تاريخ آداب العرب (الرافعي)/حقيقة القصائد المعلقات

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

حقيقة القصائد المعلقات

حقيقة القصائد المعلقات

ودرس شعرائها

السبع الطوال

هي المعروفة بالمعلقات، المروية لامر القيس وطرفة بن العبد، وزهر بن أبي سلمى، ولبيد بن أبي ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، وكلهم جاهليون إلا لبيداً، فإنه من المخضرمين، وإنما سميت المعلقات، لأن العرب اختارتها من بين أشعارها فكتبوها بالذهب على الحرير، وقيل بماء الذهب في القباطي ( جمع قبطية - بالكسر والضم، وهي ثياب إلى الرقة والدقة والبياض، كانت تتخذ بمصر ن الكتان ) ثم تعلقوها على أركان الكعبة، وقيل في أستارها، وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم. . أما أ، هذه القصائد من مختارات الشعر فأمر لا ندفعه، لأن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به حتى مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روى وكان فخراً لقائله، فلا يعبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي فخراً لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب، قال أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 ( وقيل 159 ): وكانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش. وأما خبر الكتابة بالذهب أو بمائه والتعليق على الكعبة ففي روايته نظر، وعندي أنه من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتى وثق بها المتأخرون، وإنما استدرجتهم إلى ذلك أن هذه القصائد تكاد تكون الصفحة المذهبة من ديوان الجاهلية، وأن العرب قوم بم يصح من أديانهم إلا دين الفصاحة وهو الذي دانوا به أجمعين، فلو أنهم فعلوا ذلك لكانوا قد أتوا بشيء غير نكير، وسنقص في أخبارهم وكتبهم اثر تلك الرواية ونورد ما رجح عندنا أنها موضوعة:نقل ابن خلكان عن أبي جعفر النحاس المتوفى سنة 37 ( وقيل 338 ) أن حماد الرواية هو الذي جمع السبع الطوال، وحماد نهذا توفى سنة 155، وفي المزهر أنه أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديها، وقال البغدادي في خزانة الأدب ( ص61 ج1 ) بعد أن ذكر أصحاب المعلقات: وقد طرح عبد الملك بن مروان شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة، وعبد الملك توفي سنة 86، فبين وفاته ووفاة حماد 69 سنة، ثم قال البغدادي: وروي أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات، وفي رواية أخرى في غير الخزانة: فسماها المعلقات الثواني. وقال ابن الكلبي المتوفى سنة 204 ( وقيل سنة 206 ): أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، وعلق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحدر فعلقت ذلك بعده، وكان ذلك فخراً للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة. وبمعارضة هذه الرواية بما ذكره أبو جعفر النحاس يتضح لك أن أبا جعفر لم يثق بها، فيكون خبر طرح عبد الملك وإثباته موضوعاً أيضاً، خصوصاً وقد أغفله أبو زيد بن أبي الخطاب القرشي صاحب الجمهرة المتوفى سنة 170، وابن الكلبي هذا هو الذي نقل عنه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في شرحه ديوان امرئ القيس عند ذكر قصيدته المختارة أنه قال: إن أعراب كلب ينشدون هذه القصيدة لابن حذام ( هو امرؤ القيس بن حذام ) وكذره امرؤ القيس بن حجر في بعض شعره حيث يقول:

عوجا في الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الديار كما بكى ابن حذام

ويرولى خذام - بالخاء، وحزام بالزاي، وحمام، ويقال إن ( لأننا ) لغة في ( لعلنا ) حكى الخليل أن بعض العرب يقول: ائت السوق أنك تشتري لنا سويقاً، أي لعلك، وكان ابن حذام بكى الديار قبل امرئ القيس. وقد أغفل ابن قتيبة المتوفى سنة 276 رواية ابن الكلبي بجملتها في كتابه ( طبقات الشعراء ) ولم نر أحد ممن يوثق بروايتهم وعملهم أشار إلى هذا التعليق ولا سمي تلك القصائد بهذا الاسم، كالجاحظ والمبرد وصاحب الجمهرة وصاحب الأغاني، مع أن جميعهم أوردوا في كتبهم نتفاً وأبياتاً منها، وقد ذكر أبو الفرج صاحب الأغاني المتوفى سنة 356 أن عمرو بن كلثوم قام بقصيدته خطيباً بسوق عكاظ، وقام بها في موسم مكة، فلو كان خبر التعليق صحيحاً لما ضره أن يقول: فكتبها العرب وعلقها على ركن من أركان الكعبة. وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة، يعني مختارته وفي ترجمة عنترة، وكانت العرب تسمها الذهبية، ولكنه قال في ترجمة الحارث بن حلزة عند ذكر قصيدته: وهي من جيد شعر العرب، وإحدى السبع المعلقات، ولم ترد هذه اللفظة إلا في هذا الموضع، غير أن البغدادي مقل كلمة في الخزانة معزوة إليه وأسقط منها لفظة المعلقات ( ص519 ج1 ) فيكون ذكرها في طبقات ابن قتيبة زيادة من النساخ، لشهرة الكلمة في المتأخرين وارتباطها بهذا النعت. والأسماء التي وردت بها تلك القصائد فيما لدنا من كتب الأدب والبيان واللغة إلى آخر القرن الثالث هي: السبع الطوال، والسموط، والسبعيات، وأما الأولى فهي تسمية حماد، وقد نقلها من الحديث ( أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ) وهي:البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، واختلفوا في السابعة أنها يونس، أو يوسف، أو الكهف - وأما الثانية ففي الجمهرة عن المفضل أن امرأ القيس زهيراً والنابغة والأعشى ولبيداً وعمراً وطرفة، أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط ( ونقلها صاحب العمدة: السمط، ونقلها عنه السيوطي في المزهر ) فمن قال إن السبع لغيرهم فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة، فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة، وأصبت الأعشى والنابغة، وهذا مما يدل على أن بين الرواة اختلافاً فيهم، فلو كان خبر التعليق صحيحاً لكان نصاً في تعيين الأسماء. وأصل التسمية بالسمط أو السموط عن حماد أيضاً، ففي بعض أخباره وقال:كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منها كان مقبولاً، ما ردوا منها كان مردوداً، فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم:

هل ما علمت وما استودعتَ مكتومُ

فقالوا: هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم:

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب

فقالوا: هاتان سمطاً الدهر، وهي رواية لا توافق ما قالوه من أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها إلا في الشعر. وأما السبعينات فهي تسمية وقفنا عليها في إعجاز القرآن للباقلاني المتوفى سنة 403، وقد ذكر هناك ما تؤخذ منه حقيقة هذه القصائد، قال: أنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس، ولا تراب في براعته، وقد ترى الأدباء أولاً يوازنون بشعره فلاناً وفلاناً، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقينا وبين شهره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وبرما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه، أو قربوا موضع تقدمهم عليه وبرزوه بين أيديهم، ولما اختاروا - أي الأدباء - قصيدته في السبعينات أضافوا إليها أمثلها، وقرنوا بها نظائرها، ثم نراهم يقولون: لفلان لامية مثلها. .الخ ؟ وقد أورد ذلك بين أجود الشعر وبين القرآن في أسباب الإعجاز، ويبرهن على أن القرآن، جنس مميز وأسلوب متخصص، فلو صح عنده خبر التعليق وأن العرب هي التي اختارتها وقدمتها على سائر الشعر - لكان في ذلك دليل يشد عليه يده شد الحريص. وفي الجمهرة عن المفضل ( هو المفضل بن محمد الضبي، كان عالماً بالشعر وكان أوثق من روى لشعر من الكوفيين، وهو معاصر لحماد الرواية، وقد غلبه عليه بصدق الرواية عند المهدي كما سيمر بك في بحث الرواة ) بعد أن ذكر أصحاب السموط قال: وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون إن بعدهن سبعاً ما هن بدونهن، ولقد تلا أصحابهن أصحاب الأوائل فما قصروا، وهن ( المجهرات ) لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خام، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب. وأما منتقيات العرب فهن للمسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بمن الصمة، والمتنخل بن عويمر. وأما المذهبات فللأوس والخزرج خاصة، وهن لحسان بن ثابت، وعبد الله ابن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبي قيس بن السلت، وعمرو بن امرئ القيس. وعيون المراثي سبع، لأبي ذؤب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب النهشلي، ومتمم بن نويرة اليربوعي. وأما مشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام، وفلنابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ وعمرو بن أحمر وابن مقبل. وأما الملحمات السبع فللفرزدق وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكمبت بن زيد، والطرماح بن حكيم. قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة هي عيون العرب في أشعا الجاهلية والإسلام ( ص35 ) وبعد أن ساق صاحب الجمهرة أخباراً أخرى قال: هذا ما صحت به الرواية عن الشعراء وأخبارهم. . فقد خلص رلنا مما تقدم أن حماداً هو أول من اختار السبع الطوا وشهرها الناس، وأن ابن الكلبي، هو الذي ذكر خبر تعليقها على الكعبة، وهو قد علل ذلك بأن العرب ينظرونها في الموسم، وثم ينزلونها أو يسقونها، وأن من عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئاً، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من ذلك شيئاً، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي، وأن العرب بقيت تسجد لها 150 سنة حتى ظهر الإسلام، مع أن امرؤ القيس لم يفته الإسلام أكثر من مائة سنة، وتسميتهم لذلك المعلقات بالمذهبات، مع أنك رأيت في رواية المفضل أن المذهبات قصائد أخرى للأوس والخزرج، وذكر ابن رشيق في لعمدة رواية أخرى في تسمية الطوال بالمعلقات، وهي أن الملك كان يقول إذا استجيدت قصيدة الشاعر: علقوا لنا هذه، لكون في خزانته. . وليس ببعيد أن يكون ابن الكلبي، وهو من متأخري الرواة، وقد رأى انصراف الناس عن شعر الجاهلية والتأدب إلا فيما احتاجوا إله من الشاهد والمثل، ولا يكاد ذلك يعدو أشعاراً معروفة متداولة في أيدي العلماء لمكانة الشعر الإسلامي يومئذٍ، وقد كثر فحوله وافتنوا فيما إيما افتنان، وذهبوا في البديع كل مذهب، فاختلق ابن الكلبي - أو غيره - خبر التعليق، لعفاء الصبغة العربية من سياسة عصرهم كما يعرفه الواقف على التاريخ، وليس يشك أحد أنه لولا الخبر لما بقيت هذه القصائد متدارسة إلى اليوم، لا لشاهد منهم ولا لمثل فيها، ولكن لوقوع اختيار العرب عليها. وعندنا ن الذي روى التعليق إنما أخذه من تعليق قريش للصحيفة، وذلك أنه لما فشا الإسلام وقوي المسلمون بحمزة وعمر، ائتمرت قريش في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم ولا يبيعونهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً، فكتبوا بذلك صحيفة بخط منصور بن عكرمة، ثم علقوها في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم. وأعجب شيء أنك لا ترى في كلام أحد من الصدر الأول من لدن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك الخبر، مع أنهم تكلموا في لشعر والشعراء وفاضلوا بينهم، وورد في الحديث كلام عن امرئ القيس وعنترة، وكل ذلك مما يدل على أن ذلك التعليق إنما كان بحبل التفليق !وقد شرح هذه القصائد جماعة وذكر منهم صاحب كشف الظنون أبا جعفر ابن النحاس المتوفى سنة 338، وأبا علي الثعالبي المتوفى سنة 356، وأبا بكر البطليوسي المتوفى سنة 494، وأبا زكريا بن الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502، والدميري صحب حياة الحيوان، والزوزني المتوفى سنة 486 وشرحه مطبوع متداول، وهي مشروحة أيضاً في كتاب الجمهرة، ولابن الأنباري عليها شرح مفرد. وقد رأينا من ينكر ن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحاً أنها ومنحولة وضعها مثل حماد الرواية، أو خلف الأحمر، وهو رأي قائل لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في كلام الصدر الأول، وإنما تصحح الروايات بالمعارضة بينها، فإذا اتفقت فلا سبيل إلى ذلك، غير أنه ممات لاشك فيه عندنا أن تلك القصائد لا تخلو من الزيادة وتعارض الألسنة، قل ذلك أو كثر، أما أن تكون بجملتها مولدة دون هذا البناء نقض التاريخ.

امرؤ القيس

هو خندج بن حجر، الحندج الرملة الطيبة تنبت نباتاً حسناً، وليس في العرب حجر - بضم الحاء - غير هذا، ومعنى امرئ القيس: رجل الشدة، والمسمون بهذا الاسم في العرب جماعة ذكر منهم السيوطي ستة عشر في كتابه المزهر، ومؤرخو الروم يذكرونه في كتبهم باسم قيس. يكنى أبا الحارث، وأبا وهب، ويلقب بالملك الضليل، وذي القروح، كان أبوه وأعمامه ملوكاً على قبائل من العرب، وكانت لأبيه على بني أسد إتاوة في كل سنة، فغبروا على ذلك دهراً، ثم أنه بعث إليهم جابيه الذي كان جيبهم فمنعوه ذلك، وحجر يومئذٍ بتهامة، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجاً شديداً قبيحاً، فسار إليهم وأخذ سراتهم فجعل يقتلهم بالعصا، فسموا عبيد العصا، وإلى أن لا يساكنهم في بلد أبداً، وحبس منهم عمرو بن مسعود، وكان سيداً، وعبيد بن الأبرص الشعر، وثم أن عبيداً استعطفه بأبيات منها:

برمتْ بنو أسدٍ كما

برمتْ ببيضتها الحمامةْ

جعلتْ له عودينِ منْ

نشمَ أواخر من ثمامةْ

إمّا تركت تركتَ عفواً

أ قتلت فلا ملامهْ

أنتَ المليكُ عليهم

وهمْ العبيدُ إلى القيامةْ

فرق لهم حجر وبعث في أمرهم، فأقبلوا، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة يحضهم على قتله، فركبوا كل صعب ذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر - فهجموا على قبته وخيم عليه حجابه ليمنعوه ويجيروه، فأقبل عليهم علباء بن الحارث الكاهلي، وكان حجر قدج قتل أباه، فطعنه من خللهم، فأصاب نساه فقتله، وقيل عير ذلك، وأنهم أخذوه أسيراً في حرب بينهم وبينه، وفوثب عليه ابن أخت علباء فطعنه ولم يجهز عليه، فأوصى ودفع كتابه إلى رجل وأمره لأن ينطلق إلى أولاده ويستقرئهم واحداً واحداً حتى يأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع دفع إليه سلاحه وخيله ووصيته، وكان بين فيها من قتله وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضه على رأسه، ثم استقرأهم واحداً واحداً، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه النرد، فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوه وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك ! ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال:( الخمرُ علي والنساء حرامٌ حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة ! ). وفي خبر آخر أن حجراً كان طرد امرأ القيس وآلالى أن لا يقيم معه، آنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر بن وائل فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد اقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفض ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر ! ثم شرب سبعاً، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحماً، ولا يشرب خمراً، ولا يدهن، ولا يصيب امرأة، لا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره، وفي الأغاني رواية أخرى عن سيبويه عن الخليل بن أحمد ( ص75 ج8 ). ثم إنه نهد إلى بني أسد فقاتلهم، وكان أدركهم ظهراً وقد تقطعت خيله وقطع أعناقه العطش، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب - وهم الذين كانوا معه - أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: لقد أصبت ثأرك، قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً، قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وانصرفوا عنه، فمضى هارباً لوجهه، حتى أمده مرثد الخير ذي جدن الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالاً من القبائل ثم خرج فظفر ببني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه إليه الجيوش فتفرق من كان معه نجا في عبته، فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على المسوأل فعرف حقه، فكان عنده ما شاء الله، ثم أنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر، وفاستنجد له رجلاً فلما انتهي إلى قيصر - ذكر مورخو الروم أنه لقيصر يوستينيانس، وقال بعضهم إن امرؤ القيس قدم عليه في القسطنطينية فقلده إمرة فلسطين، إلا أنه لم يسع في إصلاح سبب موته - قبله وأكرمه وضم إليه جيشاً كثيفاً فهم جماعة من أبناء الملوك، فلما فصل من عنده وشى به الطماح، وهو رجل من بني أسد كان امرؤ القيس قد قتل أخاً له. .( ص73 ج8: الأغاني ). ثم دفن في سفح جبل يقال له عسيب ببلدة تدعى نقرة، وقيل إن ذلك سنة 48 للميلاد، قبل الهجرة وقيل سنة 565م، ووفيات الجاهلية لا يعتمد فيها ع نصوص التاريخ إلا للذين تكون أدمغتهم مجلدات من التاريخ القديم. .

طويلة امرئ القيس:

ذلك نبذ من تاريخ أمير الشعراء بسطنا منه بعض ما يكشف لك وجه نشأته، لتعرف الأخلاق التي كان لابد لشعره أن يظهر بها مظهر المتميز والمتخصص، ثم نحن نسوق إليك طرفاً من الحديث عن طويلته، ثم نقذف بجملة لكلام عن شعره في فصل انتقادي، من امرأ القيس ليس بالشاعر الذي يقال فيه ولد ومات، فيترجم بألفاظ لا تفوت حتى تموت، ولكنه الرجل الذي افتتح به ديوان التاريخ الأدبي، وما زال فيه كأنه قطعة من الزمن، لا يغيره الموت ولا يغيبه الكفن !كان من حديث تلك القصيدة أن امرأ القيس كان مولعاً ببنت عم له يقال لها فاطمة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير حي مرت به فتيات وفيهن ابنه عمه يردن الغدير ليتبردن، تبعهن مختفياً، فلما تجردن ودخلن الغدير وثب على ثيابهن فأخذها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطي واحدة منكن ثوبها حتى تخرج كما هي فتأخذه بيدها، فأبين ذلك عليه، حتى ارتفع النهار، فلما خشين فوات الوقت خرجت إحداهن فوضع لها ثيابها ناحية فلبستها. .ثم تتابعن على ذلك حتى فضحهن جميعاً، وذلك العهر الذي ليس بعده خلق ذميم ولا عهد أثيم، ثم حمن متاع راحلته بعد أن نمحرها لهن، وحملته ابنة عمه على غارب بعيرها، فلما راح إلى أهله نثف الخبيث على لسانه، فال هذه القصيدة وقص ما كان وجعلها حديثاً باقياً على الدهر. وقد قابلنا بين أربع نسخ منها بروايات مختلفة، فما وجدنا نسخة تساوي الأخرى في عدد أبياتها، فهي في الجمهرة سبعون بيتاً، وفي الديوان الذي شرحه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب 77 بيتاً، وهو سينقل في مواضع من شرحه عن ابن النحاس، فلعله قابل على نسخه، وفي شرح الزورني 79، وفي نسخة أخرى من ديوانه 75 بيتاً، وهذه النسخ تختلف مع ذلك في كثير من الأبيات تقديماً وتأخيراً، وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة. أما القصيدة فقد وقف فيها واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الديار والآثار، ثم استشعر العزاء وتجلد، ثم التاع وتنهد، وثم كأنه عفا تجدد، وذكر يوم الغدير، ووصف عقر ناقته للعذارى، وتبذله لهن تبذل الجاذر، وارتماءهن بلحمها وشحمها، ثم ألم بأطراف العفاف من ابنة عمه، وتعهر في ذلك حتى كأن الكلام لا يمر بقلبه بل يخلقه لسانه خلقاً، إلا في أبيات قليلة، ووصف الجمال وصفاً ظاهراً يبلغ شهوة النظر، ثم وصف طول الليل وخرج من الفخر إلى صفة الخيل، واستتبع ذلك بالصيد والقنص والطعام، ثم رفع عينيه إلى البرق والسحاب وخفضها إلى الجبل فزمله من المطر في ثياب، ثم أغمضها وسكت كما يسكت على خير جواب. المختار من ذلك كله قوله:

أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التدللِ

وإنْ كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي

غرَّك مني أنَّ حبك قاتلي

وأنَّك مهما تأمري القلب يفعلِ

وما ذرَّفت عيناكِ إلاَّ لتضربي

بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتَّلِ

تصدُّ وتبدي عن أسيل وتتّقي

بناظرةٍ من وحش وجرة مطفلِ

وليلِ كموج لبحرِ أرخى سدوله

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلتُ له لمَّا تمطَّى بصلبه

وأردف أعجازاً وناءَ بكلكل

إلا أيَّها الليلُ الطَّويل ألا انجلي

بصبح، وما الإصباح منكَ بأمثلِ

وقد أغتدي والطَّيرُ في وكناتها

بمنجردٍ قيد الأوابدِ هيكلِ

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً

كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ

له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ

وإرخاء سرحانِ وتقريبُ تتفلِ

شاعرية امرئ القيس وأسباب شهرته:

كان امرؤ القيس يماني النسب ولكنه كان نزاري الدار والمنشأ، فإن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد، ومن ثم كانت له الفصاحة، وقد رأيت أن أباه وأعمامه كانوا ملوكاً، ولملكهم قصة رواها صاحب الأغاني، فلم يألفوا ما ألفته العرب من خشونة العيش وجفاءة البداوة، بل كان أبوه حين يرتحل يقدم بعض ثقله أمامه ويهيئ نزله، وثم يجيء وقد هيئ له من ذلك ما يعجبه، فضربت القباب، واجتمعن القيان، فينزل ويقدم مثل ذلك إلى ما بين يديه من المنازل ( ص67 ج8: الأغاني ). فلا جرم كان ميراث أم رئ القيس منه هذه الكبرياء التي تمسح شعره، وتلك النعمة التي يرف بها رفيفاً، وقد كان المهلهل الشاعر خاله، فنزع إليه بالعرق، واجتتمع له الشعر والنعمة والكبرياء، على فراغ وشباب، فأفسدته فشب خليعاً ماجناً يتعهر في شعره، ولم يطرده أبوه ىنفة من الشعر لأن الملوك كانت تأنف منه كما يروى، ولكن حياءً مما فيه، إذا كان شعره قد تغالبت عليه الشهوات حتى كأنه صورة قلبه ثم كانت العرب تروي ذلك منسوباً إلى ابن مالك من ملوكها، وقد كان اتبوه أراد أن يشغله عن الشعر فجعله في رعاء غبله حتى يكون في أتعب عمل، فلما كان الليل بات يدور إلى متحدثه حيث وكان يتحدث، فقال أبوه: ما شغلته بشيء، ثم أرسله في خيله، فكذلك، ثم جعله في الضأن، فمكث يومها فيها، وحتى إذا أمسى أراحها، فلما بلغت المراح دنا أبوه يسمع فإذا هو يقول: أخزاها الله وقد أخزاها، من باعها خير ممن اشتراها ! ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: أخرج بها، فمضى حتى بعد عن الحي واشرف على الوادي، فحثا في وجهها التراب فارتدت، وخرج مراغماً لأبيه، فكان يسير في العرب يستتبع صعاليكهم وذؤبانهم، ويطلب الصيد والغز وما إلى ذلك فلم يبق في شعره فضل لشرف النفس والعفة والحفاظ، ولولا تصعلكه ومخالطته الرعاء لما جنح في التشبيه إلى مساويك الإسحل، وحب الفلفل، ونقف الحنظل، وغيرها مما هو في شعره، ولما جاء من ذلك بالساق والسفساف، وقد عابه عليه المتأخرون وما أنصفوه، لأنه لا يكون كابن المعتز الذي غليه انتهى التشبيه في صناعة الشعر فهو يصف ماعون بيته إذ يقول في الهلال:

فانظرْ إليه كزورقٍ من فضةٍ

قد أثقلتهُ حمولةٌ من عنبرِ

فانتقاد الشاعر من هذه الجهة خطأ بين لأن ذلك سبب طبيعي لا قبل للانتقاد به وهو أشبه شيء بعيب الطويل لطوله، والقصير لقصره، والحبل لنسعته، ونحو ذلك، مع أن في تلك مناسبات أخرى تستدعي الإعجاب وتعد في محاسن الخلق. ولا يذهبن عنك أن الذين ينتقدون أمرأ القيس وغيره بما هو من خصائص الجاهلية، إنما نشأ عندهم ذلك بعد مقابلته بنعمة الحضارة وترف العمران، ولو كانوا في الجاهلية لكانوا أجهل منه، وكن في شهر كل شاعر ما يمكن أن ينتقد في كل زمن، وذلك مما يكون سبيله المعاني الطبيعية، ولا يتفاوت في الناس إلا بمميزات أخرى ترجع إلى نشأة وسلامة الذوق وخلوص الفطرة ونحوها من الصفات التي هي تأويل معنى التفاوت. ومن تدبر ما نلوه من شعره امرئ القيس يخيل له أول وهلة أن هذه الشهرة التي رزقها ليست على مقدار شعره، ولا هي في وزن براعته، ولكنها جاءت من ذكره في الحديث الشريف، وما زين بن الرواة اخباره وشعره تى كأنما عوضه الدهر من ملك النسب ملك الأدب، ولكن ذلك إنما يعتريه إذا قرأ بعض ما نسب إليه لا جميعه، لأن في شعره منحولاً كثيراً، وبعضه يلائم ديباجته فيكاد يلتحم به حتى لا يميزه إلا دقيق لنظر، ولا برهان لدينا على النفي والإثبات في شعر مثل امرئ القيس ومنزلته ما هي، وليس من شاعر أو رواية إلا وقد أحبَّ أن يكون ه في كلامه لفظ أو معنى، ولذلك تعاوروا ألفاظه بالتغيير والتبديل، وأدخلوا في شعره ما ليس منه، وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعراً بين طويل وقطعة ( ص67 ج1: العمدة ) ولذا نفى الأصمعي الأبيات المروية التي يقول فيها:

ألا إلاَّ تكن إبل فمعزى

كأنَّ قرون جلتها العصيُّ

فتوسع أهلها أقطاً وسمناً

وحسبكَ من غنى شبع ورويُّ

لأن مثل هذا لا يقوله من يذكر عن نفسه أنه لا يقتصر إلا على الحصول على الملك ( ص175: شرح ديوانه ) وإنما ستناسب مثل الحطيئة لما في شعره من الجشع والضراعة. وقد بالغوا في الحمل عليه حتى كأنه دابة الشعر، فنسبوا له سخف القول وساقط الكلام وما يجري مجرى الهذيان، ورأيت في بعض نسخ ديوانه قصيدة لامية أشبه شيء بالجلجلوتي وشعر الطلاسم منها:

فكمْ كَمْ وكَمْ كَمْ ثمَّ كَمْ كَمْ وكَمْ كَمْ

قطعت الفيافي والمهامة لمْ

وكافٍ وكفكاف وكفي بكفها

وكافٍ كفوفو لودق من كفها انهمل

وهذا المغفل الذي نحله هذه القصيدة جرى في بعضها هعلى قياس قوله في القصيدة التي تروى له ( ص119: من ديوانه ):

وسنٍّ كسنيق سناءٍ وسنَّم

ذعرت بمدلاج الهجيرِ نهوضِ

ولعلَّ هذه ( الكمكمة ) من قول محمد بن مناذر البصري في معنى التكثير ( ص660 ج2: العمدة ) غير أن الناقد البصير يستطيع أن يتبين أسلوب امرئ القيس من قراءة قصيدتيه أو ثلاث مما صح له، فيستخلص منها صفات شعره التي ميزته بالتقديم وجعلته أمير الشعراء وصاحب لوائهم، إذا كان أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وقبل أن تأتي على شيء من ذلك نذكر نشأته الشعرية وما استخلصناه من السباب الطبيعية في شهرته:كان امرؤ القيس يروي شعر أبي داؤد الإيادي ويتوكأ عليه ( ص61 ج1: العمدة ) وهو فحل قديم كان أحد نعات الخيل المجيدين، قال الأصمعي: هم ثلاثة: أبو داؤد في الجاهلية، وطفيل، والجعدي، قال: والعرب لا تروي شعر أبي داؤد وعدي بن زيد، وذلك أن ألفاظهما ليست بنجدية ( ص38: الطبقات ). فلو أن امرأ القيس لم يكن من أهل نجد لكانوا قد أهملوا رواية شعره ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي داؤد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة وبذلك، حتى لا يخلوا أكثر شعره من هذا الوصف. وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، والشنفرى، وابو داؤد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان وتأبط شراً، والتوأم اليشكري، وكان من حشم أبيه شاعر اسمه عمرو بن قصبة، وهو الذي ذكره في قصيدته التي قالها حين توجه إلى قيصر، وذلك في قوله:

بكى صاحبي لما رأى الدَّرب دونه

وايقنَ أنا لاحقان بقيصرا

وكل هؤلاء لم يقع للرواة من شعرهم مقدار ما وقع في أيديهم لامرئ القيس، فكان ذلك سبباً من أسباب تميزه وانفراده. وثم سبب آخر، وهو أ، الذي في يد العلماء من أهل الغريب والعربية وعلماء البيان لا يجتمع منه لشاعر واحد جاهلي ما اجتمع لامرئ القيس، وهو عندهم طبقة متميزة لفصاحته وقدمه، فشعره أشبه شيء بأقدم كتاب في اللغة عنده من يظفر به من المتأخرين، وكأنما كان بعضهم يجله عن الانتقاد في ألفاظه، فكل ما استعمله فصيح من حيثما تلقفه وكيفما جاء يه، وإن كان ذلك لاشك في صحته دون فصاحته، فإن أهل النظر من علماء البصرة يقولون في تأويل بيته:

لها متنتان خظاتا كما

أكبَّ على ساعديه النَّمر

إنه لما جاور في طيء علق ن لغتهم، وهم يقلبون الياء ألفاً، يقولون في رضينا كذلك خظاتا أصله خظيتا، فقلب الياء ألفاً، وهي لغة لم يلتزمها الشاعر ولا وجه لها إلا أن يكون ميزان لسانه قد تعطل في هذه الكلمة كما تعطل في غيرها، فانحدرت منه ثقيلة غثة باردة، والعجيب أن علماء المعاني والنحو والعروض انتقدوه جميعاً وأخذوا عليه أشياء كثيرة، ولكن مات الانتقاد وبقيت الألفاظ حية، حتى إن أكثر ما قالوه ا يعرف اليوم ولم يوؤرد منه شراح ديوانه إلا القليل، ولعلهم فعلوا ذلك ليتكافأ الانتقاد مع شهرة الرجل، وهؤلاء أصحاب البيان ما زالوا يطأطئون من الغدائر المستشزرات في كلامه ويضربونها مثلاً في التنافر ولثقل، ولكن ( مستشزرات ) هذه كانت قد رسخت قبلهم حتى لم يستطيعوا أن يحدروها عن منزلتها من الشهرة، وذلك من عجائب امرئ القيس، فإن له ألفاظاً وإن كانت أحجاراً، إلا أنها ثابتة من شهرته في جبل. والعلماء بالشعر يقولون إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها، لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسبي وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه، وقلما يخلوا كتاب في الأدب من هذه الكلمة، وهي مع ذلك مقبولة كأنها ناموس من نواميس الطبيعة في شهرة هذا الشعر، على أنها - كما تر - لم تعزز ببرهان، ولم يمسكها دليل، فليبس ما يمنعاه أن نمسا لمحك فنخلص إلى حقيقتها. أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول الخ، فلا يكون دليله إلا تبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه وهو شيء لا يصدق مدعيه كائناً من مكان، لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي داؤد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلاً عمن أهملهم الزمن وجلدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل: ( وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة ) فإن هي إلا كلمة مولد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد، ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيبه. وأما أن هذا الشاعر أول من قرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أنه أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع يه، وجملة ما حفظ منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعاً. بقي سبب آخر من أسباب شهرة امرئ القيس في العرب وبقاء شعره على ألسنتهم وهو أنهم يجدون في بعض كلامه رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم يروه إذا أخذ في غير هذه المعاني يطبع ألفاظه على قالبها ن الاستعارة ولتشبيه، فإذا قابلوا ذلك بخشونة غيره وانصرافه إلى أوصاف لبداوة، وجدوا في شعره كالظل لذي يفيء، والماء الذي يجري، والحسن الذي يتمسيح، والنسيم الذي يترنح، فكان ولا جرم كأنما يستهويهم استهواء، وكان مجموع شعره في البدو حضارة وفي الحضر بدارة، وهذا مروان بن أبي حفصة الشاعر أنشده العتبي لزهير، فقال: هذا أشعر الناس، ثم أنشده للأعشى فقال: بل هذا أشهر الناس، ثم أنشده لامرؤ القيس فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال امرؤ القيس والله أشعر الناس ( ص9: الطبقات ) ومروان شاعر في صميم الحضارة، فكيف بالعرب ؟ وعندي أن هذا أعظم ما تتميز به شاعرية امرئ القيس، ولأنه دليل الصنعة التي تبرز على الطبع، والطبع الذي يبلغ في سموه مبلغه بالصنعة، وهو الدليل الذي لو سقط من شعره لسقط بشعره لا محالة. شعر امرئ القيس:لم نعد ما عددنا من أسباب شهرة هذا الشعر وهو قليل مجمل، إلا توطئة لما يأتي من انتقاد كلامه، فإنه عند المتأخرين أفق لا يحس إلا بالنظر، ورجل كأنما كانت شهرته قدراً من القدر، يأخذون ذلك بالتسليم ويقولون، هو أمر كان من قديم، مع أن أدباء الصدر الأول قد تكلموا في خطئه في العروض والنحو والمعاني، وعابوا عليه كثيراً من شعره وخطأوه وفي وجوه من التصرف، ولا يزال ديوانه يدعو إلى ذلك، لأنه هو هو اليوم وقبل اليوم، غير أن أولئك المتأخرين اصبحوا يرون هذا الديوان كدار الآثار: لا يه لحي ببعض الإجلال ليت من أمواتها. . كل ما يتناوله امرؤ القيس في شعره من المعاني، ولا يتجاوز الغزل، والاستهتار بالنساء، ووصف لصيد والخمر والطيب والخيل النوق وحمر الوحش والطلول ولجبال والبرق والمطر، ما افتخاره في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:

وإنَّك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف، ولم يغلبك مثلُ مغلَّبِ

وهو يخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف، حتى كأن شعره صور على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يكن يقصد إلى الشعر قصداً إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكن مرة نجماً في السحاب ومرة حجراً في التراب، والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقت التراب، ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أراد شيء. وغزل هذا الشعر ساقط كله، لأن استهتارة وتبذله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في العريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلاً مما يفتن فيه، فيجيء حسنة من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:

أغرَّك مني أن حبَّك قاتلي

وأنَّك مهما تأمري القلبَ يفعل ؟

فإنه نزع فيه الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها وضعاً، وكذلك قوله:

سموتُ إليها بعد ما نام أهلها

سموَّ حبابِ لماءِ حالاً على حالِ

وهذا البيت من مخترعاته، فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، قل صاحب العمدة: فإنه أوزل من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، وقاتل صاحب العمدة: وهو أول الناس اختراعاً وأكثرهم توليداً ( ص175 ج1: العمدة ) فلا يبغي من شعره إلا الوصف، ومداره على الاستعارة والتشبيه، وسنأخذ بطرف من الكلام فيهما، ثم نفصل به إلى القول في معانيه ومبلغ انطباق ألفاظه عليها، لنتبين موقع نظره في مطارح الكلام، ومذهب فؤاده من أسرار الصناعة. ولابد لنا هنا من التنبيه على أن الأدباء قد وضعوا أشعاراً من البديع ونحلوها امرأ القيس، يقصدون من ذلك إلى الغض من شأن الذين اخترعوا تلك الأنواع، حتى يوهموا أنهم سبقوا إليها، أو إقامة الشاهد على بعض ما يتباغضون فيه من مبتذل الشعر. ومن النوع الأول ما أوردعه ابن رشيق ( ص55 ج2: العمدة ) بعد أن أورد بيتين لأبي نواس: فقال: وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:

لمنْ طللٌ دارسٌ آيةٌ

اضربه سالفٌ الأحرسِ

تنكره العينُ منْ جانبٍ

ويعرفهُ شغفُ الأنفسِ

وليس فيما دونوه لامرئ القيس، والتوليد فيه بين. ومن الثاني ما أورده ابن رشيق أيضاً ( ص25 ج2: العمدة ) عند الكلام على التقطيع والتقسيم من باب الترصيع، كقول المتنبي:

أقلْ أنل أقطعْ أحملْ علِّ سلْ أعدِ

زدْ هشّ بشّ تفضَّلْ أدنُ سرّ صلْ

فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:

أفادَ فجاد، وشاد فزاد

وقادَ فذادَ، وعادَ فأفضلْ

ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا. ^

استعارته:

قالوا إن الاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة، وليس ضرورة، لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فهم إنما استعاروا مجازاً واتساعاً، ومرجع ذلك إلى شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو بحسن المعرض الذي يبرز فيه، تبسطاً في اللغة، واسترسالاً في طرق التعبير، فعلى هذا تكاد تكون الاستعارة لبيان كله، وليس من غرضنا أن نشرح أقسامها، أو نلم بما قالوه في تحقيقها، وإنما نتكلم عليها في شعر امرئ القيس خاصة، فهي التي ميزت شعره وقلدت في جيد الزمان دره، وأكسبته شهرة أنه أول من أفلح في شق هذه الصدفة حتى زعم ابن وكيع ( ص186 ج1: العمدة ) أن أول استعارة وقعت في الكلام قوله:

وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ

عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي

فقلتُ له لمَّا تمطى بصلبهِ

وأردفَ إعجازاً وناءَ بكلكلِ

وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارة، بحيث لا تتفق اتفاقاً ولا تجيء عفواً إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعاً يدل على قوة غير قوة الفطر، وهي في شعر امرئ القيس أكثر في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماء وأعذب رواء، وحسب ذلك أن يكون دليلاً على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان. فاستعار لليل سدولاً يرخيها، وصلباً يتمطى به، وأعجازاً يردفها وكلكلاً ينوء به، وقد تنازعهما الأدباء حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتاباً خلياً منهما، وقد ذكر الآمدي في الموازنة البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن. وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر منج سريرة الكون، فذلك شبه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، هذب بذلك الحسن كله، وإذا أفاد أن الغرض من لتشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه، لأن إرخاء السدول إما يدل على السكون والحجاب، ولا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه. وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل ولست اراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يرد أعجازه ثم ينوء بكلكله، فالوصف حقيقة ممثله وتصوير ناط، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعارة أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عدة التشبيه المضمر الأداة، لأنه به أليق. ومن تصرفه بالاستعارة في شعره قوله:

وهرٌ تصيدُ قلوبَ الرِّجال

وأفلتَ منها ابن عمر وحجرُ

هرٌ: هي المعروفة بابنة العامري، وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، ولرباب، وهند، وفرتنا، ولميس، وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصاده فيما تصيد، وقالا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف. .!فقد ألزموه الاستعارة كما ترى حتى قارنوا بينها وبين استعارة زهير بن لف قوله ( ص183 جح1: العمدة ):

ليثٌ بعثر يصطادُ الرجالَ إذا

ما كذَّب الليثُ عن أقرانهِ صدقا

وكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من ومثله والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى لذي قصد إليه، فإن هراً كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيئ أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتناذر عليه، وإذا خرج البيت على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سبباً لكناية من أبلغ الكنايات. . ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته ف هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد، ولد حاول المولدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة وذلك كقول اب الرومي في الحديث: شرك لعقول وعقله لمستوفز، وقول لمتنبي في صفة الجواد، أجل الظليم وربقة السرحان، ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:

يا فارساً، ما أبو أوفى إذا اشتغلت

كلتا اليدين كروراً غير وقاف

( عبر الفوارس ) معروفٌ بشكته

كافٍ إذا لم يكن من كرةٍ كافِ

فالكلمة هي ( عبر الفوارس ) يريد بها أن الفوارس منها ما يبكي أعينهم ويستعيرها ( ص255: سرح العيون ). وهذا وأمثله ما يدل على فطنة الشاعر وحدة فؤاده، وأن له من قوة الفطرة ما يقوم مقام الصنعة، وتلك صفات يدل عليها كثير من كلامه، غير أن امرأ القيس إنما كان مبتدئاً فيما ابتدع، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ البديع كله من شعره، وليس هذا بضائره ونحن الآن في الكلام عن استعارته، ومن الاستعارة نوع اتفق علماء البديع أنها المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في البلاغة رتبة، وهي الاستعارة المرشحة، كقوله تعالى: ( يوجد آية ) فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء، وشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة، وهذا النوع لا تصيب منه في شعر امرئ القيس مثالاً واحداً، والذي بقي من استعارته إنما هو في سبيل ما قدمناه، وهو ليل تدل جملته على قلب يعي وفؤاد يصنع، وشعر في زمنه شاعر، ولا نستطيع أن نوازع بين مذاهبه في الاستعارة ومذاهب المولدين، فلو سمع هذا الشاعر القرآن وكان أموياً أو عباسياً، لكان ابن المعتز ثاني اثنين في الاستعارة والتشبيه. وقد أخرجوا من كلامه كلمات جرت أمثالاً، رواها الميداني والضبي وغرهما ( انظر شعراء النصرانية ج1 ص68 ).

تشبيهاته:

قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمناه آثاره في ذلك المهذب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل، ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، وربما أغنى في بعضه المثال الواحد، إذا كان امرؤ القيس مبتدئاً في شيء ومبتدعاً في شيء، وجهده في جميع ذلك أن تحصى له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض، ثم هو إنما كان شاعراً من شعراء الفطرة، ويعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش، فينطلق طلاهما على نفس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة، فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي يعرق فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكن للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتاً واحداً لو جمع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس. أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويراً غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:

له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامة

وإرخاءُ سرحانٍ وتقريب تتفلِ

فد جاء به كما ترى حتى جعله تحقيقاً، ويه أيضاً تشييهه أربعة بأربعة، وقد زعم الفرزدق أنه أكمل بيت قالته العرب، أو قال: أجمع بيت ( ص21 ج2: العمدة ) وهو أول من فتح هذا الباب 0ص199 ج1: العمدة ). وقد يجيء بعضها مخدجاً غير تام الأجزاء، وتبلغ ببعضها المبالغة إلى الاعتساف والشطط، كقوله في صفة الفرس:

وأركبُ في الرَّوع خيفانةً

كسا وجهها سعفٌ منتشر

الخيفانة: الجرادة التي انسلخت من لونها الأول الأسود أو الأصفر وصارت إلى الحمرة، فشبه فرسه به لخفتها، وشبه ناصيتها بسعف النخلة، قالوا: وهذا الوصف غر مصيب، لأن الشعر إذا غطى العين كان عباً، وهو العمم، والحسن منها أن تكون الناصية كأنها حبشة، أي قصيرة مجتمعة ( ص13 ديوان امرئ القيس ) وفي هذه القصيدة وهو مما نحن فيه:

لها متنتانِ خظاتا كما

أكبَّ على ساعديه النَّمرْ

يريد أن لها متنين كساعد النمر البارك، في الغلظ واكتناز اللم، والمستحب عندهم تعريق المتن وتعريق الوجه، كما قال طفيل وهو أحد نعات الخيل المجيدين:

معرّضقة الألحى تلوحُ متونها

أي معرقة الوجوه ويكاد يستبين العصب من قلة اللحم، وكذلك المتون، وقد وصف امرؤ القيس الخيل في هذه القصيدة وصف سمسار يزين فرساً في السوق لا وصف فارس، ولولا تصعلكه لجاء من ذلك بما لا يلحق لشعرا غباراً، وهذا شيء تعرفه بمقارنة معانيه في الخيل بمعاني غيره من فرسانها، ومن قبل ما نحن فيه قوله في الغزل:

وإذْ هي تمشي كمشي النزي

فِ يصرعه بالكثيب البهرْ

يصف تفتر الحسناء في مشيتها بمشية المنزوف دمه أو علقه بالسكر إذا صعد كثيباً فانقطع نفسه من الإعياء والكلال، فانظر هذه المبالغة الباردة وهذا التشبيه القبيح، وما عسى أن تكون تلك الحسناء إلا في الدرجة الثالثة من السل. . ولهذا الشاعر طريقة في التشبيه جاء منها بأبيات معدودة، وهي تناسب التتبع الذي سنتكلم عنه، لأنه كان أول من اخترعه، وهذه الطريقة هي أن يريد من الوصف ما يلزم من حقيقته الممثلة في الذهن، وقد اتفق له من ذلك ما يعد غاية في الحسن، كقوله في وصف سالفة الفرس:

وسالفةٍ كسحوق الليا

ن أضرم فيها الغوي السُّعرْ

فلقد أراد من وصف عنق الافرس بأنها شجرة متوقدة من شجر الكندر ما يستتبعه هذا الوصف من لون النار، وهي الشقرة، فكأنه أراد أن يقول إن فرسه شقراء، فاحتال لذلك بهذا التشبيه البديع، وقد أخذ هذا التشبيه أوس بن حجر فقال:

حتَّى يلفَّ نخيلهم وبيوتهمْ

لهبٌ كناصية الحصان الأشقرِ

وبيته معدود عند أهل البديع من عجيب ما وقع في باب التتبيع ( ص217 ج1: العمدة ) لأنهم يقولون إنه أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة. وبمقدار ما أحسن ( امرؤ القيس ) في هذا القول أساء في قوله:

كأنَّ على لباتها جمرَ مصطلٍ

أصاب غضاً جزلاً وكفّ بأجزالِ

ٍوهبَّت له ريحٌ بمختلفِ الصوى

صباً وشمال في منازل قفَّالِ

وهي على طريقته تلك، فإنه أراد ن يصف توقد الحلي وصفاءه على لبات تلك الحسناء، فخلص إلى ذلك من طريق الشياطين والزبانية. .إذا لم يكفه أن جعله على صدرها كالجمر، ثم كأنه راستقل هذا كله على صدرها فجع الجمر من الغضا، وهو شجر معروف يقال إن جمره أبقى الجمر وأحسنه، ثم جع لهذا الجمر كفافاً من أصول الشجر، وهي الأجزال حتى تزيد في وهجه وتوقده، ثم لما كان قد تلك الحسناء لابد أن يكون ممشوقاً فقد جع هذه النار من صدرها على مثل اليفاع من الأرض، ولتكون لريح اشد تمكناً منها، وثم جعلها في منازل راجعين من الأسفار فهي توقد لهم ويحتفل فيها على ما هو معروف من عوائدهم. فليت شعري هل يبقى بعد هذا الحريق من لبات الحسناء ما يناط به الحلى، فضلاً عما يظهر حسنه وتوقده. .؟وأعجب شيء في أوصاف امرئ القيس وهو ابن ملك، أه يصف الجميلة بحسن الغذاء، ويصف سناً البرق بمصابيح راهب أهان في ذبالها السليط، وهو الزيت، فلم يعزه لكثرته عنده. .وهكذا مما لا يؤخذ منه إلا أنه كان صعلوكاً يصف للصعاليك، وهو دليل أيضاً على ما قدمناه من أن شعره صورة غير مرتبة من حياته. ومن بدائع التشبيه التي اتفقت له قوله:

سموتُ إليها بعدَ ما نامَ أهلها

سموَّ حبابِ الماءِ حالاً على حالِ

المراد بحباب الماء إما طرائقه، أو فقاقيعه، فمن ذهب إلى أن الحباب الطرائق فإنما أراد: أني جئت أتدفع إليها كما يتدفع الماء شيئاً بعد شيء حتى صرت إلى ما أريد، ومن ذهب إلى أن الحباب الفقاقيع، فإنه أراد خفة الوطء وإخفاء الحركة، وكلا المعنيين غاية في تصوير تلك الحال، مع اللطف والرقة وبراعة التشبيه، وقد تقدم أنه من مترعاته التي سلمها له الشعراء، وهو أحد المعاني التي تلم بها خواطرهم فتختلس منه ما تختلس الألحاظ، وكثيرون قد ألموا به، ولكن الغاية في ذلك قول ابن شهيد الأندلسي ( ص143 ج2: نفح الطيب ):

ولمَّا تملأ من سكرهِ

ونامَ ونامت عيونُ الحرسْ

دنوت إليهِ على قربٍ

دنوَّ رقيق درى ما التمس

أدبُّ إليه دبيب الكرى

وأسمو إليه سموَّ النفس

ومن هذه القصيدة قوله يذكر العقاب حين شبه فرسه بها، وهو من المخترعات أيضاً في معناه وأسلوبه طريقة من طرائقه المبتكرة:

كأن قلوبَ الطيرَ رطباً ويابساً

لدى وكرها العنَّابُ والحشف البالي

العناب ثمر حمر، والحشف ما يبس من الثمر ولم يكن له طعم ولا نوى، وقد أجمع الروا على أن هذا أحسن بين جاء في تشبيه شيئين بشيئين في حالتين مختلفتين، وتقديره: كأن قلوب الطير رطباً العناب ويابساً الحشف لبالي، فشبه الطريء من القلوب بالعناب، والعتيق بالحشف، وخصَّ قلوب الطير، لأن فرخ العقاب فيما يقال يأكل لحم الطائر ما خلا قلبه، فلذلك كثرت قلوب الطير عندها، وقيل غير ذلك، والتشبيه كما ترى ليش بشيء، غير أن الطريقة التي جاء بها هي دليل من الأدلة على فضل صاحبها، ولم حفظ قبل امرئ القيس بيت على هذا النمط، فهو أول من جاء بذلك من الشعراء وقد رووا أن بشار بن برد قال: ما قرّ ربي قرارٌ بعد أن سمعت بين امرئ القيس حتى صنعت:

كأنَّ مثارَ النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا، ليلٌ تهاوى كواكبهْ

فقد اتبع الطريقة نفسها، وقالوا في بيته إنه لم يقع بعد بيت امرئ القيس في الترتيب أحسن منه، لكن البيت الأول يفضله بأنه أورد التشبيه في حالتين مختلفتين، إذ قلوب الطير واحدة، ولكن التشبيه غنما وقع على حالتيها من الطراءة واليبوسة، وقد غفل عن ذلك بشار، وبالجملة فإن امرأ القيس وشط بين شعراء التشبيه، وإن كان قد أكثر منه واحتذى فيه فعل أبي داؤد والمهلهل وغيرهما، إلا أن له طرقاً في هذا التشبيه هي من مبتكراته، وهي كل ما في يدنا من الأدلة على براعته وحسن تصرفه ورجحانه على غيره من متميزي الشعراء، وقد عدل المولدون عن تشبيهات الجاهلية إلى ما هو أليق بأزمانهم وأدنى شبهاً منها، ولكنهم مع ذلك لا يزال في مجموع أشعارهم موضع الجاهلية قد خرجوا من هذا الباب، ولم يرض المولدون أن يقفوا عليه ولا وقفة الحجاب !

تتمة الانتقاد:

بقي علينا بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه النقاد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها أيضاً: قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله ( ص6: الديوان ):

إذا ركبوا الخيلَ واستلأموا

تحرَّقتِ الأرضُ واليومُ قرَّ

أي واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من ادع ما يجيء، لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته. وقد رأينا هذا الشعر يبالغ في استقصاء جزئيات لمعاني مبالغة هي طبعٌ فيه، وهي عند التي هيأت له مثل هذا الاحتراس، وقد مر من ذلك ما وصف توقد الحلى، ومثله في كلامه كثير وسمير بك شيء من بديعه، وكذلك قالوا في التتبع، وهو من أنواع الإشارة، وذلك أن يريد الشعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصف وينوب عنه في الدلالة عليه، قال ابن رشيق ( ص215 ج1: العمدة ) وأول من أشار إلى شيء من ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:

وتضحي فتيتُ المسكِ فوق فراشها

نؤومُ الضحى لم تنتطقْ عن تفضل

فقوله ( تضحي فتيت المسك ) تتبيع، وقوله ( نؤوم الضحى ) تتبيع ثان، وقوله ( لم تنتطق عن تفضل ) تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المؤنة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة. وقال ابن رشيق أيضاً في باب التمثيل لذي هو من ضروب الاستعارة وذلك أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة إليه إن امرأ القيس أول من ابتكره، ولم يأت أملح من قول فيه:

وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي

بسهميك في أعشار قلبٍ مقتَّلِ

فمثل عينها بسهمي الميسر، يعني المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له الاستعارة والتمثيل. وقال في الإيغال: هو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها:وليس بين الناس اختلافٌ أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:

إذا ما جرى سوين وابتلّ عطفه

تقول هزيزُ الريح مرتْ باثأب

فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالاً في صفته بذكر الأثاب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:

كأنَّ عيون الطيرِ حول حيائنا

وأرحلنا الجزعُ الذي لم يثقَّبِ

فقول ( لم يثقب ) إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:

كأنَّ فتات العهنِ في كلِّ منزلٍ

نزلن به، حبُّ الفنا لم يحطمِ

فأوغل في التشبيه إيغالاً، بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحكم، لأنه احمرٌ الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة وكان خالص الحمرة وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينا كما يمشي الوحيُّ الوجلُ

فأوغل بقوله ( الوجل ) بعد أن قال الوحي، وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين، وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره، وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيهما مطمعاً بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده. أما ما جاء من شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلو، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:

على لاحبٍ لا يهتدي بمناره

أي لا منار له فيهتدي، والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع المؤتلف والمختلف، وغيرها فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء يه، على أنهم في أكثر من ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معرو قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع من ذلك شيء فهو مبتكره، ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن، وبعضه لا يعدلون به شيئاً، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب أنه لم يتخلص أحد تخلص امرئ القيس، ولا سلّم سلامه في هذا الباب إذ يقول:

ديارُ لسلمى عافياتٌ بذي الخالِ

ألحَّ عليها كلُّ أسحمَ هطَّالِ

وتحسبُ سلمى لا تزالَ كعهدنا

بوادي الخزامى أو على رأس أو عالِ

وتحسبُ سلمى لا تزالُ ترى

من الوحشِ أو بيضاً بميثاءِ محلالِ

ليالي سليمى غذ تريك منضداً

وجيداً كجيد الرئم ليس بمعطالِ

ولكن بع تلك الأنواع اتبع فيها امرؤ القيس غيره، وكما احتذى في الغلو على قول مهلهل:

فلولا الريحُ أسمعَ من بحجرٍ

صليلَ البيض تقرعُ بالذكورِ

وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيتٍ قالته العرب، لأن بين حجرٍ أ وهي قصبة اليمامة وبن مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:

تنوَّرتها من أذرعات وأهلها

بيثربِ أدنى دارها نظرٌ عالِ

وفاضلوا بين البيتين فقالوا إن مهلهلاً أشدَّ غلواً من امرئ القيس، لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع واشد إدراكاً، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:

تقدُّ السلوقيّ المضاعفَ نسجهُ

وتوقدنَ بالصَّفاحِ نارَ الحباحبِ

قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنور صاحبة لنار إفراطاً، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضاً:

تظلُّ تحفرْ عنهُ إنْ ضربتَ بهِ

بعدَ الذراعين والسَّاقين والهادي

إذا ليس خارجاً عن طباع السيف يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بد ذلك في الأرض، فالغلو فيه ضعيف، وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه، والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصيرٌ بصنعة الكلام، وأن فضله هو في طريقه إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ تصريف الأسلوب، وانظر إلى قوله:

كأنَّي لم أركبْ جواد للذّةٍ

ولم أتبطنْ كاعباً ذاتَ خلخالِ

ولم أسبأ الزِّق لرويَّ ولم أقلْ

لخيلي كرِّي كرة بعد إجفال

فلقد اعترض في هذين البيتين وقيل: خالفَ وأفسد ولو جمع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكرِّ في بيت، والنساء والخمر في بيت، ولكان أصوب وإنما أغفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع المعنين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان، وكذلك لو فعل في البيت الثاني لكان ذكره اللذة زائداً في المعنى، لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، وإنما وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهية.وقد أتبعه المتنبي في قوله:

وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقف

كأنَّكَ في جفنِ الرَّدى وهوَ نائمُ

تمرُّ بكَ البطالُ كلمى هزيمةً

ووجهكَ وضَّاحٌ وثغركَ باسمُ

وذكر الواحدي في شرحهما اعتراض سيف الدولة عليه وعلى امرئ القيس وتخلص المتنبي لنفسه وله، غير أن ترتيب امرئ القيس أبدع وفيه من الفائدة ما ليس في بيتي أبي الطيب.بقي أن نذكر بعض المآخذ التي أصبناها في شعر هذا الشاعر، فمن ذلك أنه له استعانة بالحروف والكلمات، كقوله:

ألا ربّ يومٍ لكَ منهنّ صالحٍ

وأن تكراراً قبيحاً في الألفاظ والمعاني يجيء بها على درجة واحد في مواضع مختلفة من غير أن يتصرف في ذلك بما يخفي قبح هذه التكرار وينفي عنه الظنة. ومنها دخوله في وجوه المناقضة والإحالة في بعض الكلام، وذلك مما يدل على أنه يرسله إرسالاً كما اتفق، لا يبتغي به إلا لذة المنطق، وإلا مواتاة ما في نفسه من الميل إلى القول ؛ وبهذا كان ختام قصائده مقتضباً، وقلما قطع الشعر على كلمة بديعة إلا في القليل كختام قصيدته السينية:

ألا إنَّ بعدَ العدمِ للمرءِ قنوةً

وبعدَ المشيبِ طولَ عمرٍ وملبسا

فكأن الشعر يقترح عليه اقتراحاً متى فرغ من المعنى الذي يريده سكت دون أن ينظر إلى موضع السكوت وأن الإصابة فيه كأحسن الكلام. ومنها استعمال الكلام المؤنث في شعره، كقوله: لك الولايات إنك مرجلي ونحوه، دون أن يوطئ لذلك بما يحسن التضمين ويخرج الكلمة المؤنثة مخرجاً لا يكفي فيه أن يكون حلقياً فقط. . . أما ما وقع له غير ذلك من اضطراب بعض القوافي وثقل الألفاظ مما يكد لسان الناطق المحتفظ، فذلك متجاوز عنه بعذر البداوة، والغريب عندنا مألوف عند أهله. ^

المنازعة بين امرئ القيس وعلقمة:

لما نزل امرؤ القيس في طيئ تزوج امرأة منهم تسمى أم جندب، وكان مفركاً وكانت تكرهه، فنزل به علقمة بن عبدة فتذاكرا الشعر وادعاه كل واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: فقل شعراً تمدح فيه فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك، وهذا الحكم بيني وبينك يعني تلك المرأة فبدأ امرؤ القيس يقول:

خليليَّ مرّابي على أمِّ جندبِ

نقضِّ لباناتِ الفؤادِ المعذِّبِ

فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وقال علقمة:

ذهبتِ منَ الهجرانِ في غيرِ مذهبِ

ولمْ يكُ حقًّا كلُّ هذا التَّجنُّبِ

فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وكاهن في قول امرئ القيس:

فللسَّاقِ ألهوبٌ وللسَّوطِ درةٌ

وللزّجرِ منهُ وقعُ أهوجَ منعبِ

وفي قوله علقمة:

فأقبلَ يهوي ثانياً منْ عنانهِ

يمرُّ كمرِّ الرائحِ المتحلِّبِ

فتحاكما إليها، فقالت: هو أشعر منك، لأنك ضربت فرسك بسوطك وامتريته بساقك وزجرته بصوتك وأدرك فرس علقمة ثانياً من عنانه.( ص77: ديوان امرئ القيس ). وفي رواية أخرى أنهما احتكما إلى أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعراً تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحد، فأنشدها جميعاً، فلما حكمت لعلقمة قال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني ولكنك له وامقة ؛ فطلقها فخلفه عليها علقمة.( ابن قتيبة )وما رأيت أحداً من أهل النقد وازن بين القصيدتين، بل كلهم متبعون كلمة هذه المرأة، وبعضهم لا يعرف ما كان بينها وبين امرئ القيس فيقول إنهما تحاكما إليها في المفاضلة بينهما لأنهما من ذوات العقل والمعرفة.مع أن علقمة معدود من الشعراء المغلبين وامرؤ القيس يقول في قصيدته:

وإنَّكَ لمْ يفخرْ عليكَ كفاخرٍ

ضعيفٍ، ولمْ يغلبكَ مثلُ مغلَّبِ

وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك منم بعلها، فقرعت أنفة على حمية ونخوة وهي تعلم أنها لا بد مسرحة في زمام هذه لكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل، لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة، وهو قوله:

إذا ما جرى شأوينِ وابتلَّ عطفهُ

تقولُُ هزير الرِّيحِ مرّتْ بأثأبِ

وقد مر شرحه وبيان وجه البلاغة فيه، ولكن من التمس عيباً وجده، ومن تدبر صنعة امرئ القيس للخيل في شعره وجد السوط لا يفارقه، فلعلها كانت عادته.وقصيدة علقمة بجملتها ليست بشيء، لأن كل ما فيها من الألفاظ البارعة والمعاني الحسنة مأخوذ من قصيدة امرئ القيس، حتى ليأخذ البيت برمته والشطر بحاله، ومع ذلك فقد أبر عليه امرؤ القيس، في الصنعة، وما أدري كيف هذا، فلولا أن الرواة مجمعون على أن قصيدة علقمة مما صح له لقلت إنها مصنوعة، ثم إن الذين رووا خبر هذه المنازعة منهم، وهم أبو عمرو بن العلاء ؛ وأبو عبيدة، والأصمعي، لم يزيدوا شيئاً على ما سبق، وكان طبيعياً أم يتكلم امرؤ القيس في ذلك كلمة، لأن علقمة إنما رد إليه بضاعته، ولن يبلغ التوارد بين الشاعرين هذا المبلغ وأحدهما يسمع من الآخر، إلا أن يكون الاثنان قد اتفقا في الأخذ عن ثالث، وهو أغرب ؛ وإن صح خبر هذه المنازعة فيكون ذلك هو السبب في تعفف امرئ القيس على الشعراء وإدلاله بشعره وذهابه إلى الظنة فيه، لأنه رأى من استخذاء علقمة واستجدائه ما ينفخ مثله إلى حد لورم، وما زال على ضلالة حتى لقي التوأم البشكري فقال له: إن كنت شاعراً كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم، فقال امرؤ القيس:

أحارِ ترى بريقاً هبَّ وهناً

كنارِ مجوسٍ تستعرُ استعارا

فقال التوأم:وهي أبيات ستجيء في بحث الصناعات، فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك العصر من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحداً آخر الدهر.كذا رواه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ( ص135 ج 1: العمدة ) وعلى ذلك يكون علقمة إنما غلب امرأ القيس بكلمة امرأته لا بقصيدة. وقد رأينا أن تروي القصيدتين هنا ليكون وجه المقابلة فيهما بيناً، ولا بد أن ننبه على أن أكثر ما في قصيدة امرئ القيس مفرق بألفاظه ومعانيه في قصائد أخرى له، ومنها أبيات لم يغير منها إلا القافية، وذلك بعض ما أخذناه على شعره ( انظر الوسيلة الأبية 504، والجزء الأول من شعراء النصرانية ص23، وديوان امرئ القيس ). وقد رأينا أن نقف من الكلام على امرئ القيس عند هذا الحد ؛ ففي بعض الكفاية كفاية ؛ وما يكون دون غاية من الغايات فربما كان في نفسه غاية.

قصيدة امرئ القيس

خليليَّ مرَّابي على أمِّ جندبِ

لتقضى لباناتُ الفؤادِ المعذَّبِ

فإنَّكما إنْ تنظرانيَ ساعةً

من الدَّهرِ تنفعني لدى أمّ جندبِ

ألمْ ترياني كلَّما جئتُ طارقاً

وجدتُ بها طيباً وإنْ لمْ تطيَّبِ

عقيلةُ أترابٍ لها دميمةٌ

ولا ذاتُ خلقٍ إنْ تأمَّلتَ جانبِ

ألا ليتَ شعري كيفَ حادثُ وصلها

وكيف تراعى وصلةُ المتغيِّبِ

أقامتْ على ما بيننا من مودّةٍ

أميمةُ أمْ صارتْ لقولِ المخبَّبِ

فإنْ تنأَ عنها حقبةً لا تلاقها

فإنكَ ممَّا أحدثتْ بالمجرَّبِ

تبصَّرْ خليلي هلْ ترى من ظعائنَ

سوالكَ نقباً بينَ حزميْ شعبعبِ

علونَ بأنطاكيَّةٍ فوقَ عقمةٍ

كجرمةِ نخلٍ أوْ كجنّضةِ يثربِ

فللَّهِ عينا منْ رأى من تفرُّقٍ

أشتَّ وأنأى من فراقِ المحصَّبِ

فريقانِ منهمْ جازعٌ بطنَ نخلةٍ

وآخرُ منهمْ قاطعٌ نجدَ كبكبِ

فعيناكَ غربا جدولٍ في مفاضةٍ

كمرِّ الخليج في صفيحِ المصوَّبِ

وإنَّكَ لمْ يفخرْ عليكَ كفاخرٍ

ضعيفٍ ولمْ يغلبكَ مثلُ مغلَّبِ

ومرقبةٌ لا يرفعُ الصَّوتَ عندها

مضمِّ جيوشٍ غانمينَ وخيَّبِ

غزرتُ على أهوالِ أرضٍ أخافها

بجانبِ منفوحٍ من الحشوِ شرجب

ودويَّةٍ لا يهتدى لفلاتها

بعرفانِ أعلامٍ ولا ضوءِ كوكبِ

تلافيتها والبومُ يدعو بها الصَّدى

وقدْ ألبستْ أقراطها ثنيَ غيهبِ

بمجفرةٍ حرفٍ كأنّ قتودها

على أبلقِ الكشحينِ ليسَ بمغربِ

يغرِّدُ بالأسحارِ في كلِّ سدفةٍ

تغرُّدَ ميَّاحِ النَّدامى المطَّربِ

أقبَّ رباعٍ منْ حميرَ عمايةٍ

يمجُّ لعاعَ البقلِ في كلِّ مشرب

بمحنيَّةِ قد آزرَ الضَّالَ نبتها

مجرّ جيوشٍ غانمينَ وخيَّبِ

وقدْ اغتدي قبلَ الشروعِ بسابحٍ

أقبَّ كيعفورِ الفلاةِ مجنَّبِ

بذي ميعةٍ كأنَّ أدنى سقاطه

وتقريبهِ هوناً دآليلُ ثعلبِ

عظيمٍ طويلٍ مطمئنٍ كأنَّهُ

بأسفلَ ذي ماوان سرحةِ مرقبِ

يباري الخنوفَ المستقلَّ زماعهُ

ترى شخصهُ كأنَّهُ عودٌ مشجبِ

لهُ أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ

وصهوةُ عيرٍ قائمٍ فوقَ مرقبِ

كثيرُ سوادِ اللحمِ ما دامَ بادناً

وفي الضَّمرِ ممشوقُ القوائمَ شوذبِ

لهُ جؤجؤٌ حشرٌ كأنَّ لجامهُ

يعالى بهِ في رأسِ جذع مشذَّبِ

وعينانِ كالماويَّتينُ ومحجرٌ

إلى سندٍ مثلِ الصَّفيحِ المنصَّبِ

ويخطو على صمٍّ صلابٍ كأنَّها

حجارةُ غيلٍ وارساتٌ بطحلبِ

لهُ كفلٌ كالدِّعصِ لبَّدهُ النَّدى

إلى حاركٍ مثلِ الغبيطِ المذأَّبِ

ومستفلكُ الذِّفرى كأنَّ عنانهُ

ومثناتهُ في رأسِ جذعٍ مشذَّبِ

وأسحمُ ريَّانُ العسيبِ كأنهُ

عثاقيلُ قنوٍ منْ سميحةً مرطبِ

وبهوٌ هواءُ تحتَ صلبٍ كأنَّهُ

من الهضبةِ الخلقاءِ زحلوقُ ملعبِ

يديرُ قطاةً كالمحالةِ أشرفتْ

إلى سندٍ مثلِ الغبيطِ المذأّب

إذا ما جرى شأوينِ وابتلَّ عطفهُ

تقولُ هزيرُ الرِّيحِ مرَّتْ بأثأبِ

إذا ما ركبنا قالَ ولدانِ أهلنا

تعالوا إلى أنْ يأتيَ الصِّيدُ نحطبِ

فيوماً على سربٍ نقيٍّ جلودها

ويوماً على بيدانةٍ أمِّ تولبِ

ويخضدُ في الآريِّ حتى كأنَّما

بهِ عرَّةٌ أو طائفٌ غيرُ معقبِ

خرجنا نريغُ الوحشَ حولَ ثعالةٍ

وبينَ رحيَّاتٍ إلى فجِّ أخربِ

فآنستُ سرباً منْ بعيدٍ كأنَّهُ

رواهبُ عيدٍ في ملاءٍ مهدَّبِ

فكانَ تنادينا وعقدُ عذارهِ

وقالَ صحابي قدْ شأونكَ فاطلبِ

فلأياً بلأيِ ما حملنا غلامنا

على ظهرِ محبوكِ السَّراةِ محنَّبِ

فقفّى على آثارهنَّ بحاصبٍ

وغيبةِ شؤبوبٍ منَ الشَّدِّ ملهبِ

وولَّى كشؤبوبِ العشيِّ بوابلٍ

ويخرجنَ منْ جعدٍ ثراهُ منصَّبِ

فللسَّاقِ ألهوبٌ وللسَّوطِ درةٌ

وللزَّجرِ منهُ وقعُ أهوجَ منعبَ

فأدركَ لمْ يجهدْ ولمْ يثنَ شأوهُ

يمرُّ كخذروفِ الوليدِ المثقَّبِ

ترى الفأرَ في مستنقعِ القاع لاحباً

على جددِ الصَّحراءِ من شدِّ ملهَّبِ

خفاهنّ منْ أنفاقهنَّ كأنَّما

خفاهنَّ ودقٌ منْ عشيٍّ مجلَّبِ

وظلَّ لثيرانِ الصريمِ غماغم

يداعسها بالسَّمري المعلَّبِ

فكاب على حرِّ الجبينِ ومتقٍ

بمدريةٍ كأنَّها ذلقُ مشعبِ

ففئنا إلى بيتٍ بعلياءَ مردحِ

سماوتهُ منْ أتحميٍّ معصَّبِ

وقلنا لفتيانٍ كرامٍ ألا انزلوا

فعالوا علينا فضل ثوبٍ مطنَّبِ

وأوتادهُ مازيَّةٌ وعمادهُ

ردينيةٌ فيها أسنّةُ قعضبِ

وأطنابهُ أشطانُ خوضٍ نجائبٌ

وصهوتهُ منْ أتحميٍّ مشرعبِ

فلمَّا دخلناهُ أضفنا ظهورنا

إلى كلِّ حاريٍّ جديدٍ مشطَّبِ

فظلَّ لنا يومٌ لذيذ بنعمةٍ

فقلْ في ميلٍ نحسهُ متغيِّبِ

كأنَّ عيونَ الوحشِ حولَ خبائنا

وأرحلنا الجزعُ الذي لمْ يثقَّبِ

ورحنا كأنّا منْ جواثى عشيَّةً

نعالي النِّعاجَ بينَ عدلٍ ومحقبِ

نمشُّ بأعرافِ الجيادِ أكفَّنا

إذا نحنُ قمنا عنْ شواء مضهَّبِ

إلى أنْ تروَّحنا بلا متعتَّبٍ

عليهِ كسيدِ الرَّدهةِ المتأوِّبِ

وراحَ كتيسِ الرَّبلِ ينغضُ رأسهُ

أذاةً بهِ منْ صائكٍ متحلِّبِ

حبيبٌ إلى الأصحابِ غيرُ ملعَّنٍ

يفدُّونهُ بالأمَّهاتِ وبالأبِ

فيوماً على بقعٍ دقائقٍ صدورهُ

ويوماً على سفعِ المدافعِ ربربِ

كأنَّ دماءَ الهادياتِ بنحرهِ

عصارةُ حنَّاءٍ بشيبٍ مخضَّبِ

وأنتَ إذا استدبرتهُ سدَّ فرجهُ

بضافٍ فويقَ الأرضِ ليسَ بأصهبِ

قصيدة علقمة بن عبدة

ذهبتَ منَ الهجرانِ في كلِّ مذهبِ

ولمْ يكُ حقَّاً كلَّ هذا التَّجنُّب

لياليَ لا تبلى نصيحةَ بيننا

لياليَ حلُّوا بالسِّتارِ فعرَّبِ

مبتّلةً كأنَّ أنضاءَ حليها

على شادنٍ منْ صاحةٍ متربَّبِ

محالٌ كأجوازِ الجرادِ ولؤلؤ

منَ القلعي والكبيسِ الملوَّب

إذا ألحمَ الواشونَ بالشَّرِّ بيننا

تبلَّغَ راسي الحبِّ غيرَ المكذَّبِ

وما أنتَ أمْ ما ذكرها ربعيَّةً

تحلَّ بإيرٍ أوْ بأكنافِ شرببِ

أطعتُ الوشاةَ والمشاةَ بصرمها

فقدْ أنهجتُ حبالها للتَّقضُّبِ

وقدْ وعدتكَ موعداً لوْ وفتْ بهِ

كموعودِ عرقوبٍ أخاهُ بيثربِ

وقالتْ متى يبخلْ عليكَ ويعتللْ

تشكَّ وإنْ يكشفَ غرامكَ تدرَّبِ

فقالتْ لها فيئي فما تستفرُّني

ذواتُ العيونِ والبنانِ المخضَّبِ

ففاءتْ كما فاءتْ منَ الأدمِ مغزلٌ

ببيشةَ ترع في أراكٍ وحلَّبِ

فعشنا بها منَ الشَّبابِ ملاوةً

فأنجحَ آياتِ الرسولِ المحبَّبِ

فإنَّكَ لمْ تقطعْ لبانةَ عاشقٍ

بمثلِ بكورٍ أوْ رواحٍ مؤوَّب

بمجفرةِ الجنبينِ حرفٍ شملَّةٍ

كهمِّكَ مرقالٍ على الأينِ ذعلبِ

إذا ما ضربتُ الدَّفَّ أوْ صلتُ صولةً

ترقَّبُ منِّي غيرَ أدنى ترقُّبِ

بعينٍ كمرآةِ الصَّناعِ تديرها

لمحجرها منَ النصَّيفِ المثقَّبِ

كأنَّ بحاذيها إذا ما تشذَّرتْ

عثاكيلَ قنوٍ منْ سميحةَ مرطَّبِ

تذبُّ بهِ طوراً وطوراً تمرُّهُ

كذبّش البشيرِ بالرِّداءِ المهدَّبِ

وقدْ أغتدي والطَّيرُ في وكناتها

وماءُ النَّدى يجري على كلِّ مذنبِ

بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ لاحهُ

طرادَ الهوادي كلَّ شأوٍ مغرَّبِ

بعوجٍ لبانهِ يتمُّ بريمهُ

على نفتِ راقٍ خشيةَ العينِ مجلبِ

كميتٍ كلونِ الأرجوانِ نشرتهُ

لبيعَ الرِّواءِ في الصِّوانِ المكعَّبِ

ممرٍّ كعقدِ الأندريِّ يزينهُ

معَ العتقِ خلقٌ مفعَّم غيرَ جانبِ

لهُ حرَّتانِ تعرفُ العتقُ فيهما

كستامعتيْ مذعورةً وسطَ ربربِ

وجوفٌ هواٌء تحتَ متنٍ كأنَّهُ

منَ الهضبةِ الخلقاءِ زحلوقٍ ملعَّبِ

قطاةٌ ككردوسِ المحالةِ أشرفتْ

إلى كاهلٍ مثلِ الغبيطِ المذأبِ

وغلبٌ كأعناقِ الضِّباعِ مضيفها

سلامُ الشَّظى يغشى بها كلَّ مركبِ

وسمرٌ يفلِّقنَ الظِّرابِ كأنَّها

حجارةُ غيلٍ وارساتٍ بطحلبُ

إذا ما اقتنصنا لم نخاتلْ بجنَّةٍ

ولكنْ ننادي منْ بعيدٍ: ألا أركبِ

أخا ثقةٍ لا يلعنُ الحيُّ شخصهُ

صبوراً على العلاَّتِ غيَر مسبَّبِ

إذا أنفدوا زاداً فإنَّ عنانهُ

وأكرعهُ مستعملاً خيرَ مكسبِ

رأينا شياها يرتعينَ خميلةً

كمشي العذارى في الملاءِ المهدَّبِ

فبينا تمارينا وعقدُ عذارهِ

خرجنَ علينا كالجمانِ المثقَّبِ

فأتبعَ أدبارَ الشِّياهِ بصادق

حثيثٍ كغيثِ الرايحِ المتحلِّبِ

ترى الفأرَ عنْ مسترغبِ القدرِ لائحاً

على جددِ الصَّحراءِ منْ شدِّ ملهبِ

خفا الفأرُ منْ أنفاقهِ فكأنَّما

تجلَّلهُ شؤبوبُ غيثٍ مثقَّبِ

فظلَّ لثيرانِ الصَّريمِ غماغمٌ

يداعسهنَّ بالنَّضيِّ المعلَّبِ

فهاو على حرِّ الجبينِ ومتقٍ

بمدراتهِ كأنَّها ذلقُ مشعبِ

طرفة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان، نسبه المفضل إلى معد بن عدنان، ويقولون إنه أشعر الشعراء بعد امرئ القيس، وإنما نظروا إلى مرتبة قصيدته في الطوال على الترتيب المشهور ؛ وإلا فامرؤ القيس مختلف في تقديمه عندهم، وقد أورد صاحب الجمهرة قصيدة طرفة آخر السبع، فقدمهم عليه جميعاً، وهو على رأي المفضل من أن أصحاب السبع هم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة ؛ ولما كانت مثل هذه الأقوال المتضاربة لا تعدو الآراء المرتجلة التي لا ثبت لها، فقد اخترنا إهمالها، لأن الرأي لا يزال يعارضه مثله إلى أن ينقطع عند البرهان. كان طرفة ابن أخت الشاعر المتلمس، وابن أخي الشاعر المعروف بالمرقش الأصغر، فالتقى إليه الشعر من طرفيه ؛ وكان في حسب من قومه، جريئاً على هجائهم هجاء غيرهم، ولا يعرف من تاريخ نشأته إلا القليل مما لا يتهيأ به الحكم على مبلغ تأثير نشأته في شعره، غير أن جملة ما يؤخذ من ذلك أنه كان أبياً معتداً بنفسه، مدلاً على قومه، واثقاً بمنزلته منهم، جريئاً بمقدار ما تدفع هذه الثقة، مترفعاً إلا عن الملوك، يرجوهم يهجوهم ؛ فهو يذهب إليهم بنفسه ولكنه يمثل لديهم وكأن في برديه حاشيتي قومه.ولا يعلل ذلك إلا بأنه كان غراً لم تسلم به السن بعد إلى مذهب عن نزق الحداثة وسكره الشباب لأنه مات وله خمس وعشرون سنة بدليل قول أخته الخرنق في رثائه:

عددنا لهُ خمساً وعشرينِ حجَّةً

فلمَّا توفّاها استوى سيِّداً ضخما

فجعنا بهِ لمَّا استتمَّ تمامهُ

على خيرِ حالٍ لا وليداً ولا قحما

القحم: المتناهي في السن.ويروى: ستا وعشرين حجة وقال بعضهم: إنما بلغ عمره نيفا وعشرين سنة، قلا يبعد أن تكون ثم رواية: إحدى وعشرين حجة، وعلى أي هذه الأقوال فقد خب هذا الشاعر وركض بسنيه القليلة في مثل الأعمار الطوال، وكان منصباً على اللهو، يعاقر الخمر ويتلف بها ماله، فأورثته جنون الكبرياء وقتلته بلسانه الذي انتضى منعه سيف الهجاء.روى الجاحظ ( البيان: الجزء الأول ): قيل لامرئ القيس بن حجر.ما أطيب عيش الدنيا ؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، بالشحم مكروبة ! وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية تمزجها ساقية ؛ من صوب غادية ! وقيل مثل ذلك لطرفة فقال: مطعم شهي.ومركب وطي !. وفي سبب قتله أقوال متقاربة ؛ أمثلها ما رواه يعقوب بن السكيت في شرح ديوانه ؛ قال: إن طرفة لما هجا عمرو بن هند ( ص415 ج 1: خزانة الأدب ) بأبياته التي أولها:

فليتَ لنا مكانَ الملكِ عمرو

رعوثاً حولَ قبَّتنا تخورُ

لم يسمعها عمرو بن هند ؛ حتى خرج يوماً إلى الصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه حتى أصاب طريدته ؛ فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطباً، وفيهم ابن عم طرفة، فقال لهم: أوقدوا ناراً وشوى، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه، إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقاً فأبصر كشحه وكان من أحسن أهل زمانه جسماً، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر فهجاه طرفة بأبيات فقال له عمرو بن هند، وكان سمع تلك الأبيات: يا عبد عمرو، لقد أبصر طرفة حسن كشحك، ثم تمثل فقال:

ولا خيرَ فيهِ غيرَ أنَّ لهُ غنّى

وأنَّ لهُ كشحاً إذا قامَ أهضما

فغضب عبد عمرو مما قاله وأنف فقال: لقد قال للملك أقبح من هذا ! قال عمرو: وما الذي قال ؟ فندم عبد عمرو وأبى أن يسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه بها. . .فسكت عمرو بن هند على ما قرر في نفسه، وكره أن يجعل عليه لمكان قومه فأضرب عنه وبلغ ذلك طرفة وطلب غرته والاستمكان منه، حتى أمن طرفة ولم يخفه على نفسه، فظن أنه رضي عنه، وقد كان المتلمس وهو جرير بن عبد المسيح هجا عمرو بن هند، وكان قد غضب عليه، فقدم المتلمس وطرفة على عمرو بن هند يتعرضان لفضله، فكتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر. . .وقال لهما انطلقا إليه فاقبضا جوائزكما، فخرجا، فزعموا أنهما لما هبطا النجف قال المتلمس: يا طرفة، إنك غلام غر حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فسلت آمناً أن يكون قد أمر فينا بشر، فهلم ننظر في كتابنا، فإن يكن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن يكن أمر فينا بغير ذلك لم نهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وحرص المتلمس على طرفة فأبى ثم كان من أمرهما أن قتل طرفة، قتله عامل عمرو بن هند على البحرين ويقال إنه لما قرأ العامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة بها، فقال: اسقني خمراً، فإذا ثملت فافصد أكحلي، ففعل حتى مات، وذكر ذلك البحتري بقوله:

وكذاكَ طرفةُ حينَ أوجسَ خيفةَ

في الرَّأسِ، هانَ عليهِ فصدُ الأكحلِ

قال المرتضى في أماليه ( ص131 ج 1 ): ويقال إن صاحب هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة:

أبا منذرٍ كانتْ غروراً صحيفتي

ولمْ أعطكم بالطَّوعِ مالي ولا عرض

أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا

حنانيكَ، بعضُ الشَّرِّ أهونُ منْ بعضِ

وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة والمتلمس في النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان. وقالوا إن طرفة نطق بهذين البيتين ( أبا منذر. . .) لما أيقن بالموت، وقد عدوه بهما فيمن شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف، لقدرته وسكون جأشه وقوة غريزته، كهدبة بن الخشرم ومرة بن محكان السعدي ( ص129 ج 1: العمدة ). ويقال عن ذلك كان سنة 552 بعد الميلاد، وقيل سنة 564.

شعره:

لم ينص أحد على مقدار ما صحت به الرواية عن طرفة، إلا أن بعضهم ذكر أن ما يصح من ذلك أحد عشر شعراً ؛ فلا يميز من المنحول في شعره إلا القليل، وإلا ما جاءت بسببه رواية من الروايات ؛ كبعض القصائد التي نسبها له حماد، وستعرف شيئاً منها في بحث الرواية والرواة، غير أن طويلته من شعره الذي لا خلاف في نسبته، و إن كانت لا تخلو من تهذيب الرواة وزيادتهم فيها، وهي التي فضله الناس بها وجعلوها واحدته وقالوا فيه من أجلها إنه أجودهم طويلة ؛ وتكاد هذه القصيدة تكون ديوانه ؛ لأنها جمعت محاسن صنعته وضمت أطراف معانيه واطردت اطراد الماء، وهي التي جعلت صاحبها أضرب شعراء الجاهلية مثلاً عند قتيبة فيما أجاب به الحجاج حين كتب إليه يسأله عن أشعر الجاهلية وأشعر أهل زمنه، وقد عد العلماء أكثر مخترعات طرفة منها.كقوله فيه ( ص176 ج 1: العمدة ):

ولولا ثلاثٌ هنَّ منْ لذَّةِ الفتى

وجدَّكَ، لمْ أحفلْ متى قامَ عوَّدي

فمنهنَّ سيقي العاذلاتِ بشربةٍ

كميتٍ متى ما تعلَ بالماء تزبدِ

وكرِّي إذا نادى المضافُ محنِّباً

كسيد الغضا ذي الطَّخيةِ المتورِّدِ

وتقصيرُ يومِ الدَّجنِ والدَّجنُ معجبٌ

ببهكنةٍ تحتَ الطَّرافِ المعمَّدِ

ولم يجدوا له مخترعاً في غيرها إلا قليلاً. وروى بعضهم في سبب قولها، أنه كان لطرفة أخ اسمه معبد، وكان لهما إبل يرعيانها يوماً ويوماً، فلما أغبها طرفة قال أخوه معبد: لم لا تسرح في إبلك ؟ ترى أنها إن أخذت تردها بشعرك هذا ؟ قال: فإني لا أخرج فيها أبداً، حتى تعلم أن شعري سيردها إن أخذت ! فتركها وأخذها ناس من مضر. وقيل: بل إن الإبل التي ضلت هي إبل معبد فسأل طرفة ابن عمه مالكاً أن يعينه في طلبها فلامه وقال: فرطت فيها أقبلت تتعب في طلبها ! فقال قصيدته ؛ وهي تربى على مائة بيت، وتختلف بعد المائة باختلاف الروايات، ذكر فيها الأطلال واستوقف بها ثم شبه قباب النساء بسفين الماء، ووصف ذات هواه في الحي فبسط من ذلك صورة رائعة من صور الطبيعة، ثم التفت إلى ناقته فأمضى بها الهم عند احتضاره، واستأمن بها على وضح الطريق من عثاره، ووصف من توثيق خلقها وطيب مرعاها وكرم العتق فيها وتراصف عظامها وتداخل أعضائها ؛ فبنى على ذلك بناء يحسن أن يكون باباً من علم التشريح البيطري في الجاهلية. . .ثم ذكر نشاطها وإسراعها وسهولتها، ونقل من ذلك إلى نفسه فوصف نفاذه ومضيه على الهول وأنه يتقلب على جنبي السيادة واللهو، ونسج من ذلك حاشيته، ثم كأنما سكر كلامه فوصف من سفهه ما تحامته من أجله العشيرة حتى أفرد إفراد البعير الأجرب المذلل. . .وبعد أن انتهى إلى المذلة صحا على لائمه وأخذ يعد لذاته مما يصفه بالمخيلة والفتوة ونضرة العيش، ثم خرج من ذلك بالسوداء، فذكر الموت ووازن بينه وبين الحياة، ليدل على أن ربح الحياة هو الربح وصار كلامه من ذكر الموت إلى النزع، غير أنه هجم بهذا الموت يعاتب ابن عمه مالكاً الذي ضيع إبله، فكأنه يذكره أن ضياع إبله خطب يسير، يحم القضاة فتضيع روحه في الوادي الذي لا يتقدم فيه يطلبها ولا تنشد فيه عند ربها، ثم جعل يذكره بالقربى ورعايتها كأنه يستعطف، ولكنه اتخذ من ذلك وسيلة تخلص بها إلى عمرو بن مرثد أحد سادات العرب، فقال:

فلوْ شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ

ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عمرو بنَ مرثدِ

وكان عمرو هذا كثير الولد، فقالوا إنه لما بلغه قول طرفة وجه إليه وقال: أما الولد فالله يرزقك، وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا، فأمر سبعة من ولده فدفع إليه كل واحد عشراً من الإبل، وأمر ثلاثة من بني بنيه فدفع إليه كل واحد عشراً. ثم عاد طرفة فنفض غبار الذلة، واستكثر بعد القلة، وتميح في شعره وهدرت هذه الكلمات في أشداقه، حتى قطع القصيدة على حكمة بالغة لا تزال تدور في الناس فهو بها على الفناء يتجدد، وكأنها كانت نفساً من أنفاس المخلود فقرنت باسمه من هذه القوافي الدالية قافية ( المخلد ). ومن مختار تلك القصيدة قوله:

إذا لقوم قالوا من فتىً ؟ خلتُ أنني

عنيتُ، فلم أكسلْ ولم أتبلّدِ

وإن يلتقِ القومُ الجميعُ تلاقني

إلى ذروةِ البيتِ الرفيعِ المصمّدِ

أرى قبرَ نحّامٍ بخيلٍ بماله

كقبرِ غويّ في البطالةِ مفسدِ

أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي

عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدّدِ

لعمركَ إنّ الموتَ ما أخطأ الفتى

لكالطولِ المرخى وثنياهُ في اليدِ

وقوله مفتخراً فيها:

أنا الرجلُ الضّربُ الذي تعرفونهُ

خشاشٌ كرأس الحيّة المتوقّدِ

فآليتُ لا ينفكُّ كشحي بطانةً

لعضبٍ رقيقِ الشفرتينِ مهنّدِ

إذا ابتدرَ القومُ السلاحَ وجدتني

منيعاً إذا بلّت بقائمهِ يدي

وختامها:

ستبدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهلاً

ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوّدِ

ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تبع لهُ

بتاتاً ولم تضربْ له حينَ موعدِ

مذاهبه في الشعر:

ليس فيما وقع إلينا من شعر الجاهلية ما ينطق بأن صاحبه شاعر قبيلة بمجموع هذا المعنى، غير شعر طرفة، فهو إذا فخر رأيته يتكلم بلسان ملك قد ضمن طاعة قومه واستمسك بميثاقهم، وما كان أحق امرئ القيس بمثل هذا الفخر فيقيم به جهة من شعره قد تركها وهي تريد أن تنقض. وقد وصف طرفة النوق وصفاً شعريا، ولكنه قصر في صفة الخيل وجاءت في كلمه متفرقات من الحكم والأمثال، وهي أبدع ما في شعره، ثم هو قد ضرب في الهجاء بالسهم الصائب ورجم فيه بالشهاب الثاقب، ولكنه قليل المديح نازل الطبقة فيه، ولم يؤثر له من ذلك إلا ما يرد على قومه، وهو مدحه لقتادة بن سلمة الحنفي حين أصاب قومه سنة فأتوه فبذل لهم، وثم أبيات قالوا إنه مدح فيها سعد بن مالك بن حين طرد فصار في غير قومه وقد ذكرهم فيها بقوله:

وليسَ امرؤٌ أفنى الشبابَ مجاوراً

سوى حيّه إلا كآخر هالك

ولعل مديحها منحول إذ يقول فيه:

رأيتُ سعوداً من شعوبٍ كثيرةٍ

فلم ترَ عيني مثلَ سعد بن مالكِ

وليس مثل هذا مما يقوله طرفة. ويمتاز هذا الرجل بالمبالغة والإغراق، فكأنه ينظر إلى دقائق الوصف بعين من البلور.وذلك كقوله في وصف الناقة:

كأنَّ جناحي مضرحيّ تكنّفا

حفافيهِ شكا في العسيبِ بمسردِ

فطوراً به خلفَ الزميلِ، وتارةً

على حشفٍ كالشنِّ ذاوٍ مجدّدِ

لها فخذانِ عولي النّحضُ فيهما

كأنّهما بابا منيفٍ ممرّد

كأنّ كناسي ضالةٍ يكنفانها

وأطر قسيّ تحت صلبٍ مؤيّدِ

لها مرفقانِ أفتلانِ كأنّما

أمرّا بسلمى دالجٍ متشدّدِ

كقنطرةِ الروميِّ أقسمَ ربّها

لتكتنفن حتى تشادَ بقرمدِ

فقد أراد أن يصف ذنب الناقة بكثرة الهلب، وهو الشعر الكثير، فشبهه بجناحي النسر، وجعل فخذيها كباب الصرح الممرد، وشبه تباعد ما بين مرفقيها وزورها بكناس الظبي حول الشجر، ثم شبه الناقة في ارتفاعها بقنطرة الرومي الذي جعله يقسم على قنطرته لتحاطن بالبناء ولتشادن بالقرميد، ولعمري ليس هذا القسم بأكثر من اللغو.وقد مر في مثل هذه التشبيهات حتى وصل إلى عيني الناقة فجعلهما من حجاجيهما في مثل غارين من الجبل، ولو أنه مد في عنق هذه الناقة فشبهه بأطول من خراطيم السحاب. وإنما تحسن المبالغة إذا لم يكن التشبيه منكشفاً هذا الانكشاف فيكون في إحدى جهاته سبب الأسباب التي يصح أن تتعلق عليه المبالغة، وسيأتيك هذا في موضعه مفصلاً. ومن نوع قسم الرومي في شعر طرفة قوله متغزلاً يصف الأقحوان:

وتبسّمَ عن ألمي كأنّ منورّاً

تخلّل حرَّ الرملِ دعضٌ له ندي

سقتهُ إياةُ الشمسِ إلا لثاتهُ

أسفَّ ولم تكدم عليهِ بإثمدِ

فحاصل البيتين أنه يشبه ثغر التي يتغزل فيها بالأقحوان الندي، ويقول إنها قد ذرت الإثمد على لثاتها ( وسائر العرب يفعلن ذلك في الشفاه واللثات ليكون أشد للمعان الأسنان ) غير أن تخلل الدعص الندي من الأقحوان المنور لحر الرمل، والوصول من ذلك كله إلى تشبيه الثغر بالرفيف واللمعان لا يعد فلاحاً في الغزل وأولى به أن يكون فلاحة. والصنعة في شعر طرفة قليلة إلا أنها جيدة، وأرى شعر هذا الرجل كالشباب: حقيقة جماله في القوة والمتانة، فإن اتفق معه شيء من ظواهر الجمال كان ذلك بمجموعه كمالاً، فمن مشهور استعارته قوله:

فإذا ما شربوها وانتشوا

وهبوا كلّ أمونٍ وطمر

ثمّ راحوا عبقُ المسكِ بهم

يلحفونَ الأرضَ هدّاب الأزرْ

وهي غاية من غايات هذا الجواد: فإن لبيت يصور الجمال والقوة والكبرياء، ويكاد يريك الناس مطرقين قد تعلقت أعينهم بهداب تلك الأزر.ومن هذه القصيدة بيت دائر في كتب اللغة والأدب، وهو قوله:

نحنُ في المشتاةِ ندعو الجفلى

لا نرى الأدبَ فينا ينتقرْ

غير أن حياة هذا البيت تاريخية لا شعرية، لأنه إنما سار وبقي للاستشهاد بألفاظه، ومن كلماته الجميلة قوله: ( وعامت بضبعيها ).إذ يصف الناقة بأنها تمد يديها كهيئة السابح، وقوله: ( طراد الغرام ) في صفة قومه بالبذل والسفه، وقوله في صفة الحرب يذكر قومه:

لا ترى إلاّ أخا رجلٍ

آخذا قرناً فملتزمه

فهذه الكلمة ( أخا رجل ) في موضعها من أبلغ الكلم، بل هي من جوامعها، لأنها تدل على كثرة قومه وإقدامهم، وتوزعهم في الحرب توزع الآجال واستغراقهم أعدائهم، إلى نحو ذلك، ومن هذه القصيدة الحكمة السائرة:

للفتى عقلٌ يعيشُ بهِ

حيثُ تهدي ساقهُ قدمه

ومما اختاره له في الحماسةِ قولهُ:

وأعلمُ علماً ليسَ بالظنِِّ أنّهُ

إذا ذلَّ مولى المرءِ فهو ذليلُ

وأنَّ لسانَ المرءِ ما لم يكن لهُ

حصاةٌ على عوراتهِ لدليلُ

ولا يزال الكتاب لعهدنا يكتبون ( علم ليس بالظن ) وهم يظنون أنها معربة.وقد جاءت في شعر إسلامي من شعر المائة الأولى: وأعلم غير الظن، وهي أبلغ وأوجز.

زهير بن أبي سلمى

هو زهير بن أبي سلمة قال فيه الصحاح: ليس في العرب سلمى ( بالضم ) غيره ابن رباح، يرتفع نسبه إلى نزار، كان واعياً حكيماً يعدونه من مترهبة العرب، قالوا: وهو أحد الثلاثة المتقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحدهم على صاحبه، فأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني، وما أرى ذلك عن جماعة، فإن الأقوال مختلفة في التفصيل بين الشعراء، وقد جاءت روايات بتقديم أوس بن حجر، وعلقمة بن عبدة، وغيرهما، ولكن أصل ذلك الخبر فيما أراه ما أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً ( ص62 ج 1: العمدة ). وإلى هذه الرواية يرجع كل ما ورد عن ابن عباس وعمر ابن الخطاب وغيرهما من الحجازيين في تقديم زهير وأنه أشعر الشعراء. وقد ورث زهير الشعر عن أبيه وخاله، وورثه ولده، قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعراً، وخاله شاعرا، وأخته سلمى شاعرة، وأبناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة، وابن ابنه المضرب ابن كعب شاعر. وفي رواية حماد وابن الكلبي عن أبيه قال: كان بشامة بن الغدير خال أبي سلمى، وكان زهير منقطعاً إليه معجباً بشعره.وكان بشامة أحزم الناس رأياً، فكانت غطفان إذا أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروه وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله، فلما حضره الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته وبين بني أخوته فأتاه زهير فقال: يا خالاه، لو قسمت لي من مالك، فقال: والله يا ابن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله.قال: وما هو ؟ قال شعري ورثتنيه، وقد كان زهير قبل ذلك قال الشعر.وكان أول ما قاله، فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتد به علي ؟ فقال له بشامة: ومن أين جئت بهذا الشعر ؟ لعلك ترى أنك جئت به من مزينة ؟ هي قبيلة من مضر ينسبونه إليها، قال ابن قتيبة: وإنما نسبه في غطفان، ورده ابن عبد البر في الاستيعاب وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان، ثم لي منهم، وقد رويته عني. غير أن الثابت الذي يدفع، أن زهيراً كان راوية أوس بن حجر، وطفيل الغنوي جميعاً ( ص132 ج 1: العمدة ) وكان أوس زوج أم زهير ( ص55 ج 1: العمدة ) فإذا صح أنه روى شعر بشامة أيضاً، وأن بشامة كان بالمنزلة التي وصفوا من أصالة الرأي، فيكون زهير قد احتذاه في حكمه وأمثاله، لأنه لا يعرف لشاعر جاهلي ما عرف من ذلك لزهير. وكان زهير يمدح هرم بن سنان سيد غطفان وأحد أجواد العرب المشهورين، وهو الذي وقع به إلى صميم المديح وأراه من وجوده موضع الاختراع، حتى قالوا إنه حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرسا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحاً غير هرم وخيركم استثنيت، وقد سلف لنا الكلام في الارتجال والبديهة عن حوليات هذا الشاعر والأسباب التي بعثته على الصنعة والتنقيح حتى صار مثلاً في ذلك للمتأخرين، وخرج شعره مصفى مستوياً، إذ كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع الوحشي منه. حتى قال أبو عبيدة: إن لشعره ديباجة إن شئت قلت شهد إن مسسته ذاب، وإن قلت صخر لو رديت به الجبال لأزالها. وعمر زهير طويلاً، وتوفي قبل البعثة بسنة، وديوان شعره معروف وعليه شروح طبع منها في ليدن شرحه للأعلم الشنتمري سنة 1889 للميلاد. مختاراتها وسببها:كان ورد بن حابس العبسي قتل هرم بن ضمضم المري الذي يقول فيه عنترة وفي أخيه:

ولقد خشيتِ بأن أموتَ ولم تدرْ

للحرب دائرةٌ على ابني ضمضم

فتشاجر عبس وذبيان قبل الصلح، وحلف حصين بن ضمضم أن لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلاً من بني عبس، ثم من بني غالب ولم يطلع على ذلك أحداً، وقد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة، فأقبل حتى نزل بحصين بن ضمضم، فقال له حصين: من أنت أيها الرجل ؟ قال: عبسي، قال من أي عبس ؟ فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب، فقتله حصين، وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان فاشتد عليهما، وبلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث، فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث، بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه، وقال للرسول: الإبل أحب إليكم أم أنفسكم ؟ فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك، فقال لهم الربيع بن زياد: يا قوم إن أخاكم قد أرسل إليكم الإبل أحب إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم ؟ فقالوا نأخذ الإبل ونصالح قومنا ونتم الصلح. فقال زهير هذه القصيدة يمدح الحارث وهرما، وتلك منقبة ليس لها إلا المديح من شاعر ورع حكيم كزهير، وقد ذكرهما بها في قصيدته الأخرى التي مطلعها:

صحا القلبُ عن سلمى وقد كادَ لا يسلو

وكانت تلك أول قصيدة مدح بها هرماً، ثم تابع بعد ذلك.والرواة يختلفون في عدد أبياتها، ولكنهم لا يزيدون منها على أربعة وستين بيتاً، ولا ينقصون عن تسعة وخمسين، وقد استهلها بكلام عن الديار والآثار وكان ذلك شائعاً في العرب، ولم يحسن فيه إحسان غيره، ثم وصف الظعائن في الهوادج وما طرحن عليها من الأنماط العتاق والكلل التي تشبه حواشيها لون الدم، وذكر بكورهن وأنهن لا يخطئن الوادي كما لا تخطئ اليد الفم.واستمر يصف رحيلهن، ثم اقتضب المديح في الحارث وهرم، فذكر مساعيهما ومداركتهما عبساً وذبيان، وما احتملا من غرامة لم يجرما لها، ثم أقبل على الأحلاف: أسد وغطفان وطيئ، ينذرهم أن يحنثوا فيما تحالفوا عليه من السلم أو يكتموا الله ما في صدورهم ويذكرهم بالحرب ما علموا وذاقوا، ويصفها لهم وقد لحقت وأنتجت كل غلام أشأم، وغلت ما لا تعل قرى العراق من قفيز ودرهم، ثم ذكر ما جره عليهم حصين، وتخلص من ذلك إلى الذين تحملوا الديات ووطأوا أكناف المكارم لهذه المغارم، فوصف كرمهم وعزهم، ثم خرج إلى ما يشبه كلام الأنبياء، فاستخلص مما قصته حكماً يصف بها الحياة السياسية والاجتماعية، ولقد أبرزها في موضعها سياسة في الشعر وفلسفة في السياسة، وهي جملة المختار من هذه القصيدة، ومنها:

ومن لا يصانع في أمورٍ كثيرةٍ

يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ

ومن يجعلِ المعروفَ من دونِ عرضهِ

يفرهُ ومن لا يتق الشتمَ يشتمِ

ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلهِ

على قومهِ يستغنَ عنهُ ويذممِ

إلى أن يقول:

ومهما تكن عندَ امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناسِ تعلمِ

وكائنٌ ترى من صامتٍ لكَ معجبٍ

زيادتهُ أو نقصهُ في التكلّمِ

لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده

ولم يبقَ إلا صورة اللحمِ والدمِ

وهذان البيتان من الروحانيات التي لا تزال تطير بين السماء والأرض.

شعره

قد تقدم أن زهيراً أشهر من عرف من العرب باستثبات اللفظ وتخير الكلمة وتنقيح العبارة، فلا جرم كان أحصفهم شعراً، وأفصحهم لفظاً، ولا يزال قد رمى في شعره بالحكمة الرائعة، والمثل السائر، والمعنى اللطيف واللفظ الفخم الجليل، والقول المنسق النبيل، وقد سلس له النظام، وأطاعه عصي الكلام، فلا تتبين في ألفاظه ذلة الاستكراه، ولا هوان الاعتساف، بل تراها من الروعة والفخامة وحسن الاستواء كأنما كانت تهدر في قلبه لا في شدقه، ولكأني أرى أبياته موازين، فلا تكاد اللفظة تميل في الكفة حتى تقع أختها في الكفة الأخرى فتتساويا، ومن أجل ذلك قل المنحول في شعره لأنه ديباجة غير ممزقة، ونسيج غير مخرق، ولا يأخذه نظر الناقد حتى ينفيه، وقد نحلوه أبياتا يقال إنها لصرمة الأنصاري يقول في أولها:

ألا ليتَ شعري هل يرى الناسُ ما أرى

من الأمرِ أو يبدو لهم ما بدا ليا

( ص582: شعراء النصرانية )فنفاها الأصمعي لأنها لا تشبه كلامه، إذ كانت ألفاظ زهير بينة، وكان شعره نفساً لا فتور فيه ولا تلبث، وحسبه بمثل هذا الدليل: إذا كان الدخيل في القوم لا يستدل بغير انقطاع نسبه على أنه دخيل. ويظهر لمن تدبر شعر زهير أنه ضعيف الابتكار والاختراع، لا يعارض في ذلك الفحول المعدودين كامرئ القيس وغيره، ولكن ألفاظه وصنعته غطت على هذا النقص، فقلما ينكشف إلا لمن عارض وتتبع، وقد تراه يأخذ في صفة من الصفات كنعت الناقة أو حمر الوحش أو طراد الصيد، فلا يزال ينحتها من ألفاظه حتى تتمثل كأنها دمية مصور إن لم تكن فيها حياة فإن الحسن في تمثالها حي. وترى الرأي يغلب شعر هذا الرجل، فكأنه شعر سيد لا شعر شاعر، وأكثر ما يظهر ذلك في أبياته الهمزية التي يقال إنه هجا بها آل بيت من كلب من بني عليم ابن حبان وذلك حيث يقول فيها ( ص552: شعراء النصرانية ).

وما أدري وسوفَ إخالُ أدري

أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ ؟

فإن قالوا النساءُ مخبآتٌ

فحقَّ لكلّ محصنةٍ هداءُ

وإما أن يقولَ بنو مصادٍ

إليكمْ، إنّنا قومٌ براءُ

وإمّا أن يقولوا قد وفينا

بذمّتنا فعادتنا الوفاء

وإما أن يقولوا قد أبينا

فشرّ مواطنِ الحسبِ الإباءُ

وإنّ الحقّ مقطعهُ ثلاثٌ:

يمينٌ، أو نفارٌ، أو جلاءُ

وبهذا البيت الأخير سمي زهير قاضي الشعر.أما قوله وما أرى الخ فهو الذي اختاره علماء البلاغة مثالاً في باب التشكك، وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وله في النفس حلاوة وحسن موقع، بخلاف ما للغلو والإغراق، لأنه يدل على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما، فقد أظهر زهير أنه لم يعلم أهم رجال أم نساء، وهذا أملح من أن يقول لهم نساء، وأقرب إلى التصديق، وأبلغ في التهكم والازدراء والتنقص ( ص53 ج 2: العمدة ) ومن هذه القصيدة:

ولولا أن ينالَ أبا طريفٍ

إسارٌ من مليكٍ أو لحاءُ

لقد زارت بيوتَ بني عليمٍ

من الكلماتِ آنيةٌ ملاءُ

ولعمري إن هذه الآنية الملأ لطرفة من طرف الاستعارة، وإن حسنها إنما تم بذكر البيوت في صدر الشعر.وفيها أيضاً:

وإنيّ لو لقيتكَ فاجتمعنا

لكانَ لكل منديةٍ لقاءُ

ويروى: لكل منكرةٍ كفاء، وهي لمحة دالة أشار بها لقبح ما كان يصنع به لو لقيه، وهذا البيت عند قدامة أفضل بيت في الإشارة التي لا يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر. ولا بأس أن ننسحب على هذا الأثر من البديع، فإن ذلك من متممات زهير، ولولاه لما كان لصنعته شأن، وقد كان يتوكأ في هذه الطريقة على من تقدمه من الفحول ويلوذ بهم، كامرئ القيس وأوس بن حجر وأبي داود الأيادي، كما اتبع في صفته امرأ القيس قوله:

كأن فتاتَ العهنِ في كلّ منزلٍ

نزلنَ به حبُّ الفنا لم يحطّمِ

فإنّه أوغل في التشبيه إيغالاً، بتشبيه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة، وقد اتبع بيت امرئ القيس:

كأن عيونَ الطير حولَ خبائنا

وأرحلنا الجزعُ الذي لم يثقبِ

وكذلك أتبع في نفي الشيء بإيجابه حيث يقول:

بأرضِ خلاٍ لا يسدّ وصيدها

عليّ ومعروفي بها غيرُ منكرِ

فأثبت لها في اللفظ وصيداً، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسدّ، وله في المبالغة والتتميم العجيب قوله:

من يلقَ يوماً على علاّتهِ هرماً

يلق السماحةَ منه والندى خلقا

فإنه يريد بقوله ( على علاته ) ما يكون من قلة المال والعدم، أي فكيف به وهو على خير تلك الحال، وقد جاء له في هذه القصيدة:

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا

ضاربَ، حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

قالوا إنه أتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج وزاد ممدوحه رتبة وتقدم به خطوة على أقرانه، وهو نوع من التقسيم تأتي فيه الزيادة تدريجاً وترتيباً، ولذلك يصعب على متعاطيه ويقل جداً حتى إنهم لم يجدوا من الشعر عديل هذا البيت ( ص20 ج 2: العمدة ). ذلك بعض صنعته، أما معانيه فإن أكثر ما قدم به زهير المديح، وهو الذي ألقى على المادحين فضول الكلام، وله في ذلك أبيات لم يسبق إليها، كأبياته القافية التي يقول فيها:

من يلقَ يوماً على علاته هرماً

ونحو قوله:

من كان ضريبتهُ التقوى، ويعصمهُ

من سيئ العثراتِ الله والرحمُ

مورثُ المجدِ لا يغتالُ همتهُ

عن الرياسة لا عجزٌ ولا سأمُ

وقصيدته اللامية التي مطلعها:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وفيها يقول:

على مكثريهم رزقُ من يعتريهمُ

وعند المقلين السماحة والبذلُ

وما يكُ من خيرٍ أتوه فإنّما

توارثه آباءُ آبائهم قبلُ

وهل ينبتُ الخطي إلا وشيجةً

وتغرس إلا في منابتها النخلُ ؟

كذلك أبياته التي استجمع فيها ضروب فيها ضروب المديح من العقل والعفة والعدل والشجاعة، وهي التي يقول فيها، وهي من المديح المنصوص عليه، وقد عدوها شرفاً لمن قيلت فيهم:

أخي ثقةٍ لا تتلفُ الخمر مالهُ

ولكنّهُ قد يهلكُ المالَ نائلهُ

تراهُ إذا ما جئتهُ متهلالا

كأنّك قد تعطيه الذي أنت سائلهْ

وقد اختارها قدامة في نقد الشعر وشرحها على ذلك التقسيم. ونحن لسنا في سبيل الاختيار، وإنما نسوق ما لا يزيلنا عن طريق البحث ولزهير طريقة في تقريب المبالغة والبلوغ إلى الإفراط والإغراق من طريق الحقيقة، كراهية للكذب الثقيل، وبغضة لسوء التأليف الذي يجيء من ناحية الإغراب، فتراه يدور المعاني حتى يبصر لها طريقاً إلى الحقيقة، ويجد لها مخلصاً إلى الواقع كقوله:

لو كنتَ من شيءٍ سوى بشرٍ

كنتَ المنور ليلةَ البدرِ

وقوله أيضاً:

لو كان يقعدُ فوق الشمسِ من كرمٍ

قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا

وعلى هذه الطريقة يحمل قول عمر: إنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، ولا ترى زهيراً يشذ عنها في شيء، حتى لقد بلغ من معرفتهم ذلك له أنهم حملوا عليه الجواب المروي ن أوس بن حجر حيث سأله رجل وقد سمعه يقول:

ولأنتَ أشجعَ من أسامةَ إذْ

دعيتَ نزالِ ولجَّ في الذعرِ

فقال له: أنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد ؟ فقال أوس: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسداً قط فتحها قط وذلك لتخصيص زهير بتلك الطريقة والتزامه إياها. على أن سبب هذا الالتزام قد يكون من ضعف الخيال، لأنه لم تستقل له طريقة فيه، ولا هو كان من المتبسطين في فنون المجاز، كما قد يكون أنة ونزوعاً إلى مذاهب السيادة، وتورعاً عن أمثال تلك التكاذيب، وهو الأرجح عندما لما قدمنا من أن هذا الرجل خلق سيداً قبل أن يخلق شاعراً، ولذلك قصر مديحه ولم يجعله تجارة كما جعله الأعشى، ولا انحط فيه إلى تساقط الهمة كما فعل النابغة، ولا زين باطلاً، ولا اختلق موضوعاً بل كان مديحه تاريخاً صحيحاً. ومن أجل هذا كان لا يحتال إلى التخلص في قصائده، بل يقتضب المديح، أو يتلخص بمثل قوله:

دعْ وعدَّ القولَ في هرمِ

ولو شاء ذلك تفتقت له الحيلة، ثم كان يتناول البسيط من معاني المديح وما لا يمدح به عادة، فتدفعه سلامة النية إلى إقحامه في شعر كقوله:

لعمر أبيكَ ما هرمُ بت سلمى

بمحليَّ إذا اللؤماء ليموا

فهذا البيت لا يرضى أحمق العرب أن يمدح به، ولكن زهراً يعرف أن هرماً يرضاه، بل يعرف كيف يرضيه، ومثله في معناه:

إنَّ البخيل ملومٌ حيث كان

ولكنَّ الجواد على علاَّته هرمُ

وكلمة ( على علاته ) لا تزال تدور في الناس إلى اليوم، وكذلك كلمته في قوه:

لدى حيثُ ألقتْ رحلها أم قشعمِ

يعني المنية، فقد أجراها الظرفاء على الحذف، فيقولون إلى حيث ألقت. .لمن يودعون وجهه ويستقبلون قفاه. .

خشونة الشعر الجاهلي

ليس الذي نجده نحن في شعر الجاهلية من جفاء المعنى وخشونة اللفظ وعثرة بعض الأساليب مما كانوا يجدونه هم أو يأخذونه على أنفسهم، فإن الألفاظ صورة معنوية من الاجتماع، وإن الزمن يفعل في إحالة هذه الألفاظ عن مدلولاتها ما تفعل أطوار العمر في معاني النشأة فالشباب فالكهولة، ذ لا يكون ما يسرك وأنت طفل مثلاً بالذي يسرك وأنت شاب نفس ذلك السرور الأول في معناه وموقعه. ولما كانت ألفاظ اللغة لا تؤدي أكثر من الصور، ومعان منتزعة من حياة أهل تلك اللغة المبينة على مصطلحات ومواصفات مألوفة بينهم، و كان تبدل هذه الحياة بما يصور الاجتماع من الأسباب الكثيرة ذاهباً بحقائق تلك الألفاظ، إذ يعطيها صوراً ومعاني معدومة أو معلومة علماً تاريخياً لا سبيل معه إلى تحقيق الوصف بالمشاهدة أو بالعادة والألفة ونحو ذلك، قمن ثم تتنزل الألفاظ منزلة الريب، ويغرف بعضها في الغرابة إذا انعدمت صورته الذهنية من الاجتماع، فيجري مجرى الألفاظ المماتة. والعرب يذكرون في أشعارهم أسماء كثير من الحشرات ومن صفات الدواب وأشهرها الخيل والإبل على جهتي المدح والذم، وكثير مما يعد مألوف إجماعهم، وكل ذلك عندنا منكر قد لا يعره منا علماء الحيوان وأهل البيطرة، ثم نهم لا يرون فيه ما نراه نحن وما رآه أهل الدول من بعدهم، وذلك شأن كل الأمم على سواء فيما يختلفون فيه جميعاً وما تختلف فيه أطوار المر الواحدة من الاجتماع، فتلك الخشونة في شعر الجاهلية بأسبابها هي جماع خصائصه المميزة له عن سائر أطوار الشعر العربي، وقد مر شيء من تفصيل ذلك في تاريخ الأنواع التي بوبنا لها. وقد يتعاطى الشعراء من البلدتين وأهل الحضارة وتقليد أهل البادية في بعض خصائص شعرهم فيخطئون، قال العجاج في الكميت والطرماح. .( ج4 ص18: الأغاني ). وضحك أبو كلدة الأعرابي حين أنشد شعر ابن النطاح الذي يقول فيه:الكامل ]

والذئبُ يلعبُ بالنَّعامِ الشَّارد

قال: وكيف يلعب بالنعام. .الخ ( ج2 ص109: الحيوان )، وكذلك عابوا على أبي نواس وهو مقدم في المحدثين صفته لعين الأسد بالجحوظ وفي قوله:

كأنَّ عينه إذا التهبت

بارزة الجفن عين مخنوقِ

ولعله لم يكن رآه فقام عنده أن هذا أشنع وأشبه ( بشناعة ) وجه الأسد وهم يصفون عينه بالغئور كقول أبي زهير:

وعينان كالوقبين في ملء صخرة

ترى فيهما كالجمرتين تسعرُ

وكان الأصمعي يخطئ قوماً من المخضرمين والمحدثين في تعسفهم مثل هذه الطرقات المجهولة مما لا يعرفونه ولا يخالطون صفته بالحقيقة التي تعرفها المشاهدة، وقد أسلفنا أن العرب كانوا علماء في أشعارهم، فسبيل هذه الأشعار عندنا سبيل كل علم يحتاج إلى درس وتلقين، وإلى الأخذ عن أهله أو القوام عليه، قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا وحن فد وجنا قريباً منه في أشعار العرب والأعراب. وعلى ما رواه من تلك الأشعار بني أكثر ما في كتابه الحيوان، وإن كان قد ترك فيه تفسير شواهد مما لا يعرفه إلا الرواة، للتحرز من خوف التطويل كما قال:وحتى ذكر في الجزء السادس من هذا الكتاب أنه لم يجعل لما تسكن الملح والعذوبة والأنهار والأودية والمناقع من السمك وما يعيش معه باباً مجرداً، لأنه لم يجد في أكثره شعراً يجمع الشاهد ويوثق منه بحسن الوصف ( ص6ج6 ) ومما نبه عليه في ذلك الكتاب مما يعد فيما نحن بسبيله، وأن شعراء العرب قد تواضعوا في صفتهم قتال الكلاب وبقر الوحش عل أنه إذا كان الشعر مرثية وموعظة، جعلوا الكلاب هي التي تقتل البقر، وإذا كان الشعر مديحاً وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا، أن تكون الكلاب هي المقتولة، ليس على أن ذلك حكاية عن قصته بعينها، ولك الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها، وأما في أكثر من ذلك فإنها تكون هي لمصابة والكلاب هي السالمة والظافرة، نبه على ذلك الجاحظ ( ص8 ج2: الحيوان ). ثم إن شعر العرب إنما بقي من بعدهم للحاجة إلى ألفاظه لا إلى معانيه، إذ هو مادة الشاهد ولمثل في العلوم الدينية واللسانية، وكان الرواة لا يطلبون منه أكثر ذلك، كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات، فهم من أجل هذا يرونه على ما هو لا يبالون وافقت ألفاظه المعاني المألوفة في عصورهم أو خالفت، فتلك في جانب بعيد من الغرض الذي يستهدفونه، وهذا معنى قول ابن فارس: قد يكون شاعر اشعر وشعر أحلى وأظرف، فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا، و بكل يحتج وإلى كل مت يحتاج ( ص235 ج2: المزهر ). هذا سبب ما تجده من خشونة الشعر الجاهلي. أما السبب في أن العرب لم ينظروا في تصفية معانيهم ونحن ألفاظهم الشعرية حتى تخرج رقيقة تتهالك ونحيفة لا تتمالك، فذلك راجع إلى فطرة الاستقلال وحالة البدارة، فإن شئت قلت إن ألفاظهم إنما تقطر من سيوفهم أ تسيل من رماحهم أن تجدب في رمالهم أو تخصب في أوديتهم أو تد في حشراتهم و تسعى معدوابهم أو تعذب في أمطارهم أو تأسن في غدرانهم، ولكنك لا تستطيع أن تقول إنها تتردد ألحاظ مذعور أو تتمثل وهي معبودة، أو تتهالك رقة دينية ونحو لك مما لا يلائم نشاط البداوة ولا يكون إلا وهناً من هرم لحضارة وتماوت الحياة الاستقلالية بما يفشو في أطرافها من جراثيم الانقراض، وأظهر ما تجد ذلك في الشعر العربي، فإن الذلة والمسكنة والرعدة الدينية أخص مميزاته. ^

الباب السابع

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي