شرح القصائد العشر/معلقة الحارث بن حلزة اليشكري

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

معلقة الحارث بن حلزة اليشكري

معلقة الحارث بن حلزة اليشكري - شرح القصائد العشر

معلقة الحارث بن حلزة اليشكري قال الحارث بن حلّزة بن مكروه بن بديد بن عبد الله بن مالك بن عبد سعد بن جشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد ابن عدنان بن أدد.وكان من حديثه أن عمرو بن هند لما ملك - وكان جبارا عظيم السلطان - جمع بكرا وتغلب فأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهنا، من كل حي مائة غلام، فكف بعضهم عن بعض.وكان أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم، فهلك عامة التغلبيين، وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل: أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لازم لكم، فأبت ذلك بكر.فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم، فقال عمرو بن كلثوم لتغلب: بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم ؟ قالوا: بمن عسى إلا برجل من أولاد ثعلبة، قال عمرو: أرى الأمر والله سينجلي عن أحمر أصلع أصم من بني يشكر.فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم.فلما اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصم، جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك، فقال النعمان: وعلى من أظلت السماء يفخرون، قال عمرو بن كلثوم: والله أن لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها، قال: والله أن لو فعلت ما أفلت بها قيس أبن أبيك، فغضب عمرو بن هند - وكان يؤثر بني تغلب على بكر - فقال: يا حارثة، أعطه لحينا بلسان أنثى، يقول الحيه، قال له النعمان: أيها الملك، أعط ذلك أحب أهلك إليك، فقال له عمرو بن هند: أيسرك أني أبوك ؟ قال: لا، ولكني وددت أنك أمي، فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان.وقام الحارث بن حلزة - وهو أحد بني كنانة بن يشكر - فارتجل قصيدته ارتجالا، وتوكأ على قوسه، فزعموا إنه انتظم بها كفه وهو لا يشعر من الغضب.وكان عمرو بن هند شريرا لا ينظر إلى أحد به سوء، وكان الحارث بن حلزة إنما بنشد من وراء حجاب، فلما أنشد هذه القصيدة أدناه حتى خلص إليه.وقال قطرب: حكى لنا أن الحلزة ضربٌ من البنات، قال: ولم نسمع فيه غير ذلك.قال أبو عبيدة: أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن عبد.وزعم الأصمعي أن الحارث قال قصيدته وهو يومئذ قد أتت عليه من السنين خمس وثلاثون ومائة سنة، وقال حين ارتجلتا مقبلا على عمرو بن هند:

( آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْمَاءُ. . . . . . . .رُبّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثّوَاءُ )

آذنتنا: أي أعلمتنا، والبين: الفراق، والثاوي: المقيم، ويُمل: من الملال.والثواء: الإقامة.

( بَعْدَ عَهْدٍ لَهَا بِبُرْقَةِ شَمَّا. . . . . . . .ءَ فَأَدْنَى دِيَارِهَا الخَلْصَاءُ )

ويروى ( بعد عهد لنا ) ومعنى البيت: آذنتنا بعد عهدها بهذه المواضع، وشماء: هضبة معروفة، والبُرقة والأبرق والبرقاء: رابية فيها رمل وطين أو طين وحجارة مختلطان، ثم أخبر أن له عهدا بهذه المرأة بالخلصاء أقرب من عهده بها في بُرقة شمَّاء.

( فَالمُحَيَّاةُ فَالصِّفَاحُ فَأَعْلَى. . . . . . . .ذِي فِتَاقٍ فَعَاذِبٌ فَالوَفَاءُ )

ويروى ( فأعناق فتاق ) ومحياة: أرض، والصفاح: أسماء هضاب مجتمعة، وواحد الصفاح صفحة، وفتاق: جبل، وعاذب: واد، والوفاء: أرض، أخبر بقرب عهده بهذه المرأة في هذه المنازل منزلاً منزلا.

( فَرِيَاضُ القَطَا فَأوْدِيَةُ الشُّرْ

بُبِ فَالشُّعْبَتَانِ فالأبْلاَءُ )

رياض القطا: رياضٌ بعينها، والأبلاء: اسم بئر.

( لاَ أَرَى مَنْ عَهِدْتُ فِيهَا فَأَبْكِي الْ

يَوْمَ دَلْهاً، وَمَا يَرُدُّ البُكَاءُ ؟ )

( فيها ) أي في هذه المواضع، وقوله: ( فأبكى ) ليس بجواب لقوله ( لا أرى ) ولو كان جوابا لنصبه، ولكنه خبر، فهو في موضع رفع ؛ لأنه خبر إنه يبكي كما خبر إنه لا يرى من عهد بها فيها، ودلها: أي باطلا، وقيل: هو من قولهم: ( دلهني ) أي حيرني، وهو منصوب على البيان، كما تقول: امتلأ فلان غيظا، وقوله: ( وما يرد البكاء ؟ ) ما: في موضع نصب بيرد، والمعنى: وأي شيء يرد البكاء، أي ليس يغني شيئا.

( وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدٌ النَّا. . . . . . . .رَ أَصِيلاً تُلْوِي بِهَا العَلْيَاءُ )

ويروى ( أخيرا ) قوله: ( وبعينيك ) أي: برأي عينيك أوقدت هند النار، وهند ممن كان يواصل، أخبر إنه رأى نارها عند آخر عهده بها لقوله: ( أخيرا ) وقوله: ( تُلوى بها العلياء ) معناه: ترفعها وتضيئها له، والعلياء: المكان المرتفع من الأرض، وإنما يريد العالية، وهي الحجاز وما يليه من بلاد قيس.

( أَوْقَدَتْهَا بَيْنَ العَقِيقِ فَشَخْصَيْ

نِ بِعُودٍ كَمَا يَلُوحُ الضِّيَاءُ )

شخصان: أكمة لها شُعبتان، وقوله: ( بِعُود ) أراد العود الذي يُتبخر به، وقوله: ( كما يلوح الضياء ) قيل: يعني ضياء الفجر، وقيل: يعني ضياء النار، يصف أنها أوقدت بالعود حتى أضاء كما تضيء النار التي تُوقد بالعود، والكاف في قوله: ( كما ) في موضع نصب ؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، والمعنى: أوقدتها إيقادا مثل ما يلوح الضياء.

( فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَا مِنْ بَعِيدٍ. . . . . . . .بِخَزَارٍ، هَيْهَاتَ مِنْكَ الصِّلاَءُ )

ويروى: بخزازي، يقال: تنوَّرت النار، إذا نظرتها بالليل لتعلم أقريبة هي أم بعيدة، أم كثيرة أم قليلة، وخزازي: اسم موضع، ومن النورة يقال: انترت، وهيهات: بمعنى بعد، يقول: إنها قد بعدت عنك وبعدت نارها بعد أن كانت قريبة.

( غَيْرَ أَنِّي قَدْ أَسْتَعِينُ عَلَى الهَمِّ. . . . . . . .إذا خَفَّ بِالثَّوِيِّ النَّجَاءُ )

الثوى: المقيم، وهو على التكثير، فإن أردت أن تجريه على الفعل قلت: ثاو، على لغة من قال: ثوى يثوى، ومن قال أثوى قال مُثو ؛ والنجاء: السرعة، و ( غير أني ) منصوب على الاستثناء، وهذا استثناء ليس من الأول، ويقال: أن قوله ( قد أستعين على الهم ) متعلق بقوله: ( وما يردُّ البكاء ؟ ) أي وما يرد بكاء بعد أن تباعدت عني هند، وقد أستعين على هم بهذه الناقة.

( بِزَفُوفٍ كَأَنَّهَا هِقْلَةٌ أُمُّ. . . . . . . .رِئَالٍ دَوِّيَّةٌ سَقْفَاءُ )

الزفيف: السرعة، وأكثر ما يستعمل في النعام، والهقلة: النعامة، والرأل: ولد النعامة، ودوية: منسوبة إلى الدو، وهي الأرض البعيدة الأطراف، وسقفاء: مرتفعة، وكل ما ارتفع سقف.

( آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُنَّ

اصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ )

آنست: أحست، والنبأة: الصوت الخفي، وعصرا: عشيا، وسميت العصر في الصلوات لأنها في آخر النهار.

( فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْعِ وَالوَقْ

عِ مَنِيناً كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ )

ويروى ( فترى خلفهن من شدة الوقع منينا )، والمنين: الغُبار الدقيق الذي تثيره، وكل ضعيف منين، والرجع: رجع قوائمها، والوقع: وقع خفافها، وقوله ( خلفها ) أي خلف الناقة، و ( خلفهن ) خلف الإبل ؛ لأن الناقة الموصوفة تسير مع غيرها، فحمل الضمير على المعنى، والإهباء: مصدر أهبي يُهبى إهباء، إذا أثار التراب، ومكن روى ( أهباء ) بفتح الهمزة فإنه يحتمل وجهين ؛ أحدهما: أن يكون قصر الهباء ثم جمعه على أهباء لأن الهباء الممدود يجمع على أهيبة، والثاني: أن يكون جمع هبوة وهي الغُبار.

( وَطِرَافاً مِنْ خَلْفِهِنَّ طِرَاقٌ. . . . . . . .سَاقِطَاتٌ تُلْوِى بِهَا الصَّحْرَاءُ )

ويروى ( أردت بها الصحراء ) ويروى ( نُوجى )، والطراق: مُطارقة نعال الإبل، وقوله: ( من خلفهن طراق ) أي طُورقت مرة بعد مرة، وقد قيل: الطراق الغبار هاهنا، و ( ساقطات ) قد سقطت من أرجلها، و ( تلوى بها الصحراء ) أي تذهب بها وتُفرقها، وقوله ( من خلفهن ) قيل في الضمير قولان، أحدهما: إنه يعود على الإبل، والآخر إنه يعود على الطِّراق، فمن قال إنه يعود على الإبل فقوله ( طراق ) مرفوع بمعنى هو طراق، وقال النحاس: ولا يجوز على خلاف هذا عندي ؛ لأنه مثل قولك: مررت برجل من خلف دار عمرو وزيد، فلا يجوز أن تكون الجملة من نعت رجل ؛ لأنه لم يعد عليه منها شيء، وكذلك قوله ( وطراقا من خلفهن طراق ) أن قدرته في موضع نعت لم يجز ؛ لأنه لم يعُد على طراق شيء، ويجوز ( طراقا من خلفهن طراقا ساقطات ) على أن تُبدل الطراق الثاني من الأول، ويكون قوله ساقطات في موضع نصب على إنه نعت لطراق الثاني ؛ لأن المصدر يؤدي عن الواحد والجمع، والأجود على إنه نعت لطراق الثاني ؛ لأن المصدر يؤدي عن الواحد والجمع، والأجود أن يكون الضمير يعود على طراق الأول، أو يكون جمع طراقة كما أجاز بعض النحويين ( سيرَ بزيدٍ سيرٌ ) على أن يكون سير جمع سيرة، وقيل في قوله عز وجل: ( إِنْ نَظنُّ إِلاّ ظنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيِقِنِينَ ): أن ظنا هنا جمع ظنة، وقيل: المعنى أن نظن أيها الدُّعاة إلا أنكم تظنون ظنا وما نحن بمستيقنين أنكم على يقين، وقيل: أن إلا في غير موضعها، وإن المعنى أن نحن ألا نظن ظنا، كما قال أبو العباس، وهذا مثل قولهم ( ليس الطيب إلا المسك ) والمعنى ليس إلا الطيب المسك، ومن قال أن ظنا جمع ظنة قال في طراق إنه جمع طراقة، فيكون الضمير يعود عليه، ويكون المعنى وطراقا من خلف الطراق طراق، وطرافا: منصوب لأنه معطوف على ( منينا ).

( أَتَلهَّى بِهَا الهَوَاجِرَ إِذْ كُلُّ. . . . . . . .ابْنِ هَمٍّ بَلِيَّةٌ عَمْيَاء )

أتلهى: من اللهو، أي ألهو بها في الهواجر، وابن هم: صاحب الهم، والبلية: ناقة الرجل إذا مات عُقلت عند رأسه عند القبر مما يلي رأسه، وعُكس رأسها إلى ذنبها فتترك لا تأكل ولا تشرب حتى تموت، فهي عمياء لا تتجه لأمرها، وقيل: كانوا يفعلون ذلك حتى إذا قام من قبره للبعث ركبها، والمعنى أن صاحب الهم إذا تحير نجوت أنا من الهم على ناقتي ولم يلحقني تحير.

( وَأَتَانَا عَنِ الارَاقِمِ أنْبَا

ءٌ وَخَطْبٌ نُعْنَى بِهِ وَنُسَاءُ )

الأراقم: أحياء من بني تغلب وبكر بن وائل وأنباء: جمع نبأ وهو الخبر، والخطب: الأمر العظيم، وقوله ( نُعنى به ) فيه قولان: أحدهما نُتهم ونظن به، أي يعنوننا به، والآخر أن يكون من العناية، أي نهتم به كما يقال: ( عُنيت بحاجتك، أُعنى بها، عناية ) هذا الفصيح، وحكى ابن الأعرابي عنيت بحاجتك - بفتح العين - و ( نُساء ) فيه أيضا قولان: يُساء بنا فيه الظن، والآخر نساء نحن في أنفسنا لاهتمامنا بهذا الخطب.

( أن إِخْوَانَنَا الأرَاقِمَ يَغْلُو

نَ عَلَيْنَا، في قِيلِهمْ إِحْفَاءُ )

ويروى ( إن إخواننا ) بكسر إنّ، فمن فتح فموضعها عنده موضع رفع على البدل من قوله ( أَنباء ) ومن كسرها صيرها مُبتدأة، وقوله ( يغلون علينا ) أي يرتفعون في القول علينا ويظلموننا ويُحمِّلوننا ذنب غيرنا، وأصل الغُلُو في اللغة الارتفاع والزيادة، و ( إحفاء ) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون معناه الاستقصاء، كأنهم استقصوا علينا ونقضُوا العهد، من قولك ( أحفيت شعري ) إذا استقصيت أخذه، والمعنى الآخر أن يكون من ( أحفيت الدابة ) إذا كلفتها ما لا تطيق حتى تحفي، فيكون معناه في البيت انهم ألزمونا ما لا نطيق.

( يَخْلِطُونَ البَريءَ مِنَّا بِذِي الذَّنْ

ب وَلاَ يَنْفَعُ الخَلِيَّ الخَلاَءُ )

( يخلطون ) معناه يُسوون ذا الذنب بالذي لا ذنب له، ظلما لنا وإساءة بنا، فهذا عين الجور، والخَلاء - بفتح الخاء - البراءة والترك، ويروى ( الخِلاء ) بكسر الخاء، وأصل الخلاء في الإبل بمنزلة الحران في الدواب.

( زَعَمُوا أن كُلَّ مَنْ ضَرَبَ العَ

يْرَ مَوَالٍ لَنَا وَأَنَّ الوَلاَءُ )

قالوا: يريد بالعير الوتد، والمعنى انهم يُلزموننا ذنوب الناس، أي كل من ذرب وتدا لخيمة ألزموا ذنبه، وهذا معروف أن يقال لكل شيء نانئ: عير، فقيل للوتد عير لنتوه، ويقال: أراد انهم يلزموننا ذنب كل من أطبق جفنا على جفن، لأنه يقال للعين، عير، وقيل: إنه أراد بالعير الحمار، أي يلزموننا ذنب كل من ضرب حمارا، وقيل: أراد بالعير كُليبا ؛ ويقال لسيد القوم: هو عير القوم، وقيل: عير جبل بالمدينة، أي زعموا أن كل من مشى اليه، وفي الحديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم ما بين عير إلى أحد ) وقيل: ما بين عير إلى ثور، والأول أصح، لأن ثورا بمكة، وقوله: ( وأَنَّا الولاء ) أي نحن ولاتهم على هذا، وقيل: معناه أنا أهل الولاء، ثم حذف، وقوله ( موال لنا ) قيل: يريد بني عمنا، وقيل: هو من النصر، يقال: ( فلان مولاي ) أي ناصري، فأما مفعولا ( زعموا ) فإن وما عملت فيه، كما تقول ( زعمت أن زيدا مُنطلق ) معناه كمعنى قولك زعمت زيدا منطلقا، وأنَّ توكيد، وموال في موضع رفع، والتنوين عند سيبويه عوض من الياء، وعند أبي العباس عوض من حركة الياء.

( أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا. . . . . . . .أصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لهمْ ضَوْضَاءُ )

ويروى ( أجمعوا أمرهم عشاء ) وأجمعوا: أحكموا، كما قال تعالى: ( فَأَجِمعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) وإنما خص الليل لأنه وقت تتفرغ فيه الأذهان، والضوضاء: الجلبة والاختلاط أي لما أحكموا أمرهم بليل أصبحوا في تعبية لما أحكموه من إسراج وإلجام وكلام، ومن العرب من يصرف ضوضاء في المعرفة والنكرة، وهو الاختيار عند أبي إسحاق ؛ لأنه عنده بمنزلة قلقال، ومن العرب من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة بمنزلة حمراء وما أشبهها.

( مِنْ مُنَادٍ وَمِنْ مُجِيبٍ وَمِنْ تَصْ

هَالِ خَيْلٍ، خِلاَلَ ذَاكَ رُغَاءُ )

بيَّن الضوضاء في هذا البيت فقال: من مُناد يُنادى صاحيه فيقول: يا فلان، ومن مجيب يقول: هاأنا ذا، و ( خلال ذاك ) أي بين ذاك الجميع رغاء الإبل: أي أصواتها.

( أَيُّهَا النَّاطِقُ المُرَقِّشُ عَنَّا. . . . . . . .عِنْدَ عَمْرو، وَهَلْ لِذَاكَ بقَاءُ ؟ )

المرفش: المزين القول بالباطل ليقبل منه الملك باطله، ويقال: إنه يخاطب بها عمرو بن كلثوم، ومعنى ( وهل لذاك بقاء ) أن الباطل لا يبقى.

( لاَ تَخَلْنَا عَلَى غَرَاتِكَ، إِنَّا. . . . . . . .قَبْلُ مَا قَدْ وَشَى بِنَا الأعْدَاءُ )

( على غراتك ) يقال: غرى بالشيء يغرى غرا مقصور وغراة تأنيث غرا، وروى سيبويه والفراء إنه يقال: غرى به يغرى غراءا، وهذا من الشاذ الذي لا يقاس عليه، وقد روى ( لا تخلنا على غرائك ) على هذا، وقوله ( لا تخلنا ) أي لا تحسبنا أنا جازعون لإغرائك الملك بنا، ويروى ( إنّا طالما قد وشى بنا الأعداء ) وما: هذه كافة قد يقع بعدها الفعل والفاعل، وإن اضطر شاعر جاز له أن يأتي بعدها بابتداء وخبر كما تقول في قلَّما، وأنشد سيبويه:

صَدَدْتِ فَأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ وَقَلَّمَا. . . . . . . .وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ

وكان يجب على قول سيبويه أن يقول: وقلَّ ما يدوم وصال، وعلى هذا ( طالما قد وشى بنا الأعداء ).والمعنى: أن الأعداء قبلك قد وشوا بنا ليهلكونا، فلم يقدروا على ذلك.والمفعول الثاني من ( تخلنا ) محذوف، والمعنى لا تخلنا على غراتك بأنا هالكون، ثم حذف، والبيت الذي بعده يدل على ذلك.

( فَبَقِينَا عَلَى الشَّنَاءَةِ تَنْمِي

نَا جُدُودٌ وَعِزَّةٌ قَعْسَاءُ )

ويروى ( فنمينا على الشناة ) ويروى ( فعلونا على الشناءة ) والشناءة: البغض، يقول: فبقينا على بغضهم لنا ترفعنا جدود وهي الحظوظ ويروى ( تنمينا حصون ) يعني أنهم في عز ومنعة، والقعساء: الثابتة، ويقال: نماه كذا، أي رفعه، ويقال ( نمى الشيء في نفسه ينمى ) إذا زاد، هذا اللازم، وفي المتعدى اختلاف، فأكثر أهل اللغة يقول: أنمى الله إنماء، وقال بعضهم: لا يجوز إلا نماه الله.

( قَبْلَ مَا اليَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ ال

نَّاسِ فِيهَا تَعَيُّطٌ وَإبَاءُ )

يقول: قبل اليوم عظم شأننا على الناس حتى أعمتهم وغطت على أبصارهم، وقوله ( فيها تعيط ) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من قولهم ( اعتاطت الناقة ) إذا لم تحمل وامتنعت من الفحل أي فعزَّتنا تمنعنا من أن نستضام، والمعنى الآخر أن يكون من قولهم ( رجل أعيط وامرأة عيطاء ) إذا كانا طويلين فيكون المعنى على هذا: لنا عزة طويلة غير ناقصة ولنا إباء.

( وَكَأَنَّ المَنُونَ تَرْدِى بِنَا أَرْ. . . . . . . .عَنَ جَوْناً يَنْجَابُ عَنْهُ العَمَاءُ )

المنون: المنية، وهو أيضا الدهر ؛ لأنه يذهب بمُنة كل شيء، ويروى ( تردى بنا أصحم عصم ) والأرعن: الجبل الذي له حيود وأطراف تخرج عن معظمه، ومن هذا قيل ( جيش أرعن ) إذا كانت له مقدمة وساقة تخرج عن معظمه، والجون: الأسود والأبيض، والمراد به الأسود، ومن روى ( أصحم عُصم ) فإنه يريد بالأصحم الأخضر الذي ليس بخالص الخضرة كأنه الذي فيه غبرة، والعُصم: الوعول الواحد أعصم، وسمى أعصم لأن في معصمه بياضا، وقيل: سمى أعصم لأنه يعتصم بالجبال، لأنه لا يكاد يكون إلا فيها، وينجاب: ينشق، و ( الجيب ) منه، يصف أن هذا الجبل من طوله لا تعلوه السحاب، وأنها إذا بلغته انشقت حواليه، والعماء: السحاب الأبيض، ومعنى قوله ( تردى بنا أرعن ) يصع أن لهم قوة ومنعة، فكأن الدهر إنما يرمى برميه إياهم جبلا هذه صفته، وهذا مثل قولهم: لو لقيت فلانا للقيك به الأسد، أي للقيك بلقائك إياه الأسد، وقيل: أن معنى ( تردى بنا أرعن ) ترمينا بشدائد مثل هذا الجبل في عظمها.

( مُكْفَهِرًّا عَلَى الحَوَادِثِ مَا تَرْ

تُوهُ لِلدَّهْرِ مُؤْيِدٌ صَمَّاءُ )

المكفهر: الغليظ المتراكب بعضه على بعض، ومنه ( اكفهر فلان في وجهي ) إذا نظر بغيظ، وكل كريه مكفهر، وهو منصوب لأنه نعت رعن، ويجوز رفعه على معنى هو مكفهر، وأراد بالحوادث حوادث الدهر، لا ترتوه: لا تنقصه، ويقال ( رتوت الثوب ) إذا نقصت منه، و ( رتوت الدرع ) إذا علقتها بالعرى لتشمر منها، ويكون ذلك أمكن في الحرب، وأما الحديث ( عليكم بالحساء فإنه يرتو فؤاد الحزين ) فمعناه يشده والمؤيد: الشديد الأيد، أي القوة، ويعنى بالمؤيد الداهية، و ( صماء ) مثل، أي لا تسمع فيعتذر إليها، يريد شدة الجبل وأن الحوادث لا تنقصه، فكذلك نحن في شدتنا بمنزلة هذا الجبل لا يضرنا تنقُّص من عدانا، وقيل: معناه أن الشدائد التي نُرمى بها لا تنقص، ونحن صابرون عليها.

( أَيَّمَا خُطَّةٍ أَرَدْتُمْ فأَدُّوا

هَا إليَنْا تَمْشِي بِهَا الأمْلاَءُ )

الخُطة: الأمر يقع بين القوم يشتجرون فيه، وقوله ( فأدوها إلينا ) معناه فابعثوا ببيان ذلك إلينا مع السفراء، والسفير: المصلح بيننا وبينكم يمشون به إلينا وتشهد به الأملاء، فإن شهدوا وعرفوا ما ادعيتم كان ذلك لكم، وإن ادعيتم ما لا تعرفه الأملاء فليس بشيء، والأملاء: الجماعات و ( أي ) منصوب بقوله ( أردتم ) ويروى ( تسعى بها الأملاء ) والمعنى أردتموها، ثم حذف كما تحذف مع الذي.

( أن نَبَشْتُمْ مَا بَيْنَ مِلْحَةَ فَالصَّا

قِبِ فِيهِ الأمْوَاتُ وَالأحْيَاءُ )

ملحة: مكان، والصاقب: جبل، وقوله ( إن نبشتم ) معناه أن أثرتم ما كان بيننا وبينكم من القتل والأسر في الوقعات التي كانت بين ملحة فالصاقب، أي بين أهل ملحة وأهل الصاقب، ظهر عليكم ما تكرهون من قتلى قتلنا لم تُدركوا بثأرهم، وقيل: هذا مثل، ومعناه أن ذكرتم ما قد كففنا عنه فلم نذكره ونبشتموه فلنا الفضل في ذلك، وقيل: معناه إنكم تعتدون علينا بذنوب الأموات وما فعلوا، كما تعتدون علينا بذنوب الأحياء، وجواب الشرط يجوز أن يكون محذوفا لعلم السامع، ويكون المعنى: أن فعلتم هذا فلنا الفضل فيه، ويجوز أن يكون حذف الفاء ويكون المعنى: ففيه الأموات والأحياء، ويجوز أن يكون جواب الشرط فيما بعده لأن بعده.

( أو نَقَشْتُمْ فَالنَّقْشُ يَجْشَمُهُ النَّا

سُ، وَفِيهِ الصَّحَاحُ وَالإبْرَاءُ )

نقشتم: استقصيتم، يقال: نقشت فلانا، وناقشته، إذا استقصيت عليه وفي الحديث ( من نُوقش الحساب عُذِّب ) ويجشمه الناس: أي يتكلفونه على مشقة ( وفيه الصحاح والإبراء ) في الاستقصاء صلاح، أي انكشاف الأمر، يقول: أن استقصيتم صرتم من ذلك إلى ما تكرهون، ومن روى ( فيه السقام ) أراد وفي الناس سقام وبراء، أي لا تأمنوا أن استقصيتم أن يكون السقام فيكم، وسقمهم أن يكونوا قُتِلوا وقُهِرُوا فلم يُثأر بهم، وعسى أن يكون الأبراء منا فيستبين ذلك للناس ويصير عاره عليكم في الاستقصاء.

( أو سَكَتُّمْ عَنَّا فَكُنَّا كَمنْ أَغْ

مَضَ عَيْناً فِي جَفْنِهَا أَقْذَاءُ )

يقول: أن سكتم فلم تستقصوا كنا نحن وأنتم عند الناس في علمهم بنا سواء، وكان أسلم لنا ولكم، على أنا نسكت ونُغمض أعيننا على ما فيها منكم، والقذى: الشيء الذي يسقط في العين، ويروى ( فكنا جميعا، مثل عين في جفنها أقذاء ).

( أو مَنَعْتُمْ مَا تُسْأَلُونَ، فَمَنْ حُدِّ

ثْتُمُوهُ لَهُ عَلَيْنَا العَلاَءُ ؟ )

معناه أو منعتم ما تُسألون فيما بيننا وبينكم فلأي شيء كان ذلك منكم مع ما تعرفون من عزنا وامتناعنا ؟ ثم قال ( فمن حدثتموه له علينا العلاء ) يقول: من العُلُو والرفعة، بالعين غير معجمة ويروى ( الغلاء ) بالغين معجمة، وهو الارتفاع أيضا، من قوله عز وجل: ( لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ).

( هَلْ عَلِمْتُمْ أَيَّامَ يُنْتَهَبُ النَّا

سُ غِوَاراً لِكُلِّ حَيٍّ عُوَاءُ ؟ )

يريد الأيام التي هُزم فيها كسرى وضعُف أمره، وكان بعض العرب يُغير على بعض، وكانت العرب من نزار تملكهم الأكاسرة، وهم ملوك فارس، وتُملِّك عليهم من شاءت، وكانت غسان تملكهم ملوك الروم، فلما غُلب كسرى على بعض ما في يديه - وكان الذين غلبوه بني حنيفة - غزا بنفسه قيصر، فضعف أمر كسرى، وغزا بعض العرب بعضا، و ( غوارا ) منصوب على المصدر، وما قبله بدل من الفعل، والمعنى: يغاورون غوارا، كما تقول: هو يدعه تركا، والعواء: الصياح مما ينزل بهم من الإغارة.

( إِذْ رَفَعْنَا الجِمَالَ مِنْ سَعَفِ البَحْ

رَيْنِ سَيْراً حَتَّى نَهَاهَا الحِسَاءُ )

رفعنا الجمال في السير: أي سرنا سيرا رفيعا، وسيرا: منصوب على المصدر، وما قبله بدل من سرنا، ويعنى بالسعف النخل لأنه منه ( حتى نهاها الحساء ) أي انتهت إليها ثم لم يكن لها مخلص، والحساء: جمع حسى.

( ثُمَّ مِلْنَا إلى تَمِيمٍ فأَحْرَمْ

نَا، وَفِينَا بَنَاتُ مُرٍّ إِمَاءُ )

يقول: لما بلغنا الحساء ملنا على تميم، فلما صرنا في بلادهم أحرمنا: أي دخلنا في الأشهر الحرم، فكففنا عن قتالهم، و ( فينا بنات مر إماء ) أي قد سبيناهن قبل دخول الأشهر الحرم، والواو واو الحال في قوله ( وفينا بناتُ مر إماء ).

( لاَ يُقِيمُ العَزِيزُ بِالبَلَدِ السَّهْ

لِ، وَلاَ يَنْفَعُ الذَّلِيلَ النَّجَاءُ )

يخبر بشدة الأمر فيقول: لم يكن العزيز الممتنع يقدر على أن يقيم بالبلد السهل لما فيه الناس من الغارة والخوف، ولا ينفع الذليل النجاء: أي الهرب.

( لَيْسَ يُنْجِي مُوَائِلاً مِنْ حِذَارٍ. . . . . . . .رَأْسُ طَوْدِ وَحَرَّةٌ رَجْلاَءُ )

الموائل: الذي يطلب موئلا يهرب إليه، والطود: الجبل، والحرة: كل موضع فيه حجارة سُود، والرجلاء: الصلبة الشديدة.

( فملَكْنَا بِذلِكَ النَّاسَ حَتَّى. . . . . . . .مَلَكَ المُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ )

( وَهْوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ

مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاَءُ بَلاَءُ )

الرَّبُّ: عنى به المنذر بن ماء السماء، يخبر إنه في هذين اليومين قد شهدهم فعلم فيه صنيعهم وبلاءهم الذين أبلوا، وكان المنذر بن ماء السماء غزا أهل الحيارين ومعه بنو يشكر فأبسلوا، وقوله ( والبلاء بلاء ) معناه والبلاء شديد ؛ فيجوز أن يكون البلاء من البلية، ويجوز أن يكون البلاء من الإبلاء والإنعام، والرب في هذا الموضع: السيد، والحياران: بلد، ورواه ابن الأعرابي الحوارين.

( مَلِكٌ أَضْلَعُ البَرِيَّةِ، مَايُو. . . . . . . .جَدُ فِيهَا لِمَا لَدَيْهِ كِفَاءُ )

أضلع البرية أي أشد البرية إضلاعا لما يحمل، أي هو أحمل الناس لما يحمل من أمر ونهى وعطاء وغير ذلك، وقوله ( ما يوجد فيها لما لديه كفاء ) معناه ليس في البرية أحد يكافئه، ولا يستطيع أن يصنع مثل ما يصنع من الخير، والكفاء: المثل والنظير، يقال: فلان كفاء لفلان، وكفئ، وكفؤ، وكفء، والأصل في كفء كفؤ، فهذا كله في معنى المثل.ومن هذا ( كأفات الرجل ) و ( كفأت الإناء ) و ( الإكفاء ) في الشعر.

( فاتْرُكُوا الطَّيْخَ وَالتَّعَدِّى، وَإِمَّا. . . . . . . .تَتَعَاشَوْا فَفِي التَّعَاشِي الدَّاءُ )

الطيخ: الكلام القبيح، يقال: رجل طيَّاخه ؛ إذا كان يستعمل ذلك، وكأن الطيخ الكبر والعظمة، يقال: طاخ يطيخُ طيخا، والتعاشي: التعامي، وقوله ( وإما تتعاشوا ) أي تتعاموا، ومعناه تتجاهلوا ؛ ففي التعاشي الداء: أي الشر يرجع إليكم في ذلك ؛ لأنكم عارفون مالنا من الفضل، فإذا تجاهلتم في ذلك فسدت قلوبنا عليكم فبيَّنا فلحقكم العار.

( وَاذكُرُوا حِلْفَ ذِي المَجَازِ وَمَا قُدِّ

مَ فِيهِ العُهُودُ وَالكُفَلاَءُ )

ذو المجاز: موضع، وكان عمرو بن هند أصلح فيه بين بني بكر وبني تغلب، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن من كل حي ثمانين، فذلك قوله: ( وما قدم فيه العهود والكُفلاء ).

( حَذَرَ الجَوْرِ وَالتَّعدِّى، وَلَنْ يَنْ

قُضَ مَا فِي المَهَارِقِ الأهْوَاءُ )

ويروى ( هل ينقض ) ويروى ( حذر الخون ) من الخيانة، والتعدى: من الاعتداء، والمهارق: الصحف، واحدها مُهرق، فارسي معرب، خرزة يصقلون بها ثيابا كان الناس يكتبون فيها قبل أن تُصنع القراطيس بالعراق، يقول: أن كان أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم ؟ وحذر الجور: أي لحذر الجور، وهذا يسميه النحويون مفعولا من أجله، وليس هو منصوبا بحذف اللام وإنما هو مصدر، أي حذرا أن يجور بعضنا على بعض أو يتعدى.

( وَاعْلَمُوا أَنَّنَا وَإِيَّاكُمْ فِي

مَا اشْتَرَطْنَا يَوْمَ احْتَلَفْنَا سَوَاءُ )

يقول: إنما اشترطنا أن يكون الجنايات علينا وعليكم، فلم تلزموننا وحدنا ذلك ؟

( أَعَلَيْنَا جُنَاحُ كِنْدَةَ أن يَغْ

نَمَ غَازِيهِمُ وَمِنّا الجَزَاءُ ؟ )

قال الأصمعي: كانت كندة أخذت خراج الملك وهربت، فوجَّة إليهم من قتلهم.وقال غيره: كانت كندة قد غزت تغلب، وقتلت فيهم وسبت، فقال: أتلزموننا ما فعلت كندة ؟

( أَمْ عَلَيْنَا جَرَّى حَنِيفَةَ أو مَا. . . . . . . .جَمَعَتْ مِنْ مُحَارِبٍ غَبْرَاءُ ؟ )

يقول: هل علينا في العهود والمواثيق التي أخذتموها علينا أن تأخذونا بذنوب حنيفة وما أذنبت لصوص محارب ؟ والغبراء: الصعاليك والفقراء.وكان من حديث حنيفة التي ذكرها أن شمر بن عمرو الحنفي - وهو أحد بني سحيم - لما غزا المنذر بن ماء السماء غسان، وكانت أم شمر بن عمرو غسانية، فخرج يتوصل بجيش المنذر بن ماء السماء، يريد أن يلحق بالحارث بن جبلة الغساني، فلما دنا من الشام سار حتى لحق بالحارث بن جبلة، فقال له شمر بن عمرو: أتاك مالا تُطيق، فندب الحارث بن جبلة مائة رجل من أصحابه، وجعلهم تحت لواء شمر بن عمرو الحنفي، ثم قال: سر حتى تلحق بالمنذر بن ماء السماء وتقول له: إنا مُعطوه ما يريد وينصرف عنا، فإذا وجدتم منه غرة فاحملوا عليه، فخرج شمر بن عمرو يسير في أصحابه حتى أتى عسكر المنذر، فدخل عليه وأخبره برسالة الحارث بن جبلة الغساني، فركن إلى قوله، واستبشر أهل العسكر، وغفلوا بعض الغفلة، فحمل الحنفي عليه بالسيف فضرب يافوخه، فسال دماغه ومات من الضربة مكانه، وقتلوا بعض من كان حول القُبُّة، وتفرق أصحاب المقتول، فقال أوس بن حجر في ذلك:

نُبِّئْتُ أن بَنِي سُحَيْم أَدْخَلُوا. . . . . . . .أَبْيَاتَهُمْ تَامُورَ نَفْسِ المُنْذِرِ

التامور: دم القلب، وقوله ( غبراء ) أي جماعة غبراء، وإنما قيل لهم غبراء لما عليهم من أثر الفقر والضر، فشبَّه ذلك بالغبار، ويقال للفقراء ( بنو غبراء ) لأنهم لا مأوى لهم إلا الصحراء وما أشبهها كأنهم بنو الأرض.

( أَمْ جَنَايَا بَنِي عَتِيقٍ، فَمَنْ يَغْ

دِرْ فإن مِنْ حَرْبِهِمْ بُرَأَءُ ؟ )

ويروى ( لَبُراء )، ويروى ( فإنا من غدرهم بُرآء ).

( أَمْ عَلَيْنَا جَرَّى العِبَادِ كَمَا نِي

طَ بِجَوْزِ المُحَمَّلِ الأعْبَاءُ ؟ )

معناه أن بعض العباد وهم العباديون أصابوا في بني تغلب دماء، فلم يدرك بنو تغلب ثأرهم منهم، فيقول: تريدون أن تحملوا علينا ذنوب هؤلاء وتُعلِّقوه علينا كما علق بوسط البعير الأثقال، ونيط: عُلِّق، والأعباء: جمع عبء وهو الثقل، والكاف في موضع نصب.

( أَمْ عَلَيْنَا جَرَّى قُضَاعَةَ أَمْ لَيْ

سَ عَلَيْنَا فِيمَا جَنَوْا أَنْدَاءُ ؟ )

هذا تعبير منه لبني تغلب لما فعلت بهم قُضاعة، يقول: أفعلينا ما جنت قضاعة، وذلك أن قضاعة غزت بني تغلب فقتلوا منهم وسبوا، فيقول: أفتريدون أن تحملوا علينا ذنوب هؤلاء التي أذنبوها إليكم وليس علينا فيما جنوا أنداء ؟ تريد ليس يندانا مما جنوا شيء، هذا كله تعيير منه لبني تغلب وعمرو بن كلثوم يسمع، والأنداء: اسم ليس، واحدها ندى، ويروى ( أو ليس علينا فيما جنوا ) والفرق بين أَمْ و أو أن أمْ تقع للتسوية، نحو قوله عز وجل: ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ )، وتقع أمْ لخروج من كلام إلى كلام أيضا، نحو قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ )، وأوْ تقع لأحد الشيئين، نحو قول الشاعر:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَرَى النَّاسُ مَا أَرَى. . . . . . . .مِنَ الأمْرِ أو يَبْدُو لَهُمْ مَا بَدَا لِيَا

( أَمْ عَلَيْنَا جَرَّى إِيَادٍ كَمَا قِي

لَ لِطَسْمٍ أَخُوكُمُ الأبَّاءُ ؟ )

كانت إياد بن نزار تنزل سنداد، وسندا: نهر فيما بين الحيرة إلى الأبلة، وكان عليه قصر تحجُّ إليه العرب، وهو القصر الذي ذكره الأسود بن يعفر فقال:

أَرْض الخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ. . . . . . . .وَالقَصْرِ ذِي الشُّرُفَاتِ مِنْ سِنْدَادِ

قالوا: ولم يكن في نزار حيٌّ أكثر من إياد، ولا أحسن وجوها، ولا أمد أجساما، ولا أشد امتناعا، وكانوا لا يُعطون الإتاوة أحدا من الملوك، وكان من قوتهم أنهم أغاروا على امرأة لكسرى أنوشروان، فأخذوها وأموالا له كثيرة، فجهز إليهم كسرى الجيوش مرتين، كل ذلك تهزمهم إياد، ثم إنهم ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه بعد ذلك إليهم كسرى ستين ألفا وكان لقيط بن يعمر الإيادي ينزل الحيرة، فكنت إلى إياد وهم بالجزيرة:

سَلاَمٌ فيِ الصَّحِيفَة مِنْ لَقِيطٍ. . . . . . . .إلى مَنْ بِالجَزِيرةِ مِنْ إِيَادِ

بِأَنَّ الليْثَ كِسْرَى قَد أَتَاكُمْ. . . . . . . .فَلاَ يَشْغَلْكُمُ سَوْقُ النِّقَادِ

أَتَاكُمْ مِنْهُمُ سِتُّونَ أَلْفاً. . . . . . . .يُزَجُّونَ الكَتَائِبَ كَالجَرَادِ

عَلَى حَنَقٍ أَتَيْنَكُمُ ؛ فَهذَا. . . . . . . .أَوَانُ هَلاًَكِكُمْ كَهَلاَكِ عَادِ

فلما بلغ كتاب لقيط إيادا استعدوا لمحاربة الجنود التي بعث بهم كسرى، فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى وجعت الخيل وقد أصيب من الفريقين، ثم إنهم بعد ذلك اختلفوا فيما بينهم، وتفرقت جماعتهم، فلحقت طائفة منهم بالشام، وأقام الباقون بالجزيرة، وكان طسم وجديس أخوين، فأخذ جديس خراج الملك وهرب، فأخذ الملك طسما وطالبه بما على أخيه، فالمعنى: أنكم تطالبوننا بما ليس علينا كما طولب طسم بما ليس عليه، والأباء هنا: الذي أبى أن يطيع الملك بأن يؤدي ما عليه، يقال: أبى يأبى إباء فهو آب وأَبَّاء على التكثير.

( لَيْسَ مِنَّا المُضَرَّبُونَ، وَلاَ قَيْ

سٌ، وَلاَ جَنْدَلٌ، وَلاَ الحَدَّاءُ )

هؤلاء قوم من بني تغلب ضُرِبوا بالسيف، عيره بهم، والحداء: قبيلة من بني ربيعة، ويقال: هو رجل من ربيعة.

( عَنَناً بَاطِلاً وَظُلْماً كَمَا تُعْ

تَرُ عَنْ حَجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّبَاءُ )

( عننا ) معناه اعتراضا يقول: أنتم تعترضون بنا اعتراضا، وتدعون الذنوب علينا ظلما لنا وميلا علينا، وأصل العتر الذبح في رجب، وفي الحديث ( لا عتيرة ) وكانوا يذبحونها لآلهتهم، والعرب كانت تنذر النذر فيقول أحدهم: أن رزقني الله مائة شاة ذبحت عن كل عشرة شاة في رجب، ويسمى ذلك الذبح العتيرة والرجبية، فربما بخل أحدهم بما نذر، فيصيد الظباء فيذبحها عوضا من الشياه، فالمعنى إنكم تطالبوننا بذنوب غيرنا كما ذبح أولئك الظباء عن الشياه، والحجرة: الموضع الذي يكون فيه الغنم، وأصل الحجرة الناحية والربيض: جماعة الغنم، ويقال للموضع: ربض، وفي الحديث: ( مثل المنافق مثل شاةٍ بين ربضين إذا جاءت إلى هذه نطحتها وإذا جاءت إلى هذه نطحتها ) أي بين موضعي غنم، ويروى ( بين ربيضين ) أي بين غنمين.

( وَثَمَانُونَ مِنْ تَمِيمٍ بِأَيْدِي

هِمْ رِمَاحٌ صُدُورُهُنَّ القَضَاءُ )

يعني أن عمرا أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم خرج في ثمانين رجلا من بني تميم غازين، فأغار على ناس من بني تغلب يقال لهم بنو رزاح، وكانوا ينزلون أرضا يقال لها نطاع قريبة من اليمن، فقتل فيهم وأخذ أموالا كثيرة، وقوله ( صدورهن القضاء ) أي الموت.

( لَمْ يُخَلُّوا بَنِي رِزَاحٍ بِبَرْقَا

ءِ نَطَاعِ لَهُمْ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ )

( تَرَكُوهُمْ مُلَحَّبِينَ، وَآبُوا. . . . . . . .بِنِهَابٍ يَصَمُّ مِنْهُ الحُدَاءُ )

مُلحَّبين، مقطعين بالسيوف، وقوله ( يصم منه الحداء ) أي لكثرة رغاء الإبل والضجة لا يُسمع الحُداء، وحقيقته ( يصم منه سامع الحداء ) وهو مجاز كما يقال: نام ليلك.

( ثُمَّ جَاءُوا يَسْتَرْجِعُونَ، فَلَمْ تَرْ

جِعْ لَهُمْ شَامَةٌ، وَلاَ زَهْرَاءُ )

يعنى بني رزاح، و ( يسترجعون ) في موضع حال مُقدرة، والشامة: السوداء، والزهراء: البيضاء والمعنى: إنه لم يرجع إليهم شيء مما أخذ منهم.

( ثُمَّ فَاءُوا مِنْهُمْ بِقَاصِمَةِ الظّهْ

رِ، وَلاَ يَبْرُدُ الغَلِيلَ المَاءُ )

فاءوا: رجعوا، وقاصمة الظهر: الخيبة، وهذا تمثيل، أي صاروا بمنزلة من قصم ظهره، والغليل، والغلة: شدة العطش، والمعنى: أن هذا الغليل من الحزن لا يبرده الماء.

( ثُمَّ خَيْلٌ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ مَعَ الغَلاّ

قِ، لاَ رَأفَةٌ، وَلاَ إبْقَاءُ )

يقول: ثم أصحاب خيل من بعد بني تميم، والغلاق: من بني حنظلة من تميم، كان على هجائن النعمان، غزا بني تغلب فقتل فيهم وسبي، وقوله ( لا رأفة ولا إبقاء ) أي ليس لأصحاب الغلاق رأفة بهم ولا إبقاء عليهم.

( مَا أَصَابُوا مِنْ تَغْلَبِيٍّ فَمَطْلُو

لٌ، عَلَيْهِ إذا تَوَلّى العَفَاءُ )

( ما ) هاهنا للشرط، وهو في موضع نصب بأصابوا، و ( مطلول عليه ) أي لا يُدرك بثأره، والعفاء: الدروس أي يُنسى فيصير بمنزلة الشيء الدارس.

( كَتَكَالِيفِ قَوْمِنَا إذْ غَزَا المُنْ

ذِرُ، هَلْ نَحْنُ لاِبْنِ هِنْدٍ رِعَاءُ ؟ )

يروى إنه لما قُتل المنذر بن ماء السماء اعتزلت طائفة من بني تغلب وقالوا: لا نطيع أحدا من ولده، فلما ولى ابنه عمرو بن هند وجَّه إليهم، فقالوا: أرعاء نحن ؟ أن قتل عمرو بن هند فيكم كفعل الغلاق، و ( تكاليف ) يجوز أن يكون جمع تكلفة، ويجوز أن يكون جمع تكليف.

( إذْ أَحَلَّ العَلاَةَ قُبَّةَ مَيْسُو. . . . . . . .نَ فَأَدْنَى دِيَارِهَا العَوْصَاءُ )

ويروى ( إذ أحل العلياء ) وهي أرض، وروى أن عمرو بن هند لما قُتل أبوه وجَّه أخاه النعمان، وحشد معه أخوه من قدر عليه من أهل مملكته، وأمره أن يقاتل بني غسان ومن خالف من بني تغلب، فلما صار إلى الشام قتل ملكا من غسان، واستنقذ أخاه امرأ القيس بن المنذر، وأخذ بنتا للملك في قُبة لها، وهي ميسون التي ذكرها فقال: إذ أحل العلاة قبة ميسون، أي قتلهم في هذا الوقت، والعلاة: قريبة من العوصاء، وعدَّى ( أحل ) إلى مفعولين كما تقول: أُحللت زيدا مكان كذا وكذا.

( فَتَأَوَّتْ لَهُمْ قَرَاضِبَةٌ مِنْ. . . . . . . .كُلِّ حَيٍّ كَأَنَّهُمْ أَلْقَاءُ )

ويروى ( فتأوت له قراضبة ) تأوت: اجتمع بعضها إلى بعض، والقراضبة: الصعاليك، ويريد بالقراضبة من تجمع لعمرو بن هند، وواحد الإلقاء لقاً، وهو الشيء المطروح، وهو من الرجال العيى كأنه المطروح.

( فَهَدَاهُمْ بِالأَسْوَدَيْنِ، وَأَمْرُ الل

هِ بَلْغٌ يَشْقَى بِهِ الأَشْقِيَاءُ )

ويروى ( فهداهم بالأبيضين ) وأراد بالأبيضين الخبز والماء، وبالأسودين التمر والماء، أي هدى عمرو بن هند أصحابة وجمعه حين غزا بهم، وقال بعضهم: أراد بالأسودين الليل والنهار، وبالأبيضين الماء واللبن ( وأمر الله بلغ ) أي يبلُغ ما يريد، وقيل: معناه بالغ بالسعادة والشقاء ؛ فمن كان سعيدا بلغته السعادة، ومن كان شقيًّا بلغه الشقاء فشقي به.

( إِذْ تَمَنَّوْنَهُمْ غُرُوراً، فَسَاقَتْ

هُمْ إِلَيْكُمْ أُمْنِيَّةٌ أَشْرَاءُ )

يقول: تمنيتم لقاءهم أشرا، أي بطرا، فساقتهم إليكم أُمنية أشراء، أي ذات أشر، أي بطر، والأشر والبطر لا يستعملان إلا في الشر، والفرح يستعمل في الخير والشر، قال عز وجل: ( ذلكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ )، فقوله ( بغير الحق ) يدل على إنه يكون في الحق وفي غيره، ثم قال عز وجل: ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ )، فلم يستثن ؛ لأن المرح لا يكون إلا في الشر كالبطر والأشر، ومعناه إنكم تمنيتم عمرو بن المنذر وأصحابه الذين تجمَّعوا له، وذلك أنكم قلتم: من عمرو ومن معه ؟ إنما معه قراضبة وقد جمعوا له من كل مكان لقتالنا، فليتنا قد لقيناهم فيعلم عمرو غدا كيف نحن وهو، فهذه أمنيتهم.

( لَمْ يَغُرُّوكُمُ غُروراً، وَلكِنْ. . . . . . . .يَرْفَعُ الآلُ جَمْعَهُمْ وَالضَّحَاءُ )

ويروى ( ولكن رفع الآل ) ويروى ( حزمهم والضحاء ) يقول: ما أتوكم على غرَّة، ولكن الآل والضحاء رفعا جمعهم فأتوكم على خبرة منكم، أي أتوكم نهارا ظاهرين، والضحاء: ارتفاع النهار.

( أَيُّهَا الشَّانِئُ المُبَلِّغُ عَنَّا. . . . . . . .عِنْدَ عَمْروٍ، وَهَلْ بِذَاكَ انْتِهَاءُ ؟ )

يريد بالشانئ عمرو بن كلثوم التغلبي، قوله ( هل لذاك انتهاء ) أي هل لذلك غاية ينتهي إليها، ويروى ( أيها الكاذب المبلغ ) و ( المخبر ) و ( المقرِّش ) و ( المرقش )، ويروى ( وهل له إبقاء ) أي لا يبقى عليكم لما ألقيتم اليه.

( أن عَمْراً لَنَا لَدَيْهِ خِلاَلٌ. . . . . . . .غَيْرَ شَكٍّ في كُلِّهِنَّ البَلاَءُ )

يعني عمرو بن هند، وقوله ( غير شك ) منصوب بمعنى يقينا، ولا يجوز أن يكون التقدير في كلهن البلاء غير شك، وسيبويه لا يجيز ( غير ذي شك زيد منطلق ) وفي منعه إياه قولان: أحدهما أن العامل لا يتصرف ؛ لأن العامل المعنى، وذلك أن قولك ( زيد منطلق ) بمنزلة قولك: أتيقن ذلك، فإذا كان العامل لا يتصرف لم يتقدم عليه ما عمل فيه، والقول الآخر إنه بمنزلة التوكيد، فكما لا يتقدم التوكيد لا يتقدم هذا، والبلاء هاهنا النعمة.

( مَلِكٌ مُقْسِطٌ، وَأَكْمَلُ مَنْ يَمْ

شِي، وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الثَّنَاءُ )

المُقسط العادل، ويروى ( ملك باسط ) ويروى بالنصب، ومعنى الباسط إنه يبسُطُ العدل، ويروى ( وأكرم من يمشي ) أي فعلا، ومن روى ( وأكمل من يمشي ) أراد عقلا ورأيا، وقوله ( ومن دون ما لديه الثناء ) معناه الثناء منَّا عليه أقل ما فيه، وعنده من الخير والمعروف أكثر مما نصف ونثني.

( إرَمِيٌّ بِمِثْلِهِ جَالَتِ الجِ

نُّ فَآبَتْ لَخِصْمِهَا الآجْلاَءُ )

( إرمي ) نسبه إلى إرم عاد، أي ملكه قديم كان على عهد إرم، وقيل: كأن هذا الممدوح من إرم عاد في الحلم، لأنه يروى إنه كان من أحلم الناس، وقال آخرون: ذهب إلى أن جسمه وشدته يُشبهان أجسام عاد وشدتهم، وقوله ( بمثله جالت الجن ) الجن في هذا الموضع: دهاة الناس وأبطالهم، وجالت: فأعلت من المجالاة، وهي المكاشفة، يقول: بمثل عمرو بن هند كاشفت الجن الناس، وآبت: رجعت وقد فلج خصمهم على كل من خاصمهم، والأجلاء: جمع جلا، والجلا: الأمر المنكشف، والمعنى أن من كاشف بفخر هذا الملك انكشف أمره وتبين ؛ لأن فخره لا يخفى على أحد، فأمره مُنجل.

( مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ آيَا

تٌ ثَلاَثٌ فِي كُلِّهِنَّ القَضَاءُ )

الآيات: العلامات، وقوله ( في كلهن القضاء ) أي في كلهن يُقضى لنا بولاء الملك، ويروى ( في فصلهن القضاء ).

( آيَةٌ شَارِقُ الشّقِيقَةِ إذْ جَا

ءُوا جَمِيعاً لِكُلِّ حَيّ لِوَاءُ )

بنو الشقيقة: قوم من بني شيبان جاءوا يغيرون على إبل لعمرو ابن هند، وعليهم قيس بن معد يكرب - وهو أبو الأشعث بن قيس - فردَّتهم بنو يشكر وقتلوا فيهم، وقوله ( شارق ) معناه جاء من قبل المشرق، أي هو صاحب المشرق، وروى عن أبي عمرو إنه قال: الشقيقة صخرة بيضاء، وقوله ( لكل حي لواء ) أي هم أحياء مختلفة.

( حَوْلَ قَيْسٍ مُسْتَلْئِمِينَ بِكَبْشٍ. . . . . . . .قَرَظِىّ كَأنّهُ عَبْلاَءُ )

المستلئم: الذي قد لبس اللامة وقرظي: منسوب إلى البلاد التي ينبت بها القرظ وهي اليمن، والعبلاء ههنا: هضبة بيضاء ويروى عن أبي عمرو إنه قال: لا أعرف قيسا الذي ذكره في هذا البيت، و ( مستلثمين ) نصب على الحال، وأراد بالكبش الرئيس.

( وَصَتِيتٍ مِنَ العَوَاتِكِ مَا تَنْ

هَاهُ إلاَّ مُبْيَضَّةٌ رَعْلاَءُ )

الصتيت: الجماعة، والعواتك: نساء من كندة من الملوك.وقوله ( ما تنهاه إلا مبيضة رعلاه ) أي لا يكف هذا الجمع إلا ضرب شديد موضح عن بياض العظم، والرعلاء: الضربة المسترخية اللحم من الجانبين، وبنو العواتك خرجوا مع قيس بن معد يكرب.

( فَجَبَهْنَاهُمُ بِضَرْبٍ كَمَا يَخْ

رُجُ مِنْ خُرْبَةِ المَزَادِ المَاءُ )

الجبه: أسوأ الرد، ويروى ( فرددناهم ) والخربة هنا: عزلاء المزادة وهو مسيل الماء منها، فشبه خروج الدم ونزوه من الجرح بخروج الماء من فم تلك العزلاء، كأنه قال: مثل خروج الماء من خُربة المزاد.

( وَحَمَلْنَاهُمُ عَلَى حَزْنِ ثَهْلاَ

نَ شِلاَلاً، وَدُمِّىَ الأنْسَاءُ )

الحزن: ما غلظ من الأرض، شبَّه ما أصابهم وما حملوهم عليه من القتل بشدة هذا الحزن، وهذا مثل قول الأخطل:

لَقَدْ حَمَلَتْ قَيْسُ بْنُ عَيْلاَنَ حَرْبَنَا. . . . . . . .عَلَى يَابِسِ السِّيسَاءِ مُحْدَوْدِبِ الظَّهْرِ

وهذا قول الأصمعي، وقال أبو مالك: معناه حملناهم على حزن ثهلان بعينه، يقول: جرحناهم فركبوا حزن ثهلان على خشونته، وشلالا: معناه هرابا، وقد دُميت من الجراح أنساؤهم، و ( شلالا ) كأنه شاللناهم شلالا.

( وَفَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا عَلِمَ الل

هُ وَمَا أن لِلْحَائِنِينَ دِماءُ )

أي فعلنا بهم فعلا عظيما شديدا.وقوله ( ما أن للحائنين دماء ) أي من عصى فقد حان أجله ويُهدر دمه، ولا يطالب به.

( ثُمَّ حُجْراً أَعْنِي ابْنَ أُمِّ قَطَامٍ. . . . . . . .وَلَهُ فَارِسِيَّة خَضْرَاءُ )

حُجرا: منصوب لأنه معطوف على الهاء والميم في قوله ( فرددناهم ) وعطف الظاهر على المضمر المنصوب جيد، لأنه يتصل وينفصل، فصار المعنى: ثم رددنا حجرا، وأجرى قطام بالإعراب لما اضطر رده إلى أصل الأسماء ؛ وسبيل قطام في لغة أهل الحجاز إذا كانت اسما لمؤنث أن تكون مكسورة بغير تنوين وكان حقها أن تكون ساكنة، والعلى فيها عند أبي العباس إنها زادت على ما لا ينصرف علة فبُنبت، لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء، والعلل التي فيها أنها مؤنثة معرفة معدولة، فوجب أن تُبنى، وكسرت لالتقاء الساكنين، واختير لها الكسر لأربع جهات: إحداها أن حق كل ساكنين يلتقيان أن يحرك أحدهما إلى الكسر، وأيضا فإن الكسر من علامة المؤنث في قولك: قمت، وكلمتك، إذا خاطبت امرأة، وأيضا فإن فَعَال يعدل في الأمر في قولك ( تَرَاكِ ) أي اترك، فقد وجب الكسر كما وجب للأمر في قولك ( اصرب الرجل، وأيضا فإنه لما عدل فكان حقه أن لا ينصرف أعطى حركة ليست فيما لا ينصرف، فإن سميت به مذكرا كان بمنزلة ما لا ينصرف.يقول: الآية الثانية التي صنعنا بحُجر - وكان حجر غزا امرأ القيس أبا المنذر بن ماء السماء بجمع من كندة كثير، وكانت بكر بن وائل مع امرئ القيس، فخرجت بكر بن وائل فردَّته وقتلت جنوده - وقوله: ( وله فارسية ) أي معه كتيبة خضراء من كثرة السلاح، فارسية: أي سلاحها من عمل فارس.

( أَسَدٌ فِي اللِّقَاءِ وَرْدٌ هَمُوسٌ. . . . . . . .وَرَبِيعٌ أن شَنَّعَتْ غَبْرَاءُ )

ويروى ( إن شنعت شهباءُ ) وهي السنة الشديدة، والغبراء: السنة القليلة المطر، وشنعت: جاءت بأمر شنيع، ويروى ( أسد في السلاح ) يعني حُجرا، أي هو أسد، والهموس: الخفي الوطء، وقوله ( وربيع ) تقديره ذو ربيع، والربيع: الخصب.

( فَرَدَدْنَاهُمُ بِطَعْنٍ كَمَا تُنْ

هَزُ عَنْ جَمَّةِ الطَّوِىِّ الدِّلاَءُ )

ويروى ( جبهناهم ) أي تلقينا جباههم بطعن كما تنهز - أي كما تحرك - الدلاء لتمتلئ، ويروى ( في جمة الطوى ) وجمةُ البئر: الذي قد جمَّ فلم يُستق منه، وقال أبو مالك: جمة الماء: الموضع الذي يبلغه الماء من البئر، ولم يبلغ أكثر منه، فترى ذلك الموضع مستديرا كأنه إكليل، والعلوي: البئر المطوية.

( وَفَكَكْنَا غُلَّ امْرِئِ القَيْسِ عَنْهُ. . . . . . . .بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالعَنَاءُ )

يعني امرأ القيس بن المنذر بن ماء السماء، وهو أخو عمرو بن هند لأبيه، وكانت غسان أسرته يوم قُتل المنذر أبوه، فأغارت بكر بن وائل مع عمرو بن هند على بعض بوادي الشام، فقتلوا ملكا لغسان، واستنقذوا امرأ القيس، وأخذ عمرو ابنة ذلك الملك، وهي ميسون التي ذكرها الحارث.

( وَأَقَدْنَاهُ رَبَّ غَسَّانَ بِالمُنْ

ذِرِ كَرْهاً، إِذْ لاتُكَالُ الدِّمَاءُ )

رب غسان: هو الملك الذي تقدم ذكره أبو ميسون، ويروى ( وما تُكال الدماء ) أي ذهبت هدرا.

( وَفَدَيْنَاهُمُ بِتِسْعَةِ أَمْلاَ. . . . . . . .كٍ كِرَامٍ أَسْلاَبُهُمْ أَغْلاَءُ )

ويروى ( بتسعة أملاك ندامى ) وكان المنذر بن ماء السماء بعث خيلا من بكر بن وائل في طلب بني حُجر آكل المرار حين قُتل حُجر، فطفرت بهم بكر، وقد كانوا دنوا من بلاد اليمن، فأتى بهم المنذر بن ماء السماء، فأمر بذبحهم وهو بالحيرة، فذبحوا عند منازل بني مرينا، وكانوا ينزلون بالحيرة وهم قوم من العباد، وفي ذلك يقول امرؤ القيس بن حُجر:

أَلاَ يَا عَيْنُ بَكِّى لِي شَنِينَا. . . . . . . .وَبَكِّى للِمُلُوكِ الذّاهِبِينَا

مُلُوكٌ مِنْ بَنِي حُجْرِ بْنِ عَمْروٍ. . . . . . . .يُسَاقُونَ العَشِيَّةَ يُقْتَلُونَا

( وَمَعَ الجَوْنِ جَوْنِ آلِ بَنِي الأَوْ

سِ عَنُودٌ كَأَنّهَا دَفْوَاءُ )

الجون: ملك من ملوك كندة، وهو ابن عم قيس بن معد يكرب وكان غزا بني بكر في كتيبة خشناء، فقاتلته بنو بكر وهزمته، وأخذوا ابنه، وجاءوا به إلى المنذر، والعنود هنا: الكتيبة كأنها تعند في سيرها، والدفواء: المنحنية، يصف كثرتها، يقال: وعل أدفى، وأروية دفواء، إذا كان قرنهما يذهب نحو ذنبهما، ( ومر يتدافى ) إذا مر يتحادب، والدفواء: العُقاب، والدفواء: المائلة، وجعل الكتيبة دفواء من بغيها، يقول: كما ينقض العُقاب على الصيد كذلك تميل هذه الكتيبة من بغيها، وبنو الأوس من كندة.

( مَا جَزِعْنَا تَحْتَ العَجَاجَةِ إِذْ وَلّ

تْ بِأَقْفَائِهَا وَحَرَّ الصِّلاَءُ )

ويروى ( إذ جاءوا جميعا وإذ تلظى الصلاء ) يقول: لم نجزع حين لقينا الجون وهو في جمع كثير، وقوله ( إذ ولت بأقفائها ) معناه بأعجازها ( وحر الصلاء ) أي وقدت النار، شبَّه شدة الحرب بوقود النار.

( وَوَلَدْنَا عَمْرَو بْنَ أُمِّ أُنَاسٍ. . . . . . . .مِنْ قَرِيبٍ لَمَّ أَتَانَا الحِبَاءُ )

يريد عمرو بن حُجر الكندي، وكان جد الملك عمرو بن هند، وهند هي بنت عمرو بن حُجر آكل المُرار، وكانت أم عمرو بن حُجر أم أناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة، وعمرو بن أم أناس هذا هو جد امرئ القيس الشاعر، وقوله ( من قريب ) معناه النسب بيننا وبينه قريب ليس بالمتباعد ؛ إذ أمه بنت ذُهل بن شيبان، وهي جدة أم عمرو بن المنذر، وقوله: ( لما أتانا الحباء ) يقول: حين أتانا حباء الملك عمرو بن حُجر لما خطب إلينا ورآنا أهلا لمصاهرته.

( مِثْلُهَا يُخْرِجُ النَّصِيحَةَ لِلْقَوْ

مِ فَلاَةٌ مِنْ دُونِهَا أَفْلاَءُ )

أي مثل هذه القرابة بيننا وبينك أيها الملك يُخرج نصيحتنا لك، ثم قال: ( فلاة من دونها أفلاء ) معناه نصيحة كثيرة واسعة مثل الفلاة التي دونها أفلاء كثيرة، فالأفلاء على هذه الرواية: جمع فلا، وفلا: جمع فلاة، ويروى ( فلاء من دونها أفلاء ) أي يتولد من النصيحة مثل الفلاء، وهو جمع فلو، والفلو يُخدع بالشيء بعد الشيء حتى يسكن ثم يُفلى عن أمه، أي يُفطم، ويروى فلاةٌ وفلاةً بالرفع والنصب، فمن نصب فعلى الحال كأنه قال: مثل فلاة واسعة، ومن رفع فعلى إضمار مبتدأ، كأنه قال: هي فلاة من دونها أفلاء.هذا آخر القصائد السبع، وما بعدها المزيد عليها^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي