ديوان الصبابة/مدحه وذمه

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

مدحه وذمه

مدحه وذمه - ديوان الصبابة

مدحه وذمه

أقول هذا الفصل عقدناه لمدح العشق وذمه وترياقه وسمه فكم مدحه عاقل وذمه متعاقل هيهات فات من ذمه المطلوب ومن أي للوجه المليح ذنوب فمن خصاله المحمودة وفضائله الموجودة ما قاله العلامة قدامة العشق فضيلة تنتج الحيلة وتشجع الجبان وتسخي كف البخيل وتصفي ذهن الغبي وتطلق بالشعر لسان العجم وتبعث حزم العاجز وهو عزيز يدل له عز الملوك وتضرع له صولة الشجاع وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقيل لبعض العلماء أن ابنك قد عشق فقال الحمد لله، الآن وقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشاراته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله وجلت شمائله فواظب على المليح واجتنب القبيح وقيل لآخر كذلك فقال لا بأس إذا عشق لطف وظرف ودق ورق وقيل للبزرجمهر متى يكون الفتى بليغاً فقال إذا صنف كتابً أو وصف هوى أو حبيباً وقد صدق فيما قال العباس ابن الأحنف:

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى

ولا خير فيمن لا يحب ويعشق

وقال غيره:

وما سرني أني خلى من الهوى

ولو أن لي ما بين شرق ومغرب

وقال آخر:

ولا خير في الدنيا بغير صبابة

ولا في نعيم ليس فيه حبيب

وقال آخر:

اسكن إلى سكن تلذ بحبه

ذهب الزمان وأنت خالٍ مفرد

وقال آخر:

إذا لم تذق في هذه الدار صبوة

فموتك فيها والحياة سواء

وقال آخر:

ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر

حبيباً ولا وافى إليك حبيب

وقال آخر:

ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها

فيما مضى أحد إذا لم يعشق

وقال المتنبي:

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وقلت أنا مضمناً لقول المتنبي هذا مع زيادة التورية:

إن تسألوا عما لقيت من الهوى

فأنا الذي مارسته وعرفته

خالفت في رشف الرضاب وطعمه

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

حكي أن الملك بهرام جور كان له ولد واحد فأراد ترشيحه للملك بعده فوجده ساقط الهمة دنيء النفس فسلط عليه الجواري والقيمان فعشق منهن واحدة فأعلم الملك بهرام بذلك ففرح وأرسل إلى التي قيل أنه عشقها أن تجني عليه وقولي أني لا أصلح إلا لشريف النفس عالي الهمة ملك أو عالم فلما قالت ذلك راجع العلم وما عليه الملوك من شرف الهمة حتى برع في ذلك وتولى الملك فكان من خيرهم وأثبت ذلك في حكمة إلى كسرى إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه وكذلك العالم قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حباً أعظمهم أجراً. قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم ضعيفة وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها حاشي سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتجلب الأفراح وتشوق إلى مساع أخبارهم الملوك فمن دونهم ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم تدور أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكراً مخلداً ولولا العشق لم يذكر له اسم ولا جرى له رسم ولا رفع له رأس ولا ذكر مع الناس وقال المرزباني سئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق فقال: نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فلا يسلم منه وقال بعضهم لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصاً أو منقوص البنية أو على خلاف تركيب الاعتدال:

وا عجباً للدهر لم يخل مهجة

من العشق حتى الماء يعشقه الخمر

ويكفي العاشق أنه يرتاح للمعروف وإغاثة الملهوف كما قيل:

يرتاح للمعروف في طلب العلا

لتحمد يوماً عند ليلى شمائله

وقال أبو النجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول:

وددت بأن الحب يجمع كله

فيقذف في قلبي وينفلق الصدر

لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى

ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر

فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك من هذا الكلام. فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي فتمنيت المني والله ما سرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو أن يثبته الله في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أم لا أدري هذا دعائي وله قصدت وفيه ترغبت مما يعطي الله سائر خلقه. ثم مضى قلت: ذكرت هنا ما قاله الأخطل وقد لامه عبد الملك على الخمر، فقال:

ليت شعري ما يعجبك فيها

وأولها مراراً وآخرها خمار

فقال لكن بينهما والله نشوة لا أبيعها بخلافتك يا أمير المؤمنين أخذه الشاعر فقال:

إن يكن أول المدام كريهاً

أو يكن آخر المدام صداعاً

فلها بين ذا وذاك هنات

وصفها بالسرور لن يستطاعا

وأما ما جاء في ذمة وسريان سمه فأكثر من أن يحصر فكم ترك الغنى صعلوكاً والمالك مملوكاً كما قيل:

ظل من فرط حبه مملوكا

وقد كان قبل ذلك مليكا

تركته جآذر القصر صبا

مستهاماً على الصعيد تريكا

وهذه الأبيات لبعض ملوك الأندلس وسيأتي ذكرها في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه ووقع فيما يأباه أي والله.

والعشق يجتذب النفوس إلى الردى

بالطبع واحسدي لمن لم يعشق

قالوا وكم عاشق هرب من الحب إلى مواقف التلف ليتخلص من التلف بالتلف. وعلى هذا حكاية دعبل الشاعر. قال: كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا أنا بفتى يجر رمحه بني يدي. فالتفت فنظر إلي فقال: أنت دعبل. قلت: نعم. قال: اسمع مني ثم أنشد:

أنا في أمري رشاد

بين حب وجهاد

بدني يغزو وعدوي

والهوى يغزو فؤادي

ثم قال كيف ترى. قلت: جيد والله. قال: فوالله ما خرجت إلا هارباً من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال الواوا الدمشقي:

سبيل الهوى وعر وحلو الهوى مرّ

وبرد الهوى حر ويوم الهوى دهر

وقال غيره:

العشق مشغلة عن كل صالحة

وسكرة للعشق تنفي سكرة الوسن

وقال عبد المحسن الصوري:

كان ابتداء الذي بي مجوناً

فلما تمكن أمسى جنوناً

وكنت أظن الهوى هينا

فلاقيت منه عذاباً مهينا

وقال محمد اليزيدي:

كيف يطيق الناس وصف الهوى

وهو جليل ما له قدر

بل كيف يصفو لحليف الهوى

عشق وفيه البين والهجر

وما أحسن قول عبد الله بن إسباطالقيرواني:

قال الخلي الهوى محال

فقلت لو ذقته عرفته

فقال هل غير شغل قلب

إن أنت لم ترضه صرفته

وهل سوى زفرة ودمع

إن لم ترد جريه كففته

فقلت من بعد كل وصف

لم تعرف الحب إذ وصفته

تنبيه، الهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم. قال الله تعالى: 'وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى' وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالاً مقيداً ومنه الحديث 'لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به'. وقال ابن عباس: الهوى إله معبود وقرأ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فتلخص من الآية الكريمة. والحديث الشريف أن الهوى ينقسم إلى قسمين: هوى محمود وهو في الخير والصلاح، وهوى مذموم وهو في الشر والفساد، وفي كتاب السهل المواتي في فضائل ابن مماتي: أن بعض الصوفية قال: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال يهوى بصاحبه إلى الهاوية لكان أنسب. وقال بعضهم الهوى الهوان زيدت فيه النون كما قيل:

فسألتها بأشارة عن حالها

وعلي فيها للوشاة عيون

فتنفست صعداً وقالت ما الهوى

إلا الهوان أزيل عنه النون

وقوله تعالى: 'أخلد إلى الأرض واتبع هواه' قيل أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه عليها وكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء. قال سهل قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظاً فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضاً أرضاً سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل قلبه إلى العرش وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية وفيه ذل كل نفس أبية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم 'لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه'. قال الإمام: أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل نفسه لمعشوقه كما قيل:

اخضع وذل لمن تحب فليس فيّ

شرع الهوى أنف يشال ويعقد

وقال آخر:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم

عليها تراب الذل بين المقابر

وقال الشيخ شرف الدين بن الفارض:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل

فما اختاره مضنى به وله عقل

وعش خالياً فالحب راحته عنا

فأوّله سقم وآخره قتل

فأوله سقم وآخره قتل^

الفصل الخامس

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي