سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أبيات قصيدة سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت لـ نزار قباني

1
يا حبيبةْ :
بعد عامين طويلين من الغربة والنفي..
تذكّرتكِ في هذا المساء..
كنت مجنوناً بعينيكِ..
ومجنوناً بأوراقي..
ومجنونا لأنَّ الحبَّ جاء ..
ولأنَّ الشعر جاء ..
كنت أبكي ضاحكاً مثل المجاذيب .. لأني
أستطيع الآن، يا سيّدتي، أن أتذكَّر ..
مدهشٌ أن أتذكّر ..
مدهشٌ أن أتذكر ..
ليس سهلاً في زمان الحرب أن يسترجع الانسان
وجه امرأةٍ يعشقها ..
فالحرب ضدّ الذاكرة ..
ليس سهلاً في زمان القبح ..
أن أجمع أزهار المانوليا ..
والفراشاتِ التي تخرجُ ليلاً من شبابيك العيون الماطرة
قذفتني هذه الحرب بعيداً عن محيط الدائرة ..
ألغيتِ الخطَّ الحليبيّ الذي ينزل من ثديك ..
نحو الخاصرة ..

2
يا صديقة :
عائدٌ من زمنِ اللاشعر .. عاري القدمين
عائدٌ دون شفاهٍ ..
عائدٌ دون يدين ..
إنَّ حرب السنتين
كسرتني ..
كسرت سنبلة القمح التي تنبتُ بين الشفتين ..
جعلتني عاطلاً عن عمل الحبّ …
فلم أقرأ مزاميري لعينيكِ ..
ولا قابلتُ عصفوراً غريباً …
أو قصيدة …
أفقدتني ذلك الطهر الطفوليَّ الذي يدخلني مملكة الله
ويعطيني مفاتيح اللغات النادرة ..
فاعذريني.. إن تأخرّت عن الوعد قليلا ..
قلقد كان وصولي مستحيلا ..
وبريدي مستحيلا ..
إنَّ آلاف الحواجز
وقفت ما بين عينيكِ .. وبيني ..
أطلقوا النار على الحُلم فأردوه قتيلا ..
أطلقوا النار على الحبّ فأردوه قتيلا ..
أطلقوا النار على البحر، على الشمس، على الزرع،
على كُتُب الأطفال، قصّوا شعر بيروت الطويل ..
سرقوا العمر الجميلا …

3
يا بعيدة :
أيَّ أخبارٍ تريدين عن الشعر وعني؟ …
أخذوا بيروت مني ..
أخذوا بيروت، يا سيّدتي، منكِ ومنّي ..
سرقوا (منقوشة الزعتر) من بين يدينا ..
سرقوا (الكورنيش) .. والأصداف ..
والرمل الذي كان يغطي جسدينا ..
سرقوا منا زمان الشعر، يا لؤلؤتي،
والكتابات التي تسقط مثل الكرز الأحمر
من بين الأصابع ..
سرقوا رائحة البنّ ..
وأحلام المقاهي .. وقناديل الشوارع
ذلك الصوت الذي يصدر عنّي ليس صوتي ..
انني أكتبُ من داخل موتي ..
أين أنتِ الآن .. يا من لم أجد في هذه الغابة ..
صدراً يحتويني .. غير أنت ؟ ..
سرقوا مني طواحيني .. وفُرساني .. وفرشاتي ..
وألواني … وأشيائي الصغيرة ..
واليواقيت التي جئتُ بها
من آخر الدنيا لفستان الأميرة ..
لم أكن أعلم يا سيّدتي ..
أنّ أشيائي الصغيرة ..
هي أشيائي الكبيرة ..

4
يا رقيقة :
جاءني هاتفك اليوم خجولا مثل عطر البرتقال
سائلاً عني .. وهل أجمل من هذا السؤال ؟ ..
إنني أحيا ..
ولكن ما الذي يعنيه يا سيّدتي
أن يكون المرءُ موجوداً على قيد الحياة ؟ ..
إن تُحبيني اسأليني كيف حال الكلمات
دخلت في جسد الشعر .. ألوف الطلقات ..
نحن من عامين .. لم نزهر ..
ولم نورق .. ولم نطرح ثمر ..
نحن من عامين لم نبرق .. ولم نرعد ..
ولم نركض كمجنونين
- يا سيّدتي – تحت المطر ..
نحن من عامين ..
لم نخرج عن المألوف في العشق ..
ولم نخرج على اليوميِّ والعادي ..
لم ندخل أقاليم الغرابة ..
آه .. كم عانيت من داء الكآبة
آه .. كم عانيت من موت الكتابة
شنقوني بخيوط المفردات
طردوني ..
خلف أسوار اللغات ..
أغلقوا في وجه حبي الطرقات ..
فتّشوني ..
لم أكن أحمل إلا وردة الشعر ..
وحزني ..
وجنوني ..
لم أكن أحمل
- إلا أنت يا سيدتي – بين عيوني ..
ولهذا أرجعوني
كنت، يا سيدتي، في موقع الحبِّ ..
لهذا لم أكن في جملة المنتصرين ..
كنت يا سيدتي، في جانب الشعر .. لهذا ..
صنفوني بورجوازياً صغيراً ..
وأضافوني إلى قائمة المنحرفين ..
لم أكن في زمن القبح قبيحاً ..
إنما كنت صديق الياسمين …

5
يا أثيرة :
أين أنت الآن
يا من لم أجد عنوان عينيك
على كلّ الخرائط ..
أين أنت الآن
يا من لم أجد آثار أقدامكِ في كل الفنادق
لم أعد أعرف شيئاً عنكِ ..
في أي بلادٍ أنتِ ؟
ماذا تفعلين اليوم ؟ .
ماذا تشعرين الآن ؟ .
هل ضيّعتِ إيمانك مثلي بجميع الآلهة ..
وتقاليد القبائل ؟ .
هل تحبين كما كنتِ ؟
وتهتمين بالشِّعر كما كنتِ ؟
وتشتاقين للشوق كما كنتِ ؟ .
أم أنَّ الحرب داست ورق الورد .. وأعناقَ السنابل ؟
بعثرتنا هذه الحرب اللئيمة ..
بشَّعتنا .. شوَّهتنا ..
أحرقت كلَّ الملفّات القديمة ..
فملايين من الأشياء في داخلنا ..
جرفتها الحرب فيما جرفت ..
والسؤال الآن
هل في قدرة الإنسان أن يدخل في حبٍّ كبير ٍ..
وعلاقاتٍ حميمة ؟ ..
لا تجيبيني .. إذا كانت سؤالاتي غريبة ..
كلُّ ما يشغل بالي يا حبيبة ..
أن تكوني أنتِ في خير ٍ.. وعيناكِ بخير ..

6
أين بيروتُ التي تختال بالقبَّعة الزرقاء مثل الملكة ؟
أين بيروت التي كانت على أوراقنا ..
ترقص مثل السمكة ..
ذبحوها ..
ذبحوها ..
وهي تستقبل ضوء الفجر مثل الياسمينة ..
من هو الرابح من قتل مدينة ؟
ضّعوا بيروت، يا سيّدتي
ضيّعوا أنفسهم إذ ضيّعوها .
سقطت كالخاتم السحري في الماء .. ولم يلتقطوها ..
طاردوها مثل عصفور ربيعي ٍ إلى أن قتلوها …
هذه الورديَّة ُ الجسم
التي تلبس في معصمها البحر سوارا
كم قطفنا البُنّ من أشجار نهديها ..
وحوّلنا جبال الثلج نارا …
واكتشفناها رصيفاً .. فرصيفا ..
وبنيناها جداراً فجدارا …
كم دخلنا بيتها البحريَّ أطفالاً صغارا ..
فلعبنا .. ورقصنا ..
وخرجنا نحمل الشمس بأيدينا ..
وأسماكاً .. وخبزاً .. ومحارا …
فلماذا قتلوها ؟
هذه الأنثى التي كانت ترشُّ الماء ..
في وجه الصحاري ؟

7
آه يا بيروت .. يا أنثاي من بين ملايين النساء.
يا رحيلاً برتقالياً على وردٍ .. وبرقوق ٍ.. وماء ..
يا طموحي – عندما أكتب أشعاري – لتقريب السماء
أيّ أخبار ٍ تريدين عن الحبّ .. وعني ..
ومكاتيبي رمادٌ ..
وأحاسيسي رماد ..
سرقوا مني مساحاتٍ من الزرقةِ ليست تستعاد
ومساحاتٍ من الدهشة ليست تستعاد ..
واحتمالاتِ طيور ٍ سوف تأتي ..
واحتمالات كلامٍ .. سوف يأتي ..
واحتمالاتٍ لعشق ٍ ما أتى بعد …
ولكن سوف يأتي …
سوف يأتي …
سوف يأتي …

عن نزار قباني

نزار قباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) شاعر سوري معاصر من مواليد مدينة دمشق.

تعريفه من ويكيبيديا

نزار بن توفيق القباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م) دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، ولد في 21 مارس 1923 من أسرة عربية دمشقية عريقة. إذ يعتبر جده أبو خليل القباني من رائدي المسرح العربي. درس الحقوق في الجامعة السورية وفور تخرجه منها عام 1945 انخرط في السلك الدبلوماسي متنقلًا بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966؛ أصدر أولى دواوينه عام 1944 بعنوان "قالت لي السمراء" وتابع عملية التأليف والنشر التي بلغت خلال نصف قرن 35 ديوانًا أبرزها "طفولة نهد" و"الرسم بالكلمات"، وقد أسس دار نشر لأعماله في بيروت باسم "منشورات نزار قباني" وكان لدمشق وبيروت حيِّزٌ خاصٌّ في أشعاره لعلَّ أبرزهما "القصيدة الدمشقية" و"يا ست الدنيا يا بيروت". أحدثت حرب 1967 والتي أسماها العرب "النكسة" مفترقًا حاسمًا في تجربته الشعرية والأدبية، إذ أخرجته من نمطه التقليدي بوصفه "شاعر الحب والمرأة" لتدخله معترك السياسة، وقد أثارت قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" عاصفة في الوطن العربي وصلت إلى حد منع أشعاره في وسائل الإعلام.—قال عنه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة : (نزار كما عرفته في بيروت هو أكثر الشعراء تهذيبًا ولطفًا).

على الصعيد الشخصي، عرف قبّاني مآسي عديدة في حياته، منها مقتل زوجته بلقيس خلال تفجيرٍ انتحاري استهدف السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل، وصولًا إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته "الأمير الخرافي توفيق قباني". عاش السنوات الأخيرة من حياته مقيمًا في لندن حيث مال أكثر نحو الشعر السياسي ومن أشهر قصائده الأخيرة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، وقد وافته المنية في 30 أبريل 1998 ودفن في مسقط رأسه، دمشق.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي