ديوان الصبابة/اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري

اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري - ديوان الصبابة

اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري

أقول هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره وأسفر كالصباح سفره إذ للناس فيه كلام من الطرفين وتبختر بين الصفين فقائل بأنه اضطراري وقائل بأنه اختياري ولكل من القوانين وجه مليح. وقدر رجيح ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمر ومحمد بن أحمد النوفاني في كتابه تحفة الظراف العشاق معذورون على كل حال مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال إذ العشق إنما دهاهم على غير اختياري بل اعتراهم على جبر واضطرار والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور لا في المقضي عليه الصلاة والسلام فتضع حملها فكيف ترى هذه وضعته أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار لا بل باضطرار وفقد اقتدار هذا مما لا شك فيه دولب ولا يختلج خلافه في قلب قلت: وجاء في تفسير قوله تعالى 'فلما رأينه أكبرنه' أي رأينه في أعينهن كبيراً وقيل حضن من الدهش. وقال ابن عباس أمذين وأمنين من الدهش وقطعن أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن ألماً لحز أيديهن لاشتعال قلوبهن بحسنه. وقال وهب: كن أربعين امرأة فمات منهن تسع وجداً بيوسف وكمداً عليه. وما أحسن قول بعض بني عذرة، وقد قال له بعض العرب ما لأحدكم يموت عشقاً في هوى امرأة يألفها إنما ذلك ضعف نفس ورقة وخور تجودنه فيكم يا بني عذرة. فقال أما والله لو رأيتم الحواجب الزج فوق النواظر الدعج تحتها المباسم الفلج لأتخذتموها اللات والعزى. وقال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوى مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لان حركاتهم اضطرارية لا اختيارية ورؤى أبو السائب المخزومي وكان من أهل العلم والدين بمكان متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم ارحم العاشقين وقوي قلوبهم واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له ذلك. فقال: والله للدعاء لهم أفضل من عمرة من الجغرانة ثم أنشد:

يا هجر كف عن الهوى ودع الهوى

للعاشقين يطيب يا هجر

ماذا تريد من الذين جفونهم

قرحى وحشو قلوبهم جمر

متذبلين من الهوى ألوانهم

مما تجن قلوبهم صفر

وسوابق العبرات فوق خدودهم

درر تفيض كأنها قطر

والظاهر أن قوله أفضل من عمرة من الجعرانة هو الذي جسر الفتح ابن خاقان على قوله من أبيات:

أيها العاشق المعذب صبراً

فخطايا أهل الهوى مغفورة

زفرة في الهوى أحط لذنب

من غزاة وحجة مبرورة

قلت وقد بالغ في هذا الكلام حتى استحق الملام فليته اكتفى بما قتل في التمثيل:

على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا عليّ ولا ليّا

والظاهر أن الحامل له على هذا ما ذهب إليه الشافعي في أن الميت عشقاً من الشهداء للحديث الوارد في ذلك وسيأتي ذكره في باب العفاف إن شاء الله تعالى. وقال التميمي في كتابه امتزاج الأرواح. سئل بعض الأطباء عن العشق. فقال أن وقوعه بأهله ليس باختيارهم ولا بحرصهم عليه ولا لذة لأكثرهم فيه ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة فقال: لا فرق بينه وبين ذلك. وقال المدائني لام رجل رجلاً من أهل الهوى. فقال: لو كان الذي هوى اختيار لا اختياران لا يهوي ولكن لا اختيار الذي هوى قالوا والعشق نوع من العذاب والعاقل لا يختار العذاب لنفسه وفي هذا قال المؤمل شفا المؤمل يوم الحيرة النظر ليت المؤمل لم يخلق له بصر يكفي المحبين في الدنيا عذابهم والله لا عذبتهم بعدها سقر حكي أنه نال ما تمنى لأنه عمي بعد قوله، وقال أبو محمد بن حزم قال رجل لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها فقال عمر ذلك مما لا يملك وقال كامل في سلمي:

يلومونني في حب سلمى كأنما

يرون الهوى تمنيته عمداً

ألا إنما الحب الذي صدع الحشا

قضاء من الرحمن يبلو به العبدا

وقال الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى 'ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به' بالعشق وهذا لم يريدوا به التخصيص وإنما أرادوا به التمثيل وأن العشق من تحميل ما لا يطاق والمراد بالتحميل ههنا التحميل القدري لا الشرعي الأمري انتهى كلامه. وقال عبيد الله بن طاووس في قوله تعالى 'وخلق الإنسان ضعيفاً' قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر نقله عنه سفيان بن سعيد في تفسيره وقالوا قد رأينا جماعة من العشاق يطوفون على من يدعو لهم أن يعافيهم الله من العشق ولو كان اختيارياً لأزالوه من نفوسهم ومن هنا يتبين خطأ كثير من العاذلين ويظهر أن عزلهم من هذا الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه وما أحسن قول بعضهم:

يا عاذلي والأمر في يده

هلا عذات وفي يدي الأمر

وإنما ينبغي العدل قبل تعلق هذا الداء بالقلب وانصباب دمع العاشق الصب. وذهب جماعة من الأطباء وغيرهم إلى أنه اختياري لا اضطراري وقد تقدم في حد العشق الذي ذكره ابن سينا وغيره أنه مرض وسواسي يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل فهذا تصريح منهم بأن الإنسان هو المختار في العشق بتسليط فكرته الواقع في بحار سكرته قالوا ولأن المحبة إرادة قوية والعبد يحمد ويذم على إرادته ولهذا يحمد مريد الخير وإن لم يفعله وقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأخبر أن عذابهم أليم ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدهم بالعذاب على ما لا يدخل تحت قدرتهم ومنه قوله تعالى 'ونهى النفس عن الهوى' ومحال أن ينهي الإنسان نفسه عما لا يدخل تحت قدرته قالوا والعقلاء قاطبة مطبقون على لوم من يحب ما يتضرر بمحبته وهذه فطرة فطر الله عليها الخلق فلو اعتذر بأني لا أملك قلبي لم يقبلوا له عذراً قلت، والقول الصحيح الذي ليس فيه رد ولا عن محبوبة صد التفصيل في ذلك وهو أن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية وغلظ الكبد وقساوة القلب ونفور الطباع وغير ذلك منهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش كما تقدم في حق النسوة اللاتي متن لما رأين يوسف عليه الصلاة وقد كان مصعب ابن الزبير إذا رأته المرأة خاضت لحسنه وفيه يقول الشاعر:

إنما مصعب شهاب من الله

تجلت بنوره الظلماء

ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته ولم يعرف نعله من عمامته قال الشاعر:

فما هو إلا أن يراها فجاءة

فتصطك رجلاً ويسقط للجنب

فهذا وأمثاله عشقه اضطراري والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس ومنهم من يكون أول عشقه الاستحسان للشخص ثم تحدث له إرادة القرب منه ثم المودة وهو أن يود لو ملكه ثم يقوى الود فيصير محبة ثم يصير خلة ثم يصير هوى ثم يصير عشقاً ثم يصير تتيماً والتتيم حالة يصير بها المعشوق مالكاً للعاشق ثم يزيد التقيم فيصير ولها والوله والخروج عن حد الترتيب والتعطل عن التمييز فهذا وأمثاله مبدأ عشقه اختياري لأنه كان يمكنه دفع ذلك وحسم مادته على أن هذا النوع أيضاً إذا انتهى بصاحبه إلى ما ذكرناه صار اضطرارياً كما قال الشاعر:

العشق أول ما يكون مجانة

فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً

ولهذا قال بعض الفلاسفة لم أر حقاً أشبه بباطل ولا باطلاً أشبه بحق من العشق هزله جد وجده هزل أوله لعب وآخره عطب قال الشاعر:

تولع بالعشق حتى عشق

فلما استقل به لم يطق

رأى لجة ظنها موجة

فلما تمكن منها غرق

قال صاحب روضة المحبين وهذا بمنزلة السكر مع شرب الخمر فإن تناول المسكر اختياري وما يتولد عنه من السكر اضطراري فمتى كان السبب واقعاً باختياره لم يكن معذوراً فيما تولد عنه بغير اختياره ولا ريب أن متابعة النظر واستدامة الفكر بمنزلة شرب المسكر فهو يلام على السبب ولهذا إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يلم عليه صاحبه كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يلام على ذلك كما في قصة مغيت وبربرة المشهورة وقد ظهر بهذا أن العشق يكون اضطرارياً تارة وتارة اختيارياً وذلك بحسب كمالة العاشق كما تقدم فحينئذ يكون إدعاء من قال أنه اضطراري مطلقاً أو اختياري مطلقاً غير مقبول عند ذوي العقول والله تعالى أعلم أقول وإلى هنا انتهى الكلام على هذه الفصول التي طاب زمانها واعتدل وظهر بها في جنة الورد حمرة الخجل وما بقي إلا الدخول في الأبواب على الوجه المقترح والإتيان بما فتح الله سبحانه ومن دق باب كريم فتح. ^

الباب الأول

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي