ديوان الصبابة/الرسل والرسائل

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الرسل والرسائل

الرسل والرسائل - ديوان الصبابة

الرسل والرسائل

والتلطف في الوسائل

أقول هذا باب عقدنا لذكر مراسله الأحباب وشكوى الجوى في الجواب وهو باب مطروق نافق السوق طالما عرض فيه المحب على الرسول سلعة النحول لا سيما من عيل صبره واشتهر أمره فأصبح وهو في البيت طريح واستعمل في مراسلة الحبيب حتى الريح كما قيل:

فيا نسيم الصبا أنت الرسول له

والله يعلم أني منك غيران

بلغ سلامي إلى من لا أكلمه

أني على ذاك الغضبان غضبان

لا يا رسول لا تذكر له غضبي

فذاك مني تمويه وبهتان

وكيف أغضب لا والله لا غضب

إني لما رام من قتلي تفرحان

أكل يوم لنا رسل مرددة

وكل يوم لنا في العتب ألوان

أستخدم الريح في حمل السلام لكم

كأنما أنا في عصر سليمان

فهو من الهوى على شطر ومن إقامة الهجر على سفر لا يقر له قرار ولا يصلي لوجنة محبوبه بنار لا جرم أنه يتعلل بالنسيم العليل ويقول لاستنشاق اليسير منه قليلك لا يقال له قليل. ومن أحسن ما سمعته في هذا الباب قول الواو الدمشقي:

بالله ربكما عوجا على سكنى

وعاتباه لعل العتب يعطفه

وحدثاه وقولا في حديثكما

مابال عبدك بالهجران تتلفه

فإن تبسم قولا في ملاطفة

ما ضر لو بوصال منك تسعفه

وإن بدا لكما في وجهه غضب

فغالطا وقولا ليس نعرفه

أخذه:من قول عمر بن أبي ربيعة من أبيات يصف بها قواده:

فأتتها طبة عالمة

نمزج الخد مراراً باللعب

تغلظ القول إذا لانت لها

وترخى عند سورات الغضب

قيل إن ابن عتيق قال لعمر لما سمع قوله هذا ما أحوج المسلمين إلى خليفة يدبر أمرهم مثل قوادتك هذه. ومثل قول الواو قول الآخر:

ألا يا نسيم الريح بلغ رسلتي

سليمى وعوض بي كأنك مازح

وإن أعرضت عني فموه مغالطا

بغيري وقل ناحت عليه النوائح

وقول الآخر دوبيت:

باللطف إذا لقيت من أهواه

عاتبه وقل له الذي ألقاه

أن أغضبه الوصال غالطه به

أورق فقل عبدك لا تنساه

وقال أبو فراس:

هبت لنا ريح شمالية

متت إلى القلب بأسباب

أدت رسالات الهوى بيننا

عرفتها من بين أصحابي

وكان الصاحب بن عباد رحمه الله إذا سمع هذين البيتين ترمخ لهما وقد عقدت للنسيم باباً مستقلاً في كتابي سلوك السنن في وصف السكن وذكرت فيه أشياء تليق بهذا الباب منها قول أمين الدين ابن عطايا:

أنا أهوى غصن النقى وهؤلاء

وفؤادي بحبه في التيه

يا نسيم الصبا ترفق عليه

وتلطف به ولا تؤذيه

وتحمل رسالة ليس إلا

ك أميناً في حملها أرتضيه

وإذا لم يكن رسولي نسيماً

نحو غصن النقا فمن يثنيه

وقال ابن الخياط الدمشقي

يا نسيم الصبا الولوع بوجدي

حبذا أنت لو مررت بهند

ولقد رابني شداك فبالله متى عهده باطلال نجد. وقال مهيار الديلي:

حملوا ريح الصبا نشركم

قبل أن تحمل شيحاً وخزامى

وابعثوا لي في الدجى طيفكم

إن أذنتم لجفوني أن تناما

حكي أن نور الدين علي بن سعيد المغربي صاحب المرقص والمطرب مر مع جماعة من الأدباء المصريين وفيهم أبو الحسين الجزار فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة وقد هب الهوى فكشف ثيابه عنه فقال أبو الحسين الجزار قفوا لينظم كل منا في هذا شيئاً قال فما لبث أن قال نور الدين المذكور:

الريح أقود ما يكون لأنها

تبدي خفايا الردف والأعكان

وتميل بالأغصان عند هبوبها

حتى تقبل أوجه الغدران

ولذلك العشاق يتخذونها

رسلاً إلى الأحباب والأوطان

وقال أبو الحسين الجزار ما بقي أحد منا يأتي بمثل هذا فسيروا بنا. وقال علي الصفار:

إذا هب نسيم بطيب نشر

طربت وقلت إيه يا رسول

سوى أني أغار لأن فيه

شذاك وأنه مثلي عليل

وكان القاضي محي الدين بن عبد الظاهر يحب شاباً مغنياً اسمه نسيم وله فيه عدة مقاطيع منها قوله:

إن كانت العشاق من اشواقهم

جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا

فأنا الذي أتلو لهم يا ليتني

كنت اتخذت مع الرسول سبيلا

فقلت:أنا كأني حاضر أخاطبه مضمناً.

إن كنت في عشق النسيم متيماً

وزعمت أن هواء ليس بمتلف

فأنا أقول لمن تحرش بالهوى

عرضت نفسك للبلى فاستهدف

وقال القاضي محي الدين أيضاً في محبوبه النسيم:

يا من غدا لي من عوا

صف هجرة الريح العقيم

أترى يطبب لي الهوى

ويقال قد رق النسيم

وقلت أنا كأني حاضراً خاطبة:

بالله إن رق النسيم وأخمدت

نار تؤججها يد التبريح

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ودع العدول وقوله في الريح

وقال القاضي محي الدين أيضاً:

شكرا لنسمة أرضكم

كم بلغت عني تحية

ولكم أطالت بل أطا

بت في رسائلها الذكية

لا غرو إن حفظت أحا

ديث الهوى فهي الذكية

أخذه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي من أهل العصر فقال:

يا طيب نشر هب لي من أرضكم

فأثار كامن لوعتي وتهتكي

أهدي تحيتكم وأشبه لطفكم

وروى شذاكم إن ذا ريح ذكي

فقلت أنا لما وقفت على قوله هذا وقول القاضي محيي الدين المتقدم عليه:

إن ابن أبيك لم تزل سرقاته

تأتي بكل قبيحة وقبيح

نسب المعاني في النسيم لنفسه

جهلاً فراح كلامه في الريح

وقد ذكرت في النسيم أشياء مليحة في كتابي سلوك السنن المذكور واقتصرت منها على هذا القدر هنا خوف الإطالة ويجب أن يكون الرسول من أهل الصيانة وممن يرجع إلى ديانة لئلا يطمع فيصير خليلاً بعد أن كان رسولاً كما اتفق لرسول ابن سناء الملك الذي قال فيه:

راح رسولاً وجاءني عاشق

وعاقه عن رسالتي عائق

وعادلا لي بالجواب بل بجوى

أخرسه والهوى به ناطق

وقال آخر:رجع الرسول إلي وهو متيم ولهذا قال ابن الأثير ليس على الحسن أمانة وفي مثله تعذر الخيانة. وقال المتنبي:

مالنا كلنا جو يا رسول

أنا أهوى وقلبك المتبول

وكلما عاد من بعثت إليها

غار مني وخان فيما يقول

أفسدت بيننا الأماني عينا

ها وخانت قلوبهن العقول

يستريح أي عيناها بسحرها أفسدت أمانة الرسول في الرسالة وخانت قلوبهم أي فارقت العقول القلوب بسببها قال الأرجاني:

قسماً لقد رجع النسيم عليلاً

لما سرى مني إليك رسولاً

ودرى بحبك أنه قد خانني

فغدا يجر من الحياة ذيولاً

ومن أحسن ما سمعته في الرسائل والتلطف في الوسائل ما حكى عن الملك عبد العزيز بن السلطان صلاح الدين أنه كان في أيام أبيه أحب قينة وشغف بها فبلغ صلاح الدين فمنعه من صحبتها ومنعها منه فحزن ولم يمكنه أن يجتمع بها ومضى على ذلك مدة أيام فسيرت إليه مع خادم كرة عنبر فكسرها فوجد فيها زر ذهب فلم يفهم مرادها بذلك وجاءه القاضي الفاضل فعرفه الصروة فقال في الحال:

أهدت لك العنبر في وسطه

زر من التبر رقيق اللحام

فالزر من العنبر تفسيره

زر هكذا مستتراً في الظلام

وقال علاء الدين المغربي من رسالة النيرين وهي من المحب الكئيب إلى حبيب الحبيب افتتحها بقوله يقبل الأرض وينهي بين يدي المالك الرحيم سلطان الملاح وليث الكفاح منها:

ذهب النيل وعادا

وغرامي يتمادى

كلما قلت غدا ين

قص بعض الوجد زادا

كل قلب غير قلبي

نال في الحب المرادا

وأناالمسكين وحدي

نلت في الصحب العنادا

قال الراوي ثم أن علاء الدين قال وأنا المسكين وحدي بلت في صحن القطائف وعملت الخل ناطف وصلت إبليس بدقته وتركته ينخفض ويصفق ويغني تللاله:

يا عوينات الغزاله رحم الله من قتلني

وأي فخر في قتل مثلي

وهل أنا الأشويعر مخارف مسخرة قد جعل رسائله وسائله وقصائده مصائده مصايده يستحلب ضرع الضراعة ويميط قناع القناعة إن جاع أكل من تقطيع الأعاريض وإن عطش شرب من بحور القريض في زمان لا فرق فيه عند أهله بين القادح والمادح والصائح والنائح:

قد ذقت منه ما ليس يقلعه

أبو الحسين القلاع من ضرسي

بل أي شيء أحسن من خشفين مترفين اليفين يتراضعان ثدي الصحبة ويتراشفان كأس المحبة ويقتطفان ثمر الوصال ويتسالمان أنواع الدلال ويتواصفان لواعج الغرام ويتباسطان مباسطة الحمام ولا يحضرهما غير مزاح ومراح ولا يلثمها غير كأس راح:

اثنان كالفرد من طول اعتناقهما

باتا بليل حميد غير مذموم يسفران عن نيرين ويبتسمان عن درين ويتسارقان النظر بلواحظ جؤذرين كأنهما اقتسما فنون الحسن والإحسان بفكتي الميزان إن تناقلا بعتاب أو تراسالا بكتاب قدر منثور وسحر غير محظور وإن تسابقا في ميدان الهوى أو تراشقا بسهام الجوى فالواتر موتور والساحر محسور وهي رسالة لطيفة ظريفة كلها من هذا النوع اقتصرت منها على هذا القدر الإطالة وقد ذكرتها بكمالها في الجزء الثاني من حاطب ليل وقلت أنا مما كتبته إلى بعض الأصحاب.

كتبت إليكم والسطور حروفها

بها أعين ترنو لكم وترمق

ولي قلم أمسى لرطب لسانه

سلام مشوق قد براه التشوق

الباب العاشر

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي