تاريخ آداب العرب (الرافعي)/تاريخ الشعر العربي

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

تاريخ الشعر العربي

تاريخ الشعر العربي

ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلتحق به

يا معين

الأقوال في أولية الشعر العربي:

إذا ذهبنا نتتبع الشعر العربي إلى أوليته، رأينا لدنيا من أحوال الجاهلية تاريخاً سقيم التركيب متفكك الأجزاء مضطرب الجهات، لا يكشف منه التعب ولا يبلغ فيه النصب ؛ وإذا كان ما ورد في كتب اليونان والروم عن جزيرة العرب، وما كشفوه من الآثار في هذا العهد، مما يستأنس بع تأريخ بعض أول الجاهلية، فليس للشعر من مثل ذلك شيء، لأنه لا يعني غير أهله، وهم عرب أميون، ولم يكن للشعر في جاهليتهم الأولى ما كان من الشأن في جاهليتهم الأخيرة ؛ نعرف ذلك لأن تتبع أحوالهم الاجتماعية كما سنشير إليه. وقد تصفحنا التواريخ العربية وراجعنا ما نقلوه عن أهل الرواية وهم مصدر آداب الجاهلية وأخبارها، فرأينا أن ما كتبوه من ذلك إذا صلح أن ينقلع فهو لا يصلح أن يعقل، وهذا المسعودي يروي في ( مروج الذهبه ) أشعاراً عربية للقبائل البائدة: كعاد وثمود وطسم وجديس، وهي روايات لا يقيدها بتاريخ ولا يحدها بهزمن ؛ فيمكن على ذلك أن تدخل في غمار المفتريات والأقاصيص. ولكنا رأيناه يذكر ممن كان في الفترة، أسعد أبا كرب الحميري أول من كسا الكعبة الأنصاع والبرود، قال: وكان مؤمناً، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، ثم استدل على ذلك بشعر نسبه إليه، وهذا منتهى العجب ( ص32 ج1 - مروج الذهب ). ويقول الجاحظ في كتاب ( البيان ) عن هذه القبائل: وقد ذكرت العرب هذه الأمم البائدة والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون: مثل جرهم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور، وقيل بن عثر وذي جدن، ويقال في بني الناصور أن أصلهم من الروم. فجعل لهذه بقايا مغمورين في العرب، ولعل ذلك كان مستفيضاً بين الرواة ليرجحوا به صحة ما نقلوه، إذ الخلف مستودع أخبار السلف ؛ ولكنهم إنما أثبتوا هذه البقايا لما جاء في القرآن عن ثمود من قوله تعالى: ( يوجد آية ) وقوله: ( يوجد آية ) فأخذوا من ذلك أن غير ثمود لهم بقية في العرب، وغفلوا عما يعطيه لفظ الآية ويدل عليه السياق. وقد بالغنا في تتبع أخبار الوقائع والأيام التي ورد فيها للعرب شعر.لأن مثل هذه الوقائع لا يسوقها الرواة نفياً لدليل ثابت ولا إثباتاً لحجة مقتضية، فهي بعيدة بطبيعتها على اختلاق الشعر ؛ ثم جهدنا أن نثبت تاريخ أقدم تلك الأيام ؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بقرينة الأعلام التي ترد فيها، فرأينا في أخبار يوم الرحرحان أن زهير بن جذيمة بن رواحة سيد قيس بن عيلان تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، ولزهير هذا شعر جيد، فحسبنا شعره قيل في أوائل القرن الخامس للميلاد، لأن النعمان بمن امرئ القيس توفي سنة 431، ولكنا رأينا في أخبار داحس والغبراء أن عنترة بن شداد رثى مالك بن قيس المعروف بقيس الرأي.وهو ابن زهير الذي ذكرناه، وقالوا إنه أنشد أباه وقومه القصيدة ؛ وعنترة توفي في القرن السابع للميلاد فلم نظفر مع هذا الخلط بشيء. وروى الجاحظ في كتاب الحيوان عن الهيثم وابن الكلبي وأبي عبيدة، أن كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى وهو ديوانها. . .قال: ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر فبنوا غمدان وكعبة نجران الخ. وذلك يدل على أن العرب اقتصروا في تخليد مآثرها على الشعر أولاً ثم شاركوا العجم في تخليدها بالبناء، ولكن الهمداني وياقوتاً ذكرا أن الذي بنى غمدان، هو ليشرح بن يحصب، وهو من ملوك حمير، كان حوالي تاريخ الميلاد، وقد بقي غمدان إلى زمن عثمان بن عفان وهو الذي هدمه ( ج 1: الحيوان )، ووقف الهمداني على بقاياه في القرن الرابع للهجرة.وعلى ذلك يكون الشعر العربي فخر حمير من قبل الميلاد، ويقول الجاحظ: إذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام ؛ وهذا هو الذي نذهب إليه. وقد ترجح لدينا أن سبب هذا الخلط في كلام الرواة، غفلتهم عن تأريخ الوقائع المعروفة، وجهلهم بما أثبته الفرس والروم في تواريخهم عن ملوك العرب التابعين لهم من المناذرة والغسانيين ؛ فابن قتيبة يقول في طبقاته عن زهير بن جناب: إنه جاهلي قديم، ثم يقول: ولما قدمت الحبشة تريد هدم الكعبة بعثه ملكهم إلى أرض العراق ليدعو من هناك إلى طاعته.وإنما كانت حادثة الحبشة في القرن السادس للميلاد، ونسب ابن قتيبة لزهير هذا البيت المشهور:

منْ كلِّ ما نالَ الفتى

قدْ نلتهُ إلاَّ التَّحيَّة

وهذا البيت نسبه غيره للجيم بن صعب، وعده صاحب المزهر في قدماء الشعراء ؛ وكل ما وقفنا من أقوالهم في قدم الشعر يمكننا أن نورده أمثلة على ذلك الخلط ؛ وقد بالغ بعضهم فعد آباء القبائل في الشعراء، كربيعة ومضر، وكمنبه - أبي باهلة - وغني، والطفاوة، وغيرهم من الأسماء التي لا دليل عليها من خبر أو زمان وكل ما فيها تسلسل النسب وقدم العهد.

تحقيق هذه الأولية:

والذي عندنا أن أولية الشعر العربي لا ترتفع عن مائتي سنة قبل الهجرة، ولا يذهب عنك أننا لا نريد بالشعر التصورات والمعاني، فهذه فطرية في الإنسان، ولا بد أن تكون قد استقلت طريقها في العرب من أقدم أزمانهم إلى ما وراء ألفي سنة قبل الميلاد، وكذلك لا نريد بالشعر مطلق ما اصطلحوا على وصفه من ذلك، فهذا قد يكون منه شيء في العدنانية قبل الميلاد أو حواليه، ولكنه بغير اللغة المضرية طبعاً، وإنما نريد بالشعر هذا الموزون المقفى، باللغة التي وصلت إلينا، وكل بحث فيما وراء لا يتعلق بهذه اللغة نفسها. كانت منازل العدنانيين شمالي بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجد وما وراءها شمالاً إلى مشارف الشام والعراق، ويقال إن لغتهم واللغة الحميرية التي هي لغة عرب الجنوب في اليمن، من أصل واحد، على الاختلاف بينهما في الإعراب والضمائر والاشتقاق والتصريف، وهم ينتسبون إلى إسماعيل، فيكون بدء تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد إذا صح ذلك النسب، وآخر ما ذكرته منهم التوراة يرجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، وذلك زمن بختنصر الذي غزا قبيلة معد، وهي أحد فرعي العدنانية: عك، ومعد.ثم ظل العرب خاملين حتى نبه اسمهم قبيل الميلاد، وذلك أن عقب عدنان إنما هو من قبيلة معد، وقد انقسمت إلى فرعين: نزار وقنص، والكثرة والنسل في نزار، وهم فروع أشهرهم خمسة: قضاعة، ومضر، وربيعة وإياد، وأنمار ؛ وقد ذكر البكري أن مساكن قضاعة ومراعي أنعامهم كانت جدة من شاطئ البحر فما دونها شرقاً إلى منتهى ذات عرق، وهي الحد بين نجد وتهامة، إلى حيز الحرم من السهل والجبل.وقبائل مضر أقامت في حيز الحرم إلى السروات وما دونها من الغور وما والاها من البلاد، وأقامت ربيعة في مهبط الجبل من غمر ذي كندة وبطن ذات عرق وما صاقبها من بلاد نجد إلى الغور من تهامة.وأقامت إياد وأنمار معاً ما بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها، وصار لقنص وغيره من ولد معد أرض مكة وأوديتها وشعابها وجبالها وما صاقبها من البلاد ( ص170: تاريخ العرب ). فاستقرت هذه القبائل في منازلها حتى وقعت بينهم الفتن، وفرقتهم الحروب، فتباينت مساكنهم، وكانت قضاعة أول من نزح منهم حوالي تاريخ الميلاد، فنزلت بطونها في مساكن مختلفة، ثم نزحت أنمار، ثم إياد، ثم ربيعة، ثم مضر ؛ ولذلك تاريخ لا محل له هنا، فملأوا الجزيرة وابتدأ تاريخهم الاجتماعي الحديث، لأن بأسهم أصبح بينهم، فنشأت فيهم يومئذٍ مقتضيات الشعر ومثلت لهم أغراضه.

نشأة الشعر:

ليس شعر الجاهلية مطلق الكلام الموزون، ولكنه مع وزنه ينبغي أن يكون ممتازاً في تركيبه وتأليف ألفاظه، فإذا عارضته بالمنثور من كلامهم رجع برونق العبارة والاختصار في الدلالة واستجماع الغرض من الكلام، حتى يصح أن يقال فيه إنه إحساس ناطق.وهذه الأمة من أمم الفطرة، فليس لديها من أسباب التعلم والأخذ عن الأمم الأخرى شيء، فلا بد أن يكون شعرها كمالاً في اللغة، فلم ينطقوا به حتى هذبت وصفيت وصارت إلى المطاوعة في تصوير الإحساس وتأديبه على وجهه الأتم ؛ وهذا شأن لا يكون في لغة من اللغات إلا بعد أن تستقل طريقة تصريفها واشتقاقها ثم يتناولها التنقيح، ثم يجمع عليها في الاستعمال ؛ وقد جرت على ذلك لغة العرب العدنانية ؛ فإنها انفصلت عن اللغة السامية التي تفرعت منها، ثم استلقت طريقتها بالوضع والارتجال، ثم أخذوا في تهذيبها وتصفيتها حتى خرجت منها لغة مضر ؛ ومن هذه اللغة خرج الشعر، ولا يتجاوز ذلك مائتي سنة قبل الهجرة على التحقيق. اعتبر ذلك بما قاله أبو عبيدة من أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي ابن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يروونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة ( 34 - الطبقات ) ؛ لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه ؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر، فإن عرب الجنوب وعرب الشمال كانوا يرتضخون لكنه حميرية أو أرامية أو نبطية أو عربية مشوبة بإحداها، وإن أكثر قبائل مضر هي التي نزلت نجداً وما حوله إلى تهامة والحجاز، فهي صميم العربية، وهنا منشأ الشعر على ما نرجح. ومن الأدلة على حداثة الشعر ما رووه من أن كل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول، ولم يدعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة، لأنهم لا يسمون ذلك شعراً، فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد ( ص238 ج 2 - المزهر ) وأقدم هؤلاء في القرن الرابع للميلاد، وليس يدل ذلك على أنهم تنازعوا في أول من قال الشعر، ولكن في أول من أطاله وتصرف فيه، ولولا أن مبدأه قريب من هؤلاء لوقع إليهم من الشعر المروي ما يحسم مادة النزاع. ودليل آخر، وهو أن لعبيد بن الأبرص قصيدته التي مطلعها:

أقفرَ منْ أهلهِ ملحوبُ

وهي مما لا يستقيم على وزن معروف من أوزانهم، ولا يطرد الموزون منها على وزنه، وهم مع ذلك يروونها وتعد من مفردات قائلها، وقد أسقطوا غيرها كثيراً، فلولا أن أوزان الشعر كانت يومئذٍ لم يمر عليها جيل بحيث لم تكن ألفتها الطبائع بعد، لأنكروا قصيدة عبيد، ولالتوت دونها ألسنتهم ؛ ولم يبلغنا من ذلك شيء على كثرة اهتمام الرواة بالتجريح والتعديل.

الباعث على اختراع الشعر:

الشعر قديم في فطرة العرب كما قلنا، ولكنا إنما نبحث في هذا الكلام المقفى الموزون، فهو بهذا القيد لا يكون شعراً حتى يكون قد استوفى صفة اللفظ، ولا يستوفيها حتى تكون الألفاظ قد مرت بها اللغة في أدوار كثيرة كما أشرنا إلى ذلك، وقد بقي أن نعرف كيف نطقوا بهذا الكلام، وما الذي نبههم إليه وأجراه على ألسنتهم، وهو معلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون احتذاء لشعر أمة أخرى، فإن السريانيين والعبرانيين لا يشترطون في شعرهم التقفية، والعبرانيون قد يشترطون القافية دون الوزن، فيكون الشعر شبيها بالسجع عند العرب ؛ فضلاً عن أن هذه الأوزان العربية ليست لأمة من الأمم ؛ قال ابن رشيق في ذلك: ( كان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام ؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً ؛ لنهم قد شعروا به، أي فطنوا له ). وهو كلام يعطيك من ظاهره ما شئت أن تتأول ولا باطن له ؛ ولكن الذي عندنا من ذلك أن الوزن نفسه مر في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع ؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما ؛ وقد نقل ابن رشيق في ( العمدة ) أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله به هبل، فسمي لذلك: الغناء الجنابي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيراً صنعة لا فطرة فيها.وقال في موضع آخر: ويقال إن أول من أخذ في ترجيح الحداء، مضر بن نزار ؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه ! وايداه ! وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله ( هايدا هايدا ) يحدون به الإبل.وقالوا في أصل الحداء غير ذلك ( ص241 ج 2 - العمدة ) ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلاً للفظ الحداء عند العرب. ثم خرجوا عن هذا الوزن في الحداء إلى وزن الأصوات في الحروب، إذ كانوا في ذلك لا يجرون على نظام كنظام الأمم المتحضرة، ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تكون تلك الأصوات القوية مما تشد به القلوب على القلوب، وهم لا يمدحون شيئاً كجهارة الصوت وسعة الجرم، ولهم في ذلك أخبار عريضة ذكر الجاحظ منها طرفاً في كتابه ( البيان ) ؛ ثم إنهم كانوا يخرجون تلك الأصوات في مواقفهم للضرب والطعن والصراع والجلاد، مقاطيع من الحروف تكون صيحات، وتارة كلمات، كقولهم مثلاً عند الطعن: خذها وأنا فلان ! ونحو ذلك، وهو مما تبعث عليه فطرتهم وأحوالهم من الأخلاق والاجتماع، فلا بد أن يكون ذلك منشأ انتباههم إلى الوزن ؛ إذ لا يبعد أن يكون قد صاح بعضهم بكلمات قذفها القلب غضباً وحدة، فجاءت كما يجيء قسيم بيت، ثم خرجت على أثرها كلمات أخرى وكانت أشد من تلك، فانتهت بحركة مفزعة هي حركة القافية، ثم انتبه الصائح إلى تتابع هذه الحركات، ووافق ذلك رفيف قلبه واهتزاز نفسه وتحريك الحمية والإعجاب، فقفى على البيت بآخر ؛ وكان هذا سبب الانتباه إليه والشعور به، ثم شاع بينهم بعد ذلك وقصدوا إليه قصداً في أغراضهم التي مثلت لهم بعد ذلك، من المقارضة والمماتنة والمفاتنة حين بعثتهم على ذلك طبيعة التفرق وأحوال الاجتماع البدوي، بعد أن طارت بهم الفتن ومزقتهم الحروب على ما نعرفه من التاريخ ؛ فتبعوا الوزن وبنوا عليه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها وتهش النفوس إليها، ثم خصوه بعد ذلك بما ينصرف إليه القول من وجوه التفاصح، فكان ذلك سبباً في إطالته وإحكامه. وأنت إذا تدبرت حركات الأبحر التي شاع فيها نظم العرب، رأيتها من الحركات الحماسية، ولذلك بني أكثر شعرهم على الحماسة، خصوصاً ما وقع إلينا من الشعر القديم، فإن لم تكن تفاعيل الوزن من الحركات الحماسية كانت موسيقية مما تتحرك به العواطف ؛ من أجل ذلك قلت في شعرهم القوافي الضعيفة إلى حد الندرة، لأن القافية قرار المعنى، وهي الصوت الطبيعي الذي ينزل من الشعر منزلة الإشارة التي تصحب كلام المتكلم ؛ وتلك العناية منهم بها مما يرجح عندنا أن أصل الاهتداء إلى الوزن إنما كان بالقافية وما فيها من الرنين وما وافق من ذلك حمية الجاهلية كما سلفت الإشارة إليه. وعلى هذا كان لا بد في الأوزان التي نظموا بها من موافقة المعنى في حركاته النفسية، للوزن في حركاته اللفظية، حتى يكون هذا قالب ذاك ؛ وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصاً بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعاً بينهم، إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة، والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن ؛ ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس، كالتشبيهات والأوصاف ونحوها ؛ وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان، بخلاف الكامل ؛ فإن كان كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس، فإن كان حماسة كان شديداً، وإن كان أقرب إلى التذمر والسخط، وإن كان وصفاً كان نظراً سريعاً لا سكون فيه ولا إبطاء ؛ وقس على ذلك سائر الأوزان، وهذه الأسرار الدقيقة هي التي امتاز بها الشعر العربي على كل ما سواه من أشعار الأمم، وهي هي التي يتفاضل بها الشعراء على مقدار رعايتها وعلى حساب ما يلهمون منها فيما ينظمون.

أول من قصد القصائد:

قال محمد بن سلام الجمحي - في طبقات الشعراء -: ( لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد المطلب أو هاشم بن عبد مناف )، وهاشم هذا هو الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك قبل الهجرة لمائة سنة على الأكثر، وهو العهد الذي نبغ فيه عديّ لن ربيعة التغلبي الملقب بالمهلهل، خال امرئ القيس.وقال الأصمعي: ( إنه أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر ).نقول: ولعلّ هذه الكلمة هي التي قام بها على قبر أخيه كليب ومطلعها:

أهاج قذاة عيني الادّكارُ

وإذا كان الشعر العربي طبيعياً كما أسلفنا، فإن العوامل في نموه لابدّ أن تكون طبيعية، وعلى ذلك فنحن نرجح ما قالوه من أنّ عديّاً هذا هو أول من قصد القصائد وذكر الوقائع في شعره ؛ لأنه كان غزلاً على همته، زير نساء على شجاعته، وكان أخوه كليب بن وائل الفارس المشهور أحد الثلاثة الذين اجتمعت عليهم معد، وهم عامر بن الظرب، وربيعة بن الحارث وكليب هذا ( ص 237 ج 1 - ابن الأثير )، فلما قتل في الخبر المعروف، وكان قتله سبب الأيام بين بكر وتغلب، سيّر فيه عدي قصائد عدة، أرق بها الشعر وهلهله ؛ وبهذا السبب لزمه لقب المهلهل، فكان طبيعياً بعد أن كان أخوه يعيّره بأنه زير نساء، أن يعلن همته في القيام بثأره وحميته لذلك، وأن يشير بهذه الفجيعة ليعرف العرب منزلته من أخيه في الهمّة، ومنزلة أخيه من نفسه في الحميّة والجاهلية ؛ وسنأتي على وصف هذه المراثي في ترجمته. فكان الشعر قبل مهلهل رجزاً وقطعاً، فقصده مهلهل، ثم جاء امرؤ القيس فافتنّ به، وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدّلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء، حتى كان الأغلب العجلي وهو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فطوّله شيئاً يسيراً وجعله كالقصيد، وجاء بعده العجّاج وهو وابنه رؤبة أشهر أهل الرجز، ففعل به ما فعل امرؤ القيس بالشعر بعد المهلهل.

الرجز والقصيد:

ومما نقله ابن رشيقٍ أن الراجز قلما يقصد، فإن جمعهما كان نهاية، نحو أبي النجم ؛ فإنه كان يقصد، وأما غيلان - ذو الرمة - فإنه كان راجزاً، ثم صار إلى التقصيد، وسئل عن ذلك فقال: رأيتني لا أقع بين هذين الرجلين على شيء، يعني العجّاج وابنه رؤبة ؛ وكان جرير والفرزدق يرجزان، وكذلك عمر بن لجأ كان راجزاً مقصّداً، ومثله حميد الأرقط والعماني أيضاً، وأقلهم رجزاً الفرزدق ( ص 124 ج 1 - العمدة ).والرجز كثيرٌ عند العرب لسهولة الحمل عليه، حتى سمّاه المتأخرون حمار الشعر، وقد وقع إلى الرواة من ذلك شيءٌ كثير، فكان الأصمعي يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة على ما قيل، وعندنا أن ذلك ليس بكثير إذا علمت ما نقله الجاحظ عن أبي عبيدة، قال: اجتمع ثلاثة من بني سعدٍ يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخٍ من بني سعد: ما عندك ؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل لا أفثج ؛ وقيل لآخر: ما عندك ؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل لا أنكف ؛ فقيل للآخر الثالث: ما عندك ؟ قال: أرجز بهم يوماً إلى الليل لا أنكش.فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلّوهم ( ج 2 - البيان ).وكانوا يروون صبيانهم الأرجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب ؛ لأن ذلك يفتق المهاة ويفتح الجرم، واللسان إذا أكثرت تحريكه رقّ ولان، وإذا قللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلظ ( ج 1 - البيان ).وليس كالرجز ما يهرت الأشداق ويوطئ للشعر ويأخذ النفس بهذه الملكة الموسيقية، ويكاد يكون منفصلاً عن الشعر من حيث الارتباط بين وزنه ومعناه، فهم يرسلونه كلاماً كالكلام، ولكنه أخص ما يكون فيما يؤلف بين حركات البدن وحركات النفس ؛ فكانوا يتراجزون على أفواه القلب، وفي بطون الطرق، وعنده مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة ونحو ذلك ( ج 2 - البيان ). ^

الشعر في القبائل

كان الشعر إلى مائة سنة قبل الهجرة في أول عهده بالافتنان والتصرف، ولم يكن تم تهذيب اللغة على نحو ما صارت إليه لعهد القرآن، فكان طبيعياً أن لا ينصرف العرب إلى المباهاة به والمفاخرة بقائله منهم ؛ ولكن لما جعل الشعراء يحتفلون ويتصرفون في اللغة ويتناولون أعذب ألفاظها ثم يأتون مكة في موسم الحج فيعرضون أشعارهم على أندية قريش، فما استحسنوه منها روي وكان فخراً لقائله في القبائل كلها ؛ إذ يحضرون الموسم جميعاً لأن كل قبيلة كان لها صنم في الكعبة تأتي لزيارته حتى زادت عدة الأصنام فيها على ثلاثمائة صنم - أصبح العرب بعد ذلك يفاخرون بشعرائهم، وصار الشاعر أيضاً يباهي بقبيلته ويغضّ من غيرها، فذلك دينه السياسي وديدنه، حتى لا يصدق الرواة أن شاعراً يمدح قبيلة بينها وبين حيّه عداوة ؛ وكان أبو عبيدة إذا أنشدوه أبيات العرندس وهو أحد بني بكر بن كلاب التي يقال إنه مدح بها بني بدر الغنويين، ومنها البيت المشهور:

من تلقَ منهم تقل لاقيتُ سيدهم

مثلَ النجومِ التي يسري بها السّاري

يقول: هذا والله محال، كلابيّ يمدح غنوياً ؟ يعني عداوة الحيين ( ص 296 - شرح العيون ) كان من ذلك أن انصرفوا إلى المنافرات وهي تزيد مادة الحرص في الطبائع، وتمكن غريزة الفخر في النفوس، فصاروا من حاجتهم للشعراء إلى حال كانوا إذا نبغ الشاعر في قبيلةٍ أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال، والولدان، لأنه حماية لأعراضهم وذبّ عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم ؛ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج ؛ وسنلم بشيءٍ من أدلة ذلك في باب الهجاء. ولا عجب بعد ما مر بك أن يكون الشعر عصبية في القبائل، ومن ذلك ما يقولون إن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهلٌ والمرقشان، والأكبر منهما عمّ الأصغر، والأصغر عمّ طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل ربيعة بن سفيان ؛ ثم كان منهم أيضاً سعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، وخاله المسيب بن علس.ثم تحول الشعر إلى قيس، فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ وأخوه مزرد، وخداشٌ بن زهير، ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع. وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: ( أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهنّ ثلاث - وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن - فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة ؛ ثم بجيلة السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيفٌ في ناحية منها ؛ ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو الحارث كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد.وقومٌ يرون تقدمة الشعر لليمن في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانئ وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودغبل، وفي البطقة التي تليهم بالطائيين حبيبٍ والبحتري ( ص 55 ج 1 - العمدة ) على أنه ليس من الممكن أن يحاط بالشعراء المعروفين في قبائلهم وعشائرهم في الجاهلية والإسلام، ولم يقع لأحد من العلماء أنه استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته منها شاعرٌ إلا عرفه، وأشهر من يعرفون أكثر شعرائهم قبائل هذيل، فقد رووا منها لأربعين شاعراً في الجاهلية والإسلام، وجمع بعض شعرهم في ديوان شرحه العسكري ( وطبع الجزء الأول منه في أوربا ) ؛ وقد ترجم منهم ابن قتيبة في طبقاته طائفة قليلة، وكان منهم بنو مرّة، وهم عشيرة رهط كلهم دهاةٌ شعراء، وهم أبو خراش وأبو جندب والأبحّ والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وعروة.ومرّة أبوهم هو أحد بني قرد بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل.وأمهم أم سفيان لبنى وهي امرأة من بني حنيفة.وذلك لم يتفق في العرب لغير هذيل.ومن شعراء هذه القبيلة، جنوب المشهورة أخت عمرو ذي الكلب وأختها عمرة، وأول من عرف من شعرائها خويلد بن وائلة بن مطحل من بني سهم بن معاوية وهو أبو معقل بن خويلد الشاعر المعدود - وكان معقل زمن أبي يكسوم ملك الحبشة صاحب الفيل - ولكن أشهرهم جميعاً وأشعرهم أبو ذؤيب الذي كان في زمن عبد الله بن الزبير وخرج معه في مغزى نحو المغرب فمات. ومن عجب أمر الشعر في القبائل ما ذكره الجاحظ أن عبد القس بعد محاربة إياد، تفرقوا فرقتين ؛ ففرقةٌ وقعت بعمان وشقّ عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقةٌ وقعت إلى البحرين وشقّ البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب، قال: ( ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة ( ج 1 - البيان )، وهذا يصح دليلاً على ما قدمناه من أن الشعر لم ينشأ في العرب حين كانوا قبائل مجتمعين، وإنما نشأ بعد تفرقهم وتمزيق الحروب لهم، غذ مثلت لهم أغراضه واتفقت البواعث عليه. وقال يونس بن حبيب الضبيّ: ليس في بني أسدٍ إلا خطيبٌ أو شاعرٌ أو قائفٌ أو زاجرٌ أو كاهنٌ أو فارسٌ، وليس في هذيل إلا شاعرٌ أو رامٍ أو شديد العدو ( ج 1 - البيان ) وقد يظن بعضهم أنه لم تخل قبيلة من قبائل العرب بعد الإسلام أن ينبغ فيها شاعرٌ أو شعراء، ولكن ذلك غير مطّرد، فقد ذكر صاحب الأغاني أن قبيلة قيس لم يكن بها في الإسلام شعرٌ قبل أشجع السلمي وهو من شعراء الرشيد، وإنما كان الشعر في ربيعة واليمن، فلما نجم أشجع وقال الشعر انتهضت به قيسٌ وافتخرت على العرب ( ص 30 ج 17 - الأغاني ).

بيوتات الشعر والمعرقون فيه جاهلية وإسلاماً:

تلك وراثة الشعر في القبائل، وأما وراثته في البيوتات فهم قد عدوا من ذلك أشياء، لقرب بعضها من الإسلام ولظهور بعضها معه وبعده، ولكنهم لم يذكروها في المفاخرات كما ذكروا بيوتات المجد الغلاّبة في عرب الجاهلية، وهم بيت تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدر، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه بنو ذي الجدين ( ص 35 ج 1: الكامل للمبرد ). ومن بيوتات العشر في الجاهلية بيت أبي سلمى. . .الخ ( ص 335 ج 2: العمدة ).

سيما الشعراء

لابد لكل متميز من شكل ومنظر يلقي في الأنفس عنوان حقيقته ؛ ومرجع التميز في الأشكال من اللباس والحلية وهيئة الحالة ونحوها إنما يكون إلى مطابقة إحساس الشخص أو موافقة إحساس المجتمع الذي هو مناط العادات ومبنى الصفة القومية، فليس زيّ الشاعر في بيته وهيئته فيما ينشد لنفسه كزيّه في يوم الحفل وبين السماطين، ولا كهيئته فيما ينشد للناس يومئذٍ.وقد اصطلح أهل الأدب والمناصب العلمية وغيرها من رتب الملك في الاجتماع الإسلامي على أزياء يرون فيها أنفسهم أجزل اعتباراً وأكمل وقاراً وأفخم أقداراً، وكذلك تحشو هذه الآلات صدور الناس من إفراط التعظيم، وتملأ قلوبهم من سكون المهابة ؛ وقد شاع ذلك في الحضارة الإسلامية منذ أمر أبو جعفر المنصور رجاله سنة 153 أن يتخذوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم التي كانت إلى ذلك العهد من مميزات العرب، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم وأن يكون شعارهم السواد كما كان البياض شعار الأمويين ؛ ثم تنوعت الأزياء، فكان للقضاة زيٌّ ولأصحابهم زيٌّ وللشرط زيّ، وللكتّاب زيّ، ولكتّاب الخبر زيّ ؛ وأصحاب السلطان ومن دخل داره على مراتب، فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدرّاعة، ومنهم من يلبس القباء.وهكذا مما لا محل لاستيفائه وتفصيله هنا. وفي علم الفراسة نوعٌ من قيافة الآثار النفسية يمتاز به الناس، وربما وجدت من الشعراء مثلاً من يكون منظر وجهه وحالة تركيبه أشعر عند التأمل من شعره ؛ وكان العرب يعرفون هذه القيافة ولكنهم يستعملونها في تحقيق الأنساب وتميز القبائل، وفي الحديث: ( أنّ قوماً يزعمون أنهم من قريش أتوا عمر بن لخطاب - رضي الله عنه - وكان قائفاً ليثبتهم في قريش.فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع، فنظر في أكفهم ثم قال: اطرحوا لعطف ( جمع عطاف ) ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكف قريش ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه ( ص 13 ج 2: الكامل للمبرد ).ولسنا بسبيل ما يكون من هذه القيافة في الشعراء، ولكنا نذكر ما وقفنا عليه من تمييز الهيئة دلالة السيما بعد مطاولة التعب في البحث والتنقيب ). ذكر المرتضى في أماليه في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر وكانوا ثلاثين رجلاً فيم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلامٌ له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدروا وجه النعمان عنهم فأرادوا تقديم لبيد ليرجز بالربيع بن زياد رجزاً مؤلماً ممضّاً، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن قيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلّةً وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان.فقام وقد دهن أحد شقيّ رأسه وارخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة، قال: وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء ( ص 135 ج 1: أمالي المرتضى ).وكانت لشعراء الأعراب هيئةٌ في الإنشاد إلى ما بعد الإسلام، فقد دخل العماني الراجز على الرشيد ينشده شعراً وعليه قلنسوة طويلة على الزيّ العباسي وخفّ ساذج، فقال له الرشيد: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامةٌ عظيمة الكور ( الطي ) وخفّان دمالقان فبكر عليه من الغد وقد تزيا بزيّ الأعراب فأنشده. . .( ج 1: البيان ).وكان الشاعر العربي ينشد في يوم الحفل وقد أخذ المخصرة بيده أو اتكأ على سية قوسه ؛ وإذا فاخر جاثى خصمه والناس حولهما ؛ وكذلك كان للخطيب زيٌّ خاصٌ سنذكره في بحث الخطابة. وكان زيّ حسان بن ثابت في خضابه، فكان يلوث شاربيه وعنفقته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو، لأول وهلة كأنه أسدٌ والغٌ في الدم ( ص 3 ج 4: الأغاني ).ومن أزياء الجاهلية وإن كانت في غير ما نحن بسبيله، أن فرسان العرب كانوا في أيام المواسم والجموع وأسواق العرب كعكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك، يتقنّعون، وذلك زيّهم، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن يثبت عينه جميع فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن يعرفوا، وربما أعلم الفارس نفسه بسيما، كريشة نعامةٍ أو عمامةٍ مصبّغة ( ج 2: البيان ). وكان من زيّ الكاهن أن لا يلبس المصبّغ، والعرّاف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر ( ج 2: البيان ). وكان الشعراء في أوائل الدولة العباسية يلبسون الوشي والمقطّعات والأردية السود وكل ثوب مشهر، قال الجاحظ: وكان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعرٌ يتزيّا بزيّ الماضين وكان له بردٌ اسودٌ يلبسه في الصيف والشتاء ( ج 2: البيان ) وهذا يدل على أن ذلك الزيّ بطل في زمنه. وقد اخترعوا في تلك الدولة أثواب المنادمة وهي خاصة بالشعراء والأدباء ولا تقييد لها بشكل خاص إلا ما يكون من الأصباغ والخلوق ونحو ذلك مما يستعان به على زيادة التبسط والانشراح، ولا يزال مثل ذلك في جهات العراق إلى اليوم ؛ ومن هذه الثياب رداءٌ يسمونه رداء الشرب، ويظهر أنه كان خاصاً بالشعراء في منادمة الملوك والأمراء، وقد وصفه ابن الحجاج من شعراء المهلبي بقوله:

أبيض الغزلِ فيهِ خطُّ سوادٍ

مثلُ خطِّ الرئيسِ في القرطاسِ

( ص 237 جزء 2: اليتيمة )

حالة الإنشاد

أما حالة الإنشاد فإن شعراء العرب إنما كانوا يتحققون بجهارة الصوت ووضوح المخرج ونفض الكلام نفضاً، ولا يخلون ذلك من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع، لأنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً من أوزان الموسيقى الفارسية والرومية ولا الغناء الرقيق، وليس بينهم اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت إلى الفصل ( ص 239 جزء 2: العمدة ). ولما شاع الغناء بعد الإسلام ووضعت قواعده صار تلحين الشعر مقصوراً على ما يغنّى به منه في بعض أبيات من الرقائق إلا ما كان في بعض شعراء الأندلسيين، وسيأتي ذلك في موضعه. ثم بقي الإنشاد جارياً مجراه الأول، لا يتأثر إلا بما يكون في المنشد من الزهو واهتزاز العطف، كما كان يفعل البحتري، فإنه كان إذا أنشد اهتز ونظر في عطفيه وطرب طرباً بيّناً، وربما أقبل على جلسائه فقال: مالكم لا تعجبون ؟ وكان مثل هذا وأكثر منه في جملة من الشعراء، إلا أننا لم نقف على أن الإنشاد كان تمثيلاً صحيحاً وإن خالطه الزهو والعجب الثقيل، إلا فيما ذكره الصاحب بن عباد - في كتابه المعروف بالروزنامجه - في وصف إنشاد أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم، قال يخاطب أستاذه ابن العميد: ( دعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وابنا المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعوداً وجوّدا بعد تشبيبٍ طويلٍ وحديثٍ كثير، فإن لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته. . .يبتدئ فيقول ببحةٍ عجيبةٍ بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته: والله، والله. . .الخ ( ص 284 ج 2: يتيمة الدهر ). ( ولعل فعل أبي الحسن هذا على بساطته أول ما عرف من صنعة التمثيل في الإسلام، فإن الأصل في التمثيل على ما حققه علماء النفس هو تأدية المراكز العصبية المحركة للوظيفة العضوية لأن الأعصاب الممتدة من ظاهر الجسد إلى مراكز الجهاز العصبي، وكذلك هذه المراكز نفسها والأعصاب الممتدة منها إلى العصل، تكون جميعها آلة واحدة علائق أجزائها بعضها ببعض عضوية آلية، فمتى حركت من أي موضع تسرد سائر أجزاء وظيفتها الآلية سرداً. وهم بذلك يحققون وجود ارتباط قوي بين الصور الذهنية والحركات العضلية، ويثبتون تفاعل الصور في الحركات والحركات في الصور. فإذا مثلت هيئة الحزين، أي الحركات التي تبدو بها تلك الحالة النفسية وهي الحزن، وحركت العضلات الخاصة بها من الإطراق والدمع، أثرت هذه الحركات فيك حتى لتحزن حقيقة، وبالعكس إذا جرت في ذهنك صورةٌ مضحكةٌ لا تلبث أن ترى عضلات الضحك والابتسام قد انفعلت بهذه الصورة فتضحك أو تبتسم ).

ألقاب الشعراء

كان العرب ربما أخذوا الكلمة يصيبونها في بيتٍ من الشعر فيطلقونها لقباً على قائله بحيث تغلب على اسمه وكنيته فلا يعرف إلا بها، كشأس بن نهار العبدي ؛ وفي البيان للجاحظ: سالم ؛ لقب بالممزّق لقوله:

فإن كنتُ مأكولاً فكن خيرَ أكلِ

وإلاّ فأدركني ولمّا أمزّقِ

والممزّق هذا بالفتح، قال الآمدي: وهو جاهلي، وأما الممزّق الحضرميّ فبكسر الزاي متأخرٌ وابنه عباد ولقبه ( الممزق ) وهو القائل:

إني الممزّقُ أعراضَ الكرامِ كما

كانَ الممزّقَ أعراضَ اللئامِ أبي

وقد نقل السيوطي في المزهر عن ( الوشاح ) لابن دريد وغيره، وأورد الجاحظ في الجزء الأول من البيان، وابن رشيق في كتابه العمدة - زهاء ستين لقباً لشعراء من الجاهلية والإسلام. قال ابن رشيق في سبب هذه التسمية: وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب وسرعة ولوجه في آذانهم وتعلقه بأنفسهم. وليس ذلك بشيءٍ وإلا لزم أن يطّرد ذلك في مشاهير الشعراء، ولم يقل به أحد، والذي عندنا أنه لا يصحّ كلّ ما نقلوه من ذلك، وأن بعضه من وضع الرواة والنقلة، وإلا فما وجه تسمية منبه بن سعد بأعصر لقوله:

أعميرُ إنَّ أباكَ غيّرَ لونهُ

مرُّ اللّيالي واختلافُ الأعصرِ

إلا أن تكون الكلمة قد ارتجلها منبهٌ هذا ولم تكن معروفة قبله في لغاب العرب بحيث تستغرب منه فيكون السبب في التسمية وجه الغرابة، وهو ما لا سبيل إلى تحقيقه وتصديقه. والذي تغلب عليه الصحّة من ذلك ما يكون سبب التسمية به صفةٌ يحكيها الشاعر عن نفسه ويمكن أن يكون في إطلاقها عليه نوعٌ من الغرابة كالمرقّش الذي لقب بذلك لقوله:

الدّارُ قفرٌ والرّسومُ كما

رقّشَ في ظهرِ الأديمِ قلم

فهذه صفة غريبة من شاعر أميّ يمكن أن ينبز بها تهكماً أو مزحاً، كما يمكن أن تطلق عليه تحبباً أو مدحاً أو تكون الصفة المسمى بها من الصفات التي تدل على عمل يصحّ أن ينعت به، كالجواب الذي سمي بذلك لقوله:

لا تسقني بيديكَ إن لم يأتني

رقصَ المطيّةِ، إنّني جوّابُ

أو تكون الكلمة التي تطلق على الشاعر مما يصح أن تشق منه صفة ذلك سبيلها، كجابر الكلبي المسمى المرني لقوله:

إذا ما مشى يتبعنه عند خطوهِ

عيوناً مراضاً طرفهنَّ روانيا

ولابدّ من هذا القياس لأن الألقاب إنما تشعر بمدحٍ أو ذم، والأسماء لم توضع إلا للامتياز في التعريف، فأما أن تجيء الكلمة لا هي مما يمتاز بمثله عادة، وليست موضع مدحٍ أو ذم ولو من طريق العتب، ثم يقال إنها اسم أو لقب - فهذا ما لا يصدق.ولو أجزنا ذلك لاستغرق جميع الشعراء إلى اليوم، وذلك شيءٌ لم يكن، وقد ذكر الجاحظ أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وكان خطيباً من وجوه قريش ورجالهم سمّي القباع - قال: وإنما سمي القباع لأنه أتى بمكتلٍ لأهل المدينة فقال: إنّ هذا المكّتل لقباع، فسمي به.والقباع الواسع الرأس القص ( ج 1: البيان ) فهذا سبب يدلك على أنهم لم يكونوا يجازفون بالتقليب والتسمية، ولا بد من معنى لذلك، وهو أمر شائع في كل زمن ؛ ومن هذا القبيل - وإن كنا نورده استجماماً وفكاهة - ما ذكره الجاحظ أيضاً في سبب تسمية علي بن إسحاق بن يحيى المجنون المسمى بمقو الأعضاء، أنه جلس مع بعض متعاقلي فتيان العسكر وجاءهم النخاس بجوار، فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، وإنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أنف هذه خمسة وعشرون ديناراً، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار.فقال صاحبه المتعاقل: ها هنا باب هو أدخل في الحكمة من هذا ؛ كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه ؛ وكان ينبغي لشفتي تيك أن تكونا لفك تيك، وأن يكون حاجبا تيك لجبين هذه.فسمي مقوم الأعضاء ( ج 2: البيان ) والشرط في التلقيب بالكلمات أن تسير الكلمة ؛ فإذا قرنت بالاسم زادته معنى، وإذا كانت مفردة أغنت عنه ؛ وهذا ما لا يتفق إلا بمثل الأسباب التي ذكرنا، فتنبه له. ^

المقلون والمكثرون

من الشعراء شاعر نفسه الذي يقول على مؤاتاة السجية والطبع دون أن يستكره على الشعر أو يرهق بالأغراض المتنوعة، وهذا إنما جهده أن يصيب حظ نفسه أقل أو أكثر ؛ ولكن منهم شاعر الناس الذي يحرث حياته الأرضة على أقفيتهم، فهم إن تركوه مات، ومثل هذا لا يصيب حظ روحه من القول إلا بعد أن يصيب حظ جسمه منه، فهو مكثر أبداً في الشعر، يقلبه على أغراض الناس ليأخذ به مكاناً على الأفواه ينزل فيه بضاعته من سوق الكلام، ولا يعرف المقل من المكثر من شعراء الجاهلية إلا بهذا التقسيم ؛ لأنهم قد استووا في ضياع كثير من شعرهم وسقوطه بين أيدي الرواة المصححين، بحيث لو اعتبرت شهوة أحدهم بقيمة ما يصح له من الشعر لنبا به موضعه حيث وضع من الشهرة والتقدم.فقد عدوا من المقلين طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس، وهؤلاء الثلاثة فيما رووا عن أبي عبيدة أشهر المقلين في الجاهلية بالاتفاق، وعدوا منهم عنترة والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معديكرب، والأشعر بن حمران الجعفي، وسهيل بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر، ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد كعلقمة، ومنهم من يعرف بالأربع كعدي بن زيد، ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير، وهو يتفاوت في هذه الكثرة بحسب صنعة الشاعر المحمول عليه وتلاحم كلماته وامتلاء أعطافها، ولذلك قالوا: إن عدي بن زيد لقربه من الريف وسكناه الحيرة في جيرة النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وقد ذكر ابن رشيق بعض مطالع القصائد المشهورة في أيدي الناس التي صحت نسبتها لبعض هؤلاء المقلين ( ص66 ج: العمدة ). ولا يبعد أن يشتهر الشاعر الجاهلي بالقصيدة الواحدة، بل بالأبيات القليلة، بل بالبيت المفرد ؛ لأنهم يزنون الكلمة بمقدار ما تحرك من ميزانها الطبيعي الذي هو القلب، وكان يسمون البيت الواحد يتيماً، فإذا بلغ البيتين والثلاثة، فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحسن أن يسمى قصيداً ؛ قال ثعلب: وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الراد، ومثله الرئيد ( ص119: إعجاز القرآن ) ؛ وهذا أصح مما ذهب إليه المتأخرون من أن أدنى حد القصيدة سبعة أبيات، لأنه لا يلتئم مع وجه الاشتقاق الذي رواه ثعلب كما ترى.وكانوا يستحبون الإطالة عند الإعذار والإنذار والترهيب والترغيب والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير والحارث بن حلزة وغيرهما، والقطع أطير في بعض المواضع كالمحاضرات والمنازعات والتمثيل والملح وغيرهما مما ليس من المواقف المشهورات. وكان بعض العرب يعرفون للإكثار من الشعر صفة طبيعية، وهي قرع روثة الأنف بطرف اللسان، كأن اللسان إذا طال كان ذلك أدعى إلى رقته ولينه ومؤاتاته على التغليب، فيبعث من الصغر على الارتياض للكلام والحمل في شعابه وفنونه ؛ ولا نعرف أصل هذه الصفة ولا تاريخها فيهم، ولكن ذكر الجاحظ في البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: ما بقي من لسانك ؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أنفه، ثم قال: والله إني لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه، وما يسرني به مقول من معد ! فهذا يدل على أن الصفة كانت معروفة فيهم، وإلا فلا أسقط من هذا الكلام. قال الجاحظ: وأبو الصمت مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة وأبوه وابنه في نسق واحد يقرعون بأطراف ألسنتهم أطراف أنوفهم ( ج 1: البيان ).والعجيب في أمر الإقلال والإكثار أنك تجد شعراء من المطبوعين لا يقدر على جمع شعرهم لكثرته ( شرح العيون ص 320 ) وقد عدوا من هؤلاء بشار العقيلي، والسيد الحميري وابا العتاهية، وابن أبي عيينة ؛ وكان بشار يقول أن له اثني عشر ألف قصيدة ؛ قال الجاحظ: وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل، وسلما الخاسر، وخلف بن خليفة، وقال: وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء، وبشار أطبعهم كلهم ( ج 1: البيان ). وتجد شعراء آخرين لا يزيدون في شعرهم الجيد عن البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، وقد يتعمدون ذلك في أغراض معلومة، كعقيل بن علفة الذي كان يقصر هجاءه ويقول في الاحتجاج لذلك: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، وأبي المهوس أيضاً وكان يقول محتجاً: لم أجد المثل النادر إلا بيتاً واحداً، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتاً واحداً ( ج 1: البيان ). وكان ابن الزهري يقصر أشعاره ويقول: إن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، ويكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة، وقد يكون الإقلال في بعض أولئك عاماً في جميع الجيد من شعرهم كالجماز وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد عن البيت والبيتين ؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة وهو القائل:

أقول بيتاً واحداً أكتفي

بذكره من دون أبيات

( ص175 ج 1: العمدة ). وكابن لنكك البصري ( من شعراء القرن الرابع ) قال الثعالبي في ( اليتيمة ): ما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس، واقدر أنه في الجبال كهو في العراق ؛ وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمح بزوجيه قتل ! وكذلك ابن لنكك: إذا قال البيت والبيتين والثلاثة أغرب بما جلب وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد القصيد فقلما يفلح ( 117 جزء 2: اليتيمة ).واشتهر بجودة القطع من المولدين قبل هؤلاء، بشار بن برد وعباس بن الأحنف، والحسين بن الضحاك، وأبو النواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المدل، وابن المعتز، وإن كان بعضهم يحسن في الإطالة، كبشار وأبي النواس وابن الجهم ؛ ومن الإسلاميين قبلهم الفرزدق، حتى قال الجاحظ: إن أحببت أن توي من قصار القصائد شعراً لم يسمع بمثله فالتمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق، فإنك لم تر شاعراً قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره.وقد قيل للكميت: ( الناس يزعمون أنك لا تقدر على القصار، قال: من قدر على الطوال فهو على القصار أقدر ).وهذا الكلام يخرج في ظاهر الرأي والظن، ولم نجد ذلك عند التحصيل على ما قال ( ص31 ج 3: الحيوان ). أما المعروفون بالإطالة فهم كثر، وأشهرهم ابن الرومي، وهو على إطالته محسن، وربما تجاوز حتى يسرف.

الارتجال والبديهة والروية

قد يكون لفظ الارتجال مأخوذاً من الانصباب والسهولة، ومنه قيل: شعر رجل إذا كان سبطاً مسترسلاً غير جعد، أو من ارتجال البئر، وذلك أن ينزلها الرجل برجليه من غير حبل، لأن الشعر لا يسمى مرتجلاً إلا إذا كان انهماراً واندفاقاً لا تعمل فيه ولا تروئة، وكانت هذه سنة العرب في جاهليتهم، إذ هم لم يحتذوا الشعر على مثال، بل كان ذلك نوعاً من كلامهم متى بعث أحدهم عليه انبعث، ولما كانت أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى حمله النفس، كان هذا الكلام كامناً فيها، ولا يهيجه إلا اضطراباً فكان من أسباب ذلك ما تجد النفس في لذة المغالبة والمدافعة، كالمماتنة والمقارضة ونحوها، وما يرفه عليها ويحسم عنها كالحداء وما في حكمه مما ينشدونه على أفواه القلب وعند الانكفاء من الغارات وأمثال ذلك، ومما يغمر النفس فتكون فيه طافية راسبة ؛ ومن هذا النوع شعر العواطف، كالغزل والرثاء، والاستغاثة والتحريض وما إليها، ومن أجل ذلك ابتدأ الشعر عند العرب بالبيتين والأبيات يقولها الرجل في حاجته، حتى وجد فيهم من جعل تلك الأسباب همه وهو الشار، فتركوا ذلك له وصار من عدا الشعراء منهم كما كان العرب في أوليتهم: لا يكاد الرجل يجد سبب الأبيات حتى ينتزعها من نفسه وينبعث بها طبعه، ثم فعلت الوراثة في ذلك فعلها فعظم الشعر وصار في الارتجال شيء من الصنعة يكفي له تقليب العين وخطرة الوهم، فيجيء الشاعر بالقصيدة فيها من بديع التشبيه وبارع الاستعارة وكرم الديباجة وحسن الرونق، ولا يتعاون عليها إلا طبعه ومادته من الأسباب التي قدمناها، فإذا اعترض النفس ما يصرفها عن تلك الأسباب، تبلد الطبع ونضبت المادة، فربما استحالت البديهة بعد الارتجال، وربما استحالت الروية بعد البديهة، كما وقع لعبيد بن الأبرص، وهو من أقدم شعراء الجاهلية وأقواهم غريزة، إذ يقول له النعمان في يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض ! قال: أنشدني قولك:

أقفر من أهله ملحوب

فالقطبيات فالذنوب !

فقال: لا، ولكن:

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد !

فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول بد روية ومراجعة.وقد عدوا نفراً من الشعراء في عصور مختلفة كانوا في هذه الحال كما يكونون في غيرها من أحوال الأمن والدعة، وذلك لقدرتهم وسكون جأشهم وقوة غريزتهم، كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي، وعبد يغوث بن صلاءة، وتميم بن جميل، وعلي بن الجهم وغيرهم.قال الجاحظ: ( وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهان، وليست هنواك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الجصام، أو حين يمتح رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي يقصد، فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً ) ( ج 2: البيان والتبيين ). واستمر ذلك شأنهم حتى نشأ ابلذين تكسبوا بالشعر والتمسوا به الصلات والجوائز وجعلوه للسماطين وأيام الحفل، كالنابغة وزهير والأعشى وغيرهم فلم يجدوا من السبب ما وجد الذين قبلهم، لأن الشاعر إذا مدح اليد وأشاد بالصنيعة لم يكن له بد من التكلف والاستكراه، إذ يعلم أنه لا يقبل منه عفو الكلام، ولأن ذلك المقام لا تجدي فيه غي رالمبالغة التي تكون من استعراض الصفات وتخير المعاني والتغلغل والإغراق وأشباهها، فكان من ذلك القيام على الشعر ومعاودة النظر فيه وتتبع الشاعر على نفسه حتى يخرج شعره مستوياً في الجودة، لأن الطبع في مثل تلك المعاني يندفع ويتبلد، ويضعف ويتجلد ؛ فإذا لم تجتذب الألفاظ ولم تجتلب المعاني جاء الشعر جديداً موقعاً أو لبيساً ممزقاً، فلا يصلح أن يكون حلة الفخر التي لا تبلى على الدهر ؛ وقد يكون من أسباب ذلك أيضاً أن الشعر لما فشا فيهم بعد نبوغ امرئ القيس ومن في طبقته، وكان الشعراء يستعينون علي بالروية استجماعاً لمحاسنه - خشي آخرهم أن يقصر عن أولهم إذا هو لم يجار سنة النمو والارتقاء، فكان يبيت المعاني يلتمس لها وجوه الصنعة، ويدع القصيدة تمكث عنده زمناً طويلاً يردد فيها نظره ويقلب رأيه ويرصد أوقات نشاطه، فيجعل عقله زماناً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، وكان يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها خنذيذاً وشاعراً مفلقاً ( ج 1: البيان ). وأول من ذلك لذلك منهم طفيل الغنوي ؛ وكان يسمى محبراً لحسن شعره ( العمدة ) وكلا السببين قد اجتمعا في زهير، لأنه كان يروي شعر ثلاثة من الفحول منهم طفيل، وكان مذهب شعره المديح كما ستراه في الكلام عنه ؛ ولذلك كان أول من اشتهر بالثابت المحكك من الشعر، وهو الذي كان يسمي كبار قصائده الحوليات لأنه ينظم القصيدة منها في شهر ثم لا يزال ينقحها ويهذبها حتى يمر عليها الحول ؛ غير أن مثل زهير من أهل السيادة والورع لا يمدح لرغبة ولا يكذب في مديح، فكان بديهياً أن يكون من بعض بواعثه على الرواية مغالبة الأنفة ومدافعة الطبع والتماس عذر النفس الأبية في صدق المديح، وهذا كله مما لا يغني فيه الارتجال شيئاً. وما ظهرت الصنعة والتجويد في الشعر حتى اتقته العرب اتقاءً شديداً لأنها رأت الشاعر في ترويته إنما يسم كلماته فلا يرمي بها إلا قاتلاً ؛ ولا جرم كان ذلك أيضاً سباً من الأسباب في ضعف الارتجال، لأن شاعر الجاهلية الآخرة ميزان الأحساب لا يصلح إلا لأن يرفع ويضع، غير أن سبيل هؤلاء الصنعيين في غير تلك الطرائق سبيل غيرهم من أهل الطبع، فهم يرتجلون في الحماسة والهجاء وغيرهما. ثم جاء الإسلام فكانت أسباب الشعر في أوله على ما كانت في أولية العرب ؛ إذ كان مثل حسان ينصب له منبر في مؤخر المسجد لينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك مر المخضرمون برونق الطبع ووشي الغريزة، حتى نبع الحطيئة وهو من هو في الضراعة والجشع وسقوط الهمة، وكان راوية زهير وابنه، فاستعبده الشعر، واستفرغ مجهوده، وكان الأصمعي يسميه هو وزهيراً وأشباههما ( عبيد الشعر ) لذلك.ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض المماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة ؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل والتفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية.وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، واشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا أنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم نعثر على رواية في ارتجالها بعد المخضرمين إلا ما رواه ابن خلدون عند ذكر استقبال عبد الرحمن الناصر من أمراء الدولة الأموية بالأندلس لرسل الملوك الوافدين عليه من رومة والقسطنطينية وغيرهما ؛ قال بعد أن وصف من جلال مجلس الخلافة ما قال: وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل. .وكان من خطباء هذا المجلس منذر بن سعيد ( توفي سنة 355 وهو فقيه شاعر كاتب خطيب جريء على ذلك كله، وقد أورد الجلسة صاحب ( نفح الطيب ) وفصل أبهة ذلك المجلس وحالة الخطباء فراجعه هناك ( ص171 ج 1: نفح الطيب )ولا يبعد أن يكون في كل عصر من يرتجل مثل ذلك حتى في المتأخرين إلا أنه لا يجيء بالجيد ولا يباري أهل الروية.ومن عجائب ذلك في المتأخرين ما ذكره صاحب خلاصة الأثر في ترجمة أبي السماع البصير المصري أنه كان أعجوبة الزمان وأحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر ؛ قال: وكانت طريقته إذا أراد الارتجال أن يبدأ بإنشاء قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجي، وفي أثناء إنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحاً كان أو غزلاً أو غيرهما ( ص139 ج 1 ) ولم نقف على نظير لهذه الرواية إلى عصرنا، ولكن هناك عجيبة أخرى في ارتجال الرسائل ذكرها الثعالبي في ( اليتيمة ) ( ص31 ج 4 ). أما البديهة فهي عند سبها في كل عصر وزمن، وقد جمع علي بن ظافر كتاباً حسناً في ذلك سماه ( بدائع البدائه ) وهو مشهور. ومن البديهة سريع يقارب الارتجال، وهو الذي تجوز المتأخرون في تسميته بالارتجال، وفي كتب الأدباء أشياء كثيرة منه كالذخيرة لابن بسام والقلائد وغيرهما. كان عمود الارتجال القافية، وربما حدا بعضهم بالرجز حتى إذا شردت عليه القافية تركه وسجع بغيره. .. .من أسباب ضعف الارتجال. .غلبة اللحن ومعاشرة اللحانين، حتى صار الشاعر يحتاج إلى الإطراق ونحو ذلك.

النبوغ وألقابه في الشعراء

جرى المتأخرون على أن يصفوا الشاعر المحسن إحساناً عالياً بالنابغ والنابغة في المبالغة، ويطلقون هذا الوصف إطلاقاً عاماً غير ملتفتين إلى أصل الكلمة ووجه اشتقاقها، ولا إلى استعمال العرب إياها، وإن كان ذلك يطابق ما ذهبوا إليه بعض المطابقة، ولكنا رأينا الاستعمال العلمي الحديث ( السيكو فسيولويجا ) والاستعمال اللغوي القديم يضعفان هذه الكلمة في جنب القوة التي يحركونها لها كما سنبينه فيما يلي:لم يكن النبوغ عند العرب لقباً عاماً كما توهموا، ولكنه كان خاصاً بالشعراء الذين يقولون الشعر ويجيدونه ولم يكونوا في إرث الشعر، ومن أجل ذلك لم يلقبوا بالنابغة إلا ثمانية من الشعراء ذكرهم بأسمائهم جميعاً الزبيدي في ( تاج العروس ) في شرح مادة - نبغ - وهم: زياد بن معاوية الذبياني، وقيس بن عبد الله الجعدي، وعبد الله بن المخارق الشيباني، ويزيد بن أبان الحارثي المعروف بنابغة بني الديان، والنابغة ابن لأي الغنوي، والحارث بن كعب اليربوعي، والحارث بن عدوان التغلبي، والنابغة العدواني ولم يسموه. وعلى السبب في تلقيب هؤلاء بالنوابغ بنى اللغويون تعريف النبوغ في الشعر كما مر، فيظهر من ذلك أنه تعريف خاص مقيد بسبب معروف فلا يطلق إلا مجازاً. أما الألقاب العامة عند العرب فقد ذكرها الجاحظ في البيان، قال: ( والشعراء عندهم أربع طبقات: فأولهم الفحل الخنذيذ، والخنذيذ هو التام، ودون الفحل الخنذيذ، الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور ( البيان والتبيين.ج 1 ). فالخنذيذ هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره ؛ وسئل رؤبة عن الفحولة، قال: هم الرواة، والمفلق الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالأول في شعره. وقالوا في سبب هذه التسمية أنه يأتي في شعره بالفلق وهو العجب، وقيل الفلق الداهية والشعار فقط هو الذي فوق الرديء بدرجة، وأما الشعرور فهو لا شيء. قال الجاحظوسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وشعرور.وأول من سمى بالشويعر امرؤ القيس ؛ سمي به محمد بن حمران بن أبي حمران، وقد سمي بعده بذلك نفر، منهم المفوف شاعر بني حجميس، وصفوان بن عبد ياليل من بني سعد إلا أنهم إنما ينبذون بذلك في الهجاء وعلى وجه النقيصة ؛ وقبل هذه اللقاب كان عندهم لقب بسيط لا يدل على أكثر من هيئة النظم، وبهذه البساطة استدللنا على أنه أقدم من الألقاب المذكورة آنفاً ؛ وذكر صاحب ( المخصص ) ( ج 2: ص115 ): ( قال أبو زيد: العرب تقول: خطيب مصقع وشاعر مرقع ؛ فالمصقع: الذي يأخذ في كل صقع ما انخرق منهه، وبهذا قيل للشعر نظام لاتصاله واتساقه، فكأن هذا للقب نشأ عندهم في أوائل العهد بإطالة الشعر ومجاوزة البيتين والثلاثة، لأن مد البيتين مثلاًُ إلى أن يبلغا أبياتاً هو حقيقة ذلك الوصل الذي وضعوا هذه الكلمة لتعريفه. وبعد أن أخذ شعراء العرب في التروية والتنقيح وتحكيك الشعر نشأ عندهم لقب المطبوع واستعملوه فيمن يجري على طبعه العربي ولا يتصنع، ولا يتكلف ما يلزم التورية في التبييت ومعاودة النظر ونحو ذلك، فهذه جملة ألقاب الشعراء عندهم. أما تعريف النبوغ في علم السسيكو فسيولوجيا، وهو الذي يبحث فيه عن ارتباط أحوال النفس بالوظائف العضوية، فإن أهل هذا العلم يقولون: إن النبوغ تميز المخلوق بتأدية أعمال مألوفة على وجه من الاتقان يصعب علي كثير ممن يقومون بهذه الأعمال عادة، فهو إذن استعداد فطري تنميه المثابرة على العمل حتى يبلغ حظه المقسوم له من الكمال، وعلى ذلك يكون عاماً في كل المخلوقات ؛ لأن كل جنس منها يمتاز بعضه عن بعضه في أداء الحركات والأعمال الطبيعية له. ولكن عندهم نبوغاً عبقرياً خاصاً بالإنسان أن يسمى بالجهبذة، وهو ابتداع المرء ما يكون غيره قد غفل عنه، أو اتباعه ما جرى عليه غيره ولكن على وجه ذاتي يكون له فيه صفة من الابتداع، فهو إذن نمو عضوي كمالي يثبت للعامل شخصية العمل.وهذا المعنى في الشاعر الذي يريده العرب بلقب الفحل والخنذيذ - كما سبق - وبه ميزوا السرقة من الاختراع في المعاني، كما سيأتي في موضعه. ^

الاختراع والاتباع

لم يغفل علماء الأدب العربي عن معنى الجهبذة والنبوغ العبقري، وهم يسمون ذلك بقسميه الاختراع والإبداع، والفرق بينهما عندهم أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ، قالوا: فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمر وحاز قصب السبق ( ج 1 ص177: العمدة ) وإنما ذلك معنى شخصية الكلام التي تميزه وتجعله خلقاً وابتكاراً فيكون عملاً ذاتياً يدل على صفة شعرية متخصصة، وليس يصح لقب الشاعر لغير هذه الصفة وإلا فهو منتحل أو مغتصب. واشتقاق الاختراع من التليين، يقال: بيت خرع إذا كان ليناً، والخروع منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى أو لينه حتى أبرزه، وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل الحبل جديداً، ليس من قوى حبل نقضته ثم فتلته فتلاً آخر. والاختراع في شعر العرب مما يظلمون به عند المحدثين والمولدين، لأن أولئك أهل البادية وتربية العراء وشعراء الفطرة، وهؤلاء أهل الحضارة التي تفتق القرائح بما تنوعه من المآخذ المختلفة ؛ لذلك كانت المعاني قليلة في شعر الجاهليين تكاد تحصر لو حاول ذلك محاول، وإنما نريد المعاني التي لا يشتركون فيها بطبيعة الاجتماع، والتي لو اختلطت جميع أشعارهم لتزايلت وانفصل بعضها عن بعض، فكأن كل معنى فيه سر حياة القصيدة أو القطعة، كقول امرئ القيس:

سموت إليها بعدما نام أهلها

سمو حباب الماء حالاً على حال

فها المعنى الذي لا تصوره إلا الحواس الدقيقة، قد سلمته له الشعراء جميعاً فلم ينازعه فيه أحد، وقد مكن مزية الاختراع فيه أنه وصف طبيعي ثابت لا يطاوع في التوليد ولاتشقيق إلا بالعنت والاستكراه، ومن أجل ذلك لم يأخذ أحد إلا فضحه ؛ وسنلم في ترجمة امرئ القيس. وقد جاء المخضرمون ولا مزية لهم على شعراء الجاهلية في الاختراع، ثم جاء بعدهم شعراء الصدر الأول من الإسلاميين فزادوا في ذلك بعض الزيادة بما مكنتهم منه الحالة الدينية، ثم كانت طبقة جرير والفرزدق والأخطل وأصحابهم فهبوا في التوليد والإبداع والاختراع مذهباً واضحاً، وطرقوا لذلك طريقاً سابلة، ثم أتى أبو المحدثين بشار بن برد وأصحابه فنظروا إلى مغارس الفطن ومعادن الحقيقة ولطائف التشبيهات فأحكموا سبرها وساروا إليها بالفكر الجديد والغريزة القوية، وقد التقى إليهم طرفا العربية في منطقة البداوة الزائلة ومفتتح الحضارة الثابتة، فأصبح شعرهم خلقاً جديداً، ووقف شعر من قبلهم عند الاستشهاد بألفاظه، حتى لتجر اللفظة الواحدة قصيدة بطولها.وكان من افتنان هؤلاء المحدثين أن نصبوا لأنفسهم منزلة تضارع المنزلة التي وقف عندها الشعر القديم، فصار يستشهد بهم في المعاني المولدين اختراعاً وتوليداً، ابو تمام وابن الرومي. وهذا الأخير كان ضنيناً بالمعاني حريصاً عليها: يأخذ المعنى الواحد ويولده فلا يزال يقلبه ظهراً لبطن، ويصرفه في كل وجه وفي كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد يتخصص به ويزيد بذلك مادة النبوغ العبقري في شعره ؛ وقد تجد من يجيء بعده ممن لا يعد في طبقته قد أخذ هذا المعنى بعينه فولد فيه زيادة ووجهه جهة حسنة تدل البصير بالصناعة على أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة.وقد ذكر ابن الرشيق في موضع من كتابه ( العمدة ) عزمه على تأليف كتاب يحصي فيه معاني الجاهلية ويذكر ما انفرد به المحدثون وما شاركهم فيه المتقدمون، كصفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لم يتسع كتاب العمدة، وشرط على نفسه في ذلك إحصاء المخترعات للمحدثين وإقامة البرهان منها على أن ابن الرومي أكثر الشعراء اختراعاً. وابن رشيق أهل لهذا التأليف، ولكنا لم نعرف عنه خبراً غير ما ذكره هو. والمعاني بما فيها من صفة الحياة وفسحة الروح خاضعة كالأحياء لناموس الانتخاب الطبيعي الذي يقضي بتنازع البقاء، ولولا ذلك لأقفل باب الختراع والتوليد، لأنه إذا اقتصر الناس على طبقة واحدة من الشعر ولم يكن في طباعهم ما يساعد معنى من الكلام على إماتة معنى آخر أو إسقاطه والحلول محله لم يبق من الكلام ما يتفتح للتوليد، ولم يبق من القرائح ما يتمخض للولادة ؛ ولو تتبعت معاني الشعر السائرة ورتبتها ترتيباً تاريخياً على العصور التي قيلت فيها، لأمكنك أن تضع من ذلك تاريخاً لهذه الوفيات المعنوية، ومن أمثلة ذلك ما قاله الجاحظ أن الناس كانوا يستحسنون قول الأعشى:

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

فلما قال الحطيئة:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

سقط بيت الأعشى ( ج 1 - البيان والتبيين ) مع أن بيت الحطيئة مولد من قول الأعشى، والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضاً سرقة إذا كان الشاعر ليس آخذاً على وجهه.

الاتباع وأنواعه:

فالتوليد اتباع، ولكن هذا الاتباع على نوعين: اتباع طريق المعنى، واتباع للمعنى نفسه ؛ فالأول يكون إلماماً وملاحظة واسترواحاً، والثاني لا يكون إلا غصباً وسرقة واستكراهاً، وذلك دليل البلادة وسقوط الهمة وضعف القدرة والعجز ؛ وقد ذكروا للاتباع في الشعر أنواعاً سموها بأسماء خاصة، وهي ألقاب محدثة وضعوا أكثرها في القرن الرابع وذكرها الحاتمي في ( حلبة المحاضرة )، وتبسط فيها ابن رشيق ( ص6 ج 2: العمدة ) وأورد مثالاً لكل من هذه الألقاب فارجع إليها إن شئت. ولا غنى للشاعر - جاهلياً أو إسلامياً - عن اتباع غيره من الشعراء، وأول ذلك الرواية، وقد كانت شائعة إلى أن انتشر الخط وكثرت الدواوين فصار الشعراء يتلقون عنها، وقد وقفنا على أسماء بعض الشعراء الين رووا لغيرهم وتخصصوا بهذه الرواية لهم مبعثرة في بطون الأوراق فجمعناها، وهي على قلتها كافية في الدلالة، فمنهم امرؤ القيس، كان راوية أبي داؤد الإيادي ( ص61 ج 1: العمدة )، وكان زهير راوية أوس بن حجر، وهو زوج أمه وطفيل الغنوي ( ص132 و155 ج 1: العمدة ) وكان الحطيئة راوية زهير وابنه ( ص78 ج 7: الأغاني ) ولم يقتصر على الرواية بل كان يروي شعر الحجازيين أيضاً وكان منقطعاً لهم ( ص34 - الطبقات ) وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل ( ص8 ج 7: الأغاني ) وبلغ من اعتباره إياه أنه كان إذا استنشد لنفسه بدأ فأنشد لجميل ( ص154: الطبقات ) ولا تظت لساغراق هذا الباب ممكناً إلا أن يكون قد كتب فيه أحد المتقدمين من أئمة الأدب.

شياطين الشعراء

نذكر في هذا الفصل ما يعتقد العرب من قول الجن على ألسنة الشعراء ولا نجاوز ذلك، لأن استيفاء هذا البحث خاص بالتكاذيب ( الميثولوجيا ) ولهم في هذا القبيل عقائد وعادات كثيرة سنشير إليها في ذلك الموضع. لم يكن الشعر في فحول أهله من العرب لفظ لسان يطير ويقع، ولكنه كان حسباً ونسباً، وكان الشعراء هم أهل التاريخ، فإذا لم يستطع الشاعر أن يرفع ويضع وأن يبعث لسانه مع الموت إلى الموتى بحيث يكون كما وصفوا الجني بأن فمه يتأجج ناراً، فذلك الساقط المغمور ؛ من أجل هذا كان يجنح الشعراء إلى اعتقاد أن شعرهم أحرف نارية تلقي بها الجن على ألسنتهم، وأنهم إنما يتناولون من الغيب، فهم فوق أن يعدوا من الناس ودون أن يحسبوا من الجن ؛ فإذا جاء أحدهم بالقصيدة البارعة ورمى بالكلمة النافذة، ضرب قلبه أنها من هناك، وأنه إنما يؤديها عن لسان قائلها، فيكون ذلك مدعاة إلى توكيد الثقة والاعتداد، وإلى الذهاب بالنفس ونفرة الأنف ونحو ذلك مما هو من كبر القرائح وترفع العقول.والعرب فيما حكاه أبو عبيدة يعرفون الجني بأسماء، فإذا كحفر وظلم وتعدى وأفسد قيل شيطان. .الخ، وقد يسمون الغضب شيطاناً، ومن ذلك قول أبي الوجيه العكلي في أمر: كان ذلك حين ركبني شيطاني ! قيل: وأي الشياطين تعني ؟ قال: الغضب ! كما يسمون به الكبر، ومنه قول عمر: لأنزعن شيطانه من تغرته ؛ وكذلك يريدون بالشيطان في بعض معانيه الفطنة وشدة العارضة ( ج 1 - الحيوان ) فيكون ما جاء في الشعر من ذكر شياطين الشعراء على وجه المثل ؛ لأن كل الصفات التي سبقت إنما هي خصيصة بالشاعر قبل الشيطان ؛ وعندنا أنهم أخذوا هذا الاعتقاد من الكهانة وهي أقدمن فيهم من الشعر، وكان لكل كاهن نجي يسمونه الرئي والتابع، فذهب الشعراء هذا المذهب وسموا شياطينهم أو سماها لهم الرواة. .كما ستعرف.وقد درج شعراء الأمم على استعانة القوى الغيبية من قديم، لأن البيان وحي، ولأن الشعر يكاد يكون تفاعلاً روحياً من امتزاج روح الشاعر بروح أخرى، إذ هو كالحالة الطارئة على النفس: تشعر بها وقتاً دون وقت، وفي موضع دون موضع ؛ فكان شعراء اليونان والرومان يستدعون في أوائل منظوماتهم ( Les Muses وقد اصطلحوا على تسميتها بآلهة الشعراء أو عرائسه أو ربات الأغاني، ولهم في هذه العرائس أساطير منقولة ( انظر شرح الجزء الثالث من الديوان ) وقد انسحب على آثارهم المتأخرون من شعراء الأوربيين، فهم يسمون ربة الشعر، بالمنشدة السماوية، ونحو ذلك مما يتوكأ عليه القلب ويلوذ به الاعتقاد. والعرب لم يكونوا يفتتحون في أشعارهم باستدعاء تلك القوة الغيبية أو الاستمداد منها، كما فعل اليونان والرومان، ولكن ذلك كان لا يجاوز الاعتقاد وحركة النفس كبراً وغروراً، وكان ذلك فيهم قبيل الإسلام، ؛ ونظن أن الذي اخترعه الأعشى ؛ لأنه أول من احترف الشعر وجعله تجارة ؛ إذا هو لم يكن مكفي المؤنة ولا سري التكسب كالنابغة ؛ وقد ذكر صاحب القاموس أن جهنام تابعة الأعشى - أي شيطانه - وهو نفس قلب عمرو بن قطن من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، فكأنه شيطانه أنه لا يزال يهيجه ويبعثه على الشر، ولعل هذا هو الأصل. ثم اتخذ الأعشى بعد ذلك مسحلاً ؛ أما ما نسب من ذلك إلى أوائل الشعراء كامرئ القيس، وما زعموا من أن له قصائد ومطارحات مع عمرو الجني وأن شيطانه لافظ بن لاحظ، فهو من تخرصات الرواة وما يجيئون به استيفاء لهذا البحث الخرافي وتكثراً من النظائر والأشباه في الروايات، ولهم في ذلك أخبار ذكر بعضها صاحب ( جمهرة أشعار العرب ) وصاحب كتاب ( آكام المرجان ) وغيرهما. ونحن ذاكروه ما وقفنا عليه من اسماء شياطين الشعراء، إذ هم جعلوا ذلك مادة في تاريخ آدابهم:قالوا أن لاقط بن لاحظ هو صاحب امرئ القيس، وهبيداً صاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم، وهاذر بن ماهر صاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره ؛ فالعجب منه كيف سلسل لذبيان به ؟. . .( ص 19 - الجمهرة )، ومسحل بن أثاثة صاحب الأعشى، وجهنام صاحب عمرو بن قطن، وعمرو صاحب المخهل السعدي وصاحب حسان بن ثابت من بني الشيصبان، ومدرك بن واغم صاحب الكميت ؛ قالوا: وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، وسنقناق صاحب بشار، وذكر جرير أنه يلقي عليه الشعر مكتهل من الشياطين ؛ والفرزدق يقةل أن لسانه لسان أشعر خلق الله شيطاناً، ولكنهما لم يسميا هاجسيهما. وقالوا أن رجلاً أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعراً فانظره، قال أنشد، فقال:

وفيهم عمر المحومد نائله

كأنما رأسه طين للخواتيم

فضحك الفرزدق ثم قال: يا ابن أخي إن للشعر شياطين يدعى أحدهم الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت ( ص24 - الجمهرة ). وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وأول من لقبهم بذلك عمرو بن كلثوم في مقوله:

وقد هرت كلاب الحي منا

وشذبنا قتادة من يلينا

الرواية التي أتت كلاب الجن خطأ، لأن المراد بكلاب الجن شعراؤهم وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم كما ذكر الجاحظ ( ج 1 - الحيوان ) وقد تابعه الشعراء على هذه التسمية، لأن كل هجاء منهم يفخر بأنه عقور. ولم يلتفت المحدثون من الشعراء بعد بشار بن برد لأمر هؤلاء الشياطين إلا ما يجيء لهم من سبيل الفكاهة والبادرة، ولكنهم لم يدعوا الاستعانة بأسماء الله في رأس القصيدة، فيكتبون اسم الفتاح أو العليم أو المعين، أو يبتدئون بالبسملة، وقد درجوا على ذلك إلى اليوم، وبخاصة في العراق.

طبقات الشعراء

يقسمون الشعراء باعتبار عصورهم إلى أربع طبقات: جاهلي قديم، ومخضرم، وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث.قال ابن رشيق: ثم صار المحدثون طبقات: أولى، وثانية مع التدريج وهكذا في الهبوط ؛ ويسمى المحدثون بالمولدين أيضاً، وبعضهم يطلق هذا اللقب على الإسلاميين ويخصه بهم. وأصل المخضرم عندهم من أدرك الجاهلية والإسلام، ثم أطلقوه على هذه الطبقة، فقالوا شاعر مخضرم، قال ابن بري: أكثر أهل اللغة على أنه مخضرم - بكسر الراء - لأن الجاهلية لما دخلوا في الإسلام خضرموا آذان إبلهم: قطعوا أطرافها ( وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام أمروا أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم فيه أهل الجاهلية ) لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليهم أو حوربوا ؛ وأما من قال: مخضرم - بفتح الراء - فتأويله عنده أنه قطع عن الكفر إلى الإسلام ( تاج العروس ج 7 ص 28 ). وأشهر المخضرمين لبيد، وحسان، والحطيئة، والنابغة الجعدي، والخنساء.ثم شعراء الجاهلية عند بعض العلماء ثلاث طبقات، يعدون في الأولى: أصحاب السبع الطوال على المشهور، والنابغة، وأعشى قيس، والمهلهل، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت ؛ وفي الطبقة الثانية: الشنفرى، أبو داود، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شراً، والسموءل بن عادياء، وعلقمة الفحل، والحارث بن عباد، وخداش بن زهير، وعروة بن الورد، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وأوس بن حجر، ودريد بن الصمة، والخنساء ؛ ولا يعدون من الطبقة الثالثة غير لقيط بن زرارة. وهذا التحديد يسقط كثيراً من شعراء الجاهلية وشواعرهم.وهم إنما قسموهم على رتبهم في الإجادة كما يقولون ؛ ثم أن من يقف على مجازفتهم في التفضيل بالقطعة والبيت، بل وبنصف بيت، لا يرى في هذا التقسيم إلا أنه رأي مرسل كما اتفق، لا كما تجري به الأدلة وتسيره البراهين ؛ ولهم بعد كلام كثير فيمن هو أشعر العرب، تجده مبثوثاً في سطور الكتب، وهو مما لا يؤخذ به لأن سبيله سبيل ذلك الرأي ؛ وعندنا أن قولهم فلان أشعر العرب لبيت كذا أو لقصيدة كذا، محمول على المبالغة في الاستحسان، كما يقولون أشعر الإنس والجن ونحو هذا ؛ فكأنهم يمدحون الشاعر بكلام على مذهب الشعر. وشعراء الجاهلية معروف أكثرهم، والمخضرمون معروفون جميعهم، ولكن الإسلاميين لا يعرف منهم إلا عدد قليل، وذلك راجع للفتن الإسلامية التي صرفت قرائحهم واستأصلت أكثر أهل الاستعداد منهم، كما سنبينه في موضعه. أما المحدثون فلم يسقط من مشاهيرهم أحد، وقد وضعت لهم كتب التراجم في عصورهم المختلفة إلى اليون، وسنذكرها في ( باب التاريخ ) إن شاء الله. ^

الشاعرات

كان ابن أبي داود يقول: ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر طبع ركب فيهم، قل قوله أو كثر، فإن صدق هذا على رجالهم صدق على نسائهم، إذ الطبع واحد واللغة متفقة والغريزة لا تختلف، وإنما يتفاوت الجنسان في فنون القول لا في القول نفسه، ثم في براعة الصناعة من جهة قوة الشعر وسبكه ورصفه والتئامه، ومن ناحية المعنى وصحته والإبداع فيه ؛ أما في استقامة الألفاظ وفصاحتها، وفي استقامة الأوزان الشعرية بعضها أو كلها فما أحسب ذلك يعيي أحداً منهم رجالاً ونساءً متى أراد وحمل طبعه عليه، إن لم يكن في جميعهم ففي أكثرهم، ولهذا كان الذي قصر بالشعر العربي وجعل أكثره متخلفاً لا يثبت على أفواه الرواة - كثرته وتعاطي كل أصوله، حتى العامة والسفلة ؛ وكما من قائل إلا وهو معد لقوله سامعاً، ولا من سامع إلا وهو يحفظ ويروي بعض ما سمع، فقد خرج الأمر إلى أن صار كالعادة والطبيعة ؛ وإذا وجدت أمة كلها شعراء تساقط شعراؤها حتى لا يثبت منهم ولا يتفرد إلا من كان فوق الطبيعة وجاء من وراء العادة فيما قالوا وفيما سمعوا، أو من احتاجوا أن يعتبروه كذلك لأمر من أمورهم كما يحتاج أهل المملكة إلى الملك، وما هو بنفسه صار ملكاً ولكنه بما رضوا وخضعوا وبما سمعوا وأطاعوا. فهذا سببان إن وقعا في حكم الشعراء من الرجال لم يتفق أحدهما ولا كلاهما للشاعرات من النساء ؛ إذ كانت المرأة دون الرجل في هذه القوة، فلا هو ينقلب أنثى ولا هي تنقلب رجلاً، ثم كان لها من الشأن في التاريخ على مقدارها، فما قط عرفت شاعرة أخملت شعراء دهرها، ولا كاتبة غطت على كتاب زمنها، ولا عرف مثل هذا في الأدب ولا في الرواية ولا في شيء من هذه الصناعة بوسائلها وأسبابها، فكانت الطبيعة نفسها حجاباً مضروباً على النساء قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن. بهذين السببين قل الشاعرات من النساء طبيعة، ثم زادهن قلة في العرب أن تاريخ النساء فيهم كان ينشيء جزءاً من تاريخ السيوف، فكانت المرأة العربية كأنها طبيعة من طبائع النقمة ؛ إذ لم تكن عرضاً يحمى بالسيف أو عرضاً يسلب بالسيف، وجعلها ذلك منهم بمنزلة الذاكرة من وقائع التاريخ، فهي التي تذكرهم بالثأر وأيام الدم، وهي التي لا تنس شيئاً مما هيأتها له الطبيعة الاجتماعية في أرضها وقومها فإن كانت لم تعش إلا في ظلال السيوف، وإن كانت لم تلد إلا قاتلاً أو مقتولاً، فهي في الأولى يتصل بها تاريخ القتلى من أهلها، وفي الثانية تتصل بتاريخ القتلى من ذويها ؛ فمن ثم انصرفت عن الشعر إلا في أخص شؤونها، وشغلت من الخيال بإحساسها الذي لا هم لها إلا أن تستمده من الحادثات لتوقع منها حادثات مثلها، سيئة بسيئة، فهي بعيدة عن القول بمقدار قربها من العمل. ولذلك بنيت المرأة العربةي على أخلاق شديدة، لمكان الطباع والعادات والحوادث التي أنشأتها وانحدرت فيها وجرت عليها، فجاءت في مثل تركيب الصحراء: إن يكن فيها ساعات ندية من الليل وضوئه ونسجه وأحلامه، ففيها نهار يصب النار على الأحياء ملء أقطار السموات، كأنه لم يقسم لها إلا شدة الحب وشدة البغض، وتجري فيهما على أباب وعلل مذ صارت جزءاً من طبيعتها الثانية فتتفرغ فيهما كل وسائلها وتبلغ بهما ما بلغت قواها.فتنتهي إلى خلقين ثابتين: شدة الجزع، وشدة الصبر ؛ وكل ذلك مما لا يترك للشعر في طبعها إلا مكاناً محدوداً في معان محدودة. وسبب رابع في قلة الشاعرات عند العرب، وهو أن كل قبيلة إنما تعتد الشاعر لسانها السياسي، وتعده للخصومة في تاريخها والنضج عن أحسابها، وتنال به ما ينال الأسد من أنيابه، فهو منهم إن أرادوا كان المعنى المتوحش في المعنى الإنساني، وإن أرادوه لأفئدتهم كان المعنى الإنساني في المعاني الوحشية ولذلك يسمون الشعراء ( أظفار العشيرة ).والمرأة لا تصلح ظفراً ولا ناباً، ولا تحسن أن تمضغ لحوم الأعداء في هجائها، ولا أن تأتي بالكلام الذي تترقرق فيه دماؤهم، ثم هي نفسها جزء تقع عليه الخصومة بينهم، وفيها أكثر المعاني التي يستبون بها، بل هي أم هذه المعاني. .ثم كانت طبيعة جنسهم أن ينشؤها في الحلية لا في الخصام، وأن يجعلوها فاكهة العيس لا ثمرة المر، وكل هذه حدود تتراجع فيها حداً وراء حد، والشعراء منطلقون من جميعها. والعرب لا يرون كل من تقول الشعر شاعرة ؛ إذ كان ذلك طبيعياً فيهم وإنما الشأن فيما تتخطى حدود الحجاب الطبيعي وتكثر من القول وتتصرف في فنونه ومعانيه بما يتعدد من حوادثها ومصائبها ؛ فتلك الشاعرة عندهم لا غيرها، وبذلك جرت لهم العادة في السماع والرواية، إذ المصائب تجعل المرأة في جو الرجل أو قريبة منه، بما تضيف إليها من الشعور وربما تبعثها عليه من العمل، ثم هي في تلك الحال إنما تدون لهم بعض التاريخ وتزيدهم لساناً في رواية المفاخر، ومن هذه الجهة تشبه الشعراء، فيتناشدون شعرها ويستمعون إليها، وتنبغ بالمصائب ثم تكون ندرتها فيهم نبوغاً آخر، وقلما تقدمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا، فإن الشيء الغريب لو لم تكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه. وكانت نساء العرب يقلن الشعر في معان متقاربة يرجع أكثرها إلى إحساس المرأة وحسن تصريفه بين عقلها ولسانها ؛ ولم يكن لهن من معاني الشعر غير الرثاء وبعض الغزل، وشعر ترقيص الأطفال وشعر التحضيض يثرن به نخوة الرجال ويحضضنهم على طلب الثأر والثبات والاستماتة في الحرب ؛ وقد تجعل المرأة جسمها قصيدة مع شعرها في التحضيض، كالذي فعلته ابنتا الفند الزماني، فقد قالوا أنه لما اشتدت الوغى يوم التحالق وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عارية مجردة وجعلت تحض الناس وترتجز، وفعلت أختها مثل ذلك، فتحمس القوم ووثبوا يقاتلون قتالاً منكراً ؛ فهذه مادة من شعر النساء لا يستطيعها أبلغ الشعراء من الرجال. والرجز التي ارتجزت به إحدى هاتين هو الرجز المشهور:

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

وهذه الأبيات تروي أيضاً لهند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، فقد كانت ترتجز بها في وقعة أحد وخلفها النساء يضربن الدفوف، وهند هذه هي التي شقت بطن حمزة لما قتل، وقد كان أسداً من اسود الله على قومها، فاستخرجت كبده فلاكتها في فمها فلم تطق إساغتها فلفظتها، وهذا من شر ما يعرف عن امرأة، وليش يشبهه إلا ما فعلته ريحانة أخت عمرو بن معديكرب الفارس المشهور، وأم دريد بن الصمة فارس هوازن وسيد بني جشم، فإنه لما قتل ابنها عبد الله بن الصمة لم تزل تعير أخاه دريداً وتحضه، حتى نفر في طلب الثأر من غطفان، فغزاهم وقتل منهم قوماً، ثم أسر قاتل أخيه وأتى به إلى فناء أمه فقتله تحت عينيها، فأحضرت السيف وجعلت تلحس الدم بلسانها إلى أن انقطع منه شيء وهي لا تشعر لغلبة الفرح عليها ؛ ومع هذا الظمأ إلى الدم لا يروى لريحانة شعر في ابنها، ولا هي معدود في الشواعر، وإنما رثته أختها كبشة بنت معد يكرب، فأجزأت الخالة عن الأم ؛ ومن أعجب ما يروى عن شاعرة، خبر عجوز تسمى خويلة، وكان يدخل عليها أربعون رجل كلهم لها محرم بنو أخوة وبنو أخوات، طرقتهم بنو واهن وبنو ناغب فقتلوا منهم ثلاثين، فوقفت خويلة على مصارعهم ثم عمدت إلى خناصرهم فقطعتها ونظمت منها قلادة والقتها في عنقها وخرجت حتى لحقت بابن أختها تستنفره للثأر في شعر جاف مقتضب كخناصر قتلاها، وراه القالي في أماليه ( ص127 ج 1 ). ومن أعجب شعر النساء القديم في الجاهلية الأبيات المشهورة المروية لليلى بنتت لكيز الملقبة بالعفيفة، وهي التي تصف فيها ابتذال الأعداء لعفافها بهذا البيت النادر:

قيدوني غللوني ضربوا

ملمس العفة مني بالعصا

وقولها ( ملمس العفة ) من الكلام الذي لا يفنى التعجب من بلاغته ومن حسن التعبير فيه ؛ وكذلك أبيات جليلة أخت جساس، وكان أخوها قتل زوجها كليب ابن ربيعة، فلما اجتمع النساء يندبنه أخرجنها وحسبنها شامتة لأنها أخت القاتل، فبلغ ذلك إليها فقالت أبياتاً من أعجب الشعر:

جل عندي فعل جساس فو

حسرتا مما انجلى أو ينجلي

فعل جساس على وجدي به

قاطع ظهري ومدن أجلي

لو بعين فقئت عين سوى

أختها فانفقأ لم أحفل

يا قتيلاً قوض الدهر ب

سقف بيتي جميعاً من عل

هدم البيت الذي استحدثته

وانثنى في هدم بيتي الأول

يشتفي المدرك بالثأر، وفي

دركي ثأري ثكل مثكلي

إنني قاتلة مقتولة

ولعل الله أن يرتاح لي

قال صاحب ( المثل السائر ): وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون لاستعظمت، فكيف بها من امرأة !. ولا يهولانك كثرة أسماء النساء اللاتي قلن شعراً، فعمود الشعر عندهن الرثاء، وليس لهن إلا المقاطيع والأبيات القليلة، ولم تبن منهن إلا الخنساء وليلى الأخيلية وما شعرت الخنساء حتى كثرت مصائبها ؛ وكانت قبل ذلك كغيرها من النساء: تقول البيتين والثلاثة، حتى قتل صخر به من كان مثله، فأجادت وأطالت ؛ لأنها أصبحت مصروفة الهم إلى نوع من الحب في نوع من الشعر ؛ وسمت همتها إلى أن صارت تعاظم العرب في مصيبتها بأبيها وأخويها صخر ومعاوية ؛ فصارت تشهد المواسم وقد سومت هودجها براية وتقول: أنا أعظم العرب مصيبة ! وتبكي أهلها وتنشد مراثيبهم فدارت أشعارها على الألسنة ؛ وقد قلدتها في هذا الصنيع هند بنت عتبة، فإنه لما قتل أبوها وعمها وأخوها، وبلغها ما تفعل الخنساء في الموسم وتسويمها هودجها ومعاظمتها العرب بمصيبتها، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة ! وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وجعلت تسأل عن الخنساء فدلت عليها، وجعلت كل منهما تعاظم الأخرى وتنشد مراثي أهلها.فلو كانت يعرف عندهم من هاتين لسموهن. وقد استفحلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، وكان أخاها لأبيها ولكنه كان أحب إليها من معاوية وهو لأبيها وأمها. غير أن المصائب لا تجعل غير الشاعرة شاعرة، ولا بد من تركيب ملائم في بعض الناس لتلقي مادة الشعر عن الروح والقلب والطبيعة، ولم يأت في شعر النساء خاصة أفحل ولا أجزل من شعر الخنساء، كأن فقد رجالها جعلها رجلاً. وكثير من أشعار النساء يضعه الرواة ويهيئون له أخباراً يجري فيها ذلك الشعر، ولكن ما تقوله المرأة في لوعتها لا يحسن الرجل أن يقول مثله مهما تكلف لذلك ولبسه على تصنع، وبهذا تستطيع أن تميز الصحيح والمنحول من شعر النساء. وقد يمسك لسان امرأة في مصيبتها زمناً إلى الحول إذا فجعت بحبيبها، فلا تقول شيئاً مع قدرتها على القول ؛ لأنها لا تسلو ولا تفيق، ولا تريد أن تسلو لا تفيق، كامرأة مالك بن عمرو الغساني، فلما زوجوها بعد زوجها الأول نطقت ترثيه ليلة عرسها ؛ فكان شعرها طلاقها من بعلها الثاني !ومن نادر الشعر في مراثي النساء أبيات تروى لامرأة من بني الحارث بن كعب كان لها طفلان من عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان عبيد الله هذا عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فوجه معوية إلى يمن بسر بن أرطأة فأرشد على الطفلين، فوارتهما أمهما تحت ذيلها، فأخذهما وذبحهما تحت عينيها ؛ فكانت تقول في رثائهما وندبهما أبياتاً، منها:

يا من أحس بنيي اللذين هما

كالدرتين تشظى عنهما الصدف

يا من أحس بنيي اللذين هما

سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف

يا من أحس بنيي اللذين هما

مخ العظام فمخي اليوم مزدهف

ولا أبلغ من البلاغة ولا أحسن حكاية لصوت البكاء والندب من قولها ( بنيي ) فهاتان الياءان المشددتان تعصران الدموع عصثراً وتصوران غصص العبرات مترددة في حلق الباكية أبدع تصوير. ولم يكن نساء العرب يقلن في الغزل ووصف الهوى إلا قليلاً، لمكان المرأة بينهم وشدة الغيرة فيهم، ثم لا يكون غزلهن إلا عفيفاً، كهذه الأبيات التي رواها تعلب لامرأة من العرب تقول فيها تصف خلوة مع حبيبها:

وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم

ولا نحن بالأعداء مختلطان

وبتنا يقينا ساقط الطل والندى

من الليل بردا يمنة عطران

نذود بذكر الله عنا من الصبي

إذا كان قلبانا بنا يردان

وهذا المصراع الأخير من أبدع الكنايات ومن أبلغ البلاغة العربية. فلما تحضر العرب ونشأت طبقة الشعراء العشاق، وبدأ عصر القيان النادبات المغنيات - مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن في طبقتهن - فشا الغزل في شعر النساء، وكان يندر بعد ذلك أن تظهر الشاعرة المتفحلة التي تجري على سنة العربيات، كليلى بنت طريف الشاعرة الفارسة التي كانت في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكانت تسلك في رثاء أخيها الوليد بن طريف الشيباني الخارجي مسلك الخنساء في رثاء صخر، ولها البيات الطائرة التي منها هذا البيت البليغ المشهور في كتب النحاة:

أيا شجر الخابور مالك مورقاًَ

كأنك لم تجزع على ابن طريف

ولا غرابة في فروسية هذه الشاعرة وفصاحتها وجزالتها ؛ فهي من نساء الخوارج، وهن في النساء الإسلاميات كالعضل في الجسم !وللقيان النادبات تأثير بعيد في تاريخ الأدب، لأنهن يتهالكن رقة وظرفاً وحباً وشعر الشاعرات منهن كخفقان القلوب، كله مقاطيع لا قصائد، وكان منهن من تجلس للشعراء تناقضهم وللأدباء تحاورهم، كخلوب جارية يحيى بن خالد البرمكي، وفضل الشاعرة جارية المتوكل، ولم تكن تشعر الواحدة منهن حتى يتصل الهوى بينها وبين شاعر أو شعراء وكاتب أو كتاب، تأخذ منهم وتدع، وتعرف منهم وتنكر ؛ وليس بعد الخنساء وليلى الأخيلية أشهر من فضل الشاعرة جارية المتوكل ؛ وروى صاحب الأغاني في أخبار سعيد بن حميد الشاعر الكاتب المترسل، وكانت تهواه فضل، عن إبراهيم بن المهدي، قال: كانت فضل الشاعرة أحسن خلق الله خطاً وأفصحهم كلاماً وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة ؛ فقلت يوماً لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتفيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك، فقال لي وهو يضحك: ما أخبث ظنك. .! والله يا أخي لو أخذ أوائل الكتاب وأمثالهم عنها لما استغنوا عن ذلك. ومن مضحكات فضل هذه أنها كانت تهاجي الخنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف، وذلك ما لم نعرف له نظيراً في الأدب العربي، فقد عرفنا أن الهجاء قد يلج بين شاعرين، أو بين شاعر وشاعرة، ولكنا لم نعرفه بين شاعرة وأخرى مثلها، إلا ما قيل عن فضل وخنساء ؛ وكان هجاؤهما نسائياًً حييا وكانت كلتاهما تستعين في ذلك بالرجال ؛ فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلاً، وكان القصيري والحفصي يعينان خنساء، وبهذا رجع الهجاء إلى حقيقته فصار بين رجال بعضهم وبعض. وكان عند المتوكل شاعرتان غير فضل، هما: بنان ومحبوبة، غير أن الأسبق فضل ؛ فهي شاعرة زمنها. وعلى كثرة أسماء النساء الشاعرات في التاريخ الأدبي وروايتهم ؛ عن أبي نواس أنه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى ؛ وقول أبي تمام: لم أنظم شعراً حتى حفظت سبعة عشر دجيواناً للنساء خاصة - لم ينته إلينا ولا ديوان واحد إلا المقطعات التي جمعت للخنساء، وهي ليست ديوانها ؛ ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء، إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا وذهب المذاهب كلها في فنون الكلام وبلاغته، وإنما كان يجمع بعض الرواة والعلماء أشياء من ذلك، كالكتاب الذي جمعه أبو عبد الرحمن العتبي الشاعر البصري المتوفي سنة 228ه من أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، وكلهن من العرب، وأشعار النساء للمزرباني، وهذا الكتاب لا يزال موجوداً ؛ ثم ألف في طبقاتهن، كالإماء الشواعر للأصبهاني المتوفي سنة 356ه، والنساء الشاعرات لعدة أدباء. والعجيب أن الذين ألفوا في طبقات الشعراء لم يذكروا الشاعرات معهن، لا في الحجاز ولا في الشام ولا في العراق ولا في مصر ولا في المغرب ولا في الأندلس ؛ وضربوا الحجاب عليهن ؛ غذ كان شعر النساء تظرفاً، وإذ لا يكاد يعرف في التاريخ كله من تستحق اسم الشاعرة غير بضع نساء معدودات أشهرهن من عددنا ؛ وإذا عرفت امرأة واحدة في عصر ؛ غطى عليها مائة رجل في حجاب من لحى الرجال فلا تكاد تظهر ؛ فيا رحمتا لهؤلاء الضعيفات !

تنوع الشعر العربي وفنونه

الشاعر إنسان منفرد في الناس، وهو في نفسه عالم مجتمع من حيث تشتبك في نفسه علائق الموجودات وترتبط أسباب الحوادث وتتألف من ذلك كله صور مرتبة تلقيها إليه حقائق هذا العالم التي يستمد منها الشعر ؛ غير أن تلك الصور يدخل عليها ما يعتري الصور الحسية من الجمال والقبح على اختلاف أنواعها من الرقة والمناسبة والغلظة واختلال التركيب ونحوها ؛ وذلك تابع لتأثير العصور على الشاعر ومقدار ما يكون قد تخلف في عصره من أسباب الرقي الإنساني، فإن جهد الشاعر أن يكتنه حكمه الخالق في خلقه - وليس العالم كله إلا تفسيراً مرتباً على أجزار هذه الحكمة البالغة - فالعصر الطويل بحوادثه التي تغير وجه الأرض إنما هو صفحة تطوى لتترك من المعاني ما تبنى عليه صفحة أخرى، وما هذا التشابه في حوادث العالم إلا نوع من الالتئام ؛ كما يتشابه الثوب في جملة نسجه ولكن قطعة منه لاتغني عن قطعه ؛ بل لا بد لظهور حقيقته من التئامها كلها على حسب ما يقدر له في كماله.وعلى ذلك يمكن تقسيم الشعر مطلقاً إلى ثلاثة أقسام باعتبار علاقة روح الإنسان بالقوى الغيبية ؛ وعلاقتها بأحوال الناس ؛ وعلاقتها بسائر الموجودات الأخرى، لن الشعر ليس اكثر من أن يكون لغة الروح ؛ فجميع أنواعه إلى هذه الأقسام الثلاثة ؛ وعلى مقدار ارتقاء كل أمة يكون مبلغ شعرها منها ؛ فالعرب في جاهليتهم كانوا منصرفين عن الفكر في حقائق القوى الغيبية، مستسلمين للأوهام بحكم العادة ولذلك فقدت من شعرهم مادة الجمال الروحاني التي يتألق فيها نور السماء، فكان شعراً مادياً لا يصف المحسوس بأكثر من كونه محسوساً وإن تنوعت العبارات واختلفت الأساليب، وكذلك كانت علائقهم الاجتماعية بسيطة في أكثر أحوالها، لأنهم أهل بادية لا يختلطون بغيرهم ولا يعرفون من تاريخ العصور أكثر من عوائد أسلافهم الأقربين، فكأنهم في أوائل من عمروا الأرض، وكأنهم عند أنفسهم من آباء التاريخ ؛ ولذلك جاءت فنون شعرهم غير مرتبة ولا مستقصاة، بل تنحصر في أنواع لا تكافئ ما يكون من العلائق في أمة راقية، وكانوا يعرفون ذلك النقص في مادة أشعارهم فوجهوا جهدهم وصرفوا قواهم إلى الفصاحة وتشقيق الكلام وتصريف اللغة ؛ فبلغوا في ذلك منزعاً بعيداً ؛ لأنها من الصناعات التي تلائم الظاهر النفسية، وكانت أحوالهم الاجتماعية كلها بعيدة عن أن يغاص عليها في قرارة النفس، فلما صادف ذلك الاتفاق منهم المشابهة التامة والمطابقة الصحيحة، نهضت به طباعهم الراقية إلى ما قصرت فيه عنهم سائر الأمم، لانصراف طباعها إلى غير ذلك وتوزع قوى الابتكار في أفرادها ونوابغها المعدودين. وبهذا يتضح لك خطأ ما حكاه ابن خلدون وأقره من اعتقاد أئمة الصناعة الأدبية أن ما لم يجر على أساليب العرب كشعر المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء ؛ وهو يريد بأساليب العرب ما صرفوا إليه جهدهم مما وافق ظواهر أحوالهم على نقصه ؛ وقد سقط في ذلك جمهور الأدباء حتى كبارهم كالجاحظ وغيره ؛ فكان من هذا علة أصل الجمود الذي جعل الشعر العربي يضطرب في دورة الأزمنة لأنه لا يدور معها إلا قليلاً عندما يدفعه أهل القرائح المستقلة، ومدار الاستقلال في القريحة على نوع من الإبداع خاص بها هو الذي يقال فيه نفس فلان وروح فلان، فإذا اقتدت القرائح بعضها ببعض فقد استبعدت وذلت ؛ لأنها تتبع آثاراً في طريق مصنوعة ؛ ولكن طريق الإلهام لا اثر فيها إلا حس الأرواح بعضها ببعض، وليس يمحق هذا الحس إلا خذلان من الله، فالقريحة المستقلة لا تتبع صفة قريحة أخرى ؛ ولكنها تتبع الروح الملهم وتتبين آثاره في الصنعة وتبالغ في تمييزها حتى تتجه إلى مصدر الإلهام ؛ وذلك سر النبوغ العبقري. وقد يتفق للجاحظ أن يحوم بخاطره حول المعنى المقصود من الشعر ولكنه لا يسقط إلا على أطرافه وأعالي فروعه، وغنما يعمى عليه أنه ينظر إلى أن الشعر عمل فردي مبدؤه الشخص وغايته الشخص ؛ وكان ذلك صحيحاً في العرب لأنه ينطبق على حالتهم الاجتماعية ؛ غذ كانوا أفراداً أو في حكم الأفراد ؛ وكانت كل أعمالهم تجري هذا المجرى، فهم لا يغزون مثلاً مدافعة عن الحياة العامة للقبيلة ؛ أي من أجل باعث سياسي ؛ ولكنهم يغزون للحياة الفردية ؛ أي مدافعة عن العيش أو التماساً له أو مغالبة عليه ؛ وكذلك هم في كل شأنهم مادام قواتم الاجتماع عندهم بالعصبية، وقد ظهر أثر ذلك في شعرهم فهو شخصي في معانيه، ممتاز بهذه الشخصية، حتى لا تجد فيه الحوادث المركبة التي يرمي بها إلى غرض عام، كتاريخ قبيلة من القبائل ؛ وكالشعر التمثيلي الذي يتحيل فيه على تصريف المعاني وسياسة الحوادث ؛ وكان ذلك سهلاً عليهم لو أنه في طبيعة معيشتهم ومن مقتضى نظامهم الاجتماعي، أما فيما عدا ذلك، أي في المعاني الشخصية، فقد بلغوا في إجادتها مبلغاً يناسب إحكام اللغة وإتقانها ؛ وهو الذي خدع به الرواة حتى ظنوه كمالاً إنسانياً كان مقسوماً للعرب فخصوا به وذهب في مآثرهم زمنهم، لأن على أسلوبهم وشي الغريزة، وفيه حوك الطبيعة، وذلك معدوم في طبع من بعدهم بالضرورة ؛ ولما سئل أبو عمرو بن العلاء عن المولودين قال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه وما كان من قبيح فمن عندهم، ليس النمط واحداً، ترى قطعة ديباج وقطعة نسيج وقطعة نطع. . قال الجاحظ: ( عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه ؛ وقد رأيت ناساً منهم يبهرجون أشعار المولودين ويستسقطون من رواها ؛ ولم أر ذلك قط إلا في رواية للشعر غير بصير بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان كان. .إلى أن قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي ؛ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك ؛ فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير. .). ونقول إن الفرق بين المولد والأعرابي أن المولد يقول بنشاطه وجمع باله الأبيات اللاحقة بأشعار أهل البدو ؛ فإذا أمعن انحلت قوته واضطرب كلامه.أه. قلت: وإذا كان الشعر ضرباً من الضبع وجنساً من التصوير فلا ينبغي أن يكون كله ماء ورونقاً، وهو اللون البليغ الذي يريدونه ؛ لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة ؛ وربما دخل فيها أقبح الألوان فكان أحسن شيء، لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى. على أن المحدثين قد خالفوا العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق وأمس بأزمانهم، ولكن ذلك إنما كان من تأثير العصور عليهم ضرورة ولم يتجاوزوا به التشبيه والأوصاف، أما فنون فبقيت على ما تركها العرب ؛ إلا ما كان من التصرف القليل في بعضها - كما ستعرفه - وأول من عد هذه الفنون وميز الشعر بها تميزاً أخذ عنه، أبو تمام ؛ فإنه رتب كتاب ( الحماسة ) في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمرائي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء ؛ ثم جاء عبد العزيز بن أبي الأصبغ فجعلها بعد التتبع والاستقصاء ثمانية عشر: وهي الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب. وقد ذكر الثعالبي في ترجمة ابن حجاج الشاعر الهذلي الكبير وكان في القرن الرابع، أن بديع الأسطرلابي رتب ديوانه على مائة وأربعين باباً وواحد ؛ ثم قفي كل باب وجعله في فن من فنون شعر الزجل ؛ ولكن هذه الفنون غير متباينة في تنوعها، بل ربما كان منها مائة نوع من الهجاء والسباب وحده، والباقي في المديح وغيره. فأنت ترى أن تلك الفنون جميعها متداخل بعضها في بعض من حيث الوصف الشعري، وإنما هي أسماء نوعية تتباين مسمياتها لبالحالة لا بالذات، فإن الشعر في الأعم الأغلب واحد في جميع تلك المتناقضات والمتشابهات من حيث روحه وأسلوبه والمبدأ الذي يأخذ منه والغرض الذي ينتهي إليه، ولكن أحواله متعددة بحسب اختلاف تلك الأنواع، فغن حالة الرثاء وصفة الفجيعة مثلاً غير حالة الشعر الخمري وصفة الطرب والانشراح. ولكن تنوع الشعر في الحقيقة إنما يكون ذاتياً، أي في الروح والأسلوب والمبدأ والغرض ؛ فروح الشعر هو التأثير الذي يخلقه الشاعر فيه، والأسلوب هو الطريقة التي يخصص بها نوع هذا التأثير، والمبدأ هو المعنى النفسي الخاص الذي يكيف به الشعر المؤثر، والغرض هو المعنى العام النفسي الذي يقصده من التأثير. وبذلك يكون الشعر تمثيلاً حقيقياً للحياة، لأن الحياة مجموع من العادات العملية والانفعالية والذهنية مرتبة ترتيباً منظماً يؤدي إلى سعادة أو شقاء، ويسوق إلى الأقدار أيها كان ؛ والناس كذلك مختلفون في قيمة التأثير بأحوال هذه الحياة، ونوع هذا التأثير، وفي المبادئ الخاصة التي تبنى عليها تلك الأحوال، والأغراض العامة التي تساق إليها، فالشاعر ينبغي أن يكون قوة من قوى الطبيعة التي تساعد في تكوين هذا الاجتماع على حالة من أحواله المختلفة، والقوى الطبيعية كلها متغايرة متباينة، ولكن هذا التغاير فيها إنما هو شكل الانتظام الذي قامت به الحياة.والذي يحتاج إلى المطر لا يشترط في السحاب أن يجيء من هنا أو هناك، ولا يكون قد تصاعد من بحر كذا أو غيره، ولا أن يساق بريح شديدة أو لينة ؛ وكذلك الشاعر لا يقيده في شعره بنوع أو حالة ؛ لأن الشعر قوة مؤلفة من عناصر دقيقة تنتظم بطبيعتها على النحو الذي يصورها في شكلها الملائم لتصريف ماجة القوة فيها وعلى حسب ما يصرف الشاعر من هذه القوة. فإذا اتفق الشعراء على شكل واحد وعلى أنواع معروفة لا تكافئ أغراض الحياة، فقد سقطوا من منزلتهم الطبيعية المبنية على تنوع القوى، وعند ذلك تظهر في مجموعة شعرهم الزيادة عن الحاجة الخاصة بأكثر مما يظهر فيه النقص عن الحاجة العامة اللازمة للاجتماع، وتكون النتيجة من ذلك أن يضج أكثرهم من وقت الحرفة لأن المتفردين منهم بظهور القوة هم الذين يكونون شعراء الناس فيجتازون، والباقين يكونون شعراء أنفسهم فيغيبون في شعراء الناس. وليس يؤخذ مما ذكرناه أن شعراء العرب لم يكونوا على بينة من حقيقة الشعر، بل هم قد تبنوها ولكن لم تمكنهم حالة عصرهم التفنن في أقسام الشعر وتنويعه على معاني الحياة الراقية ؛ غذ كانت هذه الحياة غير متيسرة لهم، وكان ذلك حقاً على من جاءوا بعدهم، ولكنهم إنما درسوا الشعر في الغالب لينوعوا به الحياة، وكان الصحيح لو أثبتوا سنة العرب أنفسهم ودرسوا الحياة لينوعوا بها الشعر. وسنأخذ في تاريخ أهم الأبواب التي فيها يدخل النظم العربي وهي: الهجاء، والمديح، والحماسة، والرثاء، والتشبيب، والوصف، والسياسة، والحكمة، والهزل، وشعر الحكاية، وشعر الترقيص.ونتبعها بفصل في الشعر العلمي، وهو الذي تنظم فيه المتون والضوابط والكتب، مقتصرون على تاريخ كل باب دون البحث في وجه المعنى وطريق صنعته، فذلك من موضوع البلاغة ونقد الشعر. ^

الهجاء

نحن في تاريخ هذه الأبواب لا نبسط فلسفة الأخلاق، ولا نكتنه أسرار تركيبها نريد أن نلون أجزاء الصورة الإنسانية بالأصباغ حتى نعين منها ما يكون صباغة بالشعر وما لا كون ؛ لأننا لو ذهبنا نعد لذلك لأدخلنا في هذا الكتاب كتاباً آخر، وأحدهما لا محالة مخرج الثاني عن غرضه الذي وضع له ؛ فالكلام في الهجاء يحتمل كثيراً من فلسفة النفس، كتعريف العيوب والرذائل وما يتأثر بها من الأخلاق والأحوال التي يكون فيها هذا التأثير على اختلافه ليناً وشدة، إلى ما يتصل بهذه المعاني أو يقاربها. فنحن نتجاوز ذلك كله إلى التاريخ.وإنما نلم فيه بما لا يحسن بنا أن نتخطاه وإن ترامت أطراف الكلام، وكان الإسراع وسيلة السائر فيه إلى الأمام. العرب أمة أخلاق، لم تصفها الحضارة، ولم يذهب بخشونتها النعيم والترف، فهي جارية طبيعة في مجرى العادات الوراثية الذي تخطه العصور ويتحيف جوانبه تيار الاجتماع ؛ وبديهي أن ذلك المجرى لا يكون مطرداً على اتساق، بل هو يستقيم وينحرف، وتلتئم جوانبه وتتمزق على مقتضى سنة التكون الطبيعي الذي يرجع في كل ظواهره إلى الاتفاق وقذفات الأقدار.لذلك ير ى العربي نفسه خلقاً محضاً، ولكن فطرة الحياة غطت على بعض جوانب منه وكشفت عن بعضها.فهذا يظهر منه جانب الكرم وإن كان شجاعاً، ويظهر من الآخر جانب الشجاعة وإن كان كريماً، وهلم جرا، حتى أنهم لا يميزون بوصف من الأوصاف إلا من تناهى فيه، وتجد ذلك في أمثالهم، فيقولون: أكرم من فلان، وأشجع من فلان، وأحلم من فلان ؛ ولكنهم لا يميزون من يستجمع الفضائل الكثيرة ويكون كلها غالباً ظاهراً، فلا يضربون به أمثالهم، لأنه عندهم دون من يستغرق الخلق الواحد ويستوفي مناقبه على ما يعرفونها ؛ فلما قضى عليهم نظام الحياة بالمغالبة، كان جانب التنافس بالأخلاق أغلب فيهم على جانب المنازعة بالأعمال، لأن العمل مظهر الخلق، وقلما يأتون شيئاً من أعمالهم إلا ابتغاء أن يظهروا تلك الخلاق او يكتسبوا ما يساعدهم على المبالغة في إظهارها، وذلك بين في حروبهم ومنافراتهم وكثير من عوائدهم ؛ فكان من الطبيعي أن يدعو إلى ظهور الهجاء. ولهذا لم يكن الهجاء عند العرب في اعتبار السبب والإفحاش ؛ ولكنه سلب الخلق أو سلب النفس، أو فصل المرء من مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة وتركه عضواً ميتاً يتواصفون ازدراءه ويحركه جسم الأمة حركة جامدة كلما نهض أو تقدم. لا جرم كان للهجاء عندهم ذلك الشأن ؛ وعدوا بكاء الأشراف منه اول مكارمهم كما ستعرف ؛ وكان السباب والإفحاش فيه مما يحيله عن أن يكون هجواً ولا يضر المهجو شيئاً ؛ فالهجاء عندهم قسمان: قسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، بل هو التضريب بين الأحساب، وتعليق الكلام على الأخلاق يمتص منها مادة الحياة ؛ وقسم هو السباب، ولا يعبأون به لأنه هجو المهجوين بطبيعتهم وهم السفلة ؛ فليس يجنح إليه الشاعر إلا إذا عجز عن إصابة المغمز الذي يكمن فيه الألم من الموضع الصحيح.ولما قدم النابغة بعد وقعة حسي سال بني ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم ؟ فأنشدوه ؛ فقال: أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك ؛ ولكني سأقوله ؛ ثم قال:

فإنْ يكُ عامرٌ قدْ قالَ جهلاً

فإنَّ مطيَّةَ الجهلِ السِّبابُ

الأبيات ( ص139 ج 2: العمدة ) فلما بلغ عامراً ما قال النابغة شق عليه وقال:ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة ؛ جعلني القوم رئيساً وجعلني النابغة سفيهاً جاهلاً وتهكم بي !ولذلك السبب كان أليق ما يسمى به الهجاء ( شعر التاريخ ) لن الهجاءة مؤرخ يذكر مثالب الناس ومناقبهم، ويقص من التاريخ ما يستعين به على إحكام معنى الهجاء ؛ حتى إنك لتقرأ كثيراً من الشعر الذي اثر عنهم في ذلك وفيه ذكر العادات وأخبار من التاريخ فلا تجد فيه شعراً، حتى إذا عرفت شرحه وتأويله وجدت فيه شعراً لا يكون ذلك المنظوم إلا إشارة إليه، وذلك كقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:

تحضِّضُ يا ابن القينِ قيساَ ليجعلوا

لقومكَ يوماً مثلَ يومِ الأراقمِ

كأنَّكَ لم تشهدْ لقيطاً وحاجباً

وعمرو بنَ عمرو إذْ دعوا يالَ درامِ

ولمْ تشهدِ الجونينِ والشَّعبَ والصَّفا

وشدَّاتِ قيسٍ يومَ ديرِ الجماجمِ

وقد أوردها المبرد في كتابه الكامل ( ص134 ج 1 ) وشرحها، وعلى هذا التأويل قال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف كأخبار الناس.ومن الهجاء بالعادة قول ابن لسان الحمرة لرجل من بني أسد مر به: قد علمت العرب يا معشر بني أسد انكم اشدها بياض جعور فعطف عليه الأسدي فضربه بالسيف حتى برد، وتأويل ذلك أنه عيره بأنهم لا يعرفون البقل ولا يعرفون إلا اللبن ؛ لنهم يقولون إن الجعور قد تبيض إذا كان صاحبها اللبن.وقال الشاعر يهجو ناساً منهم بذلك ( ص75 ج 2: الحيوان ).

عراجلةٌ بيضَ الجعورِ كأنَّهمُ

بمنعرجِ الغيطانِ شهبُ العناكبِ

وهذا وإن كان تطرفاً في الهجاء إلا أنه شائع فيهم، لأنهم يهجون بكل شيء حتى بأكل الكراث، كما عير به جرير عبد قيس بالبحرين ( ص81 ج 2: الكامل ) ؛ وبأكل السخينة، وعيرت بها قريش.وباكل لحوم الكلاب، وعيرت به بنو أسد ؛ وبأكل لحوم الناس أيضاً. .وهجين به هذيل وأسد وبلعنبر وبأهلة ( ص139 ج 1: الحيوان ) ؛ وبكثرة الأكل.وهجيت به تميم. والأشعار في ذلك مأثورة تفيض بها الكتب.

الهجاء في القبائل

وكان هجاء الشريف عندهم مما ينذرع إلى هجاء قبيلته وتشعيثها، لأنه لا يشرف إلا إذا فخرت القبيلة به وجعلته معقد ألسنتها فيما بينها وعنوان شرفها بين القبائل، وكان له عز الأمر والنهي، وعقد المنن في أعناق الرجال وسرور الرياسة، وثمرة السيادة.قال الجاحظ في سبب ذلك: وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سيفه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه.ومن طلب عيباً وجده، فإن لم يجد عيباً وجد بعض ما إذا ذكر وجد من يغلط فيه ويحمله عنه.ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجي زرارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة.وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم، وطاعة القبيلة لهم، لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة، ولا مذهب حذيفة بن بدر، ومذهب عيينة بن حصن، ولا مذهب لقيط بن زرارة - أي في إعنات الناس بطغيانهم وبغيهم كما كان يفعل كليب غذ كان يحمي موقع السحاب فلا يرعى ونحو ذلك - ( ص 156 ج 1: الحيوان وص237 ج 10: ابن الأثير ) وإن كانوا سادة فقد كانوا يظلمون. .وكان أولئك السادة لم يكن شأنهم أن يردوا الناس إلى أهوائهم، وإلى الانسياق لهم بعنف السوق وبالحرب في القود ؛ وهم مع ذلك قد هجوا بأقبح الهجاء.ومتى أحب السيد الجامع والرئيس الكامل قومه أشد الحب، وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حب قومه ( ص31 ج 2: الحيوان ).هذا إذا لم يتوثب إليه، ولم يتعرض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال في اللحاق به، كخبر أوس بن حارثة بن لم الطائي حين البسه النعمان الحلة التي جعلها لكرم العرب، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة ! فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عند ؟ ثم أخذها بشر بن أبى خازم أحد بني أسد وهجاه. . والخبر بجملته ساقه المبرد في الكامل ( ص137 ج 1 ).ولذلك لم يكن يسلم من ضروب الهجاء إلا القبائل المغمورة والمنسية، حيث لا يكون فيها خير ولا شر كثير، وحيث يكون محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، فيسلمون من أن يضرب بهم المثل في قلة ونذالة، بخلاف القبائل التي يعرفونها بالمناقب والمثالب. وقد تكون القبائل متقابلة الميلاد، ويكون في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شر وضعة، مثل قبائل إطفان وقيس عيلان ؛ ومثل فزارة ومرة وثعلبة ؛ ومثل عبس وعبد الله بن غطفغان ؛ ثم غنى وباهله واليعسوب والطفاوة ؛ فالشرف والخطر في عبس وذبيان ؛ وربما ذكروا القبائل الوضعية ببعض الذكر ؛ مثل اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأشجع الخنثى ؛ ولكن لقوا من صوائب سهام الشعراء ومر الهجاء كأنهم آلة لمدارج الأقدام ينكب فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش، حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالاً ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، قال الجاحظ: ومن هذا الضرب تميم بن مر وثور وعكل وتيم ومزينة، ففي عكل ومزينة من الشرف ما ليس فقي ثور ؛ وقد سلم ثور غلا من الشيء اليسير مما لا يرويه إلا العلماء ؛ ثم حلت البلية وركد الشر والتحف الهجاء على عكل وتيم وقد شعثوا بين مزينة شيئاً ؛ ولكنهم حببهم إلى المسلمين قاطبة ما تهيأ لهم من الإسلام حين قل حظ تيم فيه. . ولولا الربيع بن خثيم وسفيان الثوري لما علم العامة أن في العرب قبيلة يقال لها ثور ؛ ولشريف واحد ممن قبلت تميم أكثر من ثور وما ولد ؛ وكذلك بلعنبر قد ابتليت وظلمت وبخست مع ما فيها من الفرسان والشعراء. .ومن نوادر الرجال إسلاميين وجاهليين ؛ وقد سلمت كعب بن عمرو ؛ فإنه لم ينلها من الهجاء إلا الخمس والتنف. . ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، وهذا من أول كرمها، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علائه، وكما بكى عبد الله بن جدعان ( ص176 ج 1: الحيوان ) ؛ أما مخارق بن شهاب فذكر في البيان أنه وفد رجل من بني مازن النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: كيف مخارق بن شهاب فيكم ؟ قال: سيد كريم، وحسبك من رجل يمدح نفسه ويهجو ابن عمه.ذهب إلى قوله:

ترى ضيفها فيها يبيتُ بغبطةٍ

وجارُ ابنِ قيسٍ جائعٌ يتحوّبُ

ولعله بكى لذلك ؛ وأما علقمة بن علاثة فقد ذكر ابن بسام في الذخيرة انه لما سمع قول الأعشى:

تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكمْ

وجاراتكمْ غرثى يبتنَ خمائصا

بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا ؟ وأما عبد الله بن جدعان، فقد قال الجاحظ في الحيوان: إنه بكى من بيت لخداش بن زهير ولم يذكره، ولم نقف عليه ؛ وكان خداش قد هجاه من غير أن يكون قد رآه ؛ وكذلك فعل دريد بن الصمة ؛ لأنه رأى فيه شرفاً ونبلاً فأراد أن يضع شعره موضعه ( ص254: سرح العيون ). ومن أسباب الهجاء في القبائل أيضاً أن يكون القبيل متقادم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة ؛ فيتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام ؛ فإنه يستبين حينئذ لكل من رآهم أو سمع بهم أضعاف الذي هم عليه من القلة والضعف، وتكون البلاية في شرف إخوتهم ؛ وكذلك عندهم كل أخوين إذا برع أحدهما وسبق وعلا الرجال في الجود والإفضال أو في الفروسة والبيان ؛ فإنهم يقصدون بمآثر الآخر في الطبقة السفلى لتبين البراعة في أخيه، وقد يكون مع ذلك وسطاً من الرجال، فصارت قرابته التي كانت مفخرة هي التي بلغت به اسفل السافلين ( ص179 ج 1: الحيوان ). ولما صار للهجاء في القبائل هذا الشأن واعتقدوه سياسة، صار البيت الواحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيدور بهم في الناس دوران الرحى، كما أهلك الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم قول الشاعر فيهم:

رأيتُ الحمرَ منْ شرِّ المطايا

كما الحبطاتُ شر ُّ تميمِ

فلزمهم هذا القول، وكما أهلك ظليم البراجم قول الآخر:

إنَّ أباناً فقحةٌ لدارمِ

كما الظَّليمُ فقحةُ البراجمِ

وكما أهلك بني عجلان قول النجاشي:

وما سمّيَ العجلانَ إلاَّ لقولهمْ

خذِ العقبَ واحلبْ أيَّها العبدُ واعجلِ

وكما هلك نميراً قول جرير يهجو الراعي:

فغضَّ الطَّرفَ إنَّكَ منْ نمير

فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

وهذه القصيدة تسميها العرب: الفاضحة، وقيل سماها جرير: الدماغة، وقد تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزن أباهم نميراً إلى أبيه عامر ؛ هرباً من ذكر نمير ؛ وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة ( ص26 ج 1: العمدة )، وكان بنو نمير من جمرات العرب الذين تجمعوا في أنفسهم ولم يدخلوا معهم غيرهم في أنسابهم بالمحالفة ونحوها ؛ والجمرات هم بنو نمير ؛ وبنو الحارث بن كعب ؛ وبنو ضبة ؛ وبنو عبس بن بغيض ؛ قال المبرد في ( الكامل ): وأبو عبيدة لم يعدد فيهم عبساً في ( كتاب الديباج ) ولكنه قال: فطفئت جمرتان وهما: بنو ضبة، لأنها صارت إلى الرباب فحالفت ؛ وبنو الحارث، لأنها صارت إلى مذحج ؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة لأنها لم تحالف ( ص377 ج 1: الكامل ) وقد أجاب شاعرهم جريراً فلم يغن عن قومه شيئاً. وعلى الضد من ذلك خبر بني انف الناقة ؛ فإن الواحد منهم كان إذا قيل له: ممن الرجل ؟ قال: من بني قريع، فيتجاوز جعفراً أنف الناقة بن قريع بن عوف بن مالك ؛ فما هو إلا أن قال الحطيئة:

قومٌ الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ

ومنْ يسوّي بأنفِ النَّاقةِ الذَّنبا ؟

حتى صاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة ( ص29 ج 1: العمدة ).وقد بلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والموات، أنهم إذا اسروا الشاعر اخذوا عليه المواثيق ؛ وربما شدوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص حين أسرته بنو تميم يوم الكلاب، وأبياته في ذلك مشهورة ( ج 1: البيان ) وأسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام ؛ فجعل يصرخ: يا صباحاه ويا بني تميم ؛ أطلقوا من لساني ( ج 2: البيان ). ثم صاروا يستنجدون بالشعراء ليحضوا لهم الأشراف في رد الغارة وغيرها فيخشى إن هو لم يغثه أن يفضحه بهجائه ( ص170 و171 ج 1: الحيوان ). وكما سلم بعض القبائل من الهجاء بالخمول والقلة، كغسان وغيلان من قبائل عمرو بن تميم سلمت بعض القبائل بالنباهة العالية من مضرة الهجاء فكأنها لم تهج، مثل نباهة بني بدر وبني فرازة، ونمثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الذبان بن عبد المدان، وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرة الهجاء إلا خامل جداً أو نبيه جداً ( ج 2: البيان ). وذكروا عن حجناء بن جرير أنه قال لأبيه: يا أبت إنك لم تهج أحداً إلا وضعته إلا التيم.فقال جرير: إني لم أجد حسباً فأضعه ولا بناء فأهدمه ( ج 2: البيان ). وقد سمر يزيد الرقاشي ذات ليلة عند السفاح فحدثه بحديث ساقه فيه أشعار هجيت بها ثلاث وأربعون قبيلة، وقد حكاه المسعودي في ( مروج الذهب - ص2 ) فالتسمية هناك. وكان الشعراء يعرفون تاريخ الهجاء في القبائل حتى ليستطيعون أن يميزوا القبائل التي انتضلت بينها تلك السلام من القبائل التي تحاجزت فلم يكن بينهما هجاء، وقد أنشد الكميت بن زيد نصيباً الشاعر فاستمع له، فكان فيما أنشده قوله يصف غليان القدر:

كأن الغطامطَ منْ غليها

أراجيزُ أسلمَ تهجو غفارا

( يشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيها بالموج الذي يرتفع ).فقال له نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط، فاستحيا الكميت فسكت ( ص335 ج 1: الكامل ).

الهجاء في الشعراء:

قد عرفت أن الشاعر لا يكون هجاء إلا وهو في معنى المؤرخ، فليس كل القبائل يعرف بعضها مثالب بعض، ولا كل الناس يعرف ذلك، فمتى سير الشاعر قصيدة فكأنه نشر كتاباً في أمة يقرأ ويكتب، ومن اجل هذا لما استأذن حسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجو قريشاً قبل إسلامهم ويسله منهم سل الشعرة من العجين، أمره أن يستعين بأبي بكر، ولم يكن في زمنه أعلم بالأنساب منه، حتى إن أنسب العرب إنما أخذوا عنه كما ستعرفه في موضعه. ولمكانة ذلك الشعر من التاريخ، صار الراوية للأشعار لا يكون راوية حتى يكون نسابة عالماً بالأخبار، وقد تغلب على بعضهم رواية المثالب خاصة كعقيل بن أبي طالب، وهو أحد الأربعة من قريش الذين كانوا رواة الناس للأشعار وعلمائهم بالأنساب والأخبار، وهم مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل هذا ( ج 2: البيان ) وممن تخصصوا بالمثالب والعيوب في الرواة: دغفل النسابة، والنخار العذري، وابن الكيس النمري، وصحار العبدي، وابن شرية، وابن أبي الشطاح وهشام بن الكلبي. ولم يبلغ جرير مبلغه من الهجاء إلا لمكان علمه بالنسب والمثالب من جده الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن سلم.وكان الخطفي هذا من العرفاء العلماء بالنسب وبالغريب ( ج 1: البيان ) وكذلك الفرزدق، كان هو شاعر الناس وراوية أخبارهم، وهما يكادان لشهرتهما يكونان فكي الهجاء فيما يلاك ويمضغ من الأغراض. ولما كان الشعراء ألسنة قبائلهم ونوابها في السياسة العامة، كان هجاء بعضهم بعضاً لايزال عاماً حتى إذا ذهبت عصبية القبائل ووهنت عقدة الجاهلية وسكنت نائرة الأحزاب، صار الهجاء كسائر أغراض الشعر: يقال فيه للبراعة وابتكار المعاني فاتخذ لحك الحزازات وشق المرائر وتحول إلى كذب وسخف وإفحاش وإقذاع وكان من هذا شيء في الجاهلية حين يكون الشاعر منبوذاً من قبيلته، أو حين يلتمس لنفسه الذكر في القبائل وشيوع المفقالة باسمه، فيقصد الأسواق والمواسم ؛ كالذي نقله السكري في شرح أشعار الهذليين قال: أقبل رجل من أهل اليمن شاعر يقال له حبيب - والناس بذي المجاز - يهجو الناس، فأشار له بعضهم إلى خباء أبي ذرة الهذلي حتى وقف عليه فرجز به فخرج إليه أبو ذرة من قبل أن يعرفه فأشار له بيده ورجز به أيضاً، ثم سأله عن اسمه فعرفه، فعاد إلى الرجز به، فطرده أهل اليمن ؛ ثم كان الحطيئة وهو الحسب الموضوع، فسلح بالشعر سلحاً، ثم جاء وطبقته فصار أكثر الهجاء من يومئذ فحشاً خالصاً وكذباً مصمتاً وسباباً محضاً، ثم كان كل متعاصرين من الشعراء يكون بينهما مثل ذلك ويعدونه من منافسة الحرفة وطبع الصناعة، فمتى نظم الشاعر قصيدة نقضها الآخر عليه، ويسمون هذه القصائد بالنقائض، وأشهرها نقائض جرير والفرزدق، وهي محفوظة متدارسة، وقد نقل المبرد في الكامل شيئاً منها ( ج 1: ص282 ). وقالوا: إن جنازة مرت بجرير فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنازة ! قيل فلم تقذف في المحصنات ؟ قال: يبدو لي ولا أصبر ( ج 2: البيان ) ؛ فكذلك كان يبدو لمن في طبقته حتى صار الناس يستجيرون بقبر أبى الفرزدق من هجائه فيجيرهم ( ج 2: ص191: الكامل ). وقد نسب الفرزدق في آخر عمره وتعلق بأستار الكعبة وعاهد الله بأن لا يكذب ولا يشتم مسلماً، وذكر ذلك في شعره ( ص70 ج 1: الكامل ) وكان جرير مولعاً بقذف المحصنات يعدهن شطر الهجاء ومادة الإقذاع وقد دعا مرة رجلاً من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته فقال الكلابي: إن نسائي بأمتعتهن ولم تدع الشعراء في نسائك مترقعاً ( ج 1: البيان ). ولانطباع الشعراء على هذه الشراسة الشديدة والجرح العريض لما يدلون به من طول اللسان وإحجام الناس عن مخاشنتهم كان الأشراف يتجنبون ممازحة الشاعر لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً ( ج 1 ص46: العمدة ) كما كانوا يتقون من أنفسهم مأثور القول في المصيبة والمرزئة، خوف أن يسبق لسانهم بكلمة من التوجع فتؤخذ عليهم وتجري في الناس مثلاً مضروباً وعيباً منسوباً. ^

مشاهير الهجائين:

ليست الشهرة بالهجاء مما تيسر لكلا شاعر يسب ويفحش، فلو كان هذا لقد كان غلب الهجاء على كل شاعر، ولكن أصحاب الهجاء كأصحاب السياسة من أهلها وغير أهلها ؛ يستطيع كل امرئ أن يتأول ويتنبأ وينذر ويأتي بصنوف القول كلها، ومع ذلك لا تجد شهرة السياسة إلا لنوادر الرجال ؛ لن حوادثها أرزاق وحظوظ، فلا يتفق لكل من ينتحل السياسة أن يصرف الدول ويضع ويرفع، كما لا يتفق مثل ذلك لكل هجاء ؛ قال أبو عبيدة: والذين هجوا فوضعوا من قدر من هجوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوه، وهجاهم قوم فردوا عليهم وأفحموهم وسكت عنهم بعض من هجاهم مخافة التعرض لهم، وسكتوا عن هجومهم رغبة بأنفسهم عن الرد عليهم وهم إسلاميون - الحطيئة، وجرير، والفرزدق، والأخطل ؛ وفي الجاهلية زهير، وطرفة، والأعشى، والنابغة ( ج 2: البيان ). فهؤلاء أفراد الهجائين وأقطاب السياسة اللسانية، ولم يبلغوا أن يكونوا كذلك حتى كانت فيهم السلطة والسلاطة معاً ؛ وهي جماع الصفات التي ذكرهم بها أبو عبيدة، فانظر أين يقع ثمانية من جمهور شعراء الجاهلية والإسلاميين لولا أن في الشر كما في الخير أرزاقاً وأقساماً ؛ وهذا الفرزدق نفسه قد تجنب مهاجاة زياد الأعجم ووهب لمخافته عبد القيس ( ج 1 ص37 العمدة ) وتجنب هو وجرير معاً مهاجاة الأحوص إكباراً لشعره ( ص38 منه ) ومع ذلك لم يذكر معهما هذان الشاعران في قليل ولا كثير، ولو بقي الأمر بعد الدولة الأموية عربياً كما كان فيها لظهرت طبقات أخرى تستحق التاريخ، ولكن الذين ظهروا، وأولهم بشار بن برد، إنما صرفوا بأسهم بعضهم إلى بعض، وهجوا الكبراء لأموالهم لا لأحسابهم، حتى قيل فيهم إنهم يمدحون بثمن ويهجون مجاناً. .وقد صار الهجاء من يومئذ كما قلنا ضرباً من الصناعة ونوعاً معدوداً منى الشعر، وإن لم تكن إجادته في طبع كل شاعر، كما قالوا عن ذي الرمة، فقد كان أحسن الناس نسبياً وأجودهم تشبيهاً وأوصفهم لرمل، وهاجرة، وفلاة، وماء، وقراد، وحية، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع ؛ وذلك الذي أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره ابعار غزلان ونقط عروس ( ص14: طبقات ). واشهر المحدثين بالهجاء على هذا الوصف بشار بن برد، وكان إذا غضب وأراد أن يقول هجاء صفق بيديه وتفل عن يمينه ويساره ( ص210: سرح العيون ) ودعبل بن علي الخزاعي، وكان هجاء الملوك جسوراً على الخليفة متحاملاً لا يبالي ما صنع حتى عرف بذلك وطار اسمه فيه، وكان لذلك يقول عن نفسه إنه يحمل خشبة منذ كذا سنة لا يجد من يصلبه عليها، وابن الرومي علي بن عباس، وكان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء، وأكثر إجادته فيه لنه كان سلك طريقه جرير من الإطالة والإفحاش، فإن جريراً أول من أطال الهجاء، وكان يقول: إذا هجوت فأضحك ( ص140 ج 2: العمدة ) وابن بسام، وكان يهجو أباه وأقاربه، يستن في ذلك سنة الحطيئة الذي هجاه أمه، وابن الحجاج البغدادي خبيث العراق ؛ وأبو بكر المخرومي هجاء الأندلس في القرن الخامس ؛ وكان أعمى شديد الشر كأنه نار صاعقة، وكان يهجو في كل كلامه من شعره وغير شعر ؛ ويقول عن نفسه: لا تبديل لخلق الله.ومع سبقه في الهجاء كان إذا مدح ضعف شعره ( ص89 ج 1: نفح الطيب ) ؛ وابن القطان المتوفي سنة 498 كان هجاء لم يسلم منه الخليفة فمن دونه، وأبو القاسم الشميشي الأندلسي في القرن السادس وفد جمع في ديوان سماه ( شفاء الأمراض في اخذ الأعراض ) وعلي بن حزمون هجاء المغرب في أوائل القرن السابع وكانوا يتدارسون هجاءه حتى لم تخل بلدة في المغرب من شعره ( ص196 المعجب ) وابن عنين هجاء مصر في القرن السابع.قال النقري في ( نفح الطيب ): وله ديوان سماه ( مقراض الأعراض ) ولكن ابن خلكان وكان معاصراً له ورآه قال: إن المقراض قصيدة طويلة جمع فيها خلفاً كثيراً من رؤساء دمشق، وقد نفاه صلاح الدين الأيوبي قصيدة طويلة جمع فيها خلفاً كثيراً من رؤساء دمشق، وقد نفاه صلاح الدين الأيوبي إلى اليمن لإفحاشه في هجاء الناس، وتوفي سنة 630. فهؤلاء اشهر أهل الهجاء لغلبته على شعرهم وإتيانهم فيه بالأوابد وذهابهم في معاريضه كل مذهب، وهم في المحدثين كالذين عدهم أبو عبيدة في الإسلاميين والجاهليين وإن كان من عداهم كلهم يهجون، ومن الشعراء قوم يسمونهم المغلبين وهم الذين غلبوا بالهجاء وإن كان ممن ليسوا إليهم في الشعر ولا قريباً منهم، ومعنى المغلب عندهم الذين لا يزال مغلوباً.قال ابن رشيق: ( ومنهم نابغة بني جعدة، وقد غلب عليه أوس بن مغراء القريعي وغلبت عليه ليلى الأخيلية. .وقد علم الكافة ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعاً. .ومن المغلبين: الزبرقان، غلبة عمرو بن الأهتم وغلبه المخبل السعدي وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة، ومنهم تميم بن أبي مقبل، هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، وهاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه. .ومن مغلبي المولدين على جلالته بشار بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله ولا أكفائه هجاه فأبكاه ومثل به أشد تمثيل، وعلي بن الجهم أبا السمط مروان بن أبى الجنوب فغلبه مروان، وهاجاه البحتري فغلب عليه أيضاً، على أن علياً أقذع منه لساناً واسبق إلى ما يريده من ذلك وأقدم سناً، ومنهم حبيب ( الطائي ) وهاجى السراج وعتبة فما أتى بشيء. . وهاجى دعبلاً فاستطال عليه دعبل أيضاً ( 67 و68 ج 1: العمدة )، وربما هجى الشاعر من هو أكبر منه وأبعد صيتاً، لا ليغلبه، ولكن ليجيبه فيعد في طبقته، كما فعل بشار، فإنه هجا جريراً بأشعار كثيرة فلم يجبه جرير انفه واحتقاراً، فقال: لو هجاني لكنت أشعر الناس ( ص70 ج 1: العمدة ).

المديح

والمديح في فطرة الإنسان، لأنه إحساس الكبرياء التي هي عمود الإنسانية فيه، فإن الناس متفاضلون في القوة على الأعمال، وهم كذلك متفاضلون في حسهم لهذه القوة، فالواثق بنفسه الذاهب بها مذهب الغناء والاعتداد يجد في طبعه حركة واهتزازاً متى حققت له أعماله تلك الثقة ولم يكذب وهمه في الاعتداد باطلاً، فذلك الاهتزاز هو إحساس الكبرياء الكامنة فيه، وهو الذي يقصد تصويره بالفخر والمديح. ولا تكون الكبرياء رذيلة ممقوتة إلا إذا جاوزت مقدارها الطبيعي الذي يكون دائماً مكافئاً لحقيقة الثقة بالنفس، فهي حينئذ تنقلب صلفاتً وتدخل في حكم الطباع المتكلفة ولا تحدث من الاهتزاز إلا وهماً وغروراً، كالذي يحدث من نشوة الخمر ؛ فإذا هي زادت كانت عند العقلاء عربدة. .والمديح الذي يصور هذه الكبرياء الكاذبة لابد أن يكون اكذب منها حتى تعوض عليه غرابة المبالغة شيئاً من رونق الحقيقة، وهو حينئذ صنعة وتكلف، ثم هو الذي عناه المتأخرون بقولهم: أعذب الشعر أكذبه. فهذان شطرا المديح، لايكون إلا في أحدهما، وقد ذهب العرب بالشطر الأول قبل أن تضعف أعصاب البداوة، فكان مديحهم فخراً كله، لأن أساس الطبيعة البدوية فضيلة الاعتماد على النفس، وهي التي تحدث الكبرياء الصحيحة، فلا تكاد تجد في شعر المهلهل أو امرئ القيس وطبقتهما مدحاً مبيناً على الملق والمداهنة وتصنع الأخلاق، وإن وجد شيء من ذلك قبل النابغة وزهير فهو مصنوع لا شك في صنعته وتوليده ؛ وقد زعم الأصمعي ( ص188 ج 2: الكامل ) أن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث، وهو قوله:

أنبضوا معجسَ القسيِّ وأبرقنا

كما ترعدُ الفحولُ الفحولا

لأن فيه غلطاً لغوياً، إذ لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وأرعدنا نحن وأبرقنا إذا دخلنا في الرعد والبرق، وليس الخطأ اللغوي وحده وهو الذي يدل على الصنعة والتوليد، ولكن الخطأ الأخلاقي أمكن منه في باب الدلالة. ولما وهنت أعصاب البداوة في بعض الشعراء بما وجدوا من مس الترف والنعيم، جعلوا يبتغون المنالة والكسب، وبذلك حولوا شيئاً من مديحهم إلى الشطر الثاني، وقد ذكرنا منشأ ذلك في باب البديهة، والارتجال ؛ غير أن هذا التحول المرضي في المديح إنما كان يأخذ منه على التدريج في أول أمره، فبقي مديح زهير طبيعياً لا يحاول فيه صبغ الحقيقة بذلك اللون الأسود الذي يعطيها في الوهم منظر الاستبعاد، ولذلك فضله عمر بن الخطاب بأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه ؛ ولكن الاستبعاد، ولذلك فضله عمر بن الخطاب بأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه ؛ ولكن الذي سلم من أمر زهير لم يسلم من أمر النابغة، لن زهيراً كان لا يقول على الرغبة والطمع، وكان يمدح رجلاً من الأشراف بصفات مثله الصحيحة، والنابغة كان يكتسب من المناذرة والغساسنة، وهم ملوك، فكان يرى النابغة أن مديحهم لابد أن يكون طبقة في الشعر تساوي طبقتهم في الناس، ولما هرب من النعمان وجعل يعتذر إليه باعتذاراته المشهورة، عمد إلى تجويد المديح وزخرفته ينفخ به كبرياءه فيصغر في جنبها ما أتاه ويتجاوز عنه. وقد جاء بعدهما الأعشى، فلم تكن له همة إلا في المدح والهجاء، وكان رجلاً مجدوداً في الشعر ؛ ما مدح أحداً إلا رفعة ولا هجا أحداً إلا وضعه، والأمور يومئذ تطير للشعر طيراناً ؛ فكان الأعشى على التحقيق أول من احترف المديح وابتذله في طبقات الناس ؛ ولذلك اضطر أن ينفخ معانيه بالمبالغة والإغراق، وإن تجاوز موضع الحقيقة إلى ما يقع وراءها من نواحي التصور البعيدة ؛ وقد عرف العرب ذلك منه وألفوه، لأن حظ هذا النوع من الشعر أن يسير وإن كان كذباً، فإن ركد في لسان الشاعر لم يبالوا به وغن كان حقيقة ؛ ولذلك لما نزل الأعشى بمكة وأضافه المحلق - وهو رجل فقير خامل الذكر ذو بنات قد كسدن عليه، وأراد الأعشى إنفاقهن وأن يكيفه أمرهن - اصبح بعكاظ ينشد قصيدة وقد اجتمع الناس ( 25 ج 1: العمدة ). يقول فيها:

أرقتُ وما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ

وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ

نفى الذَّمَّ عنْ آلِ المحلِّقِ جفنةٌ

كجابية الشَّيخِ العراقيِّ تفهقُ

فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف.وافتنان هذا الشاعر في صنعة المديح وقصده فيه إلى تصوير الكبرياء الكاذبة، هو الذي طوع له أن يكذب في التاريخ حين نظم قصائده التي ذكر فيها منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وقد كانا تنافرا إلى هرم بن قطبة.فأقاما عنده سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، حتى قدم الأعشى، وكانت لعامر عنده يد ؛ فقال شعره في ذلك فراوه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى، والقصة مشهورة ( العمدة: ج 1 ص28 ؛ سرح العيون ص106 ) وفيها أقوال الرواة مجمعون على حكم هذا الأعشى. وكذلك كذب الحطيئة على التاريخ في مديح قومه، وكانوا من القائمين في أهل الردة، فقال:

فدى لبنى نصرٍ طريفي والدي

عشيَّةَ ذادوا بالرِّماحِ أبا بكر

قال المبرد: قوله ذادوا بالرماح أبا بكر، كذب ؛ غنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فنفرت وفرت ( ج 1 ص232: الكامل ) والمعاني تخضع الحقائق وتصرفها فيما شاءت ولكنها لا تخضع التاريخ، لأنه في نفسه حقيقة خالدة لا تسمح ولا تموت، فإذا حاول الشاعر أن يكذب فيه فلا يكون ذلك إلا إذا اعتاد تحويل الحقائق فيمدح كذباً ويهجو كذباً، وذلك من ضرورة الصنعة والاحتراف، فلا يفعله إلا وقد ابتذل الشعر واتخذه حرفه، وذلك ما ذهبنا إليه في أمر الأعشى. وقد نقلت في فصل ( الشعر في القبائل ) قول الجاحظ إنه لم تمدح قبيلة في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل لمادح في أحد من العرب ما تهيأ في بني بدر. ولما دجا الإسلام وتحضرت الدولة واستأصلت الفتن أهل الطبع الشعري من العرب، انفرد بالشعر جماعة هم الذين اتصلوا بدولة الذهب ( الأمويين ) فاستقلت طريقة المديح من يومئذ وأطاله الشعراء، وقد أجمعوا على أن كثيراً أول من فعل ذلك ( ص62 ج 1: العمدة ) كما أن جريراً هو أول من استن إطالة الهجاء وتقصير الممادحة.قال: فإنه ينسى أولها ولا يحفظ آخرها ( ص103 ج 2: العمدة ). وقد نصوا على أن امدح الناس في طبقة الجاهلية والإسلاميين زهير والأعشى ثم الأخطل وكثير ( ص104 ج 2: العمدة ) أما المحدثون فقل منهم من لا يحترف المديح ويجعله عمود شعره وموضع كده وإجادته، وقد جرأهم على ذلك جود الخلفاء والأمراء ورغبتهم في اصطناعهم وتسنية الجوائز لهم من أجل ذلك ؛ ولا أعجب من أن يدخل الحيص بيص الشاعر المتوفى سنة 574 على خالد القسري أحد أمراء الدولة الأموية فيقول له: إني مدحتك ببيتين قيمتهما عشرة آلاف درهم فأحضرها حتى أنشدهما، فيحضر خالد الدراهم ثم ينشد الحيص بيص قوله:

قدْ كانَ آدمُ قبلَ حينِ وفاتهِ

أوصاكَ وهوَ يجودُ بالحوباءِ

ببنيتهِ أنْ ترعاهمُ فرعيتهمْ

وكفيتَ آدمَ عيلةَ الأبناءِ !

فيدفع إليه خالد الدراهم ويأمر أن يضرب أسواطا وينادى عليه: هذا جزاء من لا يعرف قيمة شعره، ثم يقول له: إن قيمتها مائة ألف ( ص204 سرح العيون )، وخالد هذا هو الذي كان يجلس للشعراء في يوم معين ويجيزهم فيه، وهو أول من فعل ذلك، وقد حذا حذوه الخليفة المهدي العباسي، ولكنه لم يقصر اتخاذ الأيام على الشعراء، بل اتخذ كذلك أياما لأرباب الصناعات والغايات ؛ وكان الوليد بن يزيد من خلفاء بني أمية أول من تخرق في البذل للشعراء، فعد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم ( ص148 ج 17: الأغاني ) فلما جاء المهدي من خلفاء العباسيين وصل مروان بن أبي حفصة بمائة ألف درهم على قصيدته التي مطلعها:

طرقتكَ زائرةٌ فحيِّ خيالها

يعارض بها قصيدة للأعشى ؛ وكذلك كان يعطيه الرشيد ؛ وقد كثر الشعراء في أيامه فكان ببابه منهم من لم يجتمع لأحد قبله - وسنذكر فحولهم لمناسبة تأتي في بحث الأدب الأندلسي - وضاقت بهم بغداد فاضطروا إلى تقديرهم بالاختبار وترتيبهم في الجوائز ؛ فعهد يحيى بن خالد بذلك إلى شاعره أبان اللاحقي ( ص73 ج 20: الأغاني ) وكان ذلك عهد البرامكة وهم من هم ؛ فقد نال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة فيهم مثل ما ناله مروان من الرشيد كل عمره ( ص73 ج 20: الأغاني ) ؛ وأعطى المتوكل حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من إحدى قصائده ؛ وهو أول من أعطى ذلك ( ص194 ج 6: الأغاني )، ولم يساو هؤلاء في ذلك غير الأندلسيين - وسنلم بشيء من خبرهم في موضعه - ولو ذهبنا نتتبع تاريخ الجوائز ونستقصي مقاديرها للزمتنا لذلك مؤنة في التأليف وكلفة في الجمع ؛ لأنها مع تاريخ الشعر في كل عصر ؛ وقد كان من الشعراء من يتراجع طبعه وتنضب مادته بعد ممدوحه الذي اختص به، كأبي الحسن السلامي توفي سنة 393 شاعر عضد الدولة ؛ وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي ووقف بين يدي ! فلما توفي تراجع طبعه ورقت حاله ولم ينتفع بنفسه ( ص163 ج 2: يتيمة الدهر ) ومثله كثيرون. ويحسب الناس أن من نقائص شعراء المتأخرين أنهم ينقلون المديح من رجل إلى رجل ؛ فيلقون بالقصيدة الواحدة جماعة من الناس ؛ ولكن ابن رشيق يقول إن ذلك كان دأب البحتري ؛ وفعله أبو تمام في قصائد معدودة ؛ منها:

قدكَ اتئدْ أربيتَ في الغلواءِ

نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان ( ص114 ج 2: العمدة ) ؛ وإن كان وجه ذلك في المتأخرين العجز عن الشعر فلا نرى له وجها في المتقدمين إلا أن يكون إخلاف الأمل في المثوبة والإجازة بالحرمان ؛ فيقول قائلهم: هن بنياتي أنكحهن من أشاء !

شعر الكدية أو الشعر الساساني:

الكدية حرفة السائل الملح ؛ وهي أيضاً شدة الدهر ؛ وكان شعراء العرب صعاليك وشطار ومتلصصون ؛ وأشهرهم عروة بن الورد المعروف بعروة الصعاليك، وتأبط شراً، وسعد بن ناسب ؛ ولكن لم يكن فيهم مكدون ؛ والفرق بين الحالتين أن الشطارة تبسط اليد قوية عزيزة ؛ والكدية بسطها بالسؤال ضارعة ذليلة ؛ فلما استفحل التمدن الإسلامي وامتزج العرب بالفرس ؛ أخذ خبثاؤهم فيما أخذوه منهم تلك الحرفة ؛ ولذلك يسمون بني ساسان كما أخذوا عن الهنمود مذهب الخناقين واستعدوا له استعداداً عجيباً ؛ فانتحلته جماعة من أصحاب المنصورية والغالية وغيرهما ؛ وقد ذكر الجاحظ من ذلك طرفاً صالحاً ( ص97 و98 ج 2: الحيوان ) وأورد شعراً لحماد الراوية يذكر فيه القبائل المشهورة بالخنق لعهده ؛ أي في منتصف القرن الثاني ؛ وهي عجل وكندة وبجيلة، فراجعه هناك، ثم نسب هذا الشعر في موضع آخر لأعشى همدان ( ص199 ج 6: الحيوان ). أما الكدية فهي عند أهلها كل ما يحتال به على الشر والأذى في سبيل العيش من الشعوذة والمخرقة وما إليهما، ولهم فيها رموز لا يفهمها غيرهم، وأصحابها أهل بأس وشدة وفساد كبير، لكن من الشعراء من كان يقبل على هذه الحرفة لا يبغي بها بدلاً من عرض الحياة ووفرة الغنى وإقبال الأمراء، ومنهم من كان يحفظ رموزها تظرفاً وتملحاً، ونظن أنهم لم يظهروا بها إلا في القرن الرابع، وأشهرهم في ذلك الأحنف العكبري، وكان فرد بني ساسان بمدينة السلام، وهو من جماعة الصاحب بن عباد ( ص285 ج 2: يتيمة الدهر ).وكان من شعرائه فيها أيضاً أبو دلف الخرزجي الينبوعي، قال الثعالبي فيه: شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الكدية، خنق التسعين في الإطراب والاغتراب، وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالحراب. .قال: وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظاً عجيباً، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكانا يتجاذبان أهدانبها، ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتنحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية الأحنف العكبري في المناكاة وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وتنادر بإدخال الخليفة المطيع لله في جملتهم، وقد فسرها تفسيراً شافياً كافياً - اهتز ونشط لها وتبجح بها، وتحفظ كلها، وأجزل صلته عليها، وقد اختار منها الثعالبي 195 بيتاً وساقها في يتيمته مع شرحها ( جزء ثالث ) وأكثر مصطلحاتها فارسي، ورأينا صاحبها يقول فيها:

ومنَّا شعراءُ الأر

ضِ أهلُ البدوِ والحضرْ

فإذا لم يكن منهم يومئذ طائفة كبيرة طواهم التاريخ بأجناسهم على أدناهم، - فإن أبا دلف إنما أراد صنعة المديح وتكسب الشعراء بها، وهي فن من تلك الفنون اختص به الشعراء كما اختص غيرهم بغيره من فنونها الكثيرة، ومدار جميعها على أخذ ( جزية الخلق ) كما يقولون ليس للمديح عند الشعراء الذين يتكسبون به معنى أكثر من ذلك.

الفخر والحماسة

يقول ابن رشيق: إن الفخر هو المديح نفسه، ولكن الشاعر يخص نفسه وقومه.ونحن كذلك نراه قد يكون شطراً من الهجاء ؛ إذ يقصد به التفضيل والترجيح بين الصفات الممدوحة التي يعتز بها والصفات المهجوة التي يفتخر عليها، أما في الهجاء فهو طبيعي كما ترى، لأنه بعض مادته، ولكن مدح النفس مرذول، يدل على سقوط الهمة، وعلى قولة الرأي، وعلى أن المرء يزور من نفسه لساناً غير مخلوق، وهذا أدخل في باب المذلة والاضعة منه في باب الفخر والحمية، والصحيح أن هذا الفخر الذي عناه ابن رشيق إنما هو الفخر الصناعي الذي تزيد فيه المتأخرون واستظهرت به طبيعتهم، فصنعته مديح صرف، وكل من قدر على أن يقول حاتم كريم، فهو قادر بدياً على أن يقول إنما كريم، وقس على ذلك ؛ لأن التاريخ يعتبر دائماً ميتاً موتاً حقيقياً إذا أريد تقليد أعماله الخالدة بالأقوال، فلو كان الذي يقول: أنا كريم حاتم ؛ إنما قال هذا القول في الناس الذين شهروا حاتماً بالكرم ؛ لكان قد وجد التاريخ حياً فإما يكذبه أو يصدقه ؛ على مقدار عمله الذي يساوي به عمل حاتم، ولا يكون لكلمته معنى إلا التنبيه على هذه الفضيلة فيه. فحقيقة الفخر إذن ليست مدحاً كما قيل، ولكنها تأريخ، وسواء في معنى التأريخ، فضيلة الفرد وفضيلة الجماعة، لأنه كما يكون ظفر الجيش في الحرب نتيجة حوادث كثيرة، كذلك تكون فضيلة الكرم عن حوادث معروفة أنتجت هذه التسمية ؛ والمرء لا يكون كريماً في العرب بلا شيء، ولا بشيء قليل. وعلى هذا التأويل نرى الفخر فطرة في العرب، فلا يكاد السيد منهم يأتي عملاً إلا تناوله شاعر قبيلته وفخر به، لأنه لسان القبيلة ومؤرخ أحسابها، وإذا فخر أحدهم بفضيلة في نفسه كالشجاعة أو الكرم أو غيرهما، فإنما يكون ذلك في معرض التذكير بهذه الفضيلة واستشهاد التاريخ الحي عليها، أو يكون توطيناً لنفسه وتحميساً لها بها يهيج من كبريائها، كما يغني الشجاع في الحرب، وكما ينبه عن نفسه عند الضربة القاضية والطعنة النافذة ؛ وهذا هو باب الحماسة. وفيما عدا ذلك فلا يكون في الفخر معنى المديح إلا لأن فيه معنى الهجاء، كالمنافرات المشهورة في العرب ؛ وكانوا إذا تنازع الرجلان منهم وأدعى كل واحد أنه أعز من صاحبه، تحاكما إلى عالم من حكمائهم المحيطين بالأنساب والتاريخ، فمن نمفر منهما - أي فضل نفره على الآخر - لا يفلح الثاني بعدها أبداً ؛ والأصل في هذا كما ترى الهجاء لا المدح، لأن الذي يقارع الآخر عن حسبه ويكاثره بالأحياء والأموات من أشراف قومه، إنما يريد الغص منه، ليظهر هو وقبيلته بهذه المقابلة، ولو أراد معنى التمدح وحده لقد كان في حسب قومه غنى. وثم نوع آخر من الفخر عند العرب هو شبيه بالفخر المصنوع في ظاهره لا في حقيقته، وذلك أن العربي يعاف الشيء ويهجو به غيره، فإن ابتلى به ملأ ماضغيه فخراً، ولكنه لا يفخر من جهة ما هجا به صاحبه، قال الجاحظ: ( فافهم ) هذه، فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يهجون به، وهذا باطل، فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان.فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين ؛ وإذا ذموا ذكروا اقبح الوجهين ( ص57 ج 5: الحيوان ).ويدخل في هذا النوع باب العيوب الخلقية كالبرص فإنهم يهجون به، ولكن من ابتلى به من شعرائهم ضرب له المثل الذي يستغرقه ويشغل عنه كقول ابن حبناء:

إنِّي امرؤٌ حنظليٌّ حينَ تنسبني

لا منْ عتيكٍ ولا أخواليَ العوقُ

لا تحسبنَّ بياضاً فيَّ منقصةً

إنَّ اللهاميمَ في أقرانها البلقُ

( الحيوان: ص54 ج 5 ). وقس على ذلك، فهذا المدح المصنوع، ولكن عذرهم فيه أنهم اضطروا إليه فراراً من معنى الهجاء، ومن هذه الجهة اكتسب معنى المديح. فكيفما أدرنا القول لا نجد هذا الباب خالصاً عند العرب غير مقصود به إلا صنعة الكلام وحدها كما يفعل المولودون، ولذلك لم يغلب هذا النوع على قول الشاعر منهم كما يغلب المديح الهجاء والوصف، بل لم يكد يتميز به بعضهم على بعض ؛ واعتبر ذلك بالأبيات التي يعدونها أفخر الشعر، وقد روى منها ابن رشيق طائفة، فإنك لا تجد لجاهلي بيتاً يبرعها أو يكون منها بمنزلة في الصنعة، إنما تجد أكثر ذلك للإسلاميين والمولدين. أما الإسلاميون فقد شاع الفخر في أيامهم، للخلافات التي كانت بين بني هاشم وبني أمية، وبين هؤلاء وبني العباس، ولكنه بني على الهجاء كما مر في منافرات العرب، ولذلك استغرقته الخطب والكتب ولم تكن سهمة الشعر منه إلا القليل ؛ وكان منهم من يغري بين الوجوه من الناس وبين العلماء بالأنساب، يحب أن يعرف حالات الناس وعيوب الأشراف، كعبد الله بن عامر، ومصعب بن الزبير ؛ قال الجاحظ: فلا جرم أنهما كانا إذا سابا أوجعاً ( ج 1 البيان ) وسنلم بشيء من هذا الباب في بحث الخطابة. وكان فيهم قوم متميزون دون سائر القبائل بالكبر، أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولم يكن في قوى عقولهم ودياناتهم فضل على قوى دواعي الحميمة فيهم، وهم من قريش بنو مخزوم وبنو أمية.ومن العرب بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس خاصة ( ص21 ؛ 22 ج 6: الحيوان ) فلا جرم كان من هؤلاء ديوان مفرد لمعاني الفخر والحماسة.وقد ذهب بشهرة الفخر في الإسلاميين من الشعراء جرير والفرزدق ؛ لذهابهما بشهرة الهجاء. أما في المولدين فالذين برعوا في صنعة الفخر والحماسة كثيرون، وقد صارت الإجادة في ذلك على حسب قوة الشاعر وبمقدار ما تؤتى القريحة زمن التصرف ؛ لأن هذا الشعر لا يصنع لرغبة ولا لرهبة وليس وراء معانيه ظل، فلا يجيده إلا مجيد، ولكن شهرته أكثر ما تعلق بالأمراء والشجعان وأهل النسب ؛ كالشريف الرضي، وهم يقصدون إلى هذا النوع في شعرهم قصداً، ويتخذون منه لساناً للسياسة والتاريخ.ثم هو شيء في طباعهم، لايتكلفون منه الكثير كما يفعل من دونهم.ولذلك لا يعدوه وشيء الطبيعة ورونق الغريزة، وذلك شائع فيهم.وأول هذه الطبقة في الإسلام شعراء الخوارج، وأشهرهم قطري بن الفجاءة، ثم الأمراء والوزراء.كأمراء بني حمدان، وأشهرهم أبو فراس الحمداني، وكالوزير الطغرائي، وكثيرين من وزراء الأندلس، وسنذكرهم في موضوعهم، وكان آخر من أداه إلينا الزمان من هذه الفئة، المرحوم محمود سامي البارودي. وقد استحدث المتأخرون طريقة صناعية في الحماسة ؛ وهي مزجها بالغزل والافتنان في ذلك ؛ وأخذوا هذه الطريقة عن عنترة في البيتين المنسوبين إليه:

ولقدْ ذكرتكَ والرِّماحُ نواهلٌ

وكان يتفق ذلك في الأبيات من القصيدة ؛ حتى صنع فيه القاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

سوايَ يخافُ الدَّهرَ أو يرهبُ الرَّدى

وغيري يهوى أنْ يكونَ مخلَّدا

وقسمها على الحماسة والغزل ؛ وهي أشهر القصائد في هذا النوع. ^

الرثاء

الشعر في المراثي إنما يقال على الوفاء، فيقضي الشاعر بقوله حقوقاً سلفت، أو على السجية إذا كان الشاعر قد فجع ببعض أهله، أما أن يقال على الرغبة فلا ؛ لأن العرب التزموا في ذلك مذهباً واحداً، وهو ذكر ما يدل على أن الميت قد مات ؛ فيجمعون بين التفجع والحسرة والأسف والتلهف والاستعظام، ثم يذكرون صفات المدح مبللة بالدموع، حتى قال قدامة: إنه ليس بين المريثة والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك ؛ ومن أجل ذلك لم يتبسطوا في معاني الرثاء والفجيعة من الموجودات وما يتبع ذلك من درس العواطف المحزنة والبحث عن أماكن الألم في نفس الإنسان، كما كان ذلك عند اليونان، إذ كان من شعرائهم من تخصص للفواجع وعرف بصفات الحزن كأوريبيذس وغيره، وكما كان عند العبرانيين، وهم أبكى الناس، حتى إن الرثاء من الصفات المميزة لأشعارهم ؛ ويرجع ذلك النقص في العرب إلى أسبابه الطبيعية مما يتعلق بالبداوة والأخلاق التي تكون عنها، وقد مر ذكر ذلك في مواضع كثيرة. ومن تلك الأخلاق كانوا لا يرثون قتلى الحروب، لأنهم ما خرجوا إلا ليقتلوا، فإذا بكوهم كان ذلك هجاء أو في حكمه ؛ ولكن الرثاء لمن يموت حتف أنفه، أو يقتل في غير حرب من حروب التاريخ، كالغارة ونحوها، فحينئذ يعددون المآثر ويبالغون في الفجيعة كأن هذا الموت غير طبيعي فيمن يستحق أن يموت. . وقد مر في الكلام عن شواعر العرب شيء عن موضعهن من الرثاء، لأنهن أشجى الناس قلوباً عند المصيبة وأشدهن جزعاً على هالك ؛ لما ركب في طبعهن من الخور، وفي قلوبهن من سهولة الانخلاع.أما الرجال فلم يشتهر منهم بالرثاء إلا أفراداً عضتهم المصيبة بما لم يبرأ من الألم فصاحوا تلك الصيحة التي ينجذب معها القلب إلى الشفتين. قال المبرد في الكامل ( ص390 ج 2 ): وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن.وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت وفي كنفها تصلح. .ثم ذكر منها قصيدة أعشى باهلة التي يرثى بها المنتشر بن وهب الباهلي وساق خبرها.وكذلك روى قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وهذه القصائد التي يشير إليها المبرد هي عيون المراثي التي رواها محمد بن أبي الخطاب القرشي في كتابه ( جمهرة أشعار العرب ) وهي لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زيد الطائي، ومالك بن الريب، ومتمم بن نويرة.ولم يذكروا منها شعر النابغة في حصن بن حذيفة، ولا مراثي أوس بن حجر في فضاله بن كلدة.لأوس هذا فيه مراث جيدة، من أحسنها القصيدة السائرة التي أولها:

أيتَّها النَّفس أجملي جزعا

إنَّ الذي تحذرينَ قدْ وقعا

وبديهي أن الرثاء لا يتعلق بالنسيب كما يتعلق به المدح والهجاء وغيرهما ولكن وردت للعرب في ذلك قصيدة واحدة.قال ابن الكلبي: لا أعلم مريثة أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة:

أرثَّ جديدُ الحبلِ منْ أمَّ معبدِ

بعافيةٍ وأخلقتْ كلَّ موعدِ

وقال ابن رشيق: ( وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة وحين أخذ ثأره وأدرك طلبته، وربما قال الشاعر في مقدمة الرثاء: تركت كذا أو كبرت عن كذا وشغلت عن كذا، وهو في ذلك يتغزل ويصف أحوال النساء، وكان الكميت ركاباً لهذه الطريقة في أكثر شعره، فأما ابن مقبل فمن جفاء أعرابيته أنه رثى عثمان بن عفان بقصيدة حسنة أتى فيها على ما في النفس ثم عطف وقال:

فدعْ ذا ولكنْ علَّقتْ حبلَ عاشقٍ

. . . . . .

( الأبيات )والنسيب في أول القصيدة على مذهب دريد خير مما ختم به هذا الجلف على تقدمه في الصناعة ( ص121 و122 ج 2: العمدة ). ومما حدث بعد الإسلام في طرق الرثاء الجمع بين التعزية والتهنئة، وهو مخصوص بالخلفاء في تعزية من يلي عهد أبيه منهم، وكان أول ذلك حين مات معاوية وقدم يزيد ولده فلم يقدم أحد على تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فأنشده ( ج1: البيان ) ففتح للناس بهد باب القول، وقد روى ابن رشيق هذه الأبيات في العمدة ( ص124 ج 2 ) ووطأ لها بسجعات نسبها للسلولي، والصحيح أن له الشعر وحده، أما السجع فهو لعطاء بن أبي صيفي الثقفي، وهو من الخطباء الذين فتح لهم الكلام بذلك الشعر ( ج 1 البيان ).ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه ؟ فأقبل غيلان بن مسلمة الثقفي، فسلم عليه ثم خطب معزياً ومهنئاً.وكذلك لما توفي المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدي فسلم ونحا هذا المنحى، وقد روى كلامهما الجاحظ في الجزء الأول من البيان. والذي ابتدأ بالإجادة في هذه الطريقة من الشعراء، أبو نواس في قصيدته النونية التي يعزى بها الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنيه بالأمين، يقول منها:

وفي الحيُّ بالميتِ الذي غيَّبَ الثَّرى

فلا الملكُ مغبونٌ ولا الموتُ غابنُ

ثم اتبعه أبو تمام في قصيدته التي أولها:

ما للدُّموعِ تروم كلَّ مرامِ

يقولها للواثق بعد موت المعتصم، وقد صرف الكلام فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الناحية من الشعراء ؛ وليس من المتأخرين من يؤم في هذه الطريقة غير جمال الدين بن نباتة المصري، من شعراء القرن السابع، فإنه جاء في قصيدته الميمية التي عزى فيها عبد الملك المؤيد صاحب حماه وهنأ ولده الأفضل، بما يعد من عجائب الصناعة، لأنه استطرد في القصيدة على طولها بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها، وهي مشهورة، مطلعها:

هناءٌ محا ذاكَ العزاءَ المقدّما

فما عبسَ المحزونُ حتَّى تبسَّما

وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء خاصة، حتى قيل فيه إنه نواحة ندابة ؛ وكذلك عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن ؛ واشتهر في الرثاء بطريقة انفرد بها لا ترجع إلى الأسلوب ولا إلى الصناعة، ولكن إلى معنى الفجيعة، وذلك لأنه قتل له جارية وغلام كان يهواهما ثم جعل عليهما ويرثيهما، فاشتهر بهذه الطريقة، وليس أدل على جودة رثائه من قوله فيها:

لو كانَ يدري الميتُ ماذا بعدهُ

بالحيِّ منهُ، بكى لهُ في قبرهِ

وكان للرثاء شأن في أول الدولة الأموية، حتى كانت المراثي يناح بها نوحاً على القتلى والأموات، وأشهر من عرف بذلك الغريض المغني، وقد رتبه الثريا بنت عبد الله بن الحارث وعلمته النوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرة ( ص85 ج 1: الأغاني ) ؛ وكان المشهور قبله بالنوح ابن سريج المغني، وقد عدل بعد ظهور الغريض إلى الغناء فعدل معه الغريض إليه ( ص100 ج 1: الأغاني )، ثم كان بنو أمية يشترطون في تقريب الراوية منهم أن يكون لمراثي العرب أحفظ، وكان القائم برثاء المتقدمين منهم النصيب الشاعر، فكان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واسنشده مراثي قومه، فإذا أنشده بكى وبكى معه ( ص135 ج 1: الأغاني ) وكان يتقرب بذلك إلى ملوكهم وأمرائهم، حتى أنه لما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ابتدأه في الاستئذان أن ينشده من مراثي أبيه عبد العزيز ؛ فقال: لا تفعل فتحزنني ( ص137 ج 1: الأغاني ) ؛ وقد عارض بني أمية في الولع بالرثاء شعراء الطالبين ومن نبغ بعد ذلك من هذه الشيعة إلى اليوم. ومن طرق الرثاء التي أحدثها المتأخرون، ما يرثون به الدواب والأثاث والأدوات، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع آخر ؛ ولكن القصيدة التي احنذوها في ذلك إنما هي القصيدة الهرية الشهيرة التي نظمها ابن العلاف الشاعر المتوفي سنة 318، وكان له هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بها ؛ وقيل إنه إنما رثى بها عبد الله بن المعتز وخشي من الإمام المقتدر لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وةعرض به في أبيات منها، ويقال بل كنى بالهر عن الوزير أبي الحسن بن الفرات أيام محنته، لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه.وقيل غير ذلك، وهذه القصيدة في 65 بيتاً، وهي معدودة من أحسن الشعر وأبدعه، وقد نقل زبدتها ابن خلكان في تاريخه ( الجزء الأول ص137 ).وللعلاف قصائد أخرى في الهر أيضاً ولكن هذه أشهرها.واستحسن من بعده هذا المذهب، فعارض ابن العميد القصيدة الهرية صناعة، ونقل الثعالبي شيئاً من قصيدته في اليتيمة ( الجزء الثالث ص23 ) ولما نفق برذون أبي عيسى المنجم بأصبهان وكان قد طالت صحبته له، أوعز الصاحب بن عباد إلى الندماء المقيمين في حلبته أن يعزوا أبا عيسى ويرثوا برذونه، فقال كل منهم قصيدة فريدة، نقل الثعالبي مختارات منها ( الجزء الثالث ص55: يتيمة الدهر ).ثم شاع هذا النوع بعد ذلك وتقلبوا في أغراضه.

الغول والنسيب

ليست هاتان الكلمتان مترادفتين بالمعنى الأخص كما جرى في غرف الناس، ولكن بينهما فرقاً نبه عليه قدامة فقال: إن النسيب ذكر خلق النساء وأخلاقهنج، وتصرف أحوال الهوى به معهن، وقد يذهي عن قوم موضع الفرق بين النسيب والغزل، والفرق بينهما أن الغزل هو المعنى الذي اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله، فكأن النسيب ذكر الغزل والغزل المعنى نفسه.قال: والغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء. .وعذ قد بان أن الذي قلناه على ما قلنا فيجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضاد التحافظ والعزيمة ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الغرض. لاجرم كانت هذه الأخلاق التي يحلو بها النسيب ويعذب الغزل غير صريحة في البداوة، ولا خالصة في تلك الخشونة الفطرية التي طبع عليها العرب في جاهليتهم، فكان نسيب شعرائهم قليلاً بمقدار تلك الأخلاق التي انسلخت من الطبيعة العربية وتحولت عن صميمها بما فيها من المادة الحضرية الموروثة أو المكتسبة، لأن أول من تعهر في شعره من العرب وشبب بالنساء، إنما هو امرؤ القيس بإجماع الرواة، وكان أبوه من ملوك كندة فظهرت في غزله الحضارة اليمنية وأفسدتها صعلكة الرجل ؛ إذ كان على أنه ابن ملك لا يستتبع إلا صعاليك العرب وذؤبانهم، وقد شبب حتى بنساء أبيه ؛ وكان هذا سبب نفيه لا ما زعموه من أن الملوك كانت تأنف لأبنائها من الشعر، وقد نبه على ذلك الجاحظ ( في الحيوان ) وسنكشف قلب هذا الشاعر متى وصلنا إلى ترجمته.وكان قبل امرئ القيس خاله مهلهل، وهو زير نساء، ولكنه كان بعين أخيه كليب فارس العرب المشهور - وقد مر وصفه - فلم يك بالمفحش ولا بالبذيء، ولما كان مهلهل أول من أرق الشعر كان كذلك أول من غني بالشيبي من شعره ( ص61: سرح العيون ). ولم يجيء بعد هذين الشاعرين من يتهالك في غزله غير النابغة الذبياني، وقد أفحش في بعض نسبيه إفحاشاً كأنه رومي أو فارسي، لطول ما صحب المناذرة والغساسنة، أما الشعراء من العرب فكانوا على سنة قومهم من الغيرة والأنفة ؛ ولذلك ظهر النسيب فيهم طبيعياً فقامت فيه الطلول والآثار، وتشوقوا بالرياح الهابة والبروق اللامعة والحمائم العانفة والخيالات الطائفة وبكوا على آثار الديار العافية وأشخاص الأطلال الدائرة. وهم إذا وصفوا محاسن النساء لم يزيدوا على الأوصاف الطبيعية التي تقع عليها الأعين ؛ إذ كن غير مقصورات ولا محجوبات، إنما تجيء طهارة الغزل من اعتبار الحسن اعتباراً طبيعياً، كالذي تعرفه النفس من جمال الشمس والقمر، وخضرة الرياض، وأريج الأزهار، ونحو ذلك ؛ وأظن أن إجماع الناس كافة على اختلاف أممهم في تشبيه الحسن النسائي بتلك المعاني إنما جاءهم من ذلك الاعتبار، لأنه فيهم إرث الطهارة الطبيعية من لدن الإنسان الأول ؛ ولذلك السبب عيينه لم تكن تأنف العربية أن توصف محاسنها، لأن الحسناء فيهم صفة نفسها، وإنما كان الشأن في ربية النظر ودنس الفؤاد، وذلك الذي كان يستطير له الشر بينهم وتعقد عليه الغارات فهو غزل الأسنة لا غزل الألسنة، وهو أيضاً كان السبب في أن النسيب لم يغلب على شعر واحد من شعرائهم فيعرف به كما عرف قوم بالهحاء والمديح وغيرهما، وعلى أن هذا النسيب كان نوعاً من أنواع الوصف فهو كذلك لم يتميز به شاعر تميزه بالأوصاف الأخرى ؛ وهذه تراجم شعراء الجاهلية وأشعارهم بين أيدينا، وهي بجملتها الدليل على ما أسلفنا بيانه. فلما جاء الإسلام آمنت العيون المربية، وصدق النظر في عفته، وتلجلجت الألسنة فيما كانت تنطلق به ؛ فكان ذلك أبلغ في عفة النسيب، حتى صار يؤخذ من طرف اللسان، ولا بقصد له إلا إقامة السنة التي درج عليها العرب، وتحريك ما في القلوب من بقايا الشباب ؛ حتى يستجيب الطبع للشاعر وتسلس له الخواطر، كما قال مالك بن زغبة الباهلي ( ص98 ج 2: العمدة ).

وما كانَ طبِّي حبَّها غيرَ أنَّهُ

يقامُ بسلمى للقوافي صدورها

ولولا ذلك ما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده من قصيدة كعب بن زهير الشهيرة ؛ ولتبين الناس منه الكراهة له ؛ وهم لم يرووا من ذلك شيئاً كما رووا في غيره ( هو منافرة الزبرقان ؛ راجع العمدة ). ومضى الشعراء على ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب، وكان لشدته في الدين ينكر من الشعر غير معالي الأخلاق وصواب الرأي وما يرجع إلى الأنساب ؛ حتى لقد مر بحسان وهو ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر ؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك لا جرم أنه استبطل النسيب ورآه عبثاً، إن لم تكن فيه حرمة فقد يكون سبباً إليها، خصوصاً وقد تواصف الناس في زمنه معاني الغزل بما جلبته لهم الفتوح من السراري، فتقدم عمر إلى الشعراء أن لا يتشبب أحد بامرأة إلا جلده ( ج 4 ص98: الأغاني ) ؛ وكان يأبى أن يساكنه جميل من الرجال تهتف به العواتق في خدورهن ؛ وقصة نصر بن حجاج معه مشهورة، ولكن ما جاءتهم به الفتوح كان قد أدخل عليهم رخاوة المدينة ونقض من طباعهم، ثم جعلت قلوبهم تسيب وتسيب معها أخلاق البداوة ؛ فما هدأت الفتن بعد عثمان واستقر الأمر لمعاوية حتى قويت قلوب وضعفت عقول، وانصرف أكثر القرشيين إلى ما ألهاهم به معاوية من الترف والنعمة، وما جرأهم عليه من مباحات النظر واللسان، وهو كان يبذل إليهم الأموال في هذا السبيل ويعينهم عليه بما وسعه من الجهد، ليكسر من قرشيتهم التي هي قوام الخلافة.وظهر يومئذ الغناء ممترى فيه حتى أباحه يزيد بن معاوية ( 60 - 64ه ) ففشا في الحجاز ؛ والنسيب مادة الغناء الطبيعية وبه يقوم أمره ؛ فكان المغنون يتناولون في أول أمرهم نسيب الجاهليين والمخضرمين ؛ كالمهلهل وامرئ القيس والنابغة وذي الإصبه العدواني وحميد بن ثور وغيرهم ؛ وكان هذا منشأ الظرف الحجازي الذي ضربوه مثلاً ؛ لأن أهل عراق كانوا ينكرون الغناء ولكن لا يرون بأساً بالرحز، وهو ما يحدى له ( ص163 ج 1: الأغاني ) وكذلك صاروا يكرهون النسيب من أجله ؛ حتى قال فيهم سعيد بن المسيب: أنهم نسكوا مسكاً أعجمياً.ونبغ في ذلك العهد عمر بن أبي ربيعة الغزل المترف، وكانت أمه سبيت من حضرموت، ويقال من حمير، ومن هناك أتاه الغزل ( ص32 ج 1: الأغاني ) كما أتى امرأ القيس من قبله، وليس بينهما من يساويهما في هذه الطريقة، وإنما نشأ لزمنه فتيان الشعر من القرشيين، كأبي دهبل الجمحي، ومن ينزل منزلتهم بما يدل به من سابق الحرمة، كعبد الرحمن بن حسان، فلم يتركوا أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه وكل من لم يجز، حتى تناولوا به بنت معاوية، ولكن ابن أبي ربيعة هو الذي استقلت له هذه الطريقة وكان أول من شهر بها، فبرع نظراءه بسهولة الشعر وشدة الأسر وحسن الوصف وإرسال شعره قصصاً غزلية حتى كأنه إنما يدون فيه تاريخ قلبه، ولذلك فتن به الناس، وكان أشهر أهل الحجاز يومئذ بالظرف والرقة وطباع الغزل، ابن أبي عتيق، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فكان عمر يذهب في شعره إلى أخلاقه ( ص28 ج 2: الحيوان ) وأخبارهما مشهورة، ثم كان يغني في أشعاره ابن سريج المغني النواحة، فلو أن القلوب لا ترى ببصائرها إلا لوناً واحداً لكان هو اللون الذي يعطيه غناء ابن سريج بشعر ابن أبي ربيعة، ولذلك طار نسبيه وصار الحسان يتعرضن في آفاق لحظة كواكب وأقماراً ليشهرن فيرتفعن في الناس بصفته ؛ وبلغ من فتنة شعره للنساء أنهن كن يتدارسنه ويكتبنه ( ص37 ج 1: الأغاني ). وقد خلقت تلك البيئة عمر خلقاً نسائياً، حتى كأنما كن ينجذبن إليه للمناسبة الجنسية. .فقد كان في أيام الجمع يلبس حلل الوشى ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج ويسبل لمته ويخرج يتلقى العراقيات إلى ذات عرق، ويتلقى المدنيات إلى مر ويتلقى الشاميات إلى الكديد ( ص88 ج 1: الأغاني ) كل ذلك التماساً للغزل طلباً لمأتاه، وأخباره كثيرة مثبتة في موضعها من كتاب الأغاني. وظهرت مع عمر طبقة العشاق من شعراء العرب: كجميل، وكثير، ونصيب، وجنادة العذري وغيرهم ؛ ثم الشعراء الذين صاغتهم البيئة: كالأحوص الذي كان يشبب بالنساء ذوات الأخطار من أهل المدينة، حتى نفاه سليمان بن عبد الملك ( ص48 ج 4: الأغاني ) ؛ ووضاح اليمن وكان يشبب بامرأة الوليد بن عبد الملك. وفشا أمر الغناء فكان ابن سريج وابن محرز ومعبد والغريض ومالك وابن عائشة وغيرهم يغنون في النسيب من شعر تلك الطبقة كلها، وبذلك ظهر النسيب في وضع يشبه أن يكون فارسيجاً أو رومياً ولا يلتئم مع أخلاق العرب ؛ إذ تحكى فيه قصة الغزل ويفتخر فيه بنقض العفة وانحلال الطباع، إلى أمثال هذه المعاني ؛ وكان ذلك اصل ما ورثه المولدون من هذه الصناعة. وثم نوع من الهجاء استخدم فيه النسيب، واستعين على البلوغ إلى حقيقته بهذا الغزل الحديث، وأول من فعل ذلك الشاعر الملقب بالعرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد نبغ بعد موت ابن أبي ربيعة ونحا نحوه وتشبه فأجاد، وكان جريئاً في شعره على نساء قريش ونساء بني أمية، قليل المحاشاة لأحد، وكان يهجو محمد بن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، فلما رأى أنه لم يبلغ منه ولم يمضع جعل يشبب بأمه وامرأته ( ص161 ج 1: الأغاني ) وينسب بهما، وخصوصاً أمه، على تلك الطريقة من حكاية الوقائع وافتراء الإفك، لا لمحبة ولا لمعنى الغزل ( ص154 ج 1: الأغاني ) ؛ ولكن ليفضح الرجل بإشاعة الشعر على ألسنة المغنين ؛ وليس يؤخذ بالنسيب هذا المأخذ إلا وقد استقامت طريقته تلك بما يمتهد لها من الأعراض ويطأ من الأخلاق ؛ ولذلك صار الأشراف والأمراء يتقون تلك الألسنة أكثر مما يتقون العيون المربية بعد أن شددوا في الحجاب وفرقوا بين الرجال والنساء في الطواف، وذلك في إمارة خالد القسري عامل سليمان بن عبد الملك على مكة، غذ بلغه قول بعض الشعراء ( ص116 ج 2: المسعودي ):

يا حبَّذا الموسمُ منْ موقفٍ

وحبَّذا الكعبةُ منْ مسجدِ

وحبَّذا الَّتي يزاحمننا

عندَ استلامِ الحجرِ الأسودِ

فتحولت الأخلاق يومئذ في سواد الأمة بهذا النسيب حتى كان من الأشراف من يحاول أن يعيد الأخلاق العربية، كعبد العزيز بن مروان والي عبد الملك على مصر، فإنه كان لا يعطي شاعراً شيئاً حتى يذكر أمه في مدحه لشرفها، فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم ( ص136 ج 1: الأغاني ). ولما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز تحامى شعراء الغزل أن يشهروا النساء في نسيبهم، وتحولوا عن طريقة ابن أبي ربيعة، حتى إن النصيب الشاعر المقدم في ذلك لم يأخذ جائزته إلا بعد أن شهدوا له أنه عاهد الله أن لا يقول نسيباً يشهر به النساء ( ص138 ج 1: الأغاني ) واستمر أكثرهم على ذلك: لا يبنسب إلا تملحاً واستجماماً على غير ريبة ولا فاحشة، ومالوا في ذلك إلى طريقة العرب، إلا ما لا بد منه من صنعة الأخلاق التي تناسب الغزل والتشاجي، حتى ظهر أبو المحدثين بشار بن برد، فأفرط في الصنعة، لأنه كان اعمى، وبالغ في تصوير الإحساس ليمتاز بذلك على المبصرين ( وهو والأعشى معدودان كذلك عندهم ) فكان سبيله إلى هذا الغرض أن نصب في شعره جحبائل الشيطان وزخرفة بتزويق اللسان وقارب في غزله النساء بما كان يجتزئ ابن أبي ربيعة بنظره عن التحدث له في النسيب، حتى اشتهر نساء البصرة وشبابها بشعر بشار، وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي ابن المنصور العباسي، وكان أشد الناس غيرة، فنهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب ( ص41 ج1: الأغاني ) ثم ظهر بعد ذلك أبو نواس والعباس بن الأحنف، وهذا الأخير ليس في شعره مديح، إنما هو مصروف إلى النسيب يتوخى فيه صفة المعنى لا صفة الحكاية، وشعره عكس شعر الفرزدق لأنه كان يقول في الغزل ( ج 1: البيان ) والعباس لا يقول إلا فيه ). ومن ذلك العهد شاع النسيب والتحم بالشعر، ورغب فيه الخلفاء من شعرائهم حتى إن الرشيد أمر بحبس أبي العتاهية والتضييق عليه لما تزهد وآلى على نفسه أن لا يقول شعراً في الغزل ( ص160 ج 3: الأغاني ) ثم أضاف البحتري إلى النسيب معنى تعلق به وردده في شعره واستقصاه، حتى كان الباب الذي شهر به على أنه أرق الناس نسيباً وأملحهم طريقة، وذلك المعنى هو ذكر الطيف والخيال، وكان من ذلك شيء قليل في أشعار المتقدمين يركبون فيه صنعة جافية تتخون محاسنه وتعفي على معنى الغزل فيه، غذ كانوا يطردونه ؛ واشهر ما في ذلك قول جرير:

طرقتكَ صائدةُ القلوبِ وليسَ ذا

وقتَ الزِّيارةِ فارجعي بسلامِ

وممن انفرد بطريقته في النسيب بعد البحتري وشهر بالغزل خاصة، أبو الوليد بن زيدون، وهو الذي لقبه الأندلس ببحتري المغرب، وقصائده مشهورة، وخصوصاً النونية التي يتشوق بها إلى ولادة، وكذلك أبو الوليد ابن الجنان من شعراء الملك الناصر صاحب الشام في القرن السابع، قال ابن سعيد المغربي:ومقاطعيه الغرامية قلائد أهل الغرام ( ص379 ج 1: نفح الطيب ) وكان من ذلك القرن أيضاً أبو الفضل زهير الشهير ببهاء الدين، وهو صاحب الديوان المشهور الذي يقال في غزله إنه السهل الممتنع، وقد انفرد بهذه الطريقة حتى لا يذكر معه أحد من المتأخرين إلا تابعاً، ثم تتابع الشعراء بعد هؤلاء وكلهم ينسبون وأكثرهم يجيدون، ولكنا لا نعرف لواحد منهم طريقة يتبع فيها بل كلهم، إلا ما اشتهروا به من السخافات، كالغزل الممقوت الذي يصفون فيه الأحاديث والمخنثين، وكان منشأ ذلك في أوائل الدولة العباسية بعد اقتناء المماليك من الروم والترك وغيرهم ؛ ولبعض خلفائهم وله به واستهتار، كالمعتضد وغيره، وليس هذا موضع شرحه ولا تأريخه، وقد رأينا لبعض المتأخرين فيه كتاباً مطبوعاً، ولكننا ننزه كتابنا عن الإشارة إليه. ويدخل في تاريخ النسيب بعض المذاهب الصناعية التي استحدثت فيه، ونخص بالذكر من ذلك مذهبين: الأول ما سلكه المتنبي من التغزل لممدوحه، وقد نبه عليه الثعالبي في اليتيمة، والثاني ما استنه الوزير الطغرائي من الجميع بين مدح فتيان الحي والتغزل بفتيانه، وقد شغفت بهذه الطريقة من المتأخرين ابن معتوق الموسوي وأكثر غزلة فيها. ^

الشعر الوصفي

الوصف جزء طبيعي من منطق الإنسان، لأن النفس محتاجة من أصل الفطرة إلى ما يكشف لها من الموجودات وما يكشف للموجودات منها، ولا يكون ذلك إلا بتمثيل الحقيقة وتأديتها إلى التصور في طريقة من طرق السمع والبصر والفؤاد، أي الحس المعنوي، فالأمم الطبيعية هي أصدق الأمم في الوصف طبيعة، لأنه سبيل الحقيقة في ألسنتها، ولأن حاجاتها الماسة إليه تجعل هذا الحس فيها أقرب إلى الكمال، فإذا أضفت إلى ذلك سعة العبارة ومطاوعة اللغة في التصريف - كما هو الشان عند العرب - كان أجمع للحس وأبدع في تصوير الحقيقة بما تكثر اللغة من أصباغها ويجيد الحس في تأليف لبينها وتكوين المناسبات الطبيعية التي تظهرها تلك الألوان المهيأة على حسب هذه المناسبات. ولما كان الوصف الشعري هو أرقى ما يكون في اللغة من صناعة الأصباغ والتلوين، كان لا يقع إلا على الأشياء المركبة من ضروب المعاني، وكان أجوده لذلك ما استجمع أكثر المعاني التي يتركب منها الشيء الموصوف وأظهرها فيه وأولاها بتمثيل حقيقته، وهي الطريقة التي اتبعها العرب في أوصافهم بدلالة الفطرة القوية والطبيعية الراقية، وقد كان هذا سبباً في تطبيقهم وصف الحيوان والنبات وغيرهما على علومهم ومعارفهم التي خلدوها بذلك في أشعارهم ؛ لأن من أخص مزايا العلم التدقيق والاستقصاء، حتى قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريباً منه في أشعار العرب والأعراب ( ص83 ج 3: الحيوان ).فاستقصاء المعاني التي يتركب منها الموصوف طبيعة عامة في شعرائهم، لكنهم يتفاوتون في قوة الاحتيال على إبراز هذه المعاني وابتداع الأساليب في تصويرها، وهذا هو موضع التفضيل بينهم، لأنه راجع إلى اختلاف القرائح خلقة واستعداداً.وقد غفل أكثر الأدباء عن هذه الحقيقة، فتراهم يعجبون لما يرونه في بعض أشعارهم مما يكون سبيله الاحتيال على تصوير أجزاء الموصوف، ويعدونه خشونة وجفاء طبع، كالذي يذكرونه في وصف الناقة بأن هرا قد ثبت في دفها، كقول عنترة:] الكامل ]

وكأنَّما ينأى بجانبِ دفَّها ال

وحشيِّ منْ هزجِ العشيِّ مؤوِّمِ

هرُ جنيبٌ كلَّما عطفتْ لهُ

غضبي اتَّقاها باليدينِ وبالفمِ

وهم إنما أرادوا صفة الناقة بأنها رواغة شديدة التفرغ لفرط نشاطها ومرحها، فجاءوا بهذا المعنى الذي تلزم عنه تلك الصفة، وخصوا الهر لأنه يجمع العض بالناب والمحض بالمخالب، فيكون ذلك أبلغ فيما أرادوه. ومنه قول أوس بن حجر، وقد جاء بأكثر من ذلك، يريد أنها لا تستقر:

كأنَّ هرّاً جنيباً تحتَ غرضتها

والتفَّ ديكٌ بحقويها وخنزيرُ

وقول الشماخ:

كأنَّ ابنَ آوى موثقٌ تحتَ غرضها

إذا هوَ لمْ يكلمْ بنابيهِ ظفرا

والغرضة والغرض: حزام الرحل ( ص74 ج 2: الكمال ). وعلى ذلك يؤول كل ما ورد في أوصافهم من أمثال تلك المعاني التي يستقصون بها أجزاء الصفة وأساليب التركيب، وهي عامة في الشعر الجاهلي والطبقة التي تليهم من الإسلاميين، ومن أعجبها قول الراعي حين اراد أن يصف لون الذئب:

متوقَّعُ الأقرانِ فيهِ شهبَّةٌ

هشٌّ اليدينِ تخالهُ مشكولا

كدخانِ مرنجلٍ بأعلى تلعةٍ

غرثانَ ضرّمَ عرفجاً مبلولا

المرتجل: الذي أصاب رجلاً من جراد فهو يشزيه، وجعله غرثان لأنه على طول الغرث لا يختار الحطب اليابس على رطبه، فهو يشويه بما حضره.وأدار الراعي هذا الكلام ليكون لون الدخان بلون الذئب الأطحل متفقين ( ص24 ج 5: الحيوان ). ومن تفاوتهم في الأساليب قول الشماخ في صفة الحر:

كأنَّ قتودي فوقَ جابٍ مطرَّدٍ

منَ الحقبِ لاحتهُ الجدادُ الغوارزُ

( الأبيات. . .ص28 ج 5: الحيوان ) قال الجاحظ: ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدمان الشماخ لغاية التقديم.وسجد الفرزدق مرة إذ سمع رجلاً ينشد بيتاً للبيد:

وجلا السُّيولُ عنِ الطُّلولِ كأنَّها

زبرٌ تجدُّ متونها أقلامها

فقيل له: ما هذا ؟ قال: موضع سجدة في الشعر أعرفه كما تعرفون مواضع السجود في القرآن ( ص275: سرح العيون ). ولما كان الوصف عند العرب أشبه بالحقيقة العلمية كما مر، كان الشاعر منهم لا يتعاطى ولما كان الوصف عند العرب أشبه بالحقيقة العلمية كما مر، كان الشاعر منهم لا يتعاطى إلا ما يحسن من ذلك ضرورة، وقد يشارك في أوصاف كثيرة ولكنه ينفرد بالشهرة في بعضها، من جهة العلم لا من جهة الصناعة، فكلما كان أعلم بأجزاء الموصوف وحالاته، وأقدر على استقصاء هذا العلم في شعره، كان أبلغ في الوصف وأولى بالتقديم فيه ؛ وإن أحسن ما يكون الوصف الصادق إذا خرج عن علم، وصرفته روعة العجب، فإن العلم يعطي مادة الحقيقة، والعجب يكسبها صورة من المبالغة الشعرية، وكل وصف لا يكون عن هذين أو أحدهما فهو تزيد من الكذب، وتكثر بالباطل، لأن سبيله سبيل المصنوع المتكلف، ولا يسلم متعاطيه من الخطأ، كما ترى شعراء المولدين يصنعون في صفة الإبل ونحوها من خصائص الشعر الجاهلي.وقد أخطأ أبو نواس على جلالته في وصف الأسد حين تعاطاه، وسيأتي ذلك في موضع آخر. وعلى جهتي الوصف الصادق اللتين ذكرناهما، يجري كل شعر العرب ومن بعدهم من طبقتي المخضرمين والإسلاميين، ولا يبقى موضع للعجب في تناولهم بالوصف كل أجزاء طبيعتهم، حتى الحشرات، وحتى ما لا يستحسن مثله عادة من الوصف، كما فعل مخارق بن شهاب المازني ؛ وهو على سيادته وكرمه، وعلى أنه من رؤساء العرب، تراه يصف تيس غنمه، ولولا العجب لترك ذلك لأخلاق الرعاة ومن في طبقتهم ( ص143 ج 5: الحيوان ). على أنهم في ذلك جميعه إنما كانوا يتوسعون فيما يتعلق بالأجزاء من الموصوفات دون ما يتعلق بالمعاني، والأجزاء متعلقة بالهيئة الخاصة، والمعاني متعلقة بالحالة العامة ؛ فإذا وصفوا الناقة مثلاً وهي ذات هيئة خاصة مميزة بأجزائها أتوا على هذه الأجزاء واستغرقوا كل ما يتعلق بالهيئة ؛ وحسبك أن تقرأ قصيدة التغلبي في وصف القطاة، وقد رواها الجاحظ وقال إنها أجود قصيدة قيلت في القطاة ( ص169 ج 5: الحيوان ) وإنما كانت كذلك لاستغراقها كل أجزاء الصفة بحيث تصورها تصويراً حياً، ولكنهم إذا وصفوا حرباً انصرفوا عما فيها من المعاني العامة وردوها إلى النوع الأول فجزءوها أجزاء واعتبروها هيئة، فربما وصفوا منها الخيل وفرسانها وأدوات القتال وذكروا الصفة العامة للحرب، من النقع والدماء والطير التي تتبع القتلى ونحو ذلك مما ترد جملته إلى أجزاء مفردة بأعيانها، ولكنهم لا يصفون حالة المتقاتلين مما يبني على معاني النفس وتقام به فلسفة الإنسانية، لأن ذلك بعيد عن نظام اجتماعهم، ولو اقتضاه الاجتماع لاهتدوا إليه ؛ ولهذا السبب عينه لم يؤثر عنهم شيء في الأوصاف التاريخية التي يستمد منها الشعر القصصي، وقد ذكر شعراؤهم واقعة الفيل وسيل العرم وغيرهما ( انظر ج 7: الحيوان ) ولكنهم لم يحتالوا على أن يصفوا ذلك بمعانيه العامة في قصة أو شبه قصة، كما رأيتهم يحتالون على إبراز الصفات الطبيعية ويتكلفون لذلك نوعاً من القصص على ما سلف بيانه.وقد تجدهم يزحمون أجزاء الهيئة ويبالغون في استقصائها حتى تقصر الألفاظ عن بسط المعنى وتترك في التصوير مواضع للنظر والفكر، كقول الشماخ يصف أرضاً تسير النبالة فيها:

تقعقعُ الآباطِ منها وفاضها

خلتْ غيرَ آثارِ الأراجيلِ ترتمي

قال قدامة: فقد أتى هذا البيت بذكر الرجالة وبين أفعالها بقوله ( ترتمي )، ومن الحال في مقدار سيرها بوصفه تقعقع الوفاض، غذ كان في ذلك دليل على الهرولة أو نحوها من ضروب السير، ودل أيضاً على الموضع الذي حملت فيه الرجالة الوفاض، وهي أوعية السهام، حيث قال ( في الآباط ) فاستوعب أكثر ( هيآت ) النبالة وأتى من صفاتها بأولاها وأظهرها عليه، وحكاها حتى كأنه سامع قوله يراها ( ص41: نقد الشعر ) ولم يلتزم المولدون سنن العرب في الوصف بل قلبوه إلى التشبيه، وبيتهما فرق عند العرب، وهو أن الوصف إخبار عن حقيقة الشيء، والتشبيه مجاز وتمثيل، لأنه مبنى على أن يوقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، غذ لابد أن يكون بين المشبه والمشبه به اشتراك في معان تعمهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتهما، فهو يدخل في الوصف كما ترى وليس به في الحقيقة. ومن أجل ذلك بالغوا في أوصافهم وجاءوا بالتشبيه المفرط والبعيد، وكأن هذا شيء اقتضته حضارتهم المبنية على الترهف وتمويه الأشياء بالزخرفة، وقل منهم من يصف عن علم كأبي نواس في أوصافه للكلاب واستغراقه في سنها، لأنه كان عالماً راوية، وكان قد لعب بالكلاب زماناً وعرف منها ما لا تعرفه، الأعراب ؛ قال الجاحظ: وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه ؛ هذا مع جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة ؛ وإن تأملت شعره فضلته، إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبداً أشعر وأن المولدين لايقاربونهم في شيء، قال: فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لاتبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوباً ( ص10 ج 2: الحيوان ) وهذه الصفات هي التي تذكر في شعر الصيد والطرد ؛ ولانصراف المولدين عن حقائق الموصوفات كانوا يسمون الأوصاف الشعرية بما يجري مجرى العويص ( ص228 ج 3: اليتيمة ) وجعلوا لبعض التشبيهات ألفاظاً سموها بالألفاظ الملوكية ( زهر الآداب ص53: على هامش العقد الفريد ) وهي خاصة بوصف ما يكون عند الملوك من أدوات الترف والنعمة. أما مشاهير الوصافين في تاريخ الأدب جاهلية وإسلاماً فهم وإن كانوا يجيدون أكثر الأوصاف لكنهم اشتهروا بأنواع غلبت عليهم الإجادة فيها، فاشتهر من نعات الخيل امرؤ القيس وأبو دؤاد وطفيل الغنوي والنابغة الجعدي، ومن نعات الإبل طرفة وأوس بن حجر وكعب بن زهير والشماخ، وإن كان أكثر القدماء يجيدون وصفها لأنها مراكبهم ؛ وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس لها، ولذلك سمي راعياً ؛ وأما الحمر الوحشية والقسي والنبل فأوصف الناس لها الشماخ، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئاً من شعره في الحمر فقال: ما أوصفه لها إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً. .وأما الخمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس، واشتهر أبو نواس وابن المعتز أيضاً بصفة الصيد والطرد، ولا يذكر مع امرئ القيس في منزلته من اخترع التشبيه إلا ابن المعتز، وكان ذو الرمة أوصف الناس لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، وهو رئيس المشبهين الإسلاميين، وكان يقول: إذا قلت كأن. .ولم أجد مخلصاً منها فقطع الله لساني ! وقد اشتهر بوصف الطبيعة الوحشية أيضاً عبيد بن أيوب العنبري، وكان نافراً من الإنس جوالاً في مجهول الأرض، فاستغرق ذلك شعره ( ص50 ج 6: الحيوان ) ومن الوصافين المتفننين في الأوصاف علي بن اسحاق المعروف بالراجحي المتوفي سنة 352، وأبو طالب المأموني المتوفي سنة 383، وله أشياء كثيرة فيما يجري مجرى العويص، واشتهر كشاجم بآلات المنادمة، والصنوبري بالروضيات، وابن خفاجة الأندلسي بأوصاف الطبيعة الحضرية وابن حمديس الصقلي بأوصاف البرك والمياه والأنهار، وسنذكر كلمة عن أوصاف الأندلسيين متى وصلنا إلى تاريخ الأدب الأندلسي إن شاء الله. والوصف باب من الشعر قلما تجد شاعراً لا يحسن منه شيئاً أو أشياء، ولكت هؤلاء الذين عددناهم قد ذهب لهم بالأوصاف التي غلبت عليهم الإجادة فيها صيت بعيد وذكر، ولم يكن مثل ذلك لمن جاءوا بعدهم وإن أحسنوا في أشياء كثيرة، إما لأن الإجادة لم تغلب عليهم من نوع دون آخر، وإما للإهمال الأدباء والمؤرخين أن يعينوا لهم مثل تلك الأوصاف.والله أعلم.

الشعر الحكمي

إذا استصفينا المأثور من شعر العرب ومن بعدهم، وميزنا كل نوع منه بغرضه الذي يجمع جملته كما فعلنا في هذه الأبواب التي نكتب فيها، خرج لنا من ذلك هذا النوع الذي نسميه الشعر الحكمي، وهو المقصور على الدين والفلسفة وما يرمي إلى هذه الناحية، ونحن وإن لم نكن نراه شعراً خالصاً ولكن نراه مذهباً من مذاهب الشعر، ولذلك خصصناه بالتاريخ. كانت حكمة العرب راجعة إلى وثاقة الحلوم وشدة العقول وفضل المنزلة في تجارب الأيام، فهي حكمة ر تجري على مذهب ولا تدور على نحلة ولا يبلغ بها الزمن مبلغ أحد هذين النوعين بالقياس والاستنباط، كما يكون ذلك في القضايا العلمية وعلى النحو الذي أخذت إليه شرائع الرومان وفلسفة اليونان مثلاً، وإنما كان أساس تلك الحكمة رسوخ الأخلاق فيهم بحكم العادة ونظر كل امرئ لنفسه بحكم الطبيعة، وذلك كان محور دينهم الطبيعي. لا جرم أنهم صرفوا حكمتهم في الشعر إلى ما يتعلق بالأخلاق والسياسة ولم يبالوا بتقرير مذهب من مذاهب أديانهم ولا أقاموا لظواهر هذه الأديان في شعرهم وزناً، وقد صرفهم عن ذلك أنهم لم يدرسوا شيئاً من كتب الديان، وانهم كانوا يحتقرون هذه الحمراء من الفرس والنبط والروم وغيرهم، وقد كانت النصرانية واليهودية في بعض قبائلهم، فكانت اليهودية في بني كنانة وبني الحارث، وكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة ويني وأهل نجران، غير من كانوا في الحيرة ممن يطلقون عليهم اسم العباد، ومنهم بن عدي بن زيد العبادي ( انظر الحيوان ص66 ج 7 ) ففيه أسماء القبائل المحلين ومن كانوا على غير دين مشركي العرب. وقال الجاحظ في نحو هذا. .والمحلون من العرب ممن كان لا يرى للحرم ولا للشهر الحرام حرمة. .الخ. وخرج من أهل الملتين شعراء معروفون مع ذلك تؤثر لهم أشعار دينية على نحو ما تجد في الشعر العبراني مثلاً، إلا أن يكون لذلك سبب تستدعيه طبيعة الشاعر فيغلب ما تجد في الشعر البعراني مثلاً، إلا أن يكون لذلك سبب تستدعيه طبيعة الشاعر فيغلب على الأسباب الأخرى، والطبيعة دائماً تقوى أسبابها وتضعف على هذا التقدير، ولم نعثر بعد جهد التفتيش وطول التنقيب إلا على اثنين من الشعراء اشتهر بهذا النوع الديني من الشعر. .وهما عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبى الصلت، أما عدي فكان يسكن الحيرة ويجاوز الريف، وشعره لإحكام أمثاله مثل في الحكم، ومن مشهوره أبياته في الاعتبار بذهاب القرون وهلاك الملوك، ومطلعه:

أيُّها الشَّاعرُ المعيَّرُ بالدَّه

رِ أأنتَ المبرَّأُ الموفورُ ؟

قال الجاحظ في عدي ( ص65 ج 4: الحيوان ) وكان نصرانياً دياناً وترجماناً وصاحب كتب، وكان من دهاة أهل ذلك الدهر. .ثم أورد شعراً له يذكر فيه شأن آدم ومعصيته وكيف أغواه إبليس وكيف دخل في الحية وان الحية كانت في صورة جمل فمسحها الله عقوبة لها حين طاوعت عدوه على وليه، ومطلع هذا الشعر:

قضى لستَّةِ أيَّام خليقتهُ

وكانَ آخرها أنْ صوَّر الرَّجلاَ

دعاهُ آدمُ صوتاً فاستجابَ لهُ

بنفخةِ الرُّوحِ في الجسمِ الذي جبلا

وهذا هو المذهب الذي قلنا إننا لم نعرف به في شعراء العرب غير اثنين، عدي هذا أحدهما. وأما أمية بن أبي الصلت فقد كان أعرابياً مدرياً، قال الجاحظ: وكان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بأدعاء النبوة وهو يعلم كيف الخصال التي يكون بها الرجل نبياً أو متنبياً إذا اجتمعت له، نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة ومعروفاً بالجولان في البلاد ورواية ( ص117 ج 2: الحيوان ). قال ابن قتيبة: وكان أمية يخبر أن نبياً يخرج قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به حسداً له، ولما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره قال: آمن لسانه وكفر قلبه ( ص107: طبقات )، وله من الشعر الديني شيء كثير، يقص فيه أحوال الثواب والعقاب وخرافات الأمم ونحو ذلك، وبعضه مكور في المجموعة المسماة شعراء النصرانية. وممن يذهب هذا المذهب من العرب غير هذين الاثنين وإن كان ليس مذكوراً بالشعر ولا يتعلق بهما فيه، ورقة بن نوفل، وكان يتناشد مع زيد بن عمرو بن نفيل أشعاراً في التوحيد وعبادة الله، ومنهم قس بن ساعدة الإيادي الحكيم الخطيب، وكان مذهبه الوعظ والاعتبار، ولم يكن يقص كأمية وعدي، لنه صرف ذلك إلى الخطابة، وهو بها أعرف وأشهر. ذلك شأن الجاهلية، أما الإسلام فقد مضى الصدر الأول منه والشعراء على سنة العرب، وإنما تتفق لبعضهم الأبيات مما يذكر فيه أمر الآخرة أو تحقيق معنى من معاني الحكمة الأخلاقية ونحو ذلك، حتى نشأت الخلافات الأموية بين علي ومعاوية، وكان شاعر الشام يومئذ كعب بن جعيل، وشاعر العراق النجاشي أحد بني الحارث بن كعب ( ص194 ج 1: الكامل )، فاستنجد كل منهما بشاعر مصره ودفعاهما إلى التشيع، وكان هذا فيما نعلم أول ما تشيع الشعراء في الإسلام، ثم استبحرت هذه الافتن في الأعقاب واستحرت المفاخرات، فكان من المتشيعين لآل علي الفرزدق وكثير والكميت، فكانوا ينظمون في تفضيلهم ومدحهم وأنهم أحق بالأمر الذي خرج من أيديهم، وكان الكميت شيعياً من الغالية، وكان صاحبه الطرماح خارجياً من الصفرية لأهل الشام، ومع ذلك كانت بينهما من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين ( ج 1: البيان ) ثم فشت المقالات وتفرقت الفرق وشاعت المذاهب، فدخل أكثر الشعراء والرواة في غمار أهلها، وسنذكر في بحث الرواية شيئاً عن الرواة ولكنا نقول هنا إنهم جعلوا يستخرجون من بعض شعر الجاهلية مذاهب كالتي ينتحلونها، فكان أبو عمرو بن العلاء يقول: كان لبيد مجبراً، وكان الأعشى عدلياً، وأنشد لبيد:

من هداه سبلَ الخيرِ اهتدى

ناعمَ البالِ ومنْ شاءَ أضلْ

وأنشد للأعشى ( ص292: سرح العيون ):

استأثرَ الله بالوفاءِ وبالعدْ

لِ وولَّى الملامةَ الرَّجلاَ

أما الشعراء فكان غيلان ذو الرمة على ما يقال أول من تكلم في القدر وخلق القرآن في الإسلام، وقيل: أول مكن تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، واخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي ( ص201: سرح العيون )، وكان رؤبة الراجز من أهل الجبر، وقد تحاكم في ذلك مع غيلان إلى بلال بن أبى بردة صاحب القضاء، وكان السيد الحميري من المفرطين في التشيع، وهو يقول برأي الإمامية، وكان أبو المحدثين بشار بن برد، على جلالته في الشعر، يسخف شعره بالاعتذار عن إبليس في أن النار خير من الأرض، ونحو ذلك من آراه الزنادقة ( ج 1: البيان )، وكذلك كان سليمان الأعمى أخو مسلم بن الوليد، ثم كان بشار ينكر على حماد عجرد وحماد الراوية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي وسائر إخوانهم في الرأي، وكانوا يتواصلون كأنهم نفس واحدة ( ص143: الحيوان )، وذكر الجاحظ في البيان: أنه كان لابن عقب الليثي ( انظر الأغاني ص169 ج 1 وتصحيح اسم ابن أبي العقب وأنه مجهول لا يعرف.الخ ) مذهب شعري في الملاحم والمغيبات، وان أبا نواس والرقاشي كانا يقولان أشعاراً على مذاهب أشعار ابن عقب هذا وينحلانها أبا ياسين الحاسب الذي ذهب عقله بسبب تفكيره في مسألة، فلما جن كان يهذي أنه سيصير ملكاً، وقد ألهم ما يحدث في الدنيا من الملاحم، وقد روى في البيان ( ص7 ج 2 ) قطعة من تلك الأشعار. وكان أبو الاعتاهية يتشيع على مذهب الزيدية، وكان مجبراً، وكان كثيراً ما يعارض ثمامة بن أشرس بين يدي المأمون، ومن شعراء النحل زرارة بن أيمن مولى بني أسعد بن همام، وهو رأس النميمة ( ص39 ج 7: الحيوان ) وأبو السري معدان العمى الشميطي، وله قصيدة صنف فيها الرافضة ثم الغالية وشرح مذاهبهم وذكر رؤساءهم ( ص98 ج 2: الحيوان )، ومنهم أبو سهيل بشر بن المعتمر، وكان خاصاً بالفضل بن يحيى من البرامكة، فإنه له قصيدتين ذكر فيهما آيات الله في صنعه وخلقه، ودل على مواضع الحكمة ومغزى الاعتبار، وصنف في الأولى منهما الرافضة والإباضية والنابتة، وقد رواهما الجاحظ في الحيوان ( ج 6 ) وشرح منهما ما يختص بالحكمة دون النحلة، وكان بشر أروى المعتزلة للشعر، ولكن كل أولئك ومن حذا حذوهم لم يتخذوا الفلسفة والنحلة إلا مذهباً، وغنما كان شعرهم لسان اعتقادهم فيها ولهذا كان خيراً لهم لو كانوا على غير ذلك، بخلاف الفلاسفة من شعراء الأندلس، وسنذكرهم في موضع الكلام عليهم، وبخلاف من استعان بالحكمة اليونانية والفارسية في الشعر، كأبي العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، وكالمتنبي والمعري وأبي علي بن الشبل الحكيم البغدادي المتوفى سنة 473، وغيرهم، فإنهم إنما وصلوا بالحكمة بين العقل والقلب، وجعلوا لها من الشعر منفذاً بينهما إلى الروح، ولذلك قال بعضهم: لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكاناً تشرف منه على الكون لما اختارت فير بيت من الشعر. وكان صالح بن عبد القدوس، من الشعراء الفلاسفة، وجميع شعره في الحكمة والأمثال، ولذلك عابه عليه وقال إنه لو تفرق في أشعار كثيرة لزانها، وكان مذهبه مذهب السوفسطائية الذين يزعمون أن الأشياء لا حقيقية لها، وأن حال اليقظان كحال النائم، وله كتاب سماه كتاب ( الشكوك ) قال فيه: كتاب وضعته من قراه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن انه قد كان !^

الشعر الإلهي

وهو النوع الذي يكون إلهياً محصاً تستخدم فيه المادة الشعرية للرمز عن الحقائق كأشعار الصوفية ومن أخذ إخذهم، والعلماء يسمون طريقة ذلك النظم ( طريقة التحقيق ) ويقول المتصوفة فيه:

جسومُ أحرفهِ للسَّرَّ عاملةٌ

إن شئتَ تعرفهُ جربْ معانيهِ

وقد كان بعض العلماء ينكر هذه الشطحات وهو يعتقد بها، صيانة لظاهر الشرع، إلا أن الأدب لا ظاهر له دون حقيقة، فيمكن أن نقول أن هذا الشعر نوع من العلم موزون، وقد سميناه علماً لنه لا بد أن يكون مؤولاً لا يقصد ظاهره وإنما تكون له محامل يحمل عليها، كقول الشيخ محيي بن العربي ( كان المغاربة يقولون: ابن العربي واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام، فرقاً بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي ص440 ج 1: نفح الطيب ):

يا منْ يراني ولا أراهُ

كمْ ذا أراهُ ولا يراني

فلو أدرت القول في هذا سنة ما عرفت وجه تأويله، ولكن بعض إخوان الشيخ سأله: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك ؟ فقال مرتجلاً:

يا منْ يراهُ مجرما

ولا أراهُ آخذا

كم ذا أراهُ منعما

ولا يراني لائذا !

( ص401 ج 1: نفح الطيب ). وكان أصل هذا النوع من الشعر في الأندلس في أواخر القرن الثاني أيام الحكم بن هشام الملقب بالريضي، فإنه كان طاغياً مسرفاً له آثار سوء قبيحة، وقد كان من قبله أهل تقوى ودين، وكان أهل الأندلس يومئذ كأنهم من بلادهم في مسجد، فأوقع الحكم هذا بالفقهاء لنهم كانوا أشد الناس عليه، ولذلك أحدثوا في أيامه إنشاد أشعار الزهد بديا حتى شاعت وألفها الناس، ثم خلطوا على ذلك شيئاً من التعريض بالحكم على جهة الرمز والإشارة، ثقة بفهم الناس عنهم، ( ص13: المعجب ) فلما طويت أيامه ولم تبق حاجة إلى التعريض بشخص معين، أطلقوا تلك الرموز وقصروها على الحقائق، حتى ظهرت الفلسفة الإلهية واستعمل تهلها في كتبهم الرموز والاصطلاحات، فأتسع الصوفية بذلك في شعرهم، خصوصاً بعد أن تلفوا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 قال الفيلسوف أبو جعفر ابن طفيل في صفة تعاليمه وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع به إلا من وقف عليها بصيرة نفسه أولاً، ثم سمعها منه ثانياً، أو من كان معداً لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة، وقد ذكر في كتاب الجواهر أنم له كتباً مضنوناً بها على غير أهلها، وانه ضمنها الحق ( ص6: حي بن يقظان ) يريد كتبه المشتملة على علم المكاشفة، ولم نعرف قبل هذا الزمن شاعراً ممن شعراء الإلهيات الذين ينظمون على ( طريقة التحقيق ) وغن كان للمعري المتوفى سنة 449 شيء من ذلك، ولكنه مكشوف ليس فيه من أسرار المكاشفة شيء، وإنما كان المعري حكيماً متفلسفاً ولم يكن إلهياً محققاً وإن كان على قدم التجرد في طريقة الفقراء، وكان قبل المعري الحسين بن منصور الحلاج الذي أحرق سنة 322، وينسبون له أبياتاً قلية على طريق الاصطلاح والإشارة وغن كان ليس من الشعراء، كقوله:

لا كنتُ إن كنتُ أدري كيف كنتُ ولا

لا كنتُ إن كنتُ أدري كيف لم أكنِ

والبيت المشهور:

ألقاهُ في اليمَّ مكتوفاً وقال له

إيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ !

ولسنا نصحح مثل هذه النسبة، فإن هذا رجل اشتهرت حاله فسهل الحمل عليه، وكان أشعر شعراء القرن السادس في هذه الطريقة وما ناسبها محمد بن عبد المنعم الغساني الجلياني ( جليانة: قرية من أعمال غرناطة ) المتوفى بدمشق سنة 603، وكان يقال له: حكيم الزمان، واكثر شعره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات والكلام على طريق القوم، ( ص16 ج 2: نفح الطيب ) وفي القرن السابع نشأ أكبر شعراء الصوفية الذين تركوا لغيرهم هذا الميراث، وهم الشيخ ابن الفارض المتوفى سنة 632 والشيخ ابن العربي المتوفى سنة 640، وأبو الحسن التستري المتوفى سنة 668 ( ص410 ج 1: نفح الطيب ) وابن سبعين المتوفى سنة 669، ولم ينشأ بعد هؤلاء من يساويهم أو يذكر معهم في طريقة التحقيق، على أن أشهر المتأخرين بعدهم الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143. ولم يكن نظمهم مقصوراً على الشعر وحده، بل كانوا ينظمون في الموشح والزجل أيضاً، ولكن منهم قليل، لنهم إنما يريدون بالشعر المدارسة والحفظ، وأنة يكون من أشعار المذاكرة عندهم وأبيات الطرائف.

الشعر الأخلاقي والمبادئ الاجتماعية

قد عرفت ما نريده من الفرق بين الشعر الحكمي والأخلاقي، فهذا الأخير هو ديوان التجارب، وغن في كتاب القلب صفحتين: واحدة يحفظها التاريخ وينساها الاجتماع، وهي التي تخط عليها تفاصيل الحوادث، والأخرى يحفظها الاجتماع وينساها التاريخ، منها النفس معاني الشعر الأخلاقي دائماً، ولذلك تجد هذا النوع من الشعر كثيراً عند العرب يصورون فيه أخلاقهم تصويراً طبيعياً لم تخلق فيه صنعة الكلام شيئاً، ويذكرون حكمتهم المستفادة من التجارب، ويدونون نصائحهم التي هي صفوة تلك الحكمة، وذلك هو الذي سماه أبو تمام في حماسته ( باب الأدب ). نرى العرب لصفاء فطرتهم وحدة أذهانهم وقوة طباعهم كأنما ينظمون في شعرهم الأخلاقي قضايا الفلسفة التي ذهب في تحقيقها شطر كبير من عمر الاجتماع الإنساني، حتى لا تكاد مبدأ من المبادئ الاجتماعية التي قررتها الفلسفة الحديثة إلا ولمثله ذكر في شعر هؤلاء الأعراب، وتأويل ذلك أن هذا الاجتماع الحديث مصنوع لا طبيعي، والفلسفة إنما هي حقائق الطبيعة، فهي تدعو لها أبداً، ولكون الناس مجتمعين على صورة يجهلون حقيقة ألوانها وأصباغها اختلفوا في الدلالة على ذلك أختلافاً بيناً نشأت منه هذه المذاهب الكثيرة التي ترمي بجملتها إلى غرض واحد، وهو تلوين الصورة الاجتماعية بألوانها التي تصلح لها في الحقيقة حتى تظهر من دقة التناسب وإحكام الملاءمة وسلامة الوضع في صبغ كأنه إلهي، فالعرب لما كانوا من صميم البداوة وفي إقليم كأنه بموافقته لنمو العقل أقرب إلى السماء من سواه، كانوا يذكرون الصفات الأخلاقية للفرد والمجتمع فلا يعدون حقيقة الصفة، ولو أخذت تلك الصفات اليوم لخرجت عن موضوعها إلى أن تكون في اعتبارنا مبادئ، لأنها قيلت في حالة طبيعية فكانت صفة تحق، ولما استدار الزمان صارت حقاً يوصف، خذ مثلاً قول زهير:

على مكثريهمْ حقُّ يعتريهمُ

وعندَ المقلينَ السماحةُ والبذلُ

فمهما أدرت مذهب الاشتراكية، ومهما قلبت آراء علمائه، لا تجد صوابه يخرج عن هذا البيت، فلو راعى المكثرون حق من يعتريهم ممن يعلمون عندهم ومن هم مادة قوتهم، والحق كلمة جامعة لكل ما يوافق حقيقة المرء، وكذلك لو صار المقلون من أهل السماحة والبذل يتجاوزن عما لا يضر بالحق ولا يريدون من هذا الحق إلا أن يبذلوه في إصلاح أحوالهم حتى لا يأخذهم طمع الادخار بوهم المزاحمة للمكثرين لو راعوا ذلك حق مراعاته لبقى أهل المال مهنئين بأموالهم، والمقلون مغتبطين بإقلالهم، والاشتراكية إنما هي الموصل الذي يشرك هذين الطرفين في الامتزاج بالرضى، ولعل أديباً أن يستقرئ هذه المعاني في الشعر العربي ويشرحها بالمبادئ الحديثة، فإنه لا يعدم من ذلك كتاباً حكيماً. وكان الشعراء من العرب أثبت الناس على أخلاقهم التي يصفونها، ولذلك دلت عليهم دلالة المطابقة، بخلاف الإسلامين فإنهم مارسوا صفة الأخلاق ومرنوا عليها، حتى تجد للشاعر منهم في الباب الواحد أقوالاً متناقضة، وهم مع ذلك لا يدرسون تلك الأخلاق، بل يتلقون من تجارب غيرهم، ومن الحكمة التي وضحت لهم، ثم يرسلون الشعر في ذلك على انه صنعة دقيقة يستدل بها على لطف الحس وذكاء الفؤاد، ثم لا يعجب من ذلك إلا من يصيب بفطنته موضع الدقة ويقع على مكمن الخاطر، ولذلك لم يكن للشعر الأخلاقي تأثير في الاجتماع الإسلامي، ولم تستمد منه مبادئ ذلك الاجتماع شيئاً، لأنهم لم يداوروا به السياسة، ولا أرادوا به مكامن الاعتقاد، ولا أجروه مجرى النظر في طبقة من الطبقات، وإذا أخرج الكلام على أنه صنعة، نظر فيه الناس على أنهم متفرجون ( يقال تفرج بكذا إذا جعل منه لنفسه لهوا ). أما من خالف ذلك من الشعراء بعض المخالفة، وحاول أن يجعل كلامه في الأخلاق للناس لا لنفسه، وان يقرر فيه مبادئ قد دسها، ويعطيه من مادة التأثير الاجتماعي، كالمعري في بعض ديوانه ( اللزوميات ) فإنه يطرح ويجفى، لأنه لا يؤتى من قبل الناس وفسولة آرائهم، بل من قبل نفسه أيضاً، لأن أحداً من الشعراء في التاريخ الإسلامي كله لم يترك أن يتخذ الشعر صفة تأدباً أو تكسباً، ولم يقف أحد منهم شعره أو جزءاً منه على مذهب واحد في السياسة أو الاجتماع يتفنن في شرحة والاحتجاج له والاحتيال في تصوير معانيه وإيراد أجزائها على نحو ما يقتضى ( لعصره )، بل تراهم يخرجون أشعارهم مخرج الخواطر والسانحات، وهمهم أن يجمعوا فيها أبواباً من الحكمة وفنوناً من الأخلاق، ثم يتركوا للناس شان الاختيار، وإطلاق الاختيار وحده كاف في إضعاف كل مذهب، لأن من توخى الإقناع توخى به الحمل عليه. وذلك هو شعر المواعظ والنصائح والحكم، وهو كثير وقد اشتهر به أفراد، كصالح بن عبد القدوس، وأبي الشيص وغيرهما، وتهافت به بعض العلماء حتى وضعوا فيه الكتب المستقلة، كسعد بن ليون التجيبي في القرن الثامن، وهو من أشياخ لسان الدين بن الخطيب، فقد نظم في ذلك ثلاثة كتب وأورد في بعضها أشياء لغيره، وقد ساق منها المقري، في نفح الطيب قطعة كبيرة ( ص302 ج 3 ). وعندنا أن شعراء الجاهلية لو قدر لهم أن يسخروا الشعر في السياسة والاجتماع، الراقي ( الديمقراطية ) لقلدهم الإسلاميون في ذلك ولبلغوا بهذا النوع مبلغ الكمال، ولكن من أين للعرب سياسة الملك ونظام الاجتماع ؟ على انهم مع ذلك لم يهملوا نوعاً من الشعر السياسي، وإن كان بينهم لقلة البواعث عليه، كقصيدة لقيط بن يعمر الإيادي التي يندر بها قومه غزو كسرى إياهم، وكان كاتباً في ديوانه، ويعلمهم وجه الحزم في تدبير أمرهم وسياسة مجتمعهم واختيار من يلقون إليه المقادة في ذلك، وهي شهيرة متدارسة، كأبيات سلمة بن خرشب التي أرسل بها غلى سبيع التغلبي في شان الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس وذبيان، يذكر فيها لسبيع سياسة القضاء وتدبير الحكم، وقد رواها الجاحظ في البيان ( ح 1 ) ولا بد أن يكون لهم من مثل ذلك أشياء لم تقع إلينا، والله أعلم.

الشعر الهزلي

وهذا النوع آخر ما تبلغ إليه رقة الحضارة من فنون الأدب، لأنه إنما يتخصص به أناس لا يبالون أن يغمرهم سواد الحمقى وأهل المجون، وهم يعلمون انهم شعراء العامة، وانهم لا يلجون إلى الخاصة إلا من باب الطبع المنسجم ومن جهة الذهن المتفكه، وغنما قوام أمرهم الحيلة الطريفة والنادرة المعجبة والكلمة المتهالكة، وهذا كله وإن كان محتاجاً إلى ظرف اللسان، وإلى شدة المعارضة، وإلى نبوغ متميز في القريحة، إلا انه لا يقوم عليه شيء من أمر اللغة، فإذا كان فيها لم يزدها، وإذا سقط منها لم ينقصها، ولذلك ترى هذا النوع اكثر ما يكون في الأمم التي هرمت لغتها، كاللاتين واليونان، ومن أشهر نوابغ اليونان فيه: الشاعر تراس، والشاعر مياندر الذي يقال إنه ألف ثمانمائة رواية كلها قصائد مضحكة، وكان قبل الميلاد بثلاثة قرون، وقد عثروا من زمن قريب في إحدى القرى المغمورة في ضفة النيل على أربع قطع له كانت ضحكاً مدفوعاً في الأرض من 2200 سنة. . لا جرم أنه لم يكن للعرب شعر هزلي في جاهليتهم، ولكنهم مع ذلك لم يدعوا التنادر، إذ هو شيء في أصل الفطرة وفي مذاهب المعاني، فجاءوا لذلك في شعرهم بنوع من التهكم يستخف الوقور ويرمي إلى الغاية من سياسة الهزل، فيبقى حسرة ولا يذهب ضحكاً، كقول بعضهم:

إذا ما تميميَّ أتاكَ مفاخراً

فقل: عدَّ عن ذا، كيف أكلك للضَّبِ

وقول المكعبر الضبي في بني العنبر، وكان قومه أغير عليهم فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم ( ص49 ج 1: الكامل ):

وإنَّي لأرجوكم على بطء سعيكم

كما في بطون الحاملاتِ رجاءُ !

يتهكم بهم ويقول: هذا رجاء غير صادق ولا موقوف عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منه. وأكثر ما يكون ذلك عندهم في معاني الهجاء، ولهذا سماه المتأخرون التهكم، والهزل الذي يراد به الجد، وقالوا في الفرق بينهما إن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، وهو ضد الثاني، لأن ظاهره يكون هزلاً وباطنه جد، وقد ورد منه في القرآن قوله تعالى: ( يوجد آية ) وقوله: ( يوجد آية ). وقد مر عصر الجاهلية والإسلاميين لا يعدو بهما الشعراء ذلك هزلاً، حتى إذا استبحر الترف وفسدت مرة الاجتماع، وتهالكت طبيعته، جعل الشعراء يتظرفون ويتنادرون ويفتنون في أساليب الهزل، لأن ذلك كان سبباً من أسباب معاشهم، إذ رأوا الخلفاء والأمراء قد اتخذوا لأنفسهم مقربين ممن يضحكونهم بالنوادر والمجون، شعراء وغير شعراء، كأشعب الطماع، وأبي دلامة الشاعر، وأبي الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع المتوفى سنة 250، وأبي العبر، وأبي العيناء، ومزيد وغيرهم، ومن هؤلاء نوه يحكون ألفاظ الناس من الأقطار المختلفة مع مخارج حروفهم، لا يغادرون من ذلك شيئاً، ويحكون ألسنة الدواب والبهائم، وذكر الجاحظ من مشاهيرهم أبا ربوية الزنجي مولى آل زياد، وقال: إنه يقف بباب الكرخ لحضرة المكارين فنهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق. .( ج 1: البيان ). وليس ذلك عجباً في مثل طبقة أبي ربوبة، ولكن العجيب أن يكون مثله في الشعراء الظرفاء، فقد ذكر الثعالبي في ترجمة أبي محمد بن زريق الكوفي الكاتب الشاعر انه كان من عجائب الدنيا في المطابية والمحاكاة، وكان يخدم مجلس الوزير المهلبي، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والسامع ويضحك الثكلان ( ص142 ج 2: يتيمة الدهر )، وهذا نوع من التمثيل أنفرد به اليوم في أوربا قوم ربما صور الواحد منهم في نفسه العالم مناطق ولهجات وأزياء. وقد يكون من البواعث على الشعر الهزلي والتزام هذا المذهب أن يجد الشاعر نفسه لا يقع مع فحول المعاصرين له في شيء، فيسلك هذا المسلك يتميز به بينهم، كما فعل رأس الشعراء الهزليين ابن الحجاج البغدادي المتوفى سنة 391، وهو الذي جعلوه بعد ذلك مقياساً في الشعر الهزلي، ويقال إنه في الشعر كأمرئ القيس ولم يكن بينهما مثلهما، لأن كل واحد منهما مخترع طريقة، وكان مع ذلك من كبار شعراء الشيعة، وعاصره أبو حامد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق المتوفى سنة 399، قال الثعالبي: هو بالشام كابن حجاج بالعرق، وكما فعل أبو عبد الله محمد الوهراني الكاتب، وقد دخل البلاد المصرية في زمن صلاح الدين فرأى بها القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصبهاني، وتلك الحلبة، وعلم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، فتنفق عندهم برسائله الهزلية ومقاماته المشهورة، وسنذكرها في موضعها، وتوفى الوهراني سنة 575. ويكون من ذلك أيضاً التزام الشاعر مذهباً واحداً في الهجاء يريد أن يعرف به ويجعله عرضة ملحه ونوادره، كما فعل ابن سكرة الهاشمي، معاصر ابن الحجاج وكان يقال فيهما: إن زماناً جاد سكره وابن الحجاج لسخي جداً، وهو من شعراء المجون والسخف كابن الحجاج، إلا انه انفرد عنه بهجائه الهزلي في قينة له شعراء يقال لها خمرة، وقد نظم في هجائها عشرة آلاف بيت ( ص189 ج 2: يتيمة الدهر )، وكما فعل إسماعيل بن إبراهيم البصري الحمدوني الشاعر الطيلسان الذي أعطاه إياه أحمد بن حرب، وكان خليعاً، فسير فيه الحمدوني مائتي مقطوع، في كل مقطوع معنى بديع، حتى ذهب طيلسان ابن حرب مثلاً إلى اليوم، وكان الأصل الذي عمل عليه الحمدوني أنه وقف على أبيات عملها أبو حمران السلمي في طيلسانه، وكان قد أخلق حتى بلي، فتهافت بمعارضتها وجعل ذلك له طريقة يعرف بها ( ص373 ج 2: ابن خلكان ). ومن ذلك أيضاً أن يهزل الشاعر في تصوير حالة من الفقر أو الضعف أو نحو ذلك من الصفات التي يتباين فيها الناس، فكأنه يرمي إلى انتقاد الحظوظ والأقسام، كما فعل أبو الشمقمق في ذكر فقره بيته من الفئران سنوره من ذلك وساق الجاحظ بعض أشعاره تلك في الحيوان ( ص82 ج 5 ). وكان عند الأعراب كثير من هذا النوع، وكذلك ترى منه قصائد وقطعاً في شعر المولدين والمتأخرين، وبعضهم خص أكثر شعره بالفحش والتعهر حتى ضربوه مثلاً فنحن نضرب عنه صفحاً. وجاء بعد هؤلاء علي بن عبد الواحد صريع الدلاء وقتيل الغواني المتوفى سنة 412، فسلك مسلك أبي الرقعمق، ونبز بلقب ذي الرقاعتين، وله مقصورة في الهزل يعارض بها مقصورة ابن دريد المشهورة، وابن الهبارية الملقب بنظام الدين البغدادي المتوفى سنة 540 قال العماد الكاتب في الخريدة: إنه غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك في قالب ابن حجاج وسلك أسلوبه وفاقه في الخلاعة، قال: والتنظيف من شعره. .في غاية الحسن، ثم كان بعده الشاعر المتصرف في أكثر فنون الهزل أبو الحكم الباهلي الأندلسي المتوفى بدمشق سنة 549، قال المقري: ( وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة، وله ديوان شعر سماه ( نهج الوضاعة لأولي الخلاعة )، ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري، ونصر الهيثمي وغيرهما. .ورثى فيه أنواعاً من الدواب ومن الأثاث وخلقاً من المغنين والأطراف، قال: وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبى الحكم الملقب بأفضل الدولة ( ص17 ج 2: نفح الطيب ) فانظر ما عسى أن يكون هذا الشرح ؟ لأبي الحكم هذا مقصورة هزلية عارض بها مقصورة ابن دريد أيضاً، ومثل هذه المعارضة كثيرة للقصائد المعروفة يتعلق عليها أهل الظرف والملح، وقد رأيت شاعراً م شعراء الحلبة التي سبقت وقتنا هذا وغاب عني اسمه، تناول ألفية ابن مالك فقلبها كلها تطفلاً ونقل ما فيها من أحكام اللسان على الأضراس والأسنان، وكان يفتخر دائماً بهذا الطبخ. .!وأورد المقري أيضاً قصيدة من هزل الأندلسيين ومجونهم قال إنها منسوبة لأبي عبده الله بن الأزرق وقد ذكر فيها صوت الصفع وصوت الضحك، كما هو، على نحو ما صورت العرب أصوات الأشياء كقولهم: ( جرت الخيل فقالت حبطقطق ) ونحو ذلك، والقصيدة متشعبه الفنون ( ص193 ج 2: نفح الطيب ). ثم نبغ محمد بن دانيال الموصلي الحكيم المتوفى بمصر سنة 608 قال فيه الصفدي: هو ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره، وله غرائب يتناقلها المصريون عنه من النكت والنوادر، وتقي الدين بن العربي المتوفى سنة 684 وهو صاحب القصيدة الدبدبية الشهيرة التي جمعت فنوناً من الهزل، وقد ذكرها العاملي في الكشكول. وبالجملة فقلما تجد شاعراً قد نضجت قريحته ونفذ خاطره في أسرار الأشياء إلا وله في مطارح نظره شيء من الضحك يخرج تهكماً واستهزاء، فكأنما تكشف له الطبيعة عن حقيقة تركيبها على ما خلقها الله، فكلما قارن بها هذا الوضع الاجتماعي المصنوع رأى تركيباً مضحكاً، ولولا ذلك لمحقت مادة الانتقاد، والانتقاد قوة إلهية في قريحة الشعراء، فإذا أردنا بهزل القرائح على نقص تركيبه في نظر الحكيم المتأمل، كائناً من الكائنات المضحكة أيضاً. أما إذا أردنا المعنى العام وهو التطرف في الانتقاد بمقدار ما يتطرف المبتسم إلى القهقهة أو المجون والسخف أو العمل في صناعة الضحك وتركيبه في النوادر والملح حتى تكون قابلة للانفجار ضحكاً. .فذلك الذي جئنا بمساقه، وهو عند العرب كما علمت كثير في جهتي المجون والانتقاد، قليل في جهة المطايبة والإضحاك، لاستغنائهم عنه بالنوادر، ولمخالفته فطرة الشعر فيهم. ^

الشعر القصصي

المراد بهذا النوع ما يسميه الإفرنج epic، وهو عندهم ما تروى فيه الوقائع والحوادث على طريقة الشعر، مما لا يخلو من الغلو والإطراء، حتى يتميز عن التاريخ البحت، والنظم فيه قديم في الأمم التي اغتدى خيالها بالدين والعادات كالمهابهارتا عند الهنود، والوديسا عند اليونان، والإنياذا عند الرومان، وكذلك نظمت فيه شعراء الأمم المتأخرة كالفرنسيين والألمان والطليان والإنكليز، وعندهم في ذلك الملاحم المأثورة ( ذكرت هذه اللفظة في باب الشعر الحكمي، وقد استعملها الجاحظ في الحوادث والوقائع التي يتضمنها الشعر، ثم نقلها أدباء المغاربة لما يقارب في المنظوم العامي معنى الشعر القصصي ). وللفرس والترك في تاريخهم الإسلامي منظومات من هذا النوع، أشهرها شاهنامة الفردوسي، وشاهنامة الشاعر الترمكي الملقب بالفردوسي الطويل، قال في كشف الظنون: إنه نظمها في مليون وستمائة ألف بيت، وكتبها في 330 مجلداً، فلما عرضت على السلطان بايزيد العثماني أمر بانتخاب ثمانين مجلداً وإحراق الباقي، فترك المؤلف بلاد الروم وذهب إلى خرسان فمات فيها كمداً. وفي كل ذلك شرح طويل لا موضع لبسطه هنا، ونحن إنما نتكلم عن العرب خاصة، ولقد حار المتأخرون الذين كتبوا في تاريخهم وآدابهم عندما ألموا بذكر هذا النوع والتمسوه في أشعارهم ثم قطع بهم دونه، كيف يعللون ذلك وكيف يتأولونه، فمنهم من زعم أن العرب نظموا فيه كثيراً وضاع ما نظموه، فلم يبق لعهد التدوين والرواية إلا القليل مما ذكرت فيه أخبار الحروب، ومنهم من رجع إلى أبعد من ذلك وتعلق بذنب التاريخ فزعم أن سفر أيوب في التوراة ليس إلا منظومة عربية نقلت إلى العبرانية ولحق أصلها بدفائن العدم، والكلام في هذا المعنى لا يحمل على التاريخ، فإن حمل عليه خطا به إلى الخطأ، لأننا لا نتصور أن العرب خلقوا من فطرتهم شعراء ينحتون الأوزان ويؤلفون الكلام على هذا النحو الذي وصل إلينا، بل ذلك شيء أوجدته الحاجة إليه في عصر يعينه تأريخ الاجتماع كما أشرنا إليه من قبل، ولو ذهب عنا تاريخ الأندلس مثلاً ثم رأينا بعض الموشحات أكنا نزعم أن ذلك النمط قديم في عرب الجاهلية ونغفل دلالة اللغة التي نظمت بها الموشحات وحالة الاجتماع التي تشير إليها ؟ثم إن الرواة الموثوق بهم والعلماء ( المفتشين ) كالجاحظ وغيره يقطعون على الجزم بأنه لم يضع من شعر الجاهلية منذ جودوه على كثرة القبائل، ولا من أرجازهم، شيء كثير، والجاحظ يكرر هذا المعنى في مواضع من كتاب الحيوان والتكرار أبلغ في التوكيد، فلو كان في طبيعة اللغة وحالة الاجتماع ما يدعو إلى نظم الوقائع الكبرى لما أغفلوه ولا ذهب عن الرواة خبره، وف يأيدينا أثر مما يشبه ذلك وهو قاطع في الدلالة التاريخية التي تؤخذ منه على أنه قائم بنفسه وأنه نوع صحيح الكفاية لا تدعو الحاجة لأكثر منه، والحاجة دائماً أم الاختراع، وهذا هو الذي خصصناه بالكلام. إذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يجمع من التاريخ ويحفظ من الأخبار، فذلك موجود في أشعارهم، ولكنهم لم يطيلوها إطالة الإلياذة وغيرها، لأن ذلك يقتضي له عملاً من النظم وضرباً من التأليف المقصود لا يتم حسنه إلا بالتنسيق وسياسة الألفاظ وستكراه المعاني واقتسارها، ثم إحكام اللحمة بين فصل وفضل وبين قطعة وقطعة، ثم تحيك الألفاظ وتصفية الأسلوب واستيفاء صنعة التأليف، ولا يكون ذلك جميعه إلا بالصبر والمطاولة ورصد الأوقات التي تكون أجم للنشاط وأصفى للخواطر، ولو أن العرب من انقطع لهذا العمل لهجنوا صنيعه ورموه بالعي ولتركوه مثلاً وآية، لأن الشعر فيهم عند أسابه التي ذكرناها فيما تقدم، وتأريخ البديهة والروية معروف أجمع عليه الرواة، ولم يسقط بعد طبقة المصنعين، كزهير والنابغة، شيء من الشعر وهذا النوع لا يتفق على الارتجال أبداً ولا بد فيه من الصنعة، فلو كان مما تدعو إليه الحاجة لقاله مثل زهير والنابغة، ولكنهم لم يقولوه بإجماع الرواة، فدل ذلك على أنه ليس من حاجة اجتماعهم. ووجه آخر وهو أن العرب لا يطيلون أشعارهم إلا في المواقف وفي أيام الحفل، كما فعل بن حلزة في طويلته، وهي أقرب دليل على الشعر القصصي ومنزلته وأسبابه عندهم، وسيأتي الكلام عن سببها في موضعه، ثم أن طبيعة لغتهم تأبى الإطالة إلى أكثر مما تبعث عليه حاجة المفاخرة والمقارعة، لأن البلاغة فيها مبنية على الحذف أو الإشارة والإيجاز والاكتفاء من المعنى باللمحة الدالة ومن القصة بالمثل المعروف، ثقة بفهم بعضهم عن بعض، ثم هم إنما يتفاخرون على هذه السنة وبهذه البلاغة، فلو انهم ابتلوا بمفاخرة اليونان أو الرومان مثلاً لاحتالوا في نوع آخر من الشعر يبسطون فيه اللغة ويمدون معاني الخطاب، لأن مفاخرة القبيلة للقبيلة إنما تكون معاني من تاريخ الاثنين، ولكن مفاخرة أمة لأمة لا تكون إلا بتاريخ كلتيهما دون بعض معانيه، كما فعل الشعوبية والعرب، ومن تدبر طرق الخطاب التي جاء بها القرآن وهو أبلغ ما يمكن أن تصل إليه العربية، وجده يوجز في مخاطبة العرب ويكتفي المعاني بزيادة في بعضها عن بعض، فكذلك كان يفعل العرب. وإذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يحمله من الخرافات أو القصص الموضوعة، فهذا أيضاً قد نظم فيه العرب، ولكنهم لم يفردوه بالقصائد ولم يطيلوه إطالة بالغة، لذهاب معنى التقديس من عقائدهم وعاداتهم، فليس لهم آلهة ولا أنصاف آلهة ولا أساطير من هذا القبيل على نحو ما كان عند الهنود واليونان والرومان، وإنما كانوا يتناقلون من ذلك أشياء تناسب طبيعتهم ومذهبهم الاجتماعي، كالقصص الموضوعة على ألسنة الحيوانات والجمادات وبعض الخرافات المادية، فهذه كلها نظموها في شعرهم على طريقة المثل كما فعل اليونان، لا على طريقة التاريخ كما سنبينه. يخرج من ذلك أن الشعر القصصي، بالمعنى المصطلح عليه، لم يكن في طبيعة العرب ولا هو من مقتضيات اجتماعهم، فهم لم ينظموه في جاهليتهم قطعاً، ولم ينظمه من بعدهم لوقوفهم عند حد التقليد كما أشرنا إليه مراراً فيما سبق، أما ما كان من ذلك عند الجاهليين والإسلاميين فنحن ذاكروه فيما يلي:قد تتبعنا أشعارهم وتقصصناها في دواوينهم ودرسنا اكثر ما استخرجه العلماء، ومنها شواهد وأمثلة على الأخبار والعلوم، ثم اعتبرنا ذلك وتدبرناه فلم نرهم يقصون في شعرهم إلا في مواضع معدودة. أولاً: إذا كانت القصة ترمي إلى خلق من الأخلاق، كالوفاء، والغدر والحفيظة ونحوها، فتكون صبغاً من أصباغ الشعر يعطيه لوناً ثابتاً من ألوان الحفيظة التي يرمى الشاعر إلى تأييدها، ولا أثبت في ذلك من لون التاريخ، ومن هذا النوع قصص الحارث بن حلزة في طويلته، وقد يكون في القصة من هذا النوع مواضع تصلح أن تبنى عليها المعاني الكثيرة في الأخلاق فيتجاوزونها ويختصرون القصة بضرب من الإشارة إليها، ثقة بالفهم عنهم، كأنهم يريدون أن يجعلوا القصة كلها معنى واحداً من معاني الشعر، كقول جابر بن حنى التغلبي: ( ص42 ج 3: الحيوان ):

ولسنا كأقوامٍ قريبٍ محلَّهمْ

ولسنا كمن يرضيكمْ بالتَّملُّقِ

فسائلِ شرحبيلاً بنا ومحلّما

غداةَ نكرُّ الخيلَ في كلَّ خندقِ

لعمركَ ما عمرو بنُ هندِ وقد دعا

لتخدمَ ليلى أمَّهُ بموفَّقِ

فقامَ ابن كلثوم إلى السَّيفِ مغضباً

فأمسكَ منْ ندمائهِ بالمخنَّقِ

وعممه عمداً على السَّيفِ ضربة

بذي شطب صافي الحديدِ مخفقِ

والقصة مشهورة وهي من مفاخر العرب، فكان جابراً يقول: أنا وإياك فيما تريده من التملق كابن كلثوم فيما أراده عمرو بن هند، فجعل القصة معنى من معاني شعره واقتصر منها على ما يؤدي غرضه، فذكر الباغي والمبغي عليه وعاقبة البغي، وترك ما وراء ذلك للأسماء التي تنبه إليه الذاكرة. ثانياً: إذا كانت القصة ذريعة لجلاء صفة من الصفات التي يريدون تحقيقها، فإنها حينئذ تكون ضرباً من التمثيل الذي يقرب الحقيقة ويكشفها للعقل، كأبيات النابغة في بعض اعتذاره للنعمان ( ص67 ج 3: الحيوان ).

واحكمْ كحكمِ فتاةِ الحيَّ إذ نظرتْ

إلى حمامِ شراعَ واردِ الثَّمدِ

يحفُّهُ جانبا نيقٍ ويتبعه

مثل الزُّجاجة لم تكحلْ من الرَّمدِ

قالت: ألا ليتما هذا الحمامُ لنا

إلى حمامتنا ونصفهُ فقد

فحسَّبوهُ فألقوه كما حسبتْ

تسعاً وتسعينَ لم تنقصْ ولم تزد

فكلمَّتْ مائة فيها حمامتها

وأسرعتْ حسبهً في ذلك العددِ

فإن ظاهرها يؤدي معنى من القصص، ولكن باطنها يؤدي إلى غرض لا حيلة في إبرازه بغير هذا الوضع، فإنه أراد أن يصور للنعمان اضطراب أمره، وأن ذنبه مظنة الخطأ في الحكم لما فيه مما يثير الحمية ويهبج الكبرياء، ثم يستنزله إلى العفو والصفح والنظر فيما أتاه بالعقل لا بالقلب، وان ذلك أحمد له وأليق بموضعه من الفضل والتمكن، فصور له هذه الفتاة تحزر طيراً، والطير أخف من غيره، ثم جعله حماماً، والحمام أسرع الطير ثم جعله كثيراً، لأنه يكون أكثر اجتهاداً في السرعة إذا كثر عدده، وذلك أنه يشتد طير انه عند المسابقة والمنافسة، ثم لم يرض بذلك حتى جاء بما يدعو إلى منتهى السرعة الممكنة فقال: ( يحفه جانباً نيق ويتعبه )، وذلك أن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع منه إذا أتسع عليه الفضاء، فشدد الأمر وضيقه على الفتاة كما ترى، بما يقيم لها ألف عذر إن أخطأت في الحساب، ثم لم يكفه أن يذكر مع ذلك أنها أصابت بل جعل إصابتها مثلاً في الفطنة، إذ عبرت في تلك الحالة عن تسع وتسعين بمجموع ونصفه أي 66 و33 فهذه غاية البيان، وإذا لم تكن القصة من وضع النابغة وكانت صحيحة النسبة إلى زرقاء اليمامة، فلا شك عندنا في أن النابغة قصد منها هذا التصوير بعينه، ولا عجب مع هذا يكون من أهل الصنعة والتنفيح، ولا يشترط أن تكون القصة في هذا النوع تاريخية، بل ربما وضعها الشاعر كقول بعضهم في صفة صائد يعينه بقصة معيشته وحياته، والضمير في البيت الأول راجع للصيد.

أتيحَ لهُ أذاهُ بكفَّهِ

خنوفُ وأشباهٌ تخيَّرنَ من حجرِ

أبو صبيةٍ، لا يستدرُّ إذا شتا

لقوحاً ولا عنزاً، وليس بذي وفرِ

له زوجةٌ شمطاءُ يدرجُ حولها

فطيمٌ تناجيهِ، وآخرُ في الحجرِ

( الأبيات ص140 ج 4: الحيوان ). فقد بالغ في صفة هذا الصائد بالتوحش والقوة وحسن الإصابة، وذكر كل ما يدل على انفراده بالكدح، ليكون أقوى له وأبلغ في الاعتماد، إذ زوجته شمطاء، وأولاده فطيم وآخر في الحجر، ثم وصف انفراد قلبه كذلك بما شوه من عجوزه، حتى لا يكون فيه موضع للرقة على الحيوان، وليس يتعين أن يكون هذا الصائد كذلك، ولكن صفة الرمية النافذة اقتضت هذه القصة. ثالثاً: إذا كانت القصة خرافة من الخرافات، فيضربونها مثلاً لتوكيد الحقيقة، وأكثر ما يكون ذلك في الخرافات الموضوعة على ألسنة الحيوان، وهي شائعة في الإعراب، ومثلها في كل أمة، ولها في أكثر الأمم شعراء ينفردون بها، وأشهرهم في المتأخرين لافونتين الشاعر الفرنسي، ومن هذا النوع قول النابغة في هذا المثل البديع:

أليسَ لنا مولى يحبُّ سراحنا

فيعذرنا من مرَّةِ المتناصرة

( الأبيات في خرافة الحية وحليفها ص68 ج 4: الحيوان، وص11: حسن التوسل ). وقول الهذلي:

وإخالُ أن أخاكمُ رعنانةٌ

إذ جائكم بتعطفٍ وسكونِ

( الأبيات في خرافة النعامة التي ذهبت تطلب أذنين فعادت صلماء، ص107 ج 4: الحيوان ). وقول ابن هرمة في خرافة الضب والضفدع:

ألمْ تأرقْ لضوءِ البرْ

قِ في أسحمَ لماحِ

( الأبيات ص38 ج 6: الحيوان ). ومن أراد أن يقف على بعض خرافات الأعراب فعليه بقصيدة الحكم بن عمرو البهراني، وكان أتى يني العنبر بالبادية فنفوه إلى الحاضرة، فجعل يتفقه ويفتي فتيا الأعراب، وكان مكفوفاً دهرياً، وقصيدته كلها ظريف غريب، كلها باطل، والإعراب تؤمن بها أجمع، وقد رواها الجاحظ في الحيوان ( ص24 ج 6 ) وشرحها شرحاً مطولاً. وقد وقفنا على نوع غريب من الشعر القصصي كنا نظن أن العرب لم يقولوا فيه، وذلك محاورة الحيوان ومساءلته، في نظم قائم بنفسه وعلى نمط فات المتأخرين الذين عربوا مثل هذا الشعر عن اليونان والفرنسيين وغيرهم، فإنهم ينظمون ذلك شعراً مزاوجاً من الرجز يستقل كل بيت منه بقافيتين، ولكن هذا الشاعر أطلق القوافي في رجزه، فهو بغيرها عند انتقاله من معنى لمعنى مباين، ولا جزم أن الشعر القصصي لو نطم على هذا النحو لمكن منه ما ظنه الأدباء غير ممكن، أما الأرجوزة فهي عن أبي زياد الكلابي، قال: أكلت الضبع شاة رجل من الأعراب، فجعل يخاطبها ويقول:

ما أنا جعار منْ خطابكَ

عليَّ دقُّ العصلِ منْ أنيابكِ

( الأبيات ص151 ج 6: الحيوان ). أما الأساطير الدينية فليس في العرب من يتعمل لنظمها غير أمية بن أبي الصلت، لما مر من شأنه في باب الشعر الحكمي، وله من ذلك أشياء مروية، كقصة سفينة نوح، وقصة الحمامة التي بعثها ترتاد في الأرض موضعاً يكون مرفأ للسفينة بعد أن بعث الغراب فوقع على جيفه ونحو ذلك، ومما نظم أمية من خرافات الأعراب خرافة الغراب والديك التي يقولون فيها إن الديك كان نديماً للغراب، وإنهما شرباً الخمر عند حمار ولم يعطياه شيئاً، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن ورهن الديك، فخاس به ولم يرجع، ولذلك ذهب الغراب مطلقاً في الأرض وبقي الديك محبوساً عند الناس، ولكن نظم أمية في هذه المعاني لا يرمي إلى شيء غير معنى القصص، كأنه لا يريد من الشعر إلا أن تكون دليلاً على علمه وترشيحه للأمر الذي يحدث به نفسه كما سبق. . وقد نظم بعض المولدين في الشعر القصصي بما يقارب المعنى المصطلح عليه، من ذلك قصيدة محمد بن عبد العزيز السوسي من شعراء اليتيمة، قال الثعالبي فيه إنه أحد شياطين الإنس، يقول قصيدة تربى على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، وقد أورد منها ( ص237 ج 3: يتيمة الدهر ) ونظم المتأخرون في السيرة النبوية خاصة، وأشهرهم في ذلك حكمة وإحكاماً، الإمام شرف الدين البوصيري، وشهرة قصيدتيه البردة والهمزية قد ملأت الدنيا.

الشعر العلمي

قد علمت أن الشعر كان مستودع علوم العرب وكتاب تجاربهم وحكمهم، فليس هذا الذي نريده بالشعر العلمي، ولكنا نريد القصائد التاريخية أو العلمية التي جاءت في حكم الكتب، وكذلك الكتب التي نظموها فجاءت في حكم القصائد، وهو ما يعبر عنه المتأخرون بالمتون المنظومة، كألفية ابن مالك وغيرها مما يجمع مسائل الفنون وضوابطهما، وليس من عالم في هؤلاء إلا وله شيء قل كثر نصيباً مفروضاً. ونحن نريد أن نتكلم هنا عن أصل هذا النوع وأقدم ما وقفنا عليه من أمثلته التي احتذاها المتأخرون، وهم مجمعون على استعمال هذا النمط من الرجز الذي يستقل فيه كل مصراعين بقافية، حتى لقبوه بحمار الشعر لسهولة الحمل عليه، ثم هم مع ذلك التهافت لا تكاد تجد فيهم من يعرف اسمه عند المتقدمين، والعرب أنفسهم لم يضعوا له اسماً لم يأت في مشهور أراجيزهم منه شيء، ولم نقف منه عندهم إلا على مثال واحد، وهو ما ذكره الخطيب التبريزي في شرحه على تهذيب الألفاظ ( ص332 ) من أن رجلاً من هذيل أقبل إلى عمر بن الخطاب وهو جالس فأنشده شعراً يتجرم فيه على أبيه ويستظهره عليه، فبعث عمر إلى أبيه فدعاه، فقال: ماذا يقول أبنك ؟ زعم أنك نفيته، فقال: يا أمير المؤمنين، غذوته صغيراً وعقني كبيراً، أنكحته الحرائر، كفيته الجرائر، فأخذ بليتي واظهر مشتمتي:

شاهد ذاك من هذيل أربعهْ

مسافعٌ وعمُّهُ ومشجعهْ

وسيَّدُ الحيَّ جميعاً مالكُ

ومالكٌ محضُ العروقِ ناسكُ

وهذا الرجز كما تراه إنما انساق مع الكلام واستجر للحكاية، فإما أن يكون بعض ما يتفق من أحاديثهم العامة وأهملوا حفظه وروايته لأنه في سبيلها، وإما أن يكون شيئاً جرى على لسان ذلك العربي، وعى أي الوجهين فما كان ليروى لولا انه جاء تابعاً للشعر الذي قبله، وفيه شاهد من شواهد اللغة فحفظوه ليساق مع الحديث. ثم جاء بشر بن المعتمر الذي مر ذكره في الشعر الحكمي، وكان من أروى المعتزلة للشعر، فبنى على هذا الأصل أرجوزة طويلة ذكر فيها الملل والنحل وضرب الأمثال واخذ في قواعد مذهبه، ويظهر من كلام الجاحظ أن هذه الأرجوزة قد رفعت إلى الناس وذهب لها صيت، وقد ذكرها مرتين في كتاب الحيوان ونقل قطعة من أمثالها ( ص80 ( 40: الحيوان ) وقطعة أخرى في ذكر فضل علي على الخوارج ( ص155 ج 6 ) وهو في كل مرة يقول: قال بشر بن المعتز في شعره المزاوج، وهذه التسمية أليق ما يسمى به هذا النوع من الأراجيز، ولا بد أن تكون هذه الأرجوزة الإولى من نوعها، لن الجاحظ نسب هذا النوع إليه وعينه به وكان يكفي أن يقول: قال بشر فقط، ولأنه قد ظهر قبل بشر شعراء نظموا في أمثال هذه المعاني، وكان أسهل عليهم لو عرفوه، وقد اشتهر هذا النمط بعد بشر، ونظم فيه ابن المعتز في أواخر القرن الثالث كتابه ( بشر الإمام ) في أرجوزة طويلة مثبتة في ديوانه، ثم كان حذو المتأخرين في المتون بعد ذلك على منظومة الإمام محمد بن عبد الله بن مالك المتوفى سنة 672 علامة النحو واللغات الغريبة والآية في حفظ أشعار العرب، وهذه المنظومة هي الألفية الشهيرة في علم النحو، تبع فيها ابن معطي قالوا: ونظمه اجمع وأوعب، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب، ( ص432 ج 1: نفح الطيب ) ولابن مالك منظومات أخرى غير الألفية، ولكن هذه هي أشهر المتون المنظومة، يكاد ذلك يكون إجماعاً. أما الشعر الذي تنظم فيه الضوابط العلمية لسهولة حفظها، فاكثر ما يكون قطعاً وأبياتاً قليلة، والأغلب فيه أن لا يكون مزاوجاً، وقد وقفناً على مثال منه عند العرب، وهو قول طفيل الغنوي ( يصف كيف تزجر الخيل فجمعه في بيت واحد ) هكذا قال المبرد في ( الكامل ) وقوله دليل على أن نظم الضوابط لم يكن معروفاً إلى زمنه، وإنما هو مما أحدثه المتأخرون:

وقيلَ أقدمي وأقدمْ وأخً وأخري

وها وهلا وأضبر وقادعها هبي

وهذه كلها كلمات ترجز بها الخيل، ولم يتسع البيت للفظتين من هذا القبيل، هما هقب وهقط ( ص161 ج 1: الكامل ). والمتأخرون من العلماء الذين يأبون أن يتركوا شيئاً غير متروك غلى أصله، يزعمون أن أول من نظم المتون العلمية هو هرمس الحكيم الذي يزعم قوم من الصابئة أنه إدريس، عليه السلام، ويقولون: إنه أول من نظر في الطب وتكلم فيه وصنف لأهل زمانه ( كتباً بأشعار موزونة ) بلغتهم في معرفة الأشياء العلوية والأرضية ( ص138: سرح العيون ). هذا في نظم المتون والضوابط، أما الشعر الذي يحمل معاني التاريخ وأنواع الفنون على غير تلك الطريقة فغنما يجيء به المولدون على جهة الفخر بما يضمنونه كقصيدة رياح بن سنيح الزنجي مولى بني ناجية، وكان فصيحاً، فلما قال جرير.

لا تطلبنَّ خئولةً في تغلب

فالزُّنجُ أكرمُ منهمُ أخوالاً

تحرك رياح فذكر أكثر من ولدته الزنج من أشراف العرب في قصيدة مشهورة معروفة ومنه البيت السائر:

إنَّ الفرزدقَ صخرة عاديةً

طالتْ فليسَ تنالها الأجيالا

يريد طالت الأجيال فليس تنالها ( ص8 ج 2: الكامل ) ومن هذا النوع القصيدة الحميرية التي نظمها نشوان الحميري، صاحب ( كتاب شمس العلوم )، وقد نشرها بعض المستشرقين ( تاريخ العرب ) وقد عد فيها من ملكوا من الحميرين وافتخر بقومه هؤلاء وصارت هذه القصيدة اليوم عند الباحثين في التاريخ العربي القديم لا يقاس بها شعر عباس، لما فيها من الأسماء التاريخية. وقد ينظمون ذلك الشعر على جهة الفخر بالنظم نفسه وقوة التصرف كما فعل أبو العباس الناشئ المعروف بابن شرشير، وهو الناشئ الأكبر، وكان متبحراً في عدة علوم، وهو في الشعر من طبقة البحتري وابن الرومي وأضرابهما، قال ابن خلكان، وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وتوفي سنة 293، فلو أنه جعل هذه القصيدة في فنون من التاريخ والقصص ونحوها، لما خلا الشعر العربي إلى اليوم من النمط القصصي الذي نفاخر به الإلياذة وأمثالها في كل شعر غير عربي. وكذلك فعل أبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة 593 في نظم كتابه شذور الذهب في صناعة الكيمياء، وقد قالوا فيه: غن لم يعلمك صنعة الذهب علمك صنعة الدب، وقيل في الجياني: شاعر الحكماء وحكيم الشعراء. ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، توفية للفائدة، كتب الحكمة والأمثال التي نظمها المولدون لتسهيل حفظها ومدارستها، وأهم هذه الكتب ( كليلة ودمنة ) الذي عربه ابن المقفع، فقد نظمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر الربامكة، ونظمه أيضاً ابن الهباربة البغدادي، وسمى كتابه نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة، وكلا الشاعرين مر ذكرهما، وكذلك نظمه الأسعد بن مماتى المصري ناظر الدواوين بالديار المصرية المتوفى سنة 606 ولابن الهبارية أيضاً كتاب الصادح والباغم، نظمه على أسلوب كليلة ودمنة، وهو أراجيز في ألفي بيت نظمها في عشر سنين، ولم نذكره في الشعر القصصي لن هذا الموضع أليق به، ومن منظومة السير أرجوزة ابن عبد ربه صاحب ( العقد الفريد ) في أخبار الملك الناصر صاحب الأندلس، وسيرة صلاح الدين التي نظمها الأسعد بن مماتي المذكور، وذلك في الجملة ليس من الشعر، ولكنه نوع مما أخذنا في تأريخه، فكان لا بد من إشارة إلى بعض أمثلته في التاريخ. ^

الفنون المحدثة من الشعر

ذكرنا تاريخ الشعر وأفضنا في مناحيه، وبقى علينا تاريخ هذه الفنون التي أحدثها البلديون، وهي الموشح، والزجل، والدوبيت، والمواليا، والكان وكان، والقوما، وهذا الكتاب وغن كان ليس فيه متسع للفنون التي خرجت بها آداب اللغة الملحونة، ولكنا سنلم بها إلماماً، ونتجوز في ذلك بعد أن نتكلم على الموشح مقصرين على مبتدأ خبرها، فغن لها طرقاً ورجالاً، إذ هي آداب لغة منفردة يتكلم بها شعراء الناس، واستيفاء ذلك هنا يعد من تداخل التواريخ، وهو في رأينا دليل على فساد النظر وسوء الاحتمال لهذه العلوم، فلو أن مؤلفاً كتب في تاريخ لغة العامة وآدابها، ثم بسط في كتابه الكلام عن شعر العرب بمثل ما قدمناه، وعلى النحو الذي أخذنا إليه لكان حقيقاً بأن يدل فضل أطلاعه على فساد صنعته في تأليف الكتاب، وكذلك ليس خلط الأعداد وهي مادة الحساب، مما يعد في شيء من صحة الحساب.

الموشح

ويقال له التوشيح أيضاً، والذي نراه في أصل هذه اللفظة أنها منقوله عن قولهم: ثوب موشح، وذلك لوشي يكون فيه، فكان هذه الأسماط والأغصان التي يزينونه بها هي من الكلام في سبيل الوشي من الثوب، ثم صارت اللفظة بعد ذلك علماً، إلا أن يكون الأندلسيون قد أخذوا هذه التسمية عن المشارقة، فتكون منقولة عن التوشيح الذي عده قدامه بن جعفر في نقد الشعر من أنواع ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وجرى عليه أهل البديع، فيكون اشتقاقها من معنى الوشاح كما نصوا عليه، لأنهم عرفوا هذا النوع بان يكون معنى أول البيت دالاً على قافيته، فينزل فيه هذا المعنى منزلة الوشاح، وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما.

اختراعه:

قال ابن خلدون في أصل استحداث هذا الفن: ( أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فناً سموه بالموشح ينظمونه أسماطاً وأغصاناً أغصاناً. .واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها يجزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفربري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرون ذكر وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. .الخ ). وعبادة هذا توفي سنة 422، فالذي يفهم من كلام ابن خلدون أحد معنيين: إما أن يكون مقدم بن معافر شاعر الأمير عبد الله في القرن الثالث هو الذي سمى هذا النوع بالموشح حين اخترعه، فيكون قد بقى إلى زمن عبادة لم ينبغ فيه أحد، ويكون الأندلسيون في القرن الثالث ( قد كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية ) وإما أن تكون هذه التسمية قد أحدثها المتأخرون من زمن عبادة، وزمنه أرقى عصور الشعر في الأندلس، وكلاهما خطأ، وذلك مما وهم فيه ابن خلدون لأنه غنما ذهب كعادته إلى التعليل، فطن أن استحداث هذا الفن من فضل القوة وإتقان الصناعة، وذلك لا يكون إلا على وصف، ولكن الشعر لم يكن قد بلغ في الأندلس ذلك المبلغ في القرن الثالث كما سنفصله متى أنتهينا إلى الكلام على الأدب الأندلسي، ولو كان كما زعم ابن خلدون لحفظوا اسم مقدم بن معافر، وإننا على طول ما عنينا من نصب البحث ومطاولة التعب في التنقيب، وقد قرأنا ما قرأناه لتهيئة مواد هذا الكتاب حتى لم نغادر كتاباً في الأدب والتاريخ بأنواعه، لم نظفر بكلام عن مقدم هذا ولا تكشف لنا من تاريخه شيء، ومما يدل على فساد المعنى الثاني، أن ابن بسام، وهو اعلم بهذا من ابن خلدون وغيره من المتأخرين ذكر في كتابه ( الذخيرة ) أنه نشأ بين مخترع الموشح وبين عبادة، يوسف بن هارون الرمادي، هو الشاعر الأندلسي في القرن الرابع ( توفي سنة 403 ) فلا بد أن يكون عبادة قد أخذ عنه مثال الإتقان في هذه الصنعة، وحينئذ يتعين أن لاختراع الموشح سبباً آخر غير كثرة الشعر وبلوغ الغاية في تنميقه، ونحن ذاكروه بعد، ولكنا ننقل هنا عبارة الذخيرة، فإن فيها قولاً آخر في اختراع هذه الأوزان، قال ابن بسام في ترجمة عبادة: ( كان في ذلك العصر شيخ الصناعة وأحكم الجماعة. .وكانت صنعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقتها ووصفوا حقيقتها غير مرقومة البرود، ولا منظومة العقود، فأقام عبادة هذا عمادها، وقوم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهاراً غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته، وأول من صنع أوزان هذه الموشحات: محمد بن محمود المقبري الضرير، وقيل: إن ابن عبد ربه صاحب العقد أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات، ثم نشأ يوسف بن هارون الرمادي، ثم نشأ عبادة هذا فأحدث التصفير، وذلك أنه اعتمد على مواضع الوقف في المراكز ( ص199: فوات الوفيات ).

سبب اختراعه:

وعندنا أن الذي نبههم إلى اختراع أوزان التوشيح إنما هو الغناء لا غيره، فغن تلحين البيت من الشعر قد يجيء على بعض الوجوه كالموشح، غذ يخرج جملاً مقطعة تتساوق مع النغم، فلو تنبه إلى ذلك أديب موسيقي لأمكن أن يضع أوزاناً على هذه التقاطيع، وهم لا يختارون للغناء من الشعر إلا ما احتمل في حركاته حسن التجزئة وصحة التقسيم وإجادة المقاطع والمبادئ. والذي يدل على أن الغناء هو الأصل في التوشيح، إن الأندلس فتحت في أواخر القرن الأول، ولم يخترع التوشيح إلا في أربع الأخير من القرن الثالث، فكانت الفترة قريبة من مائتي سنة، والسبب الطبيعي في ذلك أن أمر الأندلس كان في مبدئه دينياً محضاً، كما ستراه في موضعه، وبقي الشعر عندهم متعلقاً بنوابغ مميزين بالضعف والقلة إلى زمن الأمير عبد الرحمن بن الحكم في أوائل القرن الثالث، حتى نبغ يحيى الغزال شاعر الأندلس وفيلسوفها، ثم قدم زريات المغني من العراق على هذا الأمير سنة 206، وكان الأمير مفتوناً بالغناء، فلم يمض على ذلك زمن حتى شاع الغناء وانحرف إليه الأندلسيون، وكان ذلك أول تاريخه عندهم، فلعل المدة بين شيوع الغناء واستحداث التوشيح لا تزيد عن نصف قرن. وقد أقبل أدباء الأندلس في أواخر القرن الرابع على الموسيقى، من هاهنا دعت الحاجة إلى التفنن في تلك الأوزان، فأستقل بذلك عبادة الذي أومانا إليه، وليس هذا فيه بعجيب إذا عرفت أن ابن الحداد وهو معاصر عبادة، وكلاهما من شعراء المعتصم بن صمادح، قد وضع كتاباً في العروض مزج فيه بين الموسيقى وبين آراء الخليل، وكل ذلك سيأتيك غي موضعه مفصلاً غن شاء الله. والأندلسيون لم يلحقوا المشارقة في الغناء، ولم يكاثروا فحولهم فيه، ولذلك انصرفوا عن الغناء في الشعر إلى تحميله أوزان التوشيح، فأغربوا بذلك كما قال ابن دحية على أهل المشرق، لأنهم جمعوا فيه التطويب، وقد نبه على ذلك ابن رشد فيلسوف الأندلس في تلخيصه كتاب أرسطوطاليس في الشعر حيث قال كلامه على المحاكاة: ( والمحاماة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من فبل النغم المتفقه، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبه نفسه، وهذه قد يوجد كل واحد منها منفرداً عن صاحبه، مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ، اعني الأقاويل المخيلة ( غير الموزونة )، وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها، مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة ( العذارى المائسات ). وهذا هو السبب في اختلاف أوزانه وأوضاعه، لن الغرض منه تطبيق ألفاظه على مؤلفات من الأصوات بمقتضى صناعة الموسيقى، فكانوا يؤلفون من الأصوات التي تخرجها الضربات على الأوتار المختلفة كلاماً يناسب أن يقابل في وزنه تلك الأصوات بحروف متحركة أو ساكنة وعلى ذلك يكون مؤلف التوشيح تابعاً لما تقتضيه أصوات الموسيقى وأوزانها، وذلك قد يوافق الأوزان العربية التي يلحن فيها الشعر وقد يخالفها وعليه أكثر عملهم، ولم يلتفت أكثر أدباء المتأخرين إلى هذه الحقيقة فحسبوا التوشيح كغيره من الأوزان، ولذلك اقتصر شعراؤهم على النظم في مذهب العروض منه وتركوا ما عداه، لأنهم لا يعرفون له وزناً، إلا أهل الموسيقى منهم، فإنهم ذهبوا فيه كل مذهب، وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في سفينته المشهورة أن موشحات المتقدمين قد بطل العمل في تلحينها، ولذلك أقتصر في السفينة على إيراد موشحات المتأخرين، وأثبت من ذلك 300 موشح فيها 350 لحناً. وعلى الأصل في أوزان التوشيح اخترع المتأخرون نوعين آخرين هما المستجاد والبنود، وسنذكرهما في بحث الصناعات لأن موضعهما هناك أليق بهما.

الموشح الملحون:

ومن التوشيح ما لا يكون معرباً، وهو من اختراع أدباء اليمن، قال صاحب سلافة العصر: ولهل اليمن نظم يسمونه الموشح، غير موشح أهل المغرب، والفرق بينهما أن موشح أهل المغرب يراعي فيه الإعراب بخلاف موشح أهل اليمن فإنه لا يراعي فيه شيء من الإعراب، بل اللحن فيه أعذب، وحكمه في ذلك حكم الزجل ( ص243 ). ولم نزل نبحث عن أصل هذا النوع حتى وقفنا في كتاب ( نفحة اليمن ) لحمد النصاري اليمني الشرواني، وهو مطبوع في مصر، على نوع سماه الشعر الحميني لا يكون إلا ملحوناً، وقال: إنه منسوب إلى الفضل الأديب محمد بن حسين الكوكباني اليمني، وهو توشيح أوله:

ما لقلبي لم يزل عشقو فنونْ

في هو حالُ التثني والمجون

زي الغصون قد فنى صبري وقل الاحتيال

قد قسم قلبي بأسيافِ الجفون

وقسم لي الهوى تلك العيون

ريب المنون ما حياتي بعد ذا إلا محال

وقال: إن شعراء اليمن هم فرسان هذا الميدان، وحاملوا لواء هذا الشان، وعلى هذه الطريقة نظم بعض علماء المتأخرين على نمط الشعر، كقصيدة الشيخ عليش الشهيرة التي مطلعها:

الزم باب ربك

واترك كل دون

وأورد في النفحة قصيدة من هذا النمط قال إنها للفاضل البكري، فهذا هو الشعر الحميني على ما عرفت، وهي تسمية أهل اليمن، أما المغاربة فقد استحدثت عامتهم من هذا النمط أنواعاً بأسماء أخرى، وسنشير إليها بعد.

بعض أنواع الموشح:

لم يوضع في صناعة الموشح ووجه نظمه وأسماء إوزاته فيما نعلم، غير كتاب واحد وضعه صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى سنة 750، وهذا الكتاب لم ينته إلينا إلا خبره، وسنذكر اسمه في كتب التوشيح، ثم إن هذه الصناعة لا ضابط لأوزانها إلا الألحان كما سلف، فهي موطاة للاختراع بمقدار ما تجرؤ عليه القرائح، ولذلك تعددت فيها الأوزان واختلفت طرق الصنعة، فلا سبيل إلى حصرها إلا بالتلقي واتصال السند عن أهلها، ولا ندري إن كانوا قد وضعوا لكل وزن اسماً يعرف به أم كان اسم التوشيح عاماً لجميعها فلا تخصص الوزان إلا بأسماء ألحانها فقط كما هو الشان في أدوار الغناء، وقد بحثنا في ذلك كثيراً فلم نرجع بطائل، وكنا نظن أننا نصل إلى تسمية كل وزن وتعيين مخترعه، ولكنا لم نقف من ذلك إلا على النذر القليل الذي لا يعتد به في استنباط التاريخ، وقد رجع عندنا انهم لم سموا الموشحات بأسماء معينة كما فعلوا بالصناعات الشعرية، كالتخميس والتشطير وغيرهما، إلا ما دخل فيه الشعر من ذلك، كهذا النوع الذي اخترعه الصفي الحلي وسماه الموشح المضمن، ومثل له بتضمين الأبيات المنسوبة لأبي نواس، وقيل إنها للحريري، ومطلع موشحه ( ص298: ديوان صفي الدين الحلي ):

وهو الهوى، ما حلت يوماً عن الهوى

ولكن نجمي في المحبة قد هوى

وما كنت أرجو وصل من قتلتي نوى

واضنى فؤادي بالقطيعة والنَّوى

ليسَ في الهوىَ عجبُ

إن أصابني العطبُ

( حاملُ الهوى تعبُ

يستفزُّهُ الطَّربُ )

فالبيت الأخير ( حامل الهوى. .الخ ) هو المضمن، وما قبله توطئة له من نظم الصفي، وكالموشح المجنح، ويسمونه أيضاً الشعري، لأنه قصيدة على وزن وروي واحد من الشعر يفصل بين كل بيتين منها بيت من الموشح يناسب وزنه لحن القصيدة، ويشترط فيه أن تكون كل أبيات التوشيح مصرعة على قافية واحدة ( انظر ص299: ديوان الحلى ). وكما خلطوا بين أوزان الشعر وبين أوزان التوشيح، يخلطون بين وزن الدوبيت والزجل وبينه، وكل ذلك لأن التوشيح لا ضابط لوزنه إلا المناسبة كيفما أتفقت. ومن الوزان التي عينوا مخترعها، هذا الوزن الذي قال الصفي إن مخترعه السلطان المؤيد صاحب حماة المتوفى سنة 732 ( انظر ص391: ديوان صفي الدين الحلي ). وهو كما ترى يكد لسان الناطق، ولكنه إذا قطع ألحاناً وصححت تجزئته وأحكمت مخارج ألفاظه وجرى فيه الغناء كان طرباً عجيباً، وعلى ذلك وضع، ومن أراد أن يقف على كثير من أوزان الموشحات فليقرأ ما ورد من ذلك في نفح الطيب وفوات الوفيات وكتاب العذارى المائسات وسفينة الشيخ شهاب الدين، وكلها مطبوعة، وكنا هممنا أن نحصى ما وقفنا عليه من ذلك، لولا إننا رأينا أن الفائدة لا تتم إلا إذا أتثبتنا مطلع كل وزن ليتصفح القارئ وجوه الأنواع ويستثبت مواضع الاختلاف في أوزانها، وذلك يستغرق قطعة كبيرة من هذا الكتاب، ثم هو عمل تعليمي فليتتبعه من مست إليه حاجته.

نوابغ الوشاحين:

يبتدئ تاريخ النبوغ في التوشيح من القرن الخامس، ورأس أدبائه عبادة، وشاح المعتصم الذي أومأنا إليه من قبل، ثم جاء بعده ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طيطلة، وبعدهما الحلبة التي كانت في دولة الملثمين إلى القرن السادس، وسابق فرسانها القطيلي الأعمى ( كذلك يذكره صاحب نفح الطيب، وقد ورد اسمه في مواضع، وفي مقدمة ابن خلدون: الطيطلي ) ثم يحي بن بقي، ومحمد بن أحمد النصاري المعروف بالأبيض، والحكيم أبو بكر بن باحة صاحب التلاحين المعروفة ( وسيأتي بيان ذلك في الأدب الأندلسي )، ثم اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف، وأبو إسحاق الرويني، ثم كان حسنة هذه المائة السادسة الفيلسوف أبا بكر بن زهر المتوفى سنة 595، والوشاحون عيال على إحسانه فيما اتفق له من بدائع الموشحات التي شرقت وغربت، واشتهر بعده ابن حيون، والمهر بن الفرس، ثم نبغ ابن جرمون بمرسية، وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة، وأبو بكر بن الصابوني، واشتهر بين أهل العدوة ابن خلف الجزائري، وابن البجائي، ولكن الذي انفرد بشهرة هذه المائة إبراهيم بن سهل الإسرائيلي وشاح أشبيلية وشاعرها، وقد طبعت له قطع صغيرة في مصر على أنها ديوانه، ولكن الذي يقول في نفح الطيب أن ديوانه كبير مشهور بالمغرب حاز به قصب السبق في النظم والتواشيح، ومات ابن سهل غريقاً سنة 649، وظهر بعده احمد المقريتي المعروف بالكساء، وهو شاعر وشاح زجال ( ص303 ج 2: نفح الطيب ). ثم كان نابغة المائة الثامنة في الأندلس لسان العربية ابن الخطيب، وله في التوشيح بدائع كثيرة، وكان من أبرع تلامذته في ذلك ابن زمرك وزير الغني بالله، ثم اشتهر بعده العربي العقيلي الوشاح، ثم ظهر في المائة التاسعة في النصف الأول أبو يحيى بن عاصم الذي يقول عنه الأندلسيون إنه ابن الخطيب الثاني، ثم استعجمت الأندلس وظهر في المغرب في أواخر القرن العاشر عبد العزيز بن محمد الفشتالي وزير أبي العباس أحمد الشريف الحسيني، وسنذكره بعد، أما المشارقة قد تكلفوا التوشيح وبقي للأندلسيين فضل الطبع لم ينازعهم فيه إلا ابن سناء الملك، المصري المتوفي سنة 608 فقد طارت موشحاته خصوصاً موشحته التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:

يا حبيبي أرفعْ حجابَ النورِ

عنِ العذارِ

ننظرِ المسكَ على الكافورِ

في جلّنارِ

كللي، يا سحب تيجان الربى، بالحلي

واجعلي، سوارها منعطف الجدول

ولا تزال في أفواه المغنين إلى اليوم. كتب التوشيح:وضع صفي الدين الحلي ديواناً سماه ( العاطل الحالي والمرخص الغالي ) ( وذكر في كشف الظنون العاطل الحادي خطأ ) وقد أوضح فيه قاعدة الفنون الشعرية جميعها، وهي الموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والكان وكان، والقوما، وأورد أمثلة ذلك من نظمه، وذكر ابن خلكان في ترجمة ابن سناء الملك أنه جمع موشحاته التي نظمها في ديوان سماه ( دار الطراز ) وفي نفح الطيب أن لسان الدين بن الخطيب ألف في هذا الفن كتابه المسمى بجيش التوشيح وأتى فيه بالغرائب، قال: وذيل عليه صاحبنا وزير القلم بالمغرب عبد العزيز بن محمد الفشتالي بكتاب سماه: ( مدد الجيش. .) وأتى فيه بكثير من موشحات أهل عصرنا من المغاربة، وضمنه من كلام أمير المؤمنين مولانا المنصور أبي العباس أحمد الشريف الحسني ما زاده زيناً، وأخبرني أنه ذكر فيه لأهل العصر في أمير المؤمنين المذكور أزيد من 300 موشح ( ص227 ج 4: نفح الطيب ). وقد طبع بعض الأدباء مجموعة صغيرة قال إنه انتخبها من كتاب وجده في بعض مكاتب رومة اسمه ( العذارى المائسات في الأزجال والموشحات ) هذا غير ما تجده في كتاب نفح الطيب وسفينة الشهاب وبعض الدواوين.

الدوبيت

وهذا الاسم من كلمتين، إحداهما فارسية وهي ( دو ) بمعنى اثنين، والأخرى ( بيت ) العربية، وسموه كذلك لأنه لا يكون أكثر من بيتين، وقد أخذه أدباء العرب عن الفرس، ويعرف عندهم بالرباعي، واختص بالإجادة فيه بعض شعرائهم، كعمر الخيام، ورباعياته مشهورة مترجمة بالغات الأجنبية، وهي 500 بيت، ولا نعرف أول من استعمل هذا النوع في العربية، ولكن نشأته كانت في بغداد، ولا ندري كيف يعده ابن خلدون من شعر عامتها، وهو كالموشح والشعر: لا تكون ثلاثتها إلا معربة، فإذا دخلها اللحن خرجت عن هذه الأسماء إلى أسماء أخرى، كالشعر الحميني في الموشح عند أهل اليمن، ( وعروض البلد ) فيه نفسه عند أهل الأمصار بالمغرب. ونحن نرجح أن هذا النوع في العربية قبل القرن السابع، لأننا لم نجده في شعر أحد قبل ذلك الزمن ولا وجدنا إشارة إليه، ولم نجد للشعراء ولعابه إلا في أواخر تلك المائة وما بعدها، والرباعي يعد من المخترعات الحديثة في اللغة الفارسية، لأن أول من وضعه أبو سعيد بن الخير المتوفى سنة 465، وبعضهم يقول إنه كان موجوداً قبل ذلك ولا يرجح اختراعه إلى تاريخ معين، غير أن ممن عرفوا بنظمه أبا جعفر رودكي الشاعر المتوفى سنة 302 حتى أفتن فيه الخيام وأجاده فاشتهر بما نظمه فيه شهرة بعيدة، لأنه ضمنه أفكاراً وانتقادات مرة، ثم اقبل الأدباء عليه من بعده، وقد عارضها في العربية سديد الدين الأنباري كما ذكر صاحب خلاصة الأثر، ( ص390 ج 4 ) ولم يقع لنا شيء من رباعياته. وللدوبيت وزن واحد، وهو فعلن ( بسكون العين ) متفاعلن ( وتارة يغير إلى متفاعيلن )، فعولن ( بتحريك العين وسكونها: وأمثلته كثيرة، وقد يضمنونه أنواعاً من البديع، ومن أكثر الشعراء ولوعاً بذلك، الصفي الحلي، وله في ديوانه منه مقاطيع كثيرة، وللدوبيت باعتبار القوافي خمسة أنواع: الأول يسمونه الرباعي المعرج ويشترط في قوافيه أن يكون بين الثلاثة منها أو بين أربعتها الجناس التام، كقول بعضهم:

يا منْ بسنانِ رمحهِ قد طعنا

والصَّارمُ منْ لحظهِ قطعنا

أرحمْ دنفاً في سنّهِ قد طعنا

في حبكَ لا يصيبهُ قطُّ عنا

والرباعي الخاص، ويشترط فيه أن تكون كل قافيتين متقابلتين بينهما جناس تام، ويقولون إنه مثاله:

أهوى رشاً بلحظهِ كلَّمنا

رمزاً وبسيفِ لحظه كلَّمنا

لو كانَ من الغرامِ قد سلَّمنا

ما كانَ لهُ بيدهِ سلَّمنا

والرباعي الممنطق ومثاله:

قد قدَّ لمهجتي غرامٌ ونشرْ

والقلبُ ملكْ

من كانَ يراكَ قالَ ما أنتَ بشرْ

بلْ أنتَ ملكْ

والرباعي المرفل كقوله:

بدرٌ إذا رأتهُ شمسُ الأفق

كسفتْ ورقى في يوم أحدْ

عوذتُ جمالهُ بربٌ الفلقِ

وبما خلقا من كلَّ أحدْ

وهذان النوعان لا يشترط في قوافيهما الجناس:والخامس الرباعي المردوف، ويحسن فيه التزام الجناس، ومثاله:

يا مرسلاً للأنامِ جاهاً وحمى

ها أنتَ لنا عزَّا وهدى

في أيّ مددْ

يا أفضلَ من مشى بأرض وسما

يا شافعنا في الحشر غدا

غوثاً ومددْ

^

الشعر العامي والمواليا

لا نعرف بالتحقيق أصل الشعر العامي ولا منشأه، ولكن لا نشك أنه قديم، وان ظهوره كان في أواخر القرن الأول للهجرة، بعد ظهور الغناء وانتشاره، لأن طبقات كثيرة من العامة، ومن حكمهم ممن لا لأدب لهم، لا يطربون للغناء في الشعر الفصيح، وخاصة عامة أهل الشام، ولعلهم أصل الشعر العامي في العربية لأن الفصيح استبحر في بلادهم، وهم مع ذلك أسقم الناس السنة، فكان لابد لعامتهم من هذا الشعر، وقد وقفنا على شيء من شعرهم الذي يطربونه له، من ذلك ما رواه صاحب الأغاني في أخبار معبد أنه أشخص إلى الوليد بن يزيد، ثم كان في منزل بعض أهل الشام من ذي الحال الرفيعة وقال في وصف غنائه عنده: فجعلت لا آتى بحسن إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه، وهو لا يحفل لما يرى مني قلما طال عليه أمري، قال: يا غلام، شيخنا شيخنا ! فأتى بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم أندفع يغني:

سلور في القدر، ويلي علوه

جاء القطُّ أكلهْ، ويلي علوه !

والسلور: السمك بلغة أهل الشام، قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجليه طرباً وسروراً. .ا ه ( ص28 ج 1: الأغاني )، وذكر في أخبار حنين الحيري، وكان في أيام عبد الملك بن مروان، أنه خرج إلى حمص يلتمس الكسب بها ويرتاد من يستفيد منه شيئاً، فاجتمع بفتيانها ثم غناهم في هنيات معبد، وغناء الغريض، وخفائف ابن سريج، وأهزاج حكم، وفي غنائه هو، فلم يتحرك منهم أحد ولا فكهوا لذلك، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا، حتى جاء أبو منبه، فخنس حنين وصار كلا شيء، خوفاً منة ورهبة أن يفتضح بإحسانه، قال: فأخذ العود ثم اندفع يغني:

ضرب البحرُ فاعبري يا سفينهْ

لا تشقي على رجال المدينة

فأقبل القوم يصفقون ويطربون ويشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء ( ص123 ج 2: الأغاني ). ولا بد أن تكون مثل هذه الأشعار قد شاعت في العامة يومئذ وجعلوها فنهم، ولكن الأدباء لم يحفلوا بها فلم يصل إلينا من خبرها شيء، ويدل على ذلك ما نقله صاحب الأغاني من مثل ذلك في أخبار إسحاق الموصلي. ثم ظهر بعد ذلك هذا النوع الذي يسمونه المواليا، وقالوا في أصله أقوالاً أشهرها عند الأدباء أن الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، وتنكر لمن يفعل ذلك، فرثت إحدى جواريهم جعفراً بهذا النوع الذي يدخله اللحن ولا يجري على أوزان الشعر، لتتقي بذلك نقمة الرشيد، وجعلت تقول بعد كل شطر: يا مواليا ! فعرف هذا النوع به وتناقله الناس، والذي قالته في ذلك هو:

يا دارُ، أين ملوك الأرض أينَ الفرسُ

أينَ الذينَ حموها بالقنا والتُّرس

قالتْ: نراهمْ رمم تحتَ الأراضي الدَّرسْ

سكوتَ بعدَ الفصاحةِ ألسنتهمْ خرسْ !

الإعراب هذا النوع ملحوناً أبداً كالزجل والكان وكان والقوما، ولكنه يحتمل الإعراب واللحن، ولا يجزون فيه مع ذلك أن يختلط الاثنان في قول واحد فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، فهذا من أقبح العيوب التي لا تجوز، وإنما يكون المغرب منه نوعاً بمفرده، والملحون منه ملحوناً لا يدخله الإعراب ( المستطرف عن كتاب العاطل والحالي ). وللمواليا وزن واحد وأربع قواف، منها واحدة اخترعها صفي الدين الحلي ( المستطرف ) وقد حمله المتأخرون محاسن البديع كما فعلوا بالدوبيت، وحرف المصريون هذه الكلمة بكلمة ( موال ) وأهل الصعيد منهم أشهر الناس الصعيد منهم أشهر الناس بهذه المواويل، وخاصة أهل مديريتي قنا وجرجا، ويقسمون الموال إلى نوعين: أحمر، وهو الذي ينظم في الحماسة والحرب والحكمة، واخضر وهو ما دخل في الغزل والنسيب وما إليهما من الأنواع الرقيقة، وقد يجعلونه مخمساً ومسبعاً، ويسمى النعماني، وذلك كله مأثور بينهم مستفيض في مناقرتهم وقريب منه نوع آخر يسمونه ( فن الواو ) ووزنه كوزن بحر المجتث في الشعر: مستفعلن فاعلاتن، ويكون في أربع شطرات، كل شطرة تسمى في اصطلاحهم فردة، ومنه أحمر وأخضر كما مر في الموال، ولكنهم يسمون المحتوى منه على الجباسات مغلوقاً، والأمثلة في ذلك كله كثيرة ولها رسائل متداولة معروفة.

الزجل

قال ابن خلدون: ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كرمه وترصيع أجزائه، نسجت العامة أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم فجاؤوا فيه بالغرائب، وأتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجبة، وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية، أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بأندلس، ولكن لم تظهر حلاها ولا أنسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين ( أول القرن الثامن ) وهو إمام الزجالين على الإطلاق اه. ورأيت في بعض الكتب أن ابن قزمان هذا أول من تكلم بالزجل، وسبب ذلك أنه وهو في المكتب عشق بعض الصبيان، فرفع أمره لمؤدب فزجره ومنعه من مجالسة الصبي، فكتب في لوحه:

الملاحُ ولاد أماره

ولا وحاش ولاد نصاره

وابن قزمان جا يغفر

ما قبلوا الشيخ غفاره

فاطلع عليه المؤدب فقال: قد هجوتنا بكرم مزجول، فيقال إنه سمي زجلاً من هذه الكلمة. ولست أثبت هذه الرواية ولا أنفيها، إما ابن قزمان فهو الوزير الكاتب أبو بكر ابن قزمان، اشتمل عليه المتوكل على الله صاحب بطليوس في أواخر القرن الخامس، فاقتطع في دولته اسمى الرتب، وهو شاعر بليغ وصفه الفتح ابن خاقان في القلائد بأنه ( مبرز في البيان، وحرز السبق عند تسابق الأعيان ) وقال لسان الدين بن الخطيب: كان ابن قزمان وحده أدباً وظرفاً ولوذعيه. .وكان أديباً بارعاً حلو الكلام مليح النثر مبرزاً في نظم الزجل، قال: وهذه الطريقة الزجلاية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه، وبلغ فيها أبو بكر رحمه الله مبلغاً حجره الله عمن سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها المعلم ( والمبتدي فيها والمتمم ) ص356 ج 2: نفح الطيب. وقد شاعت أزجال ابن قزمان وأولع بها الناس خصوصاً المشارقة، حتى كانت في القرن السابع كما قال ابن سعيد العربي، مروبة في بغداد أكثر مما هي في حواضر المغرب، واشتهر مع ابن قزمان من معاصريه بهذه الطريقة عيسى البليدي، وأبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي، وأبو الحسن المقري الداني وأبو بكر بن مدين، وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، إلا أن إمامهم بن الحاج المعروف بمدغليس، وهو خليفة ابن قزمان في زمانه وقد وقعت له العجائب في هذه الطريقة، وامتاز عن ابن قزمان بصنعة ألفاظه حتى طارت شهرته بذلك، وكان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة ابن تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى ومدغليس ملتفت إلى اللفظ، وكان أديباً معرباً لكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب، اقتصر عليه ( ص237 ج 2: نفح الطيب )، وقد ذهب مدغليس بشهرة القرن السادس، حتى ظهر ابن جحدر الأشبيلي في النصف اللأل من القرن السابع، وكان إمام الزجالين في عصره، ثم كانت الإمامة بعده لإمام الدب أبي الحسن سهل بن مالك، ثم استقل بها في أول المائة الثامنة أبو عبد الله الألوسي، ثم محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، ومعاصره لسان الدين ابن الخطيب الشهير، وفي هذه المائة صارت الطريقة الزجلية فن العامة بالأندلس، واستحدثوا منها نوعاً سموه الشعر الزجلي، وذلك أنهم ينظمون بها في بحور الشعر، لكن بلغتهم العامية، فتجمع وزن الشعر ولحن الزجل على المبالغة المألوفة. أما المشارقة فقد أولعوا بالزجل وأكثروا من أوزانه، حتى قالوا: صاحب ألف وزن بزجال، والمتأخرون من أهل هذا الفن يقولون إنه لم يتصل بهم أكثر من خمسين وزناً، وتفننوا في إيداعه أنواع البديع، ومن أشهرهم في ذلك علاء الدين ابن مقاتل الحموي من أدباء الملك المؤيد صاحب حماة، وقد استشهد ببعض أزجاله ابن حجة في كتابه خزانة الأدب في باب الجناس المقلوب وفي باب التوجيه وغيرهما، ( ص50، 170 ) متابعاً في ذلك الشيخ شمس الدين بن الصانع، فقد ذكر أنه استشهد في شرحه المسمى رقم البردة بشيء من أزجال أهل عصره على بعض أنواع البديع ( 176 خزانه الأدب )، وقلده هو في ذلك ولكنه لم يورد لغير علاء الدين ابن مقاتل، لذهاب شهرته شرقاً وغرباً، وإبداعه في إيداعه، وافتراعه في اختراعه. وللمصريين تاريخ في الزجل، لأن هذه الطريقة توافق في طباعهم من اللين ومشايعة الكلام بشيء من التهكم تبعث عله صفة الفتور الطبيعية فيهم، وهي التي يقال فيها إنها ذوق حلاوة النيل، وقد اخترع المصريون في الزجل نوعين سموهما البليقة والقرقية، قال صاحب كتاب الأقصى القريب، وهو أبو عبد الله محمد التنوخي، في كلامه على الموشحات والأزجال: ومنها قرقيات المصريين وبليقاتهم، والفرق بينهما وبين الزجل أن الزجل متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيباً، والبليقة ليست كذلك، فيجيء فيها المعرب وغير المعرب، ولذلك سميت بليقة، من البلق، وهو اختلاف اللون، وتفارق البليقة القرقية في أن البليقة لا تزيد على خمس حشوات غالباً، وقد تنتهي إلى السبع قليلاً، والقرقية تزيد كثيراً على حكم الزجل في ذلك، وسميت القرقية كذلك من القرقة وهي لعبة يلعب بها صبيان الأعراب، وهذه اللعبة سماها صاحب القاموس: القرق، ووصفها ورسمت خطوطها في تاج العروس، فأنظرها هناك. وقد كان اختراع البليقة في القرن السابع، ثم تبسطوا فيها بعد ذلك فكانت القرقيات، ولا تحقق تاريخها، ولكنها متأخرة عن المائة السابعة حتماً، وقد استدللنا على ذلك بما ذكره صاحب فوات الوفيات إذ قال في ترجمة صدر الدين ابن المرحل المتوفى سنة 716 بالقاهرة، وهو المعروف في كتب الشاميين بابن الوكيل المصري: 4وشعره مليح إلى الغاية )، وكان ينظم الشعر والموشح والدوبيت والمخمس والزجل والبليق )، فلو كانت القرقيات يومئذ معروفة لذكرها وإن كانت من الزجل، فقد ذكر المخمس وهو من الشعر ( ص254 ج 2: فوات الوفيات ). وأشهر نوابغ المصريين في الأزجال من المتقديمن، الغباري الذي نبغ في عهد السلطان حسن، فغن له أزجالاً بعيدة الشهرة بما فيها من دقة الصنعة وإبداع المعاني وكثرة التفنن، وقد رأينا في مجموعة من مدائحه حملاً زجلياً ( أهل هذا الفن يسمون ما يعادل القصيدة في الشعر منه: حملاً ) لرئيس العامة في هذا الفن على عهد محمد علي باشا، وهو محمد الحباك القشاشي، يزاهي 560 بيتاً، مدح فيه أهل مصر على طريقة عامية، وذكر علماءها وأشرافها ومتنزهاتها وعد اكثر أسواقها، لنه من سوق كان يسمى القشاشين ذكره في الزجل، وقال في آخره ما يستدل منه انه يعارض الغباري في حمل له بهذا المعنى، وقال: إن الغباري ما استطاع أن يضبط محاسن مصر فيما وصف، ومما استفدناه من هذه المجموعة، أن للزجل أوزاناً كانت مشهورة، منها وزن: ( أصبحت مصر نزهة للناظرين )، ووزن ( على داري )، ووزن ( في الهند مكتوب ) وللمتأخرين من عوام العصر مثل هذه الأوزان أيضاً، ويعدون منها ( بفته هندي يا بنات ). ولم يزل فن الزجل مشهوراً بمصر إلى عهدنا، ولأهله فيه إحسان كثير وهم يرتجلونه ويحاصرون به، وقد ذكر الأديب عبد الله نديم المصري الشهير في مجلة الأستاذ واقعة في المساجلة بالزجل مع بعض رؤساء الفن من العامة، وكان الشرط أن من تلعثم أو استبلغ الآخر ريقه يبتغي بذلك مهل البديهة وخلسة الفكر فهو المغلب، وذكر هناك بعض الأوزان التي أخذوا فيها، فأرجع إليها فإنها عجيبة. والزجل اليوم أحد أنواع الشعر العامي الباقية لعهدنا، وقد اختص به المصريون فيقال: الزجل المصري، كما يقال: المعنى السوري، والزهيري البغدادي. ومما نوفي به فائدة هذا الفصل، أن ظرفاء المصريين يقولون في الفنون السبعة التي نكتب تاريخها: ( السبعة وتمتها ) ويريدون بهذه ( التمة ) فن الواو الذي ذكرناه وأبحراً أخرى ينظمون عليها العامية في أوزان خاصة، يعارضون بها أسماء البحور الشعرية، ومنها المستطيل في معارضة الطويل، والممتد في معارضة المديد، والمتوفر في معارضة الوافر، وغير ذلك مما يبعث عليه الظرف المصري، وهو بجملته معدود من الزجل فلا حاجة إلى إيراد أنواعه وأمثلته.

فنون أخرى:

قال ابن خلدون بعد كلامه على الأزجال: ثم استحدث أهل الأمصار بالغرب فناً آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسموه عروض البلد، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب، مطلعها:

أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام

على الغصن في البستان قريب الصباح

فاستحسنه أهل فارس وأولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم وفرعوه أصنافاً إلى المزدوج والكاري والملعبة والعزل، واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. .الخ ( انظر ص348 وما بعدها: مقدمة ابن خلدون ). ونقل قطعة كبيرة من هذه الملعبة نشبه الشعر التارخي المعروف بالقصصي، حتى ذهب بعض المتأخرين إلى أن أمثال هذه الملاعب تعتبر نوعاً من الشعر القصصي وغن كانت عامية.

الأصمعيات والبدوي:

وذكر ابن خلدون أيضاً أن العرب المستعجمين عن لغة سلفهم من مصر يقرضون لعهده الشعر في سائر الأعاريض على ما كان سافهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات. .الخ ( ص333: مقدمة ابن خلدون ) وقد أورد في مقدمته بعض قصائد أمثلة على ما ذكر.

كان وكان والقوما:

وهما كما قال أصحاب الفنون فرعان من الزجل، وإنما أفردوهما نوعين لتغيرات فيها لا تكون في الزجل، أما الأول فلا نعرف من تاريخه شيئاً، وله وزن واحد وقافية واحدة، ويستعملون كثيراً في الوعظ ونحوه من المعاني التي تدخل فيها الحرفة والحدة ونحو ذلك، كقول بعضهم:

ما ذقت عمري جرعة

أمر من طعم الهوى

الله يصبر قلبي

على الذي يهواه

وأما القوما فقيل إن أول من اخترعه ابن نقطة برسم الخليفة الناصر، والصحيح أنه مخترع من قبله، وإنما كان الناصر يطرب له فاشتهر في زمنه، وهو من اختراع البغداديين، قيل كانوا ينشدونه عند السحور في رمضان كما يفعل المسحرون بالقصص والأديعة لعهدنا، وسمي بذلك من قول المغنيين ( قوما نسحر قوما ) وجعلوه على وزن هذه الكلمات الثلاث، ثم فرعوا فروعاً دعوها الزهري والخمري وغيرهما على حسب المعاني التي ينظمون فيها، ومن هذا النوع ما نظمه الصفي الحلي يسحر بع بعض الخلفاء:

لا زال سعدك جديد

دائم وجدك سعيد

( ص254 ج 2: المستطرف )

الحماق:

وهو نوع قد يدخلونه في الزجل، ولكن أكثرهم على أنه منفرد، وهم ينظمونه قطعاً، كل بيتين من القطعة في قافية ( انظر ص255 ج 2: المستطرف ).

العامي الغريب:

وهو نوع من النظم نشير إليه استطراداً نلم به تفكهة وتملحاً، وذلك أن ( اللغويين ) من أدباء العامة يخترعون ألفاظاً غريبة لا تجري على وزن ولا تدخل في لغة، ثم ينظمونها معاياة بها في الحفظ، أو إعراباً في التفكهة، أو مبالغة في التشدق والتقعير، كالقصيدة التي أوردها صاحب كتاب إعلام الناس ونسبها للأصعمي، وقصتها هناك فأرجع إليها، وهي من تكاذيب الظرفاء وباطل المنحول. ورأينا في كتاب ( نفحة اليمن ) للأنصاري أنه اجتمع في بلدة كلكتة سنة 1222 ه برجل من العرب اسمه جواد ساباط وقد ارتد عن الإسلام وسمي ناثائيل ساباط، وهو واحد فيما يرويه من المضحكات والعجائب، قال: ولع نظم على أسلوب أبي الهميسع المنسوب إليه لفظ ( جحلنجع ) وذكر هناك بعض شعره، ومنه قصيدة شينية يقول فيها:

بهشوا الخرباش عنه برخشوا

طسعوا عن دارميَّ حين تشُّوا

وذلك يدل على أن أبا ألهميسهع كان متميزاً بهذه الطريقة، وقد أولع بها أهل التقعير من المتأخرين، ومنها قول بعضهم ضبطناه بإملائه:

يا سائلي عن حبلطنج عجرفت

عجفتاه فتاه تم كالعنبعلص

ولا نشك في أن هذه القافية في معارضة كلمة أبي الهميسع التي ذكرها الأنصاري وأول من ابتدأ هذه الطريقة من الفصحاء بشار بن برد أبو المحدثين كان يجيء بالكلمات اليسيرة التي لا حقيقة لها فيحشو بها شعره ليتناذر بذلك، ومنه ما حكاه قال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم مت ؟ ألم أكن أحسن إليك ؟ فقال:

سيدي خذْ بي أتاناً

عند باب الأصبهاني

تيمتني ببنان

وبدل قد شجاني

ولها خدٌ اسيلٌ

مثل خدِّ الشيفران

فقال له بعضهم: ما الشيفران ؟ قال: ما يدريني ؟ هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله ( ص64ج3: الأغاني ) ثم استطرف الناس منه ذلك فمروا فيه حتى بلغ مبلغه في المتأخرين، والله أعلم. ^

الباب السادس في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي