تاريخ الآداب العربية (لويس شيخو)/الآداب العربية من السنة 1850 إلى 1870

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الآداب العربية من السنة 1850 إلى 1870

الآداب العربية من السنة 1850 إلى 1870 - تاريخ الآداب العربية (لويس شيخو)

كانت حالة الآداب العربية في هذا الطور الثالث كحالة الحدث الذي يدخل في شبابه ويشعر بقوته فيحول أفكاره إلى عالم العلم ومنتدى الآداب وهو إلى ذلك الحد مشغول البال بشواغل أترابه الأحداث لا يجد كبير نفع بأمور العقل والأبحاث العلمية والاتساع في آداب اللغة وأساليب الكتابة. أما ما امتاز به هذا الطور فإنشاء الجرائد في الشرق.والظاهر أن أول جريدة ظهرت في الممالك المحروسة إنما كانت في أزمير أنشأها المسيو بلاك ( Al.Blacque ) سنة 1825 ودعاها ببريد أزمير ( Le Courrier Smyrne ) ثم استدعاه جلالة السلطان محمود الثاني إلى دار السعادة فأنشأ فيها جريدة افرنسية دعاها البشير العثماني ( Moniteur Ottoman ) سنة 1831 ثم عقبها في السنة التالية بجريدة تركية تدعى ( تقويمي وقائع ) لكنه مات بعد قليل سنة 1836.وأنشأ السائح الإنكليزي شرشل ( Churchill ) جريدة أخرى سنة 1843 سمّاها ( جريدئي حوادث ).أما الصحافة العربية فنشأت أولا في مصر بطبع ( الوقائع المصرية ) التي صدرت سنة 1828 على عهد محمد علي باشا فظهرت سنين عديدة.وكان ظهورها ثلاث مرات في الأسبوع.ثم توفرت الجرائد في الممالك المحروسة حتى أن سالنامة سنة 1268 ( 1851 - 1852 ) المطبوعة في دار السلام عدت منها 11 جريدة في الاستانة العلية و5 في أزمير و4 في مصر Cfr.Journ.As.I ) ( 852 p.248 اللغات في التركية والفرنسوية والأرمنية واليونانية والعبرانية العربية.وفي تشرين الأول من السنة 1854 أنشأ رزق اللّه حسُّون الحلبي أوَّل جريدة عربية في دار السعادة وسمَّها ( مرآة الأحوال ) ولعلَّه باشر طبعه في لندن وخلفتها سنة 1857 جريدة السلطنة لمحررها اسكندر أفندي شلهوب.أما سورية فكانت أول جرائدها ( حديقة الأخبار ) أنشأها فقيد الآداب المتوفى في 26 ت1 سنة 1907 خليل الخوري ظهر أول أعدادها في غرة كانون الثاني من السنة 1858 ولم تزل في الوجود حتى وفاة منشئها فانطفأ سراج حياتها معه.وفي سنة إنشاء حديقة الأخبار ظهرت في مرسيلية جريدة ( عطارد ) كان يديرها المستشرق كرلتي ( Carletti ). وأنشئت في أثر تلك النشرات عدة جرائد أخصها ( الرائد التونسي ) وهي جريدة تونس الرسمية سنة 1860.وفي تموز منها أنشأ الشيخ أحمد فارس الشدياق في الأستانة جريدة الجوائب فبقي فيها إلى السنة 1884 وفي ذلك الوقت أيضاً ظهرت في باريس جريدة البرجيس كان يحررها سليمان الحرائري التونسي.وعقبها في دمشق جريدة سورية الرسمية ظهرت 1865.ثم وليها في مصر جريدة وادي النيل سنة 1867. وفي تلك الأثناء شرع المرسلون الأمريكيون في بيروت بتحرير جريدة دينية دعوها ( النشرة الشهرية ) ثم أبدلوها في غرة السنة 1870 بالنشرة الأسبوعية.فكان ذلك داعياً لنشر جريدة كاثوليكية أنشأها الآباء اليسوعيون في السنة نفسها ودعوها ( المجمع الفاتيكاني ) ثم عقبها ( البشير ) في أيلول من تلك السنة وكان أولاً على قطع المجلات ثم طبع على قطع الجرائد ولم يزل في اتساع وتحسين حتى صار كما هو اليوم في جملة الصحائف الراقية يصدر ثلاث مرات في الأسبوع. ورأت السنة 1870 إنشاء جرائد ومجلات أخرى كالزهرة وكانت جريدة أخبارية عني بنشرها الأديب يوسف الشلفون والنحلة للقس لويس صابونجي السرياني وكانت أدبية وعلمية والنجاح كانت إخبارية سياسية أنشأها القس المذكور مع يوسف الشلفون.ثم صارت ملكاً للمرحوم الصقلى خضرا بشراكة الطيب الذكر المطران يوسف الدبس.وفي تلك السنة ذاتها أنشأ المعلم بطرس البستاني وابنه سليم مجلة الجنان وجريدة الجنة فصار لهما رواج. ومما امتاز به هذا الطور الثالث أيضاً الجمعيات العلمية في الشرق فعقد جمعية آسيوية ( إنجمن دانش ) في دار السلام نشرت قوانينها وأسماء أعضاءها في المجلة الآسيوية الألمانية ( ZDMG.VI 278 - 285 ) وكذلك أخذ العلماء المصريون يضمون قواهم لنشر الآداب فبهمتهم طبعت في بولاق تآليف معتبرة كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وأمثال الميداني وإحياء علوم الدين للغزالي والخطط للمقريزي. ولم تخل سورية من جمعيات علمية نفعت الآداب بأفكارها الراقية ومساعيها بترقية المعارف ومنشوراتها الحسنة.وكانت أولها جمعية أدبية سعى بعقدها بعض مشاهير لبنان في بيروت سنة 1847 فلم تطل مدتها.ثم الجمعية الشرقية التي أنشأت سنة 1850 في دير الآباء اليسوعيين في بيروت.روى جناب يوسف أفندي آليان سركيس أخبارها في ( المشرق 12 ( 1909 ): 32 - 38 ) انتظم فيها كثير من أدباء ذلك العهد كالدكتور سوكة والطبيب إبراهيم أفندي ومارون نقاش وفرنسيس مسك وإبراهيم مشاقة وطنوس الشدياق وحبيب اليازجي. ثم خلفتها سنة 1857 الجمعية السورية وضمت إليها عدداً من الذوات كحسين أفندي بيهم والأمير محمد أمين والوجوه إبراهيم فخري بك وبولس دباس والشيخ ناصيف اليازجي والأدباء بطرس البستاني وسليم رمضان وسليم شحادة والدكتور سوكة وعبد الرحيم بدران وعالي سميث وموسى يوحنا فريج وحنين الخوري ويوسف الشلفون وحبيب الجلخ.ثم اتسعت دائرة أعمالها ونالت من الدولة العلية الرخصة بنشر أبحاثها فنشرت أولاً من حين إلى آخر دون وقت محدد ثم طبعت قوانينها سنة 1868 وصدرت أعمالها في كل شهر بنظام فأرخها سليم أفندي رمضان:

قلت للدهرُ والنجاحُ تبدَّى

قمراً في بلادنا السوريَّة

أيَّ يومٍ يتم ذا قال أرخ

يوم فتح الجمعَّية العلميَّة

( 1284ه ). وطبعت هذه النشرة خمس سنوات ثم عدل عن طبعها.وقد نفعت تلك الجمعية المعارف والآداب بهمة أعضائها الذين سنذكرهم في تواريخ وفاتهم.وكان مثلهم مؤثراً في غيرهم لا سيما أن أصحاب الأمر وعمال الدول العلية كانوا يقدرون قدرهم وينشطون هممهم وربما شرفوا جمعياتهم الأدبية كأصحاب الدولة فؤاد باشا ويوسف كامل باشا ومصطفى فاضل باشا ومحمد رشدي باشا وأصحاب السعادة قناصل الدول وغيرهمأما المدارس فإنها زادت في هذا الطور ترقياً لا سيما مدارس المرسلين الكاثوليك من ذكور وإناث ومدارس الأميركان لا سيما كليتهم التي علموا فيها اللغات والعلوم وكانت الدروس تلقى فيها أولا بالعربية وطبعوا عدة كتب مدرسية في ضروب العلوم كالطبيعيات والرياضيات والهيئة والكيميا والجغرافيا ثم عدلوا عنها إلى اللغة الإنكليزية لتوفر أسبابها لديهم. وقد أنشئت في هذا الطور مدارس جيدة أخصها المكتب العسكري الذي ترقى بهمة أصحابه ونال الشهرة في أنحاء سورية.والمدرسة الوطنية التي فتحها بطرس اليستاني سنة 1863 في بيروت فجارت في تعاليمها بقية مدارس المدينة بمساعي منشئها وولده سليم.وفي السنة 1864 وضع الطيب الذكر غريغوريوس يوسف بطريرك الروم الكاثوليك أساسات المدرسة البطريركية فذاعت شهرتها وأقبل إليها الطلبة من الشام ومصر وقبرس وتخرج فيها كثيرون من الأدباء فنبغوا في المعارف والآداب العربية.ولم يلبث السيد البطريرك أن فتح أيضاً في عين تراز مدرسة اكليريكية لتهذيب طلبة الكهنوت.وفي السنة 1865 أنشأ الروم الأرثذكس مدرسة الثلاثة الأقمار على طرز المدرسة الوطنية.ومن المدارس المارونية المنشأة في ذلك الوقت مدرستان في عرمون أنشأ الواحدة همام مراد سنة 1865 وعرفت بمدرسة مار نيقولا العريمة والأخرى مدرسة المحبة جددها الخوري ميخائيل سباط سنة 1867أما المطابع فإنها في مدة العشرين السنة أصدرت عدداً لا يحصى من المطبوعات في كل الفنون سواء كان في سورية أو في مصر والهند.وقد ذكرنا تاريخ معظم هذه المطابع في الشرق في أعداد السنين 1900 - 1902.ففي سنة 1852 أخذت مطبعتنا الكاثوليكية تطبع على الحروف بعد طبعها على الحجر.ومما استجد من المطابع في هذا الزمان في بيروت المطبعة السورية التي أنشأها المرحوم خليل أفندي الخوري سنة 1857 وقد وصفنا تاريخها وقائمة مطبوعاتها في المشرق ( 3 ( 1900 ): 998 ) وفي السنة التالية أحدث الدكتور إبراهيم النجار مطبعة عرفت بعد ذلك بالمطبعة الشرقية ( المشرق 3: 1032 ).وبعدها بثلاث سنوات نال يوسف الشلفون الرخصة بفتح مطبعة دعاها المطبعة العمومية ( المشرق 3: 999 ) فنشر فيها عدة كتب ونشرات وجرائد.ثم ظهرت المطبعة المخلصية سنة 1865 فخدمت الآداب العربية نحو ثماني سنوات ( المشرق 3: 1032 ) وفي السنة نفسها كانت المطبعة السريانية التي نقلت أدواتها بعد قليل إلى الشرفة ( المشرق 4 ( 1901 ): 89 ) وكذلك ظهرت وقتئذٍ المطبعة الوطنية لجرجس شاهين ( المشرق 4: 86 ) ثم أنشأ جناب الأديب الفاضل خليل أفندي سركيس مطبعة المعارف سنة 1867 شركةً مع المعلم بطرس البستاني إلى سنة 1874 حيث أنشأ المطبعة الأدبية وكان آخر ما أنشئ من المطابع في هذا الزمان سنة 1869 المطبعة اللبنانية لحنا جرجس الغرزوزي ( المشرق 4: 86 - 87 ) ومطبعة الجمعية الأرثذكسية لجرجس يزبك التي لم تطل مدتها ولم تتجاوز مطبوعاتها ثلاثة أو أربعة كتب دينيةوفي هذا الطور نفسه انتشر فن الطباعة العربية في لبنان وكان قبلها منحصراً في مطبعة مار يوحنا الصابغ في الشوير أما مطبعة قزحيا فكانت حروفها سريانية.وأول مطابع لبنان في هذا العهد مطبعة بيت الدين كان الساعي بإدارتها حنا بك أسعد أبي صعب باشر أولاً سنة 1853 ببعض المطبوعات الحجرية ثم طبع على الحروف سنة 1862.ثم ظهرت مطبعة دير طاميش سنة 1858 فوق وادي نهر الكلب ( المشرق 4: 473 ) فاشتغلت عشر سنوات.وأنشأ المرحوم رومانوس يمين سنة 1859 مطبعة أهدن فشاركه في العمل الخوري يوسف الدبس ( المشرق 4: 473 )ثم ندب المرحوم داود باشا يوسف الشلفون لإنشاء مطبعة لمتصرفية لبنان فأنشئت المطبعة اللبنانية سنة 1863 تولى تدبيرها ملحم النجار ثم نقلها إلى دير القمر سنة 1869.وفي المطبعة اللبنانية طبعت جريدة لبنان الرسمية كان يحررها حبيب أفندي خالد ( المشرق 4: 473 )أما الجهات فظهرت فيها أيضاً مطابع أخرى فأنشأ المرحوم حنا الدوماني سنة 1855 في دمشق مطبعة انتقلت بعد ذلك بالشراء إلى حنا الحداد ثم إلى محمد أفندي الحفني.ثم جلبت ولاية سورية الجليلة سنة 1864 مطبعة نشرت فيها جريدتها الرسمية ( سورية ) مع عدة مطبوعات أخرى ( المشرق 879: 4 ) - وأنشأت في الموصل سنة 1856 مطبعة جليلة بإدارة حضرة الآباء الدومنيكان فأدت للدين والعلم والآداب خدماً متعددة ولم تزل إلى زمن الحرب جارية على خطتها ( المشرق 5 ( 1902 ): 422 ).وفيها أنشأت أيضاً المطبعة الكلدانية بهمة الأديب الشماس رافائيل مازجي سنة 1863 ( المشرق 840: 5 ).وظهرت في كربلاء مطبعة حجرية سنة 1856 طبعت فيها مقامات الشيخ محمود الآلوسي ( المشرق 843: 5 ) ثم استحضر المرزا عباس مطبعة أخرى حجرية في بغداد فعرفت بمطبعة كامل التبريزي ونفعت العلوم ببعض المنشورات نحو خمس سنوات ( المشرق 843: 5 - 844 ).ثم بطلت تلك المطبعة بظهور مطبعة ولاية بغداد سنة 1869 فأصدرت جريدة الولاية ومطبوعات غيرها ( المشرق 843: 5 ) - وكذلك حلب فإن فن الطباعة تجدد فيها في أواسط القرن التاسع عشر.وكان أولاً أحد الفرنج المدعو بلفنطي السرديني نشر بعض المطبوعات الحجرية في الشهباء منها ديوان الفارض سنة 1257 ( 1841 ) وكتاب المزامير.ثم اهتم الطيب الأثر المطران يوسف مطر بإنشاء مطبعة على الحروف فطبع فيها منذ السنة 1857 إلى يومنا نحو 50 كتاباً بين كبير وصغير ( المشرق 357: 3 - 358 ). أما أوروبة فكانت فيها الدروس الشرقية لا سيما اللغات السامية على خطتها الشريفة.وكان عدد وافر من تلامذة دي ساسي قد انتشروا في أقطار شتى فبعثوا الهمم لدرس آثار الشرق ولغاته وإحياء دفائنه فعقدت جمعيات جديدة وأنشأت المدارس وتوفرت المطبوعات والخزائن الكتبية.وكانت فرنسة في مقدمة الدول لما كان بينها وبين أقطار الشرق من العلائق والمعاملات وخصوصاً بلاد الجزائر. ومما ساعد على توفير أسباب الترقي للآداب العربية في هذا الطور الثالث بين نصارى الشرق خاصة بطاركة إجلاء محبون للعلوم وساعون في تنشيطها بين مرءوسيهم فكان يسوس طائفة الروم الكاثوليك الملكيين السيد المفضال مكسيموس مظلوم الذي مع وفرة أشغاله في تدبير بنية أبقى لهم من تآليفه أو ترجمته نيفاً وخمسين كتاباً طبع نحو نصفها في بيروت ورومية والأستانة ومصر وهي في كل ضروب العلوم من لاهوت نظري وأدبي وجدل وأخبار قديسين وعبادة وطقوس وتاريخ وجغرافية وصرف ونحو وطبيعيات.فكان مثال جد ونشاط لم تخمد همته إلا مع خمود أنفاسه في 10 آب سنة 1855 فقال الشيخ ناصيف اليازجي يؤرخه:

مكسيموسُ المظلومُ بطركنا الذي

قامت بهِ التقوى ولاح منارُها

صرف الحياة بغيرةٍ مشهورة

يبقى على طول المدى تذكارُها

هو كوكبُ الشرق استقر قرارُه

في جنة فتحت لهُ أخدارُها

ولأجله كتب المؤرّخ نظمهُ

إن الكواكب في السماء قرارُها

وقام على الطائفة المارونية غبطة البطريرك بولس مسعد سنة 1854 وكان من البارعين في معرفة الأنساب والتاريخ الشرقي والحق القانوني خلف من كل هذه العلوم آثاراً حسنة. وفي هذه الغضون كان على السريان الكاثوليك البطريرك أغناطيوس بطرس جروة وقد ذكرنا ( ص75 ) بعض ما خلفه من المآثر العلمية.ولما دعاه الله إلى دار الخلود خلفه ذلك الرجل المفضال المبرات أغناطيوس أنطون السمحيري ( 1853 - 1864 ) الذي عني بتهذيب أكليروس طائفته في مدرسة الشرفة وفي مدرسة غزير ومدرسة البروباغندا في رومية العظمى فخرج من يلك المدارس رجال أفاضل سنذكرهم في تاريخ وفاتهم. أما الأرمن الكاثوليك وكان يدبرهم البطريرك غريغوريوس بطرس الثامن منذ السنة 1843 فما كان لينسى تعزيز الآداب في طائفته فاهتم في نماء مدرسة بزمار وتنظيم كهنتها على قوانين خصوصية كما أنه أرسل إلى مدرسة غزير بعض بني جنسه فأنجزوا فيها دروسهم ثم اشتهروا في خدمة المنفوس ولهم تآليف دينية.ثم قام بتدبير الطائفة الأرمنية السيد أنطون حسون سنة 1866.وكان من رجال الفضل والعلم فجرى على مثال سلفه في نشر الآداب بين أبناء أمته. وكذلك الكلدان فإن بطريركهم يوسف أودو ( 1848 - 1878 ) سعى في إنماء الآداب في ملته.وهو الذي أنشأ لأبناء طائفته مدرسة اكليريكية في الموصل وأرسل أحداثاً منهم إلى مدارس أخرى فنجحوا. وقد عرفت الرسالة الأمريكية في هذا العهد بنشاط عظيم اشتهر بينها الدكتور عالي سميث والدكتور طمسن والدكتور فان ديك فانكبوا على درس اللغة العربية حتى أتقنوها.وكان من أثمار اجتهادهم ترجمة الكتاب المقدس باشر فيها سنة 1849 الدكتور سميث بمعاونة المعلم بطرس البستاني فعرب قسماً من كتب موسى ثم توفي سنة 1857 فقام بتعريبها من بعده الدكتور فان ديك ولم يزل يفرغ في إنجاز العمل كنانة جهده حتى انتهى منه سنة 1864 بمساعدة الشيخ ناصيف اليازجي ثم طبع الكتاب سنة 1867.ولم تثبت فيه الأسفار المعروفة بالقانونية الثانوية.وصار لهذه الترجمة رواج كبير حتى أتت من بعدها ترجمة الآباء اليسوعيين بمساعدة المرحوم إبراهيم اليازجي فكانت أضبط نقلاً وأشمل موضوعاً وأبلغ لساناً وأجود طبعاً فصارت تعتبر كالترجمة الرسمية لجميع الكاثوليك الناطقين بالضاد.

الآداب الإسلامية في هذا الطور ( 1850 - 1870 )

انحصرت الآداب الإسلامية في هذا الطور الثالث أعني من السنة 1850 إلى 1870 في العلوم اللسانية خاصة من صرف ونحو ولغة وبديع وبيان وشعر وأدبيات منثورة.أما التاريخ والعلوم الطبيعية والهيئة والرياضيات فإن التأليف فيها كان نادراً.إلا أن بعض الأدباء كالشيخ الرفاعي الطحطاوي في مصر وسليمان الحرائري في الجزائر عربوا عدة مؤلفات أوربية في العلوم المستحدثة والاختراعات الجديدة فكان تعريباتهم دليلاً على سعة اللغة العربية ومرونتها وكفايتها لترويج المعارف العصرية.فنهج غيرهم منهجهم بعد ذلك لا سيما جماعة الأمريكان في بيروت.وهانحن نختصر تاريخ أدباء المسلمين في هذا الطور بذكر مشاهيرهم بلداً بلدا مباشرة بالشام ثم مصر ثم العراق وبقية البلاد. ( أدباء المسلمين في الشام ) يحضرنا منهم أسماء قليلين ولعل مصنفات أكثرهم لا تزال مدفونة في بيوت الخاصة.فممن اشتهروا في هذه المدة بآدابهم السيد مصباح البربير اسمه محمد بن محمد البربير وجده أحمد البربير الشاعر الذي ذكرناه في جملة أدباء الطور الأول من القرن التاسع عشر.ولد محمد مصباح سنة 1261 ( 1845 ) وأظهر منذ صغره نجابة عظيمة فبعد إتقانه أصول اللغة ومن بعده العلوم على شيوخ بيروت في أيامه كالشيخ عبد الرحمن أفندي النحاس والشيخ عبد الله أفندي خالد البيروتي وأخيه الشيخ إبراهيم البربير استخدم في مجلس التحقيق بوظيفة كاتب وكان في شرخ شبابه مولعاً بالشعر فينظم في أوقات الفراغ القصائد الرائقة التي تعرب عن جودة قريحته.وقد وافاه أجله فقصف غصن شبابه طرياً في وباء الهواء الأصفر الذي حدث سنة 1282 ( 1865م ).له ديوان صغير جمعه شقيقه الأديب عمر البربير فطبعه في المطبعة الأميركانية سنة 1290 ( 1873م ) ودعاه البدر المنير ي نظم مصباح البربير.فمما نظمه مصباح قوله مؤرخاً بناء دار لوالده سنة 1279 ( 1862 ):

لمحمَّد البربير داراً قد زهت

ونجومُ مطلع عزّها حرَّاسُها

في بابها كتبَ المؤرخ قلُ بها

دارٌ على التقوى أقيم أساسها

ومن ظريف أقواله تهنئة بمولد ابن عمه محمد نجيب بن محمد البربير سنة 1282:

بُشراك أحمد قد أتاكَ نجيبُ

حيَيَتْ بمرآهُ نُهىّ وقلوبُ

نجلٌ كُسي من كل ظرفٍ حلَّةً

فهو الحبيبُ بلا أبوهُ حبيبُ

قد لاحَ في أفق السعادة ساطعاً

إن غابت الأقمارُ ليس يغيبُ

في مهدهِ كالعندليب مغرداً

وكذا اللبيبُ من المهاد لبيبُ

نادت علاماتُ السعود بوجههِ

يحيي سعيداً إنه لأديبُ

وله مكاتبات مع بعض أدباء زمانه نخص منهم بالذكر ناصيف اليازجي وكان هذا كتب إليه:

برعتَ واللهِ في قولٍ وفي عملٍ

لفظاً ومعناً وتهذيباً وإفصاحا

أعطاك ربك نوراً يستضاءُ بهِ

فقد أصاب الذي سماكَ مصباحا

فأجابه محمد مصباح بقوله:

يا من غدا شعرهُ الشعريَ فكان لنا

قاموسَ فضلِ وللتلخيصِ إيضاحا

لأنتَ شمسُ علومٍ حين مطلعها

كم أخجلتْ قمراً يزهو ومصباحا

وقد رثاه الشيخ إبراهيم الأحدب وأرخ ضريحه بهذه الأبيات:

ضريحٌ حلهُ مصباحُ فضلٍ

سناهُ في سماء المجد عالي

إلى عليا بني البربير يُعزى

لهُ نسبٌ ينير دجى الليالي

فقال منظّم التاريخ وافٍ

سنا مصباحَ مشكاة المعالي

( محمد أرسلان ) واشتهر أيضاً في الشام بأدبه وتآليفه الأمير محمد ابن الأمير أمين أرسلان ولد في الشويفات سنة 1254 ( 1838 ) وطلب العلوم منذ حداثة سنه وتعلم اللغات الأجنبية فضلاً عن اللغات الوطنية.ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره فوضت إليه الحكومة السنية إدارة الغرب الأسفل فتولاها تحت نظاره والده حتى مات والده سنة 1275 ( 1858 ) فقام بعمله.ثم انتقل إلى بيروت مع أهل بيته واستوطنها وتفرغ للتأليف والكتابة وكان عضداً لكل طالبي الآداب ساعياً في ترويج العلوم يجمع في داره محبي المعارف.وسنة 1275 ( 1868 ) استدعته الدولة العلية إلى الأستانة لتعهد إليه بعض المهام لكن الموت عجله عند وصوله فمات بمرض القلب وله من العمر 31 سنة وقد أبقى المترجم عدة تآليف لا تزال مخطوطة منها كتاب في أصول التاريخ وعدة تآليف في الصرف والنحو والمنطق وكتاب حقائق النعمة في أصول الحكمة والمسامرة في المناظرة وتعديل الأفكار في تقويم الأشعار وتوجيه الطلاب في علم الآداب والتحفة الرشدية في اللغة التركية الذي نشر بالطبع.وكان بين الأمير محمد أمين وأدباء زمانه مكاتبات تدل على براعته في فنون الآداب.وهو ممن مدحه الشيخ ناصيف اليازجي فله في أبيه الأمير أمين وفيه أقوال حسنة فقال في الأمير أمين:

كريمٌ لا يضيعُ لديهِ حقُ

فقد سُمّي أميناً بالصوابِ

وليس يخلو في الدنيا بشيء

لغير المال من حفظ الصحاب

ويُدركنا نداه حيثُ كنا

على حال ابتعادٍ واقترابٍ

وتُكسبنا مكارمهُ ارتفاعاً

كصفر زاد في رقم الحسابِ

فدام نداهُ يَقْرَع كلَّ بابٍ

ويأتيهِ الثنا من كل بابِ

ومن حسن أقواله في الأمير محمد ما كتبه إليه يعزيه في أبيه بقصيدة كان مطلعها:

ما دام هذا اليومُ يخلفهُ غدُ

لا تُنْكروا أن القديمَ يُجَدَّدُ

لا تُقَطع الأغصانُ من شجراتها

إلا رأينا غيرها يتولَّدُ

هذا الأمينُ مضى فقام محمَّد

خلفاً فنابَ عن الأمين محمَّدُ

وختمها بقوله:

خَلفٌ كريمٌ أشبهَ السلفَ الذي

كانت لهُ كلَّ الخلائق تَشْهَدُ

ما كان يوجَدُ كالأمين بعصرهِ

واليومَ مثلُ محمدٍ لا يوجدُ

وقد مدح أحمد فارس الشدياق بلامية أولها:

إن الأمير محمداً مفضالُ

من آل رِسلانَ ونعمَ الآلُ

وقال يصف معارفه:

سيَّان في نظمٍ ونثرِ قولهُ

فصلٌ وحكمٌ لا يليهِ عدالُ

قد ألفَ الكُتب التي شهدت بأنْ

أصحاب أرسطو عليهِ عيالُ

فأجاد في التاريخ أي إجادةٍ

وبكلّ فنٍّ لم يَفُتهُ مقالُ

وقال الشاعر المشهور أسعد طراد يعزيه بوالده بقصيدة هذا مطلعها:

الأرضُ تخبر والجماجمُ تشهدُ

إن ابن آدم فوقها لا يخْلدُ

ومنها في مدح الفقيد:

غدت بنو رسلانَ نائحةً ومن

فرط الأسى أمست تقومُ وتقعدُ

لك يا أمين مع القلوب أمانةٌ

حزنٌ بها أودعتها لا يُنْفدُ

فارقتَ لبنان الذي مهَّدتهُ

عدلاً وكان الظن لا يتمَّهدُ

أضرمتَ ناراً في القلوب كأنها

نارُ القرى بحماك ليست تخمدُ

( محمود بن خليل ) وممن نقدر وفاته في هذا الوقت الشاعر محمود بن خليل الشهير بالعظم الدمشقي له في المكتبة الخديوية ( 353: 4 ) ديوان شعر خطه سند 1284 ( 1867م ) الأديب أحمد زكية.وكان صاحب الديوان موجوداً سنة 1285 ( 1868م ). ولا نشك في أنه اشتهر في هذا الطور من أدباء المسلمين في الشام غير هذين المذكورين إلا أن أخبارهم لم تنشر حتى الآن فلم نقف على تاريخهم.ومما وقع في أيدينا منذ عهد قريب مجموع فيه قصائد لشعراء بلاد الشام في القرن السابق نظموها في مدح على بك الأسعد من البيوتات الشريفة في طرابلس فهناك أسماء عدة أدباء مر لنا ذكر بعضهم كالشيخ عمر اليافي والسيد أحمد البربير والشيخ عبد اللطيف أفندي فتح الله مفتي بيروت وبطرس كرامة والياس أده والبعض الآخر لم نعرف منهم غير أسماؤهم كالشيخ عثمان والشيخ عمر البكري والشيخ مصطفى الكردي والحاج علي ابن السيد البكري والسيد عمر أفندي الكيلاني.ولكلهم قصائد أجادوا فيها لكننا نعرض عن ذكرها لجهلنا أخبار قائليها. ( أدباء مصر ) خلف لنا أدباء المسلمين المصريين مادة أوسع من أخوتهم في الشام ومما ساعد على حفظها انتشارها بالطبع فسلمت من الضياع.ودونك أسماءهم:( علي الدرويش ) هو السيد علي أفندي الدرويش بن حسن بن إبراهيم المصري الشاعر المفلق أصاب في أواسط القرن التاسع عشر شهرة كبيرة في القطر المصري وتقرب من أصحاب الأمر ومن أدباء وطنه فمدحهم وكاتبهم.ولما توفي سنة 1270 ( 1853م ) جمع ديوانه وأقواله النثرية تلميذه مصطفى سلامة النجاري فطبعه على الحجر في مصر في 482 صفحة وعنونه بالأشعار في حميد الأشعار ( 1270 ).وهانحن نورد منه بعض أمثلة بياناً لفضل قائله.قال مؤرخاً فصر صديقه عرفي أفندي:

وقصرٍ كالسماء به نجومٌ

مطالعُها السعادة والبدورُ

على أقطاره تبكي عيونٌ

إذا ابتسمت لوارده زهورُ

فليس وافد وافاهُ نهرُ

وقد نفذت لمدحته البُحورُ

وحسبُك روضةٌ في كل مجدٍ

وفضل بالبنان لهُ يشيرُ

تقاصَر من سناهُ ذو ثناءً

وحسن القصر ما فيه قصورُ

يقول العزّ والإسعاد أرخْ

سعود البيت يا عرفي منيرُ ( 1259ه ).

وقال شاكراً:

سُررتُ بالنيل القصد من غير موعدٍ

ولا شيء أسهى من سرورِ مجددِ

سُررت بنعماه ولكن حزنتُ من

قصوري بحق الشكر في فضلَ سيدي

لهُ الحمدُ والشكر الذي هو أهلهُ

وقلُّ لهُ حمدي وشكري ومنشدي

فلو كل عضوٍ فيهِ عدَّة ألسُنِ

لأعجزني شكر الندى المتعددِ

وهل أنا إلا عبد إحسان عفوكم

فأضحى لديهِ مدحكم كالتعبُّدِ

تعودتُ لولا لطفكم غير عادتي

وصعب على الإنسان ما لم يعودِ

وزدتم نعيمي نعمةً أبديةً

وزدتم مقامي رفعة فوق مقصدي

وكدرتمُ ظن الحسود بنعمة

وأشهى من الإنعام تكدير حسَّدي

وحمَّلتني ما لا أطيق وجوبهُ

فينطق حالي عن لساني المعقّدِ

فيا أسعدَ الله السعيدَ لملكهِ

ودولتهِ والموكب المتجددِ

فقد اشغل الدرويش شكراً مؤرخاً

مليك سعيد النجم خير محمدٍ

( شهاب الدين ) وقد فاق علي درويش شاعر آخر كان يعاصره وهو الأديب الأريب السيد شهاب الدين محمد ابن إسماعيل ولد في مكة سنة 1218 ( 1803م ) ثم قصد مصر فدرس على مشايخها لا سيما شيخي الأزهر محمد العروسي وحسن العطار فبرع في الكتابة والشعر.ولما أنشأ الشيخ حسن أول جريدة طبعت في الشرق وهي الوقائع المصرية سنة 1828 اتخذ كمساعد له في إنشائها شهاب الدين المذكور ثم خلفه في إدارتها سنة 1252 ( 1836م ) وجعل مصححاً لمطبوعات مطبعة بولاق الشهيرة وبقي في مهنته إلى السنة 1266 ( 1849م ) وانقطع إلى الكتابة والتأليف.وكانت وفاته سنة 1274ه ( 1857م ) وقد أبقى السيد شهاب الدين من تآليفه كتاب ( سفينة الملك ونفيسة الفلك ) ضمنها مجموعاً وافياً من الزجليات والموشحات والأهازيج والموالي التي يتغنى بها أرباب الفن في مجالي الأفراح ومعاهد السرور ولما أتمه سنة 1259 قال في تاريخه:

هذه سفينةُ فنٍ بالمُنى شُحنتْ

والفضلُ في بحرهِ العجَّاج أجراها

وإذ جرت بالأماني فيهِ أرَّخها

سفينةُ البحر بسمِ الله مجراها

ثم طبع سنة 1277 ( 1860م ) ديوان شعره في 380 صفحة وفيه القصائد الرنانة في كل فنون العروض ومعاني الشعر.فمن نظمه قوله يصف مزولة أنشأها حضرة سلامة أفندي المهندس لجامع القلعة لبيان الأوقات والساعات بحساب البروج الإثني عشر:

ومُظهرةٍ للوقت ظهراً وغيرهُ

والبرج أيضاً فهي واحدةُ العصرِ

سلامةُ منشي رسمها وحسابها

لجامع خيراتٍ تفرَّد في مصرٍ

وقال من قصيدة يمدح بطرس بكتي قنصل دولة روسية إذ زاره يوماً:

أتى ينجلي كالبدر في سندسَّية

وهل حلَّ في الآفاق بدرٌ بأطلسِ

فتم لي الصفو الذي كاد حظُهُ

يكونُ كحظي يوم ايناسِ بطرسِ

ألا وهو تاج الفخر والحسن والبها

مشيّد أركان المكرماتِ المؤَسسِ

جميل السجايا الألمعيّ فطانةً

رقيق الحواشي ذو الحجى والتفرُّسِ

هشوشُ المحيَّا ضاحك السن دائماً

حليفُ المعاني ذو الجناب المقدَّسِ

بنفسٍ أفديهِ وقد جاءَ زائراً

بتشنيف أسماعٍ وتشريف مجلسِ

يصوغُ لهُ نظمي نفيسَ مدائحٍ

فتثنيهِ غايات الكمال بأنفسِ

وقال عن لسان بعض الكاثوليك يمدح كبير ملتهم وكان المذكور التمس منه ذلك:

بابا النصارى مربي روح ملَّتهم

حامي حمى كل شماَّس وقسّيسِ

شخصٌ ولكن هيولى روحهِ ملَكٌ

وجسمهُ صورةٌ في شكل قديسِ

أقام وهو وحيد العصر مفردهُ

دين النصارى بتثليثٍ وتغطيسِ

تسعى الملوك إلى تقبيل راحتهِ

في البحر والبرّ فوق الفلك والعيسِ

أحيا الكنائسَ جسماً بعد ما درست

وشيّد الروح تشييداً بتأسيسِ

فعظّموا الربّ فيها بالصلاة لهُ

ومجدوهُ بتسبيحٍ وتقديسٍ

وله في مديح حنا البحري من قصيدة:

هو كهفٌ إذا لجأنا إليهِ

في مَخُوفٍ ممَّا نخافُ أمنَّا

من أتاهُ مستنصراً بحماهُ

عاد بالنصرِ بالغاً ما تمَّنى

كلَّما عن أمرُ خطب مهمْ

بك فيما نراهُ عن استعنَّا

يصنعُ المكرمات سراً وجهراً

وهو في عون من يقولُ أعنَّا

كلُّ من قد رآهُ وهو بشوشُ

عنه ولَّت همومهُ واطمأنّا

وله قصيدة طويلة في مدح نصر الله ( نصري ) الطرابلسي الشاعر الذي مر لنا ذكره هذا أولها:

لا رعى الله يوم حان وداعي

أنه جالبٌ لَحيْني وَداعي

فيه قد أزمع الرفاقُ فراقاً

واصات الشتاتُ شمل اجتماعي

وغدا الدمع سائلاً يتجارى

وفؤادي في موقفِ الإيداع

إلى أن قال:

أتُرى هل تعودُ أوقاتُ أنسي

وبقرب المزار تحضى رباعي

وإذا ما الزمان جاءَ بنصري

وبحمد يُجزى وبشكر مساعي

هو بحرٌ تُروى المآثر عنهُ

بل هو البرّ في جميع البقاعِ

روضُ آدابهِ الغضيضُ جناهُ

عَطِرُ النشر طّيب الإيناع

وختمها بقوله:

زادك الله بهجةَ وكمالاً

ما ترَّجى حسنَ الختامِ الداعي

ونظم الأبيات الآتية لترسم على سفرة الطعام:

أيُّها السيد الكريم تكرَّمْ

وتناولْ ما شئت أكلاً شهياً

وتفضَّلْ بجبر خاطر مَنْ هُمْ

أتقنوا صُنْعهُ وخذ منهُ شياً

وتحدَّث على الطعام وآنسْ

واحداً واحداً بشوش المحيَّا

واستزدهم أكلاً وقلْ إن هذا

طابَ نضجاً وصار غضاً طرياً

فهلمَّوا بنا ومدُّوا إليه

أيدياً باعُها ينالُ الثريَّا

ثمَّ قُلْ يا أحبَّتي هل لكم في

بعض شئٍ من النبيذ المهَّيا

ولئن ساغَ شربهُ للتمري

فكلوا واشربوا هنياً مرياً

فإذا ما آكلت ضيفاً فأرخ

أن هذا لرزقنا كل هنياً

( الشيخ البيجوري ) وأشهر من السابقين شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري.ولد في قرية البيجور بمديرية المنوفية سنة 1198 ( 1784م ) وطلب العلوم في الأزهر مدة وتتلمذ للشيخين محمد الفضالي وحسن القويسني وغيرهما حتى نبغ بين طلبة الأزهر وتفرغ للتأليف فوضع كتباً عديدة في التوحيد والفقه والمنطق والتصريف والبيان واشتغل بالتدريس ثم انتهت إليه رئاسة الأزهر.قيل إن صاحب الدولة الخديوي عباس باشا كان يحضر دروسه في الأزهر.وكانت وفاته سنة 1277 ( 1860م ). ( إبراهيم بك مرزوق ) ويلحق بأدباء مصر أحد مشاهير كتبتها إبراهيم بك مرزوق.ولد سنة 1233ه ( 1817م ) وكان منذ نعومة أظفاره مغرى بالآداب كثير الحفظ من مختار الشعر قيل إنه كان يحفظ منه عشرين ألف بيت كما أنه أحرز جملة وافرة من منتخب المتون العلمية ومأثور الأخبار.وكان كثير التصرف في فنون الكتابة ويحسن نظم الشعر.ورحل إلى بلاد السودان فكانت وفاته في الخرطوم سنة 1283 ( 1866م ) وقد عني بجمع قصائده وطبعها الهمام محمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر وقسمها إلى سبعة أبواب على حسب معانيها ووسم هذا الديوان ( بالدر البهي المنسوق بديوان الأديب إبراهيم بك مرزوق ) وكان طبعه سنة 1287 ( 1870م ) ومما جاء فيه من الحكميات قوله:

إن الفضيلة في الأنام غدت على

شرف النفوس الشُّمّ أقوى حجَّة

فإذا ادعيت بأن أصلك يا فتى

من سادة الأبطال أهل الهمَّة

أوضح لنا نور الشهامة مثلهم

وعلى رفيع المجد أحْسنَ غيرة

وإذا أردت الفخر فاسهر دائباً

لطلابهِ واهجر لذيذ الهجعةِ

فتكون ذا شرفٍ فتلك دلائل

دلت على شرفٍ وكل فضيلةِ

وقال مستعطفاً لصديق نفر عنه:

يا معرضاً متجنباً

حاشاك من نقض الذمامْ

مولاي ما لك قد بخلتَ م

عليَّ حتى بالكلامْ

سلّم عليَّ إذا مرر

تَ فلا أقلَّ من السلامْ

وقال يرثي اسكاروس أفندي الباش كاتب القبطي:

لا شكَّ عندي في فناء الوجودْ

فأفضلُ السيرةِ خيرُ الوجودْ

والمرء مجزيُّ بأعمالهِ

فشأنهُ يومَ تُقامُ الحدودْ

وإنما طوبى لمن قد قضى

دنياهُ بالخير وسعد السعودْ

كالبارع اسكاروسَ في فضلهِ

باهي الحجا والجد غيظ الحسودْ

فقل لراجي شأوهِ أرّخوا

يكفى ثوى اسكاروسُ دارَ الخلودْ ( 1860م ).

وقد عرف في مصر غير هؤلاء ممن ورد ذكرهم في كتب الأدباء كالأستاذ الشيخ أحمد عبد الرحيم والشيخ مصطفى سلامة وكان كلاهما محرراً للوقائع المصرية في هذا الوقت.مدحهما صاحب كنز الرغائب في منتخبات الجوائب ( ص121 و129 ).وكذلك في مصنفا الشيخ ناصيف اليازجي مراسلات دارت بينه وبين أدباء مصر من المسلمين كالشيخ محمد عاقل أفندي كاشف زاده الإسكندري والشيخ حمد محمود أفندي الإسكندري.ولكلهم قصائد جيدة أثبتها الشيخ ناصيف في مجموع شعره لكننا لا نعرف من تاريخ أصحابها شيئاً.فمتا روى للشيخ محمد عاقل قوله يصف الهواء الأصفر:

دهانا بوادي النيل كالسَّيل حادثُ

لهُ تذْهل الألبابُ حين يحيفُ

دَعوُه بريحٍ أصفر شاع ذكرهُ

وما هو إلا هيضةٌ ونزيفُ

به احتارت الأفكارُ والعقل والنُّهى

وكلُّ طبيب شأنهُ العلمُ موصوفُ

فلم يبقِ داراً لم يَزُرْها ولم يذرْ

جناناً بهِ ركبُ السرور يطوفُ

ثُكلنا رجالاً للزمان نعدَّهم

طروساً وهم للمعضلاتِ سيوفُ

تراهم ليوم اليأس والبأس عُدَّةً

وجاهُهُم القاصدين منيفُ

وكم فيهم من أهل ذوقٍ وفطنةٍ

وفيهم لطيفُ ألمعي أو ظريفُ

لقد أقشبت أقطارُ مصر لفقدهم

وكان بهم روح الكمال قطيفُ

نأوا وأقاموا بارح الحزن في الحشا

فليس بديلاً تالدُ وطريفُ

فشيعهم عقلي وفكري وفطنتي

ولم يبقى من لبي لديَّ طفيفُ

وناقصَ أمثالي صحيحٌ مضاعفٌ

ومهموز حزني أجوفٌ ولفيفُ

وقال يمدح بيروت وأدباءها وخصوصاً الشيخ ناصيف اليازجي:

لقد قصدوا بيروتَ دارَ أعزَّةِ

لهم تنتمي الآلاء في اللفظ والمعنى

نزيلهمُ قد شكَّ في أصل دارهِ

وصار يقين الأمر في علمه ظَّنا

مدينة ظرفِ ما بها غير فاضلِ

بسيم وسيم قد حوى الحُسنَ والحسنى

تشد لهُ الألبابُ كل مطيةٍ

مجرَّبة الإسعاف في كل ما عنَّا

صغيرهُم في المجد سيّد غيره

على أنّ ذاك الغيرَ قدوةُ من أثنى

وما منهم إلا وقد شبَّ طوقهُ

بنادي ناصيف اليازجي وقد أقنى

مجيد المعاني وهو للقول حجَّةٌ

لأهل النّهى كم قد أجاد لنا فنَّا

ومن أقوال الزيلعي في المدح:

بلغتَ مقاماً لم تنله الأوائلُ

وخزتَ كمالاً لم تبتغيه الأفاضلُ

ولستُ براءٍ غير فضلك يرتجي

لكل مُلمٍ فيه تُدمى الصياقلُ

ولولاك لك تدر العلوم بأنَّها

تُجَلُّ وإن قد بانَ منها دلائلُ

يطول لسان الفخرَ في فضلك الذي

بنيتَ لهُ ركناً ليرجع ثاكلُ

ويقصر باع الدهر عن وصف ماجدِ

لهُ جُمعت في المكرمات الفضائلُ

فيا لك من مجدٍ ويا لهُ من يدٍ

تطول إذا مُدَّت وإن حال حائلُ

وقال حمد محمود أفندي من قصيدة متشوقاً إلى أهل الفضل في بيروت:

يا أهل بيروت إن لاقيتمُ كبدي

فمتعوا جدركم من قبلُ بالخفرِ

أكبادُ أهل الهوى حرَّى وما بردت

ألاّ لترمي من الأشواق بالشررِ

ودونكم حرَّ لي فهو رقكُم

وارعوا ذمام شجٍ فيكم على سفرِ

ما كتموه بألفاظ همُ غررُ

ورابحٌ من شرى الألبابَ بالغُرَرِ

وللشيخ حسن بن علي اللقاني الإسكندري يصف ديوان الشيخ ناصيف:

بدائع ما فيها سوى السحر منطقٌ

حلالٌ وفي أجناسها لا أدافعُ

إذا جرَّ غوق الطرس سُمْر براعهِ

تصافحهُ الآداب وهي رواكعُ

وإن راح ينثي أو يكاتب صحبهُ

فغرُّ معانيه الحسان تسارعُ

كانَّ صرير السمر في روض طرسهِ

غناء حمامٍ وهو بالشعر ساجعُ

تآليفهُ قد فصحت في كل أعجم

بليدٍ وكَم وَّلى بليغٌ وبارعُ

لآلئ من زهر الربيع تناثرت

علينا وفي منظموها السرُّ ذائعٍ

لئن فاح في أرض الشام ثناؤه

ففي مصرنا منهُ شذا الذكر ضائعُ

( أدباء المسلمين في العراق ) تذكر العراق في أواسط القرن التاسع عشر مفاخرة السابقة فأراد أن يحييها فنزل في حلبة الآداب وركض فيها جياد الألباب فنال قصبة السبق والغلاب.وهانحن نذكر الذين وقفنا على شيء من أخبارهم نقلاً عن مخطوطات مكتبتنا الشرقية وبعض المطبوعات النادرة مباشرة بالآلوسين والسويديين. ( الآلوسيون ) هم قرم من أدباء بغداد أحبوا العلوم والآداب فأوقفوا نفوسهم لخدمتها ونشروا معالمها في وطنهم.وأصلهم من آلوس أجدى قرى الفرات ثم انتقلوا إلى بغداد وامتازوا فيها بحسن الخصال.ولما كانت أواسط القرن التاسع عشر برز بينهم أولاد السيد صلاح الدين ابن السيد عبد الله الآلوسي.وكانوا ثلاثة رضعوا كلهم أفاويق الأدب وذهبوا في فنونه كل مذهب. وأولهم أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي المعروف بالشهاب الآلوسي.ولد في بغداد في 14 شعبان سنة 1217 ( 1802م ) وهناك توفي في 5 ذي القعدة سنة 1270 ( 1854م ) كلف بالعلوم منذ حداثة سنه وبذل النفس والنفيس في إحراز جواهرها حتى أن رغبته في طلب المعارف شغلته عن حطام الدنيا وأنسته هناء العيش وملاذ الحياة وبزر بالعلوم الدينية فصار إماماً في التفسير والإفتاء وكان مع ذلك كاتباً بليغاً وخطيباً مصقعاً وفي 1262 ( 1845م ) سافر برفقة عبدي باشا المشير إلى الوصل ثم إلى ماردين فديار بكر فأرزووم فسيواس فالأستانة العلية واجتمع حيث دخل بإعلام العلماء وأئمة الأدباء وكانوا يتهاتفون إليه ليقتبسوا من أنواره ويغرقوا من بحاره.ثم عاد إلى وطنه معززاً ممدحاً بكل لسان مشمولاً بألطاف الحضرة العلية السلطانية.وكان جلالة السلطان عبد المجيد منحه الوسام المرصع العالي الشأن.فلما عاد إلى وطنه سنة 1269 انقطع إلى التأليف.وفصل أخبار رحلته في عدة مصنفات منها كتابة رحلة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول طبع في بغداد سنة 1291 واتبعه بكتاب نشوة المدام في العود إلى بلاد السلام ثم كتاب غرائب الاغتراب في الذهاب والإقامة والإياب ويدعى أيضاً بنزهة الألباب ضمه تراجم الرجال والأبحاث العلمية التي جرت بينه وبين حضرة السيد أحمد عارف حكمت بك شيخ الإسلام.وكان السيد محمود سريع الخاطر ونسيج وحده في قوة التحرير وسهولة الكتابة ومسارعة القلم قيل أنه كان لا يقصر تأليفه في اليوم والليلة عن أقل من ورقتين كبيرتين.وقد ألف كتباً عديدة في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة كشرح السلم في المنطق.وكتاب كشف الطرة عن الغرة وهو شرح على درة الغواص للحريري.ومن تآليفه رسالة في الانسان.وله حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام ألقها وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة.وكتاب المقامات طبعه في كربلاء وكتاب التبيان في مسائل إيران وكتب أخرى غيرها.وكان له شعر قليل إلا أنه غاية في الرقة يذكر العراق في غربته:

أهيمُ بآثار العراقِ وذكره

وتغدو عيوني عن مسرَّتها عَبْرىَ

وألثم إخفاقاً وطنَ ترابهُ

وأكحلُ أجفاناً بتربته العَطْرَى

وأسهر أرعى في الدياجي كواكباً

تمرُّ إذا سارت على ساكني الزورا

وانشقُ ريح الشرق عند هبوبها

أداوي بها يا ميُّ مُهجتَي الحَرّا

وقال في وصف بغداد وفراقه لها:

أرضٌ إذا مرَّت بها ريحُ الصبا

حملت من الأرجاء مسكاً أذفرا

لا تسمعنَّ حديث أرضِ بعدها

يُروى فكل الصيد في جوف الفرا

فارقتها لا عن رضى هجرتها

لا عن قلى ورحلتُ لا متخيَّرا

لكنها ضاقت عليَّ برحبها

لما رأيتُ بها الزمان تنكَّرا

ومن حسن قوله وصفه لشاعر سهل الألفاظ بعيد المعاني:

تتحَّيرُ الشعراء إن سمعوا به

في حسن صنعته وفي تأليفه

فكأنهُ في قربه من فهمهم

وتقولهم في العجز عن ترصيفهِ

شجرٌ بدا للعين حسنُ نباتهِ

ونأى عن الأيدي حتى مقطوفهِ

وقال مستغفراً وقد افتتح به كتاب مقاماته:

أنا مذنبٌ أنا مجرمُ أنا خاطئ

هو غافرٌ هو راحمُ هو عافي

قابلتهنّ ثلاثةُ بثلاثةٍ

وستغلبَن أوصافُهُ أوصافي

وكانت وفاة الشهاب الآلوسي في السنة التي ذكرناها فرثاه قوم من الفضلاء كما مدحوه في حياته وقد جمعت تلك المدائح في كتاب حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود.وكان أولاده أغصاناً نضرة في تلك الدوحة الباسقة سنذكرهم في وقتهم.واشتهر في زمانه أخواه عبد الرحمان وعبد الحميد فعرف عبد الرحمان بفصاحة لسانه وخلابة أقواله في الخطابة والوعظ وكان يدرس العلوم الدينية في أكبر جوامع الكرخ إلى وفاته سنة 1284 ( 1867م ) وعمره نحو ثلث وستين سنة. أما عبد الحميد الآلوسي فكان مكفوف البصر ولم تصده تلك العاهة عن طلب العلوم فأخذها عن أخيه السيد محمود الذي أجازه في المعقول منها والمنقول والفروع والأصول فجعل يدرس في مدرسة بغداد المعروفة بالنجيبية ويتقاطر لاستماعه الناس حتى علية القوم وفي مقدمتهم علي رضا باشا والي بغداد وله بعض مصنفات نثرية بليغة وقصائد غراء منها قصيدة في مدح أحد مشايخه العظام أولها:

تنوحُ حماماتُ اللوح وأنوحُ

وأكتمُ سرّي في الهوى وتبوحُ

وتُعجم إن رامت أداءَ مرامها

ولي منطق فيما أروم فصيحُ

لها مقلةٌ عند التنائي قريرةٌ

ولي مدمعٌ يوم الفراق سفوحُ

إلى أن قال مادحاً:

فتى كلُّه عفوٌ ولطفٌ وعفَّةٌ

وعنْ زلَّة الشاني الحسود صفوحُ

حليمٌ وهل كالحلم في المرء زينةٌ

سموحٌ وذو الشان الجليل سموحُ

وفارس فضلٍ لا يجازيه عارفٌ

وأنى يجاري العاديات جموحُ

يفوح بأفواه العدى نشرُ فضلهِ

كما فاح نشراً في المجامر شيحُ

لقد عطَّر الأرجاءَ منك الفضائلٌ

فوصفك مسكُ في الأنام يفوحُ

ومن نثره قوله يصف الأولياء:لقد فاز قوم عاملوا الله بالإخلاص والصدق، وعاملوا الناس بحفض الجناح وحفظ الوداد مع اللين الرفق، تحملوا من أجله ألم الأذى والمشاق، فأزالوا بأنوار شهود جماله عن بصائرهم حجب العوائق الإنسانية، وتحملوا إذا أذاقهم الورى مر المراء والشقاق، فأماط بعذوبة أنسه ووصاله عن رقابهم ربق العلائق النفسانية، أعرضوا عن الدنيا وأغرضوا في طلب الأخرى حيث علموا بأن الأولى والأحرى السعي في تقديم الباقية على الفانية.فانحلوا الأجسام بالصيام والقيام، لما أن حلا لهم شرب صافي المدام. . .فرضوا على نفوسهم القناعة والصبر، ورضوا عن هذه الدنيا بالقليل النزر.وراضوا زكي أنفسهم عن النفس جواهرها وأعراضها، ترفعوا عن الشكوى وتمسكوا بعرى التقوى، لأنها الركن الأوفى والسبب الأقوى، فانجابت عن قلوبهم غمائم آلامها وأمراضها. . . وكانت ولادة السيد عبد الحميد سنة 1232 ( 1817م ) وطالت حياته ولم نقف على سنة وفاته. ( السويديون ) هم من أسرة فاضلة أصلها من سر من رأى أو سامرّا فانتقلوا إلى بغداد وعرفوا بين أكابر علمائها.منهم الشيخ أبو البركات عبد الله السويدي صاحب المؤلفات الأدبية العديدة كشرح دلائل الخيرات وكتاب مقامات بليغة والأمثال السائرة والرحلة المكية توفي سنة 1170 ( 1756م ).ومنهم الشيخ أبو الخير عبد الرحمن زين الدين البغدادي السويدي ابن أبي البركات كان ذا باع طويل في العلوم الدينية واللسانية.ولد سنة 1134 وتوفي سنة 1200 ( 1722 - 1786م ) فأرخه أخوه الشيخ أحمد السويدي بقوله من أبيات:

وفارقنا فرداً فقلتُ مؤرخاً

أبو الخير في أزكى الجنان نريلُ

وكان الشيخ أحمد المذكور إماماً في التصوف وقد رد على الملحدين بكتاب سماه الصاعقة المحرقة في الرد على أهل الزندقة.توفي سنة 1210 وكان مولده سنة 1153 ( 1740 - 1795 ). ومن السويديين الشيخ علي ابن الشيخ محمد سعيد السويدي المتوفى سنة 1237 ( 1822م ) له كتاب في تاريخ بغداد وقد رثاه شاعر أبيات ختمها بهذا التاريخ:

مذ وُسّد اللحدَ نادانا مؤرخهُ

إنَّ المدارس تبكي عند فقد علي

ومنهم أيضاً الشيخ أبو الفوز محمد أمين السويدي أحد كبار الكتبة في بغداد وله مؤلفات جليلة في عدة فنون منها كتاب سبائك الذهب في معرفة أنساب العرب الذي نشر بالطبع وقد مر لنا وصفه ( المشرق 10 ( 1907 ): 566 ) وكتاب الجواهر واليواقيت في معرفة القبلة والمواقيت.وكتاب رد على الرافضة.ورسالة في الواجب والممكن.وله شرح تاريخ ابن كمال باشا مع نظم لطيف.كانت وفاته سنة 1246 ( 1830 ).واشتهر من السويديين في العهد الذي وصلنا إليه الملا نعمان السويدي ابن الشيخ محمد سعيد ابن أحمد وهو خاتمة السويديين توفي في رجب سنة 1279 ( 1863م ). واشتهر بالآداب العربية في بغداد والعراق غير الآلوسيين والسويديين في أواسط القرن التاسع عشر بعض الأئمة.وها نحن نذكر منهم الذين أبقوا آثاراً من علمهم طبعاً أو خطاً على ترتيب سني وفاتهم. ( البيتوشي ) هو ابن محمد عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي من كبار أدباء بلاده.ولد في بيتوش من قرى العراق سنة 1161 ( 1748 ) وجد في طلب العلم ثم تقدم بغداد طلباً لمعاش وارتحل منها إلى بلدة الاحساء فابتسم له الدهر وحسنت حاله واشتهر صيته وانقطع إلى التأليف في الصرف والنحو ونظم كتاب كفاية المعاني وشرحه وذيل شرح الفاكهي على قطر الندى لابن هشام.وله نظم حسن منه قوله متشوقاً إلى وطنه:

ألا حيِّ بيتوشاً وأكنافَها التي

يكاد يروّي الصادياتِ سرابُها

بلادٌ بها حلَّ الشبابُ تماني

وأوَّل أرضٍ مسَّ جلديَ ترابُها

لقد كان لي منها عرينُ وكان من

مقامي لي سُحب سُكُوب زُبابهُا

ولم تشبُ لي إن يَنبُ يوماً بأهلهِ

مكانُ ولم ينعق عليَّ غراُبها

توفي البيتوشي سنة 1213 ( 1798 ).وكان الأحقَ بنا أن نذكرهُ في الأبواب السابقة فأثبتنا أخبارهُ هنا بقيَّة أفاضل العراق وكذا فعلنا بالشيخين الوارد ذكرهما. ( الشيخ عثمان بن سند البصري الوائلي ) أصلهٌُ من النجد فسكن البصرة وكان يتردَّد كثيراً إلى بغداد وأشتغل بفنون لسان العرب وكان لهُ في اللغة باع طويل وألف عدَّة تآليف مفيدة منها كتاب في تاريخ بغداد أرَّخ فيهِ ما وقع في زمانهِ من الوقائع وسماها مطالع السعود في بطيب أخبار الوالي داود وقد طبع مختصرهُ في بمبي سنة 1304.ومن تآليفهِ منظومة في علم الحساب ونظم قواعد الأعراب والأزهريةِ ومغني اللبيب.ولهُ رسائل أدبيَّة كفاكهة المسامر وقوَّة الناظر.ونسمات السحرَ وروضة الفكر.وكانت لهُ شهرة عظيمة في البصرة ونواحيها يُقبل كلامهُ جميع أهاليها.توفي سنة 1250 ( 1834 ). ( الشيخ علاء الدين الموصلي ) هو علاء الدين علي أفندي الموصلي واحد شيوخ شهاب الدين الوسني زاده.ذكرهُ في كتابهِ نزهة الألباب في غرائب الاغتراب وأثنى على آثارهِ الأدبيَّة لكنهُ ذمّ أخلاقهُ وضيق صدرهِ وجهلهُ بمداراة الناس قال:

كان لا يدري مداراة الورى

ومداراة الورى أمرٌ مهم

وروى لهُ شعراً حسناً منهُ:

لئن لم تشاهدني أخافِشُ أعينٍ

فلي من عيون الفضل شاهد رؤيةِ

وإن أنكرتني الحاسدون تجاهلاً

كفانيَ عرفاني بقدري وقيمتي

فأين لشمسِ الاستواء من السُّها

وأين زلالُ من سرابِ بقيعةِ

وليس الذي في الناس كالحي ميتٌ

لفضلً وإفضالٍ فحيٌّ كمّيتِ

وقوله:

وزمانٍ عدَتْ على ليالهِ

وقصَتْني قوادمي وجناحي

ودعتني صروفهُ في شتات

وعناء وخيبةٍ ونزاحِ

لا لذئبٍ أتيتُهُ غير أنَّ ال

فضل لم نلقَهُ قرينَ نجاحِ

وإذا ما الصلاحُ فيكم فسادٌ

ففسادي الذي لديكم صلاحي

وكانت وفاته بالطاعون سنة 1243 ( 1827م ) وأنشد قبل وفاتهِ:

أسفي على فصلٍ قضيتُ ولم أكن

أبصرتُ عارف حقهِ فيبينُ

ومن العلوم الغامضاتِ ورمزها

أملي قضيتُ وللفنونِ ديونُ

وأخذتُ في كفني علوماً لم أجدْ

مستودعاً هي في الدفين دفينُ

( عبد الحميد الموصلي ) هو عبد الحميد ابن الشيخ جواد الموصليّ الشهير بابن الصبّاغ أحد شعراء العراق الذين شرَّفوا تلك الأصقاع بآدابهم.وشعرهُ رقيق لكنّهُ مفرَّق لم يُجمع في ديوان.فمن قولهِ أبيات كتبها إلى الشاعر بطرس كرامة والتزم في كل صدورها وأعجازها تاريخاً المسنة المسيحيَّة 1844 إلا المصراع الأخير فجعلهُ الأخير هجرياً هذا مطلعهُ:

بعثنا إليكم بنتَ رمز من الفكرِ

دهاها جوًى أعطتْ بهِ خالصَ الشعرِ

آمنتم صروع الدهر من قيد حادثِ

شهدتم هلال الأفق من كامل الشهرِ

ميامن ترعى بطرساً في كرامةِ

إلى غاية الدنيا إلى أوحد الدهرِ

هديتم بنور الرب بابّا فأرخوا

هو الله لا ما زلَّ من مشرق الفجرِ

فأجابهُ بطرس كرامة برسالة طويلة نظماً ونثراً أفتتحها بقولهِ:

عشقتُكم من قبل لقياكُمُ

وكلُّ معشوقٍ بما يوصفُ

كالشمس لا تدركها مقلةٌ

لكنَّها من نورها تعرفُ

وقال الشيخ عبد الحميد يمدح شيخ ناصيف اليازجيّ من قصيدةِ:

كبشُ الكتائب والكتاب وأنهُ

بالنحر ينطحُ هامة ابن خروفِ

متوقد الأفكار يوشك في الدُّجى

يبدو لهُ المستورُ كالمكشوفِ

فطنُ تمنطق بالفصاحةِ وارتدى

جلبابَ علمِ النحو والتصريفِ

إلى أن ختمها بقولهِ وفي البيت الأخير تاريخ السنتين الهجريَّة والمسيحيَّة ( 1264 - 1847 ):

لا زال محفوفاً بحظٍ وافرٍ

والخطُ مثل الخطَ بالتصحيفِ

فيهِ صفا عبد الحميد مؤرخاً

ناهيتُ نظمي في مديح نصيفِ

ولهُ مخمساً لقصيدة الشيخ ناصيف المهملة فجعل تخميسهُ مهملاً كقصيدة الشيخ:

عدوَ المرء أولادٌ ومالُ

لو اسمهم أساودها صِلالُ

أحاول طَولْهم وهو المحالُ

لأهل الدهر آمالٌ طوالُ

وأطماعٌ ولو طال الملالُ

ومنها:

مرور العُسر مرْمرَ كل حالٍ

وأمرُ الله دمَّر كلّ حالٍ

سرورك والهموم دلاءُ دالٍ

كرورُ الدهر حوَّل كل حالٍ

هو الدهر الدوام لهُ خالُ

وكانت وفاة الشيخ عبد الحمد ابن الصبّاغ 1271 ( 1854 ) فرثاهُ الشيخ اليازجي بقصيدة جميلة استهلها بقولهِ:

لا عين تشبت في الدنيا ولا أثرُ

ما دام يطلع فيها الشمس والقمرُ

إلى أن قال:

قد كنت انتظر البشرى برؤيتهِ

فجاءني بغير ما قد كنت أنتظرُ

إن كان قد فات شهدُ الوصل منهُ فقد

رضيت بالصبر لكن كيف أصطبرُ

أحبُّ شيء لعيني حين أذكره

دمعُ وأطيب شيء عندها السهرُ

هذا الصديق الذي كانت مودَّتهُ

كالكوثر العذب لا يغتالها كدرُ

لا غرو أن أحزن الرواءَ مسرعهُ

فحزنهُ فوقَ لبنانِ لهُ قدرُ

فأستحسن أهل بغداد هذه المرثية وقرظّها السيد شهاب الدين العاويّ بأبيات منها:

وافت فعرَّت بتأساء وتعزيةِ

عليهما يَحسْد الأحياء مَنْ قُبروا

وأرَّخها بقولهِ:

أسديتَ سلوة محزونِ مؤَّرخةَ

أسدى رثاء بهِ السلوان والعبرُ

( عبد الجليل البصري ) هو السيد عبد الجليل بن ياسين البصري ينتهي نسبهُ إلى علي ابن أبي طالب ولد في البصرة سنة 1190 ( 1776م ) ثم أرتحل منها إلى الزبَّارة فسكنها حتى استولى عليها صاحب الدرعيَّة ابن السعود فسار إلى البحرين وسكن بها إلى سنة 1259 ( 1843م ) ثم أستوطن الكويت وتوفي هناك سنة 1270 ( 1854م ).وأشتهر عبد الحكيم بالحكم والكرم وكان ذا أدبِ وعلم كما يشهد عليهما ديوان شعرهِ الذي طُبع سنة 1300 ( 1883م ) في بمبي ( ص 280 ).وأوَّل نظمهِ قالها مؤرخاً مولد أبنهِ عبد الوهَّاب سنة 1211 ( 1796 ):

حمدتُ الله أسدى بفضلِ

وآلاء تسامتْ أن تُضاهي

كريمٌ مَنَّ فيمن أضحت

رياضُ القلب مخضراً رباها

وطاب العيشُ وانكشفت همومٌ

كذاك النفس منتقياً عناها

فيا من قد مَنتَ بغير منَ

بمن ساد الورى فخراً وجاها

أدمني فيهِ مسروراً دواماً

وفيهِ العينُ قر بها كراها

ووَفِقْهُ لما نرضي وجنَبْ

هوى الأهواء وأحفظ من غواها

وخيرُ الفالِ قد أرَّختُ لا بني

بطلعتهِ بشيرُ السعد باها

وقال على لسان فقير من أبناء السبيل طلب منهُ أبياتاً يرتزق بها:

يا ماجداً ساد عن فضلِ وعن كرم

وهمَّةِ بلغتْ هامَ السماك عُلا

يا من إذا قصد الراجي مكارمهُ

نال الأماني وبرَّا وافرّا عَجلا

إنَّا قصدناك والآمال واثقة

بأنَّ جودك ينفي فقر من نذُلا

جئنا ظماءً وحسنُ الضنَ أوردنا

إلى معاليكَ لا نبغي بها بَدَلا

لقد أضرَّ بنا جورُ العُداة وما

أودي بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا

عسرٌ وعُزبَةُ دارٍ ثم مسكنة

وذلَّةٌ وفراق قاتلٌ وبَلا

نشكو إلى الله هذا الحال ثم إلى

ندبٍ جوادٍ يفيد القاصدَ الأملا

عسى نصادف من حسناك مرحمةَ

تكون رفداً لنا إذا نقطعُ السبلا

وأغنم بذلك مناَّ خير أدعيةٍ

يزفُّها قلبُ عافِ بات مبتهلاً

لا زلت تولي جميلاً كلَّ ذي أملٍ

في رفعةٍ ونعيمٍ دام متَّصلاً

وله يذمُ آفاتٌ يضيقُ ويعدّد مساوئه:

الغيظ آفاتٌ يضيقُ بها الفتى

فإذا استطعتَ لهُ دفاعاً فأجهدِ

منها حجابُ الذهن عن إدراكهِ

أمراً تحاولهُ كأن لم يُعهدِ

وبهِ يرى الفَطِنُ اللبيبُ كأنهُ

ممَّا بهِ المعتوه أو كالأبلهِ

وبهِ الحليم إلى الجهالة صائرٌ

ويهدُ عنهُ بهِ منارَ السؤدُدِ

وبهِ يُسئُ لدى الورى أخلاقهُ

حتى يُقال لهُ لئيمُ المَحتْدِ

لا يرعوي لصحيح قول نصيحة

وبرى النَّصوح كعائبٍ ومفنّدِ

من حَبَّ طَبّ بما تناولَ علمهُّ

وأخو النباهة يقتدي بالمرشدِ

وقد سبق لنا حكم السيد عبد الجليل البصري لبطرس كرامة على الشيخ صالح التميميّ وروينا أبياتاً من قصيدتهِ في مدح الشاعر النصراني فراجعها ( ص 64 ) ( الشيخ عبد الفتاح شوَّاف زاده ) أخذ العلوم الأدبيَّة عن الشهاب الآلوسي حتى صار من الفضل الأدباء.صنَّف تعليقات على كتب عديدة وقد كتب ترجمة شيخهِ الآلوسيّ في جزأين كبيرين ودعاهُ حديقة الورود في ترجمة أبي الثناء شهاب الدين محمود وضمنَّهُ دقائق أدبيَّة ومسائل علميَّة.توفي سنة 1272 ( 1855م ).وأشتهر بعدهُ أخوه عبد السلام ووضع تصانيف عديدة منها كتاب في المواضع وانتهى إليه علم الفقه والحديث.ولا نعرف سنة وفاتهِ. ( السيد عبد الفتاح السافيّ ) هو الشيخ محمَّد أمين الشهير بالواعظ.كان ذا خبرة تامَّة بالمسائل الشرعيَّة ونال من الفنّ الأدب بأوفر نصيب.وكان ماهراً في إنشاء الصكوك ودرَّس مدَّة في المدرسة الخاتونيَّة.وصنَّف عدَّة مصنَّفات كمنهاج الأبرار ونظم التوضيح وكان لهو النظم اللطيف منهُ قولهُ في مدح السيد محمود الآلوسيّ مخمساً:

يا سائلي عن بحر علمٍ قد طما

بعلومهِ يروي العطاش من الظماّ

إن قلت صف لي نداك توسما

إن الشهاب أبا الثناء لقد سما

قدراً على أقرانهِ من أوْجِهَ

سعد السعود ببابهِ متقاعداً

والمشتري برحابهِ متعاقداً

لا تنكرنَّ لأنسهِ يا جاحداً

ما زارني إلاَّ حسبتُ عطارداً

في الدار أمسى نازلاً من أوْجهِهِ

وتوفي سنة 1273 ( 1856 ) فقال السَيد عبد الغفَّار الأخرس فيهِ رثاءَ ختمهُ بهذا التاريخ:

بكى العلم والمعروف أرّخ كليهما

بقبرٍ ثوى فيهِ الأمين محمَّدُ

( السيد محمد سعيد ) كان أبوهُ محمد أمين الشهير بالمدرّس يعلَم في بغداد العلوم اللسانيّة ووضع فيها بعض المصنَّفات فلمَّا توفي سنة 1236 ( 1821 ) خلفهُ أبنهُ السيد محمد وقلد عدَّة مناصب كالنيابة والإفتاء ثم أنفصل وبقي مشغولاً بالتدريس إلى سنة وفاتهِ 1273 ( 1857م ) وتآليفهُ منها نحوية ومنها شرعية وصفهُ السيد نعمان أفندي الآلوسي بقولهِ: ( إنهُ كان ذا تقوى وديانة وعفَّة وصيانة لا يغتاب أحداً ولا ينمُّ على أحد أبداً وكان بشع الخطّ حديد المزاج كثير الوسواس عيّ الكلام. . .وكان كثير الصدقات على اليتامى والأرامل ).ولما مات رثاه السيد عبد الغفار الأخرس بقولهِ:

في رحمةَ الله حلَّ شيخٌ

وجَنَّةُ دارُها الخلودُ

تفيض من صدرهِ علومٌ

وقد طَمى بحرُها المديدُ

ولم يزل ميَتاً وحياً

من علمهِ الناسُ تستفيدُ

سار إلى ربهِ غير فانٍ

بالعزّ وهو العزيزُ الحميدُ

ومذ توفاهُ قلتُ أرّخ

مضى إلى رَبهِ سعيدُ

( عبد الباقي العمري الفاروقيّ ) هو أديب العراق عبد الباقي بن سليمان بن أحمد العُمَري الفاروقيّ الموصلي ولد في الموصل سنة 1204 ( 1789م ) انتهت إليه رئاسة الشعر والأدب في وطنهِ.تغذَّى منذ صغرهِ لبان العلم.وأنتدبتهُ الحكومة السنيَّة وهو أبن عشرين إلى منصب كتخدا ووكيل الوالي فرافق القاسم باشا وعلي باشا إلى بغداد وقام بأعباء رتبتهِ أتمّ قيام وكذلك سار بالعساكر الشاهانيَّة إلى قبيلتي الزكرت والشمرت في النجف فقصَّ جناح الفتنة بينهما بحسن درايتها وعاد إلى بغداد مقروناً باليُمن والإسعاد ونال الحظوة من الدولة العلية.ثمَّ إلى الكتابة والآداب فشاع نثرهُ الرائق وشعرهُ الفائق فألف التآليف التي أحرز بها قصب السبق من مضمار أدباء العراق وفاز بين فصحائهم بالقدح المعّلى.وكانت وفاتهِ سنة 1278 ( 1861 ) قيل أنهُ أرَّخ نفسهُ في عام مماتهِ ببيتِ كتب على قبرهِ:

بلسان يوجَدُ الله أرّخَ

ذاقَ كأس المنون عبد الباقي

أما تآليفهُ فكلُها ناطقة بفضلهِ وتوقّد فهمهِ منها ديوان أهلّة الأفكار في مغاني الابتكار وكتاب نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر وكتاب الباقيات الصالحات وكتاب نزهة الدنيا أودعهُ تراجم بعض رجال الموصل في القرن الثاني عشر والثالث عشر ولهُ ديوان شعر يسَمى بالترياق الفاروقي من منشآت الفاروقي طُبع مرَّة بمطبعة حسن أحمد الطوخي سنة 1287 بمصر في 336 صفحة ثم أعاد طبعهُ الشيخ عثمان الموصليّ بعد توسيع أبوابهِ وتكملتهِ سنة 1316 في 456 صفحة.وهانحن نذكر بعض نتفِ من شعرهِ تنويهّا بعلوّ مقامهِ في الآداب قال يؤرَخ جلوس السلطان عبد العزيز وأجاد:

للتِلغراف الفضلُ إذ جاءنا

يقولُ بشاركم بلفظٍ وجيزْ

قد أحرزتْ ملَّتكم أرّخوا

هزَّا بظلَ الله عبد العزيزْ

وقال في التشبيه:

كأنْ ضوءَ البدر في

دجلةَ حين يشرقُ

والموجُ في أثنائهِ

منهُ العُبابُ يخفقُ

قراضةٌ من ذهب

طفا عليها الزئبقُ

وقال في فتح الدولة العلية لحصن سيوستبول مع دولتين الفرنسوية والإنكليزية:

أقول المدُّوَل المنصورِ عكرُها

لا زال عكرها بالله منصورا

لما اتفقتم على صدق المحبَّة في

ما بينكم واتحدتم صرتمُ سُورا

بسطوة دعت الأطوادَ راجفةً

دّمرتمُ محصنات الروس تدميرا

مدافعٌ غطّتِ الدنيا غمائمها

فغادرت صبح يوم الحرب دبجورا

أفواهُها دامتَ المنار ألسنةُ

فقررت دَرس ملك الروس تقريرا

رعدٌ وبرقٌ وغيمٌ من سدىً ولظىً

ومن دخان أعاد الكون ممطورا

اقلُّهم فرَّ لما فرَ أكثرهم

لكونهِ بات مقتولاً ومأسورا

والسيف غنَّى على هاماتهم طرباً

حتى حسبناهُ فوق الغصن شحرورا

غادرتمُ البر بحرا يستفيض دماً

والبحر براً على الأشلاء معبورا

سبوَسْبتول التي أعيتْ معاقُلها

سخّرتم حصنَها أرختُ تسخيرا ( 1271ه )

وله مشطرا أبياتاً منسوبة لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الشهير:

( كمّلْ حقيقتك التي لم تكمل )

وعن ارتكاب النقص كُن في معزلِ

وابغ لنفسك ما ترقيها بهِ

( والجسمَ دَعهُ في الحضيض الأسفل )

( أتكملُ الفاني وتترك باقياً )

تكميلُهُ أولى بحقِّ الأكْملِ

فهو الذي لا ينبغي لك تركهُ

( هملاً وأنت بأمرهِ لم تحفلِ )

( فالجسمُ للنفس النفسية آلهُ )

تقضي المرامَ بها إذا لم تكسلِ

ولكم عليها من حقوقٍ للعلا

( ما لم تحصلها بهِ لم تُحصلِ )

( يفني وتَبْقَى دائماً في غبطةٍ )

إن فارقَتْهُ ودولةٍ لم تنقلِ

وسعادة أبديةٍ لا تنقضي

( أو شقوةٍ وندامةٍ لا تنجلي )

( أعطيتَ جسمك خادماً فخَدمْتَهُ )

وأحَلْتْ حكم معزّز لمذلّلِ

وجعلتَ من هو فوقهُ من دونهِ

( أتُمَلّك المفضولَ رقّ الأفضلِ )

( شركٌ كثيفٌ أنتَ في حَبلاته )

قيد الحياة أسير قيد مُثقل

منهُ وأنت بهِ بأيَّةٍ حياة

( مادام يمكنك الخلاصُ فعجّلِ )

( من يستطيع بلوغَ أعلى منزل )

متدرجاً فوق السماك الأعزلِ

ويرى الثريَّا تحت أخمص رجلهِ

( ما بالهُ يرضى بأدنى منزلِ )

ولعبد الباقي الفاروقي مع أدباء زمانه مراسلات لطيفة فمدحوه ومدهم بقصائد لا تحصى لا يسعنا ذكرها وكثير منها يتضمن الطرف المستطرفة ونكتفي بذكر بض أبيات قالها في تقريظ مقامات مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي أولها:

غُرَرٌ أم دُرَرٌ مكنونةٌ

في عُباب البحر بين الصَّدَفَيْنْ

إلى أن قال:

قد أتَتْني تتقاضى دَيْنَها

فوفتْ للمجد عني كل دَيْنْ

بمزاياها العقولُ ارتسمتْ

فمحتْ عن عين عقلي كل غَينْ

وتجلَّت صُور العلم بها

فجلت عن كل قلبٍ كلّ رَينْ

وعلى الإحسان والحسن معاً

طُبعت والطبع مشغوفٌ بذَينْ

رحتُ من راحةٍ معناها ومن

روح مبناها حليفُ النَّشأتَينْ

يا لسفرِ لسفَرتْ ألفاظُها

بين أفَقْية سفورَ النيّرَينْ

يا لهُ قاموس فضلٍ قد طوى

مجمع البحرين بين الدفَّتَينْ

وكان مدحه سنة 1264 ( 1848 ) بقصيدة بائية يقول فيها:

أبلى النوى جسدي النحيفَ كأنَّني

قلمٌ بدا بيدَيْ نصيف الكاتبِ

حَبرٌ حلا في حِبرهِ قرطاسُهُ

كالتبر لمَّا لاح فوقَ ترائبِ

فسطورهُ وطروسهُ في حسنها

حاكت سماءً زُينت بكواكبٍ

وختمها بقوله:

لو قمتُ طول الدهر أنشد مدحهُ

بين الأنام فلم أقُم بالواجبِ

وبمدحهِ العُمَريُّ آبَ مؤرخاً

ترتيب مدحي في نصيفِ الكاتبِ

فقال الشيخ ناصيف يجيبه بقصيدةٍ من البحر والقافية:

أحسنتَ في قول وفعلٍ بارعاً

وكلاهما للنفسِ أكبرُ جاذبِ

أنتَ الذي نال الكمال موفَّقاً

من رازق من شاءَ غير محاسبِ

فإذا نظمت فأنتَ أبلغ شاعرٍ

وإذا نثرتَ فأنت أفصح خاطبِ

وإذا نظرتَ فعن شهابِ ثاقبٍ

وإذا فكرت فعن حسامٍ قاضبِ

هذا رسولٌ لي إليك وليتني

كنتُ الرسولَ لها بمعرض نائبِ

ومن أقوال الفاروقي وصفه للتلغراف:

خطّ التلغراف حروفُ جرّ

يجيءُ بها من الغور البعيدِ

ويلفظها بغير فمٍ ولكن

بالسنةٍ حدادٍ من حديدٍ

هذا وقد أشرنا سابقاً إلى قصيدته الخالية التي عارض بها خالية بطرس كرامة تجدها في ديوانه ( ص247 - 243 ) من الطبعة الجديدة فدارت بسببها المراسلات بين الشاعرين.وقد هنأه بطرس كرامة برتبته الكتخداوية بقصيدة مطولة يقول فيها:

الشاعر الفرد الذي أهدى لنا

دُرَر البُحور نُظْمنَ في الأوراقِ

درٌّ بجيدك أم حباك قلائداً

من شعرهِ العُمَريُّ عبد الباقي

جمعَ الفصاحة بالبلاغة مثلما

قرن الحجى بمحاسن الأخلاقِ

وممن خدموا الآداب بين العراقيين غير المذكورين بعض أهل الفضل ممن لم نعلم من أحوالهم إلا النزر القليل فنثبت هنا أسماءهم تتمة للفائدة فمنهم ( الشيخ يحيي المروزي العمادي ) أصله من العمادية من قرى الأكراد قرب الموصل برز في التدريس وصار عليه المعول في مذهب الأمام إدريس وكان أحد مشايخ الشهاب الآلوسي الذي أثنى على زهده وعلو في نفسه وخصه ببيتين قيلا في الشافعي:

عليَّ ثيابٌ لو يُباعُ جميعها

بفلسِ لكان الفلسُ منهنَّ أكثرا

وفيهنَّ نفسٌ لو تُباع بمثلها

نفوس الورى كانت أعزَّ وأكبرا

توفي الشيخ العمادي سنة 1250 ( 1834 ).ومنهم ( الشيخ أحمد بن علي بن مشرف ) كان أصله من نجد فأنتقل إلى العراق وطار صيته فيها ومات بعد السنة 1250 وكان أعمى يحسن نظم الشعر فمن قوله في المدح ما أنشد في آل مقرن:

ومهما ذكرنا الحيَّ من آل مقرنٍ

تهلَّل وجهُ الفخر وأبتسم المجدُ

همُ نصروا الإسلام بالبيض والقنا

فهم العدى حنفٌ وهم الهدى جندُ

غطارفة ما أن يُنال فخارهم

ومعشرُ صدقٍ فيهم الحدُّ والجدُّ

ومنهم ( عبد الغني بن الجميل ) هو عبد الغني أفندي الشهير بابن جميل.ولد سنة 1194 ( 1780 ) وأتقن الفنون العربية واتسع سائر العلوم.ورحل مراراً إلى دمشق الشام وصاحب فضلاءها كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار حتى فوض إليه رضا باشا إفتاء الحنفية في بغداد ثم أصيب ببعض الآفات والبلايا وتوفي ابن جميل سنة 1279 ( 1862 ) وله شعر طيب كله في الحماسة فمن ذلك قوله:

أيذهب عمري هكذا بين معشرٍ

مجالسهم عاقَ الكريم حاولُها

وأبقى وحيدا لا أرى ذا مودَّة

من الناس لا عاش الزمانَ مَلولُها

وكيف أرى بغداد للحرّ منزلاً

إذا كان مَفريُّ الأديمِ نزيلُها

فما منزلٌ فيهِ العداءٌ بمنزلٍ

وفي الأرض للحرّ الكريم بديُلها

ومنهم ( محمد الأخفش ) هو محمد سعيد أفندي البغدادي الشهير بالأخفش.قرأ على العلامة الآلوسي وشرح الألفية في النحو للإمام السيوطي.وكان محباً للآداب وله شعر حسن أخذته يد التلف وكان كثير المزاح واللطائف توفي سنة نيف وثمانين بعد المائتين والألف ( 1863 ).ومنهم الشيخ جمال الدين الكواز كان أصله من الحلة ويرتزق بحرفة الكوازة إلا أنه كان مشغوفاً بالآداب خفيف الروح حسن المحاضرة وله شعر كله في الغزليات وقيل انه نظم الشعر قبل البلوغ.توفي في الحلة سنة 1279 ( 1862 ).ومنهم ( الشيخ عيسى البندبيجي ) هو أبو الهدى عيسى أفندي صفاء الدين البندبيجي أصله من بندبيج على حدود بلاد العجم فسكن بغداد ودرس العلوم اللسانية والفقهية والأدبية حتى أشتهر فيها وكأن ذا تقوى وصلاح ودرس زمناً في مدرسة داود باشا وجعل رئيس المدرسين.ومن تآليفه كتاب تراجم من دفن في بغداد وضواحيها توفي سنة 1283 ( 1876 ). ( أدباء المغرب ) أن أخبار المغرب تكاد تكون مجهولة في أصقاعنا فدونك النزر القليل الذي أمكنا جمعه في تراجم أدباء تلك الجهات. ( سليمان الحرائري ) هو أبو الربيع عبده سليمان بن علي الحرائري الحسني ولد في تونس سنة 1241 ( 1824 ) وأصله من أسرة قديمة قدمت من العجم إلى المغرب فدرس العلوم الدينية في وطنه ثم تفرغ لدرس اللغة الفرنسوية والعلوم الرياضية والطبيعيات والطب.وعهد عليه تدريس الرياضيات في بلده وعمره 15 سنة ثم أتخذ بأي تونس كرئيس لكتاب ديوانه.وفي سنة 1846 قدم إلى باريس فصار أحد أساتذة مدرسة لغاتها الشرقية وكان يحرر في جريدة عربية هناك تدعى البرجيس.ونشر فيها قسماً من سيرة عنترة وكتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان ثم طبعهما على حدة.ومما طبعه في تونس كتاب مقامات الشيخ أحمد بن محمد الشهير بابن المعظم أحد أدباء القرن الثالث عشر للمسيح.ووصف معرض باريس سنة 1867 في كتاب سماه عرض البضائع العام.وله رسالة في القهوة دعاها ( بالقول المحقق في تحريم البن المحرق ) وعرب الأصول النحوية للغوي الفرنسوي لومون ( Lhomod ) وكذلك وضع كتاباً في الطبيعيات والظواهر الجوية لخصه عن كتب الفرنج وسماه رسالة في حوادث الجو وطبعه سنة 1862 في باريس.ولا نعرف تاريخ وفاة الحرائري ولعله مات بعد سنة 1870 إلا أن تآليفه كلها قبل هذا العهد. ( محمد التونسي ) هو محمد بن عمر بن سليمان التونسي ولد سنة 1204 ( 1789م ) وتخرج على شيوخ الأزهر في مصر ثم سافر إلى درفور والسودان وكتب تفاصيل رحلته في كتاب دعاه: كتاب تشحيذ الأذهان بسيرة بلا العرب والسودان.وقد طبعت هذه الرحلة على الحجر في باريس سنة 1850 بهمة المستشرق الفرنسوي بارون ( perron ) الذي نقل مضامينها إلى الفرنسوية وذيلها بالحواشي.ولما عاد التونسي من رحلته خدم الآداب في مطبعة بولاق فتولى تصحيح مطبوعاتها توفي سنة 1274 ( 1857 ). ( محمود قبادو ) هو الشيخ السيد أبو الثاء محمود قبادو الشريف.كلف بإحراز الآداب فنال منها نصيباً وافراً.وكانت له ذاكرة عجيبة لا ينسى شيئاً مما سمعه قيل انه سمع يوماً رسالة افرنسية وهو لا يعرف تلك اللغة فأعادها بحرفها.وكان متضلعاً بكل علوم العرب لكنه برز في الشعر وكان يقوله بديهاً.وله ديوان شعر في جزأين جمعه تلميذ الشيخ عبده محمد السنوسي فطبعه في تونس ( 1293 - 1296 ).توفي السيد محمود ولم يدرك الخمسين من عمره نحو السنة 1288 ( 1780 ).وكان بينه وبين الكنت رشيد الدحداح صداقة ومراسلات.وقد روى له الشيخ رشيد بعض الآثار الدالة على فضله من ذلك تشطيره لقصيدة بشر بن عوانة في مبارزة الأسد بعد أن أفتتحها بأبيات حسنة يقول فيها:

أفاطمَ هل علمت مضاء عزمي

ومطمح هّمتي نخواً وكبرا

وَجُود يدي وإقدامي وبأسي

ولا أعصي لباغي العُرف أمرا

تلين لمن يسالمني قناتي

وتصلب أن يرم ذو الغمز هَصرا

وأني لا أعدُّ الوفرَ ذُخراً

ولكني أعدُّ الذكر ذخرا

ثم يليها التشطير الذي هذا أوله:

( أفاطمَ لو شهدتِ لبطن خبتٍ )

لهانت عندك الأخبارُ خُبْرا

ولو أشرفتِ في جنحٍ عليهِ

( وقد لاق الهزَبْرُ أخاك بشرا )

( إذاً لرأيتِ ليثاً رام ليثاً )

وكلُّ منهما بأخيهِ مُغْري

يرى كلٌّ على كل ثقة أخاهُ

( هزبراً أغلباً لا في هزبرا )

فكاد يربيهُ فيخال مني

( محاذرةً فقلتُ عُقِرْتَ مهراً ). . .

ومن نظمه قصيدة دالية قالها تهنئة للسلطان عبد المجيد سنة 1276 ( 1856 ) ضمنها عدداً وافر من التواريخ وتفنن فيها على طرائق عجيبة.ومن مديحه قوله في الكنت رشيد:

فيا مخبراً لاحت بمرآة طبعهِ

خبايا طباع الدهر فهي لهُ تبدو

بقيتَ رشيداً طبق وسمك مرشداً

يُهيأ من كل الأمور لك الرشدُ

أدباء النصارى

نذكر الذين اشتهروا من النصارى بخدمة الآداب العربية في هذا الطور مدونين أسماءهم على توالي الزمان. ( جبرائيل المخلع ) هو جبرائيل بن يوسف المخلع ولد في دمشق في أواخر القرن الثامن عشر وتفقه في العلوم العربية والتركية والفارسية ثم سافر إلى مصر وبقي فيها مدة يتنقل في دواوين الإنشاء في الإسكندرية ثم عاد إلى دمشق ومات نحو السنة 1851.ومن مآثره ترجمة كتاب شهير عند العجم يسمى الجلستان أي روضة الورد لصلاح الدين السعدي.عربه تعريباً متقناً بالنظم الرائق والنثر المسجع المنسجم ثم طبعه سنة 1846 في بولاق.وهذا مثال من ترجمته ( ص84 ):( حكاية ) نظرت أعرابياً في حلقة الجوهرية بالبصرة، وهو يقول: اسمعوا يا ذوي النقد والخبرة، كنت ضللت في الصحراء طريق الجواز، ولم يبقى معي من معنى الزاد ولا المجاز، فأيقنت بالهلاك، وسمحت له بالفؤاد إذ ذاك، فبينما أنا في البيداء اقتضى الضر، وإذا بي وجدت كيساً ممتلئاً بالدر، فلا أنسى ما علاني من الفرح والمسرة، إذ توهمت أن أجد قمحاً مقلياً في تلك الصرة، فلما تحققت فيه وعاينت الدر والملس، دهشت من الفم الذي لا يبرح عن الفكر بحلول الياس.

في يابس البيد أو حرّ الرمال فما

لظامئ القلب يُغني الماسُ والصَّدَفُ

العادم الزاد إذ تهوى بهِ قدمٌ

لهُ استوى الذهبُ المكنوزُ والخزفُ

( حكاية ) كان بعض العرب يُنشد من شدَّة الظمأ، وقد علا عليه حرُ البادية وحَمَى:

يا ليت قبل منيَّتي

يوماً أفوزُ بمُنيتي

نهراً يُلاطم ركبتي

وأظلُ أملا قُربتي

( حكاية ) كذلك ظلَّ في قاع البسيطة بعض السفَّار، ولم يبقَ معهُ قوتٌ ولا قوة اقتدار، ما خلا يسراً من الدراهم قد ادَّخره في وسطِه ولم ينفقه في الضيق، ولا اهتدى بعد أن طاف كثيراً إلى الطريق، فهلك بالمشقَة، وبعد المشقَّة، فمرَّ عليه طائفة من الناس، فوجدوه قد وضع الدراهم عند الرأس، وخط على التراب من عدم القرطاس:

جميعُ نُضار الجعفريّ لمن خلا

عن الزادِ لا يغنيه شيئاً من الضرِ

ومن يحترق في الفقر فقراً فأنهُ

لهُ السلجمُ المطبوخُ خيرٌ من التبرِ

وفي تقريظ ترجمة هذا الكتاب قال شهاب الدين الشاعر المصري:

كواكبٌ أشرقتْ تزهو بأنوارِ

أم لاح لي روضُ أزهار وأنوارِ

كلاّ بل الألمعيُّ اللوذعيُّ بدا

منهُ بدائعُ أسجاعِ وأشعارِ

زهتْ معاني جُلِستانَ البديعةُ في

ما صاغِ من عربيّ اللفظِ للداري

لا غرو أن جاءَ جبريلُ الكريمُ بما

مقرؤهُ حيثُ يُتلى يعجب القاري

معرَّب عبَّرت عنهُ براعتهُ

عبارةٌ أظهرتهُ أي إظهارِ

منثورهُ دررٌ في سمطهِ نُظمت

نظماً بلاغتهُ جاءَت بأسرارِ

وإذ زها حسنهُ بالطبع مبتهجاً

أرَّختُ أزهى بهيجٌ روضَ أزهارِ

( مارون النقاش ) هو مارون بن الياس بن مخائيل النقاش ولد في صيدا سنة 1817 ثم انتقل مع والده إلى بيروت وانكب على دروس اللغات والآداب العربية حتى حذق فيها واخذ عن المرسلين اللاتينيين مبادئ اللغتين الفرنسوية والإيطالية.وكان مارون مع سعة علمه فاضلا تقياً متشبثاً بالدين مثابراً على تعاليمه وقد جعلتهُ الحكومة السنية باشكاتباً لدواوين ( كمارك ) بيروت وملحقاتها.ثم تجول مدة في القطر المصري وأجتمع بأدبائه ثم ساح في أنحاء أوربا ورجع مغرى بفن التمثيل فعرَّب عدة روايات وسعى بتشخيصها وكان أول من مهد الطريق لهذا الصنف من الملاهي في هذه البلاد.وقد طبع بعد وفاته أخوه نقولا المحامي الشهير قسماً من رواياتهِ في كتاب سماهُ أرزة لبنان يحتوي روايات البخيل والمغفل والحسود حذا فيها مارون حذوَ الرواية موليار الفرنسوي وأودعها كثيراً من العادات الشرقية.وجارهّ في عملهِ أخوهّ نقولا المذكور وسليم ابن أخيهِ خليل فراجت بذلك سوق الروايات ويا ليتها كسدت مع كثرة مضارها وقلة من يراعون فيها الأدب الصالحة.ثم سافر مارون النقاش إلى طرسوس المتاجرة وفيها كانت وفاتهّ سنة 1855 فقال أخوهّ نقولا يرثيهِ:

بدرٌ هوى لا بل ذوى

غصنٌ وذا مرقدُهُ

نقّاشُ علمِ سيد الع

لم ارتضى يسعدهُ

يا رحمة المولي على

ماروننا تعضدُهُ

ويصبُ هاطل غيتها

أرخ وتغمدهُ

ثم نقلت بعد ذلك رفات المرحوم إلى بيروت ودفنت فيها سنة 1856 فقال شقيقه:

ناديتُ مذ عاد سؤلي منتهى الأملِ

طرسوسُ لا ناقتي فيها ولا جملي

عودا كبدرٍ تولاّهُ الخسوف لذا

ها قد أرختُ سناهُ غير مكتملِ

وكان مارون صديقا للشيخ ناصيف اليازجي يتناوبان على الرسالات الودية الأدبية منها رسالة وجهها الشيخ ناصيف إلى مارون إذ كان في طرسوس أولها:

ماذا الوقوف على رسوم المنزل

هيهات لا يجدي وقوفك فارحلِ

قال فيها:

يا أيها النحريرُ جهبذَ عصرهِ

مالي أبثُّك علم ما لم تجهلِ

إنَّ المقّدم للحكيم إفادةً

كمقدمِ للشمس ضوءَ المشعلِ

بَعُدَ المزارُ على مشوقٍ لم يكن

يشفى عن قرب المزار الأولِ

وختمها بقوله:

إن كان قد بَعُدَ اللقاء لعلةِ

فابعث إلي بأبهة المتعللِ

فأجابه مارون بما مطلعهُ:

وردت إلي من المقام الأفضلِ

غرثى الوشاح من الطراز الأولِ

إلى أن قال:

يا من ذا سمح الزمان بنعمةِ

أبقاك نورا في الظلام لينجلي

كلُّ الرجال إذا مضوا يُرجى لهم

بدلٌ سواك فلست بالمُستَبدَلِ

جاريتَني فقصرتُ دونك همَّة

حتى عجزتُ فقد يحقُ العُذر لي

إنَّ الضعيف مقيَّداً بلسانهِ

مثلُ الأسيرِ مقيَّداً بالأرجلِ

فلما نعي إلى الشيخ صديقهُ بعد أشهر نظم في رثائه قصيدتين من أجود مراثيه قال في الواحدة:

مات الحبيبُ الذي مات السرور بهِ

من القلوبِ وعاش الحُزن والضَرَمُ

قد كنت اشكر بعاد الدار من قِدَمِ

فحبّذا اليوم ذاك البعد والقدَمُ

ومنها:

أيُ الفضائل ليست فيك كاملةً

وأيُ عيبٍ تراهُ فيك يُتَّهمُ

فيك التُقى والنقا والعلم مجتمعٌ

والحلم والحزم والإحسان والكرمُ

نرثيك بالشعر يا نقّاشَ بردتهِ

والشعرُ يرثيك حتى تنفذ الكلمُ

تبكي عليك القوافي والمحابر وال

أقلام والصحفُ والآراء والهَممُ

وكلُّ ديوان شعرٍ كنت تنظمهُ

وكلَ ديوانِ قومٍ فيكَ ينتظمُ

وفي ختامها:

إن كنت قد سرت عن دار الفناء فقد

نلتَ البقا حيث لا شيبٌ ولا هرمُ

إن السعيد الذي كانت عواقبهُ

بالخير في طاعة الرحمان تُختَتَمُ

ومما قال في المرثاة الثانية:

الموت يختار النفيس لنفسهِ

منا كما نختار نحن فما اعتدى

وقد نال منّا درة مكنونة

كانت لبهجتها الدراري حُسَدا

كنزٌ ذخرناه لنا فاغتالهُ

لصُ المنية خاطفاً متمردا

وختمها بهذا التاريخ:

لو غبت عن نظر فقد خلّفت بالت

اريخ ذكراً في القلوب مخلّدا

وكذلك رثاه الشاعر المفلق أسعد طراد بقصيدة طنانة أولها:

دهرٌ يغرُ فخذ من دهرك الخورا

أما تراه بربك العجب والعبرا

وختمها بتاريخ هذا منطوقه:

لو غاب قُلْ في السما تاريخهُ سيُرى

فإنهُ في نعيم الله قد حضرا

ولمارون النقاش ما خلا رواياتهِ قصائد متفرقة وفقرات ورسائل جمع أخوه قسماً منها في أخر كتاب أرزة لبنان منها منظومة في نحو مأتي بيت علم العروض والقوافي.ومن نظمه قصيدة قالها في الشاعر الفرنسوي دي لامرتين لما الربوع السورية دعاها كوكب المغرب.ومنها أيضا قصيدة تهنئة رفعها إلى سعيد باشا خديوي مصر سنة 1270 ( 1853 ) أولها:

لِسعد سُعود مَن سلفوا حدودُ

وسعدُ سعيد مصرَ لهُ خلودُ

أتاه النيلَ معترفاً بفضلٍ

لهُ إذ فاضَ من كفيهِ جودُ

فهذا حكمهُ مدٌّ وجزرٌ

وهذا حلمهُ طامٍ مديدُ

فقد بلغت مناقبهُ كمالا

ومهما ازداد مدحاً لا يزيدُ

وكتب من الإسكندرية مجيبا على قصيدة لخوري يوسف الفاخوري معلمه:

هل هلال هلَّ أم أهلُ الكرمْ

نثروا التبر على خط القلمْ

إلى أن قال:

أي أبي الروحي ولو لا لائمي

قلتُ من يشبهْ أباه ما ظلمْ

فهو بحر نلت من فيضانهِ

وأنا تلميذ ذيَّاك العلَمْ

مخزنُ العلم وفي تدريسهِ

معدن الحلم وكليُّ الهممْ

قد كساني ثوب تعليم بما

فتح الله عليه وقسمْ

لست أنسى جودهُ حاشا ولم

أنسَ أياماً تقضَّت في نعمْ

وللمرحوم عدة تواريخ منها تاريخ على لسان أسعد ابن أخيه حبيب ومات صغيراً سنة 1842:

إني هلالٌ قد دنوتُ من الثرى

قبل أن أتمَّ فهكذا ربي أمرْ

لكن لعمري لم أغب عن منزلي

إلاّ لأشرق في النعيم كما القمر

وكما روى النقاش نَقش تأريخي

لأفوز أسعد بالسعادة عن صغر

( 1842 )ومنها قوله مؤرخا لوفاة البطريرك يوسف الخازن وارتقاء خلفه غبطة السيد بولس مسعد سنة 1854:

في أفق كرسي إنطاكية عجبٌ

بدرٌ توارى وبدرٌ فوق سدَّتهِ

إن غاب ذاك وأضناناً بعيبتهِ

فناب هذا وأشفانا بنوبتهِ

دعا الإله لذاك المرتضي خلفاً

أرَّخت بولس مختارٌ لدعوتهِ

( 1854 ),( إبراهيم بك النجار ) وهو المعروف بإبراهيم أفندي ولد في دير القمر سنة 1822 كان رجلاً هماماَ محباَ للآداب منذ نعومة أظفارهِ فلما قدم لبنان الدكتور الفرنسوي كاوط بك رئيس أطباء العساكر المصرية سنة 1837 نال من محمد علي باشا بأن يدخله مع غيره من السوريين في مدرسة القصر العيني في مصر فتلقى فيها الدروس الطبية ونال الشهادة المؤذنة ببراعته سنة 1842 ثم سافر إلى الأستانة العلية ودرس على أساتذتها المتطببين وبقي مدة هناك يتعاطى مهنته فأصاب شهرة عظيمة حتى عينته الدولة العلية كطبيب أول للعساكر الشاهانية في مارستان بيروت العسكري.وفي سنة 1846 تجول في أنحاء أوروبة وطبع مرسيلية سنة 1850 كتابه ( هدية الأحباب وهداية الطلاب ) في المواليد الثلاثة وملخص العلوم الطبيعية ثم عاد إلى بيروت ومعه أدوات طبعية فأنسأ مطبعته الشرقية ( أطلب المشرق 3 ( 1900 ): 1032 ) نشر فيها تاريخ رحلته إلى مصر وأعقبها بتاريخ السلاطين العظام ( سنة 1272 - 1275ه - 1855 - 1858م ) وسماه مصباح الساري ونزهة القاري فقرضه مفتي زاده السيد محمد مفتي بيروت بقوله:

جزا الله المؤَلفَ كلّ خيرٍ

لهذا العقد في جيد الحسانِ

أمصباحٌ بدا أم بدرُ سارٍ

بأفق سما البلاغة والمعاني

ومن حسن مساعي إبراهيم بك إنه عني باستجلاب أدوات الطباعة لدير طاميش سنة 1855 كما ذكرنا سابقا ( المشرق 4 ( 1901 ): 473 ).وكان للمترجم شعرٌ قليل منه قوله في مدح السلطان عبد المجيد:

ملكٌ أضاء على الأنام بسبعةٍ

أحيا الزمان بها فمات الحُسَدُ

حزمٌ وعدلٌ رحمةٌ وطلاقةٌ

حلمٌ وبذلٌ غيرةٌ لا تُجحَدُ

دانت لباب جلاله أمم الورى

فغدت بشوكته تسرُّ وتسعدُ

خضع السدادُ لحزمهِ وبعزمهِ

هزم العدى بالسيف حيث يُجَردُ

فإذا الخطوبُ تجمَّعت قاتلوا لها

عبدُ المجيد فإنها تتبدَّدُ

وإذا تصوَّر في الدجنَّة ذاتهُ

لاح الصباح ونوره يتوقَّدُ

وتوفي إبراهيم بك بعز كهولته في 12 أيلول 1864.وكان المذكور قليل الدين في حياته إلا أنه قبل وفاته أنعم الله عليه بالارتداد إلى التوبة على يد المرحوم الخوري جرجس فرج فقال الشيخ ناصيف اليازجي يرثيه:

ضاق الرثا بنا من فرط ما اتَّسما

كالماء طال عليه الورد فانقطعا

ومنها:

قد كان في طبّهِ للناس منفعةٌ

فإذا أتى الموت ذاك الطبُّ ما نفعا

وكان يبري من الناس الجراحَ فهل

يبري جراح فؤادِ بعده انصدعا

سارت إلى الله تلك النفس تاركةُ

جسما يرى في تراب الأرض مضطجعاً

كلُّ إلى أصلهِ قد عاد منقلباً

فانحطّ هذا وهذا طار مرتفعا

( طنوس الشدياق ) هو الشيخ طنوس بن يوسف بن منصور الشدياق ولد في أوائل القرن التاسع عشر في الحدث من سلالة قديمة أصلها من حصرون يعرف نسبها من القرن السادس عشر.درس طنوس مع أخوته في مدرسة عين ورقة وتعاطى التجارة مدة ثم انقطع إلى خدمة الأمراء الشهابيين فأرسلوه إلى عكا ودمشق وقام بأعباء خدمته بكل نشاط وأقيم بعد ذلك قاضيا على النصارى في لبنان.وقد اشتهر طنوس بمعارفه التاريخية.وكان كافا بتاريخ لبنان فصنف كتابه المسمى بأخبار الأعيان في تاريخ لبنان جعله ثلاثة أقسام في جغرافية لبنان ثم في أنساب أعيانه ثم في أخبار ولاته وقد راجع في تأليف كتابه عدة مخطوطات سرد أسماءها في المقدمة.وهو أدق وأضبط ما وضع إلى يومنا لا سيما في تاريخ الأزمنة الأخيرة وساعده في تهذيبه وتنقيحه ونفقات طبعه المعلم بطرس البستاني.وكان نجازه سنة 1859 بعد شغل نحو خمس سنوات وإنما نقصته فهارس للاستدلال على مضامينه.وقد عُرف صاحب هذا الكتاب بتجرده عن الأعراض كما قال:

خلا تاريخنا من كل ميل

ومين بين أخبار الزمانِ

وجاءَ بعون مولانا سديدا

مقيَّدا ما لهُ في النفع ثانِ

توفي سنة 1861 وله شعر لم يطبع وكان شديد التمسك بالدين مستقيم السيرة محبا للصدق.وهو أخو فارس الشدياق لكنه لم يتبعه في ضلاله.ومما يذكر من آثاره أيضاً أنه كان يشتغل بمعجم الألفاظ العامية ولم ينجزه( إبراهيم العورا ) هو ابن المعلم حنا العورا الرومي الملكي الكاثوليكي ولد في عكة في أواخر القرن الثامن عشر وتخرج بالآداب هو وأخوه ميخائيل على أبيهما الذي خدم في ديوان إنشاء محمد باشا الجزّار ثم في ديوان سلفه سليمان باشا.فبرع إبراهيم في الكتابة وضُم إلى كتاب ديوان الإنشاء تحت نظارة والده وخاله إبراهيم نحَّاس وذلك سنة 1229 ( 1814م ).وكان مغرما بتاريخ بلاد الشام يدون من حوادثها ما أمكنه ثم جمع ذلك في كتاب ضمنهُ تاريخ سليمان باشا وافتتحه بمجمل أخبار القرن الثامن عشر ثم اتسع في تاريخ الأحوال التي جرت في آخر أيام الجزار ولا سيما في عهد خلفه سليمان باشا إلى وفاته سنة 1234 ( 1818 ) ولم يزل يحسن هذا التاريخ ويهذبه حتى أتمه سنة 1269 ( 1853 ) وفي مكتبتنا الشرقية نسخة منه وهو سفر جليل يحتوي أموراً عديدة وتفاصيل لا تكاد تجدها في غيره روى أكثر عن أدباء عصره وعن معرفته الخاصة مما عاينه بنفسه فزادت بذلك خطورته.توفي إبراهيم العورا سنة 1863 فكتب الشيخ ناصيف اليازجي هذا التاريخ على قبره:

لا تجزعوا يا بني العورا واصطبروا

فمن ذخر لكم بالأمس قد فُقدا

من فوقهِ أحرف التاريخ ناطقةٌ

في طاعة الله إبراهيم قد رقدا

( ناصيف المعلوف ) هو أحد الذين اشتهروا في هذه المدة بين نصارى الشرق بآدابه ومعارفه اللغوية.وقد مر له في المشرق ( 8 ( 1905 ): 773: 847 الخ ) ترجمة مطولة بقلم الكاتب البارع عيسى أفندي معلوف نقتطف منها ما يليق بالمقام.هو ناصيف بن الياس بن حنا المعلوف.كان أبوه في خدمة الأمير بشير الشهابي يقطن مع أسرته قرية زبوغا وفيها ولد ابنه ناصيف سنة 1823 فسلمه أبونا إلى بعض أفاضل المعلمين من كهنة ومرسلين فانكب على درس اللغات والعلوم بكل رغبة ثم رافق التاجر الشهير يوحنا عرقتنجي في رحلته إلى أزمير سنة 1843 وأتم هناك دروسه في مدرسة الآباء اللعازاريين وأتقن اللغات التركية واليونانية الحديثة والإفرنسية والإيطالية حتى أمكنه أن يصنف عدة كتب في كل هذه اللغات ( أطلب قائمتها في المشرق 8: 1049 ) لكنه برز خصوصا في التآليف التركية التي أقبل عليها المستشرقون وافاضوا في مدحها ونال بسببها الأوسمة الشريفة والامتيازات الخاصة.وبين تآليفه ما يشهد له أيضاً بمعرفة آداب لغته العربية وحسن إنشائه فيها وكان وجوه الأوربيين وأعيانهم يحبون أن يتخذوه كترجمان في أمورهم لكثرة آدابه وطلاقة لسانه في كل لغات الشرق.توفي ناصيف في وباء الهواء الأصفر في أزمير سنة 1865. هذا ما أمكنا جمعه من مآثر النصارى في تلك المدة ولا غرو أنه فاتنا من أعمالهم شيء كثير كما أننا لم نذكر بعض الذين عرفوا بآدابهم ولم يصبر على الزمان إلا القليل من كتاباتهم كالدكتور يوسف الجلخ الذي وردت له بعض خطب في أعمال الجمعية السورية.توفي سنة 1869 وقد جُمعت في كراس المراثي التي قال الأدباء في وفاته منها تاريخ للشيخ ناصيف اليازجي:

قفْ عند تُربة يوسف الجلخ الذي

ما زال يغلبُ دينُهُ دنياهُ

ولذاك نال ختامَ خيرِ فائزاً

أرَخ برحمة ربّهِ ورضاهُ

ومنهم الشيخ حبيب اليازجي ابن الشيخ ناصيف توفي سنة 1870 وسنذكره مع والده وأخوته في تسطير تاريخ الآداب في الطور الرابع إنشاء الله.ومنهم الشيخ مرعي الدحداح ( 1782 - 1868 ) كان درس في عين ورقة وكتب في دواوين الأمراء وتنقَّل في البلاد وله رسائل وكتابات متفرقة وقد نشرت سيرة حياته في كراس خاص.قال الشيخ ناصيف في تاريخ وفاته:

مضى الشيخ مرعي راحلاً عن ديارنا

ولكن تهيَّأ في السماء لهُ قصرُ

وأولى بني الدحداح حزناً مخلَّداً

يدومُ كما يبقى لهُ عندهم ذكرُ

همام تلقَّى الحادثاتِ بنفسه

فتمَّ له من بعدها المجدُ والفخرُ

إذا زرتَ مثواهُ فأرّخ وقل بهِ

عليك الرضى والعفوْ يا أيها القبرُ

( الأمير حيدر الشهابي ) ذكرناه ذكراً حنيفاً ( ص 22 ) فنفرد له باباً أوسع هنا لوقوفنا على بعض أخباره.هو ابن الأمير احمد بن حيدر الشهابي الذي حكم لبنان مدة مع أخيه الأمير منصور ( 1754 - 1763 ) ولد سنة 1763 وتخرج في الآداب منذ حداثة سنه فعشقها وأحب الفضيلة وأهلها وكان محسناً إلى الفقراء أنفق عليهم جانباً عظيماً من ماله وكذلك أوقف على رهبان طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك أملاكا كثيرة.وكان زاهداً في الدنيا يفضل العيش المعتزلة على الشغل بالسياسة حتى انه أبى غير مرة الولاية على لبنان.وله تاريخه المشهور غور الحسان في تواريخ حوادث الزمان قسمه ثلاثة أجزاء تبتدئ بأول الهجرة وتنتهي بتولي الحكومة المصرية على الشام.طبع هذا الكتاب بتصرف ودون فهارس في مصر سنة 1900.ومنه في مكتبتنا الشرقية نسختان في عدة مجلدات.ويذكر المؤلف تاريخ آخر مخطوط يتناول حوادث الشام في عهد الأمير بشير الكبير وما بعده لم نقف عليه.توفي الأمير حيدر سنة 1835. ( بعض أدباء الروم ) نذكر هنا بعض الإفادات عن أدباء الروم الأرثوذكس وكنا سهونا عن ذكرهم فألفت إليهم نظرنا الكاتب الشهير عيسى أفندي اسكندر المعلوف.نبغ منهم في القسم الأول من القرن التاسع عشر قوم من الأكليروس الأورثذكسي عرفوا بآدابهم منهم أثناسيوس المخلع الدمشقي أسقف حمص الذي ذكرنا في المشرق ( 20 ( 1922 ): 288 ) بعض آثاره مع آثار سميه مطروبوليت عكا.قال جنابه: انه انتقل إلى كرسي بيروت ولبنان وكان عالماً بارعاً اقتنى مكتبة نفيسة وتوفي سنة 1813. ومنهم الخوري يوسف مهنّا الحداد الذي قتل في دمشق في حركة سنة 1860 وكان مغرماً بالعلم واشتهر بالوعظ والتدريس في الفيحاء وعرّب لطائفته بعض الكتب الدينية ( اطلب المشرق 5 ( 1902 ): 1012 و20 ( 1922 ) 1010 ).ومنهم الخوري اثناسيوس قصير الدمشقي مؤسس مدرسة البلمند سنة 1833.والخوري يوحنا الدومائي منشئ المطبعة العربية في دمشق ( المشرق 4 ( 1901 ): 878 ) والخوري اسبيريديون صرّوف الذي درّس في المصلبة بالقدس الشريف وصحح مطبوعات القبر المقدس وألّف وعرّب وتوفي سنة 1858 ( اطلب العدد الخامس من هذه السنة ص 371 ) والمطران أغابيوس صليبا اداسيس ( الرها ) الذي ألف وعرّب كثيراً من الكتب التي طبعت في روسيا.

المستشرقون الأوربيون في هذا الطور

( الفرنسيون ) بقي السبق في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً العلماء الفرنسويين في هذا الطور الثالث الذي بلغنا إليه في سياق تاريخنا للآداب العربية.وكان تلامذة العلامة دي ساسي يمشون على آثار معلمهم فيخوضون بحر الآداب الشرقية ويستخرجون من أغوارها اللآلئ الفريدة فينظمونها قلائد تزيد يوماً بعد آخر ثمناً وفخراً وهانحن نذكر بعض الذين وقفنا على أخبارهم وهي إلى اليوم متفرقة لم تجمع في سفر خاص. فمنهم فلجانس فرينل ( F.Fresnel ) ولد سنة 1795 وانقطع في شبابه إلى درس اللغات الشرقية حتى أرسلته حكومته سنة 1837 إلى جدة وتعين هناك بصفة قنصل لدولته.وفي سنة 1852 توجهت أنظار العلماء إلى خرائب بابل فتشكلت بعثة علمية وكلت فرنسة نظارتها إلى فرينل لما عهدت فيه من الأهلية فسافر إلى بغداد وقام بأعباء مهمته بنشاط مدة ثلاث سنوات وكانت وفاته في حاضرة العراق في 30 ت2 سنة 1855 وعمره 61 سنة وقد خلف فرينل عدة آثار تدل على سعة معارفه منها ترجمة لاميّة العرب للشنفري ومنها رسائل واسعة في تاريخ العرب في أيام الجاهلية وله أيضا مقالات أخرى مفيدة في الكتابات الحميرية التي وجدت في جهات اليمن طبعت في المجلة الآسيوية الفرنسوية. واشهر منه نابغة همام وعالم عامل جارى في فضله أمام عصره العلامة دي ساسي نريد به آتيان كاترمار ( Et.Quatremere ) كان سليل أسرة شريفة كثر فيها الأدباء والعلماء وأصحاب السيف والقلم وزادها هو بأعماله شهرة.ولد آتيان في باريس في 12 تموز سنة 1782 وتخرج منذ حداثة سنه في العلوم الشرقية على دي ساسي الموما إليه.واستحق بفضله أن يدخل في جملة نظّار المكتبة العمومية ومخطوطاتها الثمينة ثم تولى التدريس في المدارس العليا قبل أن يبلغ العشرين من سنه وفي السنة 1815 نظمه مجمع فرنسة العلمي في سلك أعضائه ثم ندبته الحكومة إلى تدريس اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية والفارسية في مدارسها الخاصة فأحرز له في تعليمها شهرة عظيمة حتى أضحى بعد وفاة دي ساسي نسيج وحده في كل العلوم الشرقية إلى سنة وفاته في 18 أيلول سنة 1857.ومن يطلع على تآليف هذا الرجل المقدام يقضي منه العجب لأنه خلّف بعده نيفاً ومائة كتاب في كأبواب الفنون الشرقية وكل اللغات السامية وغيرها وقد أودع كل هذه المصنفات كنوزاً من المعارف يتحير لها عقل المطالعين.أما تآليفه العربية فعديدة ونهاية في الحسن والضبط منها ترجمته لتاريخ المماليك في مصر للمقريزي في أربعة أجزاء وحواشٍ ضافية.وله مجلدان في مبهمات تاريخية وجغرافية مصرية وتأليف عن النبطيين ومآثرهم ومن مطبوعاته العربية نشره لمقدمة ابن خلدون في ثلاثة أقسام وترجمتها الفرنسوية مع ملحوظات وفهارس في ثلاثة أقسام أُخر ومنتخبات من أمثال الميداني وكتاب الروضتين ومقالات متسعة في جغرافيي العرب وفي مؤرخيهم وفي عادات أهل البادية وله في التركية ترجمة تاريخ المغول لرشيد الدين في مجلد ضخم آية في حسن الطبع.وقد ألف كتباً عديدة في آثار القبط والبابليين والهند والسامرة والأفريقيين والعبرانيين ومجمل القول لم يدع فناً إلاّ صنف فيه كتباً تعد إلى يومنا معادن ثمينة غنية بمضامينها العلمية. ومن تلامذة دي ساسي المعدودين غرانجره دي لاغرانج ( J - B.Grangeret de la Grange ) ولد سنة 1790 وأحكم درس العربية والفارسية فوكلت إليه دولته سنة 1830 تصحيح المطبوعات الشرقية في مطبعتها العمومية فقام بالعمل القيام المشكور.وتوفي سنة 1859 وقد أبقى من الآثار مجموعاً في النظم والنثر نقله إلى الإفرنسية وله منتخبات من شعر المتنبي وابن الفارض علق عليها الحواشي وترجمها.وقد صنف كتابا في تاريخ العرب في الأندلس ودافع عن محاسن الشعر العربيواشتهر في هذا الوقت نويل دي فرجه ( Noel des Vargers ) بين المستشرقين الفرنسويين وكان مولده سنة 1805 ووفاته في كانون الثاني سنة 1867 نشر عدة تآليف شرقية كقسم من تاريخ أبي الفداء وتاريخ بني أغلب لابن خلدون وله تاريخ افرنسي في عرب الجاهلية اختصره عن تاريخ معلمه دي برسفال وأضاف إليه مختصر تاريخ الحلفاء إلى عهد المغول.وهو من التآليف الحسنة المفيدة وكان ضليعاً بالمعارف الشرقية يلتجئ إليه العلماء في مشاكلهموفي سنة وفاة دي فرجة توفي مستشرق آخر ذائع الشهرة جوزف رينو: ( J.V Reinaud ) المولود في 4 كانون الأول سنة 1795 والمتوفى في 14 أيار سنة 1867 كان أيضاً من تلامذة دي ساسي وانكب على مثال أستاذه على درس آثار الشرق ولغاته وكان أحد حفظة خزانة المخطوطات الشرقية في باريس فاستقى من تلك المناهل الطيبة ما شاء.وفي سنة 1838 بعد وفاة دي ساسي تولى تدريس اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية الحية ثم رُئس عليها سنة 1864 وبقي في وظيفته إلى سنة وفاته.وللعلامة رينو منشورات جليلة منها في الآثار الشرقية كوصفه لمتحف الكنت دي بلاكاس في جلدين وهو سفر خطير في تعريف العاديات الإسلامية.واشتغل بتاريخ الشرق فنقل إلى الفرنسوية معظم ما كتبه العرب في الحروب الصليبية وترجم رحلة تاجرين عربيين إلى الصين تدعى سلسلة التواريخ ونشر كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء ونقله إلى الإفرنسية وزيَّنهُ بالمقدمات الأثيرة والحواشي.وله ما خلا ذلك عدة مقالات لغوية وتاريخية في العرب وغيرهم من شعوب الشرق يطول تعدادها وفي ما سبق ما ينبئ بفضله الواسع. وفي السنة 1867 توفي مستشرق ثالث فرنسوي موسوي الدين وهو سليمان مُنك ( S.Munk ) ولد في بلاد بروسيا سنة 1805 وتخرَّج بالآداب العبرانية على بعض الربَّانيين في بلده ثم جاء فرنسة سنة 1828 وتجنس بالجنسية الفرنسوية وحضر دروس دي ساسي وكاترمار فتعلم العربية والفارسية والسنسكريتية وبرع فيها وتجول مدة في القطر المصري مع الوزير كريميو.ثم تفرغ للكتابة والتعليم وقصدته التلاميذ ليدرسوا عليه العبرانية.وقد أصيب في آخر عمره ببصره فلم ينقطع عن التأليف والإملاء على الكتبة وهو في هذه الحالة عشرين سنة.وله عدة تآليف في العبرانية والعربية والفارسية في تاريخ الشرق نخص منها بالذكر تاريخ فلسطين وكتابات شتى في الشعر العربي والشعر العبراني ونشر مصنّفات بعض فلاسفة اليهود في العربية والعبرانية وترجمها إلى الفرنسوية كدليل الحائرين لابن ميمون ومعين الحياة لابن جبرول وكتب أيضا في فلسفة الهنود والعرب.وقد نقل إلى الفرنسوية مقامات الحريري.ومن مصنفاته أيضاً مقالات عديدة في آداب الفينيقيين وشرح كتاباتهم المكتشفة في سواحل الشام. واشتهر في الجزائر مستشرق فرنسوي من تلامذة دي ساسي أيضاً وهو لويس جاك برنيه ( L.J.Bresnies ) ولد في فرنسة سنة 1814 وتوفي الجزائر في 21 حزيران 1869 كان درس على كبار المستشرقين الفرنسويين منذ حداثة سنه فخلفهم في نشاطهم وعملهم.وقد علّم اللغة العربية في حاضرة الجزائر 33 سنة بهمة عظيمة أكسبته شكر تلامذته.ومن ثمار اجتهاده عدة مطبوعات عربية مدرسية نشرها في فرنسة والجزائر مهدت الطريق لكثيرين لدرس العربية الفصيحة واللغة الشائعة في بلاد الجزائر فمن تآليفه شرح أصول العربية من صرف ونحو وعروض وله أبحاث في اللغة العامية ومجاميع عربية مختلفة مع ترجمتها إلى الافرنسية واعتنى أيضاً بالخط العربي وتعليمه.ومن آثاره ترجمته للاجرومية مع تعليقات عليها. وفي زمن المسيو برنيه خدم الآداب العربية معلم آخر وهو المعلم كنباريل ( E.Combarcl ) نشر أيضاً عدة مطبوعات مدرسية لتعليم العربية في الجزائر بين السنتين 1845 و1865 ولم نعرف سنة وفاته. وكذلك عرف بين المستشرقين العلامة بيبرستين كازمرسكي ( B.Kazimirski ) الذي ولد في بولونية واستوطن فرنسة ونشر فيها مطبوعات شرقية مفيدة أخصها معجمه للغتين العربية والفرنسوية الذي جدد طبعه في مصر بعد طبعته الباريزية في مجلدين ضخمين.وقد نقل القرآن إلى الفرنسوية وترجمته معروفة بدقتها وسلاستها.مات نحو سنة 1870. وممن لم نهتد إلى سنة وفاته من المستشرقين الفرنسويين واشتهر بمآثره العربية المسيو بارون ( A.Perron ) نشر تآليف جمة ونقلها إلى الفرنسوية ففي سنة 1832 ألف كتاباً في أصول اللغة العربية وطبعه على الحجر ثم نشر مقالات مفيدة في بعض مشاهير العرب كطرفة والمتلمس وعنترة ونقل طرفاً من أشعارهم إلى لغته ونقل أيضاً رواية سيف التيجان ورحلة محمد التونسي إلى الدرفور وكتاب الطب النبوي وكتاب كامل الصناعتين المعروف بالناصري لأبي بكر ابن بدر في مجلدين وكتاب ميزان الخضرية للشعراني في الفقه والمختصر في الفقه لخليل بن إسحاق المالكي في سبعة مجلدات انتهى من طبعه سنة 1854 بعد ست سنوات وعلق عليه تعليقات واسعة. ونضيف إلى هؤلاء المشاهير من الفرنسويين الأستاذ كليمان موله ( J.J.Clement - Mullet ) الذي أدى المستشرقين خدماً مشكورة بأبحاثه عن الزراعة عند العرب ومن آثاره الباقية ترجمته الفرنسوية لكتاب الفلاحة للشيخ أبي زكريا يحيى الأشبيلي المعروف بابن العوام.وكان الأصل العربي قد طبع في مجريط سنة 1802 فنقله المسيو موله في مجلدين وعلق عليه التعليقات الخطيرة.وله أيضاً في المجلة الآسيوية الفرنسوية مقالات متسعة في المواليد الطبيعية عند العرب واصطلاحاتهم.توفي المسيو موله سنة 1870. ( الألمانيون ) تقدمت الدروس العربية في ألمانية في هذه المدة بهمة بعض الأفاضل الذين أصبحوا أسوة لأهل بلادهمويستحق السبق على جميع مواطنيه جرج وليلم فريتاغ ( G.W.Preytag ) ولد سنة 1788 وتوفي في ت2 من السنة 1861 وكان مثالاً للعزم والثبات فكلف بالآداب العربية ودرس اللغات الشرقية في باريس على فخر زمانه دي ساسي أتقنها وعهد إليه تعليمها في كلية بونة سنة 1819 فلم يزل مذ ذاك الوقت إلى سنة وفاته يفرغ كنانة مجهوده في نشر المآثر العربية منها قاموسه العربي اللاتيني في أربعة مجلدات ضخمة أتمه بسبع سنوات وكان يواصل الدرس كل يوم إحدى عشرة ساعة لا يكاد يأخذ فيها راحة.ثم اختصر ذلك المعجم بمجلد واحد.وقد نشر لأول مرة كتاب حماسة أبي تمام مع شروح التبريزي ونقلها كلها إلى اللاتينية.وقد نشر كتاب عبد اللطيف البغدادي في وصف مصر وقسما من تاريخ حلب لكمال الدين وفاكهة الخلفاء لابن عربشاه.وقد نقل كل هذه الآثار إلى اللاتينية وحشَّاها بالحواشي المفيدة.ومن مآثره الجليلة أمثال الميداني في أربعة مجلدات نشرها وترجمها وأضاف إليها الفهارس مع الملحقات العجيبة في كل ما كتبه العرب عن الأمثال ونشر معجم البلدان لياقوت الحموي في عدة مجلدات مع تذييلات وفهارس غاية في الدقة وسرد لائحة ممتعة في كل مؤرخي العرب.وله كتاب واسع في فن العروض بالألمانية ومنتخبات شتى بالنثر والنظم وقد بقي اسمه إلى يومنا هذا بين مواطنيه كمثال حي للحزم والنشاط. ومن أفاضل الألمان خلَّدوا لهم ذكراً طيباً في هذا الزمان جان غدفريد كوسغارتن ( J.G.Kosegarten ) ولد في اَلتِنكرخن من أعمال بروسية سنة 1792 ودرس العلوم في مدرسة غريسفالد الشهيرة ثم تعشق اللغة العربية فأرسله أبوه ليروي غليله منها بالدرس على الأستاذ دي ساسي محور العلوم الشرقية في زمانهِ فتلقَّن اللغة العربية ثم درس التركية والفارسية والأرمنية واستنسخ قسماً من مخطوطات باريس ولم يلبث أن نشر في بلده منها طرفاً استوقفت أنظار أهل وطنه فدعاه أصحاب الأمر إلى تدريس اللغات الشرقية في غريسفالد وبقي في منصبه إلى وفاته فيها سنة 1850 منقطعا إلى نشر التآليف المهمة أخصها غراماطيق اللغة العربية في اللاتينية ثم قسمٌ من شعر الهذيليين طبعه في لندن وكذلك نشر مجلداً من كتاب الأغاني لأبي الفرج ونقله إلى اللاتينية وزينه بالمقدمات والشروح ونشر أيضاً مجلدين من تاريخ الطبري مع ترجمتها وطبع معلَّقة عمرو بن كلثوم وذيّلها بالملحوظات المفيدة وله غير ذلك من الآثار العربية والسنسكريتية والهيروغليفية. وليس دون السابقين همَّة ونشاطاً واتساعاً في التأليف وطنيهما غستاف فلوغل ( G.Flugel ) ولد سنة 1802 في بلاد سكسونيا ودرس في ليبسيك على مشاهير علمائها وأخذ عن بعضهم مبادئ اللغات الشرقية ثم سافر إلى فينا وبقي سنتين ينعم النظر في مخطوطات مكتبتها الشهيرة وتجول بعدئذ في عواصم أوربة إلى أن احتل باريس سنة 1829 وسمع معلميها ودرس مخطوطاتها الشرقية ثم عاد إلى بلاده فتولَّى التدريس في معاهدها العلمية مدة وصار له نفوذ كبير عند أمراء وطنه الذين عهدوا إليه بتآليف عديدة استوفى شروطها وهي تبلغ نحو خمسين مجلداً منها كتاب كشف الظنون للحاج خليفة في سبعة مجلدات ضخمة مع ترجمتها إلى اللاتينية وفهارسها الواسعة وملحقاتها الخطيرة ومنها وصف مخطوطات فينَّا العربية في ثلاث مجلدات.ونشر عدة كتب قديمة مع ترجمتها مثل كتاب مؤنس الوحيد الثعالبي وتعريفات الجرجاني ونجوم الفرقان وهو فهرس للقرآن بديع في بابه.وله تآليف في فلاسفة العرب ونحاتهم ونقَّلتَهم ونشر كتاب الفهرست لابن النديم من أنفس ما كتبه القدماء.وصنَّف تاريخاً موسعاً للعرب في ثلاثة مجلدات فكل هذه المصنفات مما يدهش العقل لسعة علم كاتبها الذي يعد من أكبر المستشرقين وأغزرهم فضلاً.كانت وفاته سنة 1870. وممن برزوا في هذا الزمان في درس كتب العرب الرياضية والجبرية الألماني فرانتس فوبك ( Fr.Woepke ) ولد في بلدة قريبة من ليبسيك سنة 1826 ودرس في ويتمبرغ ثم رحل إلى برلين وتفرَّغ لدرس الرياضيات وفي سنة 1848 التقى بالمستشرق الشهير فريتاغ في بونة فعلمه العربية وفتح له باباً لدرس آثار العرب في الحساب والمقابلة والجبر والهندسة والهيئة فخصص مذ ذاك الحين نفسه لإحياء دفاتنها فنشر رسالة أبي الفتح عمر بن إبراهيم الخيَّامي في الجبر والمقابلة وكتاب الفخري فيهما لأبي حسن الكرخي وتفسير مقالة أوقليدوس العاشرة في الإعظام المنطقة والصم لأبي عثمان الدمشقي وقد كتب نيفاً وخمسين مقالة في كل الفنون الرياضية عند العرب نشرها في المجلة الآسيوية الفرنسوية وفي المجلات العلمية في برلين ورومية وباريس وبطرسبرج وكان إذا نشر أثراً ما قديما نقله إلى اللغات الأوربية وعلق عليه التعليقات الخطيرة حتى أصبح إماماً في هذه الفنون يشار إليه بكل بنان.وكانت أدت به دروسه إلى البحث في العلوم الرياضية عند الهنود وقدماء اليونان وأرباب القرون الوسطى فقابل بينها وبين آثار العرب وقد فاجأه الموت في 24 آذار سنة 1864 وهو في منتصف العمر. وقد اشتهر غير هؤلاء أيضاً بين مستشرقي الألمان وإن لم يبلغوا شأوهم منهم جرج هنري برنستين ( G.H.Bernstein ) صنَّف كتاباً في نحو العربية ونشر بعض الآثار القديمة منه قصيدة لصفي الدين الحلي مع ترجمتها وشرحها ومنها كتاب في مبادئ وأصول الأديان المتفرقة في الشرق.وكانت شهرته في معرفة السريانية أكثر منها في العربية قد علَّم تلك اللغة في برسلو وله فيها عدة مطبوعات.توفي برنستين سنة 1860 وعمره 73 سنة. ومنهم جان أوغست فولرس ( J.A.Vullers ) أحد تلامذة دي ساسي وكاترمار وفريتاغ ولد في ألمانية سنة 1803 وكانت وفاته في 21 ك2 سنة 1880 في غيسِن علم اللغات الشرقية في كلية غيسن.وقد برز فولرس خصوصاً في اللغة الفارسية فنشر معجماً فارسياً لاتينياً يعد من أتقن المعاجم وأبرز عدة آثار لمؤرخي العجم وشعرائهم.وكان عالماً باللغة العربية نشر معلقتي الحارث بن الحلزة وطرفة مع شروح الزوزني عليها ونقلهما إلى اللاتينية وصنَّف أيضاً كتابا في أصول لغة العربومنهم أيضاً فرنتس أوغست أرنُلد ( F.A.Arnold ) اشتهر بين أساتذة مدرسة هال في ألمانية وله مجموعة حسنة من تآليف العرب لطلبة المدارس الشرقية في جلدين طبعت سنة 1853 ونقلها اليونان في القدس إلى لغتهم فجددوا طبعها بهمة استيفان أثناسياديس سنة 1885.وكان سبق قبل ذلك ونشر سنة 1836 معلقة امرئ القيس ونقلها إلى اللاتينية وذيلها بالشروح.ولم نقف على سنة وفاته. ومنهم أيضاً الدكتور جان غدفريد وتسشتين ( J.G.Wetzstein ) أقام مدة في دمشق بصفته قنصل دولته وعني بدرس اللغات الشرقية وجمع عدة مخطوطات وصفها وصفاً حسناً وأرسلها إلى برلين وقد كتب تفاصيل رحلته إلى جهات حوران وبادية الشام ومن مطبوعاته كتاب مقدمة الأدب لجار الله الزمخشري طبعه في ليبسيك على الحجر سنة 1850 توفي معمراً في برلين في 18 ك2 سنة 1905. ومنهم أيضاً هنري جوزف فتزر ( H.J.Wetzer ) ولد سنة 1801 ودرس اللغات الشرقية على علماء زمانه في ألمانية وفرنسة ولا سيما دي ساسي وكاترمار ثم درس اللغات الشرقية في كلية فريبورغ الكاثوليكية فأصاب له فيها ذكراً طيباً وقصدته الطلبة من أنحاء البلاد وهو أول من نشر مقالة المقريزي في نصارى الأقباط وترجمها إلى اللاتينية وله آثار أخرى في العلوم الكتابية.توفي سنة 1853. ومنهم فيليب فولف ( Ph.Wolf ) عني بدرس آداب العرب ونشر البعض منها.وله كتاب دليل السياح لمصر والشام وفلسطين ضمنه أصول العربية العامية.وقد نقل إلى الألمانية كتاب كلية ودمنة وطبع المعلقات ونقلها أيضا إلى الألمانية وبين خفايا معانيها.ونشر شيئاً من ديوان أبي الفرج الببغاء كانت وفاته في غرة كانون الثاني سنة 1894. ومنهم أخيرا ثيودور هاربروكر ( Th.Haarbrucker ) من علماء مدينة هال نقل إلى الألمانية كتاب أبي الفتح الشهرستاني الذي نشره وليم كورتون في لندن وذيله بالتذييلات الحسنة.وله مقالة في كتاب مجموع العلوم لمحمد بن إبراهيم السخاوي طبعه سنة 1859.ونشر في العربية تفاسير على أسفار يشوع بن نون وأسفار الملوك الأربعة والأنبياء من تأليف أحد علماء اليهود الربي تنحوم بن يوسف الأورشليمي ونقلها إلى اللاتينية توفي 17 ك2 سنة 1880. ( النمسويون ) لم يبلغ النمسويون في درس العلوم الشرقية مبلغ الألمان في أواخر القرن التسع عشر.وإنما اشتهر منهم رجل مقدام كانت له قريحة عجيبة في تعلم اللغات والكتابة في كل فنون الشرقيين أعني به البارون جوزف دي هامر بورغشتال ( J.d.Hammer - Purgstall ) ولد في غراتس سنة 1774 ودرس في كلية فينا لغات الشرق حتى أمكنه قبل العشرين من سنه أن يتكلم بالعربية والفارسية والتركية ثم أرسلته الحكومة إلى الأستانة بصفة ترجمان ووكلت إليه نظارة قنصلياتها فتجول في الشام ومصر ودرس أحوال البلاد ثم لم يزل يتقلب في كل المناصب الشريفة حتى دخل في شورى الدولة.فانقطع حينئذٍ إلى التأليف وكان يحسن الكتابة في عشر لغات أجنبية فألف عدداً لا يحصى من الكتب والمقالات في كل المواضيع الكتابية وتغلب عليه التأليف في تاريخ الشرق وآدابه نسرد هنا أسماء بعضها: تاريخ الدولة العثمانية في عدة مجلدات.تاريخ الآداب العربية في سبعة مجلدات ضخمة من عهد الجاهلية إلى آخر الدولة العباسية ضمنه عشرة آلاف ترجمة من كتبة العرب وشعرائهم وكبار علمائهم.وقد نقل إلى الألمانية كتاب ( أيها الولد ) للغزالي وقلائد الذهب للزمخشري وتائية ابن الفارض ومقالات في موسيقى العرب ونشر قصصاً لم تعرف من كتاب ألف ليلة وليلة وديوان خلف الأحمر ونظم بالشعر الألماني كل ديوان المتنبي.وكتب أيضا تاريخ فارس ودولها وتاريخ الآداب التركية.ونقل عدة مصنفات فارسية إلى لغته وأدار المجلات الشرقية فأصبح في بلاده محورا للآداب الشرقية إلى سنة وفاته في 23 ت2 سنة 1856 وكان البارون هامر شديد التمسك بالدين الكاثوليكي وكان يقيم صلاته بالعربية وألف كتاباً في ذلك.ومجمل القول أنه يعد مع بعض مشاهير عصره كمحيي الآداب الشرقية بين الأوربيين. ( الهولنديون ) سبق لنا وصف همتهم في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً.ودونك أسماء بعض الذين أزهروا في الطور الذي نحن في صدده. أشهرهم ثاودور جوينبول ( T.G.J.Juynboll ) ولد سنة 1802 ودخل في سلك خدمة الدين في بلاده وكان متضلعاً باللغة العربية متقناً لتاريخ دول الشرق وآدابهم.فعلم اللغة العربية في مدارس مختلفة حتى صار من أساتذة كلية ليدن إلى سنة وفاته في 16 أيلول سنة 1861.ومن آثاره أنه نشر قصائد المتنبي وشعراء زمانه في مدح سيف الدولة وأضاف إليها ترجمة لاتينية ونشر أيضاً كتاب الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري وسفر يشوع بن نون عن النسخة السامرية ونقله إلى اللاتينية.وكذلك نشر كتاب مراصد الاطلاع الذي هو مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي.وكتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة مع مساعدة أحد المستشرقين الهولنديين المدعو بنيامين ماتس ( B.J.Matthes ) وقد اجتمع ببعض أدباء وطنه فنشروا مجموعاً دعوه بالشرقيات ( Orientalia ).ومن مآثره أيضاً مقالة في الترجمة العربية السامرية المحفوظة في مخطوطات باريس.وكان لجوينبول ابن تقفى خطوات والده فاشتهر أيضاً بعلومه الشرقية اسمه إبراهيم وليلم ( A.W.Juynboll ) عاش بعده نحو عشرين سنة ونشر كتاب التنبيه في الفقه الشافعي لأبي إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي ونقله إلى اللاتينية وقدم عليه المقدمات الحسنة وكذلك عني سنة 1861 بطبع كتاب البلدان لأحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي. ومن معاصري جوينبول الأستاذ تاكو روردا ( T.Roorda ) أحد أفاضل الهولنديين الذين عرفوا بالهمة والثبات.باشر سنة 1825 منشوراته الشرقية بدرس أخبار أبي العباس أحمد ابن طولون والدولة الطولونية ثم ألف كتاباً في قواعد العربية وشرحه باللاتينية وألحقه بمنتخبات ومعجم.وقد ساعد جوينبول في نشر مقالاته الشرقية المار ذكرها.توفي روردا نحو السنة 1865. ومنهم أيضاً هنريك فايرس ( H.F.Weijers ) له كتابات حسنة في شرقيات جوينبول المذكورة آنفاً ثم اتسع في وصف كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان ونشر مع أحد مواطنيه الدكتور مورسنغ ( A.Meursinge ) كتاب درة الأسلاك في دولة الأتراك لأبي الحسن بن عمرو بن حبيب واشتغل بوصف مخطوطات مكتبة ليدن الغنية بكنوزها الأدبية.ولا نعرف سنة وفاة فايرس كما إننا لم نقف على أخبار مورسنغ الذي كان نشر قبل ذلك كتاب طبقات المفسرين للسيوطي. ( الإنكليز ) اشتهر قليل منهم في هذا الطور بالآداب العربية.أخصهم وليم كورتون ( W.Cureton ) ولد سنة 1808 وتوفي في لندن في 17 حزيران سنة 1864 كان من خدمة الدين البروتستاني وتخرج في كلية أوكسفرد وكان جل اهتمامه باللغة السريانية وآدابها.وقد الآداب العربية ببعض المصنفات الدينية منها ما نشره سنة 1843 من تفاسير تنحوم بن يوسف الاورشليمي على مراثي ارميا النبي وكذلك نشر مقالة في الكهنوت من كتاب مصباح المرشد ليحي بن حزير ( ويروي جرير ) التكريتي.ومن آثاره الباقية التي أتقن طبعها كتاب الملل والمحل للشهرستاني نجز طبعه في لندن سنة 1842.وكان طبع قبل ذلك عهدة عقيدة أهل السنة لحافظ الدين عبد الله بم أحمد النسفي وهذان الكتابان نشرا في جملة منشورات أخرى تولت طبعها في بريطانيا شركة طبع التآليف الشرقية Society for the Publication Oriental Texres نفعت الدروس الشرقية نفعاً جزيلاً.ومما كانت نشرته ترجمة رحلة البطريرك الانطاكي مكاريوس التي سبقت للمشرق الكلام عنها ( 1009: 5 ) وبهمة كورتون طبع أيضاً القسم الأول من وصف مخطوطات لندن العربية الذي أتمه بعده الطيب الذكر ريو ( C.Ricu ). وممن أحرزوا لهم بعض الشهرة في الآداب العربية بين الإنكليز وليم ناسولييس ( W.Nassau Lees ) كان هذا مقدماً على جمعية بنغال الآسيوية وورث عن خلفه ماثيو لومسدن ( M.Lumsden ) حبه للآداب العربية.فكان لومسدن أفرغ المجهود في تجهيز مطبعة كلكوتا ونشر فيها مطبوعات مفيدة كمقامات الحريري سنة 1809 ونفحة اليمن لأحمد الشرواني سنة 1811 وشرح المعلقات ومختصر المعاني للقزويني وقاموس المحيط للفيروزابادي وكتب أخرى أوسعت شهرة تلك المطبعة الهندية.ثم توفي 18 آذار سنة 1835 فلما قام بعده ليس زاد على خلفه نشاطاً واهتم بنشر تآليف أوسع وأكثر فائدة فطبع تاريخ الخلفاء لجلا الدين السيوطي ونوادر القليوبي والكشاف للزمخشري وفتوح الشام للواقدي وفتوح الشام للبصري وكشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي الفاروقي التهانوي ونخبة الفكر ونزهة النظر لابن حجر العسقلاني.وكان ليس يستعين في تلك المطبوعات ببعض علماء الهند كالمولوي كبير الدين والمولوي عبد الحق غلام قادر وكان أيضاً يساعده في نشر تلك المطبوعات المستشرق سبرنغر ( A.Sprenger ) الوارد ذكره بعد هذا توفي في ناسو ليس في 9 آذار سنة 1889. وقد نشر أيضاً في هذا الزمان الإنكليزي هاريس جونس ( J.Harris Jones ) ذكر فتح الأندلس لابن عبد الحكم القرشي المصري فطبعه في غوتا سنة 1858 ونقله إلى الإنكليزية. ( الروسيون وغيرهم ) كانت حركة الدروس الشرقية خامدة في روسيا في أواسط القرن التاسع عشر ثم أخذت الأكاديمية الملكية تبعث الهمم وتنشط العزائم فنشأت بذلك نهضة محمودة وعقدت بعض الجمعيات العلمية لترويج تلك المقاصد.وهذه أسماء التآليف العربية التي نشرت في روسيا في الطور الذي يشغلنا. نشر منهم الأستاذ غوتولد ( J.M.E.Gottwald ) معجماً القرآن وللمعلقات في قازان سنة 1863 ونشر في بطرسبرج تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء تأليف حمزة الأصفهاني ونقله إلى اللاتينية توفي غوتولد في قازان سنة 1897 - وفي بطرسبرج نشر الأستاذ كولسون ( D.A.Chwolson ) سنة 1869 كتاب الأعلاق النفيسة لابن دسته ( والصواب رسته ) وترجمه إلى الروسية وله أيضاً بحث خطير في آثار الآداب البابلية في كتب العرب سنة 1859 في مجلة بطرسفرج العلمية توفي كولسون وعمره 92 سنة في 5 نيسان سنة 1879 في مدينة فيلنا وكان يهودياً فتنصر وهو الذي أثبت أن الصابئين المذكورين في القرآن هم المندئيون وعلم في بتروغراد اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية - واهتم الأستاذ اسكندر كرستيانوفتش ( Al.Christian owitsch ) بالموسيقى العربية فوضع فيها مقالة وزينها برسم الآلات الشائعة عند العرب وطبعها في كولونية سنة 1863 - وفي هذا الزمان أزهرأحد الأعاجم المتنصرين اسكندر قاسم بك الذي علم مدة اللغات الشرقية في قازان وبطرسبرج وجعله القيصر من أعضاء الشورى.كان يعرف اللغات التترية والفارسية والعربية وقد نشر في كلها تآليف عديدة وله في العربية مختصر الوقفيات ورسائل دينية ومقالات لغوية وفصول تاريخية في أخبار الدول الإسلاميةونشر قنصل الروس في تبريز نيقولا خانيكوف ( N.Khanikoff ) كتاب ميزان الحكمة للخازني وطبعه في المجلة الشرقية الأميركانية سنة 1859 وهو سفير جليل في المواليد والفلزات والجواهر وترجمه إلى الإنكليزيةوكذلك ( الاسبانيون ) في هذه البرهة من الدهر شعروا بحاجتهم إلى درس اللغات الشرقية ولا سيما العربية لما فيها من الآثار المفيدة لمواطنهم ونال لهم بعض الشهرة وطنيهم كاينكوس ( Pasc.de Gayangos ) الذي نشر في لندن ومجريط بعض التآليف العربية منها ترجمة نفح الطيب للمقري في مجلدين كبيرين ومنها وصف قصر الحمراء مع بيان آثاره وتفسير كتاباته الحجرية وكذلك نشر ترجمة كتاب كليلة ودمنة وتاريخ أحمد بن محمد الرازيأما ( الإيطاليون ) فإن درس اللغات الشرقية كان عندهم منحصراً في بعض المبادي ولم ينشروا في تلك المدة من الآثار العربية شيئاً يذكر اللهم إلا الكردينال العظيم أنجلو ماي ( Ang.Mai ) الذي دخل في الرهبانية اليسوعية في العشر الأول من القرن التاسع عشر وتوفق إلى الاكتشافات العجيبة التي خلدت له ذكراً في العالم كله في إعادة الكتابة على الرقوق التي حكت نصوصها السابقة ( Palimpsestes ).وأقامه الحبر الأعظم إلى رتبة الكرادلة ووكل إليه نظارة المكتبة الواتيكانية.وقد نشر في السريانية والعربية أيضاً بعض ما وجده من الآثار النصرانية وأثبتها في مجموع مطبوعاته.توفي الكردينال ماي سنة 1854وممن نلحقهم بهؤلاء المستشرقين بعض المرسلين الذين خدموا بمدارسهم ومنشوراتهم الآداب العربية.فمن اليسوعيين الأب اسكندر بوركنود ( Al.Bourquenoud ) الذي سبق رينان إلى درس آثار الشام ووصفها وصفاً مدققاً فمهد الطريق لأبحاث رينان الأثرية.توفي الأب بور كنود في 1 ت 1 سنة 1868 في غزير ومنهم اليسوعيان الأب لويس فنيك ( 1868 ) والأب بولس ريكادونا ( 1863 ) ألفا في العربية إرشادات وكتباً دينية وقصائد تقويةأما المرسلون الأميركان فأشتهر بينهم عالي سميث الذي تجول في أنحاء الشام ونظم أحوال الجمعية الأميركية ووسع أعمال مطبعتهم وباشر مع الشيخ ناصيف اليازجي ترجمة الكتاب المقدس وقد أنجزه من بعده الدكتور فان ديك.توفي عالي سميث سنة 1857 وكان منهم أيضاً هنري دي فورست ( H.de Forest ) وادورد سالسبوري ( Ed.Salisbury ) ولكليهما مآثر حسنة من تاريخ وجغرافية وعادات ووصف أديان نشراها في المجلة الشرقية الأميركانية ( Journal of the American Oriental Society ) وكانت هذه المجلة صدرت سنة 1850 فأخذت تباري بمقالاتها المجلات التي تقدمتهاوبهذا النظر الإجمالي نختم تاريخ الآداب العربية في طورها الثالث من القرن التاسع عشر وبه أيضاً ختام القسم الأول من تأليفنا هذا الذي جمعناه في كتاب مستقل وألحقناه بفهرس الأدباء الذين أوردنا ذكرهم في مطاوي كلامنا

كلمة الختام

ويسوغ لنا أن نختصر بكلمة هذا القسم فنقول أن الشرق والغرب تباريا في نهضة الآداب العربية في القرن التاسع عشر بعد خمولها.استخرج الغرب من خزائنه كنوزه المدفونة فسحرت لدى نشرها ألباب أبناء الشرق فتسارعوا إلى إحراز جواهرها والاستقاء من مناهلها فاتسعت بها دائرة مداركهم وشحذت أذهانهم وتحسن ذوقهم ولم يأنفوا أن يستعيروا من أهل الغرب ما وجدوه موافقاً لرقي آدابهم فمهدوا للآتين بعدهم السبيل لتبليغ اللغة إلى صرح كمالها.

الجزء الثاني

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي