ديوان الصبابة/ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء

ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء - ديوان الصبابة

ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء

أقول هذا باب عقدناه لذكر أحسن الملوك طباعاً وأطولهم باعاً وأطيبهم عيشاً وأكثرهم طيشاً وأرقهم شعراً وأدقهم فكراً وأقربهم مرجوعاً وأكثرهم بالحبيب ولوعاً أذهم في الحقيقة أولى الناس بذلك وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك وذلك بحسب ما سولته لهم نفوسهم وزينه لهم جليسهم كما قيل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدى

إذا كنت في القوم فصاحب خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى

فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر

حتى مات كمداً ولحق مثل نور الدين

الشهيد بالشهدا

وستأتي حكايته في باب العفاف إن شاء الله تعالى ومنهم من أصبح دونه في العفاف وأقام سالف محبوبه مقام السلاف ومنهم من خلع العذار واحتج بقول الشعر في العقار:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

فجمع ما بين ذات العقود وابنة العنقود ولكن مع صيانة ورجوع إلى ديانه فهو وإن طال به المجلس اختصر وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر كما قيل:

إن أكن قد جنيت في السكر ذنباً

فاعف عني يا راحة الأرواح

أي عقل يبقى هناك لمثلي

بين سكر الهوى وسكر الراح

ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة فجارى النديم في الجريال وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالاً على حال فأفضى به ذلك إلى هلكه وفساد ملكه كما اتفق للأمين بن الرشيد وغيره قال الربيع: قعد الأمين يوماً للناس وعليه طيلسان أزرق وتحته لبد أبيض فوقع في ثمانمائة قصة فوالله لقد أصاب وما أخطأ وأسرع فما أبطأ ثم قال يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة ولكن وجدت شم الآس وشرب الكاس والاستلقاء من غير نعاس أشهى إلى مقابلة الناس وكذلك خلع قبله الوليد بن يزيد وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء ممن آثر راحة النفس على تعب السياسة والذي آراه إطلاق ما ذهبوا إليه بالصريح ومفارقة الجميع على وجه مليح كما قيل:

لو رأى وجه حبيب عاذلي

ولتفارقنا على وجه مليح

وما أحسن قول أبي الفتح البستيإذا غدا ملك باللهو مشتغلاً:فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة لما غدا وهو برج اللهو والطرب ومن هنا نشرع في ذكر من ذل لمحبوبه من الملوك فصبح مع كونه مالكاً له كالملوك وهم في ذلك لشدة البأس على خلاف ما عليه الناس وهذا وذلك لأن العشق وأصحابه طبقات فمنهم من لا يطيب له العشق إلا بالذل هو الغالب على العشاق الصادقين في المحبة كما قال الشيخ شرف الدين بن الفارض:

ولو عز فيها الحب ما لذلي الهوى

ولم يك لولا الذل في الحبّ عزتي

كما قيل:

تذلل لمن تهوى لتكسب عزة

فكم عزة قدنا له المرء بالذل

ومنهم من يرى توحيد المحبوب وعدم الشريك كما قيل:

ليس في القلب موضع لحبيبين

ولا أحدث الأمر اثنان

فكما العقل واحد ليس بدري

خالقاً غير واحد رحمن

فكذا القلب واحد ليس يهوى

غير فرد مباعداً ومدان

وكذا الدين واحد مستقيم

وكفور من عنده دينان

هو في شرعة المودة ذو شر

بعيد من صحة الإيمان

فمن كان على خلاف هذا ممن يرى الشريك في المحبة كالرشيد وغيره كما يأتي بيانه في بابه لم يكن محباً حقيقة وهذا الغالب عل الملوك لكثرة ما لديهم واختلاف الشكل عليهم كما قيل:

تنقل فلذات الهوى في التنقل

ورد كل صاف لا تقف عند منهل

فالملوك ليسوا كغيرهم لقدرتهم على من يحبونه بالنقود النضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة نعم قد يعشق الملك العظيم فلا يذهب به عشقه إلى ترك تدبير ملكه وإنما أكثر ما يظهر من أمر الملوك أن يضعوا محبوبهم في مقام مالكهم وهم مالكوه كما قال الحكم بن هشان ملك الأندلس ظل من فرط حبه مملوكاً:

لقد كان قبل ذاك مليكا

تركته جآذر القصر صبا

مستهاماً على الصعيد تريكا

يجعل الخد واضعاً فوق ترب

للذي يجعل الحرير أريكا

هكذا يحسن التذلل بالحرّ

اذا كان الهوى مملوكاً

وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلّها

وأطيعهنّ وهنّ في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين أعزّ من سلطاني

وقال المستعين بالله بن الحكم الأموي أحد خلفاء المغرب واجآد:

عجباً يهاب الليث حدّ سناني

وأهاب لحظ فواتر الأجفان

وأقارع الأهوال لا متهيباً

منها سوى الأعراض والهجران

وتملكت نفسي ثلاث كالدمى

زهر الوجوه نواعم الأبدان

حاكمت فيهنّ السلو إلى الصبا

فقضى بسلطان على سلطان

فأبحن من قلبي الحمى وتركنني

في عزّ ملكي كالأسير العاني

لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى

ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني

ما ضرّ أني عبدهنّ صبابةً

وبنو الزمان وهن من عبداني

قلت وكم:

مثله من ملك قاهر وسلطان قادر

تذل لهيبته الأملاك وتذعن

لسطوته الفتاك هدم الهوى

أركانه وأذل عزه وسلطانه

فقصر جفنه في الليالي الطوال

واقعه مع عقله الحسن في أسر

الاعتقال

فقال:

أما يكفيك أنك تملكيني

وأن الناس كلهم عبيدي

وأنك لو قطعت يدي ورجلي

لقلت من الرضا أحسنت زيدي

وقيل هما للرشيد وقيل هما للمأمون وقيل هما للمهدي وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان كان السلطان أبو عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أحد ملوك الأندلس جميلاً حسن السياسة متظاهراً بالدين رأيته مراراً بغرناطة وأنشدني شعر وأحضرت عنده إنشاد الشعراء ومن شعره:

أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي

على كل حال أنت لا بد لي منك

فأما بذل وهو أليق بالهوى

وأما بعز وهو أليق بالملك

وقال الملك الأمجد:

من مثلي في عصري

بستاني في قصري

معشوقي مملوكي

غني لي من شعري

وقال الملك الظاهر في مملوكه أيبك الجامدار:

أنا مالك مملوك ظبي أغيد

ومن العجائب مالك مملوك

وأنا الفتى وإنني من وصله

بين البرية معدم صعلوك

ولكم سفكت دماً بسيف عنوة

ودمي بسيف لحاظه مسفوك

وقال الملك الأشرف في مملوكه وكان خازنداره دوبيت:

أفدى قمراً تحار فيه الصفة

يسخو بدمي وهو أمين ثقة

ماذا عجباً يحفظ مالي ويرى

روحي تلفت به ولا يلتفت

وبقية ماله من المقاطيع ذكرتها في الباب الأول من نقل الكرام في مدح المقام وذكرت فيه أيضاً حكاية محبوبه ابن مملوكه وما بان فيها عنه من حسن السيرة وهي من أغرب ما يحكى عن الملوك وقال الملك تميم:

بالله جدّ لي بوعد صدق

وخلّ هذا الدلال عنكا

ولا تدعني أظل أشكو

مثل محياك ليس يشكا

وحكي عن المأمون أنه غضب على جاريته عريب المعنية وكان كلفا بها فأعرض عنها وأعرضت عنه ثم أسلمه الغرام وقلقه الشوق حتى أرسل إليها يطلب مراجعتها فلما اجتمعا لم تلتفت إليه وكلمها فلم ترد عليه فأنشأ يقول:

تكلم ليس يوجعك الكلام

ولا يزري محاسنك السلام

أنا المأمون والملك الهمام

ولكني بحبك مستهام

يحق عليك أن لاتقتليني

فيبقى الناس ليس لهم إمام

فقالت له: يا أمير المؤمنين والدك أمير المؤمنين هرون الرشيد أعشق منك حيث يقول ملك الثلاث الآنسات الأبيات المتقدمة وتمام حكايتها ذكرتها في الباب الثاني من السكردان وهي حكاية مليحة جداً ورأى المأمون أيضاً يوماً غلاماً مليحاً لأحمد بن يوسف فقال: ما اسمك ؟ فقال: فتح. فقال المأمون:

يا فتح يا فاتحاً لبلوائي

ويا عليماً بطول شكوائي

الحمد لله لا شريك له

مولاك عبدي وأنت مولائي

فبلغ ذلك أحمد فوهبه الغلام قلت فكان كما قيل:

كل ما يصلح للمو

لى على العبد حرام

وقعد والده الرشيد يوماً عند زبيدة وعندها جواريها فنظر إلى جارية واقفة على رأسها فأشار إليها أن تقبله فاعتلت بشفتيها فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه قبلته من بعيد. فاعتل من شفتيه. ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه:

فما برحت مكاني

حتى وثبت عليه

فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة فوهبتها فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدر مكانهما فكتبت إليه زبيدة:

وعاشق صب بمعشوقه

كأنما قلباهما قلب

روحاهما روح ونفساهما

نفس كذا فليكن الحب

وحدث أبو جعفر قال بينما محمد ابن زبيدة يطوف في قصر له إذ مر بجارية له سكرى وعليها مطرف خز وهي تسحب أذيالها من التيه فراودها عن نفسها فقالت يا أمير المؤمنين إنك قد هجرتني مدة ولم يكن عندي علم بموافاتك فانظرني الليلة حتى أتهيأ للقياك وآتيك في غد فلما أصبح انتظرها فلم تجئ فقام ودخل عليها وسألها انجاز الوعد. فقالت: يا أمير المؤمنين أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك وخرج من مجلسه فقال: من بالباب من الشعراء فقيل له مصعب والرقاشي وأبو نواس فأمر بهم فدخلوا فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول:

متى تصحو وقلبك مستطار

وقد منع القرار فلا قرار

وقد تركتك صبا مستهاما

فتاة لا تزور ولا تزار

إذا استنجزت منها الوعد

كلام الليل يمحوه النهار

وقال مصعب:

أتعذلني وقلبي مستطار

كئيب لا يقرّ له قرار

بحبّ مليحة صادت فؤادي

بألحاظ يخالطها احورار

ولما مددت يدي إليها

لألمسها بدا منها نفار

فقلت لها عديني منك وعداً

فقالت: في غدمنك المزار

فلما جئت مقتضياً أجابت

كلام الليل يمحوه النهار

وقال أبو نواس:

وخود أقبلت في القصر سكرى

ولكن زين السكر الوقار

وقد سقط الردى عن منكبيها

من التخميش وانحل الإزار

وهز الريح أردافاً ثقالا

وغصناً فيه رمان صغار

هممت بها وكان الليل ستراً

فقام لها على المعنى اعتذار

وقالت في غد فمضيت حتى

أتى الوقت الذي فيه المزار

وقلت الوعد سيدتي فقالت

كلام الليل يمحوه النهار

فقال له: ويلك أكنت مطلعاً علينا أو ثالثنا في القصر. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن نطرت إليك فعرفت ما في نفسك وعبرت عما في ضميرك فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه مثلها وذكرت هنا ما قلته في ابن نهار:

أقول لموعدي زوروا بليل

بدا كالبدر فيه ثم غابا

كلام الليل يا ابن نهار زيد

إذا طلعت عليه الشمس ذابا

وقلت:

أتبيت ريان الجفون من الكرى

وأبيت أسهر فيك مع سماري

وتلوم إن أصبحت في يوم الجفا

مجنون ليلى فيك يا ابن نهار

حكي أنه كان للمتوكل غلام اسمه شفيع وكان من أحسن الفتيان فكان المتوكل يجن به جنوناً فأحب يوماً أن ينادم حسين بن الضحاك وأن يرى ما بقي من شهرته وكان قد أسن فأحصره فسقاه حتى سكر وقال الشفيع:اسقه فسقاه وحياه بوردة وكانت على شفيع ثياب موردة فمد حسين يده إلى ذراع شفيع فقال المتوكل: أتخمش أخمص قدمي بحضرتي فكيف لو خلوت به ما أحوجك إلى الأدب وكان المتوكل قد غمز شفيعاً على العبث به فدعا بدواة فكتب:

وكالوردة الحمراء حيّا بزهرة

من الورد يمشي في قراطق كالورد

تمنيت أن أسقي بعينيه شربة

تذكرني ما قد نسيت من العهد

سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة

خلياً ولكن من حبيب على وعد

ثم دفعها الشفيع فأعطاها للمتوكل فاستملحها وقال: أحسنت يا حسين ولو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك ولكن بحياتي يا شفيع إلا كنت ساقية بقية يومنا وأمر له بمال كثير وكان شفيع المذكور يكتب على طرز قبائه الأيمن:

بدر على غصن نضير

شرق الترائب بالعبير

ويكتب على الطراز الأيسر:

خطت صحيفة وجهه

في صفحة القمر المنير

ومن غريب ما يحكى أن يزيد بن عبد الله بن مروان كان صباً بحبابة جاريته فخلا يوماً في لهو معها وقل: لا كذبن قول من قال أن الدهر لا يصفو لأحد يوماً وأحضر حاجبه وقال له: لا تأذن لأحد يدخل علي ولا تعلمني بخبر ولو كان فيه ذهاب ملكي مدة هذا اليوم وأقام معها في أتم حال فتناولت رماناً فشرقت فماتت لوقتها فعرض له عليها طرف من الوله فحال بينه وبين الصبر ومنع من دفنها حتى سأله جماعة من بني أمية في دفنها ولاطفوه في ذلك فأمر بدفنها وقال:

فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى

فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد

وقيل أنه لم يقم بعدها إلا سبعة أيام ومات أسفاً عليها ومثل فعله هذا في عدم دفنه لمحبوبته ما حكيته في نقل الكرام في مدح المقام في الباب الرابع عن السلطان جلال الدين خوارزم شاه لما مات مملوكه فلج منع من دفنه فكان يحمل معه في محفة وكلما حضر بين يديه طعام. قال: احملوا هذا إلى فلج. فقال له بعض الأمراء: أيها الملك قد مات فلج. فضرب عنقه فلا حول ولا قوة إلا بالله. وتمام حكايته ذكرتها في الكتاب المذكور. ^

الباب الثالث

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي