ديوان الصبابة/ذكر الغيرة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر الغيرة

ذكر الغيرة - ديوان الصبابة

ذكر الغيرة

وما فيها من الحيرة وقرع من ديك الجن

أقول هذا باب عقدناه لذكر غيرة المحب على المحبوب حتى من نفسه وأبناء جنسه والمحبون فيها نوعان والمضروبون يسوطها ضربان فالأول يحبه الله ورسوله ويتم به للعاشق رسوله والثاني مذموم وصاحبه ملوم فالنوع المحبوب منها أن يغار عند قيام الريبة والنوع المذموم أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة ولا تترك منها حبة لأنها توقع العداوة بين المحب والمحبوب وربما حملته على الوقوع فيما اتهمه به ويترتب عليها مفاسد كثيرة مما يؤدي إلى فساد الصورة والحكايات في هذا الباب مشهورة وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح 'أن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله أن تكون في ريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة'. وقال عبد الله بن شداد الغيرة غيراتان غيرة يصلح بها الرجل أهله وغيرة تدخل النار. وقا لصاحب روضة المحبين الذي يحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ورسوله فهو من المحبين فكذب من أدعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمته ويسعى في إذاءه ومساخطه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقول الأحوال أن يغار له من نفسه يترك ارتكاب معاصيه والتفريط في حقه وأما الغيرة على المحبوب فإنما تحمد حيث يحمد الاختصاص به ويذم الاشتراك فيه شرعاً وعقلاً كغيرة الإنسان على زوجته وأمته والشيء الذي هو يختص به وهذه الغيرة تختص بالمخلوقين ولا تتصور في حق الخالق لأنه سبحانه وتعالى يجب على جميع المخلوقين أن يحبوه ويذكروه ويعبدوه ويحمدوه خلافاً فالبعض جهلة الصوفية ممن كان إذا رأى من يذكر الله أو يحبه يغار منه وربما سكتة أن أمكنه ويقول غيره الحب تحملني على هذا وإنما ذلك حسد وبغي وعدوان ونوع معاداة الله ومراغمة لطريق رسله أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبته بمحبة الصورة وهذه الغيرة إنما تحسن في محبة من لا تحسن المشاركة في محبته كغيرة الإنسان على محبوبه من الآدميين كما تقدم ذكره. قال القشيري قيل لبعضهم أتحب أن تراه قال لا قيل ولم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي. قال الشيخ شسم الدين بن قيم الجوزية وهذه أيضاً غيرة فاسدة وغاية صاحبها أن يعفى عنه وأن بعد ذلك من سطحاته المذمومة وأن يعد في مناقبه وفضائله أن يقال له أتحب أن ترى حبيبك فيقول لا فلا ورؤيته أعلى نعيم الجنة وهو سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله النظر إليه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان من دعائه اللهم أني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وقول هذا القائل أنزه ذلك الجمال عن نظر مثل من خدع الشيطان والنفس وهو شبه ما يحكي عن بعضهم أنه قيل ألا تذكره فقال أنزهه أن يجري ذكره على لساني وقد وقع بعضهم في شيء من ذلك فلاموه فأنشد:

يقولون زرنا واقض واجب حقنا

وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إ ذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا إليها

ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني

وبعضهم من ترك الحج غيرة على بيته أن يزوره مثله وقد لمت شخصاً على ترك الصلاة. فقال لي أني لا أرى نفسي أهلاً أن أدخل بيته فأنظر إلى تلاعب الشيطان بهؤلاء وأما الغيرة على المحبوب من الآدميين فلنا فيها ضروب وحسنات غالبها ذنوب فمنهم من يغار على المحبوب من النسيم أذاهب أو سماع أنه في الدرب:

أغار إذا آنست في الحي أنة

حذار أو خوفاًتكون لحبة

وقال آخر:

تغار من ألطيف الملم حماتها

ويغضب من النسيم غيورها

وقال ابن الأثير في المثل السائر:سافرت إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة فدخلت مدينة دمشق فوجدت جماعة من أربابها يلهجون بيت من الشعر لإبن الخياط وهو:

أغار إذا آنست في الحي البيت المتقدم

فقلت لهم هذا البيت مأخوذ من قول أبي الطيب المتنبي:

لو قلت للدنف المشوق فديته

مما لا به لاغرته بفدائه

والمتنبي أخذه من قول العباس ابن الأحنف:

لم ألق ذا شجن يبوح بحبه

ألا حسبتك ذلك المحبوبا

حذار عليك وإنني بك واثق

أن لا ينال سواي منك نصيبا

ومنهم من يلحق في الغيرة يومه بأمسه ويغار على المحبوب من كلام نفسه كما قال البحتري:

إني لأحسد ناظري عليكا

حتى أغض إذا نظرت إليكا

وأراك تخطر في شمائلك التي

هي فتنتي فأغار منك عليكا

ولو استطعت منعت لفظك غيرة

كي لا أراه مقبلاً شفتيكا

خلص الهوى لك واصطفتك مودتي

حتى أغار عليك من ملكيكا

ومنهم من يغار عليه

من أزراره ولبس إزاره

أرى الأزرار على ليلى فأحسده

إن الأزرار على ما ضم محسود

قلت ولهذا البيت حكاية لطيفة وهي ما حكي عن الحسن بن زيد أمير المدينة أنه قال يوماً لأبي السائب وكان قد جمله وكساه فكان يركب معه في موكبه ويسلم على النساء إذا مر بهن فنهاه الأمير عن ذلك فسار معه يوماً وعليه قلنسوة ففعل كعادته فأنشده الأمير:أرى الأزرار على ليلى البيت. فقال له أبو السائب بأبي أنت وأمي. من الذي قال هذا البيت. فقال: قيس فتخلف أبو السائب عن مسايرته ثم لحق ولا قلنسوة عليه. فقال له الأمير: أين القلنسوة. قال: تصدقت بها على الشيطان الذي ألقى هذا اليبت على لسان قيس. ومنهم من يغار عليه من ارتشاف السلاف كما قال كشاجم:

وعذبني قضيب في كثيب

تشارك فيه لين واندماج

أغارا إذ أدنت من فيه كاس

على در يقبله زجاج

وأشفق إن دنا المصباح منه

على بدر يقابله سراج

أخذه المتنبي فقال في ممدوحه

أغار من الزجاجة حيت تجري

على شفة الأمير أبي حسين وقد عيب عليه ذلك لكونه خاطب ممدوحه بما تخاطبه به المليحة ومنهم من ينزل نفسه منزلة الأجنبي فيغار على المحبوب من نفسه كما قال أبو تمام:

بنفسي من أغار عليه مني

وأحسد مقلة نظرت إليه

ولو ان قدرت طمست عنه

عيون الناس من حذري عليه

حبيب بث في جسمي هواه

وأمسك مهجتي رهناً لديه

فروحي عنده والجسم خال

بلا روح وقلبي في يديه

وقال أيضاً:

أغار عليك من قلبي

وأن أعطيتني أملي

وأشفق أن أرى خديك

نصب مواقع القبل

وقال الآخر:

يا من إذ أذكر اسمه في مجلس

لذ الحديث به وطاب المجلس

أني لمن نظري أغار وأنني

بك عن سواي من الأنام لأنفس

ومنهم من يغار عليه من وصاله له مخافة أن يكون مفتاحاً لغيره كما قال علي بن عبد الله الجعبري:

ربما سرني صدوك عمداً

وطلابيك وامتناعك عني

حذراً أن أكون مفتاح غيري

فإذا ما خلوت كنت التمني

وقال آخر:

ولما رمت باللحظ غيري حسبتها

كما اثرت بالعين تؤثر بالقلب

وأني لأرجو أن تدوم ببعدها

ولكن سوء الظن من شدة الحب

وقد بالغ ابن مطروح حيث يقول:

فلو أضحى على تلفي مصرا

لقلت معذبي بالله زدني

ولا تسمح بوصلك لي فإني

أغار عليك منك فكيف مني

ومنهم من يمتنع من ذكر محبوبه مخافة تعريضه لحب غيرة له كما قال علي بن الرافعي:

ولست بواصف يوماً حبيبا

أعرضه لأهواء الرجال

وما بالي أشوق قلب غيري

ودون وصاله ستر الحجال

وكثيراً من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره فكان ذلك سبب فراقها واتصالها بالموصوف له وذلك من قلة عقله وحمقه وقد رأيت جماعة بهذه الصفة ومنهم من بالغ في الغيرة حتى قتل محبوه مخافة أن يموت هو فيمتنع بمحبوبه بعده غيره كما ذكر ذلك عن جماعة من جملتهم ديك الجن الحمصي وقد أفردت لحكايته رسالة مستقلة وسميتها قرع سن ديك الجن وكتبت بها إلى مولانا السلطان الناصر حسن في سنة ستين وسبعمائة وهو في سرياقوت فأصبحت وكان قد تقدم ما يوجب ذلك فلذلك أفسحت الرسالة المذكورة بقولي يقبل الأرض وينهي أن ديك الجن المذكور من جملة جنونه أنه كان يهوى جارية وغلاماً له فمن شدة حبه لهما وغيرته عليهما خشي أن يموت وأن غيره يتمتع بهما بعده فعمد إليهما فذبحهما بسيفه وأحرق جسديهما وصنع من رماد الجارية برنية للخمر ومن رماد الغلام برنية أخرى كذلك وكان يضعهما في مجس أنسه عن يمينه وشماله فكان إذا اشتاق إلى الجارية قبل البرنية المجعولة من رمادها وملأ منها قدحه وأنشد:

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها التراب وطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

وأجلت سيفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعيلها وما وطيء الثرى

شيء أعز علي من نعيلها

ما كان قتلها لأني لم أكن

أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن بخلت على سواي بحسنها

وأنفت من نظر العيون إليها

وإذا اشتاق إلى الغلام قبل البرنية المجعولة من رماده وملأ منها قدحه وبكى وأنشد قوله فيه:

أشفقت بأن يرد الزمان بغدره

أو أبتلي بعد الوصال بهجره

قمر أنا استخرجنه من دجنه

لبليتي وأثرته من خدره

فقتلته وله علي كرامة

فلي الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كأحسن نائم

والطرف يسفح دمعتي في نحره

لو كان يدري الميت ماذا بعده

بالحي منه بكى له في قبره

غصص تكاد تفيض منها نفسه

ويكاد يخرج قلبه من صدره

أقول هذا الذي يقال له الجنون فنون فإنا لله وإنا إليه راجعون من فعل هذا المجنون على أنه من أرق الناس شعراً وأكثرهم للمحبوب ذكراً فمن شعره ونظمه الرائق قوله في الدعاء على المحبوب:

كيف الدعاء على من خان أو ظلما

ومالكي ظالم في كل ما حكما

لا واخذ الله من أهمى بجفوته

عني ولا اقتص لي منه ولا انتقما

أقول صار الطالب مطلوب وهذا الفقه المقلبو ما كفله أنه فعل بالأحباب ما لا تفعله الكلاب حتى لا يقول لا واخذ الله من أهوى بجفوته ويمزج رقة شعره بقسوته فهو في الخفة والطيش وقتل المحبوب لا في أيش ولا علي ايش فمن غلب عليه هواه كما تراه ففعل بمحبوبه ما فعل وأقام ضربه بالسيف مقام القبل:

أحبابه لما تفعلون بقلبه

ماليس تفعله به أعداؤه

وقد أثبتت هذه الرسالة بكمالها في الباب الأول من كتابي مرآة العقول. ومما ينخرط في سلك هذه الحكاية ما حكاه الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره عند قوله تعالى 'يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك' ونقل عن العزيز أنه كان قليل الغيرة وتربة أقليم مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة ثم قال وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا وهو أنه كان مع ندماء المختصين به في مجلسي أنسه وجاريته تغني من وراء الستارة فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية وكانت قد غنت بهما فما لبث حتى أتى برأس الجارية مقطوعاً في طشت وقال له الملك استعد من هذا الرأس فسقط ذلك الرجل المستعيد ومرض مدة حياة ذلك الملك. قلت: لو مات كان معذوراً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومثل هذا أيضاً ما فعله جعفر بن سليمان وذلك أنه لما اشترى جاريته الزرقاء وكانت جارية نفسه غالية الثمن وهي بثمانين ألف درهم وكانت من الفتيات الحسان ذوات الألحان فقال لها يوماً هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو بقبلة فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادي قبلني وقذف في لؤلؤة بعثها بثلاثين ألف درهم فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في ديه فضربه بالسياط حتى مات. قلت: استراح والله من هذا الصداع كلهوأنشد عبد المحسن الصوري حيث قال في عدم الغيرة على محبوبه:

تعلقته سكران من خمره الصبا

به غفلة عن لوعتي ونحيبي

وشاركني في حبه كل ماجد

يشاركني في مهجتي بنصيب

فلا تلزموني غيرة ما ألفتها

فإن حبيبي من أحب حبيبي

وقد بلغ الآخر فقال يتبجج بالقيادة:

أقود بحمد الله لا عن كراهة

وغيري قواد على رغم أنفه

وما أحسن قول أبي الحسين الجزار:

قلت لما سكب الساقي

على الأرض الشرابا

غيرة مني عليه

ليتني كنت ترابا

وقال نور الدين الأشعري وأحسن ما شاء:

تميل الريح بالأغصان لطفا

كما مالت بشاربها العقار

وتجمع بينهم من بعد بعد

وأوراق الغصون لها إزار

وتخفق غيرة عند التلاقي

فهل أبصرت قواداً يغار

الباب السابع

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي