تاريخ آداب العرب (الرافعي)/تمهيد

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

تمهيد

تمهيد

الفصل الأول: الأدب

الأدب - تاريخ الكلمة

تقبلت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي ؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب ؛ ومنه الحديث الشريف: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ولعل ذلك كان توسعاً منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم على اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض ؛ فإنهم يقولون: أدب قوم يأدبهم أدباً إذا دعاهم إلى طعام يتخذه.والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب من نسيمها وطلعها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله ؛ ولذلك تمدحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم ؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في اخلاقهم، إذا ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يوثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات. فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني إنسانية عندهم، لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحية غاية - توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفاً نفسياً كما مر ؛ ولابد أيكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سبباً في انتباههم إلى هذا الوضع، لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحاً وراثياً. . . ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن دين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة معلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، اطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعاً ثانياً في مدلول الأدب لأنه اكتسب معنى علمياً إذا صار أثراً من آثار التعليم. ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح ؛ وهذا هو الدور الثلاث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها. وقال ابن خلدون في حد الأدب: ( هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة ومسائل في اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليفهم به ما يقع في أشعارهم منهان وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة.والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . .ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف ). فهذا كما ترى ثبت لما قررناه، لأن كل ما عدوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهلياً، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول، لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرمين ولا المحدثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها أتصلت بهم أو كانت منهم بسبب.والعجب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب مشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره. بلى، قد روى صاحب ( العقد الفريد ) في باب الأدب من كتابه كلمة أسندها لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وهي قوله: ( كفاك من علم الدين ( أن تعلم ) مالا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي المشاهد والمثل ) ومقتضى ذلك أن ( علم الأدب ) كان بالغاً من الأتساع في عهد ابن عباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه الرواية الشاهد والمثل للقرآن والعربية، وهو نهاية الغرابة والشذوذ، لأن ابن عباس توفي فيما بين سنة 68 و 74 ه، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب. وقد تنقل المتأرخون هذه الرواية عن ( العقد الفريد ) دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان.ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية ؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين وتوفي سنة125 وقيل 126،ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلساً كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر.ولو كان لفظ الأدب معروفاً يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث ؛ فالكلمة إذاً من موضوعات القرن الثاني، أي بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي. أما في القرن الأول فقد كانوا يسمون ما يقرب من ذلك ب ( علم العرب ) كما ذكره المسعودي في ( مروج الذهب ) إذ نقل عن المدائني حديثاً تصادر عليه ابن عباس وصعصعة بن صوحان، وفيه أن ابن عباس بعد أن سأل الرجل عن قومه وعن الفارس فيهم ونحو ذلك مما يتعلق بالأيام والمقامات قال: أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب وما كان الأدب الاصطلاحي بأكثر من هذا العلم يومئذ. وبعد أن عرف حدود الأدب في القرن الثاني واشتهرت الكلمة، بقية لفظة ( الأدباء ) خاصة بالمؤدبين، لاتطلق على الكتاب والشعراء، واستمرت لقباً على أولئك إلى منتصف القرن الثالث، ومن ذلك كان منشأ الكلمة المشهورة ( حرفة الأدب ) وأول من قالها الخليل بن أحمد صاحب العروض المتوفى سنة 175 ه،وذلك قوله كما جاء في ( المضاف ) والمنسوب للثعالبي: ( حرفة الأدب آفة الأدباء )، لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم ولا يؤدبون إلا ابتغاء المنالة، وذلك حقيقة معنى الحرفة على إطلاقها. فلما فشت أسباب التكسب بين الشعراء في القرن الثالث، وبطلت العصبية التي كانت تجعل للشعر معنى سياسياً فاتخذوه حرفة يكدحون بها وجعلوه مما يتذرع به إلى أسباب العيش، من جائزة خليفة أو منادمة أميلر أو مادون ذلك أيها كان - أنتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة، ولم يلبثوا أن استأثروا به لتويعهم في تلك الأسباب. ثم جاء ابن بسام الشاعر المتوفى سنة 303 فجعل ( الحرفة ) نبزاً، وأخرجها عن وضعها اللغوي إلى معنى مجازي غلب على حقيقتها واستبد بها فأرسلها مثلاً. وذلك فيما رثى به عبد الله بن المعتز حين قتل في سنة 296 ودفن خربة بإزاء داره بعد جلال الإمارة وعزة الملك إذ يقول:

للهِ درّكَ من ميتٍ بمضيعةٍ

ناهيكَ في العلمِ و الآدابِ والحسبِ

ما فيهِ لوٌّ ولا ليتٌ فتنقصهُ

لكنّما أدركتهُ ( حرفة الأدب )

وهذا هو أصل الكلمة التي تعاورها الأدباء واعتبرها الشعراء ميراثاً دهرياً إلى اليوم، وإنما تناولها ابن بسام من لغة العامة، وطبعها على شيء من عبث أخلاقه التي بلغت من هجاء الأمراء والوزراء وذوي المكانة من الناس إلى هجاء أبيه وإخوته وسائر أهل بيته حتى سنها طريقة، فيقال لمن يقفو أثره في عبث اللسان: ( إنه يجري في طريق ابن بسام ). ث صارت الآدباء من يومئذ تطلق أيضاً على فنون المنادمة وأصولها، وأحسب ذلك جاء من طريق الغناء ؛ إذ كانت تطلق أيضاً عليه في القرن الثالث لأنه بلغ الغاية من إحكامه وجردت فيه الكتب وأفردت له الدواوين من مختارات الشعر، كما سنفصله في موضعه، وكانوا يعتبرون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى فنون الآداب، وفيها وضع عبيد الله بن الطاهر من ندماء الخليفة المعتضد بالله المتوفى سنة 289 كتابه ( الآداب الرفيعة ).لذلك قال بن خلدون: ( إن الغناء في الصدر الأول كان من أجزاء هذا الفن ( الأدب ) وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه ).وقد ألف كشاجم الشاعر الرقيق الذي كان طباخ سيف الدولة ابن حمدان كتابه ( أدب النديم ) أودعه ما لا يستغني عنه الشريف، ولا يجوز أن بخلبه ظريف ؛ وهو مطبوع مشهور.وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن الشجري من شعراء القرن الرابع أيضاً، وقد جمع ( حرف ) الآداب:

إن شئتَ تعلمُ في الآدابِ منزلتي

وأنّني قد عداني العزُّ والنّعمُ

فالطّرفَ والسيفُ و الأوهاقُ تشهدُ لي

والعودُ والنّردُ والشّطرنجُ والقلمُ

وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلديين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على اصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:

وإنّي على ما كانَ من عنجهيّتي

ولوثةِ أعرابيّتي لأديبُ

ولم ينتصف القرن الرابع عشر حتى كان لفظ ( الأدباء ) قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيته الشعراء والكتاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذ وتخصص الطبقات بها، على ما كان من ضعف الرواية ونضوب مادتها حتى قالو: ( ختم تاريخ الأدباء بثعلب والمبرد ) وكانت وفاة المبرد سنة 258 وثعلبة سنة 291 ؛ فيون ختام تاريخ الأدباء ( أي المعلمين ) في أواخر القرن الثالث، ومنيومئذ أخذ الأدب يتميز عن علم العربية، بعد أن كانوا يعدون ( الأدباء ) أصحاب النحو والشعر، وإن كان ذلك بقي موضوع علم الأدب ؛ ومن هذا أنه لما وضع علي بن الحسين المعروف بالباخرزي كتابه ( دمية القصر ) الذي جعله ذيلاً على اليتيمة للثعالبي، عقد فيه فصلاً ( لأئمة الأدب ) قال في أوله: ( هؤلاء قوم ليس لهم في الدواوين الشعر رسم، ولا في قوانين الشعراء اسم ) ثم ترجم طائفة من علماء اللغة: كأبي الحسين بن فارس صاحب فقه اللغة، وابن جني النحوي، وأسد العامري، والجواهري صاحب الصحاح، وتلميذه أبي صالح الوراق، فدل صنيعه على أن الشعراء يومئذ كانوا هم المستبدين بلقب الأدباء، ولا يزالون على ذلك إلى اليوم وإلى ما شاء الله، لأن معنى الأدب قد استحجر فعاد لغوياً كأنه كذلك في أصل الوضع، من جهة الدلالة به على الشعراء والكتاب.

المؤدبون

رقد أشرنا إلى المؤدبين فيما سبق، ونحن ذاكرون طائفة منهم تتبعنا أسماءهم فيما بين أيدينا من كتب الأدب والتاريخ ؛ لأنهم كانوا مادة هذه الكلمة وإنما قيل لهم المؤدبون تميزاً لهم من المعلمين الذين اختصوا بإقران صبيان العامة في الكتاتيب، فإن هؤلاء لم يكن يطلق على أحدهم إلا لقب المعلم، وقد جعلوهم مثلاً في الحمق حتى قالوا: ( الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين ) ثم جعلوا الحاكة والغزالين أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى. . .لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، وليس عند هؤلاء صواب جيد في مقال ولا فعال، فبقي الحمق في عرفهم خاص بالمعلمين. أما المؤدبون فهم الذين ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة أو أولاد الملوك المرشحين للخلافة، وأخذهم بفنون الآداب: كالخبر والشعر والعربية ونحوها، ولذلك يسمونها ( علوم المؤديين ). قال الجاحظ: ( مر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم ! علم المؤدبين وهمة المحتاجين ). على أن المؤدبين كانوا على ضربين: أصحاب العلوم، وأصحاب البيان وكانوا يخصون هؤلاء بالأثرة، قال ابن عتاب: ( يكون الرجل عروضياً، وقساماً فرضياً وحسن الكتابة جيد الحسا، حافظاً للقرآن راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهماًن ولا أن رجلاً كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرضى بألف درهم ).ومن ثم اختص مشاهير العلماء والرواة بتأديب أولاد الخلفاء والأمراء. فمن المؤدبين أبو معبد الجهني، وعامر الشعبي، كانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان، وهما أقدم مؤدبين فيما وقفنا عليه ؛ ويزيد بن مساحق، أدب الوليد بن عبد الملك أيضاً ؛ وعبد الصمد بن الأعلى، أدب الوليد بن يزيد، وأدب ولد عتبة بن أبي سفيان ؛ وصالح بن كيسان، أدب بني عمر بن عبد العزيز ؛ والجعد بن درهم، كان يعلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ؛ والشرقي بن القطامي، كان يؤدب المهدي بن المنصور ؛ وأبو سعيد المؤدب، كان يؤدب موسى الهادي ؛ ومحمد بن المستنير المعروف بقطرب، كان يؤدب المهدي ؛ وأبو عبيدة كان يؤدب الرشيد ؛ والأحمر النحوي كان يعلم الأمين، ثم أدبه الكسائي ؛ وفي ( طبقات الأدباء ) أن الكسائي كان يؤدب الرشيد أيضاً.واليزيدي النحوي، كان كان يؤدب المأمون والفراء كان يؤدب ولدي المأمون، وقيل إنه نهض يوماً لبعض حوائجه فابتدر إلى نعله ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها، ثم اصطلحا على أن يقدم كل منهما واحدة، ورفع ذلك إلى المأمون فاستدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس ؟ قال: لا أعرف أحداً أعز من أمير المؤمنين ! فقال المأمون: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى صار يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فرداً ! فقال يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك لكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقاً إليها، أو أكسر نفسيهما عن شريفة حرصاً عليهما. . .الخ. وكان المفضل الضبي يؤدب الواثق، وألزم المتوكل يعقوب بن السكيت المتوفى سنة 244 يأديب ابنه المعتز، فقالوا: فلما جلس عنده قال له: يا بني، بأي شيء يحب الأمير أن يبدأ من العلوم ؟ قال: بالانصراف. . .ثم اختار المتوكل لتأديب المعتز وأخيه المنتصر - أبا جعفر ابن ناصح، وأبا جعفر بن قادم، ومن ذلك العهد بدأ لقب المؤدب ينزل عن رتبته، إذ كانت العجمة قد فشت وضعفت النزعة العربية في الدولة، فختم تاريخ الأدباء - كما قيل - بثعلب والمبرد اللذين تخرج عليهما عبد الله بن المعتز، أما مؤدبه فكان أبا جعفر بن عمران الكوفي. وقد ضربنا صفحاً عن أدباء المعلمين ممن درسوا أولاد الخاصة والأمراء، لأن فيما قدمناه كفاية على برهان ما ذهبنا إليه.

علوم الأدب وكتبه

كان الأدب - كما أسلفنا - مجموع المؤدبين، فلا جرم حدوه كما رأيت فيما نقلناه عن ابن خلدون، وهو حد يطابق أمرهم كل المطابقة، فلما أرادوا تعيين هذه العلوم، نظروا في غرض الأدب فجعلوا له غرضين: أحدهما: يقال له الغرض الأدنى، والثاني الغرض الأعلى، فالأول: أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوة يقدر بها على النظم والنثر، والغرض الأعلى أن يحصل المتأدب قوة على فهم كتاب الله - تعالى - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابة، ويعلم كيف تبنى الألفاظ الواردة في القرآن والحديث بعضها حتى تستنبط منها الأحكام وتفرع الفروع وتنتج النتائج وتقرن القرائن على ما تقتضيه معاني كلام العرب ومجازاتها.قال البطلوسي - وهو الذي ننقل عنه هذه الكلمات من ( شرح أدب الكاتب ) -: ( والشعر عند العلماء أدنى مراتب الأدب ).ثم أنظروا في تعيين العلوم التي تفضي إلى هذه المقاصد، فاختلفوا فيها، ولكنها في جملة كانت العلوم العربية، ولم يعينها أحد إلى أواخر القرن الخامس فلما أنشأت المدرسة النظامية ببغداد، أنشأها نظام الملك - وزير ملك شاه السلجوقي - المتوفى سنة 485، اختير لتدريس الأدب فيها أبو زكرياء الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502 وهو من أئمة اللغة والنحو، ثم درسه بعده علي بن أبي زيد الفصيحي، وكان نحوياً ثم عزل ( لتهمة التشيع ) بأبي منصور الجواليقي.وتعاقب هؤلاء المدرسين جعل للأدب موضعاً معيناً كان لا يزال مقرراً عند العلماء إلى آخر القرن السادس، على ما ذكره ابن الأنباري المتوفى سنة 577 في ( طبقاته )، فإنه لما ترجم هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: ( إنه كان عالماً بالنسب، وهو أحد علوم الأدب ؛ فلذلك ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب، وأنسابهم. . .( ثم قال ): وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما: علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو ). إلا أن الزمخشري المتوفى سنة 538 أراد أن يجعل للأدب حداً علمياً من الحدود - الجامعة المانعة - على طريقة المتكلمين، فعرف علوم الأدب بأنها علوم يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظاً وكتابة، وجعلها اثني عشر، منها أصول لأنها العمدة في ذلك الاحتراز، وهي: اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع ( وجعلوه ذيلاً لعلمي المعاني والبيان داخلاً تحتهم ) والعروض والقوافي. منها فروع، وهي: الخط - أي الإملاء - وقرض الشعر، والإنشاء، والمحاضرات، ومنه التواريخ. وهذا التقسيم هو المعروف عند العلماء إلى اليوم. وقال صاحب نفح الطيب: ( إن علم الأدب في الأندلس كان مقصوراً على ما يحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات، قال: وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل ). أما كتب الأدب فهي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت، بيد أن أهل اللغة كانوا ينتحلون لفظة الأدب في تسمية كتبهم الخاصة بأوضاع اللغة وشواهدها، لأن اللغة أصل المادة، فمن ذلك: ديوان الأدب، وكتاب ديوان العرب وميدان الأدب، وروض الأدب، ومفتاح الأدب، وسر الأدب، ومقدمة الأدب، وعنوان الأدب، وكلها في اللغة ذكر صاحب ( كشف الظنون ) وغيره، وبعضها موجود، كديوان الأدب للفارابي، ومقدمة الأدب للزمخشري، ومن هذا القبيل ( أدب الكاتب ) لابن قتيبة ولابن دريد ولابن النحاس وغيرهم. أما الكتب التي هي من شروط الأدب فكثيرة، وأصولها كما قال ابن خلدون: أربعة دواوين، وهي: ( أدب الكاتب ) لابن قتيبة، وكتاب ( الكامل ) للمبرد، وكتاب ( البيان والتبيين ) للجاحظ، ( وكتاب النوادر ) لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربع فتتبع لها وفرع عنها.قسطه إن شاء الله. وإنما عدت هذه الأربع أصولاً لأنها تدور على فنون الرواية، وقد وضعت كتب كثيرة، وأشهرها كتاب ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه الأندلسي وكتاب ( الأغاني ) لأبي الفرج الاصبهاني، وهو كتاب الذي استوعب فيه أخبار العرب وأنسابهم وأشعارهم ودولهم، فكان أفضل ما يتأدب به في العربية، وكثرت كذلك كتب الأمالي والتذاكر، وأعظمها ( أمالي ) ابن الشجري، وتذكرة الصلاح الصفدي، وللكلام في ذلك موضع نتولى فيه بسطه ونفيه قسطه إن شاء الله. ^

الفصل الثاني

العرب

هم جيل من الناس تدلت عليه الشمس منذ القدم في هذه الجزيرة التي كأنها قطعة انخزلت من السماء مع الإنسان الأول، فلا يزال أهلها أبعد الناس منزعاً في الحرية الطبيعية، وأشدهم منافسة في مغالبة الهم، كأنما ذلك فيهم ميراث الطبيعة الأولى، فهم منه ينبتون وعليه يموتون. سكان الفيافي وتربية العراء، ينبسطون مع الشمس ويفيئون مع الظل ويطيرون في مهب الهواء ؛ بل أولاد السماء، ما شئت من أنوف حمية، وقلوب أبية، وطباع سيالة، وأذهان حداد، ونفوس منكرة ؛ وقد أصبحت بقاياهم الضارية في بوادي العربية ومصر وسورية بهذا العهد، موضع العجب لأهل البحث من علماء الطبائع، حتى أجمعوا على أنه لا ند لهذا الجنس في جميع السلائل البشرية، من حيث الصفات التي تتباين فيها أجناس البشر خلقاً وخلقاً، وحتى صرح بعضهم بأن هذه السلالة تسمو على سائر الأجيال، بالنظر إلى هيئة القحف وسعة الدماغ وكثرة تلافيفه وبناء الأعصاب وشكل الألياف العضلية والنسيج العظمي وقوام القلب ونظام نبضاته.فضلاً عما هي عليه من ملاحة السحنة وتناسب الأعضاء وحسن التقاطيع ووضوح الملامح، وفضلاً عما في طباعها من الكرم والأنفة والأريحية وعزة النفس والشجاعة. لا جرم كانوا أهل هذه اللغة المعجزة التي ناسبتهم بأوضاعها في معاني التركيب، حتى كأنما كتب لها أن تكون دين الألسنة الفطري، لتصلح بعد ذلك أنتكون لسان دين الفطرة.

بلاد العرب

الصحراء العربية شبه الجزيرة موقعها إلى الطرف الجنوبي من قارة آسيا، ويحدها من الشمال سورية، ومن الشرق الفرات حتى مصبه في الخليج العجم وجهة من بحر الهند أيضاً، ومن الغرب البحر الأحمر، وكانوا يدونها قديماً بأنها من بحر القلزم ( الأحمر ) إلى بحر البصرة، ومن أقصى الحجر باليمين إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام ؛ ثم يقسمونها معتبرين الأصل في ذلك جبل السراة الذي تبتدئ سلسلته في اليمن وتمتد شمالاً إلى أطراف بادية الشام، فتجعل الصحراء العربية شطرين: غربياً وشرقياً، ينحدر الغربي من سفح ذلك الجبل حتى يصل إلى الشاطئ البحر وقد صار هابطاً، فيسمونه لذلك: الغور وتهامة، ويرتفع الشرقي إلى أطراف العراق والمساوة، فيسمونه نجداً - ومن هذا قولهم: أغار وأنجد - ويسمونهما فصل بين تهامة ونجد، بالحجاز، لأنه يحجز بينهما، ثم يسمون ما ينتهي به بنجد في الشرق حتى يصل إلى خليج فارس من بلاد اليمامة والبحرين وعمان وما إليها - بالعروض، لاعتراضها بين اليمن ونجد ؛ ويسمون القسم الجنوبي مما وراء الحجاز، باليمن، لوقوعه عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق. فالصحراء العربية عندهم خمسة أقسام كبيرة ؛ اليمن: وهو إلى الجنوب، يحده البحر من ثلاث جهات، ويحد من الجهة الرابعة بتهامة واليمامة والبحرين.ومن هذا القسم حضرموت وعمان والشحر ونجران. وتهامة: وهي شمال اليمن وإلى شرق البحر الأحمر وغرب الحجاز. والحجاز: وهو جبال انتثرت فيها المدن والقرى، وأشهر مدنه مكة والمدينة. ونجد: وهو بين الحجاز والعراق العربي غرباً وشرقاً، وبين اليمامة والشام جنوباً وشمالاً وهذا القسم أطيب أرض في بلاد العرب، ولذا كانت بواديه من معادن الفصاحة. واليمامة، وهي بين اليمن ونجد جنوباً وشمالاً، وبين الحجاز والبحرين غرباً وشرقاً. وأحسن ما انتهى إلينا مما هو خاص بوصف البلاد العربية على نحو عهدها الجاهلي، هو كتاب صفة جزيرة العرب للهمذاني المعروف بابن الحائك المتوفى سنة 334، فقد رحل إليها ووصفها كما رآها واستقصى في ذلك وبالغ إلى حد التحقيق.

أصل العرب

ليس من شأننا في هذا الكتاب أن نستغرق ما قيل عن العرب وأصلهم ومنشئهم، وما حققه من ذلك علماء البحث من المتأخرين الذين استثاروا الدفائن واستنطقوا الآثار واستخرجوا تاريخ الحياة من القبور، ولا شك أن نستوفي المعاني الاجتماع العربي مما يدخل في العادات والأديان ونحوها فذلك مما يحتمل المجلدات الكثيرة وهو منحى تبعد الصلة بينه وبين ما نحن بسبيله من آداب اللسان ولذلك نلم بهذا المعنى مكتفين منه بما إليه الحاجة التحديد وما توفى به فائدة هذا التمهيد. العرب أحد الشعوب السامية نسبة إلى سام بن نوح وهي من الأمم التي ذكرت التوراة أنها من نسله وتسمى لغتها بالسامية أيضاً كالعربية والعبرانية والسريانية والحبشية والآرامية وغيرها وهي تسمية استحدثها بعض المتأخرين من علماء اللغات. وقد اختلف الباحثون في منشأ تلك الشعوب الذي امتهدته وتفرقت منه فذهب بعضهم لإلى أن مهد الساميين الحبشة في أفريقيا وقال آخرون: بأن مهدهم جزيرة العرب.والقائلون بهذا الرأي أكثر من نفراً وأعز أنصاراً ولهم في ذلك آراء أخرى متنوعة الأدلة ولكن مما لا يمترون فيه أن العربية أبعد آفاق التاريخ التي أضاء فيها كوكب حضارة المشرق، وقد تحققوا ذلك بما اكتشفوه سنة 1901 للميلاد في بلاد السوس من آثار دولة حمورابي وهي المسلة التي دونت عليها الشريعة البابلية في 282 نصاً، وما ثبت لهممن أن هذه الدولة عربية، وهي تبتدئ سنة 2460ق.م.وبهذا الاكتشاف قضي على للجنس العربي أنه أسبق الأمم إلى وضع الشرائع، وأنه بلغ طبقه عالية في الحضارة سقطت دونها الشعوب القديمة ؛ بل يذهب الأستاذ صموئيل لا ينج في كتابه ( أصل الأمم ) إلى أن الساميين استوطنوا بلاد العرب وأنهم حيثما وجدوا في غيرها فهم غرباء، وأن تقدمهم في الحضارة معرق في القدم، ربما كان الزمن تحول إلى العصر الحجري، فتحولوا يومئذ عن الصيد والقنص إلى الزراعة والصناعة، وهو يشير بذلك إلى ( الدولة المعينية ) التي جاء ذكرها في سفر الأخبار الثاني - الإصحاح 26 عدد7 ؛ وقد عثر الباحثون على أمة بهذا الاسم ذكرت في أقدم آثار بابل سنة 3750ق.م.على نصب من أنصاب النقوش المسمارية. وبالجملة فإن أصل العرب من أصول التاريخ الإنساني التي ألحقها الله بغيبه فلا يجليها لوقتها إلا هو، ( وفوق كل علم عليم ).

طبقات العرب

( ذهب ) المؤرخين على أن العرب قسمان: بائدة، وباقية ؛ ويسمون البائدة بالعرب العاربة، على التأكيد للمبالغة - كما يقال: ليل لائل، وصوم صائم، وشعر شاعر: يؤخذ من لفظه فيؤكد به - وذلك لرسوخهم في العروبية كما يقولون. ويقسمون الباقية إلى قسمين: يسمون الأمل بالعرب المستعربة، لأنهم ليسوا بصرحاء في العروبة ولا خلصاً، بل هم استعربوا بانتقال الصفات العربية إليهم ممن قبلهم وهم بني حمير بن سبأ ؛ ويسمون القسم الثاني بالعرب التابعة للعرب، وهممن قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين: ربيعة ومضر. وقد يقسمون العرب إلى ثلاث طبقات: بائدة، وعاربة، ومستعربة ويريدون بالبائدة بالقبائل الهالكة، وبالعاربة عرب اليمن ومن ولد قحطان، وبالمستعربة أولاد إسماعيل - عليه السلام -، لأنه كان عبرانياً فاستعرب بعد أن اتصل بجرهم الثانية من ولد قحطان وأصهار إليهم. وقد يطلقون على أنفسهم على القسم الأول من قسمي العرب الباقية: القحطانية، السبئية، والحميرية والكهلانية واليمنية والكلبية.وعلى القسم الثاني: الإسماعلية، العدنانية والمعدية والمضرية والقيسية.

العرب البائدة:

وهذه يريدون بها القبائل التي بادت واندثرت أخبارها فلم يقع إلى التاريخ شيء منها وهي: عاد ومسكنهم الأحقاف وثمود في الحجر وأميم: في بادية أبار بين عمان والأحقاف.وعبيل: في يثرب.وطسم وجديس: ومسكنهم اليمامة.والعمالقة: وهم قبائل عدة مساكنهم عمان والحجاز وتهامة وبطره - وهي التي سماها اليونان بالعربية الصخرية، غير البتراء المذكورة في سيرة ابن هشام - وفلسطين، وجاسم: وهي قبيلة تفرعت من العماليق.وجرهم الأولى: ومسكنهم باليمن - ومن بقايا جرهم الثانية الذين هاجروا إلى مكة وتزوج منهم إسماعيل - عليه السلام - ثم ألحدوا في الحرم فنزل بهم العذاب - ووبار: ومسكنهم أرض وبار باليمن. ومما نذكره للدلالة على بعض مزاعم بعض العرب في آثار القبائل البائد، ما حكاه الجاحظ في ( الحيوان ) قال: ( زعم أناس أن من الإبل وحشياً. . .فزعموا أن تلك الإبل تسكن أرض وبار، لأنها غير مسكونة، ولأن الحيوان كلما اشتدت وحشية كان للخلاء أطلب، قالوا: ربما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض فيضرب في أدنى هجمة من الإبل الأهلية، فالمهرية من ذلك النتاج.وقال آخرون: هذه الإبل الوحشية. . .من بقايا إبل وبار.فلما أهلكهم الله تعالى. . .بقيت إبلهم في أمكنهم التي لا يطرقها أحد، فإن سقط إلى تلك الجزيرة بعض الخلعاء أو من أضل الطريق، حثا الجن في وجهه، فإن ألح خبلته )وقد حقق أهل البحث من المتأخرين شيئاً من تاريخ بعض القبائل البائدة، وعينوا أزمنتها، مستندين في ذلك إلى التوراة، وما ذكره قدماء الجغرافيين، ثم إلى ما اكتشفوه آخراً من الآثار في طرفي الجزيرة ؛ وليس ذلك من غرضنا فنكتفي بالإماء إليه.

القحطانية

مهم عرب اليمن، ينسبونهم إلى يعرب بن قحطان، وهو المذكور في التوراة باسم ( يارح بن يقطان ) وقحطان عند نسابة العرب بن عابر شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. ويعرب هذا هو الذي يزعم العرب أنه أصل اللغة الفصحى، قال حسان بن ثابت:

تعلمتمُ من منطقِ الشّيخِ يعربِ

أبينا، فصرتم معربين ذوي نفرِ

وكنتم قديماً ما بكم غيرَ عجمةٍ

كلامٌ، وكنتم كالبهائمِ في القفرِ

وفي تاريخ هذه الطبقة القحطانية عند العرب تخليط كثير لا سبيل إلى تخليص الحقيقة منه، وقد عرف أهل البحث من علماء المتأخرين - بما أصابوه من الآثار في أطلال اليمن وبعض أطلال أشور وغيرها - أنه قامت في اليمن ثلاث دول كبرى كلها ذات شأن: وهي المعينية، السبئية، الحميرية.والمعينيون أبعد في القدم من قحطان، ولم يعرفهم مؤرخو العرب ولا عرفوا الدولة السبئية ؛ وهم يرمون مع ذلك تاريخ الحميرية بالسقم والتفكيك لأنهم كانوا في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة.

الإسماعيلية:

ويبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ولكن العرب لم يفيضوا في أخبارهم إلا حوالي التاريخ المسيحي، أي من نحو سبعة قرون قبل الهجرة ؛ ومنازلهم شمالي بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجد وما وراء ذلك شمالاً إلى مشارف الشام وإلى العراق، وهم ينتسبون إلى إسماعيل - عليه السلام - وخبر نزوله بالحجاز مذكور في التوراة، وقد تزوج هناك برعلة بنت مضاض أحد ملوك جرهم، وهي القبيلة التي ذكر جدها في التوراة باسم ( ألموداد ). وأشهر من يعرفه العرب من أعقاب إسماعيل: ( عدنان ) وهم مختلفون في عدد الآباء بينهما، فيعدون من خمسة عشر إلى أربعين أباً، وإلى عدنان ينتهي النسب الصحيح المجمع عليه الذي لا يتجاوزونه في عمود النسب النبوي. وكان عدنان في القرن السادس قبل الميلاد، إذا صحت رواية ابن خلدون من أنه لقي بختنصر في غزواته للعربية بذات عرق، وقد خرج منه عك ومعد، وهما فرع العدنانية، ونزلت عك نواحي زبيد إلى الجنوبي تهامة، وبقية منها بقية إلى الإسلام. أما معد فهو البطن العظيم الذي تناسل منه عقب عدنان على ما هو مفصل في مواضع من كتب الأنساب فارجع إليها إن شئت الاستيعاب.

العرب والأعراب

لعلماء اللغة كلام مسهب في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، وقد استوفى الزبيدي قسماً منه في شرحه على القاموس، ولا فائدة في جميعه لأن مداره على اشتقاق اللفظة من ( عربة ) التي قالوا أنها باحة العرب - واختلفوا بين أن تكون مكة أو تهامة - أو ارتجالها كغيها من أسماء الأجناس أو هم سموا كذلك لإعراب لسانهم أي إيضاحه وبيانه لأنه أوضح الأسنة وأعرنها عن الموجود بالاختصار. والصحيح أن اللفظة قديمة يراد بها اللغات السامية معنى البدو والبادية وتلك خصيصة العرب في التاريخ القديم.وقال بعض الباحثين: إنهم سموا بذلك حين نزحوا عن أرضهم الأولى - جهة العراق - إلى الجزيرة ؛ لأن نزوحهم كان إلى الغرب ؛ واللغة السامية الأصلية ليس من حروفها العين، فالأصل اللغة على ذلك ( غرب ) وهو تخريج على النسبة كالذي خبط فيه علماء اللغة. ثم حدثت من هذه اللفظة لفظة الأعراب وذلك حين تحضرت القبائل.فخصوا الكلمة بأهل البادية. وقال الأزهري: رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتاً وإن لم يكن فصيحاً وجمعه العرب.ورجل أعرابي، إذا كان بدوياً صاحب نعجة وانتواء وارتياد الكلأ وتتبع مساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم، قال: والأعرابي إذا قيل له: يا عربي فرح لذلك وهش، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي غضب ؛ فمن نز البادية أو جاوز البادين فظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعرب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء. وقد صار لفظ الأعرابي بعد الإسلام مما يراد به الجفاء وغلظ الطبع، وكانوا يسمون الرجل أعرابية، فيقولون للجافي منه: ألم تترك أعرابيتك بعد ؟ وبذلك خرجت الكلمة عن مطلق البادية إلى معنى خاص يلازمها. والأعراب يومئذ هم أهل الفصاحة، يلتمسهم الرواة ويحملون عنهم ويرون فيهم بقية اللغة ومادة العرب كما ستقف على تفصيله ؛ وبهذا نزلوا من تاريخ الإسلام منزلة العرب من تاريخ الجاهلية في المعنى اللغوي. ^

الباب الأول

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي