تاريخ الآداب العربية (لويس شيخو)/الشعر المنثور

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الشعر المنثور

الشعر المنثور - تاريخ الآداب العربية (لويس شيخو)

ومما سبق إليه أدباء عصرنا فابتكروه دون مثال في لغتنا ما دعوه بالنثر الشعري أو كأنه جامع بين خواص النثر والنظم.أما النثر فلأنه على غير وزن من أوزان البحور.وأما النظم فلأنهم يقسمون مقاطعه ثلاث ورباع وخماس وأزيد دون مراعاة أعدادها ويسبكونها سبكاً مموهاً بالمعاني الشعرية. وهذه الطريقة استعارها على ظنناً الكتبة المحدثين كأمين الرياحيني وجبران خليل جبران ومن جرى مجراهما عن الكتبة الغربيين ولا سيما الإنكليز في ما يدعونه بالشعر الأبيض غير المقفى وفي بعض كتاباتهم الشعرية المعاني غير المقيدة بالأوزان.ولسنا لننفي هذه الطرقة الكتابية التي لا تخلو من مسبحة من الجمال في بعض الظروف اللهم إذا روعي فيها الذوق الصحيح ولم يشنها الاستهتار وتلاحمت معانيها وتنمقت بأشكال البديع السهلة المنسجمة ولم يفرط الأتساع فيها فتصبح لغطا وثرثرة. على أننا كثيراً ما لقينا في هذا قشرة مزوقة ليس تحتها لباب وربما قفز صاحبها من معنى لطيف إلى قول بذي سخيف أو كرر الألفاظ دون جدوى بل بتعسف ظاهر.ومن هذا الشكل كثير في المروجين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني وجبران وتبعتهما فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئاً مما تصبو إليه النفس في الشعر الموزون الحر من رقة وشعور وتأثير.خذ مثلاً وصف الريحاني للثورة:ويومها القليب العصيب.وليلها المنير العجيبوصوت فوضاها الرهيب.من هتاف ولجب ونحيب.وزئير وعندلة ونعيبوطغاة الزمان تصير رماداً.وأخيارهُ يحملون الصليبويل يومئذٍ للظالمين.المستكبرين والمفسدينهو يوم من السنين.بل ساعة من يوم الدينويل يومئذٍ للظالمينهي الثورة ويومها العبوس الرهيبألوية كالشقيق تموج.تثير القريب.تثير البعيدوطبول تردّد صدى نشيد عجيبوأبواق تنادي كلَّ سميع مجيبوشرر عيون القوم يرمي باللهيبونار تسأل هل من مزيد.وسيف يجيب.وهول يشيبويل يومئذٍ للظالمين.ويل لهم من كلّ مريد مهينطَّلاب للحقّ عنيد مدين.ويل للمستعزَين والمستأمنينهي ساعة الظالمينوهي طويلة على هذه الشاكلة.ولو أردنا انتقادها وبيان نقائصها النثرية والشعرية والمعنوية لطال بنا الكلام.وقس عليها فصولاً عديدة من جنسها أعني طنطنة ألفاظ وشقشقة لسان وإذا حاول الأديب استخلاص معانيها بقي متضعضعاً مرتاباًوكم مثلها في كتابات جبران.ودونك فصله المعنون بالأرض:تنبثق الأرض من الأرض كرهاً وقسراًثمَّ تسير الأرض فوق الأرض تيهاً وكبراًوتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكلوتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائعثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحوك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلامثم يراود نعاسُ الأرض أجفان الأرض فتنام نوماً هادئاً عميقاً أبدياًثم تنادي الأرض قائلة للأرضأنا الرحم وأنا القبر وسأبقى رحماً وقبراً حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رمادفلعمري هذه الغاز لا شيء فيها من منظوم رائق ولا منثور شائق هي أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى الكلام المعقول.ولو شئنا لجمعنا من هذا الصنف صفحات تضيق عنها أعداد المشرق.وشتان بينها وبين فصول أخرى بديعة لبعض الكتبة البلغاء كمثل فصل رويناه في المشرق عنوانه ( الموسيقى ) لصديقنا وفخر كليتنا الأديب يوسف أفندي غصوب ( راجع كتابه أخلاق ومشاهد ص117 ) وكفصله ( أيها الصليب ) ( المشرق 22 ( 1924 ): 463 ) فإذا استثنينا هذه الفصول الرائعة التي عرف صاحبها من أين يؤكل الكتف لصدقنا على قول الكاتب الأديب مصطفى أفندي صادق الرافعي في عدد المقتطف الأخير الصادر في يناير 1926 ( ص31 )نشأ في أيامنا ما يسمونه ( ) وهي تسمية تدل على جهل واضعيها ومن يرضاها لنفسه ؟ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب.ولكن سر هذه التسمية إن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصلح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان، فمن أجل ذلك لا يتحمل شيئاً من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف. . .غير أن النثر يحتمل كل أسلوب وما من صورة فيه إلا ودونها صورة أن تنتهي إلى العمامي الساقط والسوقي البارد ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من حسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يتغنى فمن قال ( ) فأعلم أن معناه عجز الكتاب عن الشعر من ناحيةٍ وادعاؤه من ناحيةٍ أخرى. وقد آثر البعض أن يدعوا هذه الطريقة الكتابية ( بالأدب الجديد ) فنقول أن هذه الجدة لا تزيده حسناً إلا إذا جمعت تلك الصفات التي يمتاز بها إنشاء الكتبة البلغاء الحنة السبك المتناسقة الألفاظ المنسجمة المعاني التي لا تتراكم فيها التشابيه على غير جدوى وتتكرر الألفاظ بلا معنى وعليه لم نستحب ما أختاره صاحب الأدب الجديد للآنسة مي في العيون. ( العيون ): تلك الأحداق القائمة في الوجوه كتعاويذ من حلك ولجين. تلك المياه الجائلة بين الأشفار والأحداب كبحيرات تنطقن بالشواطئ وأشجار الحور. العيون الرماديَّة بأحلامها.والعيون الزرقاء بتنوعهاالعيون العسليَّة بحلاوتها.والعيون البّنيَة بجاذبَّيتهاوالعيون القاتمة بما يتناوبها من قوَّة وعذوبةجميع العيون: تلك التي تذكرت بصفاء السماءوتلك التي يركد فيها عمق اليوم ( كذا )وتلك التي تريك مفاوز الصحراء وسرابهاوتلك التي تعرّج بخيالك من ملكوت أتيري كله بهاءوتلك التي تمرُّ فيها سحائب مبرقة مهضبة. . . .الخفإن كان هذا الأدب الجديد فنحن في غنىً عنه.على أن للآنسة في كتابات كثيرة أفضل من هذا . ^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي