ديوان الصبابة/ذكر من عشق على السماع

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر من عشق على السماع

ذكر من عشق على السماع - ديوان الصبابة

ذكر من عشق على السماع

ووقع مع الحبيب في النزاع

أقول هذا باب عقدناه لذكر من عشق قبل أن يرى فتم عليه ما تم لما جرى من دمعه ما جرى فأصبح لا يقر له قرار بعد أن كان قرير العين وشهد على عينيه بما لم تريا فكان كمن كلف أن يعقد بين شعيرتين كم ليلة رقص فيها على السماع وجمعة سهر من لياليها مثنى وثلاث ورباع فهوا على طبقة ممن عشق باللمس أو غيرها من بقية الحواس الخمس والظاهر أن ذلك لمشاكله بينه وبين المحبوب في نفيس الأمر أو تعارف سابق في عالم الذر كما قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس في الاقتباس:

محبة ما عرفت الدهر سلوتها

تسري إلى النفس أو تجري مع النفس

وما لها آخر لكن أولها

تعارف سابق في حضرة القدس

في عالم الذر ناجاني البشير بها

أهلاً بميتها طهرا من الدنس

أشهى إلى القلب من أمن علي وجل ومن مجال الكرى في الأعين النعس قولي لمشاكله بينة وبين المحبوب إلى آخره فيه إشارة إلى أنك لا تحد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في بعض الصفات لا بد من هذا. ولهذا اغتنم أبقراط حين وصف له رجل من أهل النقص أنه يحبه. فقال: ما احبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه. ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأل عائشة رضي الله عنها عن امرأة كانت تدخل على نساء قريش فتضحكهن قدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس بها فقال: على من نزلت فلانة. فقالت: على فلانة المضحكة. فقال: الحمد لله الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأنشد طرفة:

تعارف أرواح الرجال إذا التقوا

فمنهم عدو يتقي وخليل

وقال أبو الهذيل العلاف: لا يجوز في دور الفلك ولا في تركيب الطبيعة ولا في القياس ولا في الحس ولا في الممكن ولا في الواجب أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل والظاهر أن هذا للسر الذي ذكرناه من وجودج ما بينهما من المشاكلة، فإن قلت فقد رأينا من أحب من لا يحبه ولا يلتفت إليه. قلت: ذكر عن ذلك أجوبة أحسنها أن يقال المحبة على قسمين:القسم الأول: محبة غرضية، فهذه لا يجب الاشتراك فيها بل يقابلها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيراً، إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه فإنه يحبه لغرضه منه كما يكون بين الرجل والمرأة لأن لكل منهما غرضاً مع صاحبه. القسم الثاني: محبة روحانية، سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين فهذه لا تكون إلا من الجانبين ولا بد فلو فتش المحب محبة صادقة قلب محبوبه لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو فوقه أو دونه وذكر بعضهم أن سبب المحبة ثلاثة أشياء أما رؤية صورة أو سماع نغمة أو سماع صفة فهذه الثلاثة هي أصل ينبوع المحبة إذ لا يخلو حب أحد من أن يستند إلى شيء منها وقد قيل ثلاث محبات فحب علاقة. وحب تملاق رحب هو القتل وأحوال الناس تختلف في ذلك فمنهم من يحب بمجرد الوصف دون المعاينة فيفني بمن وصف له محبة وما رآه ولكن وصفه له واصف كما قيل:

فاتني أن أرى الديار بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمي

أخذه القاضي الفاضل فقال

عللوني عن الشآم بذكر

أن قلبي عليه بالأشواق

مثلته الذكرى لسمعي كأني

أتمشى هناك بالأحداق

وقال بعض الحكماء أن الله عز وجل جعل القلب أمير الجسد وملك الأعضاء فجميع الجوارح تنقاد له كل الحواس تطيعه وهو مديرها وبإرادته تنبعث ووزيره العقل وعاضده الفهم ورائده العينان وطليعته الأذنان وهما في باب النقل سيان لا يكتمانه شيئاً ولا يطويان عنه سراً يعني العين والأذن وقيل لأفلاطون: أيهما أشد ضرراً السمع أم البصر فقال: هما للقلب كالجناحين للطائر لا ينهض إلا بهما ولا يستقل إلا بقوتهما وربما قص أحدهما فتحامل بالآخر على تعب ومشقة قيل فما بال الأعمى يحب وما رأى والأصم يحب وما سمع فقال له: لذلك قلت: أن الطائر قد ينهض بإحدى جناحيه ولا يستقل طيراناً فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى وطيرانه قوي وكان يقال الحب أوله السماع ثم النظر كما أن أول الحريق الدخان ثم الشرر. حكي إن أبي تمام أنه سمع جارية تغني بالفارسية فشجاه صوتها فقال:

ولم أفهم معانيها ولكن

شجت قلبي فلم أحمل شجاها

فكنت كأنني أعمى معنى

يحب الغانيات ولا يراها

قال ابن طاهر قلت لأبي تمام: أخذت هذا المعنى من أحد فقال: نعم من قول بشار:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا لمن لا ترى تهوى فقلت لهم

الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

قلت والظاهر أن بشار أخذ قوله هذا من كلام الحكم المتقدم ذكره وتبعه أبو يعقوب الخزيمي فقال:

قالت وتهزأ بي غداة لقيتها

يا للرجال لصبوة العميان

فأجبتها نفسي فداؤك إنما

عيني وأذني في الهوى سيان

وقال بشار أيضاً الحب إنما يتولد بالقلب والفكر وأنشد في ذلك.

يزهد في حب عبدة معشر

قلوبهم فيها مخالفة قلبي

فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يعشق ذو اللب

وما تبصر العينان في موضع الهوى

لا تسمع الأذنان إلا من القلب

وقال الحصري وقد صدق فيما نطق إنما أحست الحواس الخمس بواسطة توسطتها النفس وقد قال الخليل بن أحمد.

إن كنت لست معي فالذكر منك معي

يرعاك قلبي وإن غيبك عن بصري

العين تبصر من تهوى وتعشقه

وناظر القلب لا يخلو من النظر

وقال مظفر بن إبراهيم الأعمى في الاعتذار عن العشق مع العمى:

قالوا عشقت وإنك أعمى

ظبياً كحيل الطرف ألمي

وحلاه ما عاينتها

فتقول قد شغفتك وهما

وخياله بك في المنا

م فما أطاف ولا ألما

من أين أرسل للفؤاد

وأنت لم تنظره سهماً

ومتى رأيت جماله

حتى كساك هواه سقماً

وبأي جارحة وصلت

لوصفه نثراً ونظماً

والعين داعية الهوى

وبه تنم إذا استتما

فأجبت أني موسميّ

العشق انصاتا وفهما

أهوى بجارحة السما

ع ولا أرى ذات المسمى

وقال المدني:

أيا من لامني في حب

من لم يره طرفي

لقد أفرطت في وصفك

لي في الحب بالضعف

فقل هل تعرف الجنة

يوما بسوى الوصف

وما أحسن قول المهذب ابن الشحنة من قصيدة مدح بها مولانا السلطان الملك الناصر صلاح الدين أيوب مطلعها:

وإني امرؤ أحببتكم لمارم

سمعت بها والأذن كالعين تعشق

وقالت لي الآمال إن كنت لاحقاً

بأبناء أيوب أنت الموفق

وقلت أنا من قصيدة أمدح بها مولانا السلطان الملك الناصر حسن وفيه زيادة حسنة مطلعها:

وحياة وجهك وهو بدر مشرق

قلبي عليك كما عملت واشفق

يا من إذا لاح آس عذاره

أمسي و لي بالعيش غصن مورق

ما لاح خدك بالعذار مكاتباً

إلا ظننت بأنه معتق

ومنهاكم ذا رقصت على السماع بذكره والأذن قبل العين قالوا تعشق وحاصل القضية أن من الناس من يعشق على السماع ويفني في محبة من لا رآه لكن وصف له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة لغير زوجها حتى كأنه ينظر إليها والحديث في الصحيح قال في الواضح المبين ومنهم من يعشق أثراً رآه يحكى أن رجلاً عشق أثر كف امرأة رآه في حائط فلما آيس أهله من صلاحه تركوه حتى مات ومنهم من يحب في النوم شكلاً لا يعرفه فيهم به كما قيل.

يا ليت شعري من

كانت وكيف سرت

أطلعة الشمس

كانت أم هي القمر

أظنها العقل

أبداها تدبره

أو صورة الروح

أبدتها الفكر

فقد تحير في

إدراكها البصر

أولم يكن كل هذا فهي حادثة

أتى بها سبباً في حتفي القدر

ومنهم من يعشق باللمس قيل وهو رأس الشهوة ومنهم من يعشق بالشم كما قيل:

والعين تعشق ما تهوى وتبصره

كذلك يعشق فيك الأنف والأذن

ومنهم من أخبرني أنه دخل إلى حمام فرأى فيه شعرة طويلة سوداء لبعض النساء ولم يعلم لمن هي فأخذها وأقامت عنده زماناً وأصابه من حب صاحبتها، ما أشرف به على التلف كما قيل:

تلفت بشعرة وسمعت غيري

يقول سملت من تلفى بشعره

ومنهم من يعشق جنية رآها في نومه ووصفت نفسها له وجاءته غير مرة على زعمه كما حكى أبو الفرج الأموي أن جعفر المنصور كان يتعشق من الجن حتى كثر ولعه بذلك فصار يصرع في النوم مرات حتى مات من ذلك فحزن عليه أبو جعفر حزناً شديداً وكان جعفر خليعاً ماجناً ولما نهى المنصور مطيع بن أياس عن صحبة ابنه جعفر قال وأي مستصلح فيه وأي غاية لم يبلغها في الفساد فقال ويلك وبأي شيء هذا قال يزعم أنه يعشق امرأة من الجن وهو مجتهد في خطبتها ودأبه جمع أصحاب العزائم عليها وهم يعدونه ويمنونه فوالله ما فيه فضل لغير ذلك جد ولا هزل ولا كفر ولا إيمان ومن شعره فيها:

لإبنة الجنى في الحي ّتطل

دارس الآيات عاف كالخلل

قلت هذا الذي يقال في حقه الجنون فنون. ومثل هذا ما أخبرني به صاحبنا جمال بن عبد الله قال: قال الثعالبي في فقه اللغة زعموا أن التناكح قد وقع بين الأنس والجن لقوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد لأن الجنيات إنما تصرع الرجال من الأنس على العشق وطاب الفساد وكذلك رجال الجن لنساء بني آدم. ^

فصل

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي