيه ؛ وبتجدد هذه الحاجات كثرت مخارج الأصوات، واتسع الإنسان في تصريف ألفاظه، فتهيأ لهمن المخارج ما لم يتهيأ لسائر الحيوان فإن منطق الكلاب مثلاً قد لا يخرج عن العين والواو في ( عو ) و ( وو ) وقس ما يسمع من منطق الغراب والسنور وسائر أنواع الحيوان ؛ ومن ذلك كان منشأ اللغة.

المواضعة على الألفاظ:

إذا ما رأيت ما تقدم رأيت أن قوا بأن اللغة وحي وتوقيف إنما هو من باب التقوى التاريخية لا أكثر ؛ لأن الإنسان خلق مستعداً ليصير بعد ذلك علماً مجتمعان وليجري في كماله المقسوم له على سنة الله التي لم تتبدل ولن تجد لها تبديلاً ؛ وهذه السنة هي أن المتغير لا يوجد كاملاً بل لا بد له من نشأة يمر في أدوارها حتى يتحقق معنى التغير فيه ؛ ولعل أصل هذا المذهب كان مبالغة في تصور الاستعداد الإنساني، لأنه إلهام لا مرية فيه وذلك ترى أهله منقسمين: فمنهم من يقول بأن الإنسان ألهم أصول المواضعة، ومنهم من يقول بأنه ألهم اللغة نفسها. والحقيقة أن الإنسان ملهم بفطرته أصول الحياة وليست بأكثر من أن تكون بعض أدوارها التي تعيين عليها ؛ ولذلك تراها في كل أمة على مقدار ما تبلغ من الحياة الاجتماعية قوة وضعفاً، وإذا كان من أصول الحياة: الاجتماع، فمن أصول الاجتماع اللغة وهذه من أصولها المواضعة. وأقرب ما يصح في الظن مما لا يبعد أن يكون الوجه المتقبل - وإن كان الظن لا يغني من الحق شيئاً - أن الأصوات الحيوانية هي المثال المحتذى في اللغة الإنسان ؛ لأنها محيطة به تتقلب على سمعه كلما سمع، وخصوصاً والإنسان في أول اجتماعه مضطر لمغالبة الحيوان فهو بهذا الاضطرار يتدبر اختلاف هيآت الصوت الواحد ومعاني ما فيه من النبر ودليله في أفعال الحيوان التي تؤدي معاني ها الاختلاف من نحو الغضب ولألم والذعر وغيرها. ومن هنا يتعين أن تكون أوائل الألفاظ التي نطق بها الإنسان وأدارها على معان متنوعة هي ألفاظ الإحسان وما يصرح به عن الوجدان على الصور البسيطة التي لا يزال أكثرها ميراثاً من الجنس كله على تباين اللغات وهي التي تشبه في تركيبها مقاطع الصوت الحيواني إذ يكثر فيها الحرف الهاوي الذي هو أخف الحروف بل هو الصوت الطبيعي في الحياة، وهو حرف اللين بأنواعه: الألف والواو والياء وما عدا هذا الحرف فقلما يكون فيها إلا أحرف الحلق: كالعين والغين والهاء والحاء ( الهمزة والخاء ) لأنها قريبة من الحنجرة وذاك في الإنسان نحو: آه وأخ وأمثلها من المقاطع الصوتية التي لا يزال يعبر عنها عن أنواع الإحساس إلى اليوم ولما أدرك الإنسان حقيقة هذا الاستعمال وتقلب فيه واصطلحت عليه الجماعات منه، فتق له استعداده للإلهام أن يتأمل الأصوات الطبيعية الأخرى من قصف الرعد، وانقضاض الصواعق، وخرير الماء، وهزيز الرياح، وحفيف الشجر، واصطكاك الأجسام، وما إليها من أصوات هذه اللغة الجامدة وهي ربما تبلغ المائة عداً - فقلدها واهتدى بها إلى مخارج حروف أخري غير التي تتهيأ في الأصوات الحيوانية فدار بها لسانه وابتدأ يجمع بينها على طريق المحاكاة دالاً بالصوت على محدثه ولا يزال ذلك طبيعة في لغة الأطفال فهم يسمون الدجاجة كاكا والشاة: ماما والسنور: نو. .نو ؛ وذكر الجاحظفي الحيوان: أن طفلأ سئل عن اسم ابيه فقال وو. .وو وكان أبوه يسمى كلباً !وهذه الحالة كانت بدء اختراع اللغة أي حين كانت حاجات الاجتماع قليلة لا تتجاوز الإشارة إلى أمهات المعاني الطبيعية بالمقاطع الثنائية كانهمال المطر وانفلاق الحجر وانكسار الشجر وأمثالها فلما بدأ الاجتماع يرتقي بنسبة أحوال الإنسان بالنسبة أحوال الإنسان يومئذ بدأ الاختراع الحقيقي في اللغة وأمثل ما يظن في ذلك أن الإنسان جعل يقلب المقاطع الثنائية التي عرفها على كل الوجوه التي تحدثها آلات الصوت فلما استتم صورها ارتجل المقاطع الثلاثية فدارت بها الحروف دورة جيدة وفشت ألفاظ أخرى غير التي عهدها وكان ذلك ابتداء تسلسل اللغة فتواضعوا على اعتبار المقطع الثنائي أصلاً في مدلوله: كقط مثلاً حكاية صوت القطع ثم جعلوا كل صورة تتحصل من زيادة حرف عليه فرعاً من هذه الدلالة ثم استفاضوا في الاستعمال على هذا التركيب بالقلب والإبدال وبذلك اهتدى الإنسان إلى سر الوضع. لا جرم أن هذا أبين الوجوه التي يمكن أن توحي بها الفطرة في تاريخ المواضعة على اللغات وهي السنة التي لا تزال تجري عليها أحكام الخلق في كل ما يتكون وينشأ ثم هي متحفة بما يقطع الريب في هذا الخلق السوي الذي لا يعقل ويفكر وهو الإنسان معجزة المخلوقات الذي يتكون جنيناً كسائر الأجنة الحيوانية لا فرق بينه وبينها في التركيب. ولكن هذا الذي أتى اللغة إنما تم في دهور متطاولة وعلى طريقة وراثية بطيئة لأنت جماعات الإنسان يومئذ لم تكن ( أكاديميات ) أو مجالس علماء يبث فيها الرأي وتقطع الكلمة ولكنها كانت طبيعية وأعمال الطبيعة لا حساب لها في عرف الإنسان ( وإن بوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ). ومما نستوفي به ( الفائدة الظنية ) في هذا الفصل أن علماء طبقات الأرض حققوا بعد ما عانوه من البحث وما تهيأ لهم من أنواع الاكتشافات - أن الحيوانات التي كانت تكتنف الإنسان في أول نشأته الأرضية ليست من الأنواع التي نعهدها اليوم بل كانت غاية في العظم والهول وشدة المراس.لا جرم كانت هذه الحلة مضطرة الإنسان إلى اصطلاح في مخاطبة نوعه كلما نذر بها كما كانت هي الباعثة له على انتقاله من أول أطواره إلى الطور الثاني الذي هو بداية تاريخ العقل الاجتماعي الساذج وذلك أن العلماء يجعلون الزمن من نشأة الإنسان الأرضية إلى بداءة التاريخ ثلاث عصور: عصر التوحش المطلق وعصر الحجر وعصر البنز ويليها عصر الحديد الذي يبتدئ مع إنسان التاريخ وهذا التقسيم عنه يصح أن يطلق على اللغة أيضاً فعصر التوحش فيها هو الذي خرجت فيه الأصوات الوجدانية مصحوبة بالإشارات أولاً ثم استقلت هذه عنها وعصرها الحجري هو الذي ابتدأ فيه الإنسان بنحت من المقاطع الحيوانية والطبيعة لغته الأولى وعصرها البرنزي الذي يدخل فيه شيء من الصناعة هو العصر الذي اهتدى فيه الإنسان إلى الزيادة على المقاطع الثنائية وصنعة الألفاظ على هذا الوجه ثم انقادت له اللغة وتماسكت وذلك عصرها الحديدي الذي بدأمعه التاريخ. ومما يستأنس به أن تلك المخلوقات الهائلة التي كانت لعهد النشأة الأولى وانقرضت ربما كان في أصواتها بعض مقاطع متنوعة يتألف من مجموعها ( أبجدية ) صالحة وهي التي ورثها الإنسان وركب منها أصول لغته وذلك فضلاً عن جهارة الصوت وشدته التي تترك له أثراً في النفس هنيهة يتمكن فيها الإنسان من استيفاء صنعة التقليد الصوتي على أتم وجوهها والله أعلم بغيبه. فالغات قبل التاريخ بزمن لا يذكر التاريخ في حسابه وقد تشمت على سنن الاجتماع وجرت معه في طريق واحدة ولا يزال ذلك من أمرها إلى اليوم في الشعوب المنحطة فإن من أهل أستراليا من ليس في لغتهم من العدد إلا واحد أو اثنان ( نتات، نايس ) فإذا عدوها ثلاثة جموعها وإذا أرادوا أربعة كرروا لفظ ( نايس ) ويكررونه مع لفظ الواحد إذا أرادوا الخمسة، فإذا أرادوا الستة كرروه ثلاث مرات، ثم يقرنون بها لفظ الواحد للسبعة وذلك منتها ما يعدون أما ما وراء السبعة فيشيرون إليها بلفظ ( كثير ).وما كنت لفظة الكثرة تطلق على الثمانية كما تطلق على الثمانين مثلا إلا أن ما بين المعيين من الجزئيات غير مضبوط في نظام الاجتماع بل هو مطلق فيه وكذلك يطلق الاسم عليه. وقد وجد علماء اللغات أيضاً من أولئك من يعبرون عن معنى الصلابة بلفظ الحجر وعن معنى الاستدارة بلفظ القمر وهكذا من المترادفات التي هي أصول طبيعية ثابتة لتلك المعاني المتفرعة. وذكروا أن أهلي ( المكسيك ) القدماء لما رأوا السفينة أول مرة سموها ( بيت الماء ) وأن أهل ( ميسوري ) لم يكن عندهم غير الأدوات المتخذة من الصوان فلما جيء إليهم بالحديد والنحاس سموا الأول حجر أسود والثاني حجر أحمر وأن بعض أهالي أمريكا لما رأوا الخيل أول مرة ولمتكن في أرضهم اختلفوا في تسميتها فبعضهم سمى الجواد ( الكلب المسحور ) وآخرون سموه ( الخنزير الحامل للإنسان ) وكذلك لما رأى أهل ( المكسيك ) المعزى ولم يكونوا عرفوها من قبل سموه ( رأس شجرة وشفة شعر ).ومثل هذا كثير أحصاه علماء اللغات ودلوا عليه بألفاظه في منطق أهله فلا بد أن تكون كل اللغات قد جرت في ارتقائها على هذا النحو الذي حفظه التاريخ في جملة أدلته والذي هو بسبيل ما تخلده الطبيعة مما يعتبر به الآخرون من أمر الأولين. ولما كانت اللغة كما أسلفنا تابعة لأحوال الاجتماع في البسط والقبض وما يتقلب عليه ويتحدث فيه بحيث لا تخرج عن أنتكون مرآة تظهره كما هو في نفسه مهما تنوعت أشكاله واختلفت أزياؤه - كان لابد أن تتغير بحسبه ما دامت مستعملة فيه وهذا التغير هو حقيقة الاصطلاح والمواضعة فالإنسان لما ارتجل المقاطع الثلاثية دل بها على معان محصورة في حدود نظامه الاجتماعي ثم ضرب في الكلام بمقدار ما يجد من أمره وما يتنبه إليه من حقائق الموجودات التي تكاشفه بنفسها وما يقتضيه التبسط في مناحي المجتمعات شيئاً فشيئاً وذلك على طريقة تكرار الألفاظ وتنويعها للمعاني المختلفة بدلالة القرينة وهذا النحو لا يزال باقياً في اللغة الأكادية فإنهم يدلون بلفظة لا تعدو هجاء واحدا على خمسة عشر معنى وهي لفظة ( ga ) أو ( ca ) يدلون بها على الفم والوجه والعينين والأذن والشكل والقدم والرجل والنظر والتكلم والمدنية وهذا أكثر معانيها. ثم يعبر الإنسان عن المعاني بما يرادفها من ألفاظ المحسوسات كما يعبر أهل المكسيك عن الصلابة بلفظ الحجر وكما وجدوا في الكتابة الهيروغليفية بمصر والصين والمكسيك أيضاً وهي الكتابة الصورية فإنهم يرسمون الشمس ويريدون بها التعبير عن الضوء ويرسمون القمر ويعبرون به عن الليل وإذا أرادوا أن يدلوا على المشي مثلاً رسموا ساقي رجل في حال الحركة وهلم على هذا القياس مع أن هؤلاء وإن كانوا في أقدم عهد الكتابة إلا إنهم في أول عهد التاريخ فأحرى بالمتكلمين أن يكونوا كذلك في أول عهدهم بالدلالة المعنوية ومن هذا القبيل أن زنوج ( غريبو ) يدلون على معنى الغضب بما ترجمته ( قد نتأ عظم في صدري ) !ويرتقي الإنسان من ذلك التعبير عن غرائب الاجتماع في عهده على نحو ما رأيت من تسمية الخيل والمعزى، وكما فعل سكان جزيرة ( فاكومز ) فإنهم لما رأوا أول رجل أوربي دخل بلادهم سموه بما ترجمته ( طويل وجه شعر رجل ) ولفظها في لغتهم ( يكبيكو كسالكوس ) ثم استمروا يصقلونها ويخففون من ثقلها بمقدار ما تخف هذه الدهشة الأولى حتى صارت الكلمة في لغتهم بعد أن ألفوا الأوروبيين ( يكبوس ). ومتى بلغ الإنسان إلى هذه الدرجة فقد صار في أعلى سلم الاجتماع الطبيعي وحينئذ تدخل اللغة في الطور الصناعي وتجري عليها أحكام الاشتقاق والنحت والقلب والإبدال ويفعل الزمن فعله فيها كما يفعا في تكوين الجماعات وبذلك تتنوع وتنشأ منها اللغات الكثيرة.

تفرع اللغات

الأصل في تشعب اللغات تشعب الجماعات فإن اللغة كما أسلفنا بنت الاجتماع وهي ألفاظ ملك السامع في الحقيقة لا ملك المتكلم لأنها لا يلغي بها لغو الطائر ولكنها تلقي لدلالة خاصة يعينها الاصطلاح العرفي بين المتكلم والسامع وهذا الاصطلاح عمل اجتماعي محض لا يتهيأ لفرد فيما بينه وبين ذات نفسه وليس ما بسطناه فيما تقدم مما يدل على كيفية نشء اللغات في القدم وتدرج الإنسان في استعمال المنطق والتوفيق في الدلالة بين الصوت وحركة النفس التي هي المعاني القائمة بالفكر - ليس كل ذلك مما يتعين معه دلالة خاصة على كيفية اختلاف اللغات فإن هذا الاختلاف لا يتعلق بسر الوضع اللغوي إذ هو إلهام مخلوق في فطرة الإنسان ولكن اختلاف اللغات عمل صنعي تكيفه حالة الاجتماع كما تكيف سائر الأحوال من العادات وأمثالها ولهذا كانت حقيقة معنى اللغة إنها مجموع العادات الخاصة بطائفة من طوائف الاجتماع. فلا يمكن القطع إذن بأن أصل اللغات كلها واحدة إلا إذا نهض الدليل على أن النوع الإنساني في أول وجوده لم يكن إلا جماعة واحدة أو كان جماعات مختلفة ولكنها تتفق في حالة جامدة من أحوال الحياة الاجتماعية كالحيوان السائم الذي لا يتعدى درجة معينه من الإلهام على تفاضل أنواعه فيما دون ذلك وهذا - أي نهوض الدليل - بعيد عن اليقين بل هو بعيد عن الظن أيضاً لأن ( الظن العلمي ) أضعف مراتب اليقين. نقول هذا لنقطع بأنه لا يمكن تعيين الأمهات التي ينتهي إليها التسلسل الفظي ولا الحكم بأصالة لغة دون غيرها كالذين يقولون إن آدم الألسنة أو لسان آدم كان سريانياً أو عبرانياً أو نحو ذلك ؛ فإن الإنسان الأول أمر من الأمور المغيبة، والزمن نفسه لا يهتدي الآن إلى موطئ قدميه من الأرض ولا يعلم الغيب إلا الله. وإن ما حصره علماء اللغات من ذلك وعدوه أمهات إنما هو خاص بالأزمنة المتأخرة التي أحصلها التاريخ مما يرجع إلى حد من الزمن يختلفون في تقديره من 3000 إلى6000 سنة على أنهم يقولون إن الإنسان الأول نشأ على ضفاف الفرات ودجلة بين العراق وأرمينيا فتناسل هناك وكانت ذريته بعضها من بعض ثم انساحت الجماعات وتفرقت بما يلجئها من الأسباب الطبيعية: كضيق الوطن وبغي بعضهم على بعض فضربوا في الأرض وبهذا تنوعت الجماعات أو دخلت في أسباب التنوع الذي هو الأصل في تفرع اللغات. ومن ذلك ما أشارت إليه التوراة ( أقدم كتاب تاريخي ) مما يعرف بحكاية تبلبل الألسنة ( سفر التكوين - الإصحاح الحادي عشر ) وذكر تفرق الأمم التي انشعبت من نسل نوح - علية السلام - بعد الطوفان فكانت لغة تنفصل عن أمها ثم تنمو وتتغير بالاستعمال فتصير أماً لفروع أخرى وهلم جراً. وقد استدلوا على تحقيق هذا التسلسل بتشابه الأسماء الخالدة في الإنسانية وهي التي لا يمكن أن تتغير لثبوت مدلولها على الحالة واحدة في تاريخ النوع كله: كاسم الأم فقد وجدوا أن هذه الميم أصلية في كل ما عرف من لغات العالم وكذلك وجدوا أن الباء أصلية أيضاً في لفظ الأب.ومهما يكن من الأمر فإن هذا وأمثاله مما يستأنس به ليس غير. وعلى الاعتبار الذي أومأنا إليه ردوا اللغات إلى ثلاث أصول: الأصل الآري والسامي والطوراني وهم يريدون بهذه الأصول الأمم التي تتكلم بالغات الراجحة إليها فيقولون: إن الأمم التي تنطق اللغات الآرية ترجع إلى أصل واحد في تاريخ الاجتماع وكذلك السامية والطورانية ثم انشعب كل أصل وانشعبت معه اللغة ولكن بقيت المشابهة في لغاتهم المتفرعة دليلاً تاريخياً على وحدة الأصل. ويعدون من اللغات الآرية: السنسكريتية وما خرج منها كالهندية والفارسية والأفغانية والكردية والبخارية وغيرها وهي اللغات الجنوبية ثم اللغات الشمالية ومنها اللاتينية وفروعها: من الفرنسوية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية وكذلك الهيلينية: ومنها اليوناني القديم والحديث والوندية ومنها لغات روسيا وبلغاريا وبوهيميا والتيوتوبية ومنها لغات انجلترا وجرمانيا وهولاندا والدنمارك وإسلاندا. وسنفرد للغات السامية كلاماً لأنها أصل ما نحن بسبيله من هذا التأليف أما الطورانية فيعدون منها الفروع التركية التي يتكلم بها ما بين حدود النمسا الشرقية وآسيا الصغرى فالتتر إلى ما وراء أواسط آسيا وشمالاً إلى حدود سيبريا وهي لغات كثيرة. وهذا كله وإن كان ليس من حاجتنا ولا نريد التكثر به إلا أننا سقناه كما قالوه بياناً لما ذهبوا إليه من الرأي في تنوع الجماعات وأصل انشعاب اللغات والله يقول في محكم تنزيله ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ).

علوم اللغات

عني أهل العلم في أوربا منذ القرن التاسع عشر للميلاد بالبحث في مظاهر العقل الإنساني بحثاً علمياً مبنياً على قواعد وأصول مقررة كسائر العلوم الأخرى فدرسوا الأديان والعادات ولما أرادوا مقابلة ذلك بعضه ببعض لتعيين المواضع المتداخلة منه اضطروا إلى مراجعة اللغات والبحث فيها فنشأ من ذلك علمان: أحدهما سموه علم اللغات ( la philogie ) والثاني علم الأساطير ومعارضتها ( lamythologi comparee ) وبذلك وضع الأستاذان ( كريم ) و ( بوب ) علما ًيبين أصل اللغات وتحولها. ثم لما وقفوا على لغات الشعوب الصينية وقابلوها بلغات الأمم الفطرية التي درسها ( المراسلون المنبثون في كل قاصية وضع الأستاذ ( همبولدت ) علماً عاماً سماه دراسة اللغات ( linguistique ) وأول المشتغلين بهذه العلوم وأشهرهم من الألمان وإن كان فكر فيها قبلهم بعض العلماء من الفرنساويين. وقد أمكنهم بعد ذلك حين بالغوا في الاستقراء والتقصص أن يردوا اللغات إلى أصول وأنواع حتى أوقعوا عليها أحكام ( المذهب الدرويني في النشوء والارتقاء بالتغير والانتخاب الطبيعي ) فبحثوا في سلسة التحول لكل لغة وأبوا على التحصيل الصورة المتوسطة بين الصورتين المتشابهتين وهم لا يزلون في جد ذلك وهزله ليردوا ما عرف من لغات البشر كلها إلى أصول قليلة ثم ينسبون بعد ذلك ( الجد اللغوي ) من قبره القديم في مغارة التاريخ. ولم نجد لأحد من علماء العربية في التاريخ الإسلامي كله بحثاً يشبه ما وضع من تلك العلوم حتى ولا في لهجات العرب أنفسهم ومعارضة بعضها ببعض لأنهم لم ينظروا إلى اللغة بالعين الزمنية ( التاريخ ) التي تطمح إلى كل أفق بل أخذوها على المعنى الديني الثابت الذي لا يتغير.وجعلوا عاليها سافلها فاعتبروا أصل الفصاحة إسماعيل عليه السلام وأن لغته درست من بعده ثم كانت في القرآن الكريم والبلاغة النبوية وهما أفصح ما عرف من الكلام إلا أن قليلاً منهم كأبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني والزمخشري قد أصابوا من ذلك محزاً جرت فيه أقلامهم وكان أسبقهم إلى الغاية ابن الجني فإنه بحث في وضع اللغة ونشأتها وحكم اشتقاقها ومقابلة موادها بعضها ببعض وستمر بك أشياء من ذلك في مواضعها إن شاء الله.على أن هذا القبيل الذي جاءوا به إنما كان بعد أن استفاضت المقالات واستحر الجدال بين أهل ( الألسنة العريضة ) من علماء الكلام فتحرك المعنى الديني الثابت الذي سبق الإماء إليه وكان ذلك في اللغة ما عرفته ثم عاد الأمر كما بدأ. وقداخلف العلماء في عدد اللهجات التي يتكلم بها أنواع الإنسان فهي عندهم بين 4000 و6000 وأحصاها بعضهم في قارات الأرض فعد في أوروبا 587 وفي أسيا 937 وفي أفريقيا 276 وفي أمريكا 1624 فذلك 3424 اهجة. يريدون باللهجات الأنواع التي نشأت من لغة واحدة بالأسباب الاجتماعية كأنواع العربية مثلاً ومنا عامية مصر والشام والمغرب الخ.وكذلك أحصى بعضهم عدد الكلمات في بعض اللغات المعروفة فذكروا أن كلمات اللغة الإنكليزية لا تقل في عهدها الحديث عن ( 250 ألف ) كلمة وتليها الألمانية ( 80 ألف ) فالإيطالية ( 45ألفاً ) فالفرنساوية ( 30 ألفاً ) ثم الاسبانية ( 20 ألف ) أما اللغات الشرقية فأوسعها العربية وهي تتألف من ( 80 ألف ) كلمة ثم الصينية ويستعمل فيها عشرة آلاف علامة يتألف منها ( 49 ألف ) كلمة مركبة ثم التركية وهي تحوي نحو ( 23 ألف ) ثم لغة هاواي وفيها زهاء ( 16 ألف ) كلمة ثم لغة الكفر وذكروا أنه ليس فيها إلا ( 8ألاف ) كلمة ثم لغة غلا الجديدة وقالوا إنها تتألف من ألفي كلمة لا غير.على أن ذلك كله يقال وينقل تشقيقاً للبيان لا تحقيقاً للبرهان. ^

اللغة العامة وأصلها العربي فيما يقال:

لا يفكر عاقل في اختلاف اللغات وتعددها - مع وحدة الإنسان في أصله وفي تركيب هذه الجارحة اللسانية التي تختلف ألوان المنطق كما يختلف الشجر الذي يسقى بماء واحد - إلا خطر له أمر التوحيد واجتماع الناس على لغة العامة.لأن هذا هو الأصل في حكمة النطق ولكن الفكر في شيء غير معناه فلم ينقل إلينا تاريخ الأمم التي سلفت أن أحداً عمل لهذه الغاية البعيدة.ولا جرم أن هذا إنما يكون عند اشتباك العلائق بين الأمم واختصار المسافات التي تفصل فصلاً طبيعياً بين الآفاق على نحو ما هو عليه في العصور الحديثة فإن الإنسان في هذه الحالة يحتاج إلى اختصار المسافات بين الألسنة أيضاً فلا يفصل بين كل لسانين لسان ثالث للنقل والترجمة ولما كانت الحاجة أم الاختراع فقد ولدت تلك الحاجة اللغة العامة. ويقال إن أول من عانى هذا الضرب من الوضع الإمام محي الدين ابن العربي الأندلسي من أهل القرن السادس للهجرة وكان من أعلام الحقيقة وأئمة المتصوفة فذكر بعض علماء المشرقيات من الفرنسيس أنه عثر على أن الشيخ وضع لغة خاصة باستعمال المتصوفة أخذ ألفاظها من العربية والفارسية والعبرانية وسماها ( بليبلان ) وهذا الاسم من أوضاع اللغة نفسها ومعناه ( لغة المحيي ). وقيل: ( إن تيمور لنك ) الفاتح التتري الشهير الذي كان في القرن الثامن لما رأى جيشه طوائف من أجناس مختلفة متناكري الألسنة واللغات تقدم إلى قوم من خاصته بإنشاء لغة عامة تقتبس من لهجاتهم جميعاً فأنشأوا لغة ( أوردو ) أي الجيش وهي التي يتكلم بها الهنود اليوم على اختلاف جهاتهم وقد ذكروا أن هذا الخبر التاريخي كان من جملة البواعث التي حملت على وضع اللغة العامة المعروفة في هذه الأيام ( بالاسبرانتو ). على أنه قبل أن توضع هذه اللغة عني بأمرها عدة من العلماء حتى بلغ ما وضعوه من نوعها بضع عشر لغة وأقدم من حاول ذلك ( باكون ) الفيلسوف الشهير من أهل القرن السادس عشر للميلاد ولكن أول من أفرد هذا الوضع بكتاب إنما هو ( الأستاذ بشر ) فإنه صنع كتاباً استقرى فيه المعاني فوضع بإزاء كل كلمة معنى اللفظ الدال عليه ووضع أحكاما لصيغ الصرفية والتركيبية ثم انسحب على أثره كثيرون حتى جاء الأستاذ اللغوي ( سلبير ) الألماني فوضع كتاباً نشره سنة 1879 م بعد أن صرف في تأليفه عشرين سنة وسمى لغته ( الفولابوك ) وهو لفظ من أوضاعها معناه ( اللغة الجامعة ) ولكن هذه اللغة لم تنتشر إلا قليلاً ثم ذهبت مع القرن التاسع عشر في مدرجة واحدة من التاريخ.وفي أثناء ذلك كان الأستاذ ( زامنهوف ) المشهور يشتغل بوضع لغته المتداولة فقضى اثنتي عشرة سنة ثم نشر رسالة عرض فيها أصول تلك اللغة وجعل عنوانها ( دكتور اسبرانتو ) إي الأستاذ المؤمل إشارة إلى يأس العلماء قبله من النجاح في هذه الأوضاع على أن هذا الاسم ما لبث أن لزم لغته ولا تزال تعرف به إلى اليوم. والاسبرنتو تتألف من 3200 مادة مقتبسة من جميع لغات أوربا على نحو اقتباس هذه اللغات نفسها من اللاتينية والجرمانية واليونانية وكلها في سبيل واحد من السلاسة والانقياد واطراد القواعد بلا شذوذ ولا استثناء وقد ألحق بها واضعها ثلاثين لفظة تركب مع سائر ألفاظها فيدل بها على نوع المعاني الوصفية وسبع عشرة زيادة صيغية تدل على المعاني التصريفية فصارت بذلك من الثروة في ألفاظها بحيث تنتهي في التركيب إلى عشرة ملايين من الكلمات. وقد انتشرت هذه اللغة في أوربا واطرد استعمالها وكثر أهلها والقائمون عليها وكأنها لم تكن إلا حاجة في النفس الإنسان قضاها وإنه لذو علم مما علمه الله.

اللغات السامية:

والمراد بها لهجات سكان القسم الجنوبي من غرب آسيا من حدود الأرمن شمالاً إلى البحر العربي جنوباً ومن الخليج العجم شرقاً إلى بحر الأحمر غرباً وهي منسوبة إلى سام بن نوح - عليهما السلام - باعتبار أن المتكلمين بها هم في الجملة من نسله كما تسمى اللغات الآرية باليافثية أيضاً نسبة إلى يافث. والذين يزعمون أصالة بعض اللغات في النوع الإنساني لا يعدون في زعمهم هذه اللهجات السامية لأنهم يذهبون إلى أن مهد الإنسان الأول إنما كان حيث نشأت تلك اللغات على ضفاف الفرات ودجلة.فالعبرانيون والسريان وبعض الغلاة من العرب يزعم كل فريق منهم أن لغته أصل اللغات وأنها كانت لغة آدم - عليه السلام - وهذا على غرابته وانقطاعه من نسب البرهان لا يخلوا من بعض المعنى في الدلالة على قدم اللغات السامية. وعلماء اللغات يعينون السامية منها في التقسيم بحسب موقع أهلها الجغرافي كما كانت الشعوب السامية قديماً ينسبون بعضهم إلى موقعه من شرق الشمس وغربها.وذلك التقسيم أصح بياناً في اللغة لأن أشد العوامل في تغييرها إنما هو أمر الحضارة لا كرور الزمن وحده فإن العبرانيين مثلاً حينما غلبهم الكلدانيون جعلت لغتهم تفنى حتى صارت الآرامية في منطقهم إلا حيث يتعبدون فإن لغة العبادة بقية العبرانية ولا تزال إلى اليوم وكانت لغتهم العبرانية وحدها إلى الزمن الذي خرب فيه بختنصر ملك الكلدانيين بيت المقدس وأوقع باليهود وأجلاهم عنها إلى بابل وذلكسنة586 قبل الميلاد. لذلك يعتبرون اللغات السامية شرقياً وغربياً ومن الشرقي اللغتان البابلية و الأشورية والغربي عندهم قسمان: شمالي وجنوبي ويجعلون الشمال منها قسمين أيضاً:1 - الكنعاني ومنه العبراني والفينيقي ولغة مؤاب شرقي فلسطين وغيرها. 2 - الآرامي ويجعلونه قسمين: غربي وهو لسان اليهود المتأخرين في فلسطين ومصر ثم هو لسان أمم أخرى وشرقي وهو لسان اليهود في بابل ولسان السريان وغيرهم. وهذا في القسم الشمالي من الجزء الغربي من اللغات السامية أما الجنوبي فهو نوعان أحدهما لغة القبائل العربية العدنانية - أي العرب المستعربة - والثاني لغة القبائل العاربة وهي السبئية والحميرية والحبشية. ويردون اللغات السامية كلها إلى ثلاثة أصول: الآرمية والعبرانية والعربية كما يردون الآرية إلى ثلاثة أصول أيضاً: وهي اللاتينية واليونانية والسنسكريتية.وكل من هذين النوعين بأصوله يرد عندهم في الاشتقاق إلى لغة مفقودة يتوهمونها انفصلت عنها هذه اللغات فكانت متشابهة في أول عهدها جعلت تتنوع وتتباين حتى قلت وجوه المشابهة إلا ما يكون من قبيل الدلالة التاريخية على وحدة الأصل. والذي يعنينا من هذا البحث أن نكشف عن أصل العربية وإنما سقنا ذلك توطئة حتى يجيء الكلام آخذاً بعضه ببعضه.

الأصل السامي:

رجح علماء الأثر الذين تخاطبهم الأرض بلغتها الحجرية الصامتة فينقلون عنها آثار الأول أن الأصل السامي الذي انشقت منه اللغات المتقدمة إنما هو اللسان البابلي القديم الذي عثروا على بقيته من آثار دولة حمورابي كما أومأنا إليه في أصل العرب لأنهم رأوا مشابهة قريبة بين هذا اللسان وبين العربية بل رأوا أن كلمات في العربية كأنما نقلت عن البابلية نقلا ًصريحاً مع أنها في العبرانية والسريانية قد دخلها التحريف. وعللوا ذلك بأن العرب البائدة فهي كلما تتغير كلغات الحضر التي تتنازعها التبعية لغيرها والاستقلال بنفسها على حسب ما يتقلب عليها من أدوار العمران فمن المشابهة بين البابلية والعربية حركات الإعراب وهي في اللغتين واحدة ولا وجود لها في سائر اللغات السامية حتى كانوا يذهبون إلى إنها من اختراع العرب تميزوا بها لرقة ألسنتهم وتوخيهم عذوبة البيان - كما سنفصله في موضعه. واللغات تتباين في سكون الآخر وتحريكه فالتحريك في السنسكريتية القديمة وفي اللغات الأوروبية الحاضرة: كالإيطالية والأسبانية ولكن جميعها خالية من هذا الضبط الموزون بالحركات المتساوية التي تجدها إعراباً في العربية ويقال أيضاً ما اكتشفوه من لغة بطره وتدمر يوجد فيه آثار لحركات الإعراب وذلك لأن أهلها من بقايا العمالقة. ومن تلك المشابهة: التنوين فهو في البابلية ميم وفي العربية نون وهما أحرف الإبدال ومن العرب من يجوز إبدال أحدهما من الآخر كما سيمر بك - ومنها علامة الجمع فهي في البابلية الواو والنون كما في العربية - وفي السريانية الياء والنون وفي العبرانية الياء والميم - منها أن صيغ الأفعال في البابلية أقرب إلى الصيغ العربية منها إلى غيريها من سائر اللغات السامية. أما الكلمات التي حفظت في العربية كأنها نقل صريح عن البابلية مع تغيرها في سوها فمنها لفظة ( أنف ) سقطت نونها في العبرانية والسريانية دون العبرانية والبابلية وكذلك لفظة ( عنب ) فهي أيضاً ساقطة النون في تينك دون هاتين. ولما رجحوا أن البابلية هي اللغة السامية الأصلية أو هي بقيتها بعد أن تنوعت قالوا: إن هذا الأصل تفرعت منه سائر اللغات السامية ثم انفصلت اللغات الشمالية عن الجنوبية وتميز كل طائفة منها بخصائص بحيث لا يمكن أن تكون إحدى الطائفتين قد أخذت لغتها عن الأخرى لتميز اللغات الجنوبية بخواص لسانية ولمخالفة أوثانها لأوثان اللغات الشمالية لأن اللغة كما قدمنا مجموع العادات. وقال بعضهم: إذا لم تكن اللغة السامية الأصلية قد نشأت في شمال جزيرة العرب فلا بد أن يكون منشؤها في وسطها وقد أفاضوا في المشابهة بين جميع الفروع السامية وأسلسوا عنان الرأي في الكلام على تاريخها مما لا يعدوا في برهانه الظن والاستئناس ولا يهمنا من ذلك إلا أن نحصل ما يتعلق باللغة العربية.

أصل العربية

لا يذهبن عنك أن العلماء إنما يكشفون عن أصول اللغات القديمة بما يعثرون عليه من بقايا التاريخية وبقية التاريخ في الدلالة الزمنية غير التاريخ نفسه وبذلك يجيئون في أحكامها بالناسخ والمنسوخ وربما كشفوا عن حفره من الأرض فأحيوا منها تاريخاً ميتاً ودفنوا فيها تاريخاً حياً فنحن إن قلنا ( أصل العربية ) لا نريد أنها فجر اليوم من أمس أو نهار يدل به على الشمس وإن لم تظهر الشمس ولكنه فجر يوم من أيام أظهره ثم محاه وشهد الأولون تباشيره ثم تعاقبت الأجيال ولا يزال العالم في ضحاه. بعد أن انشعبت اللغات من البابلية ذهب المعينون وهم القبائل الذين اقتبسوا تمدن السومرين مع الدولة البابلية في عصر حمورابي فنزلوا اليمن في عمارتها حذو بابل وكانت لغتهم من البابلية في منزلة العامية من الفصحى لما ثبت فيها من أثر المخالطة والتجول وهم الذين اقتبسوا حروف الفينيقيين واستعملوها في التدوين على طريقة سهلت للزمن أسباب التنويع فيها حتى انتهت في صورها إلى الخط المسند المشهور وهو القلم الحميري واستمرت لغتهم تتباين من البابلية بتقادم الزمن حتى لم يعد الشبه بينهما إلى أثر الدلالة التاريخية فقط وقد وجدوا من ذلك علامة لا توجد من اللغات السامية غلا في هاتين اللغتين وفي الحبشة أيضاً وهي السين التي هي ضمير الغائب في اللغات الثلاث وقالوا إن هذه السين ربما كانت دخيلة في الأصل السامي من اللغة الطورانية. ثم نشأت الدولة السبئية وهم القحطانيون الذين يسمونهم العرب المتعربة ويرجح العلماء أن أصلهم من الحبشة وكان ظهور دولتهم على ما تحققوه من القرن الثامن إلى السنة 115 قبل الميلاد وقد اقتبسوا لغة المعينيين إلا في ضمير الغائب الذي أشرنا إليه ولعل هذا ما ينظر إليه قول المؤرخين إنهم أخذوا العربية عن العرب العاربة: وبديهي أن هذه العربية لا يمكن أن تكون لغة مضر فإنهم يعرفونها - أي العربية - درجات ويعدونها لغة حمير فلا يكون إذن إلا إنهم أرادوا عربية ذلك الزمن وهل في المضرية وغيرها ولا عبرة بما يتعلق عليه أهل اللغة من أن منطق القحطانيين ومن قبلهم بل ومنطق آدم هو العربية الفصحى فإن ذلك كذب لغوي يحتاج إلى تصحيح. وابتدأت الدولة الحميرية من سنة 115 قبل الميلاد واستمرت إلى سنة 525 بعده وهو العهد الذي زهت فيه عربية مضر وحفظ أهله بعض خصائص الحميرية كما سنبينه. أما الأحباش فيرجح بعضهم أن أصلهم عرب هاجروا من اليمن زمن المعينيين وأخذوا معهن لغتها واستدلوا على ذلك من مشابهة لغتهم للمعينية والبابيلية في ضمير الغائب ( السين ) ثم من مشابهاتها للغة الحميرية حتى إن أحرف الكتابة تكاد تكون واحدة في اللغتين غير أن الأحرف الحبية تكتب من اليسار إلى اليمين وهم يزيدون رسم الحركات مما لم تكن عند الحميريين هذا غير ما يرى من تشابه الملامح في الأحباش وأهل اليمن وتماثل الآثار في البلدين ونحو ذلك مما يرجح أنهم طارئون على تلك البلاد من اليمن. وقد أسلفنا أن عرب الشمال المستعربة وهم الإسماعيلية يبتدئ تاريخهم من القرن التاسع عشر قبل الميلاد ولكن عدنان الذي ينتهي إليه عمود النسب العربي الصحيح كان في القرن السادس قبله فلا بد أن تكون العربية العدنانية قد ابتدأت بعد الحميرية أو قبلها بقليل ومهما يكن من ذلك فإن أصل هذه العربية لا بد أن يكون من الحبشة والحميرية ثم من اللغات السامية الأخرى لأن العرب قوم رحل وقد اختلطوا بأمم كثيرة فلابد أن يكون أثر هذا الاختلاط بيناًً في تكوين لغتهم وتلك سنة عامة في اللغات كلها حتى لقد تجد في لغات هذا الزمن م لا صفة له في نفسه بل هو لغة مركبة كالعروض التجارية: تؤخذ من كل مكان إلى مكان واحد وذلك خاص بالبلاد التي عرفت بتجارة المقايضة على نحو ما كان يصنع العرب.ومن هذا القبيل لغة ( البيجيين ) في الشرق الأقصى وهي مزيج من الإنكليزية والصينية ولغة السابير وهي تتألف من العربية والفرنسية و الإسبانية والإيطالية.وهكذا كانت العربية إلى أول نشأتها إلى أن ضربت القبائل في البادية بعد سيل العرم وذلك يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد على أبعد تقدير فاستقلت بعدئذ طريقة العربية وانصرف اهلها إلى العناية بتشقيقها وعلى ذلك لا يمكن الجزم مطلقاً بأن للعربية العدنانية أصلاً معيناً إلا إذا أمكن القطع بأن لهم دولة مستقرة في التاريخ مميزة الحضارة حتى تقتضي أصالة اللغة وهذا مما لا يقول به أحد لأنه لا مكان له في التاريخ.

مجانسة اللغة العربية لأخواتها

لم يبق من أمهات اللغات السامية إلا ثلاث: العربية والعبرانية والسريانية أما الحميرية فقد اندثرت قبل الإسلام غير ألفاظ قليلة وتولدت منها لهجات مهرة والشحر في جنوب الجزيرة وقد عثروا من هذه اللغة على آثار من القرن الخامس والسادس قبل الميلاد وتمكنوا من قراءة الخط المسند. أما اللغة البابلية أو الآشورية أو الكلدانية القديمة فقد وقفوا في قراءة آثارها حتى استخرجوا قواعدها ووضعوا فيها المعجمات كأنها من اللغات الحية وصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة اثنتا عشرة صيغة أكثرها موجود في العربية والعبرانية والسريانية وبعضها غير موجود في جميعها ولكنه طبيعي في أصل المنطق مما يدل دلالة صريحة على أصالة تلك اللغة وتفرغ الباقيات عنها وتلك الصيغ هي:فعل نفعل فاعل شفعلإفتعل إفتنعل إتفعل إتنفعلإفتاعل افتنعل استفعل استنفعلفصيغتنا افتنعل واستنفعل لا توجدان في غير الآشورية وفعل وفاعل لا توجدان إلا في هذه اللغة وفي العربية ونفعل واتفعل مما يوجد في السريانية والعبرانية دون العربية. أما المشابهة بين الأخوات الثلاث0العربية والعبرانية والسريانية ) فهي متحققة في جهات منها تحققاً يقطع الريب ويمتلخ الشبة في أنهن أخوات أو فروع لأصل واحد وأخص ما يكون ذلك في الألفاظ الطبيعية التي لا تتغير بتبدل المواطن واختلاف الحالة الاجتماعية وهي التي سمينها الألفاظ الخالدة: كالأرض والسماء، وكثير من الظواهر الطبيعية وأعضاء الإنسان ونحوها فإن مادتها فيهن واحدة على اختلاف قليل في بعض الأوزان والمقاطع، مما يرجع أكثره إلى خصائص المقومة لهيئة كل لغة منها في منطوقها وتجد في الأفعال والأسماء المشتقة دليلاً من ذلك في تناسب الوضع وتداني اللفظ.أما الألفاظ الثابتة في اللغة الإنسانية التي هي خلف من لغته الأولى، وهي الضمائر: فإنها في اللغات الثلاث باقية على حال واحدة، وإن لم تخل من الفروق العارضة التي لابد منها في الهيئة المقومة لمنطوق اللغة.والضمائر - كما لا يخفى - مادة أصلية لا تؤثر فيها الزيادة مواد اللغة أو نقصها وهذا مثال من حقيقة التشابه فيها:العربية العبرانية السريانيةأنا أني أناأنت اته أنتأنت ات انتيهو هوا هوهي هيا هينحن انحنوا حننأنتم اتم انتونأنتن اتن انتينهم هم هنونهن هن هنينفالمقابلة بين هذه الضمائر كافية في الدلالة على أن العربية مجانسة لأختيها وأنها أعذب منها وأخف، والسبب في ذلك أنها صرفت على وجوه كثيرة، لأنها كانت غير مدونة، بخلاف العبرانية مثلاً، فإنها مدونة من أقدم أزمانها، والكتابة نص على نص، فبقيت ثابتة كما هي ؛ فضلاً عما لقي العبرانيون من طول الاغتراب و التقلب بين أظهر الأمم المختلفة، وما بلغوا به من الجوائح السياسية في متعاقب أزمانهم ؛ وكل ذلك قد خلا منه العرب، وهم ليسوا من أهل المهن، ولا أورثتهم الطبيعة أسباب التبليد والغرة والذل. وبعد ؛ فإن الكلام في مجانسة العربية لأخواتها من اللغات السامية طويل الذيل عند علماء اللغات، وقد فصلوه تفصيلاً وجاءوا فيه بأشياء كثيرة من الحبشية والحميرية والعبرانية والسريانية والفروع الأخرى التي أومأنا إليها فيما سبق، مما لا محل لبسطه وتقريره، لأننا إنما نشير إلى التاريخ وقد يكون المثال الطبيعي برهاناً فيه. على أنه يخلص من جملة أبحاثهم أن المشابهة بين العربية وباقي اللغات السامية أمر لا ريب فيه ؛ وعلى ذلك فهي إما أن تكون فرعاً من الأصل الذي انفصلن عنه جميعاً، ويكون أصل الوضع مستصحباً في جميعها على السواء ؛ وإما أن تكون مشتقة من بعض تلك الفروع ثم كملت بها بما تناولته من غيرها لإلى أن استقلت طريقتها المقومة لها بعد ذلك.وكلا الرأيين قريب بعضه من بعض في النسبة، غير أنهم يرجحون الرأي الأول كما سلف بيانه. ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، أن العدنانية يعدون أنفسهم متميزين عن القحطانية، ويقلون إن حميراً تنتمي إلى العرب وليست منهم، وكذلك يرون أن اليهود مع طول معاشرتهم إياهم واختلاطهم بهم ليسوا إلا حلفاءهم، فلا يبالون بأنسابهم ولا بلغتهم، وكأنهم لا يرون أنهم أخذوا من العبرانية أو الحميرية شيئا ًوإنما ذلك شعور طبيعتهم السامية.

اللسان العربي في الشمال:

قامت في شمال الجزيرة دول عربية متحضرة: كالنبط والتدميريين، وهؤلاء وإن كانوا عرباً فيما حققه العلماء، بيد أن عربيتهم غثة غير متوقحة ؛ لأنهم على أطراف البادية مما يلي الحجاز، وبذلك لا تعرف نسبة لغتهم إلى العربية إلى العدنانية، وقد كانوا زمن نشأتها ؛ لأن أقدم ما عرف من تاريخ النبط يرجع إلى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت أطراف مملكتهم تترامى إلى نواحي دمشق، وهم قوم يكتبون بالآرامية التي خلفت البابيلية فهي في مدونات السياسة والتجارة ؛ لأن الأحرف العربية لم تكن وضعت يومئذ، والملك أخص حاجته الكتابة.على أن ما اكتشفوا من آثارهم الكتابية لا يخلوا من ألفاظ شبيهة بعربية العدنانيين، مما رجح عند العلماء أنها تحول الآرامية التي هي مشتقة من البابلية القديمة، كما خرجت المضرية بذلك التحول عينه من فروع البابلية ؛ وقد استدلوا بهذا على أن لسانهم كان عربياً على وجه ما حتى أثرت عربيته على لغة الكتابة التي اضطروا إليها بحكم الحضارة ؛ وذلك شبيه بأمر النوبيين الذين يكتبون اليوم بالعربية، مع أنهم يتكلمون لغة تكفر بها العربية كفراً لا إيمان له.وفي البلاد العثمانية طوائف من الأرمن والروم يتكلمون التركية ولكنهم يكتبونها بحروفهم القديمة، وذلك كان شأن بقية العرب في الأندلس بعد سقوطها، فإنص بعضهم كانوا يكتبون عربيتهم بالأحرف الإسبانية، وتسمى هذه الكتابة ( الخميادو ) وكانوا يكتبون بها حتى الفقه والحديث والتصوف ؛ ومن هذا النحو القلم ( الكرشوني ) عند السريان، وهو كتابتهم العربية بالأحرف السريانية. وقد حمل تاريخ النبط منذ صارت مملكتهم ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني للميلاد، ونبه من بعدهم تاريخ التدمريين، وهم عرب أيضاً، حذوا حذو النبط في استعمال الكتابة الآرامية، ووجد العلماء في آراميتهم صبغة ضعيفة من العربية، مما يدل على أنها بسبيل من عربية من قبلهم، لا أثرر فيها لأحكام البداوة ولا للغريزة الصحيحة.وقد عثروا على خطوط فيما بين دمشق والعلي وهي من رسم الرعاة خطوها على الصخور ؛ ومن أغرب ما في عربيتها أن التعريف فيها بالهاء، إذا قرءوا في بعضها هذه الكلمات ( حامل ابن سلم أخذ هفرس بخمسة أمني ) أي أخذ الفرس، و ( أمني ) نوع من النقود كانوا يتعاملون به، ويرجع تاريخ بعض ما قرءوه من هذه الخطوط إلى أوائل القرن الثاني للميلاد ؛ لأنهم وجدوا هذه الكلمات في بعضها ( الأنعم ابن فاحش غنم سنة حرب نبط ) وهذه الحرب كانت في أيام طرايانوس ملك الرومان في أوائل القرن الثاني. وثم كتابة أخرى وجدوها على قبر امرئ القيس بن عمرو من ملوك اللخميين الذين كانوا يتولون للفرس، ومقرهم الحيرة على أطرف العراق، ولكنهم اكتشفوا هذا القبر آثار الغساسنة في حوران، وهم الذين كانوا يتولون للروم على مشارف الشام، والكتابة بالحرف النبطي، ويؤخذ منها أنها كتبت سنة 328 للميلاد، وهي لغة عربية تشوبها صبغة آرامية، وهذه صورتها:وهذا نصها بالحرف العربي:1 - تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التاج. 2 - وملك الأسدين ونزور وملوكهم وهرب مذحجوا عكدي وحاء. 3 - يزجو في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه. 4 - الشعوب ووكله لفرس ولروم فلم يبلغ ملك مبلغه. 5 - عكدي هلك سنة 223 يوم 7بكسول بلسعد ذو ولده.وترجمتها هذا:1 - هذا قبر امرئ القيس ملك العرب كلهم، الذي تقلد التاج. 2 - وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم وذحج إلى اليوم، وقاد. 3 - الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معداً، واستعمل بنيه. 4 - على القبائل، وأنابهم عنه لدى الفرس والروم ؛ فلم يبلغ ملك مبلغه. 5 - إلى اليوم ؛ هلك سنة 223 يوم السابع من أيلول، وفق بنوه للسعادة. هذه اللغة تكاد تكون الحلقة المتوسطة بين العربية والآرامية، أو هي أقدم مما يمكن أن يسمى عربية في اللغات الشمالية.أما البادية لذلك العهد فلا شك في أن لغتها كانت أخلص منطقاً وأعذب بياناً وأدنى إلى عهد الجاهلية التي أدركها التاريخ، والفرق في ذلك بين اللغتين، طبيعة الفرق بين الجهتين.

تهذيب العربية الأول

أردنا بما تقدم الكلام في أولية هذه اللغة، وكيف نشأت وتفرعت، والقول في وجوه المشابهة بينها وبين غيرها، لنضم أطرفاً من التاريخ تحصر جهة معينة جهاته، يستدل بها الباحث على وضع المكاني لهذه اللغة في التاريخ العام ؛ إذ لا سبيل إلى تعيين موضع من المواضع الدائرة التي تراكمت عليها طبقات الزمن القديم، إلا بتتبع الآثار التي تومئ إليه ولو إيماء معنوياً. والعرب - أهل هذه اللغة - قوم ملكوا الأرض ولمتملكهم، فلم يؤثر عنهم شيء في جاهليتهم الأولى من أنواع الدلالة الثابتة: كالكتابة والآثار ونحوه، ولا دخلوا في تأريخ أمة من أمم الحضارة فيكون لهم نوع من تلك الدلالة ؛ وعلى ذلك يتعين أن تكون لغتهم أيضاً قد ملكت التاريخ ولم يملكها ؛ وهي لابد أنتكون قد تقلبت معهم على وجوه من الإصلاح وجرت على مناح من التهذيب ؛ وتاريخ ذلك بالطبع غير محقق بالنص، ولا سبيل إلا تلك الطريقة التي سلكنها من قبل، وإن كانت هذه الجهة منها قد حفظت بعض الآثار التي يترسمها الباحث ويراها كأنما تركت بالأمس، وذلك لقرب عهد الرواة في صدر الإسلام بقبائل العرب الذين خلصت من لهجاتهم هذه اللغة المضرية. وقبل أن نأخذ إلى القصد من هذا التاريخ، نأتي على شيء من أقوال علماء العرب في أمر اللغة وتهذيبها ؛ لذلك قال صاحب ( المخصص ) في موضع من كتابه حين أراد أن يدل على أن لغة أهل الحجاز هي الأصل في جميع لهجات العرب: ( وإنما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها إسماعيل - عليه السلام - وكان مسكنه مكة )

أسواق العرب

آخر الأدوار التي قامت فيها قريشٌ مقامها في تهذيب العربيّة، هو الدور العُكاظي ؛ وقد أشرنا إلى أسواق العرب آنفاً - ومنها عكاظ - ونحن نوجز القول في بيانها لأنَّها ليست من غرض مانحن فيه. وهي أسواق كانوا يقيمونها في أشهر السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض فكانوا ينزلون ( دومةَ الجندل ) أول يوم من شهر ربيع الأول، ثمَّ ينتقلون إلى ( هجَر ) بالبحرين فتقوم سوقهم بها في شهر ربيع الأخر، ثم يرتحلون نحو ( عُمانَ ) في أرض البحرين أيضاً فتقوم بها سوقهم إلى أواخر جمادى الأولى، ثمَّ ينزلون سوق ( المُشقَّر ) وهو حصنٌ بالبحرين فقوم سوقهم به أول يوم من جمادى الآخرة، ثمَّ ينزلون سوق ( صحَار ) فيقيمونها خمسة أيام لعشر يمضينَ من رجب الفرد.وتقوم سوقهم ( بالحشرِ ) وهو ساحل بين عمان وعدن في النصف من شعبان، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين وهي جزيرة في اليمن أقام بها أبين فنسبت إليه، ثم تقوم سوقهم في حضرموت نصف ذي القعدة، ومنهم من يجوزها وينزل صنعاء فتقوم أسواقهم بها. ولهم أسواق أخرى غير هذه: كذي المجاز بناحية عَرَفة، وسوق ( مجنة ) وهي تقام قرب أيام موسم الحج ويؤمها كثيرٌ من قبائلهم، وسوق ( حباشة ) كانت في ديار بارقً نحو قنونا من مكة إلى جهة اليمن، ولم تكن من مواسم الحج وإنما كانت تقام في شهر رجب، وأسواق كانت بين دورهم ودور العجم يلتقون فيها للتسوّق والبياعات، وهي التي كانت أوسع أبواب الدخيل والمعرّب في هذه اللغة، وذكر منها الجاحظ في ( الحيوان ) سوق الأبلةِ وسوق لقه ( كذا ) وسوق الأنبار، وسوق الحيرة.

عكاظ

أما عكاظ فهي أعظم أسواقهم، اتّخذت سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة - 540 - للميلاد - ثم بقيت في الإسلام إلى أن نهبها الخوارج الحرورية حين خرجوا بمكة مع الختار بن عوف سنة 129 للهجرة. وعكاظ نخلٌ في وادٍ بين نخلة والطائف، فكانت تحضره قبائل العرب كلها، لأنها متوجّههم الأكبر، فيجتمعون منه في مكان يُقال له الإبتداء، فتقوم أسواقهم ويتناشدون ويتحاجون، لأنه مشهد القبائل كلّها، إذ كان كلّ شريفً إنمايحضر سوق ناحيته، إلاّ عكاظ فإنهم يتوافون إليها من كل جهة، وهم كانوا لذلك العهد يتعلقون بالكامة السائرة والخبر المرسل، لا يعدلون بذلك شيئاً لما رُكّب في طباعهم من الفخر وحب المحمدة، وما انصرفوا إليه من المباهاة بالفصاحة وقوة العارضة وقرب ما بين اللسان والقلب، ونحو ذلك ممّا لقتضته أحوالهم يومئذٍ. وفي هذه السوق كان يخطب الشاعر الفحل بقصيدته، والخطيب المصقع بكلمته، كما فعل عمرو بن كلثوم بطويلته التي سميت بالمعلقةِ على قول بعضهم إنها مع باقي القصائد السبع المعروفة عُلّقت في هذه السوق أو في الكعبة - وهو من الأكاذيب، وسنفصل أمره في موضعه - وكما خطب قَسّ بن ساعدة الإيادي حكيم العرب خطبته المشهورة التي شهدها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على جملً أروق.وفيها ضربت للنابغة الذبياني قُبّةٌ من أدم ليتحاكم إليه الشعراء في أيّهم أشعَر، وقد أنشده فيها الأعشى والخنساءُ وحسانٌ في قصة مشهورة. ولايخفى أن مثل هذا الاجتماع العام حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعة اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطقِ قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها.وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامّةٍ يشيع فيها النطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلاّ موت الضعيف وتحوّله إلى شكل أثري لا منفعة فيه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة ولكنه يدلّ على أصل التكوين. هذا أثلر قريش في تهذيب اللغة، وبلغتهم نزل القرآن فتكوّنت به الوحة اللغويّة في العرب، ومنع لغتهما على الدهر أن تضمحلّ أو تتشعّب فتصير إلى ما انتهت إليه لغات الأمم من تباين اللهجات واختلاف مناحي الكلام كما ترى في اللعات العاميّة العربيّة، فهي من أصل واحد وقد تتباين حتى يصير هذا الأصيل فيها كأنه بعض الجذور الذاهبة في طبقات الأرض خفاءً وضعفاً في التأثير. وكما أن الذي أنزل عليه القرآن تبيّ العرب، فالقرآن نبيّ العربية، بحيث لا تجد من فضلٍ لرسول الله على الأنام، إلاّ وجدت فضلاً في معناه لكلام الله على الكلام.

الأسباب اللسانيّة

أومأنا في الفصل السابق إلى هذه الأسباب، وأن العرب قد خصوا بها لتكون معدلاً لألسنتهم، وهي أسبابٌ طبيعيةٌ فيهم ما دامت اللغة بالقياس، وما دام قياس العربي قريحته، فهي تجعل حركات الألسنة على مقادير مضبوطة توازن الحروف التي تجري عليها كما تميل كفة الميزان بمقدار ما يوضعُ فيه ثقلاً وخفة. وقد كان يسبق إلى ظننا أن هذه الجارحة اللسانيّة في العرب قد تكون ممتازة في أصل تركيب الخلقة كما امتازت أدمغتهم عن أدمغة السلئل الأخرى ؛ وكنا نعلل بذلك ما في منطقهم من الفخامة وما في حروفهم من لطيف الحسّ وسريّ المخرج وعجيب التركيب والترتيب ؛ بيد أنّنا لمّا تتبعنا لغات القبائل واستقرينا لهجتها الباقية في كتب العربية، رأينا أنهم ليسوا سواء في هذه الميزة فإن لبعضهم لهجات رديئة وطرقاً شاذة في سياسة المنطق، كما سنبينه في موضعه، فرجح عندنا أن ذلك من عمل التنقيح وأنه صنعةٌ وراثيةٌ في الألسنة جرت بها اللغة مجرى الكمال ؛ وهي في بعض القبائل أظهر منها في البعض الآخر، وعلى حسب ذلك قسّموها درجاتٍ في الفصاحة كما ستعلم. غير أنه ممّا لا ريب فيه أن كل قبيلة كانت تهذب في منطقها باعتبار ما ألفتهُ وعلى مقداريكافىء طبيعة أرضها، راجعة في كل ذلك إلى الثقل والخفة، فكل ما رفضه العرب في الجملةأو عجلو عنه إلى غيرهمن هيئات المنطق، فإنما فعلوه استثقالاً، وكل ما قبلوه أو عدلوا إليه فلخفته على ألسنتهم، وهذا مذهب كل من يستبطنُ أسرار لغتهم ويتتبع هيآتها وتراكيبها، حتى جعلوه في تقدير الكلام علّة ما لا ظهر له عَلة. قال ابن جنّي في فصل من كتابه ( الخصائص ) بعد أن ذكر علّة عدل عامر وجاشم إلى عُمَرَ وجُشَم، مع تلك الأسماء المحفوظة التي تُمنعُ من الصرف للعلمية والعدل دون أن يكون هذا العدل في مالكٍ وحاتمٍ ونحو ذلك، ووجّهها على أنهم لم يخصّوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره إلاّ لاعتراضهم طرفا ممّا طفلهم - أي أمكن - من جملة لغتهم كما عنّ وعلى ما اتّجه، لا لأمر خصّ هذا دون غيره ممّا هذه سبيله، قال: ( وعلى هذه الطريق ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عمّا هذه حاله، ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها غلا بعد السبر والتأمل والإنعام والتصفح، فإن وجدت عُذراً مقطوعاً به صِرت إليه واعتمدته، وإن تعذّر ذلك جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك مذهباً تسلكه ومأمّاً تتورده ). وبعد فالثقل والخفة أمران معنويان في اللغة لا يقدّرهما إلا الذوق، وهوليس من الصفات التي يجمع عليها الناس، ثم إن الذين دونوا اللغة لم يجمعوها إلا بعدما انطبعت الألسنة على لغة القرآن وجرت في نهجه، وبعد تنقل هذه اللغة في أدوار التهذيب حتى بلغت نهايتها من الكمال، فمن ها هنا تألف ذوق عام في تقدير لهجات القبائل المختلفة والتمييز بينها خفةً وثقلاً.وليس يخفى أن العلماء إنما دونوا لغات بعينها وتناولوا من اللهجات الأخرى نتف قليلة مما كان باقي لعهدهم، وذلك للحاجة إليه في العربية، ثم اغفلوا ما عاه فضلاً عن كثير لم يقع إليهم علمه، ولذلك تأتى لهم أن يحصروا أبنية الكلام وأنواع المستعمل منها والمهمل، وأن يضعوا قوانين وضوابط لتأليف الحروف حتى توافق منطق العرب )، ومثل هذا لا ينهض به الدليل على أن ذلك كان شأ، اللغة في كل القبائل جاهليّةً وإسلاماً، فلغات العرب مختلفة، وكلهم كانوا يدأبون في تهذيبها متابعة لسنة الكمال، راجعين في ذلك إلى موازين الطرائح التي لا تميل بطبيعتها إلا مع الإستثقال والإستخفاف على ما يكون بين مقاديرهما من التفاوت.

أمثلة من هذه الأسباب

من نوادر اختلاف العرب في لغتهم للأسباب اللسانية، هذه الأمثلة:1 - من العرب من يحرّك آخر الكلمة بحركة الحرف الذي قبله مطلقاً بالفتح والضم والكسر، فبقول فيردَّ مالي ): ردُّ مالي ) كما يقول: عضَّ ) يحرك الضاد كتحريك العين، ويقول في نحو فرَّ يا غلام واطمئنَّ واستعدَّ: فرَّ واطمئنَّ واستعدِّ ) وهلمَّ جرّاً. 2 - وكذلك يفعلون إذا اتَّصل الفعل بضمير غير الهاء ؛ فإن جاءت الهاء والألف فتحوا أبداً، لأنَّ الهاء خفيفةٌ فكأنها لا تنطق، فيقولون: رُدَّها وأمِدَّها، يعتبرون أنفسهم لخفة الهاء المفتوحة عندهم كأنهم قالوا: رُدَّ وأمدَّ، والألف بالطبع تقتضي الفتحة. وأما إذا كانت الهاء مضمومة فإنهم يرجعون لطبيعتهم فيضمون ما قبلها وعلى ذلك يقولون فيمَدّهُ وعَضَّه ): مدّه وعضّه ) - كلغة العامة - وسمع الأخفش ناساً من بني عقيل يقولون مَدّهِ وعَضّهِ ). 3 - زعم الخليل أن ناساً من بكر بن وائل يقولون في نحو رددن ومررن ورددْتُ ومررْت: ردّنَ ومرّن وردّتُ ومرّتُ.وهذا الفعل المضاعف إذا كان آخره مفتوحاً نحو ردَّ ومدَّ، فالعرب مجمعون على الإدغام وذلك فيما زعم الخليل أولى به، لأنه لمَّا كانا - أي الحرفان اللذان صارا حرفاً مشدداً - من موضع واحد، ثقُل عليهم أن يرفعوا ألسنتهم من موضع ثم يعيدوها إلى ذلك الموضع للحرف الأخير، فلمَّا ثقُل عليهم ذلك أرادوا أن يرفعوا رفعةً واحدة، وذلك قولهم: ردِّي وضارِّي، إلى سائر تصاريف الفعل. 4 - قال سيبويه: فإذا كان حرف من هذه الحروف - المدغمة - في موضع تُسكَّن فيه لام الفعل نحو رُدَّ فعل الأمر )، فإن أهل الحجاز يضاعفون لا يدغمون )، لأنهم أسكنوا الآخِر، فلم يكن بُدٌّ من تحريك الذي قبله لأنه لا يلتقي ساكنان، وذلك قولهم: أُردُدْ، وإن تُضارِر أُضارِرْ، وإن تستعدِد أستعدِد، يدعونه على حاله ولا يدغمونه.وأما بنو تميم فيدغمون المجزوم كما أدغموا إذا كان الحرفان متحركين، فيقولون: ردَّ يا فتى، وإن تضارَّ أضارّ ) الخ.وهي اللغة المأنوسة في الفصيح. 5 - قال سيبويه في باب ما شذَّ من المضاعف: إنهم يقولون: أحسْتُ يريدون أحسَسْتُ، وأحسَنَ، يريدون أحسَسْنَ.قال: وكذلك تفعل في كل بناء تبنى اللام من الفعل فيه على السكون ولا تصل إليها الحركة: شبَّهوها بأقمتُ. .فإذا قلت: لم أحسّ، لم تحذف، لأن اللام - أي آخر الفعل - في موضع قد تدخله الحركة ولم يُبْنَ على سكون لا تناله الحركة - أي كقولهم أحسْتُ - فهم لا يكرهون تحريكها.وأورد من شاذِّ اللغة: ظِلْتُ، ومِسْتُ، وظَلتُ، ومَسْتُ، في ظَلِلْتُ ومَسَسْتُ: شبَّهوا الأولى بخِفْتُ والثانية بلِسْت، قال: ولم يقولوا: لسْتُ، البتة ). 6 - وقال أيضاً: اعلم أن للعرب لغة مطردةً تجري فيها فُعِل المبني للمجهول ) من رددْت ونحوه، مجرى فُعل من قلت - أي على وزن قيل - وذلك قولهم: قد رِدَّ، وهِدَّ، ورحُبتْ بلادك وظِلَّت - وأصل ذلك كله بالضم - وقد قال قوم قد رِدَّ فأمالوا الفاء - يريد أنهم ينطقون كسرة الراء كحرف e - ليُعلموا أن بعد الراء كسرة قد ذهبت - لأن أصله على فُعِل - كما قالوا للمرأة أُغزي، فأشمُّوا الزاي وجعلوا في كسرتها صوت الضمة ) ليُعلموا أن هذه الزاي أصلها الضم ). 7 - الواو إذا كانت مضمومة في أول الكلمة، فإن من العرب من يبدل مكانها الهمزة، فيقول: في نحو وُلْدٍ ووجوه: أُلدُّ وأُجوه، وإذا اجتمع الواوان في كلمة فمنهم من لا يهمز فيقول في قؤولٍ ومؤونة: قوُول وموُونة: يُجري الحركة على الواو الأولى، والذين يهمزونها إنمَّا يرونها حرفاً ضعيفاً فيضعون مكانها حرفاً أجلد منها وهو الهمزة. 8 - إذا كانت الواو في أول الكلمة مفتوحة، فمنهم من يُبدلها بالهمزة ولكن هذا في كلمات معدودة: كوجم، ووناة، يقولون: أجَم، وأناة، وهو ليس مطّرداً.قال سيبويه: ولكنَّ ناساً كثيراً يُجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزونها إذا كانت أولاً، من ذلك قولهم: إسادة، وإعاء، في وسادة ووِعاء، وهكذا ). 9 - من لغة بعضهم إدغام الهاء في الحاء - أي إخفاؤها عندها، وهذا الإخفاء يسميه سيبويه إدغاماً - وذلك كقول الراجز يصف ناقة:

كأنَّها بَعدَ كَلالِ الزاجرِ

ومَسْحي مُرَّ عُقاب كاسرِ

يريد ( ومسحه ) وشبيه بذلك قول بني تميم: محُم، ومحَّاؤلاء: يريدون ( معهم ومع هؤلاء ) فيحولون العين حاءً ثمَّ يدغمون الهاء فيها، وذلك لاستثقالهم أصله وإن كان خفيفاً على ألسنة من عداهم. 10 - من نوادر باب الإدغام في كتاب سيبويه - وهذا الباب صفحة ممتعة من تاريخ الأسباب اللسانية عندهم واعتبارهم في التأليف مخارج الحروف ومرور الصوت وما هو أندى وأفشى وأخفى في السمع ابتغاء الخفَّة على ما ألفهُ كل قبيل من لغته الموروثة - قول بعضهم: ذهبسلمي وقسَّمِعت، يريد ذهبت سلمى وقد سمعت، ويقولون: مزَّمان، ومُسَّاعة، في ( مذ زمان ومذ ساعة ) وأغرب من ذلك قول بعضهم: حدَّتُّهم، في حدثتهم ( وهي العامية المعروفة اليوم ) ومنهم من يقول: هشّيءٌ، في هلْ شيءٌ.وهتُّعين في هل تُعين، وقد وردت الكلمتان في الشعر. ومراتب الثقل متفاوتة عند العرب، فقد يقلُّ الشيء من الصحيح في كلامهم وإن كان له بعض نظائر من المعتل مثلاً، كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون، وقد يطرحونه لهذا السبب، وقد يقلُّ عندهم ما هو أخف مما يستعملونه لتوهُّمهم فيه سبباً من أسباب الثقل، وقد يطَّرحونه وغيره أثقل منه في كلامهم لهذا التوهم عينه، وقد يدعون البناء من الشيء وهم يتكلمون بمثله في لفظ آخر.وذلك كله راجع إلى قياس القريحة المستقلة، فلا يتقيد العربي بمتابعة غيره ولا تقليده في منطقه ناظراً إلى حقيقة المتابعة والتقليد، بل ذلك أمر طبيعي في جميعهم، يرجعون فيه إلى السليقة، وينزلون منه على حكم الغريزة، وقد رأينا سيبويه يقول في باب الإمالة من كتابه بعد أن أشار إلى اختلاف العرب، وأن منهم من يوافق غيره في الإمالة وقد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، وأن تلك الموافقة ليست تقليداً من بعضهم لبعض ولكنها طبيعية - قال: فإذا رأيت عربياً كذلك يخالف أو يوافق ) فلا ترَينَّه خلَّط في لغته، ولكنَّ هذا من أمرهم ).

مواقع الحروف اللسانيَّة:

نظر ابن دريد في كتابه الجمهرة ) إلى مواقع الحروف في كلام العرب باعتبار الأسباب اللسانية في دورانها، فرأى أنَّ أكثر الحروف استعمالاً عندهم، الواو، والياء، والهمزة، وأقلُّ ما يسنعملون منها لتفاوتها في الثقل على ألسنتهم: الظاء، ثم الذال، ثم الثاء، ثم الشين، ثم القاف، ثم الخاء، ثم العين، ثم النون، ثم اللام، ثم الراء، ثم الباء، ثم الميم، أمَّا باقي الحروف فهي بين المنزلتين.وقال في موضع من كتابه: اعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة، لصعوبة ذلك على ألسنتهم، وأصعبها حروف الحلق، فأما حرفان فقد اجتمعا، مثل أحد، وأهل، ونخع، غير أن من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدأوا بالأقوى من الحرفين ويؤخروا الألين، كما قالوا: ورل، ووتد ؛ فبدءوا بالتاء مع الدال، وبالراء مع اللام، فذُقِ التاء والدال، فإنك تجد التاء تنقطع بجرس صوت ) قوي، واللام تنقطع بغتة ؛ ويدلُّك إلى ذلك أن اعتياص اللام على الألسن أقل من اعتياص الراء، وذلك للين اللام.وقال الخليل: لولا بحةٌ في الحاء لأشبهت العين، فلذلك لم يتألفا في كلمة واحدة، وكذلك الهاء، ولكنهما يجتمعا في كلمتين لكلِّ واحدة منهما معنى على حدة، نحو قولهم حيهَّل وحيَّهلا، فحي: كلمة معناها هلمّ، وهلا: حثيثاً. ثم قال ابن دريد في امتزاج الحروف وسرِّ التأيف في أبنية كلامهم بمراعاة المخارج المتباعدة والمتقاربة وملأمة بعضها لبعض ممَّا هو حقيقة الأسباب اللسانية: اعلم أن أحسن الأبنية أن يبنوا بامتزاج الحروف المتباعدة ؛ ألا ترى أنك لا تجد بناءً رباعياً مُصمت الحروف لا مزاج له من حروف الذلاقة إلا بناء يجيئُك بالسين وهو قليلٌ جداً: مثل عسْجد، وذلك أنَّ السين لينةٌ وجرسها من جوهر الغنة، فلذلك جاءت في هذا البناء، فأما الخماسي: مثل فرزدق وسفرجل، فإنّك لست واجده إلا بحرفٍ أو حرفين من حروف الذلاقة من مخرج الشفتين أو أسلة اللسان طرفه ) فإذا جاءك بناءٌ يخالف ما رسمته لك: مثل دمشق وضعنج وحضافج وضقهج، أو مثل عقجش ) فإنه ليس من كلام العرب فأرددهُ ؛فإنّ قوماً يفتعلون هذه الأسماء بالحروف المصمتة ولا يمزجونها بحروف الذلاقة، فلا تقبل ذلك.فأما الثلاثي من الأسماء والثنائي فقد يجوز بالحروف المصمتة بلا مزاج من حروف الذلاقة: مثل خدع، وهو حسن، لفصل ما بين الخاء والعين بالدال فإن قلبت الحروف قبح ؛ فعلى هذا القياس فألف ما جاءك منه وتدبَّره، فإنه أكثر من أن يحصى ).

عدّة أبنية الكلام

وقد أطال العلماء النظر في وجوه التأليف المتصورة من تركيب الحروف العربيّة بضرب من الحساب واضح، ليستخرجوا بذلك عدّة أبنية الكلام العربي من البناء الثنائي إلى الخماسيّ، ويستقصوا من كلام العرب ما تكلموا به وما رغبوا عنه ممّا يأتلف أو لا يأتلف باعتبار الأسباب اللسانية أيضاً.وهذه الطريقة الحسابية من وضع الخليل بن أحمد، وقد شرحها ابن دريد في الجمهورة ) ونقلها عنه السيوطيّ - في الكلام إيحاء اللغة من المزهر ) - وبها حصرَ أبو بكر الزبيديّ الأندلسيّ في مختصر كتاب العين ) عدة أبنية الكلام، ما أهمل منه وما أستعمل، صحيحاً ومعتلاً ؛ فذكر أنّ عدة مستعمل الكلام كله ومهمله6659400، المستعمل منها 5620 والباقي مهمل لم يستعملوه لا في الصحيح ولا في المعتل ؛ أمّا الصحيح من المستعمل فهو 3944 أو مأنا إليه، وهو يشمل عدّة الكلام المتصور في كل بناء، مستعمله ومهمله، في الصحيح والمعتل من كليهما، فارجع إليه إن أحببت الاستقصاء. والمهمل عندهم على ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب ألبتة، وذلك كجيم تؤلف مع كاف، أو كاف تُقدم على جيم، وكعينٍ مع غين، أو حاء مع هاءٍ أو غين، فهذا وما أشبه لا يتألف. والضرب الآخر ما يجوز تألف حروفه لكن العرب لم تقل عليه، وذلك كإرادة مريد أن يقول عضخ، فهذا يجوز تألفه وليس بالنافر ؛ ألا تراهم قد قالوا في الأحرف الثلاثة خضعَ ؛ لكن العرب لم تقل عضخ. فهذان ضربان للمهمل، وله ضربٌ ثالث، وهو أن يريد مريد أن يتكلم بكلمة على خمسة أحرف ليس فيها من حروف الذلق أو الإطباق حرف. وأيُّ هذه الثلاثة كان فإنه لا يجوز أن يسمى كلاماً. ومن يتتبع تراكيب هذه اللغة ويتدبر أثر الأسباب اللسانية فيها، لا يجد كلاماً يعدل كلام العرب في العذوبة والبيان، وفي الإختصار ونهج التأليف بين حروف الكلمة الواحدة، حتى إنّهم قد يراعون مواضع الحروف من معانيها، فيجعلون الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس، لما هو أدنى وأقل وأخفى عملاً وصوتاً ؛ ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملاً وأعظم حسّاً، ولتفصيل ذلك موضعٌ سيأتيك. أما صيغُ كلامهم فهي بذلك أبدع الصيغ وأسهلها، لما نحوه في استعمالها من التخفيف، وما طلبوه في صوغها من الاختصار، وأكثر الصيغ المهملة في العربية تجدها مستعملة في العبرانيّة والسريانيّة أو في إحداهما دون الأخرى، ممَّا يدل على أن هذه اللغة خلقٌ لساني حيٌّ كما بيّناه في صدر هذا الكلام.

أوزان الأفعال في اللغات الثلاث:

وصيغُ الأفعال معروفة في اللغات الثلاث، وقد نقلنا ما عرفوه منها في اللغة البابليّة، ونحن ذاكرون هنا أوزانها في هذه اللغات المتشابهة، ليُستدلُّ بالمُقابلةِ بينها على ترقّي الصفاتِ اللسانيَّةِ في العرب، وأنَّ مبنى كلامِهمعلى خفَّةِ اللفظِ وعذوبتِه، حتى كأنَّهم جَرَوْا في اللغةِ على ناموسِ اقتصاديّ، وهو نهايةُ ما تبلغهُ القرائحُ منَ الكمالِ في أوضاعِ اللغاتِ، هذا إلى ما أنفردتْ به العربيّةُ من استقامة الصوت وامتلائه ووضوحه، لأنّه مادّةُ الحرفِ وصلاح كلّ شيءٍ من مادته. ^

مناطق العرب

الحروفُ العربية:

الحرف هيئةٌ عارضةٌ للصوت الساذج يتكوّنُ في مواضعَ من اللسان والحلقِ والسنِّ والنطع والشفة، وهذه المواضع هي مخارج الحروف، ومحالٌ أن يتكوّن الصوت في جميعِها تكوّناً طبيعيّاً يشمل الناطقين جميعاً، بل لا بدَّ في ذلك من عمل وراثيٍّ يتبع حالة اللغةمن الكمال ويقدّر بقدرها، وذلك لا تجده على أكمل الوجوه إلّا في لغة العرب. وقد بيّنا فيما سبق أنّالحرف الطبيعيّ في المناطق إنّما هو الحرف الهاوي الذي يتّسع مخرجه لهواء الصوت فلا يقع الحرف فيه على مدرج من مدارج الحلق ولا اللسان ولا غيرهما من سائر المخارج، ويتلوه في التكوّن أحرف الحلق، لقربها من مصدر الصوت، ثمّ تكوّنتْ باقي الحروف على نظمٍ طبيعيٍّ بطيء، وذلك بارتقاء أوتار الصوت وتفنُّن الإنسان في توقيع الأصواتِ عليها، لأنَّ الحلْق إنّما هو في أصل الخلقة أداةُ الموسيقى اللغويّة. وثبتُ ما قدمناه ما وقف عليه علماء اللغات في مباحثهم، وهو أنّ بعض القبائل في أواسطِ إفريقية لا تُوجد في لغتهم الحروف الشفويّة: كالفاء والباء والميم والواو، وبعض هنود كولومبيا لا يجدون سبيلاً إلى النطق بهذه الحروف ( ب ف ج د و ) وأكثر أقوام أوستراليا لا يستعملون حروف الصفير ( س ص ز ) ولا هذه الحروف ( ش ث ط ) وأهل نيوزيلاندا لا ينطقون هذه الحروف ( ب س د ف ح ج ل ن ص و ي ) وكذلك وجدوا اللغة الهيروعليفيّة القديمة - وهي من أقدم اللغات المعروفة - ليس من حروفها في المنطق ( ب ج د ز ظ ض )، بل أنت ترى الدليل الذي لا سبيل إلى ردِّه في هذه الحروف الطبيعيَّة الخالدة التي لا يزاد فيها ولا ينقص منها وهي ما يتهيَّأ في منطق الحيوان السائم فإنّها على قدر الحاجة الحيوانيَّة ممّا لا يتجاوز معنى الإحساس الذي هو النطقُ الباطنيّ. أمَّا الحروف العربيَّة فهي المعروفة اليوم بالحروف الأبجدية، أو ألف باء، ولم تكن على هذا الترتيب الهجائيِّ من قبلُ، وإنَّما هو ترتيب نصر بن عاصم ويحيى بن يعْمر العدوانيّ، في زمن عبد الملك بن مروان، حين بُدئ في إصلاح الخطِّ وتمييز الحروف والحركات - كما سيأتي في موضعه - وكانت قبل ذلك على ترتيب ( أبجد هوّز ) المعروف، وهو ترتيب السريانيَّة والعبرانيَّة. ومن علماء اللغة من يرتّبها على وجهٍ آخر، كالخليل بن أحمد، فإنّه اعتبر ترتيبها على مخارجها الطبيعيَّة ذاهباً من الصدر إلى الشفتين، وبنى على هذا الوضع كتاب العين الذي هو أول كتابٍ جمع اللغة فجعلها هكذا:ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز طد ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ا يوقد خافه بعضهم، ولا نرى فائدةً في استقصاء أقوالهم المختلفة. وهذه الحروف 29 حرفاً بإضافة الهمزة وهو رأي سيبويه وعليه المحققون، وكان أبو العباس ثعلب لا يعدها منها وتسمى حروفاً أصليَّة، ولها اربع حركاتٍ أصليّة أيضاً، وهي: الفتحة والضمة والكسرة والسكون. وهذه الحركات قديمةٌ في اللغة، لأنّها هيئات المنطق، ولكنَّ دلائلها الخطيَّة لم تكن عندهم، بل اخترع أصولها السريان حينما تنصَّروا وأرادوا ضبط قراءتهم في الأناجيل، فوضعوا علاماتٍ صغيرةً تدلُّ على الحركات، وهي نقطةٌ أو خطٌ صغيرٌ فوق الحرف أو تحته أو بين يديه، ولا يزال أثر هذه الطريقة في المصاحف المخطوطة في القرن الثاني للهجرة، فقد كانت تكتب من غير نقطٍ إلا للشكل، فالنقطة فوق الحرف علامة الفتحة، وتحته علامة الكسرة، وألى جانبه علامة الضم، وأول مَن وضع هذه الطريقة للعرب أبو الأسود الدؤلي، ولذلك تأريخٌ في محله. والمراد بالحروف والحركات الأصليَّة التي يستوي في الإتيان بها الأقحاح من العرب الذين تخلط لغتهم ولا ورثوها مخلوطة، فإنَّ لمَنْ عداهم حروفاً أخرى تسمى متفرِّعة.

الحروفُ المتفرعة:

وهي حروفٌ من التسعةِ والعشرينَ حرفاً بإشراب الحرف صوتاً من غيره، وهي قسمان: مستحسنة، ومستهجنة، ونحن نذكرها في هذا الفصل مرونةً بما يناسبها من لغات العرب، تحقيقاً لغرضنا التاريخيّ.

المستحسنة:

أمّا المستحسنة فهي التي عُرفتْ في لغة مَن يوثق بعربيَّته وتستحسن في قراءة القرآن وإنشاد الشعر بحيث لا تشوب المنطق منها هُجنةٌ أو زرايو، وهي:1 - النون الخفيفة التي يكون مخرجها من الخياشيم.كما تقول عنك تخرج النون بغنَّةٍ من الخياشيم، وهذه النون في منطق كثير من أشراف العرب، ومن لغاتهم أنّهم يستجيزون في الشعر جمع الميم والنون في القوافي لاجتماعها في الغنّة التي ترتفع إلى الخياشيم، وعليها قول الراجز:

بُنيَّ إنّ البرََّ شيءٌ هيّنُ

المنطقِ الليّنُ والطُّعيّمُ

ينطقها الطُّعَيّن للقافية.وقال آخر:

ما تنقم الحربُ العوانُ منِّي

بازلٌ عامين حديثٌ سنِّي

لمثل هذا ولدتني أمِّي

ينطقها أنِّي. 2 - الهمزة التي بين بين ( التسهيل )، وهي التي تقع متحركة بعد ألف، فإنّهم ينطقون بها حرفاً بين الهمزة وبين حرف حركتها، ويجعلون الحركة التي عليها أي الهمزة مختلسة سهلةً بحيث تكون كالساكنة وإن لم تسكّن، فينطقون بها بحرفٍ بين الهمزة والألف إن كانت مفتوحة: نحو تساءَل، وبينها وبين الواو إن كانت مضمومة: نحو تفاؤُل، وبينها وبين الياء إن كانت مكسورة نحو: قبائل. وهذا الحرف المنطوق به يسمّى الهمزة المسهّلة أيضاً، وذلك في لغة قريشٍ وأكثر أهل الحجاز: يخفّفون الهمزة لأنّها أدخل في الحلق ولها نبرةٌ تجري مجرى التهوُّع فثقُلتْ بذلك على ألسنتهم.ويروى عن عليٍّ أنّه قال: نزل القرآنُ بلسان قريشٍ وليسوا باصحاب نبر، ولولا أنَّ جبريل - عليه السلام - نزل بالهمزة على النبي صلى الله عليه وسلم ما همزنا.أمّا تحقيق الهمزة فهو الأصل، وهو لغة تميمٍ وقيس.

لغاتٌ في التخفيف:

والتسهيل نوعٌ من أنواع التخفيف المقرّرة في علم الصرف، ولا محلَّ لبسط ذلك في هذا الكتاب، ولكنّا نذكر منه أمثلةَ من لغاتهم فيه جرياً على طريقتنا من جمع الصور التاريخيَّة لهذه اللغة كما سنفّصله:فمن العرب مَن يبدلُ الهمزة المفتوحة إذا كانت منفصلة - أي بين كلمتين - إلى لفظ ما قبلها ويدغمها فيه ويسمونه التخفيف البدلي فيقولون في أو أنت: أوّنت، وفي أبو أيوب: أبوَّيُّوب، وهكذا. فإذا كانت الهمزة في كلمةٍ واحدة - أي غير منفصلة - نحو سوأة، وموألة، فإنّهم يحذفونها فيقولون: سَوَة، ومَولة. فذلك كما ترى قريبٌ من لغاتنا العاميّة، وأقرب منه أنهم يحذفون الهمزة بعد المتحرك المبنيّ ويلقون حركتها عليه، فيقولون في نحو قال إسحاق، وقال أسامة ) قال سحق، وقال سامة. وكذلك يحذفون الهمزة إذا كانت أول كلمةٍ وكان آخر الكلمة التي قبلها ألفاً، وفي هذه اللغة: إن كان مل بعد الهمزة حرفاً ساكناً حذفوا معها الألف التي فبلها لئلا يجتمع ساكنان، فإن لم يكن ذلك أبقوا الألف وحذفوا الهمزة وحدها، فيقولون في نحو ما أحسن زيداً: مَحسَن زيداً.وفي ما أشدّ عمراً ما شدَّ عمراً، يبقون في هذا المثال الألف التي قبل الهمزة لأنّ ما بعدها متحركٌ وهو الشين.

الإمالة:

3 - من الحروف المستحسنة، الألف التي تُمال إمالة شديدة، وذلك أن يُنحى بالفتحة نحو الكسرة إلى حدِّ لو زاد صارت الألفياء، وهي الإمالة الكبرى، ويسمونها المحضة، ونطقها كحرف ( E ) أما غيرها فيسمونها الإمالة الصغرى، وبين بين، وبين اللفظين، وتسمّى ترقيقاً أيضاً، وهذا خاصٌّ بإمالة الفتحة التي فبلها الألف فقط: كالعابد، والمراد من الإمالة إمّا غرض مناسبة صوت النطق بالففتحة إلى صوت النطق بالكسرة التي قبلها حتى تقرب منها: كعماد، أو التي بعدها: كعالِم، أو المناسبة لصوت النطق بياءٍ قبله: كسيَّال، وشيبان، أو للتنبيه على أصل الألف الممالة إذا كانت منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ مكسورة: كباع، وخاف، أو للتنبيه على الحالة التي تصير إليها الألف في بعض الأحوال: كأفعى، وحبلى، لأنّهما تصيران في التثنية أفعيان، وحبليان.وسائر أسباب الإمالة وأنواعها مفصلٌ في كتب التصريف ولا تمسُّ حاجتنا إليه، وإنّما نقصد منه إلى معنى التاريخ اللغويِّ فقط. فأصل التقريب شائعٌ في كلامهم، يقربون الحرفَ إلى الحرف للشبه بينهما، كما يُقرّبون الصاد من الزاي ونحوها - على ما سيأتي - وليست الإمالة مطّردة في أهل اللغة الواحدة، فإنَّ أهل الحجاز يُميل بعضهم قليلاً في مواضع معيَّنة، وأكثرهم لا يميلون، وبنو تميم وهم أحرص العرب عليها في منطقهم يميل بعضهم في مواضع وينصب بعضهم لا يميل في مواضع أخرى، وقد يُميلون جميعاً في أشياء معروفة. ولِناس كثير من العرب ممن ترتضى عربيّتهم أنواع من إمالة الألف، فيقولون: هو يريد أن يضربها ! ونحو ذلك، لأن الهاء خفيفة والراء مكسورة، فكأنّها عندهم يضربا - بدون هاء - ولذلك يميلون، وفي هذه اللغة يقولون: منها، فيميلون أيضاً، ويقولون فينا، وعلينا، فيميلون للياء حيث قَربتْ من الألف، وكذا يدا، ويدها يميلون فيهما للياء أيضاً، ومن أهلها بنو تميم وقومٌ من قيس وأسد. وثمَّ حروفٌ تمنع من إمالة الألفات وهي ( ص ض غ ق خ ) إذا كان حرفٌ منها قبل الألف وكانت الألف تليه: كصادق، وضامن وطائف، وظالم، وغائب، وقاعد، وخامد، وإنّما منعت هذه الحروف الإمالة لأنّها مستعليةٌ إلى الحنك الأعلى، والألف إذا خرجت من موضعها استعلت إليه فغلبت عليها هذه الحروف وقرّبتها منها لاستواء الصوت في مجموع الكلمة. قال سيبويه: ولا نعلم أحداً يُميل هذه الألف مع المستعلية إلا من لا يُؤخذ بلغته، فإذا كان حرفٌ من هذه الحروف قبل الألف بحرفٍ وكان مكسوراً، فإنّه لا يمنع الألف من الإمالة، نحو: الضِّعاف، والصِّعاب، والقباب، مثلاً، لأنّهم يضعون ألسنتهم في موضع هذه الحروف المستعلية ثمَّ يصوّبونها، فالانحدار أخفُّ عليهم من الإصعاد. وبقيتْ أشياءُ كثيرةٌ لا تتعلّق بغرضنا، ولكنّ جماع القول في هذا الباب التاريخيِّ ما قاله سيبويه، من أنّه ليس كلُّ من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يُميل، ولكنّه قد يخالف كلُّ واحدٍ من الفريقين صاحبه، وكذلك مَنْ كان النصب من لغته لا يُوافق غيره ممن ينصب، ولكنَّ أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر، فإذا رأيت عربياً كذلك فلا ترينّه خلَّط في لغته.ولكنَّ هذا من أمرهم.

المضارعة بين الحروف:

4 - ومن الحروف المتفرعة المستحسنة، الشين التيى تكون كالجيم ؛ فإنهم يشربونها صوت الجيم متى كانت الشين ساكنة قبل دال ؛ لأن الدال مجهورة شديدة والشين مهموسة رخوةٌ فيريدون بهذا النطق تناسب الصوت على ما هو من أمرهم.وذلك نحو أشدق ومشدود، فإنهم يشربون هذه الشين صوت الجيم فتنطق كحرف ( J ) وهي الجيم في منطق السوريين. 5 - ومنها الصاد التيى تكون كالزاي، وذلك أن الصاد متى كانت ساكنة وكان بعدها دال نطقوها زاياً مفخمة غير خالصة، لأنهم يضارعون بها أشبه الحروف بالدال في موضعه وهو الزاي، لأنها حرفٌ مجهورٌ غير مطبق، فيقولون في نحو ( أصدر، ومصدر، والتصدير ) أزدر، ومزدر، والتزدير، ولكن كما ينطق عامّتنا حرف الظاء، وقال سيبويه: ( وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زاياً خالصةً. . .إرادة أن يكون عملهم من وجه واحد، وليستعملوا ألسنتهم في ضرب واحد ). وقد يضارعون بالصاد أيضاً منطق الزاي إذا مانت الصاد متحركة، نحو: صدق، وربّما ضارعوا بها وهي متحركةٌ وبعيدةٌ عن الدال، نحو مصادر، بل وفي نحو الصراط أيضاً وإن لم يكن في الكلمة دال، ولكنّهم يعتبرون الطاء كالدال.وفي شرح الفصيح لابن خالويه: إنَّ من لغة بعض العرب أن يُشمَّ ( الصفا والعصا ) فيُشرب الصاد صوت الزاي مع أنّه ليس فيهما دالٌ ولاما هو في حكمها، قال: وهي لغة سوء. وكذلك قد يضارعون الشين بالزاي إذا كان بعدها دال، لأنّها في الهمس والرخاوة كالصاد، فيقولون في نحو ( أشدق ) وقد مرّت اللغة الأخرى في النطق بهذه الشين. 6 - ومن الحروف المستحسنة ألف التفخيم، وهي ألفٌ ينحى بها نحو الواو فتكون كحرف ( O ) وينطق بها أهل الحجاز في قولهم: الصلاة، والزكاة، والحياة، ويقال إنّهم كتبوا هذه الكلمات في المصحف بالواو بدل الألفِ على هذه اللغة، ولا يُقاسُ في ذا المنطق بلء ينتهي فيه عندما انتهت إليه العرب.

الحروف المستهجنة:

وهي حروف لا يستحسنونها ولا تكثرُ في لغةِ مَن تُؤتضى عربيّته، ولا يؤخذ بها في قراءة القرآن وإنشاد الشعر، وهذه الحروف لا يستطيع بعضهم النطق بأصولها، فإذا اضطرُّوا إليها حوّلوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها وهي:1 - حرفٌ بين الجيم والكافِ ينطق به كمنطقِ الجيم المصريَّة، فيقولون في كافر: جافر، وهو اليوم من لغات اليمن وبغداد. 2 - الجيم التي ينطق بها كالكاف، وكانت لغةً سائرةً في اليمن، وهي اليوم فاشيةً في أهل البحرين، فيقولون في ( رجل، وجمل ): ركُل وكَمَل. 3 - الجيم التي كالشين، وهي عكس الشين التي كالجيم في الحروف المستحسنة، ولكنّهم استهجنوا هذه لأنَّها إنّما ينطق بها كذلك إذا كانت ساكنة وبعدها دالٌ أو تاءٌ نحو ( اجتمعوا، وأجدر ) يقولون فيهما: اشتمعوا وأشدر، وموضع الثقل أنّه ليس بين الجيم والدال، ولا بينها وبيت التاء تباين، بلْ هما شديدتان. ومن لغاتهم أيضاً أنّهم يقرّبون الجيد من الدال في وزن ( الافتعال ) فيبدلون الدال مكان التاء من هذا الوزن ليكون العملُ من وجهٍ واحد، يقولون في نحو ( اجتمعوا، واجترءوا ): اجدمعوا واجدرَءوا. 4 - حرفٌ بين الكاف والقاف، وهذا لم يذكره سيبويه في كتابه بين الحروف المتفرِّعة، ولكنْ ذكره ابن فارس في ( فقه اللغة ) فقال: فأمّا بنو تميم فإنّهم يلحقون القاف باللاة حتى تغلظ جداً، فيقولون: القوم فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغةٌ فيهم، قال الشاعر:

ولا أكولُ لكدرِ الكومِ قد نضجتْ

ولا أَكولُ لباب الدَّار مكفولُ

يريد في كل ذلك القاف.وهذا الحرف يسمّى القاف المعقودة، قال أبو حيان في ( ارتشاف الضرَب ): وهي الآن غالبةٌ في لسان مَن يوجد في البوادي من العرب حتى لا يكادُ عربيٌّ ينطق إلأ بالقاف المعقودة لا بالقاف الخالصة المنقولة على وضعها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن. 5 - الضادُ الضعيفة، قال سيبويه في مخرجها: إنّها تُتكلفُ من الجانب اللأيمن، وإن شئتَ تكلفتها من الجانب الأيسر وهو أخفّ، لأنَّها من حافة اللسان مُطبقة.وقال الفارسيّ: كما إذا قلتَ ضرَبَ ولم تشبع مخرجها ( أي الضاد ) ولا اعتمدتَ عليه ولكن تخفِّف وتختلس فيضعف إطباقها، ويقول السيرافيُّ إنّها في لغة قومٍ ليس في لغتهم ضادٌ فإذا احتاجوا إلى التكلم بها في العربيَّة اعتضلتْ عليهم فربّما أخرجوها ظاءً لإخراجهم إياها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربّما تكلَّفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم يتأت لهم فخرجتْ بين الضاد والظاء. 6 - الصادُ التي كالسين، يقرّبونها من السين لكونهما من مخرجٍ واحدٍ وهي كبعض لغات المتطرّفين من العوام، يقولون في الصالح: سالح. ومن لغات العرب إبدالهم السين صاداً إذا كان بعدهما قافٌ وكانتا في كلمةٍ واحدة، فيقولون في سُقتُ صقت.وكذا يعتبرون الغين ةالخاء بمنزلة القاف، يقولون: صالغ وصلخ، في سالغ وسلخ وهذه من لغة بني العنبر، وقد قالوا أيضاً: صاطع، في ساطع. 7 - الطاء التي كالتاء، وهي فاشيةٌ في لغة عجم أهل الشرق، لأنّ الطاء في أصل لغتهم معدوم، فإذا نطقوا بها تكلَّفوا ما ليس في لغتهم فارتضخوا هذه اللُّكنة، فيقولون في سلطان: سلتان بتفخيم قليل. 8 - الظاءُ التي كالثاء، وهو حرفٌ يجيء من المبالغة في إفشاء الظاء فتخرج كأنّها ثاءٌ مفخّمة. 9 - الباء التي كالفاء، في نحو أصبهانَ وبلخ، وهي على ضربين.أحدهما لفظٌ يكون الباء أغلب غليه من الفاء كحرف ( ( P والآخر لفظٌ يكون الفاء أغلب عليه، وهما حرفان من حروف العجم سوى الباء والفاء المخلصين.قال السيرافي: وأظنُّ العرب إنّما أخذوا ذلك من العجم لمخالطتهم إيّاهم. 10 - الياء كالواو في نحو قيل وبيع بالإشمام، وهي لغة بعض العرب، يُشمّون الياء صوت الواو فتخرج كحرف ( eu ). 11 - الواو التي كالياء في نحو، مذعور وابن بور، ينطقون بها كحرف ( u ) وهي في لغة كثيرين من قيس وأكثر بني أسد: كفقعس ودُبير، يجيئون بها بدل واو المدِّ التي بعدها راءٌ مكسورة، فتميل الضمةَ إلى جهة الكسرة، ويتبع ذلك ميل الواو إلى جهة الياء كما قال سيبويه. تلك جملة ما عرفوه في مناطق العرب، وهي ولا شكَّ آثارٌ يرتضخونها من لغات أخرى: كالعبرانيّة والسريانيّة ولغة الفرس والروم والحبشة وغيرهم ممن خالطوهم في أقدم أزمانهم، ولا يزال ذلك بيِّناً في مناط هذه اللغات إلى اليوم.

صفات الحروفِ ومخارجها

لا نريد أن نطيل في بيان مخارج الحروف العربيَّة وضبطها على وجوهها الصحيحة المتناقلة عن العرب، فذلك خارجٌ عن غرضنا في هذا الكتاب، ثمّ هو موضوعُ فنٍّ برأسه، وهو فنُّ التجويد الذي وضعه حفص بن عمر الدوري صاحب القراءة المشهورة بقراءة حفص وقد أخذ عن عاصم عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعدُ مستفيضٌ في كتب التصريف، وقد وضع فيه لبن جني كتابه سرُّ الصناعة، وهو أتمُّ كتاب في ذلك، قسّمه على أبوابٍ بعدد الحروف، فذكر فيه أسماءها وأجناسها ومخارجها ومدارجها وفروعها وخلاف العلماء في ذلك مستقصىً مشروحاً. ولكنّا نذكر أنواع هذه الحروف باعتبار صفاتها، لأنّ هذه الصفات إنّما هي مصطلحاتٌ تاريخيّةٌ في اللغة، وهم يسمّون الخطأ فيها - صفات الحروف - لحناً خفياً، وقد سمّينا بعضها فيما تقدّم لنا من الكلام، فنذكر جملتها في هذا الفصل ترجمةً لتلك وتوفيةً للفائدة، ثمّ نلّم بمخارجها بعدُ.

الصفات:

يقسمون الحروف باعتبار صفاتها إلى تسع عشر نوعاً، وبعضهم يبلغ بها إلى أربعةٍ وأربعين، وكثيرٌ ينقصون أو يزيدون، أمّا الأنواع المشهورة عند علماء هذا الفنِّ والتي هي كالأصول، فهي حروف: همس، وجهر، وشِدَّة، ورخاوة، وبين بين، وحروف استعلاء، واستفال، وإطباق، وانفتاح، وتفخيم، وترقيق، وتفشِّ، وتكرير، واستطالة، وغنّة، وذلاقة، ومدّ، ولين، وصفير، وقلقلة:1 - فالحرف المهموس هو الذي ضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه، وحروف هذا النوع عشرة: ( ه ح خ ك ش س ت ص ث ف ). 2 - والحرف المجهور هو الذي أشبع الاعتماد في موضعه - أي على مخرج الحرف - ومنع النفس أن يجري معه حيى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت، وحروف هذا النوع تسعة عشر، لأنّها ما كان غير مهموس. 3 - والشديد هو الذي يمتنع الصوت أن يجري فيه لكمال قوة الاعتماد على مخرج الحرف، ولهذا النوع ثمانية حروف ( ء ق ك ج ط ت د ب ). 4 - والرخو هو الذي يجري فيه الصوت لضعف الاعتماد على مخرجه مع نفس قليل، وذلك في الرخو المجهور، أو كثيرٍ وهو الخو المهموس، وحروف الخاوة ستة عشر: ( ذ ظ غ ز و ي ا ه ح خ ش س ت ص ث ) وهذه الثمانية الأخيرة هي كل حروف الهمس ما عدا الفاء والكاف. 5 - وأما الحرف الذي هو بين بين فهو المتوسط بين الرخاوة والشدّة وذلك من عدم كمال احتباس الصوت وعدم كمال جريه، وحروفه خمسة: ( ل ن ع م ر ) وهذه الحروف المتوسطة كلّها مجهورة. أما الأنواع السابقة فمنها الشديد المجهور، وهو ستة حروف: ( ء ق ط ب ج د ). ومنها الشديد المهموس وهوحرفان: ( ك ت ). ومنها الرخو المجهور وحروفه ثمانية: ( ض ظ ذ غ ز ا و ي ). ومنها الرخو المهموس وهو ثمانيةٌ أيضاً: ( ه ح خ ش س ص ث ف ) وهذه الثمانية هي جميع الحروف المهموسة ما عا الكاف والتاء. 6 - الاستعلاء: هو أن يستعلي اللسان عند النطق بالحرف إلى جهة الحنك العليا وحروفه سبعة: ( خ ص ض غ ط ق ظ ) وأشدّها استعلاءً القاف. 7 - والاستفالُ ضدُّ الاستعلاء، وحروفه كلّ ما عدا السبعة المتقدمة. 8 - الإطباق: وهو انحصار الصوت فيما بين السان والحنك، لانطباق الحنك على وسط اللسان بعد استعلاء أقصاه ووسطه إلى جهو الحنك، كما تعرف ذلك عند النطق بحروفه، وهي أربعة: ( ط ظ ص ض ) وجملتها من حروف الاستعلاء، ولا يكون الإطباق تاماً إلا مع الطاء. 9 - والانفتاح: هو عدم انحصار الصوت بين وسط اللسان والحنك عند النطق بالحرف لانفتاحه ما بينهما، سواء انطبق الحنك على أقصى اللسان أو لا، وحروفه كل ما عدا الأربعة المطبقة ؛ وكل حروف الاستفالة منفتحة. 10 - التفخيم: وهو تغليظ الحرف في مخرجه بحيث يتملىْ الفم بصداه وحروف الاستعلاء كلها مفخّمة، ولا يجوز تفخيم شيْ من حروف الاستفالة إلا الراء واللام في بعض أحوالهما، وإلا ألف المدّ، فإنها تابعة لما قبلها تفخيماً وترقيقاً. 11 - والترقيق: وهو نحافة الحرف بحيث يكون جسمه ناحلاً لا يمتلىْ الفم بصداه. 12 - والتفشي: كثرة انتشار خروج الهواء بين اللسان والحنك وانبساطه في الخروج عند النطق بالحروف، وحرف التفشي هو الشين فقط على المشهور، وبعضهم يجعله في الضاد والثاء والفاء، وبعضهم يقول إن في الصاد والسين تفشياً أيضاً، وكل ذلك غير مجمع عليه. 13 - والتكرير: ارتعاد رأس اللسان عند النطق بالحروف، وحرف الراء فقط، وأكثر ما يظهر تكريره إذا كان مشدَّداً نحو: مرّة، وكرّة. 14 - والاستطالة: امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها وهي جنب اللسان لا طرفه، وحرفه الضاد فقط، وبعضهم يقول إنَّ الشين مستيلة أيضاً لأنها تفشت واستطالت حتى خالطت أعلى الثنيتين، وهذا نقله صاحب ( المخصص ). 15 - والغنَّة: صوتٌ يخرجُ من الخيشوم - أقصى الأنف - ولذلك لو أمسك المتكلم بأنفه لم يمكن خروجها، وحرفاها النون ( ولو تنويناً ) والميم إذا سكنتا ولم تظهرا. 16 - والذلاقة: حروف سميت بذلك لخروج بعضها من ذلق اللسان وبعضها من ذلق الشفة، أي طرفها، وهي: ( ف ر م ن ل ب ) وضدها حروف الإصمات، وهي ما عدا هذه الستة. 17 - والمدّ: هو إطالة الصوت بحرف من حروف المدّ واللين زيادة على المدّ الطبيعي، وحروفه ( ا و ي ) لأن مخرجها متسع لانتهائها إلى هواء الفم، ومخرج الحرف إذا اتسع انتشر فيه الصوت وامتد ولان، وإذا ضاق انضغط فيه الصوت وصلب، وكلّ حرفٍ تجده مساوياً لمخرجه إلا هذه الثلاثة.وللمدّ في علم التجويد ألقاب عشرةٌ ليس هذا موضعها. 18 - والصفير: صوت يخرج مع الحرف يشبه صفير الطائر، وحروفه ثلاثة: ( س ص ز ). 19 - والقلقلة: صوت زائد يحدث بفتح مخرج الحرف بتصويت، ويُشترط عندهم في إطلاق اسم القلقلة على ذلك الصوت، أن يكون شديداً جهورياً، وحروفها خمسة: ( ق ط ب ج د ) والمبرّد يعدُّ الكاف من حروف القلقلة، كأنه لم يشترط قوة الصوت الزائدة، وعلى ذلك تكون التاء منها أيضاً، وهو ما يفهم من كلام سيبويه، لأنها كالكاف، والصوت فيهما يُلابس جَري النفس، وهو صوت همس ضعيف، ولذلك عدَّا شديدين مهموسين.

المخارج:

تلك صفات الحروف المجمع عليها أمَّا مخارجها الطبيعيَّة فهي خمسة عشرَ على ترتيب ذهابها مع الصوت من ابتداء الصدر إلى شفتين كما ترى:1 - حروف المد: ( ا و ي ) تخرج من جوف الصدر وتنتهي إلى هواء الفم. 2 - ( ء، ه ) مخرجهما من أقصى الحلق، غير أن الهمزة أدخل فيه. 3 - ( ع، ح ) من وسط الحلق، والعين أدخل من أختها. 4 - ( غ، خ ) من أدنى الحلق إلى الفم: والغين أدخل. 5 - ( ق ) من بين أقصى اللسان وما فوقه من الحنك. 6 - ( ك ) ممّا يلي مخرج القاف من اللسان والحنك. 7 - ( ج، ش، ي ) من بين وسط اللسان وما فوقه من الحنك، غير أن الجيم أدخل والياء أخرج. 8 - ( ض ) من بين جانب اللسان من أقصاه إلى قرب رأسه وبين ما يقابل ذلك من الأضراس العليا فتستغرق أكثر حافة اللسان. 9 - ( ل ) من بين جانب اللسان حيث ينتهي مخرج الضاد إلى منتهى طرفه وبين ما يقابل ذلك من الحنك الأعلى فوق الأسنان، فالضاد واللام يتوزعان حافة اللسان. 10 - ( ر، ن ) من بين طرف اللسان إلى رأسه وبين لثة الثنيتين العلويتين، غير أن الراء أدخل في ظهر اللسان قليلاً. 11 - ( ط، د، ت ) من بين طرف اللسان وبين أصول الثنايا العليا مصعِّداً إلى الحنك، غير أن الطاء أدخل والتاء أخرج. 12 - ( ص، س، ز ) من بين رأس اللسان والثنايا من غير أن يتصل بها الحرف وإنما يحاذيها ويسامتها، غير أن الصاد أدخل والزاي أخرج. 13 - ( ظ، ذ، ث ) من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، غير أن الظاء أدخل والثاء أخرج. 14 - ( ف ) من بين الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا. 15 - ( ب، م، و ) من بين الشفتين منطبقتين للباء والميم، ومنفتحتين للواو، غير أن الباء أدخل والواو أخرج.

اختلاف لغات العرب

قدمنا أن من بعض أسباب اختلاف اللغات عند العرب كونهم أميين لا يكتبون، فبقيت اللغة متعلقة على الألسنة، تتغير ما دام يتكلم بها وما دامت ألسنتهم متصرفة بالسليقة أو ما هو في حكمها، كالتقليد الطبيعي الذي يأخذ به العربي للخفة وانحراف لسانه إليه طبيعة لأنه يركب منه قياس نفسه كأنه من منطقة الموروث. لا جرم كانت اللغات كثيرة ؛ فإن العرب قبائل، وتحت كل قبيلة بطونٌ متعددةٌ، ثم الأفخاذ، ثم العشائر، ثم الفصائل ؛ ولابد أن يكون ناموس الاختلاف قد عمّ هذه الأقسام كلها، إن لم يكن في أصل اللغة ففي الفروع واللهجات. وقد نقل صاحب المخصص في موضع من كتابه أنّ أبا عبيد روى عن الكسائيِّ النحويّ - توفي سنة 182 - أنّ المضارع من نمى إنّما هو ينمي بالياء، وقال الكسائيّ: لم أسمع ينمو بالواو إلا من أخوين من بني سُليم، ثمَّ سألت عنه جماعة من بني سُليمٍ فلم يعرفوه بالواو.هذا على انتشار اللغة يومئذٍ بالقرآن والشعر في جمهور العرب، ولزومها على الغالب طريقةً واحدةً وحدّاً معروفاً، ومع ذلك بقي الاختلاف حتى في الفصيلة الواحدة، لأنّ هذين الأخوين أهل بيتٍ واحدٍ امتاز بهذه اللغة عن العشيرة كلِّها. ولا بدَّ لنا من التنبيه على أنّ الرواة والعلماء لم يُدوّنوا اللهجات على مناطق العرب قبل تهذيب قريش للغة، ولكنّهم تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب ممّا صحّتْ روايته قُبيل ذلك، أما سواد ما كتبوه فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات الأولى التي كانت لعهد الجاهليَّة. على أنّهم لم يدوّنوا من كلِّ ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام، أو ما تنهض به أدلَّة الاختلاف بين العلماء المتناظرين: كالبصريّين والكوفيّين، أمّا تدوين اللهجات على أنّها أصلٌ من أصول الدلالة التاريخيَّة في اللغة فهذا لم يتنبه له أحدٌ فيما نعلم، لأنَّ أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتُهما قرشيّة، وهذه يقلٌُّ الاختلاف فيها لأنّها حضريّةٌ مهذبة، والتحضر شيءٌ ثابتٌ فكأنّها في حكم المدوَّنة. وفيل أن نأتي على ما وقفنا عليه من وجوه الاختلاف والكشف عن معنى الأدلّة التاريخيَّة فيها، نذكر شيئاً قليلاً عن تفرّع قبائل العرب، لأنّه من الأدلة الطبيعيّة على تفرع اللهجات وانشقاقها بما يطرأ عليها من أسباب المخالطة وقدم العهد ونحو ذلك.

قبائل العرب:

تنقسم القبائل العربيَّة إلى قسمين: القحطانيَّة، والعدنانية، وقد تداخلت لغاتهما جميعاً بعد الإسلام وصارت لغةً واحدةً هي القرشيّة، إلا فروقاً قليلةً بقيت في المنطق كأنّها أدلةٌ أثريَّة. فمن القحطانية حِميَر، وغسان، ولخْم، والأزد، ومذحج، وكندة، وطيئ، وغيرها - وبعضهم يعدُّ منها قضاعة أيضاً - وأولئك عرب الجنوب. أمّا العدنانيَّة أو عربُ الشمال وهم أهل هذه اللغة، فمنازلهم في تهامة ونجدٍ والحجاز، إلا قريشاً فإنّهم تحضّروافي مكة، وتلك البادية هي التي صهرت اللغة وأحالتها إلى هذه السبيكة الفنيّة العجيبة، ويرجع هؤلاء العرب إلى فرعين ينتهيان إلى عدنان، وهما: عكّ، ومَعدّ، وقد بقيت من عكّ بقيةٌ إلى الإسلام، أمّا معدّ فهو البطن العظيم الذي تناسلوا منه، وكانت قبيلة كبرى ثمَّ انشقّت إلى فرعين: نزار، وقنص، وتفرّعت نزارٌ إلى خمسة فروعٍ وهي: أنمار، ومضر، وقضاعة عند من لا يعدّها من القحطانية، وربيعة، وإياد، وتحت كلّ فرعٍ - من هذه الخمسة - فبائل كثيرة، إلّا أنّ الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عرفت بالمضريّة، ومن أشهر قبائلها كنانة - ومن بطونها قريش - ثمّ تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبّة، ومُزينة، وتحت كلِّ قبيلة بطونٌ وأفخاذٌ بسط النسابون عليها الكلام في كتبهم ولا فائدة في استقصائه لمثل هذا الفصل، وسنلمُّ بشيءٍ من تاريخ تفرُّق القبائل ومنازلها عند الكلام على أوليَّة الشعر العربيّ، فهناك موضع الحاجة إليه.

أفصح القبائل

وهذا فصلٌ لا يؤخذُ فيهِ إلا بأقوالِ الرواة الذين جمعوا اللغة وتلقّوها عن أهلها، وذلك لتقادمِ العهد بزمان العرب، ولأنّ لغاتهم غير مميزة في التدوين حتى يعارض بعضها ببعض ويفصّل بينها بطبقاتٍ من النظر يعلو إليها وينحدر عنها كما هو الشأن في التنظير والمقابلة بين المتفاضلات. والفصيح عندهم ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأنّ تكراره على الألسنة المسقلّة بطبيعتها في سياسة المنطق دليلٌ على تحقّق المناسبة الفطريَّة فيه. وليس يخفي أنّ فصاحة العربيّ إنّما هي عملٌ من أعمال الطبيعة المحيطة به، فإن كانت خالصة وإلّا كثر في لسانه الابتذال والتنافر، كما تجد في لغات القبائل الضاربة إلى العراق واليمن والشام، وهذه أيضاً تقرب أو تبعد من الفصاحة على نسبةٍ مضبوطةٍ باعتبار قربها وبعدها من ذلك الاختلاط الطبيعيّ، فحقيقة الفصاحة أنّها عملٌ تبتدئهُ الطبيعة وتكمِّله الوراثة، فإنْ وقع اختلالٌ في أحد العملين وقع مثله في العمل، على نسبة واحدةٍ. ومن قبائل العرب قومٌ لم يخرجوا من ديارهم، ويسمونهم الأرحاء، لأنهم أحرزوا دوراً ومياهاً فلم ينزحوا عن أوطانهم بل هم يدورون في دورهم كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضهم في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل، وهم ست قبائل: تميم بن مرة، وأسد بن خزيمة في مضر، وكلب بن وبرة، وطيىء بن أزد في اليمن، وقبيلتان أخريان في ربيعة لم يذكروهما، ومنهم قبائل يسمونها الجمرات، لاجتماعهم على أن لا يخرجوا منهم إلى غيرهم ولا يدخلوا من غيرهم فيهم، وهم: بنو تميم بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب وبنو ضبَّة، وبنو عبس بن بغيض. وبالأرحاء والجمرات نستدل على أن الطبيعة العربية تتفاوت في الميل إلى العزلة والمخالطة، وهي بحسب ذلك أيضاً متفاوتة في خلوص المنطق وانتشابه. ولسنا نريد المخالطة على إطلاقها، بل مخالطة الأعاجم خاصة، والمخالطة الدائمة على الأخص، وهي التي تكون في القبائل النازلة على حدودهم، وذلك عند العلماء هو الحد بين من تُرتضى عربيته ومن لا يوثق بلغته حتى إنهم نصوا على أن نطق من تُرضى عربيته بالشاذ الذي يخالف قياسهم لا يخل بفصاحته، لأنه لا بد من أن يكون قد حاول به مذهباً أو نحا نحواً من الوجوه التي يتأول عليها، وذلك لأن الجادّة على غير ما جاء به فيكون ما شذَّ من منطقه مأموناً عليه من فساد المخالطة، ولهذا يلحقونه بقياس القريحة الصحيحة. وأفصح القبائل الذين هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، والعجزُ من هوازن الذين يقال لهم عُليا هوازن، وهم خمسُ قبائل أو أربع، منها: سعد بن بكر، وجُشَمُ بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف.قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب بيد أنِّي من قريش، وأنِّي نشأت في بني سعد بن بكر - وكان مُسترضعاً فيهم - وهم أيضاً الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عُليا هوازن وسُفلى تميم. ولهذا كان لا يكتب في المصاحف برأي عمر وعثمان إلا كاتب من ثقيف وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد والحجاز وتهامة، وقد بقيت معادن الفصاحة العربية زمناً بعد الإسلام، وإليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائيَّ لمّا خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسداً وتميماً وعندهم الفصاحة وجئت إلى البصرة ! فقال للخليل: من أين أخذت علمك ؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة.فخرج إليهم ولم يرجع حتى أنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب. ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص المنطق وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة، وهذا الأزهريُّ صاحب تهذيب اللغة المتوفى سنة 370 يقول في مقدمة كتابه: لمّا وقعتُ في إسار القرامطة، وكان الذين وقعت في سهمهم عرباً، عامتهم من هوازن واختلط بها أصرام من تميم وأسد. . .يتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في نطقهم لحن ولا خطأ فاحش. . .إلى أن يقول: واستفدت من مخاطبتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في مواقعها من الكتاب اهأما القبائل التي اختلطت بغيرها فلم ينقلوا عنها ولا عدوها خالصة الفصاحة، فسنذكرها مع تفصيل لما تقدم عند الكلام على رواية اللغة إن شاء الله.

مَعنَى اختلافِ اللُّغاتِ

رأينا محصل ما يروى من كلام العلماء في معنى اختلاف اللغات يرجع في كل وجوهه إلى ثلاثة معان:1 - ما يكون من تباين اللهجات وتنوع المنطق، وهذا رأس الأنواع، لأنه يشمل اختلافهم في إبدال الحروف وحركات البناء والإعراب واختلاف بناء الكلمة في اللغتين والتقديم والتأخير والحذف والزيادة ونحوها مما يرجع في جملته إلى صيغة الكلمة أو كيفية النطق بها.والعرب أنفسهم يعدون مثل ذلك من اللغات الأصلية التي تمثل نوعاً من أنواع الاختلاف الطبيعي فيهم ؛ وقد رَوَوا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب: ما رأيك برجل ظحى بظبي ؟ فعجب عمر ومن حضر، وقال: ما عليك لو قلت: ضحى بظبي ؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنها لغة ! فكان عجبهم من هذه أشد. 2 - ما يكون من اختلاف الدلالة للفظ الواحد باختلاف اللغات التي تنطق به، ومن هذا النوع المترادف والأضداد وغيرهما مما سيأتي في محله، ورَوَوا أن أبا هريرة لما قدم من دَوسٍ عام خيبر، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت من يده السكين.فقال له: ناولني السكين ! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له اللفظ ثانية وثالثة وهو يفعل كذلك، ثم قال: المدية تريد ؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم ! فقال: أوتسمى عندكم سكيناً ؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوسٌ بطن من الأزد. 3 - ما يكون قد افرد به عربي مع إطباق العرب على النطق بخلافه، وهذا أقل الأنواع.وإنما يعد من اختلاف اللغات، لجواز أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها وعفا رسمها ؛ وقد رَوَوا عن أبي حاتم إنه سأل أم الهيثم الأعرابية عن نوع من الحب يسمى اسفيوش: ما اسمه بالعربية ؟ فقالت: أرني منه حبات ! فأراها، فأفكرت ساعة ثم قالت: هذا البحدق ! ولم يسمع ذلك من غيرها. وعندنا أن لغات القبائل في اختلافها إنما هي درجات تاريخية في سلم النشوء والارتقاء، يستقرى فيهاسير التاؤيخ اللغويّ من طبقة إلى طبقة، لأنّ هذه اللغات جرت من أوّل عهدها على اندماج النوع الأدنى منها في الأرقى، واستّمر ذلك بين العرب، فكّلما انتشرت لغة أو لغات لقوم دون قوم تعاورها كلّ، وبهذا جعلت القبائل تدرج في سبيل الوحدة اللغوية العامة التي تقضي بها سنة الحياة، واعتبر هذا بما حصل آخراً، فلم يبق بين اللغات كلها إلا فروق جنسية، ثم لما ذهب عصر العرب وفسدت السلائق واختبل الكلام وأصبح اللسان تعليماً، لم يبق من اللغة إلا اللغة، وأودعت تلك الفروق الجنسية في معرض التاريخ، على أن العلماء أنفسهم قد أضرحوا لهذه الفروق قبل أن تموت وذلك لمكان القرآن من الوحدة اللغوية، فلم يكونوا يسمونها لغات إلا للدلالة على أنها مخالفة لما طبق عليه أكثر العرب، وهو المعنى الاسطلاحي القديم منذ دونت الغة. روى أبو بكر الزبيدي الأندلسي في طبقات النحويين قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء ( توفي سنة 154 ): أخبرني عمّا وضعت مما سميت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله ؟ فقال: لا.فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة ؟ قال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني: لغات. وقد نبهنا فيما سبق إلى أن العلماء إنّما يريدون بلغات العرب ما كان باقياً لعهدهم في ألسنة من أخذوا عنهم من القبائل، وهم أقوام يمكن حصرهم والإحاطة بلهجاتهم ؛ ولذا ترى سيبويه يقول في مواضع من كتابه: هذا عربي كثير في جميع لغات العرب، وهذا عربي في كثير كلامهم، وذلك قول العرب سمعناه منهم، ونحو هذا ممّا يحقق أنّهم يريدون باللغات ما بينّاه وكذا قلنا عن صاحب المخصص في بعض المواضع أنّهم يعتبرون لغة الحجازيين الأصل عند اختلاف اللغات، لأنّ أصل العربية اسماعيل عليه السلام ؛ وهذا المعنى قد كشفه سيبويه في باب الإدغام من كتابه حين ذكر أنّ أهل الحجاز دعاهم سكون الآخر في المثلين أن يبينوا في الجزم، فقالوا: اردد ولاتردد، بخلاف بني تميم فهم يدغمون قال: ( وهي الغة العربية القديمة الجيدة ). وسنشير إلى هذا المعنى ببيان أوسع فيما يلي. وبقيت اللغات مسماة منسوبةً إلى أصحابها من العرب عند الرواة والعلماء إلى آخر القرن الثالث على أضعف الظنّ، لكثرة الرواة يومئذ وتشعب فنون الرواية، وإن كان الجوهريُّ صاحبُ الصحاح وهو في أواخر القرن الرابع قد ذكر أنّه شافه بهذه اللغة العرب العاربة في باديتها. وممّا يريدونه: أنّ الخليفة الواثق المتوفي سنة 232 لمّا قدم عليه أبو عثمان المازني سأله: ممن الرجل ؟ فقال: من بني مازن.قال: أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس، أم مازن ربيعة ؟ قال: من مازن ربيعة.فكلمه الواثق بكلام قومه وقال: ( با سبُك ) ؟ يريد: ما اسمك ؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميماً، قال المازني: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر - لأن اسمه بكر - فقلت: بكرٌ يا أمير المؤمنين ! فأعجبه ذلك وقال لي: اجلس فاطبئن.يريد: اطمئن. . . وبديهٌ أنّ مثل هذا الاختلاف لا يتدارس ويجعل من رياضة اللسان ما لم يكن أهله في شباب أمرهم ؛ لأنّ هرم لغةٍ من اللغات لا يكون إلا بوشك انقراض أهلها أو تغير تاريخهم بما يشبه الانقراض، إذ تفقد أكثر مميزاتهم الاجتماعية الأولى فكأنهم غير من كانوا.

تحقيق معنى اللغات في الاصطلاح:

رأينا علماء اللغة وأهل العربيّة قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبه فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عرض كلامهم، لأنّهم لم يعتبرونها اعتباراً تاريخياً، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تاريخها لمن بعدهم ؛ ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تاريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها، لخرج من ذلك علمٌ صحيحٌ في تاريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعيّة، يرجع إليه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة ؛ ولكان هذا يعدّ أصلاً فيما يمكن أن يسمى تاريخ آداب العرب، يفرّعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب. ولكن القوم انصفوا عن هذا وأمثاله لعتقادهم أصالة اللغة، وأ، ّها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وأنّ أفصح اللهجات إنّما هي لهجات إسماعيل - عليه السلام -، وهي العربية القدسيمة الجيّدة كما قال سيبويه. والرجوع بالتاريخ اللفظيّ إلى عهد إسماعيل ضرب من المحال، ومن تكلّم فيه فقد أكبر القول ؛ لأنّ الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام عن الأمم وسيرهم: ( مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ).وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنّها أنواع محنّطة خرجت عن أصلها القرشيّ بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التاريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهداً على الفصاحة الأصليّة في العربيّة وخلوّها من التنافر والشذوذ، وتماماً على الذي جمعوه من أصول العربيّة، وتفصيلاً لكلّ شيء إلا التارخ. مع أنّ الرواة قد وضعوا كتباً كثيرة ومصنّفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيّامها، ونحو ذلك ممّا يرجع إلى التاريخ المتجدد، فلو أنّهم اعتقدوا اللغات بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الدينيّ الثابت الذي لا يتغير في حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التاريخ ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله، ولحق فرعه بأصله، فبقي ذلك الخطأ التاريخي كأنّ صوابّه من بعض التاريخ الذي هو حديث الغيب !نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والتراجم والطبقات على كثرتها، وتبيناً ما يسرد فيها من أسماء الكتي والأصناف، عسى أن نجد من آثار أحد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تاريخ لهجات العرب وتمييز لغاتها على الوجه الذي أمأنا إليه، أو عسى أن نستدلّ به على أنّهم كانوا يعتبرون ذلك اعتباراً تاريخياً ؛ ولكنّا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر ؛ ولم يزدنا تعداد أسماء الكتب علماً بموت هذا العلم وأنّه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربيّة. بيد أنّنا استفدنا تحقيق معنى اللغات في اصطلاحهم بما يقطع الريب ويمتلخ عرق الشبهة فيما أيقنّا به، فقد وجدنا كتاب التراجم والطبقات مجمعين في صنيعهم على أنّ اللّغات إنّما هي الشواذ والنوادر واختلاف المعاني للكلمة الواحدة باختلاف المتكلمين بها، وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفيّ والنحويّ، لأنّ كلّ وجه من ذلك إنّما هو أثر من لغة، وعلى هذا السبيل يقولون مثلاً: كان منفرداً في حفظ اللغات والآداب، وكان من شيوخ العلم عارفاً باللغات والإعراب، وكان حافظاً للتفسير والحديث ذاكراً للأدب واللغات، وكان مبرّزاً في علم اللغة العربيّة حافظاً للغات.وأوضح من هذا أنّنا رأينا لعمرو بن شبّة النحويّ المتوفى سنة 262 كتاباً سمّاه ( الاستعانة بالشعر وما جاء من اللغات ) ورأينا ياقوتاً يقول في ترجمة عمر بن جعفر الزعفراني: ( إنّه متخصص بمعرفة علم الشعر والقوافي والعروض، وله كتاب - اللغات - ).ونهاية البيان ما ذكره ياقوت أيضاً في ترجمة أبي مالك الأعرابي الراوية المشهور، من أنّه يقال إنّ أبا مالك هذا كان يحفظ لغات العرب.وقد فسّر أبو الطيب اللغوي ذلك بأنّ المراد التوسع في الرواية والفتيا، لأنّ الأصمعي مثلاً كان يضيّق ولا يجوّز إلاّ أصح - اللغات -، وغيره كأبي مالك يتوّسع في ذلك ولا يرى حرجاً في نقل ما شذّ وندر - كما سيأتي في بحث الرواية - وقرأنا كذلك أنّ لكثير من الرواة: كأبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي، والفرّاء، وغيرهم، مصنفات يتواردون جميعاً على تسميتها ( بكتاب اللغات ) فهذا الإجماع دليل على تعيين المعنى وتحديده كما أسلفنا ؛ ولكنّا رأينا فيما استقريناه من أسماء المؤلفات، أن لحسين بن مهذب المصريّ اللغويّ كتاباً سمّاه ( كتاب السبب في حصر لغات العرب ) ؛ والذي يبادر الظنّ من معنى هذه التسمية - إن لم تكن لفظة السبب قد جيء بها للسجيع - أنّ الكتاب يتناول الكلام عن تأثير القرآن في حصر اللغات وتغليب القرشيّة عليها، فإن كانت اللفظة للسجع فالكتاب في حصر ما يسمّونه باللغات، من نحو المصنوع والضعيف والمنكر والمتروك والرديء والمذموم والحوشيّ والنوادر، إلى أمثال ذلك مما بوّب على أكثره السيطيّ في المزهر، وهو نفس ما تواضعوا عليه من معنى اللغات كما علمت، والله أعلم.

أمثلة اختلاف اللغات

وقد فلينا كتب العربيّة والأدب، وتناسيا حساب الوقت في تصفحها لاستخراج هذه الدفائن التي نعتبرها بمنزلة الآثار التاريخيّة ؛ وإنّما جهدنا ممّا جمعناه أن ندلّ على علم مات في رؤوس علمائنا - رحمهم الله -، ونصوّر من بقاياه هيكلاً نصفه، كما يفعل علماء عصرنا في درس البقايا العظيمة القديمة التي استحجرت عليها طبقات الأرض، والمثالان سواءفي ذلك الموت الأبديّ، ورأينا أنّنقسم أنواع الاختلاف التي جمعناها إلى خمسة أقسام:1 - لغات منسوبة ملّقبة. 2 - لغات منسوبة غير ملّقبة تجري في إبدال الحروف. 3 - لغات، من ذلك في تغير الحركات. 4 - لغات غير منسوبة ولا ملقبة. 5 - لغة أو لثغة في منطق العرب. وكما قدّمنا من ذلك في بعض الفصول التي سلفت ولا نعيدها، كذلك أخرنا أشياء لبعض الفصول التي تأتي فلا نثبّتها ؛ لأنّ لكلّ موضعاً متى اقتضاه استوفاه.

النوع الأوّل:

وقد عدّه العلماء من مستبشع اللعات ومستقبح الألفاظ، وهو كذلك بعد أن هذّبت اللغة وأطبقت العرب على المنطق الحرّ والأسلوب المصّفى ؛ ومن أمثلته:1 - الكشكشة، وهي في ربيعة ومضر: يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيناً، فيقولون في رأيتك: رأيتكش، وبكش، وعليكش، وهم في ذلك ثلاثة أقسام: قسم يثبت الشين حالة الوقف، وهو الأشهر، وقسم يثبتها في الوصل أيضاً ؛ وقسم يجعل الشين مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف، فيقولون في مررت بك اليوم: مررت بشِ اليوم، وفي مررت بك - في الوقف -: مررت بشْ. وقال ابن جنّي في سر الصناعة: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العبّاس أحمد بن يحيى قول بعضهم:

عليّ فيما أبتغي أبتغي أبغيشِ

بيضاءَ ترضيني ولا ترضيشِ

وتطّبي ودَّ بني أبيشِ

إذا دنوتِ جعلتْ تنئيشِ

وإن نأيت جعلتْ تدنيشِ

وإن تكلّمتِ حثتْ في فيشِ

حتّى تنقّي كنقيقِ اليشِ

فشبّه كاف الديك بكاف ضمير المؤنث. ود تروى الكشكشة لأسد وهوزان، وقال ابن فارس في فقه اللغة: إنّها في أسد. 2 - الكسكسة، وهي في ربيعة ومضر أيضاً: يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سيناً على ما تقدم، وقصدوا بالفرق بين الحرفين: السين والشين، تحقيق الفرق بين المذكر والمؤنث في النطق. ونقل الحريري أن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر، وهي فيما نقله زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر. وروى صاحب القاموس أنها لتميم لا لبكر، وفسرها كما فسرها الحريري. 3 - الشنشنة في لغة اليمن: يجعلون الكاف شيناً مطلقاً، فيقولون في لبيك اللهم لبيك.لبيش اللهم لبيش. 4 - العنعنة في لغة تميم وقيس: يجعلون الهمزة المبدوء بها عيناً، فيقولون في إنك: عن:، وفي أسلم: عسلم، وفي إذن: عذن، وهلم جراً. 5 - الفحفحة في لغة هذيل: يجعلون الحاء عيناً، فيقولون في مثل حلت الحياة لكل حي: علت العياة لكل عي.وعلى لغتهم قرأ ابن مسعود: عتّى عين، في قوله تعالى: ( حَتّى حِينٍ ) فأرسل إليه عمر بن الخطاب: إن القرآن لم ينزل على لغة هُذيل، فأقرىء الناس بلغة قريش. 6 - العجعجة في لغة قضاعة: يجعلون الياء المشددة جيماً فيقولون في تميميّ: ( تميميج )، وكذا يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج، وهكذا - وسيأتي في النوع الثاني عكس هذه اللغة - وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا فلا تكاد تظهر حروفهم، وقد سمى العلماء ذلك منهم ( غمغمة قضاعة ). 7 - الوتم في لغة اليمن أيضاً: يجعلون السين تاء، فيقولون في الناس: النات، وهكذا. 8 - الوكم في لغة ربيعة، وهم قوم من يكسرون كاف الخطاب في الجمع متى كان قبلها ياء أو كسرة، فيقولون في عليكم وبكم: عليكِم وبكِم. 9 - الوهم في لغة كلب: يكسرون هاء الغيبة متى وليتها ميم الجمع مطلقاً ( والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو عليهِم وبهِم ) فيقولون في منهُم وعنهُم وبينهُم، منهِم وعنهِم وبينهِم. 10 - الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار يجعلون العين الساكنة نوناً إذا جاورت الطاء، فيقولون في أعطى: أنطى. وعلى لغتهم قرىء شذوذاً: ( إِنّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) وجاءت أمثلة منها في الحديث الشريف. 11 - التلتلة في بهراء، وهم بطن من تميم، وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقاً، وقد ذكر سيبويه في الجزء الثاني من كتابه مواضع يكون فيها كسر أوائل الحروف المضارعة عامّاً في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز وذلك في نحو مضارع فَعِل إذا كانت لامه أو عينه ياء أو واواً، نحو وجل وخشي، مثلاً، فيقولون: نيجَل ونِخشى، وهكذا، فراجعه في الكتاب فإن فيه تعليلاً حسناً.وقال في آخر هذا الفصل: إن بني تميم يخالفون العرب ويتفقون مع أهل الحجاز في فتح ياء المضارعة فقط.ونسب ابن فارس فيفقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا أنه جعله عاماً في أوائل الألفاظ، فمثل له بقوله: ( مثل تعلمون ونِعلم وشِعير وبِعير ). 12 - القطعة في لغة طيِّىء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل يا أبا الحكم: يا أبا الحكا.وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو، لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القُطعةُ فتتناول سائر أبنية الكلام. 13 - اللَّخلخانية، وهي تعرض في لغة أعراب الشحّر وعُمان، فيحذفون بعض الحروف اللينة، ويقولون في نحو ما شاء الله: مشا الله.ومن لغات الشحّر المرغوب عنها ما نقله صاحب ( المخصص ) من أن بعضهم يقول في السيف: شَلَقى. 14 - الطُّمطُمانية في لغة حِمير: يبدلون لام التعريف ميماً، وعليها جاء الحديث في مخاطبة بعضهم: ( ليس من امْبِرِّ امْصيامُ في امْسفر ): أي ليس من البر الصيام في السفر.

النوع الثاني:

لغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء، ومن أمثلته:1 - في لغة فُقيم: يبدلون الياء جميعاً، ولغتهم في ذلك أعمُّ من لغة قضلعة التي مرت في النوع الأول، لأنها غير مقيدة، فيقولون في بُختي وعليّ، بُختجٌّ وعلجٌّ، ومنه قول الحماسيّ:

خالي عُويفٌ وأبو علجِّ

المطعمان اللحم بالعشجِّ

أي بالعشي، وأنشد أبو زيد لبعضهم:

يا رب إن كنت قبلت حَجّتجْ

فلا يزال ساجحٌ يأتيك بِجْ

يريد: حَجتي، ويأتيك بي، والساجح: السريع من الدواب.وقال ابن فارس في ( فقه اللغة ): إن الياء تُجعل جيماً في النسب، عند بني تميم: يقولون غلامجْ أي غلامي، وكذلك الياء المشددة تُحوَّل جيماً في النسب، يقولون: بَصرِجّ وكوفِجّ، في بَصري وكوفيّ.وعكس هذه اللغة في تميم - على ما نقله صاحب ( المخصص ) - وذلك أنهم يقولون: صِهريُّ والصهاريُّ، في صهريج والصهاريج. 2 - في لغة مازن يبدلون الميم باء والباء ميماً، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن: اطبئن، وقد تقدّمت. 3 - في لغة طيّئ يبدلون تاء الجمع هاءً إذا وقفوا عليها، إلحاقاً لها بتاء المفرد، وقد سمع من بعضهم.( دفن البناهْ، مِن المكرماه ) يريد: البنات، والمكرمات، وحكى قطربٌ قول بعضهم: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواة ؟ وسيأتي في النوع الرابع عكس هذه اللغة. 4 - في لغة طيئ أيضاً يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كلِّ ماضٍ ثلاثيٍّ مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضةٍ كما لو كان الفعل مبنيَّاً للمجهول، فيقولون في رضي وهُدي، رضا، وهدى، بل ينطقون بها قول العرب: ( فرسٌ حظيَّةٌ بظيَّة ) فيقولون.حظاةٌ بظاة، وكذلك يقولون: النصاة، في الناصية. ومن لغتهم أنّهم يحذفون الياء من الفعل المعتلّ بها إذا أُكِّد بالنون، فيقولون في: اخشينَّ وارمينَّ. . .الخ.اخشنَّ وارمنّ.وجاء من ذلك في الحديث الشريف على لغتهم: ( لتُؤدَّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلجاء من الشاة القرناء تنطحها ) وتنسب هذه اللغة إلى فزارة أيضاً كما تنسب إلأى طيِّئ. 5 - في لغة طيِّئٍ على ما رواه ابن السكيت أنّهم يبدلون في الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون هِن فعلتَ فعلتُ، يريدون: إن فعلتَ، ومنه قول الشاعر:

ألا يا سنا برقٍ على قُلل الحمى

لهِنّك مِن برقٍ عليَّ كريم

أي لئنك وسيأتي عكس هذه اللغة في النوع الرابع. 6 - في لغة تميم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثيِّ إذا كانت عينه ياءً على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مبيعٍ مبيوع، ولكنّهم لا يفعلون إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندَر، بل يتبعون فيه لغة الحجازيِّين، نحو: مَقولٌ ومصُوغ، وهكذا. 7 - في لغة هُذيلٍ لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياءِ المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثمَّ يدغمونها، توصُّلاً إلى كسرِ ما قبل الياء، فيقولون في عصاي وهواي: عصيّ وهويّ، قال شاعرهم:

سبَقوا هويَّ وأعنقوا لهواهمُ

فتُخرِّموا ولكلِّ جنبٍ مصرعُ

ولا يفعلون ذلك إلا إذا كانت الألفُ في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو ( فتيايَ ) بل يوافقون الجمهور في إبقائها دون قلب، كأنّهم كرهوا أن يزيلوا دلالتها على المعنى الذي أُلحقتْ الكلمة له. 8 - في لغة فزارة وبعض قيسٍ يقلبون الألف في الوقف ياءً، فيقولون: الهديْ وأفعيْ وحبلي. ومن تميم مَن يقلب هذه الألف واواً فيقول: ( الهدو وأفعو وحبلو ) ومنهم مَن يقلبها همزةً فيقول: الهُدأ وأفعأ وحبلأ. وقريبٌ من قلب الألف واواً ما رواه ابن قتيبة عن ابن عباس: ( لا بأس بلبس الحذوْ للمحرم ): أي الحذاء، وهو دليلٌ على أنَّ من بعض لغاتهم قلبَ الألف مطلقاً واو. 9 - في لغة خثعمٍ وزبيدٍ يحذفون نون ( مِنْ ) الجارّة إذا وليها ساكن، قال شاعرهم:

لقد ظفرَ الزُّوَّار أقفيةَ العدا

بما جاوز الآمال مِ الأسر والقتلِ

وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفّها كثيرٌ من الشعراء فتعاورها. 10 - في لغة بلحرثِ يحذفون الألف من ( على ) الجارّة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الأرض، عَلأرضِ، وهكذا. 11 - في لغة قيسٍ وربيعةَ وأسدٍ وأهل نجدٍ من بني تميم، يقصرون ( أولاء ) التي يُشلرُ بها للجمع ويلحقون بها ( لاماً ) فيقولون: أولالك، قال بعضهم:

أولالك قومي لم يكونوا أشابةً

وهلْ يعِظُ الضِّليّل إلّا أولالك

12 - في لغات أسماء الموصول:بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع، وعلى لغتهم قول الفرزدق:

أبَني كليبٍ، إنّ عمّيَّ الّذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلالَ

وقول الأخطل:

هما اللَّتا لو ولدتْ تميمُ

لقيل، فخرٌ لهم صميمُ

وتميمٌ وقيسٌ يثبتون هذه النون ولكنّهم يشدّدونها، فيقولون: اللذانّ، واللتانّ، وذلك في أحوال الإعراب الثلاثة، وللنحاةِ في حكمة هذا التشديد أقوال ليست من غرضنا. وطيّئٌ تقول في الذي ذو، وفي التي ذاتُ، ولا يغيّرونها في أحوال الإعراب الثلاثة رفعاً ونصباً وجرّاً.وقال أبو حاتم: إنّ ( ذو ) الطائيَّة للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظٍ واحد، وإعرابها بالواو في كلِّ موضع. وسيأتي في النوع الرابع بعض لغاتٍ غير منسوبةٍ في أسماء الموصول. 13 - في لغة ربيعةَ يقفون على الاسم المنّون باتلسكون في كلِّ أحوال الإعراب، فيقولون: رأيتُ خالْ، ومررتُ بخالدْ، وهذا خالدْ، وغيرهم يشاركهم إلا في النصب. وفي لغة الأزدِ يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة فيقولون جاء خالدو، ومررت بخالدي. وفي لغة سعد يضعِّفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكناً، فيقولون: هذا خالدّ، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر. 14 - في لغة بلحرث وخثعم وكنانة يقلبون الياء بعد الفتحة ألفاً، فيقولون في إليك وعليك ولديه: ( إلاك، وعلاك، ولداه )، ومنه قول الشاعر:

طاروا علاهُنّ فطر علاها

ومن لغتهم أيضاً إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجراً، وذلك لقلبه كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفاً، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان، وأنشد ابن فارس في ( فقه اللغة ) لبعضهم:

تَزَوَّد منَّا بين أُذناهُ ضربةً

دَعَتهُ إلى هابي التُّراب عقيمُ

غير أنه خص هذه اللغة ببني الحارث بن كعب. 15 - ذكر المبرد في ( الكامل ) أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم من قاربها، يبدلون الحاء هاء لقرب المخرج، فيقولون في مدحْته.مدهْته، وعليه قول رُؤبة:

لله در الغانيات المدَّه

أي المدح، وفي هذه الأرجوزة:

براق أصلاد الجبين الأجله

أي الأجلح. وقال في موضع آخر: العرب تقول: هودج، وبنو سعد بن زيد مناة ومن وليهم يقولون: فودج، فيبدلون من الهاء فاء. وفي آمالي ثعلب: أزد شنوءة تقول: تفكَّهون، وتميم يقولون تفكَّنون، بمعنى تعجبون. وأمثلة الاختلاف من هذا الضرب غير قليلة. 16 - في أمالي القالي عن أبي زيد أن الكلابيين يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في الاستفهام إذا أنكروا أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر. فإذا قلت: رأيت زيداً، وأنكر السامع أن تكون رأيته قال: زيداً إنيه ! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيدنية ! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت. وهذه الزيادة تجري في لغة غيرهم على النحو الذي تسمعه في لغة العامة من مصر، فإنك إذا قلت لأحدهم: رأيت الأسد، يقول: الأسد إيه ! فالعرب تحرك آخر الكلمة إذا كان ساكناً وتُلحق به الزيادة، فإذا قال رجل: رأيت زيداً، قالوا: أزيدنِيه ! ويقول: قدم زيد فتقول: أزيدنُيه ! أما إذا كان آخر الكلمة مفتوحاً فإنهم يجعلون الزيادة ألفاً، ويجعلونها واواً إذا كان مضموماً، وياءً إذا كان مكسوراً، فإن قال: رأيت عثمان، قلت: أعثماناه ! ويقول: أتاني عمر، فتقول: أعمروه ! وهكذا. فإن كان الاسم معطوفاً عليه أو موصوفاً، جعلوا الزيادة في آخر الكلام، يقال: رأيت زيداً وعمراً، فتقول: أزيداً وعمرنِيه ! ويقال: ضربت زيداً الطويل، فتقول: أزيداً الطَّويلاه !وذكر سيبويه أنه سمع رجلاً من أهل البادية وقيل لهك أتخرج إن أخصبتِ البادية ؟ فقال: أنا إنيه ! وإنما أنكر أن يكون رأيه على خلاف الخروج، وسيأتي وصف لغة أخرى للحجازيين في النوع التالي.

النوع الثالث:

وهو تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات، ومن أمثلته:1 - ( هلم ) في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة ( بمنزلةرُوَيد )، على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً، وتلزم في كل ذلك الفتح، وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد، فيقولون هلمَّ يا رجل، وهلمِّي، وهلمَّا، وهلمُّوا، وهلمُمْن، وإذا أسندت لمفرد لا يكسرونها كما قال سيبويه، فلا يقولون: هِلمَّ يا رجل، ولكنها تكسر في لغة كعب وغني. 2 - في لغة تميم يكسرون أول فعِيلٍ وفَعِلٍ إذا كان ثانيهما حرفاً من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لِئيم، ونِحيف. . .الخ، بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لِعِبٌ، ورجل مِحِكٌ وهذا ماضغ لِهِم ( كثير البلع ) وهذا رجل وِغِل ( طفيلي على الشراب )، وفِخذ، ونحوها كل ذلك في لغتهم بالكسر وغيرهم بفتحه، وقد نقل صاحب ( المخصص ) في ذلك تعليلاً حسناً يرجع إلى الأسباب اللسانية. 3 - في لغة خُزاعة يكسرون لام الجر مطلقاً مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم، فيقولون: المال لك وله. ونقل اللحيانيُّ ذلك عن خزاعة أيضاً. وفي ( سرُّ الصناعة ) لابن جني عن أبي عبيدة والأحمر ويونس، أنهم سمعوا العرب تفتح اللام الجارَّ مع المُظهر، وقال أبو زيد: سمعت من يقول: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ )، وفي لغة هؤلاء يقولون: المال للرجل، ومثل هذه اللغة في عاميةالشام. ولكن العرب إجماع ( ومنهم خزاعة ) على كسر اللام إذا اتصلت بياء المتكلم فلا يفتحها منهم أحد. 4 - هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لديهُ وعليهُ، ولغة غيرهم كسرها، وعلى منطق أهل الحجاز قرأ حفص وحمزة: ( وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ ) و ( عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ ) وهي القراءة المتبعة أما غيرهما من القراء فيكسر الياء. 5 - في لغة بني مالك من بني أسد يضمون هاء التنبيه، فيقولون في يا أيُّها الناس، ويا أيُّها الرجل: ياأيُّهُ الناس، وياأيُّهُ الرجل، إلا إذا تلاها اسم إشارة، نحو: أيُّهذا، فإنهم يوافقون فيها الجمهور. 6 - في لغة بني يربوع - وهم من بني تميم - يكسرون ياء المتكلم إذا أُضيف إليها جمع المذكر السالم فيقولون في نحو ضاربيَّ ضاربيِّ، وهكذا. 7 - في لغة الحجازيين يحكون الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علماً كما نُطق به، فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيداً ومررت بزيد، يقولون: مَنْ زيْدٌ ومَنْ زيْداً ؟ أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علماً موصوفاً: كزيدٍ الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: منِ الرجلُ ؟ ومن زيدٌ الفاضلُ ؟ في الأحوال الثلاث. وإذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاؤوا في السؤال بلفظة ( من ) ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واواً لمجانسة الضمة في النكرة المُستِفهم عنها، ويُلحقون بها ألفاً في حالة النصب، وياءً في حالة الجر، فإذا قلت: جاءني رجل، ونظرت رجلاً، ومررت برجلٍ، يقولون في الاستفهام عنه ( مَنو ؟ ومَنا ؟ ومني ؟ ) وكذلك يُلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع، فيقولون: ( منَه ) ؟ في الاستفهام عن المؤنثة، ومنُون ؟ ومَنِين ؟ للجمع المذكر، ومَنَات ؟ للجمع المؤنث، وهكذا كله إذا كان المستفهم واقفاً، فإذا وصل أداة الاستفهام جرَّدها عن العلامة، فيقول: من يا فتى ؟ في كل الأحوال.قال الزمخشري: وقد ارتكب الشاعر في قوله:

أتوا ناري فقلت منون أنتم ؟

شذوذين: إلحاق العلامة في الدرج، وتحريك النون. وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: مَنو، ومَنا، ومَني، إفراداً وتثنية وجمعاً، في التذكير والتأنيث. 8 - من لغة الحجازيين أيضاً أنهم يُعاقبون بين الواو والياء فيجعلون إحداهما مكان الأخرى، والمعاقبة إما أن تكون لغةً عند القبيلة الواحدة، أو تكون لافتراق القبيلتين في اللغتين، وليست بمطَّردة في لغة أهل الحجاز بين كل واو وياء، ولكنها محفوظة عنهم، فيقولون في الصَّوّاغ: الصَّيَّاغ، وقد دوخوا الرجل، وديَّخوه.وسمع الكسائي بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني أي يضيرني - وقوم يقولون في سريع الأوبة: سريع الأيبة، ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول بعضهم: حكوت الكلام، أي حكيته، وأهل العالية يقولون: القصوى، ويقول فيها أهل نجد: القُصيا. وقد وردت أفعال ثلاثية تحكى لاماتها بالواو والياء، مثل عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت، وهي قريب من مائة لفظة نظمها ابن مالك النحوي في قصيدة مشهورة. 9 - في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافاً، فيقولون في فَخِذ، والرجل، وكرُم، وعلم: فخْذ، وكرْم، والرَّجْل، وعلْم.وقال أبو النجم الراجز، وهو من بكر بن وائل، يصف الشعر المتعهّد بالبان والمسك:

لو عُصر منه البان والمسك انعصر

وهذه اللغة كثيرة أيضاً في تغلب، وهو أخو بكر بن وائل.ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خفَّفوا أيضاً فيقولون في العنق والإبل.العنْق والإبْل.قال سيبويه: ( ومما أشبه الأول فيما ليس على ثلاثة أحرف، قولهم: أراك منتفْخاً، انطلْقِ يا فتى، أي منتفِخاً وانطلق، ثم قال، حدثنا بذلك الخليل عن العرب وأنشدنا بيتاً لرجل من أزد السراة:

عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلْده أبوان !

وسمعناه من العرب كما أنشده الخليل، وأصله ( لم يلِده ) فلما أسكنوا اللام على لغتهم حركوا الدال لئلا يجتمع ساكنان. 10 - في ( الخصائص ) لابن جني عن أبي الحسن الأخفش: أن من لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل، كقول القائل:

وأشرب الماء ما بي نحوه عطش

إلا لأن عيونه سال واديها

11 - لغات في كلمات:تميم من أهل نجد يقولون: نِهيٌ، لِلغدير، وغيرهم بفتحها. الوَتر في العدد حجازية، والوِتر - بالكسر - في الذحل: الثار.وتميم تكسرهما جميعاً، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط. اللَّحد واللُّحد: للذي يحفر في جانب القبر، والرَّفع والرُّفع: لأصول الفخذين، فالفتح لتميم، والضم لأهل العالية. يقال: وتِد، ووتَد.وأهل نجد يدغمونها فيقولون: ودٌّ. وفي لغة بعض الكلابيين يقولون: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون: شُّواظ من نار، والكلابيون يكسرون الشين. ويقولون: رُفقة، للجماعة، ولغة قيس كسر الراء. وقالوا: وَجنة ووُجنة، وبالكسر لغة أهل اليمامة. أهل الحجاز يقولون: خمس عشرة، وتميم يقولون: خمس عشِّرة، ومنهم من يفتح الشين. والحجازيون يقولون: لعَمْري، وتميم تقول رَعملي، وتحكى عنهم رعمري أيضاً. واللصُّ في لغة طيء، وغيرهم يقول: اللِّصت. وبقيت ألفاظ أخرى كنا جمعناها فأضربنا عن ذكرها، لأن هذا الاختلاف غير مطرد فلا يعتد به فيما نحن بصدد منه. 12 - لغات في الإعراب:في لغة هذيل يستعملون ( متى ) بمعنى ( من )، ويجرون بها، سمع من بعضهم: أخرجها متى كمّه: أي من كمه، ويروون من ذلك البيت المشهور:

شربنا بماء البحر ثم ترفَّعت

متى لجج خضر لهن نئيج

وفي لغة تميم ينصبون التمييز ( كم ) الخبرية مفرداً، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، فيقال: كم درهمٍ عندك، وكم عبيدٍ ملكت ! وتميم يقولون: كم درهماً، وكم عبيداً !في لغة الحجازيين ينصب الخبربعد ( ما ) النافية نحو: ما هذا بشراً، وتميم يرفعونه. في لغة أهل العالية ينصبون الخبربعد ( إن ) النافيةمع من بعضهم: إن أحد خيراً من أحد إلا بالعافية. الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقاً، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا، فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسكَ، وبنوتميم إلا المسكُ. في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما علة منعه الوصفية وزيادة النون فيقولون: لست بسكران، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة. في لغة ربيعة وغنم، يبنون ( مع ) الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبت معْه، وإذا وليها ساكن يكسرونها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت مع الرجل.وغُنْم: حيٌّ من تغلب بن وائل. في لغة بني قيس بن ثعلبة يعربون ( لدن ) الظرفية، وعلى لغتهم قرىء: ( من لدُنِهِ علماً ). الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزن فَعَالِ: كحَزَام وقَطام، على الكسر في كل حالات الإعراب، وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راءً وتمنعها من الصرف للعلمية والعدل، فإذا كان آخرها راء كوَبار ( قبيلة ) وضُفار ( مدينة ) فهم فيها كالحجازيين. في لغة هُذيل أو ( عقيل ) يعربون ( الذين ) من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم، قال شاعرهم:

نحن الَّذون صبَّحوا الصّباحا

يوم النُّخيل غارة ملحاحا

ومن لغة هذيل أيضاً فتح الياء والواو في مثل: بيَضات، وهيَآت، وعورات فيقولون: بَيَضات وهَيَآت وعَوَرات، والجمهور على إسكانها، وقد وقفنا على أمثلة أخرى نتجاوزها اكتفاء بما قدمناه.

النوع الرابع:

وهو يشمل اللغات التي ذكرها العلماء ولم ينسبوها وتكون في جملتها راجعة إلى تباين المنطق واختلاف اللهجات، وهذا القسم هو اللغة أو أكثرها: لأن الذين دونوها جمعوا كل لغات العرب وجعلوها لغة جنسية فلم يميزوا منطقاً من منطق، ولا أفردوا لغة عن لغة، إذ كان ذلك من سبيل خدمة التاريخ اللغوي، وهم إنما أرادوا بصنيعهم خدمة القرآن وعلومه، فلولاه لمضت لغة العرب في سبيل ما تقدمها، ولماتت مع أهلها، وكان من يظفر اليوم بحرف منها فقد أحيا شيئاً من التاريخ. ولو أردنا استغراق هذا النوع لخرجنا بالكتاب عن معناه إلى أن يكون معجماً من معاجم اللغة، ولكنّا نأتي بشيء من نادره ونقتصر على القليل من غريبه مما يجانس ما قدمناه ويتحقق به نوع من أنواع الاختلاف اللساني في العرب ومن أمثلة ذلك:1 - إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي، والأراني، والضفادي.قال ابن جني في ( سر الصناعة )، وقد أورد قول الشاعر:

لها أشارير من لحم تُتَمِّره

من الثعالي ووخزٌ من أرانيها

لم يمكنه أن يقف على الباء فأبدل منها حرفاً حرفاً يمكنه أن يقفه في موضع الجر وهو الياء. . .وليس ذاك أنه حذف من الكلمة شيئاً ثم عوض منها الياء.وقال وقد ذكر قول الآخر:

ومنهلٍ ليس له حوازقُ

ولضفادي جمِّهِ نقانقُ

كره أن يسكّن العين ( من الضفادع ) في موضع الحركة، فأبدل منها حرفاً يكون ساكناً في حال الجر وهو الياء. وفي ( الصحاح ): قد يبدلون بعض الحروف ياءً كقولهم: في أما: أيْما وفي سادس: سادي، وفي خامس: خامي.وجاءت لغات الإبدال وكلها منسوبة ولا مسماة، وهي كثيرة، ومنها نوع طريف يعد من ( لغات اللغويين ) لأنهم جمعوه ورتبوه، وهو في الألفاظ التي يُنطق فيها بلغتين بحيث يؤمن التصحيف: كالتي تنطق بالياء والتاء والباء والثاء، والتاء والثاء ونحوها مما يقع في حروفه التصحيف، وهذه الحروف هي:ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل ن وفالنون تشتبه بالتاء والثاء، والواو تشتبه بالراء، أما سائر الحروف فالاشتباه فيها ظاهر.وعلى أن هذا مما يرجع إلى الخط ويبعد أن يكون العرب ارادوه، ولكن اللغويين وُفقوا في عدِّه من لغات الإبدال، ومن أمثلته: الثَّرى والبرى: بمعنى التراب، وثّجَّ الجريح ونجَّ: سال دمه، وفاح الطيب وفاخ، وهلم جراً. . . 2 - من العرب من يجعل الكاف جيماً، فيقول مثلاً: الجَعبة، في ( الكعبة ) وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفْلطني، في ( أفلتني ) قال الخليل: وهي لغة تميمية قبيحة. 3 - نقل صاحب ( المخصص ) في ( باب ما يجيء مقولاً بحرفين وليس بدلاً ) أن بعض العرب يقول: أردت عن تفعل كذا، وبعضهم يقول: لألني: في ( لعلَّني ) وقال في موضع آخر: وفي ( لعل ) لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعلِّي، لعلني، علِّي، علَّني، لعنّشي، لغنِّي، وأنشد للفرزدق:

هل أنتم عائجون بنا لعنَّا

نرى العَرَصَاتِ أو أثر الخيام

وقال أبو النجم:

أغدُ لعلْنا في الرِّهان نرسله

يريد ( لعلَّنا ) وبعضهم يقول: لأنني، وبعضهم: لأني، وبعضهم: لونِّي، وقال رجل: من يدعو إليّ المرأة الضالة ؟ فقال أعرابيّ: لونَّ عليها خماراً أسود، يريد: لعلَّ عليها، ومما وقفنا عليه من لغاتها ولم يذكره في ( المخصص ): رَعَنَ ورعنّ وعنّ وأن ولَعَاء، بالمد، ومنه قول الشاعر:

لعاء الله فضَّلكم علينا

بشيء أن أمكم شريح

وتروى في ( لعلّ ) لغة بكسر اللام - لِعلّ -، وقد أسلفنا أن لغة عقيل الجرّ بلعلّ وهو مما عزاه إليهم أبو زيد، وغيره يقول إن ذلك في لغة بعض العرب. ومما أورده في هذا الباب: قرأ فما فما تلعْثم، وبعضهم يقول: تلعزم.وتضيّفتِ الشمس للغروب، وتصيّفت، قال: ومنه اشتقاق الصيف. 4 - وفي ( المخصص ) أيضاً عن ابن السِّكِّيت في ( لغات: عند ) تقول: هو عِندي، وعُندي، وعَندي، ومنه أيضاً ( لدن ) فيه ثماني لغات، وهي: لَدُن، ولُدُن، ولدى، ولَدُ، ولَدْن، ولُدْن، ولَدْ، ولدّى، ومنه أيضاً في ( الذي ) لغات: الذي بإثبات الياء، واللّذِ، واللّذْ، واللذيُّ، وفي التثنية اللذان، واللذانِّ، واللذا، وفي الجمع: الذي والذون واللاءون، واللاءوا، واللائي - بإثبات الياء في كل حال - والألألى، وللمؤنث: اللائي، واللاء، واللاتي، واللتِ، واللتْ، واللتان، واللتا، واللتان، وجمع التي: اللاتي، واللات، واللواتي، واللوائي، واللّوا، واللاء، واللآت. ومن لغات ( هُو وهِي ) هُوْ، وهيْ - بالسكون - وهوّ، وهيّ، قال بعضهم:

وإنَّ لساني شَهْدة يشتفى بها

وهوَّ على من صبَّه اللهُ علقمُ

وتحكى فيها لغة رابعة، وهي أن تحذف الواو والياء وتبقى الهاء متحركة فتقول: ه، هِ. ومن لغات ( لا جرم ) على ما رواه الكوفيون: لاجرَ، ولا ذاجَرَم، ولا ذاجَرَ، ولا إن ذا جرم، ولا عنَّ ذا جرم. ومن لغات ( نعم، حرف الإيجاب ): نَعِم، ونِعِم، ونَحَم، بإبدال العين حاءً كما أبدلت الحاء من ( حتى ) عيناً في فحفحة هذيل فقيل: عتى، كما مر في موضعه. 5 - بعض العرب يبدل هاء التأنيث تاء في الوقف، فيقول: هذه أَمَت، ( في أمَهْ ) وسمع بعضهم يقول: يا أهل سورة البقرت، فقال مجيب: ما أحفظ منها ولا آيت ! ويؤخذ مما ذكره ابن فارس في ( فقه اللغة ) لأن هذه اللهجة كانت من اللغات المسماة المنسوبة إلى أصحابها في القرن الرابع، ولكنا لم نقف على نسبتها: ونقتصر من ذلك على هذا القدر فإنه كِفاء الحاجة فيما نحن بصدد منه.

النوع الخامس:

وهو ما يروونه على أنّه لغةٌ في الكلام أو لثغةٌ من المتكلم، كالألفاظ التي وردت بالرّاء والغين، أو بالرّاء واللام، أو بالزّاي، أوالذَّال، أو بالسِّين والثاء، أو بالشِّين والسّين، فكلُّ ذلك ممّا يشكُّ فيه الرواة، لا يجزمون بأنّه لغة فردٍ أو لغة قبيلة، وقد قال الأنباريِّ في شرح المقامات يذكر أنواع اللثغة في منطقهم: اللثغة تكون في السّين، والقاف، والكاف، واللام، والراء، وقد تكون في الشّين.فاللثغة في السّين أن تبدل ثاءً، وفي القاف أن تُبدل طاءً، وربّما أبدلت كافاً، وأمّا الكاف أن تبدل همزة، وفي اللام أن تبدل ياءً، وربّما جعلها بعضهم كافاً، وأمّا اللثغة في الرّاء فإنّها تكون في ستة أحرفٍ: ( ع غ ي د ل ط ) وذكر أبو حاتم أنّها تكون في الهمزة.ا ه. قلنا: وليس ما ذكره أبو حاتم بغريب، فقد رأينا في ( بغيةُ الوعاة ) في ترجمة ركن الدين بن القوابع النحويِّ المتوفى سنة 738 أنّه كان يلثغ بالراء همزة. وبعضهم يلثغ في اللام فيجعلها تاءً، ويسمونه الأرتّ، أمّا النطق بالحاء هاءً فيسمونه ههَّة، كقول صاحب الصحاح: اللّهس لغةٌ في اللّحس، أو ههّة.

عيوب المنطق العربيّ

وقد رأينا توفيةً لفائدة هذا الفصل أن نذكر عيوب المنطق بأسمائها، وهي:( التمتمة ) ويقال لصاحبها: التمتام، وذلك إذا تعتع في التاء، فإذا تردّد في الفاء فتلك:( الفأفأة ) وصاحبها فأفأ. ( والعُقلة ) وهي التواء اللسان عند الكلام. ( والحُبسة ) تعذّر النطق ولم يبلغ المتكلم حدَّ الفأفاء ولا التمتام، ويقال إنّها تعرض في أول الكلام فإذا مرّ فيه انقطعت. ( واللففُ ) إدخال بعض الكلام في بعض. ( والرتّة ) إيصال بعض الكلام ببعضٍ دون إفادة، وقد تقدم لها معنىً آخر في اللثغة. ( والغمغمة ) أن يسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف ولا تفهم معناه. ( والطُّمطمة ) أن يكون الكلام شبيهاً بكلام العجم، وقيل هي إبدال الطاء تاءً لأنّهما من مخرج واحد، نحو السُّلتان في ( السلطان ). ( واللّكنة ) وهي إدخال بعض حروف العجم في بعض حروف العرب، ومنها قولهم: فلانٌ يرتضخ لكنةً فارسيّةً.وعدُّوا منها إبدال الهاء حاءً، والعين همزة. ( والغنَّة ) وهي أن يشرّب الصوت الخيشوم، ثمَّ هي عيبٌ إذا جاءت في غير حروفها. ( والخنَّة ) ضربٌ منها. ( والترخيم ) حذف بعض الكلمة لتعذر النطق به. ( اللُّثغة ) وقد تقدّم الكلام عليها، غير أنّا رأينا فيها كلاماً حسناً لبعضهم قال: وتكون في أربعة حروف ( ق س ر ل ) فالتي تعرض للقاف يجعلها صاحبها طاءً، فيقول: طُلت في ( قلت )، ومنهم من يبدلها كافاً.وأمّا السِّين فتبدل ثاءً.والتي تعرض في الرّاء أربعة أحرف: منهم مَن يجعلها غيناً، ومنهم عيناً، ومنهم ياءً، ومنهم زاياً، فينطقون لفظ ( عَمرو ) على أنواع اللثغة هكذا: ( عمْغ، وعَمع، وعمِي، وعَمز ) وأمّا التي تعرض في اللام فإنّ من أهلها من يبدلها ياءً، ومنهم مَن يجعلها كافاً وهي لغة قبيحة.ا ه. ولا حاجة بنا لإيراد الأمثلة من ذلك جميعه، فإنّما أردنا بيان نوع من أنواع الاختلاف الطبيعيّ في لهجاتهم، وذكر هذه الحروف التي تغيّر شيئاً من هيئة المنطق، حتى نُقفّي بذلك إلى ما أوردناه، ونُفِّي الفائدة ممّا أردناه.

تنبيه:

ولا يفوتنا أن ننبه القرّاء إلى أنّ أنواع الاختلاف التي بسطناها لا تزال متحقّقة في اللهجات العاميَّة المعروفة اليوم في مصر والشّام والعراق وسائر الأقطار التي يتكلّم أهلها الفصيح البلديَّ أو الربيّة المطلقة، وقد ذهب بعضهم إلى أنّ هذا الاختلاف لم يأت عبثاً، بل هو طبيعة الاختلاف بين العرب الاولين الذين استوطنوا البلاد أيام الفتوح فخرج من أصلابهم هؤلاء المتأخرون، ومَن لم يمتُّ إليهم بنسبٍ كان منهم بنسبٍ من الولاء والمخالطة ونحو ذلك.وعلى هذا يكون ما تصيبه في لهجات العوام ممّا يوافق لغات العرب ليس إلا نسباً لفظياً يدلُّ على ما وراءه من النسب التناريخيِّ بين طوائف العوامِّ وقبائل العرب. نعم إنّ اللغة ميراثٌ تاريخيّ، ولكنّها كذلك في الجملة، فيقال إنّ لغة أمّةٍ متفرعةٍ تدلّ على تحقيق النسبة التاريخيَّة بينها وبين أمّة اللغة نفسها، ولكن من الخطأ الواضح أن يقال إنّ المفردات في الكلام يرتبط بنسب الأفراد في المتكلمين، فإذا رأيتَ أهل مصرَ جميعاً يقولون: مشَالله في ( ما شاء الله ) فلا يدلُّ ذلك على أنّهم من بقايا عرب الشّحر وعُمان الذين يحذفون بعض الحروف اللينة، وهي اللخلخانيَّة كما مرّ في موضعه، وإذا رايت كثيرين من أهل البحيرة والغربيّة يقولون: أحما في ( أحمد ): وتاكوا ( في تاكل ).والبصا ( في البصل )، فذلك لا يدلّ أنّهم من عرب طيّئ الذين يقطعون اللفظ قبل تمامه، وهي القطعة كما بيناه. ولو ذهبنا نعارض كلّ ما كان من هذا القبيل بالمأثور من لهجات العرب على أن نحقّق نسبة هذا الميراث المنطقيّ إلى قبائلهم، لتقحمنا خطَّةٌ من الغيب، ولأوشكنا أن نضع علناً كلُّه جهل، وإن كان هذا البحث ممّا ينهج للنظر سبلاً من الكلام ويفتق للذهن أموراً من الجدل، بيدَ أنّه التاريخ المزوَّر، والشهادة الظنيَّة على حقِّ اليقين. والصحيح أنّ الألسنة هي الألسنة في كلّ زمان، وما جرى عليه العرب في لغتهم جرتْ عليه العامّة في لغتها، فهم يتصرّفون في المنطق تصرف المتمكن المستقلّ، لأنّ العاميّة لا ترجع إلى قاعدة مضبوطة، ولا هي من اللغات المكتوبة فتقف عند حدِّ محدود، ولكنّهم يلوون بها ألسنتهم على ما يصرِّفها من الأسباب الخليقة، ثمَّ ما تُقوّم عليه من أحوال المجتمع بين موروثٍ ومكتسب، ولسنل ننكر البتتة أنّ التقليد قد فعل في اللغة العاميّة ما فعله في العربيّة قبلها، بل كان أهل الأمصار في صدر الإسلام - وهم أصل العاميّة - يتكلمون على لغة النازلين فيهم من البدو، كما كان العرب النازلون بقرب السُّبل ومجامع الأسواق يتكلمون على لغة من يليهم من العامّة.واللغة لا تخلق على لسان أحد، بل لا بدّ من التقليد والمحاكاة، ولكنّا ننكر نسبة الناطقين إلى قبائل من العرب توافقها في هيآت المنطق، بعد أن تصرّف أهل الأمصار في اشتقاق اللغة كما تصرّف العرب، وأخذوها بالتقليد والمحاكاة عن كلّ شفة، وكان لهم في سيلستها استقلال أوسع بكثيرٍ ممّا كان للعرب. ونحن نذكر هنا كلمةً واحدةً صحّ نقلها عن العاميّة أول عهدها في الشام، ثمّ هي لا تزال دائرةً إلى اليوم في العاميّ والفصيح.وهي لفظة ( عليه ) فقد نقل صاحب ( الأغاني ) كلمةً من الشعر العاميّ في دمشق زمن الوليد بن عبد الملك جاءت فيها هذه الكلمة ( ياي علوه ) وهي تنطق كحرف ( O ) وينطقونها اليوم في الشام ( علاه ) وقد مرّت هذه اللغة عن العرب، وفي الفصيح ( عيله ) وفي اللهجات المصريّة الغالبة ( علَيْه ) و ( علايَهْ ) و ( علِيَه ) و ( عَلِيه ) بالإمالة كحرف ( E ) و ( عَلِيه ) بغيرها كحرف ( I ) وذلك أكثر ما يمكن أن تدار عليه اللفظة، فإذا استطعنا تحقيق نسبة هذا المنطق إلى قبائل معينّة فهل تحقّق بها نسبة الناطقين أيضاً ؟ هذا ما لا جواب عليه إلا أنّه لا جواب له، والتاريخ وإن كان من كلام غير أنّه ليس كلّ الكلام من التاريخ.

البقايا الأثريّة في اللغة

الألفاظ في كلِّ لغة من الغات إنّما هي أدوات الحياة الذهنيّة الخاصّة بالنفس، كما أنّ مدلولاتها أدوات الحياة الماديّة الخاصّة بالحواس، فالذهن يشبه أن يكون في علن الحياة كتاباً موضَّحاً بالرسوم: يقرر الحقيقة ويمثلها ويداخلها بين أجزائها، ولكنه لا يعطيها، فقد تعلم لذة الطعام إذا كنت جائعاً وتتصوره أقرب من فوت ما بين اليد إلى الفم، وتتخيل منه كل ما تشتهي النفس، بل قد تجد طعمه ورائحته إذا كنت شاعراً دقيق موضع الاتصال بين الحواس الظاهرة والباطنة، ولكن تلك المائدة الذهنية على كثرة ما وسعت وطيب مااحتوت، لا تعدل عندك لقمة واحدة تلجلج الفكين !فالألفاظ مقصرة دائماً عن بيان معانيها بياناً يطابق نوع الخلق ويوافق حالة الوجود، لفإذا قيل أمامك: جاء زيد، وكنت لا تعرف من زيد هذا، لم تعد أن تتمثل رجلاً من الرجال، ولكنك إذا عرفته تمثلت نوعاً من الخلق متميزاً بحالة خاصة من أحوال الوجود، ومن هنا كان التاريخ - الذي هو بيان نفسي محض لا يؤدى إلا بالألفاظ - من المعاني الكلية المبهمة التي لا تثبت على قياس واحد من الحقيقة، بل لا بد فيها من الزيادة والنقص، لأن مرجعها إلى التصور، وهو مجموع ظلال متقلبة على النفس. ومن التاريخ ما لايقتصر الإبهام على مدلوله فقط، ولكن يتناول الألفاظ الدالة أيضاً، وذلك لأن صورته الذهنيةتكون في مجموعها ملفقة، غير مضبوطة على قياس مألوف من حياة المتكلم، فإذا أصاب تلك الألفاظ لم يجد لها في ذهنه رسماً معيناً، لأنها أطلال زمنية، وأكثر ما يكون ذلك في العادات و المصطلحات اللغوية التي تتغير بتغير الأزمان والأقوام، فإذا انقرض أهلها انقرضت معهم وبقيت ألفاظها في اللغة مبهمة في ذاتها، حتى إذا ألحقت بالشرح التاريخي أو اللغوي الذي يكشف غموضها ويزيل إبهامها دخلت في الحياة الذهنية، ولكنها تبقى مع ذلك بالنسبة لانقطاعها من الوجود بقايا أثرية في اللغة. ولو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى وما اختصت به من المعاني، وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسماً كبيراً من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية، لأننا لا نحتاجه ولا هو مما يعد فضلاً عن الحاجة فينتظر به وقتها، وذلك كأسماء الإبل وصفاتها الكثيرة، وكأسماء كثير من الحشرات وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير تطفح به معاجم اللغة، ولقد نرى أن ذلك مما يصح أن يسمى ( لاتين العربية ) قياساً على اللغة اللاتينية التي لا يستعملها الأوربيون ولكن يشتقون منها أسماء المصطلحات التي تمس إليها الحاجة فيما يستحدثون من أمورهم، لولا أن ( لاتيننا العربي ) يحتاج منا إلى عربية تلائمه، فإن استحياء الماضي لا يكون إلا بالملأمة بينه وبين روح العصر. ولسنا إلى ذلك نذهب، فهو بجملته لا يخرج عما يسمونه وحشياً أو غربياً أو حوشياً، وإنما نريد بالبقايا الأثرية ما أراده علماء اللغة أنفسهم حين جمعوها، فإنهم عدوا من اللغات: منكراً، ومتروكاً، ومُماتاً، فالمُنكر: ما لا يعرفه بعض أئمة اللغة لكونه مهمل الاستعمال في العرب إلا قليلاً، وهو دون الضعيف الذي ينحط عن درجة الفصيح، كقول بعض أهل الحجاز: ذأى يذأى، وهي في لغة أهل نجد: ذوى يذوي، وعليها الاستعمال.والمتروك: ما كان قديماً من اللغات ثم ترك واستعمل غيره، وهذا ما سميناه آنفاً ( بالمصطلحات اللغوية ) كالغزين في بعض تلك اللغات المتروكة: أي الشدقين، واحدهما غزّ، والبعقوط والبلقوط: أي القصير، ونحو ذلك.والممات: ما الميت استعماله، كأسماء الأيام والشهور في اللغة الأولى على ما زعموا، وقد ذكرها صاحب الجمهرة، وهي هذه:السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعةشِيار أول أهون وأوهد جُبار دُبار مونس عَروبةوأسماء الشهورالمحرم صفر ربيع الأول ربيع الآخر جمادى الأولى جمادى الآخرةالمؤتمر ناجر خوان وبصان الحنين ربىرجب شعبان رمضان شوال ذو القعدة ذو الحجةالأصم عاذل ناتق وعل ورنة بركومن المُمات عندهم لغات في التصريف: كقول الكسائي: محبوب، من حببت، وكأنها لغة قد ماتت، كما قيل: دِمت أدوم، ومِت أموت، وكان الأصل أن يقال أمات وأدام في المستقبل - المضارع - إلا أنها قد تركت.ومن ذلك ( ليس ) الفعل الناقص، فإن بعضهم يظن مضارعه وأمره من الأفعال المُمات، ومما عدَّوه متروكاً من أسماء العادة العربية لزوال معانيه في الإسلام: المرباع: وهو ربع الغنيمة، وكان خاصاً بالرئيس، ثم صار في الإسلام، الخمس.والنشيطة: وهي أن ينشط الرئيس عند قسمه المتاع الشيء النفيس يراه، إذا استحلاه.والفضول: وهي فضول المقاسم كالشيء إذا قسم وفضلت فضلة منه: كاللؤلؤة والسيف والدرع والبيضة والجارية، فكان ذلك من قسم الرئيس.وقد جمع هذه العادات كلها ابن غنمة الضبي في مرثيته لبسطام بن قيس إذ يقول:

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

أما الصفايا فبقيت في الإسلام، وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه اصطفى في بعض غزواته من المغنم أشياء: كالسيف اللهذم، والفرس العتيق، والدرع الحصينة، والشيءالنادر، وذلك يسمى الصفي، قالوا: وقد زال هذا الاسم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. والممات من أسماء العادات شيء كثير يستجر الكلام إلى قسم من تاريخ العرب لا يسعه هذا الموضع، فقد كانوا أهل مغاورات وإغرام بالمعلقرة والمياسرة ونحوها، ولكل ذلك أسماء وصفات، فنجتزىء بما ذكرناه، ولكن لا بد من التنبيه على شيء دقيق من هذا الباب، وذلك أنا لو تدبرنا الكلام الذي نستعمله لرأينا أشياء كانت من عادات العرب الخاصة بها ثم نقلتها الحضارة إلى معنى يناسبها بعد أن انتزعت منها الأصل التاريخي، فمن ذلك أن الواحد يقول: نحن فعلنا، وليس معه غيره، فلا يظن إلا أنه أراد تعظيم نفسه، وأنه ليس لهذا الاستعمال من أصل تاريخي في الكلام.وإنما الأصل أن العرب كانوا قبائل وجماعات، فكان الرئيس الذي له أتباع يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويتداعون لألمه، كأنهم أجزاء من شخصه، يقول: أمرنا، ونهينا، وغضبنا، ورضينا لعلمه بأنه فعل شيئاً فعله تبَّاعه لا يخذلونه ولا يخالفونه، ثم كثرة استعمال العرب لهذا الجمع ملحوظة فيه تلك الدلالة، ثم استفاض في الكلام حتى صار الواحد من عامة الناس يقول وحده: قمنا، وقعدنا، لا يريد إلا المعنى الحضري المصنوع، وهو التعظيم الحقير. . .

نمو العربية وطرق الوضع فيها

العربية أوسع اللغات مدى، وأغزرهن مادة، وأوفاهن بالحاجة الحقيقية من معنى اللغة، لكثرة أبنيتها، وتعدد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق، وانفساحها من ذلك إلى ما يستغرق اللغات بجملتها، مع أنها أقل هذه اللغات أوضاعاً، حتى أن المستعمل منها لا يتجاوز ستة آلاف تركيب، وإذا رددت الثلاثي منه وما فوقه إلى التركيب الثنائي، لم يكد يزيد ما يخرج منه على ثلاثمائة لفظة، هي أصل الأوضاع وسائر التراكيب المستعملة متفرع عنها.كما تفرعت سائر مواد اللغة عن هذه التراكيب بالاشتقاق، وهي في الجملة لا تقل عن ثمانين ألف مادة: عدة ما اشتمل عليه معجم لسان العرب. وظاهرٌ أن اللغة لم تترام إلى هذا الاتساع إلا بعد أن قلبت على وجوه كثيرة في الاستعمال، وأديرت على مناحي مختلفة من الوضع، بما في أصل تكوينها من الحياة النامية التي تكافىء حياة أهلها وتماد أزمنتها مهما كثرت أغراض هذه الحياة واستفاضت معانيها واستبحرت في مذاهب العمران، فهي في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزء المتكلم من تلك الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرفها الألسنة والأقلام في مناحي من العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي.وإن صمت الطبيعة البدوية إنما هو في حقيقة الاعتبار جزء متمم في المعنى للغة أهلها، كما أن حركة العمران إنما هي حركة العمل في مصنع اللغة.وليس يخفى أن حياة اللغة وموتها أمران يؤخذان بالاعتبار، فإن اللغة الحية هي التي تكون مُشايعة بأوضاعها لكل ما يجدّ من مستحدثات الحياة، فكلما خلت ألفاظها المتداولة بين أهلها مما يصور معنى جديداً أو يؤدي غرضاً حادثاً، لم تعقم أوضاعها بما ينتج هذا اللفظ الجديد ويسد هذه الخلة الطارئة، فهي بذلك فيما تأخذ وتدع كأنها تتنفس، والتنفس أول صفات الحياة. ولكن اللغة التي ترمى بأنها في سبيل اللغات الميتة، لا يزال يطرأ عليها النقص كلما زادت مستحدثات الحياة، لوقوفها عند حد من الوضع محدود، وقعودها بكل طريق تدفع إليه من طرق التعبير، فلا يبرح أهلها يتناولون من غيرها، ويزيدون نقصها، حتى تصبح بهذه المداخلة لغة جديدة من عمل الزمن، وكأن أصلها بقية من أهلها، وأهلها بقية من أصلها، لفقدان المميزات الجنسية التي أخص دلائلها اللغة. وقد عرّفوا الحي بأنه الكائن الذي ينمو من باطنه، فإذا كان في اللغة مايساعد على نموها المستمر مع بقائها متميزة في نفسها - بحيث تحيل كل ما يداخلها من ألفاظ اللغات الأخرى إلى أوضاعها الخاصة بها والمقومة لهيئتها، فلا تتحيفها الزيادة الطارئة عليها مهما بلغت، ولا تخرجها من حيزها إلى مضطرب لا تثبت لها فيه الجنسية ولا ينطبق عليها وصف الاستقلال - وإلا فتلك هي اللغة التي أحق ما توصفبه أنها سائلة في طرق الكلام، وأن أهلها صعاليك في طرق التاريخ !والعربية قد غنيت بأوضاعها حتى كأنها خلقت لتماد الزمن، وفيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، غير أنه قد أصابها ما أصاب أهلها من تبدد الكلمة واضطراب الأمر ووهن الاستقلال وتمزق المجتمع، فأصبحت بعدهم كأنها محكومة بقوة خفية لا يعرف ما هي ولا يظهر منها إلا أثرها الذي تتبينه فيما لحق اللغة من الضعف وما رهقها من العجز، وفي جمودها على حال واحدة كأنها مقبورة في كتبها منذ تراجع التمدن الإسلامي أيام العباسيين إلى قريب من هذه الغاية. ومتى كانت اللغة صورة الأمة فإن كل ما يعتور هذه يتصل أثره بتلك ضرورة.ولذلك بقيت العربية في نفسها على مرونتها الأولى حتى يتاح لها أقوام كأولئك الأقوام، وتقيّض لها أقلام كتلك الأقلام. وليس من غرضنا أن نُفيض هنا في هذه المعاني، وإنما نريد لنبين أنواع النمو في هذه اللغة، والطرق التي جرت عليها في الوضع، إذ لولا ذلك ما خطت اللغة في التاريخ خطوة واحدة.

طرق الوضع:

وأنت إذا تدبرت المأثور من ألفاظ اللغة، وجدته في الجملة لايخلو من ثلاث:إما أن يكون مرتجلاً أو مشتقاً، أو منقولاً على وجه من وجوه المجاز، وهذه الثلاث هي طرق الوضع التي تقلبت عليها اللغة، وهي تشبه أدوار الخلقة الكاملة، فإنها ثلاثة أيضاً: التركيب، والقوة، والجمال، فالمجاز جمال اللغة، والاشتقاق قوتها، والارتجال تركيب الخلقة فيها، ويندر أن تجد ذلك كله في لغة من اللغات على مقدار ما تجده في العربية، فلا جرم كانت حرية بأن تكون مناط الإعجاز، لأنها الخلقة اللغوية الكاملة.

الارتجال:

هو وضع اللفظ ابتداء في أول أمر اللغة بتقليد الطبيعة كما مر في موضعه، ولا يمكن أن يحاط بأوائل كلامهم، وعلى أي مقادير كانوا يضعونها، غير أنه مما لا شك فيه أنه لم يبق وجه للزيادة على ما ارتجلوه، لتقليبهم صور التراكيب المرتجلة على كل ما في آلات الصوت من المقاطع، بحيث لم يدعوا منها إلا المستكره المبذوء مما يتعتع به اللسان وينبو عنه السمع ولا يكون منه إلا تنكير الأسلوب وتغيير ديباجة اللغة، بيد أن هذا إنما هو في الارتجال الذي تراعى فيه النسبة بين اللفظ الموضوع والمعنى الموضوع له، كمحاكاة الأصوات والحركات الطبيعية ونحوها، أما فيما عدا ذلك فإن العرب كانوا يتصرفون في لغتهم، فيرتجلون ألفاظاً قليلة ليست فيها ولا هي مأخوذة بالاشتقاق، كما يصنع كثير من العامة اليوم، فقد يتفق لأحدهم أن يضع كلمة يرتجلعا لمعنى من المعاني على طريق التظرف والتملح، فلا تلبث أن تشيع وتصير من أصل اللغة، وكذلك كان يفعل العرب. قال ابن جني فيما ينفرد به العربي من اللفظ ولا يسمع من غيره ما يوافقه ولا ما يخالفه: ( إنه يجب قبوله إذا ثبتت فصاحته، لأنه إما أن يكون شيئاً أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشاركه في سماع ذلك منه أحد. . .أو شيئاً ارتجله، فإن العربي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبيه، أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها ولا سبقا إليها.أما لو جاء ذلك عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته، فإنه يرد ولا يقبل ) اه. ومهما يكن من ذلك فإن الارتجال أمر مفروغ منه، لأن تاريخ الشباب كله لا يقع فيه يوم واحد من عهد الطفولة.

الاشتقاق:

كل ما وضع من اللغة ارتجالاً لفإنما وضع لمناسبة بين الدال والمدلول على وجه من الوجوه، ولولا تحقق هذه المناسبة ما تأتى للواضع أن يشتق لفظاً من لفظ، لأن الأصل في الاشتقاق المناسبة في المعنى والمادة، فلولا اعتيادهم مراعاة المناسبة في الوضع الأول ما تنبهوا إليه في الوضع الثاني، لأن بعض الأشياء يدعو إلى بعض، والارتقاء سنة لابد فيها من اطراد النسبة. وعلى هذا أمكنهم أن يجعلوا كل مقطع من المقاطع الثنائية أصلاً في الدلالة، ثم يفرّعون عنه بالاشتقاق معانيه الجزئية المختلفة التي ترجع في أصل الدلالة إليه، فكأن المعاني سلائل مرتبة تنحصر كل طائفة منها تحت جنس معلوم، على ما قرروه في مذهب النشوء والارتقاء.ولا يزال هذا التسلسل متحققاً في اللغات السامية الباقية إلى اليوم، وهو أظهر في العربية منه في أخواتها، حتى ذهب بعض العلماء الذين استَقْروا تراكيب اللغة إلى أن هذا الأصل مستصحب في كل تركيب، بحيث لا يخلو مما يرجعه إليه ولو تأويلاً من طريق المجاز، إلا ما تخلف عن سلسلته لأمر طارىء على أصل الوضع، كأن يكون مبدلاً من لفظ آخر، أو مقلوباً عنه، أو داخلاً في تركيب المادة من لغة أخرى، لأن العلماء الذين دونوا هذه اللغة جمعوها من لغات كثيرة بعد أن تدخلت هذه اللغات بعضها في بعض، لتعاور العرب ألفاظها جميعاً، فخفي بهذا التداخل كثير من وجوه الوضع الاشتقاقي، وأضاع النقل كثيراً من ألفاظ اللغة مما لنثلمت به سلسلة أوضاعها فأصبحت بحيث لا يمكن أن يدل فيها على تحقق التسلسل إلا باعتبار الأغلب الأعم. وقد نقلوا عن بعض المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، وكان بعض من يرى هذا الرأي يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل: ما مسمى ( إذغاغ ) ؟ وهو بالفارسية الحجر، فقال: أجد فيه يبساً شديداً، وأراه الحجر. . . أما خواص أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، وقد عقد لها ابن جني باباً في ( الخصائص ) سنشير إليه عند الكلام على التمدن اللغوي. وأول من ابتدع القول بأن المعاني سلائل مرتبة، وأن الألفاظ المختلفة ترد في الاشتقاق إلى قدر مشترك، هو فيلسوف العربية أبو الفتح بن جني المشار إليه، وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس بهذا الرأي قليلاً. وأما علماء العربية فقد قالوا إن ذلك ليس متعمداً في اللغة، لأن الحروف قليلة وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكاد تتناهى. . .ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة المادة معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها، ولكن التحيل على ذلك في جمع مواد التركيب، كالطلب لعنقاء مغرب، وجاب ذلك عندنا ما تقدم الإيماء إليه، من مداخلة اللغات وتفريط النقلة ونحو ذلك، مما لا ينتظم به أمر التاريخ اللفظي في هذه اللغة. ولابن جني في تحقيق رأيه كلام سابغ الذيل سنشير إليه في الفصول التالية. أما الكلام على الاشتقاق من حيث هو علم ذو أقسام وحدود، فهو مبسوط في مواضعه موكتب الصرف والكتب الأخرى المجردة في هذا العلم، ولا حاجة بنا إليه، لأنه إنما نريد جهة التاريخ منه وكونه سبباً من أسباب نمو اللغة وطريقة من طرق نشأتها. وقدقلنا في تحقيق المناسبة بين الألفاظ والمعاني وأن أكثر أهل اللغة والعربية مطبقون على ثبوتها، لأنها في الحقيقة ليست إلا توسعاً في المناسبة الأولى التي هيأت للواضع أن يضع بالتقليد والمحاكاة.ونحن ذاكرون طرفاً مما يثبت تلك المناسبة:قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ( وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ): أنفق الشيء وأنفذه أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج. وقال في تفسير قوله عز وجل: ( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ): والمفلح ( بالحاء والجيم ): الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو: فلق وفلذ وفلى، يدل على الشق والفتح.وللزمخشري عناية بذلك في مواضع من تفسيره أيضاً. ومن هذه الأمثلة أن تراكيب الهمزة مع الباء تدل على النفور والبعد والانفصال: كأبّ: للسير، وأبت اليوم.اشتد حره فقطع الناس وفصلهم عن أعمالهم، وأبد الوحش: نفر، وأبرالنخل: قطع شيئاً منه، وأبز الظبي: وثب وانطلق، وأبق العبد: فرّ، وأبل: توحش وانفصل عن الناس، وأبه عن الشيء: بعد عنه وتنزه، وأبى الضيم: نفر منه، وهكذا. والألف مع الزاي تدل تراكيبها على الضيق في الأمر، يقال: أزر المجلس: إذا ضاق، وأزق الرجل: ضاق صدره، وأزل: صار في ضيق، وأزم: ضاق عيشه، وأزى الظل: قلص وضاق. وتراكيب الباء مع الالدال تدل على الابتداء والظهور، نحو بدأ الشيء وبدا: أي ظهر، وبدح فلاناً بالأمر: أظهر له من دون روية، وبدح: أظهر التعظيم وبدر إليه بكذا: أظهره له، وبدع أي ابتدأ، وبدخ بالشر: أظهره، وبده بالأمر بديهة: أي ابتدأ به. والباء مع الذال تدل تراكيبها على إخراج الشيء، نحو بذي: أخرج الفحش في كلامه، وبذح وبذل: أعطى فأخرج ما عنده، وبذج: أخرج شِقشِقته، وبذر: أخرج سره أو ماله بغير تقدير، وبذن: أقر بما يخفيه فأخرجه. والباء مع الراء تدل على الظهور، نحو برأ الله الخلق: أظهره، وبرت: دل على الشيء فأظهره، وبرج: ظهر.ومنه التبرج، وبرح الخفاء: ظهر.وبرخ: زاد فظهر فيه الزيادة.وبرَّ: ظهر وبرز كذلك.وبرش: ظهر بياضه.مثلهز وبرض الماء: ظهر. وكذلك الباء مع الزاي.كبزج: أظهر فضائله.وبزح الصيد: خرج.وبزر النبات: خرج بزره.وبزغ الغلام: ظهر ظرفه.وبزغت الشمس: طلعت، وبزقت مثله.وبزل ناب البعير: طلع.وبزن الحق: ظهر.وهلم جراً. ولو استقريت تراكيب اللغة كلها لوجدت مواد كل تركيب ترجع إلى أصل واحد.ولو تأويلاً من طريق المجاز.إلا ما تخلف عن سلسلته لأمر طارىء كما أشرنا إليه في صدر الكلام، وليس يخفى أن سلسلة الاشتقاق في كل لفظة إنما هي نسق تاريخي في تدوين نسبها اللغوي وفروع هذا النسب، وقد بينا من قبل أن الرواة أغفلوا كل ما يتعلق بالجهات التاريخية في اللغة، فلا جرم انثلمت سلاسل الاشتقاق وضاع كثير من تلك الأنساب، إلا ما تدل عليه مشابهات الخلقة اللفظية، وهو ما يعرف بالاستقراء كما مثلنا له آنفاً. وكذلك ترى في أكثر صيغ الأمثلة من الفعل والاسم على السواء، فإن القياس ثابت فيها ثبوتاً بيناً: كصيغتي فاعل وتفاعل، وكوزن فُعلة في الأسماء وغير ذلك مما نبهوا على اطراد القياس فيه وأحصوا شواذه، وهو خارج عن غرضنا في هذا الكتاب. ولو أن أحداً عكف على هذه اللغة فتتبع ألفاظها وتدبر وجوه اشتقاقها وتفقد مواقعها في كلام العرب ورتب صيغها وأوزانها على ما تقتضيه أغراضها بحيث يستقر كل مثال منها نصابه ويرد إلى حيزه - لجاء من ذلك بعلم يكشف عن كثير من أسرار الوضع، ويهتك عن أستار الحكمة المستكنّة في دقائق هذه اللغة العجيبة التي يزيد في العجب منها أنها لغة تلك العقول الفطرية، والفطرة وإن كانت دائماً تختص بمسحة إلهية، إلا أنها تكون أصل الكمال في النفس لا نفس الكمال.وهذه اللغة يوشك أن يكون أمرها معجزاً على ما رأيت بحيث لا يغلو في رأينا من يقول إنها بسبيل من الأوضاع الإلهية ( في التوفيق والإلهام ) لأن أثر ذلك قد ظهر في القرآن.

المجاز:

وهذا هو الوضع الأخير في اللغة، ولذا تجد مراعاة المناسبة فيه على أضعف وجوهها، فكأنهم في الوضع الأول راعوا المناسبة الثابتة التي لا زيادة فيها، ثم توسعوا في هذه المناسبة بنوع من التصرف في الوضع الثاني وهو الاشتقاق، ثم بلغوا آخر حدودها ( المناسبة ) في المجاز، وهذا مما يؤكد أن اللغة كلها حكاية للطبيعة، فإن كان توقيف أو وحي فيكون في هداية العقول إلى أسرار هذه الحكاية، ولا بد في استكناه منطق الطبيعة من الذهن الشفاف والبصيرة النفاذة وغلإلهام الخفي الذي يشبه أن يكون قبساً من النور الإلهي يضيء بين العقل والقلب فلا يقع شعاعه على جهة من الطبيعة إلا كشف منها من معاني الأسرار الإلهية. والمراد من المجاز التوسع في الحقيقة، لأن الألفاظ الحقيقية تمضي لسننها المعروف فلا يبقى ثمة وجه لتقوية الحقيقة المرادة منها بالاتساع أو التوكيد أو التشبيه، وليس يخفى أن الحقيقة الواحدة تتنوع في ذاتها إلى أجزاء متشابهة، وتتنوع في معناها أيضاً على درجات من الضعف والقوة، فإذا كان معنى ( الكوكب ) في الوضع اللغوي الدلالة على هذا الجرم السماوي الذي يشبه نكتة بيضاء في رأي العين، ثم رأيت في عين الإنسان نكتة بيضاء تغشى سوادها - فقد تجزأت الحقيقة النظرية هنا في ذاتها فتطلق على بياض العين ( النكتة ) اسم الكوكب مجازاً للمناسبة بين الاثنين في الشكل، وكذلك تقول في التوكيد: فلان أسد، تريد إثبات شجاعته في النفوس بدرجة متناهية مؤكدة، ثم تقول في التشبيه: فلان على جناح السفر: أي لا يلبث أن يسافر، كأنه طائر بسط جناحه فليس إلا أن يطير وإنما مدار ذلك كله على التوسع في المثال الحسي إذا ضاقت به الحقيقة المألوفة في التعبير. ولسنا نخوض هنا في أنواع المجاز وجهاته وتحقيق القول في الاستعارة وأقسامها، فذلك من موضع علم البيان، بل هو البيان كله على ما قيل، وإنما نتناول الكلام من حيث يتصل بمعنى التاريخ، فالمجاز صنعة حقيقية في اللغة لا تتهيأ إلا بعد أن يكون العرب قد استكملوا أسباب النهضة الاجتماعية من المخالطة واقتباس بعضهم عن بعض واعتبارهم أنفسهم في أمر اللغة مجموعاً معنوياً، فينصرفون إلى تشقيق الكلام وتتبع أظلال المعاني في أجزائه، حتى تتسع لغتهم على نسبة هذا الاجتماع المعنوي، وذلك ما سنفرد للكلام عليه باب التمدن اللغوي. لا جرم كان للمجاز في اللغة هذا الأثر الذي بسط منها حتى فاضت أطرافها على المعاني، وتهيأ فيها من أنواع الوضع وطرق التعبير ما يعدّ في اللغات ميراثاً خالداً تستغل منه المعاني في كل جيل، ويضمن للغة الثروة وإن أفلس أهلها. . . والوضع بالمجاز يعتبر اشتقاقاً معنوياً، فما لم يتهيأ للعرب أخذه من طريق الاشتقاق أخذوه بالنقل من طريق المجاز، وبذلك وسعوا لغتهم من جهات:1 - الإكثار من الألفاظ وتعدد الوضع الواحد تفنناً في التعبير، كما تسمى الخوذة بالبيضة وبالتريكة، وهي بيضة النعام بعد أن يخرج منها الفرخ وكتسمية المطر بالسماء، والنبات بالغيث، ونحو ذلك. 2 - التذرع إلى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات، كتسمية البياض في العين بالكوكب، وغضروف الأذن بالمحارة، والهنية الناشزة في مقدم الأذن بالوتد، وكقولهم: ذؤابة الرّحل، للجلدة المعلقة على آخره وعنق الإبريق، وساق الشجرة، وإبط الوادي، ونحو ذلك. 3 - التذرع إلى الوضع لتمثيل صور المعاني، كقولهم: نبض البرق، إذا لمع خفيفاً، من نبضان العِرق، وسبَحَ الفرس إذا مد يديه في الجري كما يفعل السابح في الماء، ورنقت السفينة، إذا دارت في موضع واحد لا تمضي من ترنيق الطائر، وهو أن يخفق بجناحيه ويرفرف ولا يطير. 4 - الرمز إلى حقائق المعاني، كقولهم: سافر ولا ظهر له، أي ولا دابة يركب ظهرها، وفلان يملك كذا رقبة، أي عبداً، وقطع الأميراللص، أي قطع يده، وبزلت الخمر، أي ثقبت دنها، وهلم جراً. وهذه الجهات الأربع الأصلية تجمع أنواع المجاز وكل ما يحمل على هذه الأنواع، ثم هي معان تشبه أن تكون تاريخية في حركة النمو والاتساع من هذه اللغة، ولذلك استخرجناها معدلنا إليها عن تقسيم علماء البيان، فإن لهم في بحث المجاز كلاماً مستفيضاً مضطرباً لا يؤخذ منه شيء يلتحق بغرضنا في هذا التاريخ. وقد رأينا أن ننقل مادة من مواد اللغة تمثل هذا الوضع.وكيف اتسعت به اللغة حتى قلب المعنى الواحد على صور كثيرة، وهي مما نقله بعض اللغويين مثالاً لما نحن بسبيله، ومثل هذه المادة كثير في اللغة تطفح به معاجمها، وإنما خصها بالذكر لسعة التصرف فيها ووضوح المأخذ، وهي مادة ( ك ف ف ). وأصل المعنى فيها: الكفُّ، وهي الجارحة المعروفة، والكلمة مشتركة بين العربية وغيرها من اللغات السامية، ومأخذها في العبرانية والسريانية من معنى الانحناء والانعطاف.هذا أصلها. ثم اشتقوا منها قولهم: كفَّه عن الأمر، إذا منعه، كأنه دفعه بكفه، فنقلوا معنى الكف إلى لازمها، وهو من المجاز المرسل. وقيل من هذا: كف هو عن الأمر، إذا امتنع، فنقل الفعل من التعدي إلى اللزوم، وهو من قبيل ما سبقه. ثم قيل: استكفَّ السائل، وتكفف، إذا طلب بكفه.ويقال أيضاً: استكف بالصدقة، إذا مد يده بها يعطيها، فضمَّن الأول معنى الاستعطاء، والثاني معنى الإعطاء، وكلاهما مما ذكر. ومن هذا القبيل قولهم: استكففت الشيء، إذا استوضحته بأن تضع كفك على حاجبك كمن يستظل من الشمس، فاستُعمل هنا في معنى آخر من لوازم الكف. ومن معنى كفّ عن الأمر قيل: كُفَّ بصره، وهو من المجاز المرسل، من قبيل استعمال العام في الخاص. وفي مثل مأخذه قولهم: كَفاف من الرزق أي ما كف عن الناس وأغنى. ثم قيل من معنى الكف للجارحة، كِفة الميزان، وكفة المقلاع، لشبهها بالكف في الهيئة، وهي من الاستعارة. ثم استعيرت الكفة لعود الدُّف، لشبهه بكفة الميزان في الاستدارة والإحاطة، ومثلها الكفاف: وهو ما استدار بالشيء. والكفة أيضاً النقرة المستديرة يجتمع فيها الماء، وهي مما ذكر. ومن معنى الاستدارة قيل: كُفة الصائد، وهي الحبالة يجعُها كالطوق، ومثلها كفة اللثة، وهي ما انحدر منها على أصول الأسنان، وكفة القميص، وهي ما استدار حول الذيل، وكذلك كفة الدرع، وهي أسفلها. ثم قيل من هذا المعنى: استكفوا حوله، إذا أحاطوا به ينظرون إليه، واستكفت الحية إذا تُرحت، أي استدارت كهيئة الرحى. ومن كفة القميص قيل: كفة الثوب وغيره، وهي حاشيته. ومن معنى الحاشية قيل: كُفة الشيء، بمعنى حرفه، وكِفاف السيف ( بالكسر ) بمعنى غِراره ( أي حده ) وكل ذلك على التشبيه. ثم قيل من معنى الحاشية: كف القميص، إذا خاط حاشيته. ومن معنى الحرف: كف الإناء، إذا ملأه ملأ مفرطاً، كان المعنى ملأه حتى بلغ كفته. وبقيت معان من هذه المادة ترجع إلى معنى الكف، أو شيء من المجاز المأخوذ عن بعض المعاني الراجعة إليه، بحيث ترى المعاني سلسلة متصلة من أول المادة إلى آخرها.وهذا هو الأصل الذي عليه معظم كلامهم، فإذا تدبرته رأيت أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، وتبينت صحة قولهم: إن منكر المجاز في اللغة جاحد للضرورة ومبطل محاسن لغة العرب. وقد ذكروا أن بعض العلماء يذهبون إلى أن اللغة كلها حقيقة، وأن تسمية الرجل الشجاع بالأسد لغة قوم، وتسمية الحيوان المفترس بالأسد لغة أخرى. . .وهو رأي بين الأفن، وأكبر ظننا أنه لم يقل به أحد وإنما أورده بعض علماء الأصول لأنه ما يُتمحل له ويرد عليه ويكون مادة في الجدل، وذلك من أمرهم والله أعلم.

أنواع النمو في اللغة

تلك هي طرق الوضع التي سلكوا منها إلى اللغة في كل أطوارها، حتى أصبحت من الاتساع والنمو ما هي، ولكن لهذا النمو أنواعاً تحدد في جملتها أجزاء هذه اللغة، وتصف تاريخ اتساعهم فيها، وهي من هذه الجهة تُعتبر تماماً على الذي تقدم وتفصيلاً له، وتلك هي: الإبدال، والقلب، والنحت والترادف، والاشتراك، والتضاد، والمداخلة بالتعريب، والتوليد، ونحن نوفيها حظها من الكلام على مقدار حظها من التاريخ.

الإبدال:

وهو إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، كما يقولون: مدَح، ومدَه، واستعدى عليه، واستأدى. وقد أسلفنا من الكلام على أصل الوضع أن الدورة الجديدة التي دارت بها الحروف بعد وضع المقاطع الثنائية، كانت بالقلب والإبدال، والدليل على ذلك أن أكثر ما يجري فيه الإبدال من اللغة إنما هو الألفاظ الطبيعية الأولى التي كانت من حاجة الإنسان أول عهده بالتعبير: كالقطع، والكسر، والهدم، والشق، والخرق، والفرقة، والتبديد، وهي المعاني الوحشية في لغة الإنسان.ثم لما انقاد الوضع بهذه الطريقة لأهل اللغة، جعلوها من سنتهم وقلبوا عليها الألفاظ الأخرى مما ليس بسبيل من تلك المعاني، والغريب أن فعل القطع يكاد يكون الأصل في أكثر هذه اللغة، فقلما تناولت مادة إلا ورأيت أثره المعنوي فيها، ولو تأويلاً من طريق المجاز، وهذا مما يؤكد أن اللغة نطق عن الطبيعة. ثم إن الإبدال من حيث اعتبار الوضع اللغوي فيه، نوعان:الأول: أن يكون لغات مختلفة لمعان متفقة، كلعلني ولألني،.وإن فَعَلَ، وهِنْ فَعَلَ، ونحوها مما مر في اختلاف اللهجات، فيختلف اللفظان للأسباب اللسانية في القبائل المختلفة، ثم تحفظ صورة كل لفظ على أنها لغة، فلا تشترك العرب في النطق بالصورتين تعمداً منها لتعويض حرف من حرف، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون. وقد سأل اللحياني أعرابياً: أتقول: مثل حنك الغراب، أو مثل حلكه ؟ فقال: لا، أقول مثل حلكه.وسأل أبو حاتم أم الهيثم الأعرابية: كيف تقولين أشد سواداً مماذا ؟ فقالت: من حلك الغراب.فقال: أفتقولينها من حنك الغراب ؟ قالت: لا أقولها أبداً. والنوع الثاني: ما يتعدد فيه الوضع في لغة القبيلة الواحدة، فتقوم كل من الصورتين بمعنى لا يصح استعمال الأخرى فيه، وعلى هذا النوع يتوقف نمو اللغة واتساعها، كقولهم: لطمه: ضربه بكفه مفتوحة، ولذمه: ضربه بشيء ثقيل يسمع صوته، ولثم أنفه: لكمه، ورثمه: كسره، ورضم به الأرض: ضرب، وكذلك مما يرجع إلى معنى الأكل: قضم: أي أكل بأطراف أسنانه، أو أكل يابساً، وخَضِم: أكل بأقصى الأضراس، وكزم الشيء: كسره بمقدم فمه واستخرج ما فيه ليأكله، وكدمه: عضه بأدنى فمه، وقشم: إذا نقَّى من الطعام رديَّه وأكل طيبه، ونحو ذلك من الأمثلة الكثيرة في اللغة، فكل أولئك إنما يقع فيه الإبدال لتجزئة المعاني، فترى الألفاظ متقاربة ترجع إلى مقطع واحد، وهي بعد متباينة في الدلالة، وكذلك ترى معاني كل طائفة منها ترجع إلى جنس واحد ثم تتباين متقاربة، وبهذا يتحقق الارتباط المتسلسل الذي هو برهان التاريخ على النشء اللغوي. وقد تجد للمعنى الواحد ألفاظاً متعددة في اللغة، ثم تجد كل لفظ قد صار أصلاً في الدلالة وتفرعت عنه ألفاظ أخرى على طريق الإبدال، ثم يدل بكل لفظ على جزء من أجزاء المعنى، كما تجد من ألفاظ القطع مثلاً: قط وقصّ، وجدّ، وغيرها، فإن هذه الألفاظ وضعت في الأصل حكاية لأنواع من أصوات القطع، إما حقيقية أو متوهمة، فقد تسمع أنت صوت الشيء المقطوع كأنه ( قط ) ولكن غيرك يتوهمه كأنه ( قت ) وقد يكون لبعض الأشياء المقطوعة أصوات أخرى تحكي ( جد ) أو ( كسّ ) أو ( قصّ ) وغيرها.فنرى اللفظ ( قط ) قد صار أصلاً وتفرع عنه: قطع، وقطف، وقطب، وقطم، وقطل، ونحوها.وترى لفظ ( قصّ ) قد تفرع عنه: قصم، وقصل، وقصب، وقصر، وقصف.ومن لفظ ( جذَّ ): جذب، وجذر، وجذف، وجذم، وهكذا، وكلها معان متقاربة تتقلب معها الألفاظ المتفرعة عن مقطع واحد، وهذا هو أكثر أنواع النمو في اللغة، لأنه أصل نشأتها، وللنحويين وأهل الصرف كلام في الإبدال وحروفه ومقيسه ومسموعه لا يتعلق بغرضنا، ولهذا ضربنا عنه صفحاً.

القلب:

وهو تقديم وتأخير في بعض حروف اللفظة الواحدة، فتنطق على صورتين بمعنى واحد، كقولهم: جذب، وجبذ، وما أطيبه، وما أيطبه.وأهل اللغة يقولون إن كل ما جاء من هذا القبيل فهو مقلوب وبذلك لا يعتبر إلا لغة واحدة من وضع واحد، وكأن هذا التقديم والتأخير إنما هو عارض في المنطق لسبب من الأسباب اللسانية كالخفة والثقل، وتابعهم على ذلك النحويون من الكوفيين، أما البصريون فلا يعتبرون القلب إلا متى رأوا أنه لا يمكن أن يكون اللفظان جميعاً أصلين في المعنى اللغوي بحيث يقصر أحدهما عن تصرف صاحبه ولا يساويه فيه، كقولهم: فلان شاكي السلاح وشائك، وجُرُف هار، وهاير، وحينئذ يعتبرون أوسع اللفظين في التصرف أصلاً للثاني ويعدون اللفظ الثاني مقلوباً عنه، ويكون ذلك عنده من قبيل الوضع الواحد. وكل ما عدا ذلك مما يتصرف فيه اللفظان تصرفاً واحداً، كجَذَبَ، يجذُبُ جذباً وجبَذ يجبِذ جبْذاً، فليس بقلب عندهم، وإنما هما لغتان من وضعين مختلفين، وبذا يعد كلا اللفظين أصلاً مستقلاً. وقد صنف علماء اللغة ما جاء مقلوباً من الألفاظ، وعقد له السيوطيّ في ( المزهر ) النوع الثالث و الثلاثين واستقصى فيه كثيراً من أمثلته، ومنها: صاعقة، وصاقعة، ولعمري، ورعملي، ونحن في ذلك على رأي البصريين لأننا نرى في بعض اللغات المنسوبة ( ومنها هذان المثالان ) ثبتاً لما ذهبوا إليه.

النحت:

وهو جنس من الاختصار: ينحتون من الكلمتين كلمة واحدة: كعبْشمي وعبقسيٌّ، في النسبة إلى عبد شمس وعبد قيس، وكما ينسب المولدون إلى الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة - رحمهما الله - فيقولون: شفعنتي وحنفلتي. ولكن هذا الاختصار إنما هو زيادة في اللغة، لأنه يجعل الكلمتين ثلاثاً كما رأيت، فضلاً عما فيه من معنى التصرف بخفة اللفظ مع جمع المعنيين في بعض أنواعه كما قالوا: عجوز صَهصَلق: أي صخَّابة، نحتوه من: صهل، وصلق، والصلق بمعنى الصوت الشديد، ونحو العجمضي، وهو ضرب من التمر يكون في ضاجم ( اسم واد ) فنحتوه من ( عجم ) أي نوى ( وضاجم ). هذا وقد ذكر ياقوت في ( معجم الأدباء ) في ترجمة الظهير النعمانيّ اللغوي، أن عثمان بن عيسى النحوي البليطي شيخ الديار المصرية كان يسأله ( سؤال مستفيد ) عن حرف من حوشيّ اللغة، فسأله يوماً عما وقع في كلام العرب على مثال ( شقحطب ) منحوت من ( شقّ حطب ) فسأله البليطي أن يثبت ما وقع من هذا المثال فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه وسماها: ( كتاب تنبيه البارعين على النحوت من كلام العرب ). وقد ظن بعض المتأخرين من علماء اللغة أن النحت يقع في الثلاثي أيضاً ومثّل له بقوله: نبض الماء إذا سال، قال: فإنه يصح أن يكون من ( نضّ ) و ( بضّ ) وكلاهما بمعنى نبض. . .وذلك ليس بشيء، لأن النحت لا بد فيه من الاختصار الجامع للمعنيين، وهذا لا تجده في نبض، لأنه مرادف لبضّ ونضّ، ولأن أقرب ما يظن في المأج أن الكلمة مأخوذة من الموج ولازمه الملوحة. والعلماء كلهم مجمعون على أن النحت لا يعرف في الثلاثي. ومن أنواع التصرف بالنحت في العربية هذه الحروف، فإن من العلماء من يذهب إلى أنها بقايا كلمات، وقد نص بعضهم على ذلك من أحرف المضارعة، فقال: إنهم أخذوا الهمزة من ( أنا ) والنون من ( نحن ) والتاء من ( أنت ) وعدلوا عن الواو من هو إلى الياء لكونها أخفّ منه، وجعلوا الأحرف دليلاً على ما كانت تدّل عليه الأصول تقريباً، فكملت المعاني مع وجازة اللفظ. وقد تتبع علماء اللغات بعض الحروف في اللغات السامية ليعرفوا من أين أخذت وكيف انتهت إلى العربية على هذا الوجه فاهتدوا من ذلك إلى بعض ما يرجح أنها منحوتة، ومن هذه الأمثلة التي عينوا أصلها باء الجر، فإنها تستعمل في العربية لمعان كثيرة كالإلصاق والتعدية والاستعانة. . .الخ، والأصل في ذلك الإلصاق كما نصوا عليه ولكنها لا تستعمل في غيرها مناللغات السامية إلا للظرفية، فرأوا أن أصلها ( بيت ) في العبرانية، ثم جاءت ( بي ) في الكلدانية ثم الباء وحدها في العربية، فكأن الباء بقية من لفظ بيت كمل بها المعنى الأصلي مع وجازة اللفظ وسعة التصرف، وهو بحث طريف ظريف.

المرادف

وهو ترادف لفظين فأكثر على معنى واحد، كما تقول: السيف والعضب، والأسد والليث والغضنفر، والخمر والراح والعقار والقرقف، ونحو ذلك، وقد وجدنا كلامهم في هذا النوع يرجع إلى أربعة مذاهب:1 - بعض العلماء ينكر أن يكون في اللغة ترادف مطلق، لأن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعاً من العبث تجلُّ عنه هذه اللغة الحكيمة المحكمة. وهؤلاء يرون أن مكل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة: وأشياع هذا المذهب كثيرون، منهم ابن الأعرابي وثعلب وابن فارس. وقال ابن الأعرابي: إن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا علمه فلم يلزم العرب جهله.ومن أمثلة هذا الذي عرفوه وبينوا وجهه قول العرب: قعد وجلس.قال ابن فارس: إن في ( قعد ) معنى ليس في ( جلس ): ألا ترى أنا نقول قام ثم قعد وأخذه المُقيم والمُقعد.ثم نقول: كان مضطجعاً فجلس، فيكون القعود عن قيام والجلوس عن حالة هي دون الجلوس، لأن الجلس ( في اللغة ): المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله. 2 - بعضهم يذهب إلى إنكار الترادف مطلقاً بقيد الزيادة في معاني الألفاظ المترادفة وبدون هذا القيد: فيعتبر الموضوع للمعنى الأصلي اسماً واحداً والباقي صفات له لا أسماء فأسماء السيف كلّها أصلها السيف وسائرها صفاتٌ له: كامهنّد والصارم والعضب ونحوها: ومن القائلين بهذا الراي أبو علي الفارسيّ شيخ ابن جنيّ. وموضع الاختلاف بين هذا الرأي وما قبله، في اعتبار الفرق بين الاسم والصفة، فأصحاب المذهب الأول يعتبرون المترادفات أسماءٌ تزيد معنى الصفة وهؤلاء يعتبرونها صفات محضة. 1 - والمذهب الثالث إثيات الترادف ولكنهم يخصونه بإقامة لفظٍ مقام لفظ آخر لمعانٍ متقاربة يجمعها معنىً واحد، كما يقال أصلح الفاسد، ولم الشعث، ورتق الفتق، وشعب الصدع ونحوها، أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد فيسمونه المتوارد: كالخمر والعقار، والليث والأسد، وغيرها وهذا المذهب من تقسيم بعض علماء الأصول. 4 - والمذهب الرابع إثبات الترادف مطلقاً بدون قيد ولا اعتبار ولاتقسيم، وعليه أكثر اللغويين والنحاة، وقد قال ابن درستويه في هؤلاء: ( إنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة وعلى ما جرت به عاداتها وتعارفها.ولم يعرفوا العلة فيه والفروق فظنوا أنهما ( أي اللفظين المترادفين ) بمعنى واحد وتأولوا على العرب هذا التأويل من ذات أنفسهم، فإن كانوا قد صدقوا في ذلك عن العرب فقد أخطأوا عليهم في تأويلهم ما لا يجوز في الحكمة ). والصحيح من ذلك كله أن أوضاع العرب تختلف لأنهم متصرفون في اللغة لا يعرفون لها قيوداً اصطلاحية، وما من عربي إلا وهو في حكم العرب كلهم باعتبار الفطرة اللغوية التي يرجع إليها أصل الوضع، لأن اللغة مفردات وضعها أفراد، وقد كانت لهم أشياء كأنها مظاهر الطبيعة المتسلطة عليهم بمعانيها المتناقضة، وصفاتها المتباينة لبلوغها الغاية في مألوفهم من اللذة والألم والمنفعة والمضرة، وهذه يراها كل عربي ويحدث عنها ويصفها على ما يجد في نفسه من أثرها، وعلى ما يراه من صفاتها المختلفة، فلا جرم اختلفت الألفاظ الموضوعة لها بحسب ذلك. ومن هذه الألفاظ ما يكون أسماء من وضع القبائل المتعددة ثم تسمع كل قبيلة لغة الأخرى فيأخذ بعضها عن بعض استطرافاً وتوسعاً في الكلام، ومنها ما يكون صفات يتصرف في وضعها أفراد كل قبيلة فلا تختص بالوضع الواحد لما علمت من اختلاف السبب الحامل على اشتقاقها، ثم تنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العرفية بعد أن تكون قد فشت في الاستعمال وتلتحق ألفاظها بأصل اللغة، وهذا هو القسم الأكبر من المترادفات، كثرت عندهم أسماؤه وصفاته لما أشرنا إليه آنفاً، وأشهر ما ورد منه، أسماء العسل وهي 80 والأسد 350 وقيل 500 وقيل 670 والحيَّة 200 وقيل 500 والداهية 400 وقيل أربعة آلاف والحجر 70 والكلب 70 والسيف 30 وقيل 1000 والناقة 255 والبعير1000 والشمس52 والخمر100 وقيل 200 والبئر 88 والماء 170 وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة كصفات الطويل والقصير والشجاع والجبان والكريم والبخيل ونحوها من الصفات الشائعة التي أجمعوا على مدحها أو ذمها، وقد استوفى صاحب ( المخصص ) في كتابه قسماً كبيراً منها. على أن ثمّة شيئاً هو أكثر ألفاظ العربية ترادفاً وهو ( الميل الجنسي ) فلا تكاد تتصفّح مادة في ( القاموس المحيط ) حتى تصيب من مترادفاته لفظاً أو أكثر، وذلك ممَّا يثبت ما بيناه من سبب الترادف الكثير الذي هو مثار العجب. .. .أما النوع الثاني من المترادف وهو القسم الأصغر منه الذي تقل فيه ألفاظ المعنى الواحد، فإنه يكاد يكون طبيعياً في اللغات كلها، ومأتاه في العربية من اختلاف الأوضاع لتعدد القبائل: كالمدية في لغة دوس والسِّكين في غيرهم، ولا يتعين في مثل هذا النوع أن يكون في كل كلمة زيادة في المعنى والفائدة عما فيي غيره، لأن كلا اللفظين موضوع لمعنى واحد لا زيادة في دلالته، إإلا إذا اعتبرنا أصل الاشتقاق والسبب الحامل للواضع على أن يضع وإلا إذا كان كلا اللفظين يمثل حالة مما يصح فيه الاختلاف كجلس وقعد مثلاً، وتجد لأهل الاشتقاق في هذا المذهب تعسفات كثيرة وتأويلات باطلة كقول بعضهم إن الإنسان سمي إنساناً باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس وسمي بشراً باعتبار أنه بادي البشر. . .فكأن لفظ النسيان الذي يدل على معنى جزئي معقول وضع قبل لفظ الإنسان الذي هو مدلول اللغة كلها.وذلك هو التاريخ الميت الذي حسابه عند ربه. وقد أفرد بعض العلماء أنواع المترادف بالتأليف، فوضعوا كتباً في أسماء الأسد والحيَّة والسيف والداهية وغيرها، ولصاحب ( القاموس ) كتاب سماه ( الروض المسلوف، فيما له اسمان إلى الألوف ) ولم يعثر عليه أحد ولا رأينا منه مادة منقولة في كتاب من الكتب.

المشترك:

وهو عكس المترادف، لأنه مجيء اللفظ الواحد لمعنيين فأكثر: كالأرض لهذا البسيط، ولأسفل قوائم الدابة، وللنُّفضة والرِّعدة وللزكام، وأرض الخشبة، وهو أن تأكلها الأرضة.وهذا لا شك في أن مأتاه من تعدد الوضع وتباين اللغات، لأن الألفاظ متناهية والمعاني لاتتناهى، فإذا وزعت هذه على تلك لزم الاشتراك واختصاص اللفظ الواحد بمعنيين أو أكثر.والقسم الأكبر من المشترك كلمات معدودة، أشهرها ما تعلق عليه شعراء المتأخرين كما ستعرفه في بحث الصناعات اللفظية، وجملة ذلك خمسة ألفاظ وهي: العين، والخال، والهلال، والغرب، والعجوز. فمن معاني العين مثلاً: عين الإنسان، والنقد من الدراهم والدنانير، ومخرج ماء البئر، ومطر أيام لا يقلع، والجاسوس، ونفس الشيء. . .الخ وقد توسع المتأخرون من الشعراء في معاني هذه الكلمات لتبلغ بها أنفاس القوافي كما سنذكره في موضعه إن شاء الله.لا جرم أن الاشتراك وجه من وجوه الوضع في اللغة، فإن أكثره راجع إلى الاشتقاق والمجاز كما يقال مشى من المشي، ومشى إذاكثرت ماشيته، وكما نقلوا من أسماء الطير لأجزاء الفرس، فسموا العظم الذي في أعلى رأسه بالهامة وهو اسم طائر، وسموا دماغه الفرخ، والجلدة التي تغطي الدماغ بالنعامة، والعظم التي تثبت عليه الناصية بالعصفور. . .الخ وهي عشرون اسماً.

المشجر والمسلسل:

وقد استخرج اللغويون من الاشتراك في اللغة ومداخلة الكلام للمعانني المختلفة نوعاً سموه المشجّر وبعضهم يسميه المسلسل، متابعة لرواة الحديث فيما يناظر هذا النوع عندهم، وذلك أن يجيئوا بالكلمة المشتركة فيعتبرونها شجرة يفرعون من معانيها المختلفة فروعاً ويسترسلون في تفسير الكلام على الوجه المشترك حتى تبلغ الشجرة مائة كلمة أو أكثر، وكلها متسلسلة من كلمة واحدة.

تاريخ هذا النوع:

وأول من وضع كتاباً في ذلك أبو عمرو المطرز الراوية المتوفى سنة345 فقد عمل عليه كتابه الذي سماه ( المداخل في اللغة ) وكان يعاصره أبو الطيب اللغوي المتوفى بعد سنة350 بقليل، فعمل كتاباً سماه ( شجر الدرّ ) وجعل كل شجرة مائة كلمة، إلا شجرة ختم بها الكتابة عدد كلماتها 500 وقال في كتابه: إنما سمينا الباب شجرة لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي تداخله.فأخذ وضع المطرز وزاد فيه وابتدع له تسمية جديدة، ثم جاء أبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي المتوفى بمدينة قرطبة سنة 538 فوضع كتابه الذي سماه ( المسلسل ) وقال في نقدمته: ( كان سمع علي كتاب المداخل في اللغة ) لأبي عمرو المطرز - رحمه الله -، فاستتزرته لقدره، ولم أحظ بهلاله فيه ولا ببدره، فرأيت أنه رأي لم يستوف تمامه وغرض لم تقرطسه سهامه، ولعله إنما ارتجله ارتجالاً، وجرت ركائبه فيه عجالاً، فلم يدمث حزنه ولا أقام وزنه، ولا استوفى غرره، ولا استقصي درره، فحركني ذلك إلى صلة ما ابتدأ، وتمكين ما رسم فيه وأنشأ. وقد ضمن كتابه خمسين باباً افتتح كل باب منها بشعر عربي وختمه بمثل ذلك.

أمثلة:

من أمثلة كتاب أبي الطيب:( شجرة ): العين عين الوجه، والوجه القصد والقصد الكسر، والكسر جانب الخباء، والخباء مصدر خابأت الرجل إذغ خبأت له خبءً وخبأ لك مثله، والخبء السحاب. ثم انسحب على هذا الأثر بعد ( العين ) وقد نقل السيوطي هذه الشجرة في مزهره في النوع الحادي والثلاثين. ومن أمثلة المسلسل هذا الفصل الأول فيه وقد حذفنا شواهده اختصاراً، قال: أنشد أبو عبيدة لصبيان الأعراب وتروى لامرىء القيس:

لمن زحلوقة زلُّ

بها العينان تنهلّ

ينادي الآخر الألُّ

ألا حلوا ألا حلوا

الأل الأول، وأول يوم الأحد، والأحد هو الوحد، والوحد الفرد، والفرد الثور، والثور الظهور، والظهور الغلبة، والغلبة جمع غالب، وغالب أبو لؤي، ولؤي تصغير اللأي، واللأي الثور والثور فحل البقر، والبقر الفرق، والفرق تباعد ما بين الثنايا، والثنايا العقاب، والعقاب الموالاة والموالاة المظاهرة، والمظاهرة لبس ثوب على ثوب، والثوب الرجوع والرجوع الكر، والكر حبل النخل، والنخيل الخيار، والخيار الحكم، والحكم الحكمة والحكمة العلم والعدل، والعدل القيمة، والقيمة الثمن، والثمن العوض، والعوض البدل والبدل الخلف، والخلف الجبر، والجبر إصلاح الكسر، والكسر كسر جانب البيت، والبيت الزوج، والزوج النمط، والنمط من الناس الضرب، والضرب من الرجال الممشوق القد، والقد قطع السير، والسير سرعة المشي، والمشي سعي الواشي، والواشي المحسن والمحسن اسم إنسان، والإنسان صبي العين، والعين خاصة الملك، والملك الصيدن، والصيدن الثعلب، والثعلب ما يدخل السنان من القناة والقناة القامة، والقامة جمع قائم، والقائم مقبض السيف، والسيف الضرب به، والضرب الذهاب في الأرض، والأرض الرعدة، والرعدة الرعش، والرعش سرعة الظليم، والظليم اللبن قبل الروب، والروب خثارة النفس من كثرة النوم، والنوم الكرى، والكرا طائر، والطائر عمل العامل، والعامل من الرمح الصدر، والصدر ( الأول ) اه. وهذا الاتساع مما اختصت به العربية دون سائر اللغات، ولمشجر معنى آخر في صناعات النظم في موضعه من ( بابا الصناعات ).

الأضداد:

والتضاد نوع من الاشتراك، وهو من أعجب ما في هذه اللغة، لأنه إيقاع اللفظ الواحد على معنيين متناقضين، ومثل ذلك لم تصح فيه الحجة ولم ينهض به الدليل كان عبثاً، لما فيه من التباس أطراف الكلام وروجع بعضه على بعض بالنقض وإن أصحب من القرينة بما يوضح تأويله ويهين جهة الخطاب فيه، وذلك ما لا يمكن أن يغمز فيه على العربية وهي بخصائصها وسنن أهلها في الوضع والتصرف تعتبر كالعقل المدرك في جمجمة اللغات، وحاصل كلامهم في الأضداد يرجع إلى أربعة مذاهب:1 - إبطال الأضداد وأن اللغة في ذلك تجري على وجد واحد، وهذا مذهب لم نتجققه ويم نتصفح شيئاً من آراء القائلين به، وإنما أخذناه مما نقله السيوطي في ( المزهر ) عن ابن درستويه ( المتوفى سنة 347 ) في ( شرح الفصيح ) قال: ( النوء: الارتفاع بمشق وثقل، ومنه قيل للكوكب: قد ناء إذا طلع، وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضاً، وأنه من الأضداد، وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا الذي علمناه في إبطال الأضداد. .). 2 - إثبات التضاد متى كان إيقاع اللفظ على الضدين في لغة القبيلة الواحدة، لأن التضاد يكون محققاً في الوضع حينئذٍ، ومن أصحاب هذا الرأي ابن دريد، قال في الجمهرة، الشعب الافتراق، والشعب الاجتماع، وليس من الأضداد وإنما هي لغة لقوم. 3 - إثباته على أن لا يكون من وضع القبيلة الواحدة، لأنه من المحال أن يكون العربي أوقع اللفظ على الضدين بمساواة بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي نتن العرب والمعني الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء، وذلك أي الجمهور من العلماء. 4 - إثباته مطلقاً من وضع واحد أو متعدد، واعتبار الضد معنى مشتقاً من أسصل الوضع، فالأصل المعني واحد ثم تداخل تعلى جهة الاتساع، وأصحاب هذا الرأي يعتون لذل بإمكان رجوع الضدين إلى بابا واحد في الاشتقاق أحياناً، كقولهم: الصريم، يقال لليل وللنهار، لأن كليهما ينصر من الآخر، فأسصل المعنيين من بابا واحد وهو القطه. وهذا المذهب كما ترى جدلي، ونظن القائلين به من علماء الكلام. والذي عندنا في ذلك أن التضاد ليس قديماً في اللغة، ولا هو من سنن الوضع عند العرب، لأنه لا تمس إليه الحاجة الطبيعية، وليس في كل ما ورد من ألفاظه لفظة واحدة تفتقر إليها اللغة، فلا بد أن يكون أصله حادثاً في زمن النهضة التي تقدمت الإسلام حين اختلطت القبائل وانصرف العرب إلى زينة المنطق والتملح في الكلام، فهو تفنن تدخله بعض القبائل في لغتها وتتوسع به لإحدى المناسبات المرهونة بأوقاتها، ثم يعرفون به ويمضون عليه في التعبير فيثبت في ميراث القبيلة من اللغة. ومما يرجح ذلك أن الألفاظ التي يتحقق فيها معنى التضاد الطبيعي قليلة: كالسدفة للضوء والظلام، والصريم لليل والنهار، والجون للأبيض والأسود، والسجود للانحناء والانتصاب، ونحوها، وقليل منها منسوب للقبائل التي استملته على وجهيه. أما أكثر ما يعدونه من الأضداد فمعظمه حادث في الإسلام، اقتضاه تصرفهم في اللغة على ضروب من الإشارة والإيجاز، فهو تفنن محض لا يرجع إلى الوضع الواحد ولا المتعدد، بل يكاد يعد نوعاً من البديع أو الصناعات اللفظية، ومن يقرأ كتاب ( الأضداد ) لأبي بكر بن الأنباري، ويتدبر معاني ما فيه ويعتبر نسبة الشواهد التي جاء بها يتحقق ما ذهنبا إليه، وقد رأيناهم ربما اختلفوا في تفسير الكلمة فعدوا ما يقضيه الاختلاف من التضاد أمراًَ واقعاً في حقيقة المعنى، كاختلافهم في معنى ( أشد ) من قوهم: بلغ فلانٌ أشده، فإن نهم من يفسرها ببلوغ ثماني عشرة سنة، ومنهم من يقول ببلوغ أربعين أو ثلاث وثلاثين، وبهذا الاختلاف المتناقض يعدون اللفظة من باب الأضداد. .وربما تزيد بعض أهل اللغة فيتوسع في تفسير الكلمة بالمعنيين المضادين ليدل بذلك على اتساع علمه، كقول بعضهم في ( الضد ) نفسه: إنه يقع على معنيين متضادين، يقال: فلان ضدي، أي بخلافي، وهو ضدي: أي مثلي، قال ابن الأنباري، وهذا عندي قول شاذٌ لا يعمل عليه، لأن المعروف من كلام العرب: العقل ضد الحمق، والإيمان ضد الكفر، والذي ادعى من موافقة ( الضد ) للمثل لم يقم عليه دليلاً تصح به حجته. ولو صح أن التضاد قديم في اللغة وأنه ثابت في أصل الوضع، لفسد هذا الوضع ولبطلت حكمته، ثم لابد أن يكون من اثر ذلك شيء كثر في منقول اللغة، وهو خلاف الواقع، حتى إن العلماء كانو يتميزون من هذا النوع بمعرفة ألفاظ معدودة، كالألفاظ التي عقد لها أبو عبيدة في ( الغريب المصنف ) باب الأضداد، وهي أربعون لفظة، وهذا ابن الأنباري المتوفى سنة 328 وهو من أوسع الناس حفظاً للغة، وقد ألف كاب ( الأضداد ) الذي قالوا إنه لم يؤلف في لأضداد أكبر منه، وذكر في مقدمته أنه نظر في الكتب التي أحصيت لفيها الحروف المتضادة، فوجد كل واحد مكن أصحابها أتى من الحروف بجزء واسقط جزءاً، فجمعها في كتابه ( لسيتغني الناظر فيه عن الكتب القديمة المؤلفة في مثل معناه، إذا اشتمل على جميع ما فيها، ومع ذلك لم يشتمل كتابه إلا على قريب من 300 حرف لا يتحقق التضاد في نصفها، والباقي متجوزٌ به ومتوسع فيه. أما الألفاظ التي رويت من هذا الباب ونسبوها لقبائل مسماة، وفقد حرضنا على جمعها اتباعاً لطريقتنا التي نحوناها في هذا التاريخ، لأنا نرى في مثل ذلك أشباحاً للمعاني التاريخية التي ذهبت في آفاقها، والشبح إن لم يفصل معاني جسمه ولم يضبط أجزاءه، فلا اقل من أن يعين موقعه ويظهر منه صورة حجابه، وتلك الألفاظ هي:الرجاء: يستعمل لمعنى الشك، والطمع، واليقين، وكنانة، وخزاعة ونضر هذيل يقولون: لم أرج، ويريدون لم أبال. وبنو عقيل تقول: لمقت الكتاب ألمقه لموقاً ولمقاً، إذا كتبته، وسائر قيس يقولون: لمقته لموقاً إذا محوته. والسامد في كلام أهل اليمن: اللاهي، وفي كلام طيئ: الحزين. يقال: شريت إذا ابتعت، ولكنها بمعنى ( بعت ) لغة الغاضرة. والسدفة يذهب بنو تميم إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء. حاب الرجل فهو حائب، إذا أثم، والحائب في لغة بني أسد القائل. المعصر في لغة قيس وأسد: التي دنت من الحيض، وفي لغة الأزد: التي ولدت، أو تعسنت. يقال: عين، للخلق كالقربة التي تهيأت مواضع منها للتقب، وطيئ تقول عين للجديد. المقور في لغة الهلاليين: وفي لغة غيرهم: المهزول. الساجد: المنحني، عن بعض العرب، وهو في فى طيئ: المنتصب. القلت في كلام أهل الحجاز، نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيغرق فيها الجمل والفيل لو سقط فيها، وهي في لغة تميمة وغيرهم نقرة صغيرة في الجبل يجتمع فيها الماء. زرقة بمعنى أناله، ولكنها في لغة الأزد بمعنى شكره. وهذا كل ما أمكن العثور عليه في كتب اللغة وغيرها، وهو متمم لما استقصيناه من لغات العرب.

الدخيل:

وهو ألفاظ لغات العرب من كلام الأمم التي خالطتها فتفوهت بها العرب على منهاجها لتدل في العبارة بها على ما ليس من مألوفها، وتجعل منها سبيلاً إلى ما يجد من معاني الحياة، لأن أرضهم وديارهم لم تكن الأرض كلها فتنحصر أفلاذها ونتائجها بين أيديهم حتى يتعين عليهم أن يضعوا لكي شيء ضريبة من اللفظ ونديده من التعبير، والعجيب أن طبيعة أرضهم ظاهرة التأثير فيما أعربوه، فهم لم يعدوا به حد الضرورة، ولا تجاوزوا مقدار الحاجة الماسة، ومما جعل هذا النوع في لغتهم قليل النماء بادي الإمحال. بل الدخيل في لغة العرب يكاد يكون صورة جغرافية لما عرفوه مما خرج عن حدود جزيرتهم، وقد كان شعراؤهم وتجرهم وأهل الأسفار منهم يحملون إليهم التواريخ والأحاديث كما يحملون عروض التجارة من مصر والحبشة وفارس والهند والروم، فيدخل من ذلك في عاداتهم وشعائرهم ويلحقون ألفاظه بلغتهم، سواء منها ما جعلوه على أبنيتهم وما لم يجعلوه، لأن قواعد اللغة يومئذٍ لم تكن كما هي اليوم في حركات الأقلام، ولكنها كانت في حركات الألسنة، وبالجملة فإنهم لم يتناولوا اسماً من أسماء الأجناس أو الأعلام إلا غيروه متى كان فيه ما ليس من حروفهم، ورما عادوا فغيروا في الحروف العربية أيضاً وتصرفوا في الكلمة بالحذف والزيادة، مبالغة في تحقيق الجنسية اللغوية، أما إن كانت حروفهم الاسم الأعجمي من جنس حروفهم فقد يتركونه على حاله، نحو خراسان، إذ ليس في أبنيتهم فعالان، وخرم، ألحقوه ببناء سلم. فموضع التصرف كما رأيت إنما هو في حروف الكلمة حتى تخرج على وجه من الوجوه العربية الفطرية التي لا يراعي فيها غير الخفة والثقل، وليس غير الحرف اللفظي ما يغمز مواضع الإحساس من ألسنتهم، كما فصلناه في بابه، قال أئمة العربية: تعرف عجمة الاسم بوجوه:1 - النقل، بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية. 2 - خروجه عن أوزان الأسماء العربية، نحو إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي. 3 - أن يكون أوله نون ثم راء، نحو نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. 4 - أن يكون آخره زاي بعد دال، نحو: مهندز، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. 5 - أن يجتمع فيه الصاد والجيم، نحو الصولجان والجص. 6 - أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو المنجنيق. 7 - أن يكون خماسياً أو رباعياً عارياً من حروف الذلاقة، فإنه متى كان عربياً فلابد من أن يكون فيه شيء منها. وقالوا:1 - الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذو لقي، ولهذا ليس ( الجبت ) من محض العربية - وهو في القرآن في قوله تعالى: ( يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ ). 2 - الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية، ولهذا كان ( الطاجن والطيجن ) مولدين، لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي. 3 - لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط فصاده بدل من السين. 4 - ينذر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كورل ونحوه. 5 - قال البطليوسي في ( شرح الفصيح ): لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال إلا قليل، ولذلك أبي البصريون أن يقولوا بغداد. 6 - قال ابن سيده في المحكم، ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات. هذا، وقد وجد الباحثون بعد الاستقصاء أن أكثر ما دخل العربية من أسماء المعبودات والمصطلحات الدينية فهو من الهيروغليفية والحبشية والعبرانية، وكلفظ النيب، فإنه هيروغليفي، ومعناه في الأصل، عميد أو رب المنزل، وكلفظة منبر: فإنه معرّب، ومكبر بالحبشية، وكألفاظ: الحج والكاهن، وعاشوراء، وغيرها، من العبرانية. أما الأسماء العقاقير والأطياب والجواهر فأكثرها هندي كالمسك، فإنه في اللغة السنسكريتية ( مكشل ) والزنجبيل وهو فيها ( ونجابير ) والفلفل وهو ( ببالا وفيفالا )، وهكذا. وأكثر ما يكون من أسماء الأطعمة والثياب والفرش والأسلحة والأدوات فهو من الفارسية: كالسبكاج، والديباج، والخز، والخوذة، والإبريق، والطست، وغيرها. وفي ( المزهر ) فصلٌ معقود لألفاظ أخذتها العرب من الفارسية والرومية والسريانية والنبطية وغيرها، ولكن علماء اللغة كانوا يخلطون في ذلك لأنهم غير متحققين بتلك اللغات ولا بأكثرها، والعجيب أنهم يردون أكثر المعربات إلى الفارسية، ولم نكن نظن أن لذلك سبباً غير شيوع هذه اللغة أيام العباسيين، حتى وقفنا على أن مرجع تلك النسبة إلى العصبية، فإن كثيراً من العلماء كانوا موالي أو فرساً، وقد نصوا على أن بعضهم - كحمزة الأصبهاني والأزهري وغيرهما - كان يتحملون لذلك، تكثير اً لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصباً لهم. وبلغ من ذلك أن منهم من زعم أن النبي تكلم بالفارسية، واشتهر بين الأعاجم حديثان: أحدهما قوله فيما زعموا: إن جابراً صنع لكم سور أي ضيافة. والثاني وله: العنب دو دو والتمر يك: أي في تناولهما مثنى وفرادى، وقد حقق العلماء أن لا أصل له، وإنما يتوجه على تلك العصبية التي تشبه أن تكون ديناً لغوياً تزعم العربية على انتحاله. ومن المعرب كلمات معدودة استعملها العرب ولها رديف في لسانههم: كالتامورة للإبريق، والثقوة للسكرجة، والمشموم للمسك، والناطس للجاسوس، ونحوها، ولا يعقل أن يستعمل العرب هذه الألفاظ على أنها مرادفات لأوضاعها في لغتهم، لأنهم لا يبلغون بالمعرب قوة كلامهم بالضرورة من حيث إنه دخيل على الأوضاع العربية فهو ليس في معنى الأصيل إلا حيث تخلو اللغة من نديده، وعندنا أن بعض تلك الألفاظ إنوما كان لمعان غير محدودة بما يطابق المعنى الدخيل: كالمشموم، فإنه إذا أطلق على المسك بالعرف لا يطلق عليه بالحد، بل يبقى من الألفاظ المشتركة، وحينئذٍ كانت اللفظة الدخيلة أوفى بالحاجة وأصح في تأدية المعنى اللغوي بحده، وقد يكون بعض تلك الألفاظ من وضع قبيلة بعينها، ثم تتناول القبائل الأخرى اسمه بالتعريب لخلو لغتها منه أو لقربها من أسواقه واختلاطها أهله، فينطق بالأصيل قوم وبالدخيل أقوام، وقلة هذه الألفاظ المشار إليها مما يحقق ظننا فإن كل ما جمعوه منها نيف وعشرون لفظة.

الدخيل في الإسلام:

ولما فتحت الأمصار على المسلمين ودان غير العرب للإسلام، فشت في منطق المتحضرين ألفاظ كثيرة من الدخيل بحكم الاختلاط والمعاملة، إلا أن أكثرها لم يلتحق باللغة لأن الرواة أهملوه، وكان هذا الدخيل أول أمره بدء انحراف الألسنة عن العربية الفطرية في تاريخ اللحن كما سيأتي في موضعه ومن ذلك ما ساقه الجاحظ من لغة أهل المدينة، فإنه ذكر أنهم علقوا ألفاظاً من قوم من الفرس نزلوا فيهم، فسيمون البطيخ: الخربز، والسميط، وأهل الكوفة يسمون المسحاة، بال والسوق: بازار، وذلك كله فارسي. وكان الأعراب الأقحاح يعجبون لمثل هذا ولا ينطقون به وقد حكى أبو مهدية الأعرابي - ممن أخذت عنهم اللغة - بعض ألفاظ أعجمية كانت فاشية لعهده فأنكرها، وإنما ضربها مثلاً لغيرها فقال:

يقولون لي ( شنبذ ) ولستُ مشنبذاً

طوالَ اللّيالي ما أقام ثبيْرُ

ولا قائلاً ( زودا ) ليعجلَ صاحِبي

( وبستان ) في قولي عليّ كبيرُ

ولا تاركاً لحني لأتبعَ لحنهمْ

ولو دارَ ضرفُ الدَّهرِ حيثُ يدور

على أن من الأعراب من كان يستظرف بعض الكلمات الأعجمية فيقحمها في شعره على جهة التملح والاستظراف، ونقل الجاحظ من ذلك بعض أبيات في كتابه ( البيان ). ثم لما انقضت الدولة الأموية وهي بقية العهد العربي، أقبل العباسيون على اتخاذ البطانة من الفرس والديلم وغيرهم، وهم الذين كانت لهم اليد في بث العلوم واتخاذ المترجمين ونقل الكتب عن الفارسية والهندية واليونانية مما سنفصله في مكانه، فابتدأت من ثم صنعه التعريب، وداخلت اللغة كلمات كثيرة من مصطلحات العلوم: كالطب والفلك والهندسة ونحوها. ولما أنشأ المأمون دار التعريب التي سماها ( دار الحكمة ) وهي دار كتبه العظيمة، أرصد فيها علماء التهذيب الكتب المترجمة وتوجيه الأسماء المعربة من الأعلام والأجناس على ما يناسب المنطق العربي، فكانوا ينجون في ذلك منحي العرب، ويتصرفون في الأسماء بالتغيير الإبدال والحذف، وهذا هو وجه الصعوبة في التعريب، لأنه لا ضابط له ولأن الألفاظ العربية محصورة الأوضاع محدودة الصيغ، لا تقبل الزيادة عليها إلا منها، ولا يمكن أن تقحم فيها الألفاظ الأجنبية إلا بعد أن تجانسها وتؤاخيها. ومن أمثلة هذا التغير الذي جرى عليه العرب ومن بعدهم في أسماء الأعلام: يحيى في يوحنا، وقابيل في قايين، وعيسى في إيسوس وطالوت في جليات، والضحاك في ده آك، والأشكري في أسكاريس، وشمشقيق في زيميلساس وسجسطليوس في سكستيلس، وإشبيلية في هسياليس، وطيطلة في تولاده، وغير ذلك كثير تطفح به كتبهم. وهذا التغيير الذي لا ضابط له كان سبباً من أسباب الفساد والتحريف في الكتب، حتى لقد نجد الاسم الواحد يتقلب على صور شتى، وبذلك تضيع حقيقته التاريخية: كفيلبس أبي الاسكندر، فإنك تجد في كتب التاريخ العربية: فيلقوس، وفيلثوس، وفيلنوس، وفيلبوس، وقنلتوس، وقد جاء في تاريخ القرماني أفطياقوس في أنطيخوس، ثم جاء هذا الاسم في موضع آخر من التاريخ نفسه على هذه الصورة: أبطيحش. . . ومن مثل هذا الاختلاف الذي لابد منه تنبه ابن خلدون حين اعتزم وضع تاريخه المشهور إلى وجوب ضبط هذه الأسماء الأعجمية على وجوهها التي تلفظ بها في لغاتها، فاصطلح لذلك على وضع جديد في الكتابة سنذكره في الكلام على الخط مع ما كان عند علماء العرب من مثله. ولم يكد ينقضي عصر التعريب العلمي عند العباسيين بعد أن دالت الدولة وتراخت الهمم، حتى استعجمت اللغة وطم الدخيل على المنطق، لأن الذين تولوا أمر التعريب يومئذ إنما هم الصناع والمحترفون لا الكتاب والمؤلفون، وبذلك صار الدخيل لغة في التاريخ بعد أن كان تاريخاً في اللغة. وبقي من هذا الفصل كلام في كيفية التعريب، واختلاف الكتاب فيه، والحروف التي يطرد فيها الإبدال، والألفاظ التي عربها المتأخرون أو اصطلحوا على تأدية معانيها، ونحو ذلك مما لا تعلق له بالتاريخ، فأمسكنا عن إيراده وإن كان ثروة من الكلام. أما الكتب التي وضعت في المعرب والدخيل فأجمعها كتاب ( المعرب ) لأبي منصور الجواليقي المتوفى سنة 539 و ( شفاء الغليل ) للخفاجي من أدباء القرن الحادي عشر، وكلاهما متداول مشهور. المولد:ويسمى المحدث أيضاً، ويراد به في الاصطلاح اللغوي: ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفاظهم، وهم الطبقة التي وليت العرب في القيام على لغتهم من المتحضرين.وذلك يشبه الوضع في بادئ الرأي، لأنه استقلال بالمنطق عن الطريقة التي انتهجها العرب، والعلماء لا يقلبون الوضع ولا يصححون الاستعمال إلا من عربي، لمكان السليقة واعتبار النحيزة، ولذا ميزوا بين الكلام فيما ينقلونه، فقالوا: هذه عربية، وهذه مولدة. وشرط المولد عندهم أن لا يكون في استعمال أهل البادية ولا في العتيق من كلام العرب، وبهذا قال بعضهم إن ( الغضارة ) مولدة، لأنها من خزف، وقصاع العرب من خشب. وفي ( أمالي ) ثعلب ما يفهم منه أن المولد عنده كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة بنوع من أنواع التغيير، كأن يكون مهموزاً فتدع همزه، نحو هناك الطعام، في هنأك، أو تبدل الهمزة فيه نحو واخيته في آخيته، أو تسقطه، نحو قفلت الباب، في أقفلته، أو لا يكون مهموزاً فتهمزه.نحو رجل أعزب، في عزب، أو يكون مشدداً فتخففه، نحو فوهة النهر، في فوّهته، أو يكون مخففاً والعامة تشدده، نحو الدخّان في الدخان، أو يكون ساكناً وتحركه، نحو حلقة الباب، وهي الحلقة، أو تبدل فيه حرفاً بحرف نحو الزمرد وهو بالذال، أو يكون مفتوحاً فيكسرونه، نحو الكتان وهو بالفتح، أو مكسوراً ويفتحونه، نحو الدهليز وهو بالكسر، وهلم جراً. وفي كتاب ( أدب الكاتب ) لابن قتيبة أمثلة كثيرة من هذه الأنواع. الألفاظ الإسلامية:وقد سبقت التوليد طبقة من الوضع العربي خرجت ببعض الكلام في الاشتقاق عن معاني الجاهلية، وذلك ما يسمونه بالألفاظ الإسلامية، وقال ابن فارس في أسبابها: كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفى الآخر الأول.فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن، والمسلم، والكافر والمنافق، وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان، وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائطاً وأوصافاً بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمناً، وكذلك الإسلام والمسلم: إنما عرفت منه إسلام الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر، فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع. ومن هذا الضرب كل ما استحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسماء: كمصطلحات الفقه والنحو والعروض وغيرها مما يكون له اسمان: لغوي وصناعي، والأصل في جميع ذلك الألفاظ الشرعية التي نقلها النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة إلى الشرع كما رأيت. وقد كان مثل هذا النقل المجازي في الجاهلية أيضاً، لأنه سبب من أعظم الأسباب في نمو اللغة كما تقدم في موضعه، ولكن لم ينسب من ذلك شيء لناقل معين فيما علمنا.إلا كلمة واحدة ذكرها الجاحظ في كتاب ( الحيوان )، وهي فيما يقال: إن أول من سمى الأرض التي لم تحفز قط ولم تحرث إذا فعل بها ذلك ( مظلومة ) النابغة. . .وقد تبعه العرب على ذلك، ومنه قيل: سقاء مظلوم، إذا أعجل عليه قبل إدراكه.وقال الجاحظ في جزء آخر من ( الحيوان ) وقد ذكر هذه الكلمة: إن النابغة ابتدأ هذا الاسم على الاشتقاق من أصل اللغة، وإن العرب اجتمعت على تصويبه وعلى اتباع أثره. ومما يلتحق بفصل الألفاظ الإسلامية، كلمات عربية كرهوا النطق بها في الإسلام، كأنهم من خوفهم على العرب أن يعودوا في شيء من أمر الجاهلية، احتاطوا فمنعوهم من الكلام لذي فيه أدنى متعلق.وأصل ذلك ما نه عنه النبي صل الله عليه وسلم نحو قوله: ( لا يقولن أحدكم لمملوكه: عبدي وأمتي، ولكن يقول: سيدي وسيدتي ).وعلة هذا المنع ظاهرة، ولكن فيما كروه أشياء جاءت بها الروايات ولا تعرف وجوهها.قال الجاحظ: ( ولم نسمع في ذلك أكثر من الكراهة، ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وق اقتصروا على ظاهر الرواية دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدة واحدة ).ومن ذلك قول أبي مسعود وأبي هريرة: ( لا تسبوا الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم ) وقد وفعوه إلى لنب يصلى الله علي وسلم.وروا عن أبي عباس أنه قال: ( لا تقولوا: والذي خاتمه على فمي، فإنما يختم الله - عز وجل - على فم الكافر ).ومما كرهه ابن العباس قولهم: قوس قزح، وقال: قزح شيطان فكأنه كره ما كانوا علي من عادات الجاهلية في الإضافة إلى الأصنام والشياطين، وكأنه أحب ما يقال: قوس الله، فيرفع من قدره كما يقال أرض الله وسماء الله.وبقيت أمثال لذلك كثيرة لا نطيل في استقصائها.

أمثلة المولد وكتبه:

وقد علمت أن من المولد هذه لمصلحات التي جاءت بها العلوم، وهي معدودة أيضاً من الألفاظ الإسلامية، لأنها وضعت في الإسلام، ومنها ألفاظ خاصة بالمتكلمين والرياضيين والفلكيين والأباء والفقهاء والصوفية وغيرهم، وقد أفردت لها معاجم خاصة بشرحها: ككتاب ( التعريفات ) للجرجاني، و ( كشاف اصطلاحات العلوم ) لتهاوني، و ( كليات ) أبي البقاء، و ( اصطلاحات الصوفية ).وأول ما وضع من هذا النوع فيما نظن، كتاب ( مفاتيح العلوم ) لمحمد بن أحمد الخوارزمي من أهل القرن الرابع، وهو على اختصاره مفيد، جمع فيه مصلحات أهل العلوم الصناعات المختلفة، ونحن ننقل منه بعض أمثلة توفية للفائدة.فمن ذلك في مواضعات كتاب ديوان الخراج ( الحشري ) وهو ميراث من لا وارث له - ويعرف في أيامنا بالمحلول - و ( الإقطاع ) وهو أن يع السلطان رجلاً أرضاً فتصير له رقبتها، وتسمى تلك الأرضون قطائع، واحدتها قطيعة، ( والطعمة ) وهي أن تدفع الضيعة إلى رجل ليغمرها ويؤدي عشرها وتكون له مدة حياته، فإذ مات ارتجعت من ورثته، و ( القطيعة ) تكون لعقبه من بعده.( والتسويغ ) وهو أن يترك للرجل شيء من خراجه في السنة، وكذلك ( الحطيطة والتريكة ). ومن مواضعات كتاب ( ديوان الجيش ) ( الأطماع ) وتسمى الزرقات: وهيب مرتبات الجند والعمال ( والتلميظ ) وهو أن يطلق لطائفة من المرتزقين بعض أرزاقهم قبل أن يستحقوا، وقد لمظوا بكذا ( والمقاصة ) وهي أن يحبس عن القابض لماله ما كان تلمظه أو استلفه. وقد رأينا لعبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي المتوفى سنة 340 كتاباً سماه ( الزاهر ) يذكر فيه معاني الكلام الذي يستعمله الناس من المولد أو من الألفاظ الإسلامية، ويؤخذ من مقدمته أن الفضل أنشأ كتاباً في هذا المعنى سماه ( الفاخر ) جمع في قطعة من اشتقاق ما يكثر ترداده في المحاورات والمخاطبات، فعمل محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328 في ذلك كتابه المرسوم بالزاهر فصل فيه كتاب المفضل وأكثر شواهده وضبطه، فجاء الزجاجي واختصره وأصلح ما فيه من السهو والغلط وكشفه وشرح معانيه.ومما أورده في هذا الكتاب، معنى قولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وألفاظ القنوط والاستغفار، والأذان، والتشهد، ونحو ذلك، وهو يبحث في اشتقاق الكلام ويذكر الأقوال الواردة في معانيه ويرد أكثر ذلك إلى أصله العربي.ومن أمثلته شرحه لقولهم ( بيت مزوق ) قال أبو العباس ثعلب: معناه: بالزواق، والزواق في لغة بعض أهل المدينة: الزئبق، وهو يقع في التزاويق، فمزوق مفعل منه.1ه.

الغريب المولد:

ونريد به في المولد ما يقابل الغريب والحوشي في العربي العتيق، وذلك كالذي اخترعه بعض المفسرين الذين نصبوا أنفسهم للعامة وحطوا في هواهم، فإن المفسر كلما كان أغرب عند العامة كان أحب إليهم، ومن هؤلاء عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر ابن الأصم، وقد نقل الجاحظ أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى ( وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ) اليللا واد في جهنم.قال: ثم قعدوا يصفون ذلك الوادي. . .وسئلوا عن قوله تعالى: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ) فقالوا: الفلق واد في جهنم، ثم قعدوا يصفونه. . .وفسروا قوله تعالى ( ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ ) فقالوا: النعيم الماء الحار في الشتاء والبارد في الصيف. . .أي فكأنه من الأضداد، ومثل ذلك كثير عن بعض غلاة الصوفية أيضاً، والأصل في جميعه ما أومأنا إليه من الألفاظ المنهي عنها. وليس يؤتى القوم إلا من الطمع ومن شدة إعجاب العامة بالغريب من التأويل، وهو كذلك الغريب في المولد من اللغة. ^

تمدّن العرب اللغوي

فلسفة الفصل

هذا فصل من الكلام نرمي فيه إلى أقصى العقل العربي في الحياة، وأدنى آفاقه من الخلود، إذ نصف مبلغ ما انتهى إليه من الكمال في وضع هذه اللغة وإحكامها على سنن كيفما تدبرتها رأيت فيها المعنى الإلهي الذي لا دليل عليه إلا شعور النفس به، والنفس هي البقية السماوية في الإنسان. تلك السنن التي خرجت بها اللغة كأنها عقل حي تتلامح في جهات الحكمة خطراته وتتراسل من أعين الوحي نظراته، بل كأنه معنى إلهي مبتكر ألقي في هذه الطبيعة ليتحول به وجه العالم إلى جهة الله، فما زال ينكشف من أطرافه شيئاً فشيئاً حتى ظهر سر ابتداعه في القرآن الكريم فاتضح عن روعة تملك على الإنسان مذاهب حسه، وتنساب في قلبه لتتصل بالروح الإلهي من نفسه. وقد وصفنا بما تقدم تكوين اللغة في الجملة بما فيها من أسباب القوة والجمال، ونحن واضعون من هذا الفصل مرآة تصف محاسنها وصفاً معنوياً تأخذ الأعين منه تفصيلاً في جملة، وجملة في تفصيل، لأنه ليس كالأمور المعنوية ما تجد فيه قوة الإفصاح عن الأسرار الصامتة، إذ تكون مقابلة الأوصاف بموصوفاتها نطقاً بليغاً من لسان الحقيقة. ومن المعلوم بالضرورة أن اللغة صورة الاجتماع، وأن العرب في تمدن جاهليتهم الفصحى لا يوازنون أمة من أمم التاريخ، بل هم لولا ما سبق في علم الله من أمر سيكون فيهم، وقدر واقع بهم، وشأن في الغيب مخبوء لهم - لما عدوا في الاعتبار الاجتماعي أن يعدوا موجودات إنسانية مهملة، كأنهم بقايا منسية من التاريخ. وقد تقرر عند الحكماء أن غنى اللغة بألفاظها، واتساع وجوه التصرف فيها دليل بين على مدنية أهلها وسعة متفيَّئهم من ظل الاجتماع فلا يبقى إلا أن يكون للعرب تمدّن لغوي خصوا به من أصل الفطرة، إذ هم لم يكونوا في معادن العلوم ولا مواطن الصناعات، ولا كان في يديهم من أدوات الأمم ومرافق الاجتماع إلا متاع قليل لا يبلغ بجملته أن يكون موجزاً للفظ ( العرب ) في معجم الأمم.فالحكمة التي جعلت من قديم مدنية الفنون في أيدي الصينيين، ومدنية العلوم في رؤوس اليونانيين، هي التي خصّت مدنية اللغات بألسنة العرب. وإذا تدبرت معنى التمدن بما يعطيك من آثاره، رأيت له في كل مجتمع صورتين: الأولى صورة الفرد في باطنه، والثانية صورة الجماعة في ظاهرها، ولن يكون التمدن حقيقياً إلا إذا كان أساسه نمو الصفات العقلية في الفرد الواحد بما يتهيأ له من الفضائل التي هي مادة التغير العقلي في نموه وإنشائه نشأة جديدة تستتبع نشأة التاريخ في المجموع، ولا مراء في أن الأحوال الظاهرة للجماعة إنما هي مرآة التغيرات الباطنة في الأفراد، فكأن الاجتماع في معناه ليس إلا مجموع آثار العقول وتاريخ التغيرات النفسية. ونحن إذا اعتبرنا في العرب لم نرَ لهم حقيقة ولا مظهراً إلا في اللغة، لأنه لا يكفي أن يكون العربي على أخلاق فطرية تحميها حدود البادية، وتصونها أسوار الحرية الطبيعية، حتى يقال أن فيه ذاتاً نامية بآدابها، لأن هذه الآداب لم تحدث فيهم التغيرات العقلية التي تراءى بها صورة المجموع، إلا في آخر عهدهم الجاهلي حين صمّهم الإسلام، ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة، فهي منهم بحر الحياة الذي انصبت فيه جميع العناصر، وانبعث بها هذا التيار العقلي الذي يدفع بعضه بعضاً، وكأنها هي التي كانت تهذّب من نفوسهم وتزنها وتعدّلها وتخلصها برقة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضاع الكمال في لغته، لأنه يتلقنها اعتيادياً من أبويه وقومه، ولهي أقوم على تثقيفهم من المؤدب بأدبه، والمعلم بعلمه وكتبه، لأنها حركات نفسية مدارها على انجذاب الطبع فيهم، حتى كان العربي القح ربما أخطأ في الكلمة إذا جذبه طبعه إليها، فيعدل بها عن سنن الفصيح - كما سيأتي في باب اللحن - والكمال متى كان مأتاه من الطبع، وكانت قوته في الغريزة، فأحرى به أن يصنع النفس صنعة غير طبيعية في العادة، ونحن نرى العرب لعهدنا لا يزالون في مواطن أسلافهم ولم تتنكر لهم الطبيعة، ولكنهم حين فقدوا خصيصة اللغة فقدوا معها خصائص كثيرة من النظام النفسي، حتى إنهم لا يصلحون في حالتهم الراهنة أن يكونوا مادة نظام سياسي في جزيرتهم، فضلاً عن أن يكونوا مادة حادث اجتماعي عظيم كالإسلام الذي جعله أسلافهم نظام العالم، فكان بينهم وبين أسلافهم من الفرق ما يستغرق تاريخ العالم كله من عهد الإسلام. وأخص شروط التمدن الاجتماعي فيما نرى، ثلاثة: هي الحرية، والنظام، والنمو.وهي التي تتخلف عن معانيها الاجتماعية آثار المدنية التي تدل على حضارة الأمم الخالية، كالأبنية والمخلفات الأدبية والعلمية والفلسفية، ثم الثروة الاعتبارية التي تدير حركة العمران، من التجارة والصناعة والزراعة.ثم الشرائع.وهذه الشروط هي كذلك أخص مميزات اللغة العربية.فهي حرة في أوضاعها بها يطابق الحرية الشخصية والسياسية.منتظمة في أجزائها بما يماثل نظام القوانين والشرائع، حتى أمكن أن يحصى منها كل كلمة جاءت شاذة في بابها.نامية في مجموعها بما فيها من ثروة الأوضاع التي تكافئ معاني الاقتصاد السياسي على أتم وجوهها. فالعرب إذاً قوم معنويون كان تمدنهم معنوياً، ولو جردتهم من مزايا لغتهم وألقيت في أفواههم أصول أي لغة من لغات العالم، لخرجوا به جنساً مغموراً في الأجناس، ولكانت حريتهم عبثاً ونظام قبائلهم فساداً، ولصاروا في الجملة إلى حال الشعوب التي لا يدور بها الزمان ولكنه يلقي عليهم الأمم كلما دار ويقابلهم بالمكتشفين والفاتحين والمتخطفين وغيرهم من أجناس المجتمعات المتمدنة.بيد أن الحكمة ألقت في طباعهم هذا النظام اللغوي، وجعلتهم بحيث ينساقون في سبيله إلى الكمال، لا تعترضهم عقبة ولا يصرف وجوههم عنه صارف من نظام المدنية، فمضوا على ذلك واللغة تتخطى بهم درجات الاجتماع واحدة فواحدة، حتى انتهت بهم إلى الوحدة الجنسية، فتغير مجموعهم وانصب على العالم بقوة جديدة فتية صادفت دولاً قديمة بالية فصدمتها تلك الصدمة التي هدمت التاريخ وبني بعدها بناءً جديداً.ولولا اللغة ما انتظم العرب لأنهم قضوا أجيالاً قبل تمدنهم اللغوي لم ينبه لهم شأن في أنفسهم، ولا عدوا في اجتماعهم أمر النظام الطبيعي الذي هو وسيلة حفظ الحياة لنظام الحي، لإتمام نظام الحياة، كما هو شأن التمدن الاجتماعي، واللغة هي التي جذبتهم إلى هدي الأخلاق بالشعر، وإلى هدي السياسة بالخطابة، وإلى هدي الدين بالقرآن.

بعض وجوه التمدن

تقدم لنا في غير هذا الموضع ما يثبت أن ت ؟ أليف الكلام في هذه اللغة مبني على أسباب لسانية، من عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف، بحيث لم يلاقِ فيه بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحسن السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق في غير المطبق، كتاء الافتعال مع الصاد والضاد، في خلال كثيرة من هذا الشكل ترجع بجملتها إلى ميل العرب فطرةً عما يلزم كلامها الجفاء إلى ما يلين حواشيه ويرقها، وهذه العناية منهم بتأليف الحروف كانت السبب الطبيعي لعنايتهم بتأليف الألفاظ وإحكام الكلام وتوخيهم روعة الأسلوب وفخامة التركيب، وهو ما خصَّ به العرب دون سائر الأمم. وقد غفل بعض العلماء عن هذا السبب الطبيعي، فذهب إلى أن العرب إنما تعنى بالألفاظ لأنها تغفل المعاني، فتجد من ألفاظهم ما قد نمّقوه وزخرفوه ووشوه وديّجوه، ولست تجد مع ذلك تحته معنى شريفاً، بل لا تجده قصداً ولا مقارباً، وعلى هذا النمط أكثر أشعارهم.وقد ردَّ على هؤلاء ابن جني في كتاب ( الخصائص )، وتمحّل في النضح عن العرب، لأنه كذلك لم ينظر إلى السبب الطبيعي الذي أومأنا إليه.قال: ( فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، ورحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا عذوبها ( أطرافها ) وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ: بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها ). والحق أن ذلك في العربية وجه من وجوه تمدنها، وقد جروا فيه على سنن طبيعية ثابتة، لأنهم يفرعون من المعاني فروعاً كثيرة بالمجاز والاستعارة، ثم يجرون عليها الألفاظ التي تناسبها، فكأنهم يستغلونها استغلالاً معنوياً.وذلك من أمرهم أيضاً في الألفاظ، فإنهم لا يفرطون في مادة تتقلب عليها حروف المنطق بما ينزل على حكمهم في التأليف من العذوبة والمناسبة، فيفرعون الألفاظ المتقاربة فروعاً كثيرة يجرونها على المعاني المتباينة، كقولهم: روأت في الأمر، ( فكرت )، ورويت رأسي من الدهن، وأمثال لذلك كثيرة، فكأنهم بهذا الضرب يستغلون المعاني استغلالاً لفظياً. ومن وجوه التمدن التي تناسب الاقتصاد المدني، هذه الحركات التي تخصص المعاني وتعين الأغراض بأيسر إشارة، وهي أخص مميزات السمو العقلي، ومنها حركات الإعراب، كقولهم: ما أحسن زيداً ! إذا أرادوا التعجب من حسنه.وما أحسن زيدٍ ؟ إذا أرادوا الاستفهام عن أحسن ما فيه، وما أحسن زيدٌ، إذا أرادوا نفي الإحسان عنه، ولا يوجد ذلك في غير لغة العرب. ومنها حركات التصريف، كقولهم: مِفتَح، لآلة الفتح، ومَفتَح، لموضع الفتح، وهكذا. ومنها حركات الفروق التي تنوع المعاني، كقولهم: الإدْلاج، لسير أول الليل، والإدِّلاج، لسير آخر الليل، وأمثلة ذلك فاشية في اللغة. ومن هذا الباب قولهم: رجلٌ لعنةٌ وضُحْكةٌ، إذا كان يلعن كثيراً ويضحك منه، ورجلٌ لُعَنَةٌ وضحكةٌ، إذا كان هو كثير اللعن والضحك. ولعلهم لم ينتبهوا لهذه الفروق بالحركات إلا بعد أن أحدثوا مثلها في لغتهم بالحروف، كقولهم: أحفر، إذا أجار، وخفر ! إذا نقض العهد، وأقذى عينه، إذا ألقى فيها القذى، وقذاها، إذا نزع عنها القذى، وأبعتُ الفرس، عرضته للبيع، وبعته، إذا انتهى البيع، وهكذا، فكأن الاختصار دائماً تمثيل للانتهاء. ومما يستنفد عجب المفكر من أمر هذا الباب الاقتصادي، تصرفهم في حروف المعاني المفصّلة معانيها في كتب النحو، ودلالتهم بالحرف الواحد في الكلمة على المعاني المختلفة، كمعاني الهمزة والباء وغيرهما مما يتصرف به في مناحي الكلام. ويزيد هذا العجب أن لا يكون بين المعنيين أو المعاني الكثيرة وجوه من الشبه بحيث يتأول في رد معانيها الأصول بعضها إلى بعض، وقد أشرنا فيما تقدّم إلى ما رآه بعض علماء اللغات من أن هذه الحروف بقايا ألفاظ مستقلة بمعانيها، فإن صح ذلك كان ( عجباً من العجب ). وهذا وأمثاله، مما يكشف من اللغة عن سر النمو الذي هو اصل من أصول التمدن بالإطلاق، وأن للعرب تصرفاً ليس في لغة من اللغات، وخاصةً أختي العربية، فإن الزمن وقف بهما عند منقطع لم يتعده، كأن العربية منهما قرآن لغوي مفتتح بهذه القاعدة التي يبنى عليها نظام الارتقاء: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) فإن لغة السريان مثلاً لا تجد فيها أثراً للفعل المبني للمجهول، كضرب زيد: أي ضربه شخصٌ - وذلك من أنواع الاقتصاد اللغوي - وفي العبرانية لا يوجد إلا صيغتان ثقيلتان من صيغ الفعل، هذا وزنهما: فُعّال، وهُفْعال، ولكن العرب يستعملون المجهول في كل الأوزان، ماضياً ومضارعاً.وقد فاتوا بذلك لغات الدنيا جميعاً. وتجد العبرانية أيضاً قليلة الأوزان في الفعل المجرّد والمزيد بحيث لا تكافئ العربية في ذلك ( وقد أسلفنا في موضع تقدّم أن صيغة المشاركة التي هي صيغة اقتصادية، مما انفردت العربية به ) وإنما وضعت الأوزان لتنمية المعاني وسياستها على وجوهها المختلفة سياسة اقتصادية. ذلك فضلاً عمّا امتازت به العربية من العذوبة التي كأنها شباب الحياة ورقتها بجانب ذاك الهرم الذي تولّى العبرانية، حتى كأن ألفاظها من اللبس والتعقيد أيام الكهولة بأقدارها. . .ومما لا شك فيه أن فقدان ذلك السبب الاقتصادي في العبرانية هو الذي ابتلاها بالفقر من نوابغ الكتّاب والخطباء لضيق مضطرب التعبير، حتى كأنما ينفذ المتكلم بها إلى أغراضه من صدوع ومضايق، وفي هذا العسر كله. . .ولما انتفى ذلك من العربية واستوفت وجوه السياسة الاقتصادية في صيغها وألفاظها، كثر شعراؤها وكتّابها وخطباؤها ( اللغويون ) إلى حد ترك رجال سائر الأمم عند الترجيح، في كفّة شائلة. وهنا أصل طبيعي يحسن التنبيه إليه، لأنه ثبت لما نحن بصدد منه، وذلك أن التثنية وهي أخص مظاهر الحياة في الطبيعة، لا أثر لها في اللغة السريانية، وهي في العبرانية مقصورة على معناها الطبيعي أو ما يكون في حكمه، فلا يثنون إلا ما وجد اثنين في الطبيعة، كاليدين والرجلين. . .إلخ، أو ما أنزله الاستعمال هذه المنزلة، كالنعلين مثلاً، ولكنها في العربية عامة لكل الأسماء، لأن العدد نظام طبيعي عام لا يتخلف، ومنه الإفراد والتثنية ودرجات الجمع من الثلاثة فصاعداً. بقي علينا أن نذكر شيئاً من أسرار النظام في هذه اللغة غير ما سبق لنا بيانه، وهو الصلة بين طرفي التمدن اللذين هما الحرية والنمو، وقد مضى الكلام عليهما فيما تقدم.

أسرار النظام اللغوي

لا نريد بمعنى النظام هذه الأحكام الظاهرة في اللغة كالإعراب والتصريف والقواعد اللسانية، من نحو عدم الجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين، فهذا كله ليس إلا أسباباً للنظام الذي نشرحه في هذا الفصل، وهو يشبه النظام النفسي من حيث تعلقه بالحكمة التي تضبط عواطف النفس وخطراتها، وقد رأينا ذلك في اللغة على ثلاثة ضروب:1 - نظام الألفاظ بالمعاني. 2 - نظام المعاني بالألفاظ. 3 - النظام المطلق وهو نظام القرينة أو الحسن النفسي.

نظام الألفاظ بالمعاني

والمِِِِراد به مساوقة الصيغ اللفظية للمعاني الموضوعة لها، وقد ألممنا بأشياء منه في باب الاشتقاق، وذكرنا ثمة أن لابن جني صاحب ( الخصائص ) كلاماً في هذا المعنى، وابن جني هذا هو أول من ناهض هذا البحث اتقاناً، وتخلّى بأمره افتناناً، وإنما كان العلماء قبله يستروحون إلى أشياء منه عند الضرورة ويتعللون به، وأكثرهم لزوماً لذلك شيخه أبو علي الفارسي، ولهذا وضع ابن جني كتابه ( الخصائص ) لبيان ما أودعته هذه اللغة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائم الإتقان والصنعة، أقام فيه القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ، وإلام نمي، وقال في المعنى الذي عقدنا له هذا الفصل: إنه غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلاً مسهواً عنه. ومما حاوله في كتابه مما يتعلق بغرضنا سبعة أمور: ك1 - إثبات أن العرب تقارب حروف الألفاظ متى تقاربت معانيها، كقوله تعالى: ( أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً ) أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا معنى ( تهزهم هزاً والهمزة أخت الهاء، فكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، كما أن المعنى نفسه أعظم في النفوس من الهز لأنك قد تهز ما حراك له، كالجذع ونحوه، أي فيبقى الهز المقرون بالإزعاج خاصاً بذي الحياة، لأنه متعلق بالشعور، وذلك ما أفادته الهمزة وحدها. 2 - إن هذه المقاربة بين الحروف تقع فيها المراعاة حتى في الحروف البعيدة التي لا تتشابه إلا بالتأويل، كقوله إن تركيب ( ع ل م ) في العلامة والعلم، وقالوا مع ذلك: بيضة غرماء، وقطيع أغرم، إذا كان فيه سواد وبياض، وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه، وكان كل واحد منهما ( علماً ) للآخر، وهذا المعنى من ( غ ر م ) ولكنه مقارب لتركيب ( علم ) كما ترى !3 - إن المقاربة قد تكون بالمضارعة في الأصل الواحد بالحرفين، كسحل وصهل ( في معاني الصوت ) فالصاد أخت السين، والهاء أخت الحاء، وسحل وزحر ( في الصوت أيضاً ) فالسين أخت الزاي، واللام أخت الراء. 4 - إن من المضارعة نوعاً أحكم من هذا، وهو المضارعة بالأصول الثلاثية في الفعل ( الفاء والعين واللام ) نحو: عصر الشيء وأزله، إذا حبسه، قال: والعصر ضرب من الحبس، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام، ونحو الأزم من الحبس، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام، ونحو الأزم ( أي المنع ) والعصب ( أي الشد )، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء.وقد أتى بأمثلة من ذلك ثم قال: وهذا موجود في أكثر الكلام، وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا وضح له وكشفت عنده حقيقته، أطاع طبعه له فوعاه، وهيهات ذلك مطلبياً، وعزَّ فيهم مذهباً. 5 - إثبات أن العرب يصورون اللفظ على هيئة المعنى، وهذا مذهب قد نبه عليه الخليل وسيبويه، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة، فقالوا ( في العبارة عنه ) صرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر.وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على فعلان ( بثلاث حركات ) إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو الغليان، فقابلوا بتوالي الحركات في المثال توالي الحركات في الأفعال. قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه، منها أن المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرار والزعزعة: كالقلقلة والصلصلة. . .إلخ، وأن الفعلى من المصادر والصفات تأتي للسرعة نحو الجمزى والوقلى. .إلخ، ومنها أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلاً على تكرير الفعل، نحو كسر وقطع. .إلخ، وإنما خصّوا العين بذلك لأنهما أقوى حروف الفعل، إذ الفاء قد تحذف، نحو عدة وزنة، أصلها وعدة، ووزنة، واللام كذلك، نحو يد وفم، ألهما: يدوً وفموً، ولكن قلما تجد الحذف في العين، فلما كانت الأفعال دليلة المعاني، كرروا أقواها وجعلوه دليلاًَ على قوة المعنى المحدث به، وكذلك يضعفون العين للمبالغة، نحو: أسدً غشمشم، ويوم عصبصب، ونحو أعشوشب المكان، وأغدودن الشعر. .إلخ.قلنا: ومن هذا الباب ما ذكره ابن فارس أنه سمع من يثق به يقول إن العرب تشوه صورة اللفظ وتقبحها لمقابلة مثل ذلك في المعنى، كقولهم للبعيد ما بين الطرفين المفرط الطول: طرماح، وإنما أصله من الطرح، وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سمي طرماحاً، ومثل ذلك كثير في أبواب الصفات. 6 - ومن نظام الألفاظ بالمعاني أنهم يقابلون الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فيجعلون كثيراً أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها كقولهم: خضم، وقضم، فالخصم لأكل الشيء الرطب، والقضم لأكل الشيء الصلب اليابس، فاختاروا الخاء من أجل رخاوتها للرطب، والقاف من أجل صلابتها لليابس، فحذوا بمسموع الأصوات على حذو مسموع الأحداث.ومن ذلك النضح، للماء الخفيف، لرقة الحاء، والنضح لما هو أقوى منه، وذلك لغلط الخاء.ومنه أيضاً قولهم: القد، للقطع طولاً، والقط، له عرضاً، وذلك لأن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال، فجعلوا الطاء لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال لما طال من الأثر وهو قطعه طولاً، والأمثلة من ذلك كثيرة في اللغة تبادر من يلتمسها، وقد أتى ابن جني بعدة منها، ونقل السيوطي في أوائل ( المزهر ) عن غيره أشياء أخرى، وكلها تدل على أنهم يضبطون نظام الألفاظ المقترنة المتقاربة بالمعاني، فيجعلون الحرف الأضعف فيها، والألين والأخفى والأسهل والأهمس، لما هو أدنى وأقل وأخف عملاً أو صوتاً، ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملاً وأعظم حساً، ومن أجمع الأمثلة لذلك ما أورده الثعالبي في ( فقه اللغة )، قال: إذا خرج المكروب أو المريض صوتاً رقيقاً فهو الرنين، فإن أخفاه فهو الهنين، فإن أظهره فخرج خافياً فهو الحنين، فإن زاد فهو الأنين، فإن زاد في رفعه فهو الخنين. 7 - إنهم قد يضيفون إلى اختيار الحرف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبّر عنها وتقديم ما يضاهي أول الحدث ( المعنى ) وتأخير ما يضاهي آخره، سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب، كقولهم: شدّ الحبل: فالشين لما فيها من التفشي تشبه بصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكام الشد والجذب، فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين لاسيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها وأدل على المعنى الذي أريد بها.وكذلك: جرُّ الشيء، قدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجار والمجرور جميعاً، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها، وذلك لأن الشيء إذا جرَّ على الأرض اضطرب في غالب الأمر صاعداً عنها ونازلاً، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق، فكانت الراء لما فيه من التكرير، ولأنها أيضاً قد كررت في نفسها، أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف. ومما يلتحق بهذا الباب الذي هو نظام الألفاظ بالمعاني، ما وضعوه من حكاية الأصوات، وذلك أنهم يشتقون اللفظ من نفس الصوت القائم بمعناه على جهة الحكاية وتصوير الأشياء بأصواتها، وهذا النوع يعده أدباء الغربيين من مبعات القرائح.ومما يحضرنا منه للعرب قولهم في حكاية صوت مصراعي الباب الكبير إذا أغلق: جلنبلق، وقول الشاعر:

جرت الخيل فقالت حبطقطق

وقول الآخر في الإبل: ( تداعبن باسم السيب ) يحكي صوت مشافرها، وهذا غير الأصوات التي يعبرون بها عن الأحداث وإن كانت مشتقة منها، كالعطعطة للأصوات المتتابعة في الحرب، والقهقهة للاستغراب في الضحك، وأمثال لذلك كثيرة.

نظام المعاني بالألفاظ

والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنساً، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي. ولما كانت اللغة عملاً نفسياً محضاً، كان وجود هذا النوع فيها من أخص الدلائل على تمدنها، لأن النظام الذي يعين درجات المعاني إنما يفصل أجزاء الموجودات على درجات شعور النفس بذوات هذه الأجزاء أو بصفاتها، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان في اللغة حياة باطنة تشبه ما في الإنسان الراقي مما يسمّى بالكمال أو الحياة الروحية العالية، حتى تتكافأ النفس واللغة في تصور أجزاء المعاني وتصويرها.زولقد اثبت العلماء أن أظهر ما يكون الفقر في اللغات المنحطة، إنما هو في أنواع الدلالة المعنوية، فكلما انحطت اللغة قلت هذه الأنواع، حتى لتبلغ بها تلك القلة أحياناً إلى أن تشبه الجماد في تجرده من الشعور ومعانيه، ووجدوا من لغات القبائل المتوحشة في أواسط أفريقيا ما ليس فيها ألفاظ تعبر عن الحب والمؤاخاة والعبادة ونحوها من أمهات المعاني النفسية، كأن مادة تلك اللغات من الإحساس الحيواني المحض. والعربية تعتبر أحكم اللغات نظاماً في أوضاع المعاني وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروةً وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا جزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها، فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكلف، وهو شدة الحب، ثم العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشغف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك خرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق، ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن، ثم التّيم، وهو أن يستعبده الحب، ثم التّبل، وهو أن يسقمه الهوى، ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى، ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر، وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم. وكذا فعلوا في معاني السرور والعداوة والغضب والحزن والسرعة وغيرها، ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعة التي هي قوام أمرهم: كاللبن، فإن له نحو سبعين اسماً باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي كلها في ( المزهر ) ( الفصل 15 - النوع 29 )، وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها وتسمية أجزائها ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه. وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بنى الثعالبي كتابه ( فقه اللغة )، وهو أشهر من أن ينبه عليه، ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاءً بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة. ومما ننبه إليه في هذا الفصل، أن أرقى الأمم مدنيةً إذا بلغت فيها المعاني النفسية مبلغ الهرم، وتعلقت بها الخواطر من كل جهة بحيث تفصّل أجزاءها تفصيلاً، فجهد الأمة عند ذلك أن تحيط المعنى باصطلاحات علمية، وتعرف حوادثه على نحو ما تعرف به فصول العلوم، كالحب مثلاً، فإن مراتبه التي يشير إليها العرب بالألفاظ المتقدمة يشير إليها غيرهم بتعاريف وفصول واصطلاحات، ثم لا تعدو بعد ذلك كله ما كان يفهمه العرب منها برقة شمائلهم ولطف حواسهم النفسية، فكأنهم لما عدموا العلوم جعلوا ألفاظهم فصولاً علمية، وذلك منتهى ما يكون من تمدن اللغات. ثم أنتِ إذا تدبرت هذا النوع رأيته انتباهاً روحياً صرفاً، بيد أنه ممثل بالألفاظ، ورأيت قيما ترى كأن لنفس العربي طيفاً يحرّك اللغة حتى بأنفاس الخطرات، ويكشف لها كل عاطفة دقيقة ولو اختبأت في أشعة من النظرات !

نظام القرينة

وهو ما نسميه بالنظام البديع لأنه في ظاهره نوع من الفوضى، وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه ويهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقاً غير مقيّد بنظام، ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام، وذلك نظم ينفردون به ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم إلا حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور.وقد سمّاه علماؤنا ( سنن العرب )، وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني م كتابه ( فقه اللغة )، وسماه ( سر العربية ). ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر، لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ، ولأن ما عرف للعرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه، إذ جعل من عبارته أزمة لعقولهم، فكان يلفتها فجأةً عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزة من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه. فمما ذكروه من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة: مخالفة ظاهر اللفظ، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره ! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هبلته أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله، ومنها الحذف والاختصار، فيقولون: والله أفعل ذاك، ويريدون لا أفعل، فيحذفون حرفا النفي، ومنها ذكر الواحد والمراد الجمع، كقوله تعالى: ( هَؤُلاَءِ ضَيْفِي ) وقوله: ( فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِيَ )، والمراد الجماعة.وذكر الجمع والمراد واحد أو اثنان، كقوله: ( إِن نّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ ) وهو يريد واحداً، وقوله في خطاب موسى وأخيه: ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ) والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِن إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) وهما قلبان.ومنه صفة الجمع بصفة الواحد، كقوله تعالى: ( وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع، كقول العرب: ثوب أهداهم، وجاء الشتاء وقميصي أخلاق.ومنها أن تخاطب العرب الشاهد ثم تحوّل الخطاب إلى الغائب، وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع، وأن تخاطب المخاطب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع، وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: ( فَإِلّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن ) الخطاب الأول للنبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته، والثاني للمشركين.ومنها الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى كقوله تعالى: ( حَتّىَ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) أراد بكم، وقوله: ( وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ) ومعناه: كان لهم، وقد جاء ذلك في الشعر أيضاً كما رواه ابن الأنباري في ( الأضداد ).ومنها أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره، كقوله: ( وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ ) فخبر عن الأزواج بلفظ ( يَتَرَبّصْنَ ) وترك الذين.ومنها نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) إلى قوله: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا الّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ) وإنما يخرجان من الملح لا العذب.ونسبته إلى الجماعة وهو لأحدهم كقوله: ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا ) والقاتل واحد.وإلى أحد اثنين وهو لهما، كقوله: ( وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ ).ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين، كقول العرب: أفعلا ذلك، ويكون المخاطب واحداً، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعرائهم أكثر الناس قولاً: يا صاحبي، ويا خليلي.ومنها أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماضٍ، كقوله تعالى: ( أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ ) أي يأتي ( وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ ) أي ما تلتِ الشياطين ومنها أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل: نحو سر كاتم، أي مكتوم، وأمر عارف، أي معروف، وبالفاعل: على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابناً.ومنها وصف الشيء بما يقع فيه، كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا شهروه.ومنها البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أمن اللبس بقرينة تقتضي ذلك، كإقامة وزن الشعر وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء: ك

وليلوٍ خامدةٍ خموداً

طخياءَ تخشى الجديَ والفرقودا

فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها: ( لو أن عمراً همّ أن يرقودا ): يريد يرقد.ومنها القبض محاذاة لذلك البسط.وهو النقصان من عدد الحروف كقولهم: لاه ابن عمك، أي لله، ودرس المنا، أي المنازل، ومنها الإضمار للأسماء والأفعال والحروف، كقولهم: ألا يا اسلمي، أي يا هذه، وقولهم: أثعلباً وتفرّ ؟ أي أترى ثعلباً وتفر ؟ وقول طرفة:

ألا أيهذا الزاجري أشهد الوغي

يريد أن أشهد الوغي.ومنها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو: ( فَضَرْبَ الرّقَابِ ) أي فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله: ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) أي تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو: ( بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي الفتنة.ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلاماً بحذاء كلام فيؤتى به على وزنه لفظاً وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضاً، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غدايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:

هتَّاك أخبيةٍ ولَّاج أبوبةٍ

فجمع الباب على أبوبة ليشاكل لفظ الأخبية، ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتوروا تجاوراً، وتجاوروا اجتواراً، وانكسر كسراً وكسر انكساراً، وعليه قوله تعالى: ( وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ).ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقولهم: امرأة بادنٌ أي بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة.ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي حسرها السير.وغلالة رادع، أي مردعة بالطيب والزعفران في مواضع منها، وقد أفاض صاحب المخصص في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى. ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفنناً، كقوله تعالى: ( إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) أي يخوفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده باباً في ( المخصص ). ومنها أيضاً قلب الكلام تفنناً، كقول العباس بن مرداس:

فديتُ بنفسهِ نفسي ومالي

أي فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:

ما كنتَ في الحربِ العوانِ مُغمَّراً

إذْ شبَّ حرُّ وقودِها أجزالَها

وإنما هو: إذ شب حرَّ وقودها أجزالها، ولكن روي القصيدة بالفتح.ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معايه. وبعدُ، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه ( تمدن العرب اللغوي ) وهو كما ترى يصح أن يكون غرضاً لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثم ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعر وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم، لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تخلق الأسرار، وتسدل عليها الأستار، فلا يرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار.

اللغة العامية

وهذه من اللغة التي خفت الفصحى في المنطق القطري، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصرف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقونة لها، وعادت لغة في اللحن بعد أن كانت لحناً في اللغة. ولابد للكلام على تأريخ العامية وشيوعها، من التوطئة ببعض القول في تاريخ اللحن، إذ هو أصلها ومادتها، بل هو العامية الأولى، لأنه تنويع في الفصيح غير طبيعي، بخلاف ما قد يشبهه من اللهجات العربية المختلفة كما ستعرفه.

اللحن وأوليته

والمراد باللحن الزيغ عن الإعراب، وهو أول ما اختبل من كلام العرب ولم يكن منه قبل الإسلام شيء، وإنما كانت له طيرة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، حين اجتمعت كلمة المسلمين على تباين قبائلهم واختلاف جهاتهم، فتساوى الأحمر والأسود، ووجد فيهم من يرتضخ أنواعاً من اللكنة، ومن هؤلاء بلال، كان يرتضح لكنة حبشية، وصهيب لكنة رومية، وسلمان لكنة فارسية.ثم إنه ليس كل العرب سواءً في قوة الفصاحة وجفاء الطبيعة العربية، فلابد أن يكون بدء ظهور اللحن في الألفاف المستضعفين ممن لم يبلغ به الجفاء ولم تتوقح فصاحته، فربما جدذبه طبعه الضعيف وقد دار في سمعه شيء من كلام المتعربين بعد الإسلام فيزيغ ويسترسل إلى ما انجذب إليه.هذا إذا لم نعتبر في أمر أولئك الألفاف ما يكون عادةً من ذهول الطبع.وتلبده إذا فجأه ما ليس في قوته ولا تسمو طبيعته إليه، كفصاحة القرآن الكريم، فإنه فضلاً عن نزوله بغير اللغات الضعيفة واللهجات الشاذة، قد انطوى على أسرار من سياسة الكلام لا تتعلق بها إلا الطبيعة الكاملة، ولذا كان أكثر اللحن فيه بادئ بدء، لأن لسان كل عربي يركب منه قياس لغته، ويدرك من أسراره بحسب ما تؤاتيه قوته، فإذا لم يكن صليباً جافياً قصر به طبعه فاختبل وتبلد، كما ترى فيمن يقرأ الفصيح وليس من أهله، ولو لم يكن ذاك لما كان أبو بكر - رضي الله عنه - يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها، لأن لحن العربي خور في طبعه فهو من هذه الجهة لا يستقيم لا بمراجعته والتغيير عليه حتى يثبت الصواب بنوع من التعليم والتلقين، وأنى لهم ذلك ؟ فلا جرم كان إسقاط الكلمة وهو في حكم السهو، خيراً من إثبات اللحن الطبيعي فيها وهو في حكم العمد. وقد رأينا العلماء فريقين في أمر الإعراب وإطباق العرب عليه، فمنهم من يرى أنهم يتساندون في ذلك إلى السليقة ويجرون على مقتضى الطبع فلا يفطنون إلى اختلاف مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة، وأن ذلك منهم ليس استرسالاً ولا ترجيماً، وإلا لكثر اختلاف الإعراب في كلامهم وانتشرت جهاته ولم تنفذ مقايسه، فلم يجمعوا مثلاً على رفع الفاعل ونصب المفعول نحو ذلك.ومن هؤلاء ابن فارس في كتابه ( فقه اللغة )، وابن جني كما يؤخذ من كلامه في كتاب ( الخصائص ).والذي عندنا أن ذلك من ( خرفشة النحاة ) كما يقول ابن خلدون في تحذلقهم وتنطسهم، والصواب رأي الفريق الأول، لأن ما ذكره ابن جني في معنى التعليم والتلقين، فإذا ثبت أنهم يتصفحون وجوه الكلام ويتأملون مواقعه، لم يجز أن ينتقل لسان العربي عن لغة إلى لغة أخرى، ولا أن يستدرج في بعض الكلام، ولا أن تضعف فصاحة الفصيح منهم، للزومهم طريقاً واضحاً ومهيعاً معروفاً، وما كان بالتعليم لا يكون بالفطرة.وقد جاءت الروايات بكل ذلك عنهم، ولا سبب له غير الاختلاف الفطري الذي تبتدئه الوراثة وتكمله الطبيعة كما أومأنا إليه في محله. فالصحيح أن الطباع العربية مختلفة قوة وضعفاً.فمنها المتوقح الجافي، ومنها الرخو المضطرب وبحسب ذلك تكون اللغة فيهم، وقد نقل ابن جني نفسه في موضع من كتابه أن العرب أشد استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولد ولكنه لا ينطق باللحن.ثم قال في موضع آخر: إن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيغ الإعراب.ولم يأتِ هذا التفاوت - كما ترى - إلا من اختلاف الطباع الذي أشرنا إليه، فأحر بما اتفقوا عليه أن يكون سببه في الطبع أيضاً.لأن الاختلاف في جهات من الشيء إنما يتميز بالاتفاق على جهات أخرى منه. وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر، وسنزيد هذا الموضع بياناً في الفصل التالي. هذه أولية اللحن، كانت كما عرفت على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد رووا أن رجلاً لحن بحضرته فقال: أرشدوا أخاكم فقد ضل - ويروى: فإنه قد ضلّ - فلو كان اللحن معروفاً في العرب قبل ذلك العهد، مستقر الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه، لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد.بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سمعه أفصح العرب صلّى الله عليه وسلم. قم لما استفاضت الأسباب التي ذكرناها في صدر هذا المقال، وفتحت الروم وفارس، كثر اللحن بالضرورة.ولكن العرب كانوا يستسمحونه ويعتبرونه هجنة وزراية، وينتقصون أهله ويبعدونهم، ومما رووه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرَّ بقوم يرمون، فاستقبح رميهم، فقال: ما أسوأ رميكم ! فقالوا: نحن قوم ( متعلمين ).فقال عمر: لحنكم أشد علي من فساد رميكم.وقد تضافرت الروايات بأن كاتباً لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر فلحت، فكتب إليه عمر: عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطاً - وفي رواية كتب إليه أن قنع كاتبك سوطاً - ولكنهم لم يذكروا موضع اللحن في كتاب أبي موسى حتى وقفنا عليه، فإذا هو لحن قبيح يشق على عمر وغير عمر، لأن ذلك الكاتب جعل صدر كتابه هكذا: ( من أبو موسى. . .) وهذا على ما نظن أول لحن وقع في الكتابة، ثم شاع بعد ذلك حين نقلت الدواوين إلى العربية من الرومية والقبطية، وكان أكثر ما يكون ذلك من ألفاف كتّاب الخراج والصيارفة، وقد عثروا في بعض قرى مصر على رقاع مكتوبة يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة 127، ومنها رسائل موجزة إلى أصحاب البرد، كبريد أشمون وغيره، وهي على إيجازها قبيحة اللحن، ولكن منها رسائل مؤرخة في سنة 182 و250 و279 و295 وقد كتب الأخيرتين ( شمعون بن مينا، ونقله ابن اندونه ) ولحنها من أقبح اللحن، يكتبون فيها دنانير هكذا ( دننير ) على أنها كلها تكتب بصيغة واحدة لا تتجاوز كلمات معدودة، مما يرجح أنها أمثلة موضوعة لهم ينقلونها في تلك الأغراض الثابتة ولا يغيرون منها إلا الأسماء والأرقام، وذلك شأن حثالة العامة إلى اليوم.ومن تلك الرسائل التي أصابوها، رقعة أملاها بعض المتحذلقين إلى بقال ولا تاريخ لها، ونحن ننقل نصّها تفكهةً، وهو:

رقعة عبد الرازق

( بسم الله الرحمن الرحيم.أطال الله بقاك، وأدام عزك وكرامتك، وجعلني فداك، قد وجهنا إليك ربع درهم، فتفضل ادفع إلى الغلام دانق سكبيج، ونصف دانق بزر كرفس، وادفع إليه كسرين، وسرني بذلك إن شاء الله ). . .أملي في غدا القدر.

انتشار اللحن

ولما نشأ الجيل الثاني في الإسلام اضطربت السلائق، وذلك بعد أن كر الدخيل وعلقته الألسنة لدورانه في المعاملات وتنزله من الاجتماع منزلة المعاني الثابتة، فانحرقت به ألسنة الحضر عن نهجها العربي، وخيف من تمادي ذلك على لسان العرب من الفساد، فوضع أبو الأسود الدؤلي أصول النحو، ثم كان الناس يختلفون إليه يتعلمونها منه، وهو يفرّع لهم ما كان أصله - وسنأتي على ذلك في موضعه - ومن خشيتهم فساد اللسان، كانوا يأخذون أولادهم الإعراب أخذاً شديداً، حتى كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يضرب بنيه على اللحن تقويماً لهم. ثم فشا النحو بعد ذلك وتناوله الموالي والمتعربون، وصار يعلّم في المسجد، فانحصر اللحن القبيح الذي هو مادة العامية في الزعانف من الطبقات الوضيعة، كالمحترفين وأهل الأسواق.وكان الخطيب البليغ خالد ابن صفوان - توفى في أوائل الدولة العباسية - يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فبلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن ( السقاءات ) ؟ فكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب. واشتهر النحو وغيره من العلوم التي وضعت لذلك العهد بأنها علوم الموالي، فكان يرغب عنها الأشراف لذلك، وقد روى المبرد في ( الكامل ) أن المنتجع قال لرجل من الأشراف: ما علّمت ولدك ؟ قال: الفرائض.قال: ذلك ( علم الموالي ) لا أباً لك ! علمهم الرجز فإنه يهرت أشداقهم.ومرَّ الشعبي ( سمير عبد الملك بن مروان ) بقوم من الموالي يتذكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده.وسنقول في الموالي بعد. قال الجاحظ: وأول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي، والصواب عصاي، وأول لحن سمع بالعراق: حيِّ على الفلاح، وصوابه حيَّ بالفتح. وفي الدولة المروانية العربية كان يعتبر اللحن من أقبح الهجنة، لأن العرب يومئذ كانوا لا يزالون على حميتهم الأولى، وكان جماهيرهم تحضر مجالس الخلفاء والأمراء وتنادي كل طائفة منهم باس قبيلتها، فيقال مثلاً: لتقم همدان، ولتقم تميم، ولتقم هوزان، ونحو ذلك، وهو يريدون من حضر من هذه القبائل، فكان عبد الملك يستسقط من يلحن، قال العتبي: أستأذن رجل من علية الشام عليه وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: يا غلام، غطها، فلما دخل الرجل فتكلم ولحن، فقال عبد الملك: يا غلام، اكشف عنها الغطاء، ليس للاحن حرمة.ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال: حس ! - كلمة تقال عند الألم - إني لأجد حرارتها في حلقي ! وقد أحصوا الذين لم يسمع منهم لحن قط في ذلك العهد، فعدوا منهم عبد الملك بن مروان، والشعبي، والحسن البصري، وأيوب بن القرية، وقال الحسن يوماً لبعض جلسائه: توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد ؟ فقال: إنها لغة هذيل، وكان هذا الجواب أبين عن فصاحته من الفصاحة نفسها. وأحصوا اللحانين من البلغاء، فعدوا منهم خالد بن عبد الله القسري وخالد بن صفوان وعيسى بن المدور، وكان الحجاج بن يوسف يلحن أحياناً. وقد كان بنو مروان يلزمون أولادهم البادية لينشئوهم هناك على تقويم اللسان وإخلاص المنطق، ومن أجل ذلك قال عبد الملك: أضرَّ بالوليد حبنا فلم نوجهه إلى البادية ! والوليد هذا ومحمد أخوه كانا لحانين، ولم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة، وذكروا أنه قيل للوليد يوماً: إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها، فجمع أهل النحو ودخل بيتاً ليتعلم فيه، فأقام ستة أشهر ثم خرج أجهل من يوم دخل.ومما نقلوا من لحنه أنه خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته: ( يا ليتها كانت القاضية ) بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك !وما صار الأمر إلى العباسيين حتى كانت العجمة قد فشت في الحضر وغلبت على السليقة وأصبحت السلامة من اللحن لا تتهيأ إلا بالتصون والتحفظ وتأمل مواقع الكلام، ولذا صاروا يشبهون اللسان الفصيح بأنه لسان أعرابي قح، وكانوا يسمون عثمان البتي النحوي ( معاصر للأصمعي ) عثمان العربي، من فصاحته واستقامة لسانه، ولكن أذى اللحن بقي ثابتاً في الغرائز القوية، حتى ذكروا أن الرشيد كان مما يعجبه غناد الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى كلامهم ولحنهم، فقال يوماً: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً فيغنون فيه، فقيل له: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس.قال أبو العتاهية: فوجه إليَّ الرشيد أن قل شعراً حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك، فقلت: والله لأقولنَّ شعراً يحزنه ولا سير به.ثم عمل رقيقاً في الموعظة والتذكير بانصراف الدنيا وانصرام لذتها، يقول فيه:

خانكَ الطرفُ الطموحُ

أيها القلبُ الجموحُ

هل لمطلوبٍ بذنبٍ

توبةٌ منه نصوحُ

كيف إصلاحُ قلوب

إنَّما هنُّ قروجُ

موتُ بعض الناسِ في الأرْ

ضِ على قومٍ فتوحُ

نحْ على نفسكَ يا مس

كينُ إنْ كنتَ تنوحُ

ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما سمعه الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان من أغزر الناس دموعاً في وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة. نقول: ولو أن أبا العتاهية لم يطرح ظل نفسه على ذلك الشعر وقتئذ وعمل على أن يصيب حقيقة غرض الرشيد، لكان أول واضع في الإسلام للشعر الذي يسمى أغاني الشعب، ولجاء بعده من يأخذ في طريقه ويفتن فيها حتى توضح أغاني الشعب الاجتماعية والسياسية على حقيقتها، ويكون ذلك من أرقى أبواب الأدب العربي، ولكن ظل الشاعر كان في ذلك الغضب ثقيلاً بارداً كأنه قطعة من ظلمة حبسه، أو كأنه ظل شيطاني لا ينبسط إلا ليطوي الأشعة المنبعثة من الأفكار الصالحة. وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا على بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته، لأنه يعرف في الإعراب.وعلي هذا كان كاتباً في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق:دخل مرةً سوق الدواب، فقال له النخاس: هل من حاجة ؟ قال: نعم، أردت فرساً قد انتهى صدره، وتقلقت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخط بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثسق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور.فقال النحاس: هكذا كان فرسه صلّى الله عليه وسلم. . .!وكان مثل هذا التقعر خاصاً بجفاة الأعراب ممن يطرأون من البادية، فلما فشا اللحن ولانت جوانب الكلام، أخذ في طريقهم جماعة من النحويين، فكانوا يبالغون في التقعير والتعقيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، يريدون بذلك أن يتبادوا في الحضريين ليكونوا أعرابهم، فكانت هذه الأعرابية الكاذبة تمثيلاً مضحكاً عند العامة، وثقيلاً مبغضاً عند العلماء، ومن أشهر أولئك: عيسى بن عمر الثقفي، وهو رأس المتقعرين وفاتحة تاريخهم ( توفى سنة 149 )، وأبو علقمة النحوي، وأبو خالد النميري، وأبو محلم الراوية، وغيرهم، ومن أثقل ما رأيناه في التقعير، هذا الكتاب الذي كتبه أو محلم ( في أواخر القرن الثاني ) إلى بعض الحذائين في نعل كانت له، وهذه عبارته كما رواها القالي في أماليه:( ذنها، فإذا همت تأتدن فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكبةٍ ولا جشبةٍ، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهوة فسن رأس الإزميل، ثم سم بالله وصلِّ على محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم انحها كوفاً رقيقاً، واقبلها بقالبي أخنسين أفطسين غير خليطين ولا أصمعين، وليكونا وثيقين من أديم صافي البشرة غير نمش ولا حلم ولا كدش، واجعل في مقدمها كمنقار النغر ). لا جرم عد أمثال هؤلاء في الثقلاء، لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطب الأعراب الفصحاء.زوقد ألف أبو فرج النحوي المتوفى سنة 499 كتاباً جمع فيه أخبار المتقعرين وساق نوادرهم. على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بله المتقعرين، ولا الرواة أيضاً، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها. وقد ألف عمر بن شبة النحوي الراوية المتوفى سنة 262 كتاباً فيمن كان يلحن من النحويين إلى عهده.واستمرت العامية فاشية بما كثر من أسبابها وتوفر من وسائلها، ولم يغن الخلفاء ولا الأمراء اتخاذ المؤدبين لأولادهم يقومون ألسنتهم ويأخذونهم بالفصيح واندفع الناس في ذلك، وخاصة بعد أن فسدت سلائق الأعراب أيضاً في القرن الخامس كما سيجيء، وكلما تقدمت البلاد في مذاهب الترف وتقلبت في أعطاف الرقة، بلغت مثل ذلك من العامية، حتى صارت الأندلس - وهي التي انفردت بمشاهير النحاة الذين أعادوا عصر الخليل وسيبويه - تكاد تكون عامية محضة، وقد نقل صاحب ( نفح الطيب ) أن الخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو، استثقلوه واستبردوه !

فساد اللغة في البادية

هذا ما يحضرنا من تاريخ اللحن في الحضر، حيث توفرت أسبابه من الاختلاط والملابسة، أما في البادية فقد بقيت اللغة على خلوصها إلى آخر القرن الرابع، على ما يكون من الاختلاف الذي لابد منه بين طبائع الأعراب كما أومأنا إليه فيما سبق. وقد حكى ابن جني في ( الخصائص ) أنه كان يرد عليهم من عقيل من يؤنس ولا يبعد عن الأخذ بلغته.وابن جني توفى سنة 292 وكلامه في ( الخصائص ) يشعر أن ألسنة البدو يومئذ بدأت تضطرب حتى كان ينبه بعضهم بعضاً إلى الصواب، وحتى ظهر في بعض طوائفهم شيء من مرذول القول، قال: ( وقد طرأ علينا مرة أحد من يدّعي ( الفصاحة البدوية ) ويتباعد عن الضعفة الحضرية، فتلقينا أكثر كلامه بالقبول وميزناه تمييزاً في النفوس موقعه، ثم ذكر أن هذا البدوي ركب في بعض شعره قياساً غير صحيح، وتكرر منه ذلك، فطرحوا لغته، قال: وكان من أمثل من رأيناه ممن جاءنا ). على أن اختلاف طبائع الأعراب قديم، لأنهم يرثونه عن سلفهم وأوليتهم، وقد يكون من ضعف تلك الطبائع ما يعده الثقات فساداً، لانحطاطه في الفصاحة، لا لأن فيه لحناً، إذ العلماء إنما يطلبون فصح اللغة ويقدرون الأعراب على حسب ما عندهم من ذلك.وقد ذكرنا في الكلام على ( أفصح القبائل ) من نصوا على قوة الفصاحة فيهم بعد الإسلام، أما الضعاف الذين يوجه ضعفهم على جهة ما أشرنا إليه فلم نقف على نص يعين قوماً منهم، إلا ما ذكروه عن أعراب الحليمات فقد روى العسكري عن أبي زيد أن الكسائي المتوفى سنة 189 بعد أن أخذ العلم الصحيح عن أساتذة البصر، خرج إلى بغداد، فقدم أعراب الحليمات وهم غير فصحاء فأخذ عنهم شيئاً فاسداً فخلط هذا بذاك فأفسده: وهذا الفساد ظاهر المعنى كما ترى. ولم نعثر على نص يثبت خلوص لغة الأعراب فيما وراء القرن الرباع، ولا يمكن أن يكون ذلك مع اضطراب الفتن واسعجام الدولة وغلبة العامية وانقطاع حاجة العلماء إلى عربيتهم الفطرية، ودرس معاهد الرواية، ثم فشو الاختلاط بين العرب وعامة الأمصار كما سيمر بك، وخاصةً في الحجازيين منهم، حيث يختلف إليهم الحجيج من جميع الآفاق، غير أننا رأينا في معجم ( معجم البلدان ) لياقوت الحموي المتوفى سنة 626 في لفظ العكوتين ( تثنية عكوة: وهو اسم جبلين منيعين مشرفين على زبيد باليمن ) قوله: ( ومن أحدهما عمازة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، من موضع فيه يقال له الزرائب. . .). وقال الراجز:

إذا رأيتِ جبليْ عُكادِ

وعكوتين منْ مكانٍ بادِ

فأبشري يا عينُ بالرقادِ

قال: ( وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب، وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم: لم تتغير لغتهم، بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه ). ثم رأينا في ( القاموس ) لمجد الدين بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى بمدينة زبيد سنة 817 في مادة ( ع ك د ) أن عكاد جبل باليمن قرب مدينة زبيد ( وأهله باقية على اللغة الفصيحة )، وقد زاد شارحه مرتضى الزبيدي - أقام بمدينة زبيد مدةً طويلةً فعرف بهذا اللقب - المتوفى سنة 1205 قوله: ( إلى الآن ) ثم قال: ولا يقيم الغريب عندهم لأكثر من ثلاث ليالٍ خوفاً على لسانهم. ولا يعرف قوم خلصت لغتهم غير أولئك العكاديين، وعبارة ياقوت تدل على أنه لم يكن يعرف في زمنه غيرهم أيضاً، على أن لسان البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب لا يزال إلى اليوم أكثر شبهاً بالفصيح من بعض الوجوه دون غيرهم من سائر العرب، وأظهر ما يكون ذلك على ما تبينه الرواد في سكان حارب وبيحان.وكذلك يقال في قبائل فهم وقحطان في الحجاز: إنهم أكثر انطلاقاً في الألسنة من سائر عرب الشمال، والله أعلم.

طبائع الأعراب

بقي أن نذكر شيئاً عن طبائع الأعراب الفصحاء الذين كانوا يطرؤون على الحضر فتؤخذ عنهم اللغة، لأن العلماء كانوا إذا وجدوا منهم من يفهم اللحن وعلل الإعراب بهرجوه وزيفوا طبعه وطرحوا لغته، كما يفعلون بمن لم يخلص منطقه وبمن يرق طبعه وتضعف فصاحته، لإغراقه في علل الحضارة وأسبابها، فقد ذكروا أن أبا عمرو بن العلاء ( توفي سنة 154 ) استضعف يوماً فصاحة أبي خيرة العدوي الأعرابي، فسأله: كيف تقول: حفرت الإران ؟ فقال: حفرت إراناً.فقال له أبو عمرو: ألان جلدك يا أبا خيرة حين تحضّرت ! وهكذا كانوا: إذا ارتابوا بفصاحة أعرابي وظنوا أن جلده قد لان وذهب جفاؤه الذي يعدونه مادة الفصاحة، وضعوا له قياساً غير صحيح وسألوه عنه، فإن نطق به طرحوه، وإلا كان عندهم بتلك المنزلة، وإنما يعمدون إلى الأقيسة غالباً لأن قياس العربي قريحته كما بيناه من قبل، والقريحة مظهر الفطرة، قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو يقول: ارتبت بفصاحة أعرابي فأردت امتحانه، فقلت بيتاً وألقيته عليه، وهو:

كمْ رأينا منْ ( مسحبٍ ) مسلحبٍ

صارَ لحمَ النُّسورِ والعقبانَ

فأفكر فيه ثم قال: رد عليَّ ذكر ( المسحوب )، حتى قالها مرات، فعلمت أن فصاحته باقية.ولا تجد الأعرابي ينطق هذا إلا إذا ضعفت فصاحته وبدأت سليقته تتحضّر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه. قال ابن جني: ( سألت مرة الشجري - وهو أعرابي من عقيل كانوا يرجعون إليه في اللغة - ومعه ابن عم له دونه في الفصاحة، وكان اسمه غصناً - فقلت لهما: كيف تحقران حمراء ؟ فقالا: حميراء.وواليت من ذلك أحجرفاً وهما يجيئان بالصواب، ثم دسست في ذلك علباء، فقال غصن: عليباء، وتبعه الشجري، فلما همّ بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال: آه علبي. . .). وقال في موضع آخر من ( الخصائص ): سألته يوماً - يعني الشجري - كيف تجمع دكاناً ؟ فقال دكاكين.قلت: فسرحاناً ؟ قال سراحين. . .قلت: فعثمان ؟ قال عثمانون، فقلت له: هلا قلت عثامين ؟ قال: أيش عثامت ؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته ؟كذلك نقل عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني ( توفي سنة 255 ) في كتابه الكبير في القراءات، قال: ( قرأ عليَّ أعرابي بالحرم: ( طيبي لهم وحسن مآب ) فقلت له: طوبى. . .فقال: طيبى، فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فلما طال عليَّ قلت: طوطو. . .فقال: طي طي. . .وهكذا نبا طبع الأعرابي إلا عن لحن قومه وإن كان غيره أفصح منه، ولم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه هزّ ولا تمرين !على أن طبع العربي قد يجذبه إذا توهم القياس، ومن ذلك ما رواه صاحب الأغاني أن عمارة بن عقيل الشاعر ( في القرن الثالث وهو الذي يقال إن الفصاحة ختمت به في شعراء المحدثين ) أنشد قصيدة له جاء فيها ( الأرياح والأمطار ) فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبيعي. . .أما تسمع قولهم رياح ؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك ! قال: صدقت ! ورجع إلى الصحيح.وقبله كان الفرزدق يلحن، وكان عبد بن يزيد الحضرمي البصري مغرى باعتراضه ونسبته إلى اللحن الحضري، حتى هجاه بقوله:

فلوْ كانَ عبدُ اللهِ مولىً هجوتهُ

ولكنْ عبدُ اللهِ مولى المواليا !

فقال له الحضرمي: لحنت. . .ينبغي أن تقول: مولى موالٍ، والفرزدق هو القائل:

وعضَّ زمانٌ يا بنَ مروانَ لمْ يدع

منَ المالِ إلا مسحتاً أو مجلّفُ

قال ابن قتيبة: وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يرتضى، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه، وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا. . .!وبعد أن فشت العامية وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة بسؤالهم من الرواة والعلماء، وكذلك كانوا لا يخاطبون العامة إلا بمحضرهم ومساعتهم في ( الترحمة )، والآثار من ذلك كثيرة نكتفي منها بما رواه الجاحظ في البيان، قال: رأيت عبداً أسود لبني أسد قدم عليهم من شق اليمامة، فبعثوه ناطوراً، وكان وحشياً لطول تغربه في الإبل، وكان لا يلقى إلا الأكرة ( الحراثين )، فكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إلي، وسمعته يقول: لعن الله بلاداً ليس فيها عرب. . .أبا عثمان، إن هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس، فلولا أن الله رقّ عليهم فجعلهم في حاشية لطست هذه العجمان آثارهم !وقد بقيت أشياء مما يصلح لهذا الباب أمسكنا عنها حتى يقتضيها مكنها في بحث الرواية.

العامية في العرب

قد علمت كيف بدأت العامية وكيف خرجت من اللحن، وأن ذلك لم يكن إلا في أوائل الإسلام، فلا عبرة بما يهجس به بعض أولئك الذين تراهم في مجازفتهم وتخرصهم كأنما يشرحون للناس ( علم ) الغيب.فيزعمون أن العامية كانت لغة بعض العرب في الجاهلية الأولى، وأن القوم كان لهم فصيح وعامي، معتلين لذلك بما عثر عليه من آثار بعض رعاة تلول الصفا وغيرهم مما يرجع إلى غابر أزمانهم، ثم ما وجدوه من المخطوطات التي جرت فيها كلمات تشبه الفصيح.ونحن نقول إن كل ذلك لا يلحق العرب من سيئه شيء، لأن أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم، فلم يكن لهم معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلام يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة ؟ فكانت أن لهؤلاء لغة متميزة عن العربية الفصحى نشأت عن أسباب خاصة، كذلك يقال في غيرهم من تمي لغتهم عن المضرية، ولا يذهبن عنك أن هذه الضرية الفصحى لم تخلق مضرية فصحى، بل مرت في أطوار زمنية هذبت منها وأخلصتها كما بيناه في موضعه، فلا يمكن أن يقال إنه كان للعرب فصيح وعامي، إلا إذا أجرينا أحكامنا وألزمناهم ما لزمنا من ضعف النظر وسوء التأول، واعتبرنا ما بيننا وبينهم من تقادم التاريخ كأنه سواد ليل ختم به الأمس !وكل ما صح من ذلك قبل الإسلام حين فشت المضرية، أن الذين كانوا يسكنون الريف من العرب ويضربون على حدود الأعاجم، كانت ترق طباعهم وتلين ألفاظهم ويكثر الدخيل فيها، ومن ثم لا يكون لهم جفاء الخلص وقوة ملكاتهم، واعتبر ذلك بعي بن زيد العبادي الشاعر الذي نشأ في ديوان كسرى، فكل شعره فصيح لا لحن فيه، إلا أن رقة ألفاظه سوغت للرواة أن يحملوا عليه شعراً كثيراً مما يسهل وضعه ولا يباين ديباجته الحضرية فيصعب تمييزه في النسبة. ومما نذكره ثبتاً لما نحن فيه، أن الرواة قد جاسوا خلال البادية بعد الإسلام بقليل، وضربوا في أطرافها، وشافهوا القبائل، ونقلوا عنهم كثيراً من الشاذ والدخيل والوحشي والمتروك، ورأيناهم عدوا ذلك جميعه لغات، بل كانوا يجعلون الاحتجاج بلغاتهم على نسبة بعدهم من قريش التي هي سرة العرب، فاعتبروا لغة قريش أفصح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، ثم تركوا الأخذ عمن بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن، لمجاورتهم الفرس والروم والحبشة، فاعتدوا لغاتهم غير صريحة لذلك، وهو على كونهم أغفلوا أمرها قد قلوا منها أشياء كما مر في لهجات العرب، فلو أنهم عرفوا لهم عامية أو ما هو في حكمها، لأشاروا إليها في بعض الروايات، ولما صح أن يعدوا ما نقلوه عنهم في باب اللغات، هذا على أنهم أدركوهم وقد تتابعت أجبالهم وانثالوا أواخر على أوائل في مخالطة الأعاجم وملابستهم، فلأن ينزهوا عن العامية في جاهليتهم أولى. وما زالت لغات العرب جارية على سنن الفطرة، معتبرة في حكم اللغات المستقلة - على ما يكون في طبقات كلامهم من الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسميج والخفيف والثقيل، وذلك كما قال الجاحظ: كله عربي، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا - ما زالت لغاتهم على ذلك حتى خالطوا السوقة في الأمصار الإسلامية، ونشأت أجيالهم على سماع العرب والعامة، فأخذوا من هؤلاء وهؤلاء، وكان ذلك سريعاً في ألسنتهم، ففسدت السليقة العربية فساداً عربياً أحال منطقهم، وقد كانت مخالطتهم للأعاجم أبقى على فطرتهم، لأنهم إنما يعربون وينقلون عنهم، ولكنهم لا يحكونهم في المنطق، بخلاف أمرهم مع العامة، ولكل شيء آفة من جنسه، لهذا رأينا الجاحظ يعد أقبح اللحن في زمنه لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة وبقرب مجامع الأسواق، ومن هنا دب الفساد في ألسنتهم بما يدور على مسامعهم من رطانة السوقة ولحن البلديين، ثم ما يتعاطونه من هذا الشأو في مخاطبتهم التي بها قوام المعاملات. فلا سبيل إلى القول إذاً بأن للعرب فصيحاً وعامياً، إلا بعد فشو هذا الفساد العربي في منطقهم منذ القرن الخامس، أما ما وراء ذلك في بادية العرب فلحن أو لغة لا أكثر.

شيوع اللغة العامية وفساد العربية

كانت العامية فقي الأمصار الإسلامية أول عهدها لحنا صرفاً، لما بقي في أهلها من آثار السليقة، وعلى حساب هذه الآثار كانت درجاتها في القرب من الفصيح والبعد عنه، فكانت لا تزال قريبنة من الفصحى في عوام الحجاز والمصرين: البصرة والكوفة، ما تسمع قولهم رياح ؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك ! قال: صدقت ! روجع إلى الصحيح.وقبله كان الفرزدقإلى القرن الثالث، حتى عرف بعضهم المولد بأنه ما يكون من هذا الضرب لحناً وتحريفاً كما أومأنا إليه من قبل. وقد ذكر الجاحظ لغة أهل المدينة لعهده، فقال: إن لهم ألسنة ذلقة، وألفاظاً حسنة، وعبارة جيدة. . .ثم قال: ( واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب ). أما العامة في الشام ومصر والسواد، فقد علقوا ألفاظاً من الفارسية والرومية والقبطية، فسدت بها لغتهم فساداً كبيراً، لأنهم خلطوها بها خلطاً ولم يجانسوا بين الأصل والدخيل، وليس يخفى أن أكثر ما تقتبسه العامية إنما هو من الأسماء، وأن اقتباس الصفات فيها قليل، لأن الأسماء هي في الحقيقة أدوات الاجتماع، والعوام إنما يلتمسون التعبير والإبانة كيفما اتفق لهم هذا الغرض، ولقد كانت الشام ومصر وسواد العراق أوفر خصباً وأكثر عمراناً من سائر الأمصار الإسلامية، فمن ثم كان عوامها أسقط ألفاظاً، وقد رأينا العلماء يصفون اللفظ العامي الساقط المبذوء وما يدخل في باب الرطانة من ذلك، بالسوقي - نسبةً إلى السوق - لا يتجاوزون هذا الوصف، لأنه أبين في الدلالة على الفساد والابتذال، ةلأن الأسواق لا تغنى من أمر الجيد والزيف إلا بألفاظ لغة الأرزاق ( الدراهم ). . .وهي بعد مجامع العامة على تباين أجناسهم، ومعرض الأشياء على اختلاف جهاتها، وقد قلنا في اللغات التجارية التي لا قوام لها من نفسها، وتلك حقيقة لغات الأسواق. ورأينا العلماء ألفوا كتباً ( فيما تلحن فيه العامة ) ككتاب أبي عبيدة، وأبي حنيفة الدينوري، وأبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكتاب ( الفاخر في لحن العامة ) للمفضل بن سلمة، و ( لحن العامة ) للفراء، وكل هؤلاء لا يتجاوزون المئة الثالثة، ولا يعدون في صنيعهم أن يوردوا ألفاظاً من الفصيح حرفتها العامة، ثم يذكرون أصلها على صحته، وذلك يدل على أن العامية لم تكن طغت على الكلام، وإلا لما أمكن حصر ما يلحن فيه أهلها، بل لما كان لهذا الحصر معنى لا في القليل ولا في الكثير. أما بعد القرن الثالث فكان يؤلف في ( لحن الخاصة ) كالكاتب الذي وضعه أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 وسمّاه ( لحن الخاصة )، وكتاب الحريري المسمى ( درة الغواص، في أوهام الخواص ) وقد وضع له الجواليقي تتمة، لأن اللحن بعد ذلك إنما كان يؤاخذ به خواص العلماء والأدباء - في كتابتهم لا في أقوالهم - أما العامة فكانت مناطقهم كما قلنا: لغة في اللحن لا لحناً في اللغة. ومما أعان على فصاحة العامية في صدر الإسلام، قيام الدولة الأموية العربية، وديانة العرب فيها بالعصبية، إلى سقوطها، حتى إن الموالي - وهم من الأوشاب والزعانفة في رأي العرب يومئذ لاحترافهم وخدمتهم إياهم وكانوا يسمونهم بالحمراء - أقبلوا على النحو والعلوم وأولعوا بها، حتى خرج منهم فقهاء الأمصار جميعاً في عصر واحد، ولولا خوفهم معرة اللحن ما ثبتوا على ذلك، لأنه إن كانت العرب قد أبقت عليهم فلأن خطبهم في ذلك لم يستفحل. فلما جاءت الدولة العباسية وكان قيامها بنصرة الفرس - وخصوصاً أهل خراسان، حتى لقبوها بالدولة الخراسانية الأعجمية - ضعفت العصبية للعرب بما سكن من سورتهم وفثئ من حدتهم، فكان ذلك فتقاً في العربية أيضاً، ولم ينتصف القرن الثالث حتى اختلط العرب بالفرس والترك والفراعنة وغيرهم من طبقات الأعاجم الذين اتخذوا للدولة، وكان ذلك بدء شيوع الألسنة الحضرية التي هي لهجات العامية. والبعد عن اللسان - كما قال ابن خلدون - ( إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم، وهذه الملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليها، يبعدون عن الملكة الأولى.قال: ( واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمفرب والأندلس والمشرق: أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة، والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد، وكذا المشرق: لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع، فسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى، وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة، وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً ). ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقسة بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب ( منذ القرن الرابع ) وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية - فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحاً لبقاء العربية المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلاً بالأمصار، فلما ملك التتر والمغول بالمشرق ( في النصف الثاني من القرن السابع ) ولم يكونوا على دين الإسلام، ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربي على الإطلاق ولم يبقَ لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس، وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من كلام العرب.قال ابن خلدون.وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالباً لها، فانحفظت ببعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبقَ لها أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسها في المجالس.

لهجات العامية وأسباب اختلافها

وقد اختلفت لهجات العامية اختلافاً بيناً، ونهجت في كل مصر من الأمصار منهجاً متميزاً، بل هي جرت في ذلك مجرى اللغات المقتطعة من أصل واحد، كالعربية والعبرانية والسريانية، وكاللغات المشتقة من اللاتينية ونحوها مما هو من تكوين الومن، ليس يخفى أن صنعة الزمن إنما تجري على المباينة والتنويع، ومدارها على إضافة الأعمار التاريخية في المصنوعات بحيث لا تنقطع الصنعة ما دامت لها مادة في الوجود، وذلك متحقق في كل ما ترى فيه آثار الزمن من أرقى أنواع الإحياء، كتكوين الأمم والأخلاق والعادات إلى أدنى أنواع الجماد كالجبال وغيرا، فالجبل من ذرات مجتمعة، والأمم كلها من أصل واحد، واللهجات العامية كافة من العربية الفصحى، ولكن الزمن لم يحفظ في الجميع إلا نسبة المادة فقظ، فكأن كل يوم من الدهر إنما هو عامل مستقل يترك تأريخ عمله في كل الموجودات. وإنما اعتبرنا اللغات العامية بسبيل الأعمال الزمنية، لأنها مطلقة غير مقيدة بالقيود الثابتة، كالكتابة والقواعد العلمية ونحوها مما يعتبر حداً للعمر التاريخي، فإن ما كتب لا يتغير، وما لا يتغير فقد فرغ منه الزمن، لهذا لا يمكن أن تكون اللغات العامية مستقرة على حالة واحدة في كل مصر من الأمصار من عهد نشأتها، بل لابد من تغيرها في المصر الواحد جيلاً بعد جيل، ولولا هذا التغير ما تباينت في الجملة، لأن جميعها راجع إلى لغة واحدة وهي العربية الفصحى، وإذا أردت أن تعتبر ذلك، فالق رجلاً من المعمرين في العامة، فإنك تلقى فيه تاريخ طبقتين أو ثلاث من هذا التغير اللغوي. وليس يمكن البتة تأريخ هذا التغير في الشعوب التي تنطق باللهجات العامية على وجه من التفضيل وضرب واضح من البيان، لأن هذه اللهجات غير معروفة، وقد جهدنا كثيراً في البحث فلم نعرف أن أحداً نقل منها أمثلة في أدوارها الماضية، لأنها لغة الحاجة الراهنة، فلا يتصرف فيها بالتفنن في العبارات وتشقيق الألفاظ وما إلى ذلك مما ذهب الفصيح بمزيته، إلا ما يكون في بعض آدابها، كالموالي، والزجل، والشعر البدوي، وغيرها، وهذه الأنواع كلها يتوخى فيها أقرب الوجوه إلى الفصيح، وأكثر القائمين عليها من الفصحاء، وإنما يأتون بها تفنناً في وجوه الكلام.وقد وقفنا على أشياء كثيرة منها في عصور مختلفة إلى عصرنا هذا، فلم نرَ بينها على تباين جهات القائلين إلا فروقاً قليلة في الصيغ العامية، وألفاظاً نادرة من اللغة البلدية، كان أكثر ما أصبناه منها في ديوان ابن قزمان الأندلسي ( رأس الزجالين كما سيجي في بابه ) على أن شعر البدو وحده يمتاز بتصوير اللهجة البدوية. بيد أننا وقفنا على قاعدة واحدة من قواعد عامية شرق الأندلس في القرن السادس، وهي مثال من شذوذ التصرف العامي الذي أومأنا إليه.فقد نقل السيوطي في ( بغية الوعاة ) في ترجمة الحافظ أبي محمد بن حوط الله المتوفى بغرناطة سنة 612 في تفسير هذا اللقب ( حوط الله ): قال ابن عبد الملك: كأنه مصدر حاط يحوط مضافاً إلى الله تعالى. . .( وذكر شيخنا أبو الحكم أن أصله حوطلة، مصغر حوت مؤنث على لغة شرق الأندلس، فإنهم يفتحون أول الكلمة من نحو الحوت والسعود وينطقون بالتاء طاءً - فيقولون في حوت: حوط - ويلحقون آخر المصغّر لاماً مشددة مفتوحة في المؤنث مضمومة في المذكر، وهاءً ساكنة، فيقولون في تصغير حوت: حوطلَّة، وحوطلُّة ). فمن الذي يسمع ( حوطلُّة ) في هذه الأيام، ويفهم أن المراد بها تصغير حوت ؟ وقس على هذه الطرفة الغريبة ما لا سبيل إلى العثور عليه. وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته يرجع إلى أربعة أسباب:1 - وراثة المنطق: فإن التقليد في حكاية اللغة أصل طبيعي في الإنسان ولما بدأ الفساد والاضطراب في كلام أهل الأمصار، كان أهل الأمصار، كان أهل كل مصر يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب.قال الجاحظ: ( ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر. . .).قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة: إنما الفصاحة في أهل مكة، فقال ابن مناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم.أنتم تسمون القدر برمة، وتجمعونها على برام، ونحن نقول قدر، ونجمعها على قدور، قال الله عز وجل: ( وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ ) وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات، وقال الله - تبارك وتعالى -: ( غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ) وقال ( وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ). . .إلى أن عدّ عشر كلمات. فحكاية الألفاظ واقتباس الأخف من اللغات - وإن كان أضعف وأقل استعمالاً في أصل اللغة - هو من خواص العامة: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، فضلاً عن أن يحكموا اللهجات العربية نفسها، كما وهم بعضهم في الاستدلال بالمنطق على النسب، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه.زوكذا يقال في حكايته8م ألفاظ الأعاجم، كالذي كان في لغة أهل المدينة مما علقوه من الفرس النازلين بهم، وفي لغة البصرة إذ نزلوا بأدنى فارس وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الكوفة إذ نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الشام إذ كانوا من بقايا الروم، وفي لغة مصر إذ كانوا من بقايا القبط، وكذلك في لغة الأندلس والمغرب، وهذا أيسر أسباب الاختلاف التي أشرنا إليها. 2 - علل الورائة وطبيعة الإقليم: وذلك أن الناس يختلفون اختلافاً طبيعياً في كيفية النطق بما يكون في ألسنتهم من عيوب الوراثة: كاللفف، واللجلجة، والغمغمة، وما إليها، وبذا تختلف الكلمة الواحدة باختلاف الناطقين بها، حتى كأن فيها لغات كثيرة وهي لغة واحدة، وهذا فضلاً عن أن اللغات الأعجمية: كالفارسية والرومية والنبطية ونحوها، تصنع الألسنة على طرق متباينة بما فيها من التباين في المنطق بحسب الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها مما يكون في اللغات كزاً أو دمثاً بحسب الأقاليم، حتى كأنه صورة ما بين الأمكنة من التباين الطبيعي، إذ اللغة صورة نفسية للإنسان، والإنسان صورة نفسية للإقليم. وعلى هذا تجد منطق الإنجليزي لعهدنا كأنه نفخ آلة تدار بالفحم الحجري. . .وتكاد تحسب منطق الفرنسوي غناءاً موسيقياً، وهكذا مما لو تدبرت حقيقة الاختلاف فيه لرأيتها دلالة طبيعية على اختلاف الأقاليم، كأن الطبيعة تسم الألسنة كما تسم الوجوه، وكأنها مصنع إنساني فلا يخرج منه كل إنسان إلا برقمه وسمته، ولهذا السبب صارت كيفية النطق كأنها تنشئ لغة أحياناً، وصارت اللهجات العامية تختلف في المصر الواحد بل في البلدين المجاورين، كما تراه في سوريا ومصر، وكما حدثوا به عن عرب تونس، فإن كل قبيلة هناك على ما يقال تتميز بخواص منطقية، حتى كأن كلام الواحد منهم انتساب صريح لقبيلته. ومما لا شك فيه أن العرب أنفسهم كانوا يعرفون تأثير الإقليم على فصاحتهم، ويعتبرون اختلاق ألسنتهم بهذا السبب.وقد وقفنا على ثبت ذلك، وهو ما رواه القالي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: لقيت أعرابياً بمكة، فقلت له: ممن أنت ؟ قال: أسدس.قلت: ومن أيهم قال: نهدي.قلت: من أي بلاد ؟ قال: من عمان.قلت: فأنى لك هذه الفصاحة ؟ قال: إنا سكنا قطراً لا نسمع فيه ناجخة التيار.قلت: صف لي أرضك.قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صردح، ورمل أصبح. . .فكأنه أراد أن لغته إنما جانست هذه الطبيعة في نقائها وجفائها، فمن ثم كانت فصيحة خالصة. 3 - الإعراق في العجمة:فإن العجمة تصنع اللسان كما قلنا، ولذلك فهو إذا تناول الألفاظ العربية أداها على الوجه الذي يستقيم له وإن كان معوجاً وتصرف فيها بالحذف والقلب والإبدال، ومزجها بمادة العجمة حتى تنقلب إلى رطانة أو ما يشبهها، ولذا قال ابن خلدون: ( ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر، قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية وحصول ملكتها، لتمكن المنافاة حينئذ.قال: وأعتبر ذلك في أهل الأمصار، فأهل إقريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وابعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم ). ولقد نقل ابن رشيق أن بعض كتّاب القيروان كتب إلى صاحب له: ( يا أخي ومن لا عدمت فقده. . .أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، ومعانا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج.وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلاً ليس من هذا حرفاً واحداً، وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله ). ( وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيه ما ذكرنا، وكذلك أشعراهم كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد ( سنة 778 ) ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف، وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها. . .وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. . .وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية ( في القرن الخامس ) وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص ذلك، شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. . .وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، ( بما هم عليه من معاناة علوم اللسان ) ولأن أهل اللسان العجمي الذي تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس.والبربر في هذه العدوة هم أهلها ولسانهم لسانها، إلا في الأمصار فقط، وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم، بخلاف أهل الأندلس. . .). قلنا: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلاً عما فيها من جسأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلأا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه، لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية. ومما يجري مجرى الإعراق في العجمة، ضعف اللسان ورخاوته بحيث لا يحتمل الكلام التي تتألف من أحرف كثيرة، أو تكون مركبة تركيباً غير مستخف، فيحصل الذهن من الكلمة صورة مجملة تتركب من أخف أحرفها، ثم تصاغ على طريقتي القلب والإبدال بحيث تخرج كأنها وضع جديد، وأكثر ما تصيب أمثلة ذلك في لغات الأطفال وألفاف العوام الذين لا مران لهم على تصريف الكلام والتقلب في فنونه، وإذا التمست ذلك في كلامهم أصبت كثيراً من أمثلته، وتراهم فيه يختلفون ضعفاً وقوةً، فلابد أن تكون طائفة من ألفاظ العامية قد جرت في أصلها على هذا الوجه. 4 - مخالطة الأعاجم:وهذا السبب مما ينوع مادة العامية تنويعاً محدوداً، لأنه مقصور على ما يقتبسه أهل الأمصار من يلابسونهم من الأمم المستعجمة، كأسماء الأدوات ومرافق الحياة ونحو ذلك مما لا أصل له في مواضعاتهم واصطلاحهم، وهو الدخيل بعينه إلا أن العامية تحيله إليها وتلحقه بمادتها كيف كان ما دامت لها حاجة إليه - وهي لغة الحاجة كما قلنا - فإذا مضى وقته أو انقطع سببه أهملته فتنزل منها منزلة الألفاظ المماتة، وذلك كأسماء الثياب التي كانت مستعملة في مصر لعهد المماليك مثلاً وما يجري مجراها من الألفاظ الفارسية والتركية والكردية وغيرها. بيد أن الأمصار تختلف في هذه الاقتباس أيضاً بحسب الأسباب الثلاثة التي قدمناها، فمنها ما لا يتناول أهله إلا الألفاظ التي تمس إليها حاجتهم ثم يصقلونها ويعربون عجمتها ويخففون من غرابتها بما استطاعوا من المجانسة، وهؤلاء هم الذين بقيت لغتهم أقرب إلى العربية، كأهل مصر. ومن أهل الأمصار من يذهبون في ذلك مذهباً وسطاً لتكافؤ تلك الأسباب فيهم، كعامة الشام، ومنهم من يأخذ في ذلك كل مأخذ، كأهل طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش، على تفاوت قليل بينهم، فقد أثبت الذين عنوا بدراسة هذه اللغات من المستشرقين أن الجزائريين ينقلون الألفاظ الفرنسوية أقبح نقل، حتى ليتعذر أحياناً ردها إلى أصولها ( وفي لغتهم ألفاظ تركية أيضاً، وقليل من الإسيانية والإيطالية ) وأن في منطق التونسيين كثيراً من الألفاظ الفرنسوية والتركية الإيطالية، وأن عامية المراكشيين خليط من العربية والبربرية والفرنسوية والإيطالية والإسبانية. وجماع القول إنه لابد من المجانسة الطبيعية في اقتباس الدخيل، فكلما رقت عذبات الألسنة ولانت جوانبها، كان الدخيل بحسب ذلك في منطقها، ومن ثم لا تسرف فيه بل تقف منه عند الحاجة.ولقد رأينا رجلاً من المعمرين في بعض القرى المصرية لا ينطق لفظة ( البوليس ) للشرطة إلا هكذا: ( البلوص )، ولا يرجع عن لحنه مهما راجعته، لأن البلوص في اصطلاحهم ( بلوص الزمارة، وهو هنة من القصب تشق على وجه معروف ثم نوضع في رأس اليراع المثقب ) فكأنه استروح لهذا الوضع الثابت في لغته فألحق به الوضع الطارئ عليها وترك تعيين الدلاة للقرينة - وبخلاف ذلك ترى الدخيل في المناطق الجاسية والألسنة الكزة كما أشرنا إليه. وقد بقيت عامية البدو أقرب إلى الفصيح من سائر اللهجات، لقلة مخالطتهم للأعاجم، ولا يزالون على حيال لغات آبائهم إلا في الزيغ عن الإعراب، وإلا في ملكة الوضع ونظام اللغة ولهم في عاميتهم المحافل والمجامع والخطباء والشعراء، وقد اعتبر ابن خلدون تغير ألسنتهم من قبيل ما تغير في لسان مضر عن موضوعات اللسان الحميري ( أي تغيراً قياسياً في الملكات )، وذلك بعض ما وهم فيه، وإنما استدرجه الغلو في الرد على ( خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق ) كما يقول، حيث يزعمون أن البلاغة لعده قد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد اعتباراً بما وقع في أواخر الكلام من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. . .إلخ.وإنما نظر النحاة إلى معنى كمالي في الطبيعة، ونظر ابن خلدون إلى الطبيعة في معناها، فإن اللغة من الملكات المتوارثة، وشرط الكمال في الوراثة ارتقاء النوع وتحسينه، فإذا كان العرب قد ورثوا لغتهم ثم أضافوا إليها أسباباً كثيرة من معاني الكمال وورثوها أعقابهم فنقص هؤلاء من كمالها ونكروا من محاسنها، أفلا يكون ذلك خليقاً بأن يسمى فساداً باعتبار المعنى الكمالي وإن كان عن أسباب طبيعية ثابتة. ولما تعطلت ألسنة البدو من الإعراب تصرفت في الكلام على غير نظام، فاختلفت من ثم لهجاتهم، حتى لتسمع العربي منهم فيغطي عندك عل ما يعطيه كلامه، فإذا هو فصل ألفاظه رأيتها عربية صريحة، وقد سمعنا بعض شعرائهم من المعاصرين ينشد في رثاء الحسين - عليه السلام - شعراً بدوياً مطلعه:

تمنِّتن بلفينْ فوق احصنَّا

يومْ كربلا وونجيهْ قبل الجنَّا

وألقى الشطر الأول متلاحق الكلمات مختلس الحركات فلم نفهم منه شيئاً حتى كشف لنا عن معناه، فإذا هو ( تمنيتني بألفين فوق أحصنة ) يريد نجدة الحسين - عليه السلام - بفرسانه قبل أن يستشهد، وأنظر أين ما نطق مما أراد، وبهذا نتبين ما قدمناه، من أن كيفية النطق قد تنشئ لغة أحياناً. هذا ما نراه في أسباب اختلاف للغات العامية، وهي في جملتها تاريخ طبيعي لهذا الاختلاف، غير أن كل سبب منها في تفصيله يحتمل أبحاثاً مستفيضة بما يلتمس له من الأمثلة في اللهجات المتباينة على كثرتها، ثم ما يستقصى مع ذلك من حوادث التاريخ الاجتماعي التي أنشأت اللغة إنشاءً وجعلت لها في كل مصر معنى متميزاً، وفي كل بلد هيئة مقومة وصت بينة، حتى كأن لغة الأمة على الحقيقة أمة من اللغة. ومما ننبه عليه، أن العربية الفصحى مدنية معنوية لم تبرح قائمة على تحرير هذه اللهجات العامية وتهذيبها كلما خالطتها في التعليم والقراءة - فإن ميراث العامية إنما يثبت في الأميين - وأعتبر ذلك في البلاد التي تفتح فيها المدارس وتنشر الصحف وتبث المؤلفات فإنك ترى عامية أهلها تتفصح على نسبة مطردة بما يلين من حواشيها ويرق من جوانبها ويستأنس من غريبها، وهذا هو السبب في رقة لهجات الحواضر لعهدنا دون ما يجاورها من القرى، ثم في تفاوت لهجات بعض القرى الكبيرة، ثم في اختلاف اللهجة في أهل القرية الواحدة، حتى لقد تجد لهجة الرجل أرق وأعذب من لهجة زوجه وأولاده، ثم تجد مذهبه من ذلك غير مذهب جاره وصاحبه، ولا يكون السبب في هذا التفاوت غير صحيفة يقرؤها كل يوم، فقد بدءوا يرجعون إلى شأن ( عامة التاريخ ) يوم كان الفصيح منتشراً وأسباب البيان متوفرة ومجالس العلم آهلة وحلقات الدروس حافلة، وهكذا يعيد التاريخ نفسه بما تقضي به سنة الله، وإلى الله ترجع الأمور. ^

الباب الثاني

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي