ديوان الصبابة/ذكر من اتصف بالعفاف

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر من اتصف بالعفاف

ذكر من اتصف بالعفاف - ديوان الصبابة

ذكر من اتصف بالعفاف

وبأحسن الأوصاف

أقول هذا باب عقدناه لذكر أكثر المحبين ميلاً وأظهرهم دليلاً وأحسنهم سيرة وأزكاهم سريرة وأعفهم مع القدرة ولا سيما بنو عذرة الذين هم أشد الناس غراماً وأعظمهم هياماً فلذلك قلت وقول العشق مع العفة في بني عذرة كثير والمقتول منهم عشقاً جم غفير فإن ذكر أحدهم بالعفة فجميل جميل الصفات صادق العزمات وسنورد من أخباره في هذا المقام ما يصدق هذه الدعوى ويحقق أن التسلي بالمحبوب عن غيره ضرب من السلوى فمن ذلك ما حكاه محمد بن جعفر الأهوازي قال مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه فدخل عليه العباس بن سهل فقال له جميل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله قلت أظنه قد نجا وأرجو له الجنة فمن هذا الرجل قال أنا فقلت له ما أحسبك سلمت وأنت منذ عشرن سنة تسبب ببثينة فقال أني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط فما قمنا حتى مات سنة اثنتين وثمانين من الهجرة ومن غريب ما حكاه الزبير من أخبار جمل أن بثينة المذكورة من بني عذرة وبنو عذرة قبيلة مشهورة بالعشق في قبائل العرب وإليهم ينسب الهوى العذري لأنهم أشد سائر خلق الله عشقاً قال سعيد بن عقبة لأعرابي ممن أنت قال من قوم إذا عشقوا ماتوا قال عذري ورب الكعبة ثم قال ولم ذلك قال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وقال رجل لعروة بن جزام يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم أنكم أرق الناس قلوباً قال نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً في الحي قد خامرهم الموت ما لهم داء إلا الحب وقال رجل من بني قزارة لرجل من بني عذرة تعدون موتكم بالحب مزية وفضيلة وإنما ذلك ضعف بنيه وضيق روية ورق وخور تجدونه فيكم يا بني عذرة فقال له والله لو رأيتم النواظر الدعج من فوقها الحواجب الزج من تحتها المباسم الفلج والشفاه السمر تفتر عن الثنيايا الغر لا تخذتموها اللات والعزى ثم أنشد:

تتبعت مرمى الوحش حتى رميتني

من النيل لا بالطائشات الخواطف

ضعائف يقتلن الرجال بلا دم

فيا عجباً للقاتلات الضعائف

وقيل بعضهم ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تحب فقال أحل الخمار وأحرم ما وراء الأزار وأظهر للحب ما يرضي الرب وقال الحافظ أبو محمد الاموي أن امرأة يثق بها حدثته أن فتى علقها وعلقته وشاع أمرهما فاجتمعا يوماً خاليين فقال لها هلمي نحقق ما يقال فينا فقالت لا والله لا كان هذا أبداً وأنا أقرأ 'الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين' وقيل لبعضهم وقد طال عشقه لجارية من قومه ما أنت صانع إن ظفرت بها ولا يراكما إلا الله قال والله لا جعلته أهون الناظرين لا أفعل بها خالياً إلا ما أفعله بحضرة أهلها حنين طويل ولحظ من بعيد وأترك ما يكره الرب ويفسد الحب وقيل لآخر ما كنت صانعاً لو ظفرت بمحبوتك فقال ضمها ولثهما وعصيان الشيطان في أثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذة ساعة تفني ويبقى حسابها إني إن فعلت هذا اللئيم ولم يلدني كريم قلت وممن اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف من الخلفاء هرون الرشيد وذلك أنه عشق جارية فلما راودها عن نفسها قالت إن أباك ألم بي فتركها وشغف بها حتى كاد يخرج عى وجهه فكان ينشد:

أرى ماء وبي عطش شديد

ولكن لا سبيل إلى الورد

فقال له القاضي أو كلما قالت جارية شيئاً تصدق قولها فقال الرشيد ما فوق الخلافة مرتبة فانظر ما أحسن عفة الجارية وامتناع هرون الرشيد مع شدة شغفه بها ودخل عليه منصور بن عمار فاستدناه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه فقال له منصور يا أمير المؤمنين تواضعك في شرفك أحب إلينا من شرفك فقال عظني فقال من عف في جماله وواسى من ماله وعدل في سلطانه كتبه الله من الأبرار فبكى الرشيد وقال زدني فقال لو طلبت شربة ماء فلم تجدها إلا بنصف الدنيا أكنت تشتريها به قال نعم قال فلو تعسرت عليك بعد شربها أكنت تشتري خروجها بالنصف الآخر قال نعم قال قبح الله دنيا تشترى بشربة ماء وبولة. وحكى عن السلطان ملك شاه السلجوقي أنه حضر بين يديه مغنية فأعجب بها واستطاب غناءها فهم بها فقالت يا سلطان العالم إني أغار على هذا الوجه المليح الجميل أن يعذب بالنار وإن الحلال أيسر وبينه وبين الحرام كلمة فقال صدقت واستدعى القاضي وتزوجها وأقامت في عصمته حتى مات رحمه الله. وحكى سهيل أكبر خدم السلطان نور الدين الشهيد أن السلطان المذكور اشترى مملوكاً بخمسمائة دينار وخلعة وبغلة وكان جميل الصورة وسلمه إلي وكنت قد ربيت السلطان فقلت في نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون هذا ما اشتري مملوكاً قط بخمسين ديناراً فلم أشتري هذا بخمسمائة دينار ثم تركني أياماً وقال أحضره مع المماليك يقف في الخدمة كل يوم فلما كان بعد أيام قال أحضره بعد العشاء إلى الخيمة ونم أنت وأياه على باب البرج فقلت في نفسي هذا الشيخ في زمان شبابه ما ارتكب كبيرة ولما كبر سنه يقع فيها والله لا قتلته قبل أن يقع في المعصية فأخذت كتارة فأصلحتها وجئت بالمملوك وأنا في قلق فسهرت عامة الليل ونور الدين في أعلى البرج ثم غلبتني عيني فنمت ثم استيقظت فوقعت يدي على وجه الغلام فإذا به مثل الجمرة وعليه حما شديدة فرجعت به إلى خيمتي وأحضرت الطبيب فمات وقت الظهر فغسلته وكفنته ودفنته فدعاني نور الدين في اليوم الثاني وقال يا سهيل إن بعض الظن أثم فاستحيت فقال قد عرفت حالي وأنت ربيتني هل عثرت لي على زلة قلت حاشا لله قال فلم حملت الكتارة وحدثتك نفسك بالسوء ما أنا معصوم لما رأيت المملوك وقع في قلبي منه مثل النار فقلت أشتريه لعله يذهب عني ما أنا فيه فلم يذهب فقالت لي نفسي أريد كل يوم أن أراه فأمرتك بإحضاره فقالت أريد أن تحضره إلى البرج بالليل فأمرتك بإحضاره فلما حضر ما تركتني النفس أنام وبقينا في حرب إلى السحر فهممت أن أصعده إلى عندي فتداركني الله برحمته فكشفت رأسي وقلت إلهي عبدك محمود المجاهد في سبيلك الذاب عن دين نبيك صلى الله عليه وسلم الذي عمر المساجد والمدارس والربط يختم أعماله بمثل هذا فسمعت هاتفاً يقول قد كفيناك يا محمود فعلمت أنه قد حدث به حدث وأما أنت فجزاك الله عني خيراً والله أن أقتل عندي أهون من المعصية ثم أحسن إلي. وحكى عن فاطمة بنت الخثعمي أنها دعت عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم نفسها للنور الذي رأته بين عينيه فأبى وقال:

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

قلت قصة عبد الله مع فاطمة هذه مثل قولهم في المثل واحد يشتهي التين وآخر يقطفه فحاله معها كحال توبة مع ليلى الأخيلية وهو ما حكى أنه راودها عن نفسها فنفرت منه وأنشدت:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

وأنت لأخرى صاحب وخليل

فكانت كما قيل:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة ما نريدها

ومثل قول الآخر:

علقتها عرضاً وعلقت رجلاً

غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

وممن اتصف بالعفاف من ذوي الغرام الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وله في ذلك حكايات مشهورة وهذا موضع إيرادها ونشر أبرادها فمن ذلك قوله لكل شيء زكاة وزكاة الوجه الحسن إمكان أهل العفة من النظر إليه. وحكى محبوبه محمد وقيل اسمه وهب بن جامع الصيدلاني أنه دخل على أمير المؤمنين فسأله عن ابن داود هل رأيت منه ما تكره فقال لا يا أمير المؤمنين إلا إني بت عنده ليلة فكان يكشف عن وجهي ثم يقول اللهم أنت تعلم أني أحبه وإني أراقبك فيه قال فما بلغ من رعايتك له فقلك دخلت الحمام فلما خرجت نظرت في المرآة فاستحسنت صورتي فوق ما عهدت فغطيت وجهي وآليت أن لا ينظر أحد إلى وجهي قبله وبادرت إليه فلما رآني مغطى الوجه خاف أن يكون لحقني آفة فقال ما الخبر فقلت رأيت الساعة و جهي في المرآة فأحببت أن لا يراه أحد قبلك فغشى عليه قال الليث بن سكرة كان محمد بن واسع يتفق على محمد بن داود وما عرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشقه ويتقرب إلى قلبه بأنواع البر إلا هذا مع ما هو فيه من الصيانة وحسن الديانة فالحمد لله الذي رأينا في زماننا من يتخلق بأخلاق الناس ولهذا العاشق مع هذا المعشوق حكاية غريبة أضربت عنها خوف الإطالة وكان محمد بن داود قد وضع كتاب الزهرة لأجل محبوبه محمد بن جامع المذكور وهو مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة ونادرة وشعر أنيق وقال في أوله وكيف تنكرت من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه ومن عجيب ما تأتي به الأيام ظالم يتظلم وغابن يتندم ومطاع يستظهر وغالب يستنصر ومن كلامه ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب وبدأت في كتاب الزهرة وأنا في الكتاب ونظر أبي في أكثره. ومن ألطف ما حكى عنه أنه التقى هو وأبو العباس بن سريج في مجلس أبي الحسن بن عيسى الوزير فتناظرا في مسئلة من الإيلاء فقال له ابن سريج أنت بقولك من كثرت لحظاته جامت حسراته أحذق من أن تتكلم في الفقه فقال له محمد بن داود إن قلت ذلك فإني أقول:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال محرما

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه

يصعب على الصخر الأصم تهدما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري

فلولا اختلاسي رده لتكلما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم

فلست أرى حباً صحيحاً مسلما

فقال له ابن سريج فيم تفتخر علي ولو شئت لقلت:

ومساهر بالغنج من لحظاته

قد بت أمنعه لذيذ سناته

شفقاً بحسن حديثه وعتابه

وأكرر اللحظات في وجناته

حتى إذا الصبح لاح عموده

ولي بخاتم ربه وبراته

فقال محمد احفظ عليه أيها الوزير ما أقر به من الاجتماع حتى يقيم البينة بشاهدي عدل على البراءة فقال له ابن سريج يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال محرما

قال فضحك الوزير وقال لقد جمعتما علماً وفهماً وظرفاً ولطفاً ومن لطيف ما يحكى عن محمد أيضاً ما حكاه أبو القاسم الصائغ قال: قال لي محمد بن داود ما دخلت جامع المدينة مما يلي باب خراسان منذ عشرين سنة قلت ولم قال لأني دخلت ذات يوم فرأيت غلامين من أحسن الناس وجهاً يتعاتبان فلما رأيان تفرقا فآليت أن لا أدخل من باب كنت فيه السبب في الفرقة بين المتحابين ودخل عليه ثعلب فقال له أسمعنا شيئاً من صبوتك فأنشد:

سقى الله أياماً لنا ولياليا

لهن بأكناف الشباب ملاعب

إذا العيش غض والزمان بغرة

وشاهد آفات المحبين غائب

ومن شعره:

لكل امرئ ضيف يسر به بقربه

ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف

يقول خليلي كيف صبرك بعدنا

فقلت وهل صبر فيسئل عن كيف

وقال ابن السراج في كتاب مصار العشاق وعن أبي عبد الله ابراهيم ابن محمد بن عرفة النجوي قال دخلت على محمد بن داود الظاهري في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك فقال حب من تعلم أورثني ما ترى قلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه فقال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي قال حدثني سويد بن سعيد قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى العقاف عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي ص أنه قال 'من عشق وكتم وعفه وصبر غفر الله ذنبه وأدخله الجنة' ثم أنشد:

أنظر إلى السحر يجري في لواحظه

وأنظر إلى دعج في طرفه الساجي

وانظر إلى شعرات فوق عارضه

كأنهن نمال دب في عاج

وأنشدنا لنفسه:

ما لهم أنكروا سواداً بخديه

ولم ينكروا سواد العيون

إن يكن عيب خده بذر الشعر

فعيب العيون شعر الجفون

فقلت له نقيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر فقال غلبة الهوى وملكة النفس دعوا إليه. ومات في ليلته رحمه الله قلت وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال بعضهم كتم عشقه عن الناس وقال بعضهم كتم اسم محبوبه وقال الحصري أحب فكتم ووصل فعف وهجر فمات فهو شهيد وقال عثمان بن زكريا المؤدب أحد رواة الحديث عن سويد كتم محبوبه أنه يحبه قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي في كتابه الواضح المبين هذا حديث اسناده صحيح وإن كان جماعة من العلماء أعلوه بما ليس بعلة يرد بها يعني قوله صلى الله عليه وسلم من عشق فكتم الحديث. ونقل في كتابه المذكور أيضاً أن هذا الحديث سنده كالشمس لا مرية في صحته ولا لبس قلت ولهذا عد جماعة من الفقهاء ميت العشق من الشهداء أخذا بهذا الحديث منهم الرافعي وغيره فبعضم اشترط الشروط المذكورة وبعضهم أطلق كالشيخ محيي الدين النووي فإنه أطلق ولم يشترط شيئاً فقال والميت عشقاً والميتة طلقاً يعني من الشهداء هذا مع شدته في الدين وعدم مساهلته في هذه الأشياء وما أحسن قول ابن الأثير دمع العاشق ودم القتيل متساويان في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً لأنهما يختلفان لوناً وقال الإمام العلامة أبو الوليد الناجي:

إذا مات المحب جوى وعشقا

فتلك شهادة يا صاح حقا

زواه لنا ثقاة عن ثقاة

إلى الحبر بن عباس ترقى

وقال عبد الكريم القشيري:

إن المحب إذاتوفي صابراً

كانت منازله مع الشهداء

يرويه أقوام غدو في صدقهم

علماً وناهيكم بهذا الداء

وقال الحسن بن هاني:

ولقد كنا روينا

عن سعيد عن قتادة

عن سعيد بن المسيب

إن سعد بن عباده

قال من مات محباً

كان من أهل الشهادة

وقال بن رواحة الحموي وأحسن ماشاء:

لاموا عليك وما دروا

إن الهوى سبب السعادة

إن كان وصل فالمنى

أو كان هجر فالشهادة

إنه عكس قوله هذا فقال:

يا قلب دع عنك الهوى واسترح

ما أنت فيه حامداً أمرا

أضعت دنياي بهجرانه

إن نلت وصلاً ضاعت الأخرى

وقال آخر:

خليلي هل خبرتما أو سمعتما

بأن قتيل الغانيات شهيد

وقلت كأني حاضر أخاطبه:

نعم قد سمعنا أن من كتم الهوى

وعف إلى أن مات فهو شهيد

فخذ عن مقال أنت فيه مذبذب

فذلك ما قد كنت عنه تحيد

سياق الذي يرويه ركب ذوي الهوى

به كل يوم سائق وشهيد

يطوفون بالأحباب خلف بيوتهم

فمنهم قيام حولها وقعود

بعومون في بحر المدامع عندما

تميل بهم سفن الهوى وتميد

أتبكي دوين العام من عام منهم

وقد حد حولاً للبكاء لبيد

قلت وقد انقضى الكلام على هذه الأبواب المحكمة العقود النقية النقود المجبورة الكسور العالية القصور مشتملاً كل باب منها على بيت قصيد وبحر مديد. يسقي ثمر غروسها ويروي المجدب من طروسها.

بعينين نجلاوين لو رقرقتهما

لنوء الثريا لاستهل سحابها

ومنا بقي إلا ذكر مصارع العشاق وأخبار من أصبح من المحبين ميتاً بالأشواق.

إن لم أمت في هوى الأجفان والمقل

فوا حيائي من العشاق واخجلي

ما أطيب الموت في عشق الملاح كذا

لا سيما بسيوف الأعين النجل

يا صاحبي إذا ما مت بينكما

دون الشهيين ورد الخد والقبل

فاستغفرا لي وقولا عاشق غزل

قضى صريع القدود الهيف والمقل

وقال بلدينا محمد بن العفيف التلمساني رحمه الله:

للعاشقين بأحكام الغرام رضا

فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا

روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا

عهد الوفا للذي للعهد ما نقضا

قف واستمع راحماً أخبار من قتلوا

فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا

رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا

فسام صبراً فأعيا نيله فقضى

وقال جرير:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله أركانا

وقال آخر:

ما زال يهوى المقلا

قلبي إلى أن قتلا

الحمد لله الذي

مات وما قيل سلا

وقال آخر:

ترى المحبين صرعى في ديارهم

كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا

ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا

وقال محمد الواعظ:

دعا لومي فلومكما معاد

وقتل العاشقين له معاد

ولو قتل الهوى أهل التصابي

لما ماتوا ولو ردوا لعادوا

خاتمة الكتاب في ذكر من مات من حبه وقدم على به من صغير وكبير وغني وفقير على اختلاف ضروبهم وتباين مطلوبهم ولأجل ذكرهم أسست قواعد هذا الكتاب ودخلت فيه من باب وخرجت من باب لأتوصل منه إلى ذكر من ساقه الهجر إلى السياق وتحمل من العشق ما لا طاقة له به من الباب إلى الطاق ومن هنا أشرع في ذكر مصارعهم وعرض بضائعهم إذ منهم الخاسر والرابح والصالح والطالح فمنمهم شقي وسعيد ومنهم قتيل وشهيد. وحكى أبو الفرج بن الجوزي قال ذكر لي شيخنا أبو الحسن علي بن عبد الله أن رجلاً عشق نصرانية حتى غلب على عقله فحمل إلى البيمارستان وكان له صديق يترسل بينهما فلما زاد به الأمر ونزل به الموت قال لصديقه قد قرب الأجل ولم ألق فلانة في الدنيا وأخشى أن أموت على الإسلام ولا ألقاها فتنصر فمات فمضى صديقه إلى النصرانية فوجدها عليلة فقالت أنا ما ألقيت صاحبي في الدنيا وأريد أن ألقاه في الآخرى وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم ماتت قلت لم أسمع بأغرب من هذه الحكاية ولا أعظم من هذه النكاية قد سبق على صاحبها الكتاب وضرب بينه وبين محبوبته بسور له باب فابتلى من فراق محبوبته ودينه بداءين ودارت عليه دائرة السوء في الدارين وكيف لا وقد ورد بكسادة في الحب دار البوار وأصبح بكفره وإسلامها على شفى جرف هار.

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

ذكرت بهذه الحكاية قول عبد الوهاب الأزدي يرثي حبيب له نصرانياً وأحسن ما شاء حيث قال:

أخي بوداد لا أخي بديانة

ورب أخ في الود مثل نسيب

وقالوا أتبكي اليوم من ليس صاحبا

غداً إن هذا فعل غير لبيب

فقلت لهم هذا أو أن تلهفي

وشدة إعوالي وفرط نحيبي

ومن أين لي أبكي حبيباً فقدته

إذا خاب منه في المعاد نصيبي

وكان هذا النصراني موسوماً بالجمال خماراً فعلقة عبد الوهاب المذكور واشتهر به وأقام يبايته في الحانة ثلاث سنين ويدخل معه الكنيسة في الأعياد والحدود طول هذه المدة حتى حفظ كثيراً من الإنجيل وشرائع أهله وهجره مرة فلم يجد سبيلاً إليه وزعم أن عليه قسماً شديداً أن لا يكلمه إلى مدة شهر فلما يئس دعا بالقاصد فاقتصد في إحدى يديه ودعا قاصداً آخر فاقتصد في اليد الأخرى ودخل داره وأغلق باب بيته وفجر الفصادين فما شعر أهله إلا والدم يدفع من سدة باب المحل الذي هو فيه فأدركوه وقد أشرف على الموت فصالحه محبوبه النصراني خوفاً على نفسه. ومن شعره فيه:

أنظر إلى الشامة في خد من

ألحاظه باللحظ جراحه

كأنها من حسنها أذبدت

حبة مسك فوق تفاحة

ومنهم شهيد

قال يا قوت في تاريخه كان مدرك ابن علي الشيباني شاعراً أديباً فاضلاً وكان كثيراً ما يلم بدير الروم ببغداد ويعاشر نصاراه وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يحيى وكان من أحسن الناس صوره وأكملهم خلقاً وكان مدرك بن علي يهواه وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث لا غير فإن حضر شيخ أو صاحب لحية قال له مدرك قبيح بك أن تختلط بالاحداث والصبيان فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجرة فقرأها فإذا فيها:

بمجالس العلم التي

بك تم حسن جموعها

ألارثيت لمقلة

غرقت بفيض دموعها

بيني وبينك حرمة

الله في تضييعها

قال فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس وقرؤها فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دار الروم وجعل يتبع عمراً حيث شاء وقال فيه شعراً كثيراً قال الحريري وقد رأيت عمرا أبيض الرأس واللحية ومن شعر مدرك فيه هذه القصيدة المزدوجة الغريبة العجيبة المشهورة وهي:

من عاشق ناء هواه داني

ناطق دمع صامت اللسان

معذب بالصد والهجران

موثق قلب مطلق الجثماني

من غير ذنب كسبت يداه

يشكو هوى نمت به عيناه

شوقاً إلى رؤية من أشقاه

كأنما عافاه من أضناه

يا ويحه من عاشق ما يلقى

من أدمع منهلة ما ترقا

ناطقة وما أجادت نطقا

تخبر عن حب له استرقا

لم يبق منه غير طرف يبكي

بأدمع مثل نظام السلك

تطفئها نار الهوى وتذكى

كأنها قطر السماء تحكي

إلى غزال من بني النصارى

عذار خديه سبي العذارى

وغادر الأسد به حياري

في ربقة الحب له أسارى

ريم بدار الروم رام قتلي

بمقلة كحلاء لا من كحل

وطرة بها استطار عقلي

وحسن وجه وقبيح فعل

ريم به أي هز بر لم يصد

يقتل باللحظ ولا يخشى القود

متى يقل ها قالت الألحاظ قد

كأنها ناسوته حين اتحد

ما أبصر الناس جميعاً بدرا

ولا رأوا شمساً وغصناً نضرا

أحسن من عمر وفديت عمرا

ظبي بعينيه سقاني خمرا

ها أنا ذا بقده مقدود

والدمع في خدي له أخدود

ما ضر من فقدي به موجود

لو لم يقبح فعله الصدود

إن كان ذنبي عنده ألا سلام

فقد سعت في نقضه الأيام

واختلت للصلاة والصيام

وجاز في الدين له الحرام

يا ليتني كنت له صليباً

أكون منه أبداً قريبا

أبصر حسناً وأشم طيباً

لا واشياً أخشى ولا رقيبا

يا ليتني كنت له قربانا

ألثم منه الثغر والبنانا

أو جائليقاً كنت أو مطرانا

كيما يرى الطاعة لي ايمانا

يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً

يقرأ مني كل يوم أحرفا

أو قلماً يكتب بي ما ألقا

من أدب مستحسن قد صنفا

يا ليتني كنت لعمرو عوده

أوحلة يلبسها مقدوده

أو بركة باسمه معدوده

أو بيعة في داره مشهوده

يا ليتني كنت له زناراً

يديرني في الخصر كيف دارا

حتى إذا الليل طوى النهارا

صرت له حينئذ إزارا

واكبدي من خده المضرج

واكبدي من ثغره المفلج

لا شيء مثل الطرف منه الأدعج

اذهب للنسك وللتحرج

إليك أشكو يا غزال الإنس

ما بي من الوحشة بعد الأنس

يا من هلالي وجهه وشمسي

لا تقتل النفس بغير النفس

جدلي كما جدت بحسن الود

وارع كما أرعى قديم العهد

واصدد كصدى عن طويل الصد

فليس وجد منك مثل وجدي

ها أنا في بحر الهوى غريق

سكران من حبك لا أفيق

محترقاً ما مسني حريق

يرثي لي العدو والصديق

فليت شعري فيك هل ترثي لي

من سقم ومن ضنى طويل

أم هل إلى وصلك من سبيل

لعاشق ذي جسد نحيل

في كل عضو منه سقم وألم

ومقلة تبكي بدمع وبدم

شوقاً إلى شمس وبدر وصنم

منه إليه المشتكى إذا ظلم

أقول إذ قام بقلبي وقعد

يا عمرو يا عامر قلبي بالكمد

أقسم بالله يمين المجتهد

إن أمراً أسعدته لقد سعد

يا عمرو ناشدتك بالمسيح

ألا استمعت القول من فصيح

يبيح عن قلب له جريح

ناح بما يلقي من التبريح

يا عمرو بالحق من اللاهوت

والروح روح القدس والناسوت

ذاك الذي في مهده المنحوت

عوض بالنطق عن السكوت

بحق ناسوت ببطن مريم

حل محل الريق منها في الفم

ثم استحال فس قتوم الاقدم

يكلم الناس ولم ينفطم

بحق من بعد الممات قمصا

مشوبا على مقداره ما قصصا

وكان لله تقياًمخلصاً

يشفي ويبري ألمها وأبرصا

بحق محيي صورة الطيور

وباعث الموتى من القبور

ومن إليه من الأمور

يعلم ما في البر والبحور

بحق من في شامخ الصوامع

من ساجد لربه وراكع

يبكي إذا ما نام كل هاجع

خوفاً من الله بدمع هامع

بحق قوم حلقوا الرؤسا

وعالجوا طول الحياةبوسا

وقرعوا في البيعة الناقوسا

مستعملين يعبدون عيسى

بحق ماري مريم وبولس

بحق شمعون الصفا وجرجس

بحق دانيل بحق يونس

بحق حزقيل وبيت المقدس

بحق ما في قلة الميرون

من نافع الأدواء للجنون

بحق ما يؤثر عن شمعون

من بركات الخوص والزيتون

بحق أعياد الصليب الزهر

وعيدا نسموني وعيد الفطر

وبالشعانين العظام القدر

وعيد مرماري العظيم الذكر

بحق شعباء وبالهياكل

والدخن اللاتي بكف الحامل

يشفى بها من كل خبل خابل

ومن دخيل السقم في المفاصل

بحق سبعين من العباد

قاموا بدين الله في البلاد

وأرشدوا الناس إلى الرشاد

حتى اهتدى من لم يكن بهادي

بحق اثني عشر من الأمم

ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم

وقوله فأقسطت الصواب فقسطت تأمل:

حتى إذا أصبح الدجى جلا الظلم

ساروا إلى الله ففازوا بالحكم

بحق ما في محكم التنزيل

من محكم التحريم والتحليل

وغير من نبأ جليل

يرويه جيل قد مضى عن جيل

بحق مر عيد الشفيق الناصح

بحق لوقاذي الفعال الصالح

بحق تمليخا الحكيم الراجح

والشهداء بالفلا الصحاصح

بحق معمودية الأرواح

والمذبح المشهور في النواحي

ومن به لابس الأمساح

وعابد باك ومن سياح

بحق تقريبك في الأعياد

وشربك القهوة كالفرصاد

وطول تفتيتك للأكباد

بما بعينيك من السواد

بحق ما قدس سعياً فيه

بالحمد لله وبالتنزيه

بحق نسطور وما يرويه

عن كل ناموس له فقيه

بحق جمع من شيوخ العلم

وبعض أركان التقى والحلم

لم ينطقوا قط بغير فهم

موتهم كان حياة الخصم

بحرمة الأسقف والمطران

والجائليق العالم الرباني

والقس والشماس والديراني

والبطرك الأكبر والرهبان

بكل ناموس له مقدم

يعلم الناس ولما يعلم

بحرمة الصوم الكبير الأعظم

وما حوى مفرق رأس مريم

بحق يوم الذبح في الإشراق

وليلة الميلاد والتلاقي

بالذهب الأبر يزفي الأوراق

بالفصح يا مهذب الأخلاق

ألا رغبت في رضا أديب

باعده الحب عن الحبيب

قد ذاب من شوق إلي المذيب

أعلى مناه أيسر القريب

فانظر أميري في صلاح أمري

محتسباً في عظيم الأجر

مكتسياً في جميل الشكر

في نثر ألفاظ ونظم در

قيل إنه ضعف وسل جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش قال حسان بن محمد بن عيسى فحضرته عائداً مع جماعة من أصحابه فقال ألست صاحبكم القديم العشرة لكم فما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو قال فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له أن كان قتل هذا الرجل ديننا فإن أحياءه مروءة قال وما فعل قلنا قد صار إلى حال ما نحسبك تلحقه قال فلبس ثيابه ثم نهض معنا فلما دخلنا عليه وسلم عليه عمرو أخذ يبده وقال كيف تجدك يا سيدي فنظر إليه ثم أغمي عليه ثم أفاق وهو يقول:

أنا في عافية إلا

من الشوق إليكا

أيها العائد ما بي

منك لا يخفى عليكا

لا تعد جسماً وعد قلبا

رهيناً في يديكا

كيف لا يهلك مرشو

ق بسهمي مقلتيكا

ثم أنه شهق فارق فيها الدنيا فما برحنا حتى دفناه رحمه الله تعالى. ومنهم قتيلقال العلامة أبو القاسم محمد بن عبد الرحمن الشيرزي في كتاب روضة القلوب ونزهة المحب والمحبوب وشاهدت امرأة كانت من أهل شيرز تزوجت رجلاً جندياً أعجمياً وكانت تجد به وجداً شديداً حتى كانت لا تصبر عنه لحظة وكان إذا مشى إلى نوبته إلى القلعة تاتزر وتظل قائمة قبالته حتى ينصرف فإذا دخل عليها لاعبها وقبلها فيسكن بعض ما تجده فدخل عليها يوماً مغضباً من كلام جرى بينه وبين مقدمه فلما دخل أرادت منه العادة فلم يلتفت إليها فظنت أن ذلك لسبب حدث منها فارتاعت وجزعت فمكث ساعة عنها لم يرفع طرفة إليها فقوى عندها التخيل فلما خرج خرجت خلفه كعادتها فانتهرها فلم تشك أن غضبه لأجلها فرجعت وجعلت في رقبتها حبلاً وشدته في السقف فاختنقت به وماتت. ومنهم شهيدقال الوداعي حكى الأمير شهاب الدين أحمد العقيلي أن شرف العلا هوى غلاماً نصرانياً وتهتك فيه حتى لبس المسح وتزيا بزي الرهبان وكان يتبع الغلام حيث توجه فاتفق أن الملك الظاهر صلاح الدين سمع بحاله فبينما هو يتصيد في نواحي حلب قيل له أن شرف العلا في هذه الأرض فأرسل إليه من يحضره على هيئته فلما حضر وكان السطان في مجلس الشراب قال لبعض ندمائه املأ قدحاً كبيراً والق شرف العلا به فلما رأى القدح أخذه بيده وشربه وأنشد في الحال ارتجالاً يخاطب الملك الظاهر.

جمعت بالكاس شملي

فالله يجمع شملك

بحق رأسك دعني

حتى أقبل نعلك

ومنهم قتيل

وهو مما رأته عيناي وسمعته أذناي ووعاه قلبي وذلك أني لما كنت في دمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة اتفق أن شاباً من أبناء دمشق جميل الصورة عدا على إنسان كان يحبه فقتله فحمل إلى الوالي فلما سأله أنكر فعراه ليضربه بالسياط فتقدم إنسان كان يعشق ذلك الشاب وقال للوالي لا تضربه فإنه ما قتله وإنما قتلته أنا فأحضر الوالي الشهود وكتب عليه محضراً بإقراره بالقتل وأطلق الشاب وكان يتمشى نائب دمشق يومئذ فلما حكيت له هذه القصة واطلع على باطنها توقف في قتله وأمر بحبسه فلم تمض إلا أيام قلائل حتى حضر أرعون الكاملي من حلب عوضاً عن أيتمش في نيابته بدمشق فكان أول شيء حكم فيه من الدماء شنق ذلك العاشق المسكين بمقتضى المحضر المكتتب عليه ولقد رأيته تحت القلعة وهو مشنوق والناس حوله يتأسفون عليه ويذكرون حكايته ويتعجبون منها وحكيت هذه الحكاية للقاضي كمال الدين بن النحاس فتعجب منها وأخبرني عن القاضي زين الدين بن السفاح وأخيه القاضي شمس وجماعة من أهل حلب الموجودين الآن أنهم أخبروه أن ناصر الدين محمد بن يكتوب أحد كتاب المنسوب المعروف بالقلندري أنه كان يهوى مغنية لا تزال زرموزتها معه في كيس حرير أطلس معلق في رقبته تحت ثيابه فإذا حضر في مجلس ولم يتفق حضورها فيه أخرج الزرموزة من الكيس ووضعها قدامه وجعل يبكي فإن لم يتفق له بكاء شديد أنشد:

لأمتعت عيني محب بما

يسرها إن هي لم تسجم

على حبيب تلفت نفسه

من التباريح ولم يضرم

فلما قرأها لم يملك نفسه خوفاً وجزعاً فأسعدته عينه اليسرى ولم تسعده اليمنى فأقسم أن لا ينظر بها ما عاش في الدنيا إن لم تسعده بالبكا على حبيبه وهي أقوى حساسة من اليسرى فكان يسمى الصابر قلت ومن غريب ما يحكى أن ناصر الدين القلندري المتقدم ذكره كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكتاب على زنده ويكتب منه وهو يغني ويضرب برجله الأرض ويكتب في هذه الحالة ما شاء ولا يغلط ولا يلحن وأخبرني بعض من كتب عليه أن من غريب ما شاهد من حاله أنه كان يهوى شاباً من أولاد الجند من أولاد الجند بطرابلس كان يكتب عليه وكان آخر ما تمثل به ومات عقبه سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قول الصاحب بن عباد:

يا من وهبت له نفسي فعذبها

ورمت تخليصها منه فلم أطق

أدرك بقية نفس فيك قد تلفت

قبل الممات فهذا آخر الرمق

قلت وليكن هذا ما وقع عليه الاختيار وطابت به لابن أبي حجلة حين سقط بمصر أوطار وكيف لا وقد سقطت منه على الخبير وأتيت من أخبار من غفر الله لنا ولهم بالجم الغفير فشهداؤه من أعيان المشاهد وقتلاؤه وإن اختلفت أسباب موتهم فداؤهم واحد ففي ذلك والحمد لله كفاية وإن كان التفسير قصراً غير مقصود عن الغاية على أن في رحلتي نشر العلمين في زيارة الحرمين ما هو كفص الخاتم لهذه الخاتمة والأمواج العظيمة لهذه الأبحر المتلاطمة لا جرم إني لم أذكر من اختبار أهل الحجاز إلا ما شار إليه هذا الكتاب ببنان بيانه وبدأ من ورقه وقلمه على صفحات وجهه وفلتات لسانه فكم في الرحلة المذكورة في ذكر من مات على هذه الصورة من أخبار متيم امتنع من هجوعه وأصبح غريقاً بسحاب دموعه.

لدى سمرات الحي برق يسامره

يذكره بالثغر ما هو ذاكره

بذكره عهد العذيب وما حوى

على حاجر سالت عليه محاجره

إذا ما بدا البرق اليماني لعينه

فما هو إلا وشيه وحبائره

سقى السفح من ذيل المقطم عارض

تعارضه من دمع عيني مواطره

فكم فيه من صب وغرامه

أوائله لا تنقضي وأواخره

تطاول ليلي في هواه ولو يشا

لقصره من حجبته مقاصره

فيا للهوى العذري ما العذر عندما

تغادر يومي مثل ليلي غدائره

صحا وما صحا من زال في الحب عقله

بسكرة حب لا تزال تخامره

أيبرد ما ألقاه يا جارتي وقد

سباني ظبي فاتن الطرف فاتره

أحاول منه وصله كل ساعة

فتمنعني أستاره وستائره

ولو لم يكن سلطان حسن لما سرى

بمصر وكل العاشقين عساكره

يجود عليهم حين يسري جواده

فيحضر في قلب المتيم حافره

فلولاه ما أمضى أمير ذوي الهوى

ولا نفذت في العاشقين أوامره

ولولا سطا السلطان في مصر ما مشى

مع الذئب ظبي كان قبل يحاذره

هو الناصر المنصور والعادل الذي

يباطنه ما جار في الملك ظاهره

له في سبيل الله خير ذخيرة

وحسن الثنا بين الملوك ذخائره

ودرياقه في الثغر عقرب نبله

وسمر عواليه بمصر نواشره

جزى الله عنه مصر ما هو أهله

فكم أمنت في قطرها من يجاوره

جواد غدت نعماً معنا قريبة

وإن بعدت في السبق عنا ضوامره

فما عابه أن الجنود جنائب

وما ضره أن البروق ضرائره

له من بياض الصبح والليل أدهم

وأشهب كالبازي ينقض كاسره

فلا جابر يوماً لما هو كاسر

ولا كاسر يوماً لما هو جابره

لله سر في علاه لأجل ذا

تباهى به فوق السرور سرائره

وتستقبل الآمال كعبة جوده

كما استقبل البيت المعظم زائره

فأي نوال ما أضاعت شموسه

وما هي إن حققت إلا دنائره

هو البحر إلا أن منهل جوده

موارده راقت به ومصادره

ولو لم يكن يجري ونظمي دره

لما عرضت يوماً عليه جواهره

أجود فيه المدح كل عشية

وإذكار فكري بالثناء تباكره

إذا تاه مدحي في دجى ليل نفسه

عن القصد دلته عليه مآثره

عبرت على الشعري العبور فأومأت

إلي وقالت أنت والله شاعره

فمدحي له مدح المحب حبيبه

إذا زاره والليل قد نام ساهره

وحبي له ما أن يقاس بغيره

لأني قيس الحب فيه وعامره

وقد مات قلبي أول الحب وانقضى

ولو مت أمسى الحب قد مات آخره

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي