شرح القصائد العشر/معلقة امرئ القيس

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

معلقة امرئ القيس

معلقة امرئ القيس - شرح القصائد العشر

معلقة امرئ القيس قال امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الملك بن عمرو المقصور - الذي اقتصر على ملم أبيه - ابن حجر آكل المُرَار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن مرتع، وقال قوم: ابن معاوية بن ثور بن مرتع، وإنما سمي مرتعا لأنه كان من أتاه من قومه رتعه، أي جعل له مرتعا لماشيته - وهو عمرو بن معاوية بن ثور، وهو كندة بن عفير - وإنما سمى كندة لأنه كند أباه نعمته، ويكنى أبا الحارث.

( قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبِ وَمَنْزِلِ. . . . . . . .بِسُقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ )

هو من الضرب الثاني من الطويل، والقافية متدارك.السقط: ما تساقط من الرمل، وفيه ثلاث لغات: سِقْط، وسَقْط، وسُقْطٌ.واللوى: حيث يسترق الرمل، فيخرج منه إلى الجدد.وقوله ( قفا ) فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن يكون خاطب رفيقين له.والثاني: أن يكون خاطب رفيقا واحدا فثنى ؛ لأن العرب تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، قال الله تبارك وتعالى مخاطبا لمالك: ( ألقيا في جَهَنَّمَ ) وقال الشاعر:

فإن تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ انْزَجِرْ. . . . . . . .وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا

أَبِيتُ عَلَى بَابِ القَوَافِي كَأَنَّمَا. . . . . . . .أُصَادِي بِهَا سِرْباً مِنَ الوَحْشِ نُزَّعَا

وقال الآخر:

فَقُلْتُ لِصَاحِبي: لاَ تَحْبِسَانَا. . . . . . . .بِنَزْعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا

والعلة في هذا أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان، وأقل الرفقة ثلاثة، فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه لصاحبه، قالوا: والدليل على ذلك إنه خاطب الواحد، والبصريون ينكرون هذا ؛ لأنه إذا خاطب الواحد مخاطبته الاثنين وقع الإشكال.وذهب المبرد في قوله تعالى: ( ألْقِيَا في جَهَنَّم ) إلى إنه ثناه للتوكيد، معناه ألق ألق، وخالفه الزجاج فقال: ألقيا مخاطبة الملكين وكذلك ( قفا ) إنما هو مخاطبة صاحبيه.والقول الثالث: إنه أراد قفن بالنون فأبدل الألف من النون، وأجرى الوصل مجرى الوقف، وأكثر ما يكون هذا في الوقف.و ( نبك ) مجزوم لأنه جواب الأمر، والجيد أن يقال: نبك جواب شرك مقدَّر، كأن التقدير قفا أن تقفا نبك ؛ لأن الأمر لا جواب له في الحقيقة.ألا ترى أنك إذا قلت للرجل ( أطع الله يُدخلك الجنة ) معناه أطع الله أن تطعه يُدخلك الجنة، لأنه لا يدخل الجنة بأمرك، إنما يدخلها إذا أطاع الله.و ( ذكرى ) والذكر واحد، وقوله: ( من ذكرى ) من تتعلق بنبك، وذكرى جر بمن، وهي مضافة إلى الحبيب.والمنزل: نسق على الحبيب، والباء من قوله: ( بسقط اللوى ) يجوز أن تتعلق بقفا وبنبك وبقوله منزل.وقوله: ( بين الدخول فحومل ) دخول: موضع، وحومل: موضع آخر.وكان الأصمعي يرويه ( بين الدخول وحومل ) ويقول: لا يقال المال بين زيد فعمرو، إنما يقال: بين زيد وعمرو، ومن رواه ( فحومل ) بالفاء يقول: أن الدخول موضع يشتمل على مواضع، وكذلك حومل، فلو قلت: عبد الله بين الدخول - تريد بين مواضع الدخول - تم الكلام، كما تقول: دورنا بين مصر، تريد بين أهل مصر ؛ فعلى هذا عطف بالفاء، وأراد بين مواضع الدخول وبين مواضع حومل.

( فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا. . . . . . . .لمِاَ نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ )

تُوضح والمقراة: موضعان، وهذه المواضع التي ذكرها ما بين إمرة إلى أسود العين، وأسود العين: جبل، وهي منازل كلاب.وموضع ( توضح والمقراة ) جر عطف على حومل، والمقراة في غير هذا الموضع: الغدير الذي يجتمع فيه الماء، من قولهم ( قريت الماء في الحوض ) إذا جمعته.ومعنى قوله ( لم يعف رسمها ) قال الأصمعي: أي لم يدرس لما نسجته من الجنوب والشمال، فهو باق ونحن نحزن، ولو عفا لاسترحنا، وهذا كقول ابن أحمر.

أَلاَ لَيْتَ المَنَازِلَ قَدْ بَلِينَا. . . . . . . .فَلاَ يَرْمِينَ عَنْ شَزَنٍ حَزِينَا

أي فلا يرمين عن تحرف وتشدد.يقال ( شزن فلان ثم رمى ) أي تحرف في أحد شقيه، وذلك أشد لرميه.ويقال شَزَنٌ وشُزُنٌ بمعنى واحد.ومعنى البيت ليتها بليت حتى لا ترمى قلوبنا بالأحزان والأوجاع، وكان الأصمعي يذهب إلى أن الريحين إذا اختلفتا على الرسم لم تعفواه، ولو دامت عليه واحدة لعفته ؛ لأن الريح الواحدة تسفي على الرسم فيدرس، وإذا اعتورته ريحان فسقت عليه إحداهما فغطته ثم هبت الأخرى كشفت عن الرسم ما سفت الأولى.وقيل: معناه لم يعف رسمها للريح وحدها، وإنما عفا للمطر والريح وغير ذلك.وقيل: معناه لم يعف رسمها من قلبي وهو في نفسه دارس، يقال: عفا الشيء يعفو عَفْواً وعُفُواً وعفاء ؛ إذا درس، وعفاه غيره: درسه.وقوله: ( لما نسجتها ) ما في معنى تأنيث، والتقدير للريح التي نسجت المواضع، الهاء تعود على الدخول وحومل وتوضح والمقراة، ونسجت: صلة ما، وما فيه من الضمير يعود على ما، ومثله:

أَلِفَ الصُّفُونَ فَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ. . . . . . . .مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسيراً

أي كأنه من الخيل التي تقوم على الثلاث، أو من الأجناس التي تقوم على الثلاث، ويروى ( لما نسجته ) ' والهاء تعود على الرسم.وقال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون ما في معنى المصدر، يذهب إلى أن التقدير لنسجها الريح، أي للتي نسجتها الريح، ثم أتى بمن مفسرة فقال ( من جنزب وشمأل ) ؛ ففي نسجت ذكر الريح ؛ لأنه لما ذكر المواضع والنسج والرسم دلت على الريح، فكنى عنها لدلالة المعنى عليها، ولم يجرأ أبو العباس أحمد بن يحيى أن يكون ما في معنى المصدر قال: لأن الفعل يبقى بلا صاحب، كأن أبا العباس لم يجز أن يكون في نسجت ذكر الريح، وفي الشمال لغات، يقال: شمال، وشمأل، وشأمل، وشَمَل، وشَمْلٌ، وشمول، قال الشاعر في الشأمل:

وَهَبَّتِ الشّأْمَلُ الْبَلِيلُ، وَإِذْ. . . . . . . .بَاتَ كَمِيعُ الْفَتَاةِ مُلْتَفِعَا

وقال آخر، وهو جرير في الشمْل بإسكان الميم:

أَتَى أَبَد مِنْ دُونِ حِدْثَانِ عَهْدِهَا. . . . . . . .وَجَرَّتْ عَلَيْها كَلُّ نَافجةٍ شَمْلِ

وقال عمر بن أبي ربيعة في الشمَل بفتح الميم:

أَلَمْ تَرْبَعْ عَلَى الطَّلَلِ. . . . . . . .وَمَغْنَى الْحَيِّ كَالخِلَلِ

تُعَفِّى رَسْمَهُ الأرْوَا

حُ مَرُّ صَباً مَعَ الشَّمَلِ

وقال ابن ميادة في الشَّمُول:

وَمَنْزِلَة أُخْرَى تَقَادَمَ عَهْدُهَا. . . . . . . .بِدِى الرِّمْثِ تَعفُوهَا صَباً وَشَمُولُ

( تَرَى بَعَر الأرْآم فِي عَرَصَاتِهَا. . . . . . . .وَقِيعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ )

الأرآم: الظباء البيض، واحدها رئم، والعرصات: جمع عرصة، وهي الساحة، والقيعان: جمع قاع، وهو الموضع الذي يُستنقع فيه الماء، وهذا البيت وما بعده مما يزاد في هذه القصيدة، قال الأصمعي: والأعراب ترويهما.

( كأَنِّي غَدَاةَ الْبَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا. . . . . . . .لَدَى سَمُرَاتِ الْحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَل )

سمرات: جمع سمرة، وهي شجرة لها شوك، يقول: لما تحملوا اعتزلت أبكى كأني ناقف حنظل، وإنما شبه نفسه به لأن ناقف الحنظل تدمع عيناه لحرارة الحنظل، والنقف: نقفك رأس الرجل بعصاً أو غيرها، قال الشاعر:

أن بِهَا أَكْتَلَ أو رِزَامَا. . . . . . . .خُوَيْرِبَيْنِ يَنْفُفَانِ الْهَامَا

يعني لصين، وخويرب: تصغير خارب، وهو سارق الإبل خاصة.وقالوا: النقف كسر الهامة عن الدماغ، وأنقفتك المخ، أي أعطيتك العظم لتستخرج مخه.وناقف الحنظل: الذي يستخرج الهبيد وهو حب الحنظل.

( وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ. . . . . . . .يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَمَّلِ )

وقوفا: منصوب على الحال، والعامل فيه قفا، كما تقول: وقفت بدارك قائما سكانهافإن قيل: كيف قال وقوفا بها صحبي والصحب جماعة، وقوله وقوفا فعل متقدم لا ضمير فيه، فلم لم يقل ( واقفا بها صحبي ) كما تقول: مررت بدارك قائما سكانها ؟.فالجواب أن الاختيار عند سيبويه فيما كان جمعا مكسرا أن تقول فيه: مررت برجُلٍ حِسانٍ قومُه، فإن كان مما يجمع جمع السلامة كان الاختيار ترك التثنية والجمع، فتقول: مررت برجل صالح قومه، كما قال زهير:

بَكَرْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فَوَجَدْتُه. . . . . . . .قعُوداً لَدَيْهِ بالصَّرِيمِ عَوَاذِلُهْ

ويجوز أن يكون قوله: ( وقوفا ) منصوبا على المصدر من ( قفا ) والتقدير: قفا وقوفا مثل وقوف صحبي، كما تقول: زيد يشرب شرب الإبل، تريد يشرب شربا مثل شرب الإبل، ويجوز أن يكون مصدرا وقع موقع الوقت لاستيقافه، كما تقول: البث على قعود القاضي، أي ما قعد، أي في قعوده، ويكون التقدير: وقت وقوف صحبي، ثم يحذف، ويكون بمنزلة قولك: رأيته قدوم الحاج، أي وقت قدوم الحاج، قالوا: ولا يجوز مثل هذا إلا فيما يعرف، نحو قولك: قدوم الحاج، وخفوق النجم، ولو قلت: لا أكلمك قيام زيد، تريد وقت قيام زيد، لم يجز ؛ لأنه لا يعرف، وموضع ( صحبي ) رفع بوقوف، وعلىَّ: يتعلق بوقوف، وواحد الصحب صاحب مثل تجر وتاجر.وواحد المطي مطية، والمطية: الناقة، سميت مطية لأنها يركب مطاها، أي ظهرها، وقيل: سميت مطية لأنها يمطي بها في السير أي يجد بها في السير، ووزن مطية من الفعل فعيلة أصلها مطيوة، فلما اجتمعت الواو والياء في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقوله ( لا تهلك أسى وتجمل ) الأسى: الحزن، يقال: أسيت على الشيء آسى أسى شديدا، إذا حزنت عليه، ونصب أسىً على المصدر ؛ لأن قوله لا تهلك أسىً في معنى لا تأس، فكأنه قال: لا تأس أسىً، هذا قول الكوفيين، وقال البصريون: نصب أسىً لأنه مصدر وضع في موضع الحال، والتقدير عندهم: لا تهلك آسيا، أي جزينا، والمعنى لا تظهر الجزع، ولكن تجمَّل وتصبَّر وأظهر للناس خلاف ما في قلبك من الحزن والوجد لئلا تشمت بك العواذل والعداة، ولا يكتئب لك الأو داء.

( وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ. . . . . . . .فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ ؟ )

روى سيبويه هذا البيت ( وإن شفاءا عبرة ) واحتج فيه بأن النكرة يخبر عنها بالنكرة، ويروى ( وإن شفائي عبرة لو سفحتها ) أي صببتها، والعبرة: الدمعة، والعُبْر والعَبَر: سُخنة العين، ومهراقة: مصبوبة من ( هرقت الماء، فأنا أهريقه ) بمعنى أرقت، ووزن أرقت أفلت، وعين الكلمة محذوفة، كان أصلها أريقت على وزن أفعلت، وهو فعل معتل العين تقول في الثلاثي منه: راق الماء يريق، فالألف في راق منقلبة عن ياء، وأصله ريق على وزن فعل، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما أعلوها في الثلاثي وجب إعلاها في الرباعي، فإذا قالوا: أرقت الماء فالأصل أريقت، ثم نقلوا حركة الياء إلى الراء وسكنت الياء، فقلبوها ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فاجتمع ساكنان الألف والقاف، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصا أرقت، وقالوا في المستقبل: أريقه، والأصل أُأَريقه مثل أدحرجه، فنقلوا حركة الياء إلى الراء وسكنت الياء فصار أأريقه، ثم حذفوا احدى الهمزتين لاستثقالهم الجمع بينهما فصار أريقه، ومن العرب من يبدل من الهمزة الهاء فيقولون: هرقت الماء، وقالوا في المستقبل: أهريقه، ولم يحذفوا الهاء ؛ لأنه لم يجتمع فيه مثلان كما اجتمع في أُأَريقه، واحتاجوا إلى حذف أحدهما، وقالوا: أهرقت الماء فأنا أهريقه بسكون الهاء في الماضي والمستقبل جميعا، فالهاء في المسألة الأولى مفتوحة في الماضي والمستقبل لأنها فاء الكلمة، وفي هذه المسألة الأخيرة زائدة، وإنما زادوها ليكون جبرا لما دخل الكلمة من الحذف، كما زادوا السين في أسطاع يسطيع، بمعنى أطاع يطيع، ليكون جبرا لما دخل الكلمة من التغيير، لأن أصلها أطوع يطوع، والرسم: الأثر، والمعول: يحتمل تفسيرين ؛ أحدهما أن يكون معول موضع عويل، أي بكاء، كأنه قال: هل عند رسم دارس من مبكى ؟ أخذ من العويل وهو الصياح، يقال: قد أعول الرجل فهو معول، إذا فعل ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بالمعول موضعا ينال فيه حاجته، كما تقول: معوَّلنا على فلان، ومعول: محمل، يقال: عول على فلان، أي احمل عليه، يقول: فهل يحمل على الرسم ويعول عليه بعد دروسه ؟فإن قيل: كيف قال في البيت الأول ( لم يعف رسمها ) فأخبر أن الرسم لم يدرس وقال في هذا البيت ( فهل عند رسم دارس ) ؟قيل له: في هذا غير قول، قال الأصمعي: معناه قد درس بعضه ولم يدرس كله، كما تقول: درس كتابك، أي ذهب بعضه وبقى بعضه، وقال أبو عبيدة: رجع فأكذب نفسه بقوله: ( فهل عند رسم دارس من معول ؟ )، كما قال زهير:

قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُهَا القِدَمُ. . . . . . . .بَلَى، وَغَيَّرَهَا اْلأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ

وقيل: ليس قوله في هذا البيت ( فهل عند رسم دارس ) مناقضا لقوله ( لم يعف رسمها ) لأن معناه لم يدرس رسمها من قلبي وهو في نفسه دارس.وقالوا: أراد زهير في بيته قف بالديار التي لم يعفها القدم من قلبي، ثم رجع إلى معنى الدروس فقال: بلى وغيرها الأرواح والديم.

( كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا. . . . . . . .وَجاَرَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ )

كدأبك: أي كعادتك، وروى أبو عبيدة ( كدينك ) والدين هنا بمعنى الدأب والعادة، والكاف متعلقة بقوله: قفا نبك، كأنه قال: قفا نبك كعادتك في البكاء، والكاف في موضع نصب، والمعنى بكاء مثل عادتك، ويجوز أن تكون الكاف متعلقة بشفائي، ويكون التقدير: كعادتك في أن تشتفي من أم الحويرث، والباء في قوله ( بمأسل ) متعلقة بقوله كدأبك، كأنه قال: كعادتك بمأسل، ومأسل: موضع، وأم الحويرث: هي هر أم الحارث بن حصين بن ضمضم الكلبي، وأم الرباب: من كلب ايضا، يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها، وقيل: المعنى إنك أصابك من التعب والنصب من هذه المرأة كما أصابك من هاتين المرأتين.

( إذا قَامَتَا تَضَوّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا. . . . . . . .نَسِمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ )

المسك يذكر ويؤنث، وكذلك العنبر، وقيل: من أنث إنما ذهب به إلى معنى الريح، ومن أنث فروايته ( تضوع المسك منهما ) يريد تتضوع، فحذف إحدى التاءين، ومعنى تضوع أي فاح متفرقا، ونصب ( نسيم الصبا ) لأنه قام مقام نعت لمصدر محذوف، التقدير: تضوع المسك منهما تضوعا مثل نسيم الصا، وقيل: نسيم نصب على المصدر، كأنه في التقدير تنسم تنسُّم الصبا، ونسيم الصبا: تنسمها، وريا القرنفل: رائحته، ولا يكون الريا إلا ريحا طيبة، ويروى ( إذا التفتت نحوي تضوع ريحها، البيت ) وجعل ابن الانباري ( جاءت ) صلة الصبا، وقال: إنما جاز أن توصل الصبا لأن هبوبها يختلف فيصير بمنزلة المجهول، فتوصل كما توصل الذي، قال الله عز وجل: ( كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً )، فيحمل صلة الحمار، والتقدير: كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا، وهذا الذي يذكره ينكره البصريون ؛ لأنهم قالوا: أنا لا نجد في كلام العرب اسما موصولا محذوفا وصلته مبقاة، ويجعلون مثل هذا حالا، فإذا كان الفعل ماضيا قدَّروا معه قد.

( فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ مِنِّى صَبَابَةً. . . . . . . .عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مْحَمَلِي )

فاضت: سالت، والصبابة: رقة الشوق، يقال: صببت أصب، قال الشاعر:

يَصَبُّ إلى الْحَيَاةِ وَيَشْتَهِيهَا. . . . . . . .وَفِي طولِ الْحَيَاةِ لَهُ عَنَاءُ

والمحمل: السير الذي يحمل به السيف، والجمع حمائل على غير القياس، وليس لها من لفظها واحد، ولو كان لها واحد من لفظها لكان حميلة، ولكنها لم تسمع، قال الشاعر في المحمل:

فَارْفَضَّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهْرِ المِحْمَلِ

ونصب ( صبابة ) لأنه مصدر وضع موضع الحال كقولك: زيد مشيا، أي ماشيا، ومثله قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ أن أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ) أي غائرا، ويجوز أن يكون نصب ( صبابة ) على إنه مفعول له.ومما يسأل عنه في هذا البيت أن يقال: كيف يلل الدمع محمله وإنما المحمل على عاتقه ؟فيقال: قد يكون منه على صدره، فإذا بكى وجرى الدمع عليه ابتل.

( أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنّ صَالِحٍ. . . . . . . .وَلاَسِيمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ )

ألا: افتتاح للكلام، ورُبَّ فيها لغات، أفصحهن ضم الراء وتشديد الباء، ومن العرب من يضم الراء ويخفف الباء، فيقول: رُبَ رجل قائم، ويروى عن عاصم إنه قال: قرأت على زر بن حُبيش ( رُبَّما ) بالتشديد، فيقال: انك لتحب الرُّبَّ، ربما مخففة، ومن العرب من يفتح الراء ويشدد الباء فيقول: رَبَّ رجل قائم، وزعم الكسائي إنه سمع التخفيف في المفتوحة، ومن العرب من يدخل معها تاء التأنيث ويشدد الباء، ويجوز تخفيفها مع تاء التأنيث فيقول: رُبَة رجل قائم.والمعنى ألا رب يوم لك منهن سرور وغبطة.والسيُّ: المثل، ودارة جلجل: موضع، ويروى ولاسيما يومٍ ويومٌ بالجر والرفع فمن جره جعل ما زائدة للتوكيد، وهو الجيد، ومن رفعه جعل ما بمعنى الذي وأضمر مبتدأ، والمعنى: ولاسيما هو يوم، وهذا أقبح جدا ؛ لأنه حذف اسما منفصلا من الصلة، وليس هذا بمنزلة قولك: الذي أكلت خبز ؛ لأن الهاء متصلة فحسن حذفها، ألا ترى إنك لو قلت ( الذي مررت زيد ) تريد الذي مررت به زيد ؛ لم يجز.فأما نصب سي فبلا، ولا يجوز أن يكون مبنيا مع لا ؛ لأن لا لا يبني مع المضاف، لأن ما يبنى مشبه بالحروف، ولا تقع الإضافة في الحروف، فإذا أضفت المبني زال البناء، ولا يجوز أن تقول: ما جاءني القوم سيما زيد، حتى تأتي بلا، وحكى الأخفش إنه يقال ( لاسيما ) مخففا.ومعنى قوله ( ولاسيما يوم بدارة جلجل ) التعجب من فضل هذا اليوم، أي هو يوم يفضل سائر الأيام، وقال هشام ابن الكلبي: دارة جلجل عند غمر كندة، وقال الأصمعي وأبو عبيدة: دارة جلجل في الحمى، ويقال: دار، ودارة، وغدير، وغديرة، وإزار، وإزارة، ويروى ( ألا رب يوم صالح لك منهم ).فإن قيل: كيف جاز أن يقال ( منهم ) وهن نساء ؟فالجواب أن يقال: كأنه عناهن وعنى أهلهن، فغلب المذكر على المؤنث، ويروى ( صالح لم منهما ) وأجود الروايات ( ألا رب يوم لك منهن صالح ) على ما فيه من الكف، وهو حذف النون من مفاعلين.

( وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي. . . . . . . .فَيَا عَجَبَا مِن رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ )

العذارى: جمع عذراء، يقال: عذراء وعذار وعذارى ؛ فعذار منون في موضع الرفع والجر وغير منون في موضع النصب، وإذا قلت عذارى فالألف بدل من الياء لأنها أخف منها.فإن قال قائل: فلم لا أبدل الياء في قاض ألفا ؟فزعم الخليل أن عذارى إنما أبدلت من الياء منه الألف لأنه لا يشكل إذ كان ليس في الكلام فعال، ولم تبدل الياء في قاض فيقال قاضا، لانه في الكلام فاعل نحو طابق وخاتم.فإن قال قائل: فلم لا تنون عذارى في موضع الرفع والجر، كما تفعل في عذارٍ ؟فالجواب في هذا أن سيبويه زعم أن التنوين في عذارٍ وما أشبهها عوض من الياء، فإذا جئت بالألف عوضا من الياء لم يجز أن تعوض من الياء شيئا آخر.وزعم أبو العباس محمد بن يزيد أن التنوين في عذارٍ وما أشبهها عوض من الحركة ؛ فإذا كان عوضا من الحركة والألف لا يجوز أن يحرَّك، فكيف يجوز أن يدخل التنوين عوضا من الحركة فيما لا يحرك ؟وقوله ( فيا عجبا ) الألف بدل من الياء، كما تقول: ( يا غلاما أقبل ) تريد يا غلامي.ويقال: كيف يجوز أن ينادى العجب وهو مما لا يجيب ولا يفهم ؟فالجواب في هذا أن العرب إذا أرادت أن تعظم أمر الخبر جعلته نداء، قال سيبويه: إذا قلت يا عجبا كأنك قلت تعال يا عجب فإن هذا من إبانك ؛ فهذا أبلع من قولك تعجبت، ونظير هذا قولهم ( لا أرينك هاهنا ) ؛ لأنه قد علم إنه لا ينهى نفسه، والتقدير: لا تكن هاهنا فإنه من يكن هاهنا أره، وقال الله عز وجل ( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) فقد علم إنه لا ينهاهم عن الموت، والتقدير والله أعلم: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت، وكذلك قوله ( يا عجبا ) قد علم إنه لا ينادى العجب، فالمعنى انتبهوا للعجب.وقوله ( يوم عقرت ) يوم: في موضع جر معطوف على يوم الذي يلي سيما، ومن رفع فقال ( ولاسيما يوم ) فموضع يوم الثاني رفع، وإنما فتح لأنه جعل يوما وعقرت بمنزلة اسم واحد، وكذلك ظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأفعال الماضية أو اسم غير متمكن بنيت معها، نحو ( أعجبني يوم خرج زيد ) ونحو ما أنشد سيبويه:

عَلَى حِينَ ألْهى النَّاسَ جُلُّ أَمُورِهِمْ. . . . . . . .فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثّعَالِبِ

ويجوز أن يكون يوم منصوبا معربا كأنه قال: اذكر يوم عقرت ؛ ففي إعراب ( يوم ) ثلاثة أوجه: النصب بفعل مضمر، والجر عطفا على اليوم الذي قبله، والثالث أن يكون مرفوع الموضع مبني اللفظ لإضافته إلى فعل مبنى، وعند الكوفيين يجوز أن تُبنى ظروف الزمان مع الفعل المستقبل، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأن المستقبل معرب.ومن خبر هذا اليوم أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها: ( عُنيزة ) وكان يحتال في طلب الغرة من أهلها، فلم يمكنه ذلك، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، احتمل الحي، فتقدم الرجال وخلَّفوا النساء والعبيد والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلَّف بعد قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مرت به النساء، وإذا فتيات فيهن عنيزة، فعدلن إلى الغدير ونزلن، وتحيز العبيد عنهن، ودخلن الغدير، فأتاهن امرؤ القيس - وهن غوافل - فأخذ ثيابهن ثم جمعها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو ظلت في الغدير إلى الليل حتى تخرج كما هي متجردة فتكون هي التي تأخذ ثوبها، فأبين عليه، حتى ارتفع النهار وخشين أن يقصرن دون المنزل الذي يردنه، فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فمشت إليه فأخذته ولبسته، ثم تتابعن على ذلك، حتى بقيت عنيزة، فناشدته الله أن يضع ثوبها، فقال لها: لا والله لا تمسينه دون أن تخرجي عُريتنة كما خرجن فنظر إليها مُقبلة ومُدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته ولبسته، فأقبلت النسوة عليه، وقلن له: غدِّنا فقد حبستنا وجوَّعتنا، فقال: أن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها ؟ قلن: نعم، فاخترط سيفه فعرقبها، ثم كشطها، وجمع الخدم حطبا كثيرا، وأجج نارا عظيمة، وجعل يقطع لهن من كبدها وسنامها وأطايبها فيرميه على الجمر، وهن يأكلن ويشربن من فضلة كانت معه في ركوة له، ويغنيهن وبنبذ إلى العبيد من الكباب، حتى شبعن وشبعوا وطربن وطربوا، فلما ارتحلوا قالت إحداهن: أنا أحمل حشيته وأنساعه، وقالت الأخرى: أنا أحمل طنفسته، فتقسمن متاع راحلته بينهن، وبقيت عنيرة لم يحملها شيئا، وقال: ليس لك بد من أن تحمليني معك ؛ فإني لا أطيق المشي ولم أتعوده، فحملته على بعيرها، فلما كان قريبا من الحي نزل، فأقام حتى إذا جنه الليل أتى أهله ليلا.وقوله ( فيا عجبا لرحلها المتحمل ) أي العجب لهن ومنهن كيف أطقن حمل الرجل في هوادجهن ؟ وكيف رحلن إبلهن على تنعمهن ورفاهة عيشهن ؟

( فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا. . . . . . . .وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ )

يرتمين: يناول بعضهن بعضا، والهداب والهدب واحد، وهو طرف الثوب الذي لم يستتم نسجه، والدمقس: الحرير الأبيض، ويقال: هو القز، وهو المدقس أيضا، وقيل الدمقس والمدقس كل ثوب أبيض من كتان أو إبريسم أو قز، وشبه شحم هذه الناقة وهؤلاء الجواري يترامينه - أي يتهادينه - يهداب الدمقس، وهو غزل الإبريسم المفتول، والمفتل بمعنى المفتول، إلا أنك إذا قلت ( مفتول ) يقع للقليل والكثير، وإذا قلت ( مفتل ) لم يكن إلا للكثير، ويقال: ظلَّ يفعل كذا، إذا فعله نهارا، وبات يفعل كذا، إذا فعله ليلا، وأصل ظلَّ ظلل، فكرهت العرب الجمع بين حرفين متحركين من جنس واحد، فأسقطوا حركة الحرف الأول وأدغموه في الثاني، والعذارى: اسم ظل، ويرتمين: خبرها، والكاف في قوله ( كهداب ) في موضع جر ؛ لأنها نعت للشحم، أي مثل هُدَّاب.

( وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَة. . . . . . . .فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ ! إِنَّكَ مُرْجِلِي )

قوله ( ويوم ) معطوف على قوله ( يوم عقرت ) ويجوز فيه ما جاز فيه، والخدر: الهودج، ويروى ( ويوم دخلت الخدر يوم عنيزة ) فعنيزة على هذه الرواية: هضبة سوداء بالشحر ببطن فلج، وعلى الرواية الأولى اسم امرأة، وقوله ( لك الويلات ) دعاء عليه، و ( مرجلي ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون المراد: أني أخاف أن تعقر بعيري كما عقرت بعيرك، والثاني - وهو الصحيح - أن يكون المراد إنها لما حملته على بعيرها ومال معها في شقها كرهت أن يعقر البعير، يقال: رَجِل الرَّجُلُ يَرْجَل، إذا صار راجلاً، وأرجله غيره، إذا صيَّره كذلك، وقال ابن الانباري: في قوله ( لك الويلات ) قولان: أحدهما أن يكون دعاء منها عليه إذ كانت تخاف أن يعقر بعيرها، والقول الآخر: أن يكون دعاء منها له في الحقيقة كما تقول العرب للرجل إذا رمى فأجاد: قاتله الله ما أرماهُ، قال الشاعر:

لَكَ الْوَيْلاَتُ أَقْدِمْنَا عَلَيْهِمْ. . . . . . . .وَخَيْرُ الطَّالِبِي التِّرَةِ الغَشُومُ

وقالت الكندية ترثي اخوتها:

هَوَتْ أُمُّهُمْ، مَاذَا بِهِمْ يَوْمَ صُرِّعُوا. . . . . . . .بِجِيْشَانِ مِنْ أَسْبَابِ مَجْدٍ تَصَرَّما ؟

فقولها ( هوت أمهم ) دعاء عليهم في الظاهر، وهو دعاء لهم في الحقيقة، وحقيقة مثل هذا إنه يجري مجرى المدح والثناء عليهم، لا الدعاء لهم.

( تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعاً:. . . . . . . .عَقَرْتَ بَعِيرِي - يَا امْرَأَ القَيْسِ - فَانْزِلِ )

الغبيط: الهودج بعينه، وقيل: قتب الهودج، وقيل: مركب من مراكب النساء، ونصب ( معا ) لأنه في موضع الحال من النون والألف، والعامل فيه مال، فأما قولك ( جئت معها ) فنصبها عند سيبويه على إنها ظرف، قال سيبويه: سألت الخليل عن قولهم ( جئت معه ) لم نصبت ؟ فقال: لأنه كثر استعمالهم لها مضافة، فقالوا: جئت معه، وجئت معه، وجئت من معه، فصارت بمنزلة أمام - يعني أنها ظرف - فأما قول الشاعر:

فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ. . . . . . . .وإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامَا

فعند أبي العباس إنه قدر مع حرفا بمنزلة في ؛ لأن الأسماء لا يسكن حرفا الإعراب منها، وقوله ( عقرت بعيري ) قال أبو عبيدة: إنما قال عقرت بعيري ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على الذكور ؛ لأنها أقوى وأضبط، والبعير يقع على المذكر والمؤنث، وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن تقول بعيري وأن تقول ناقتي ؛ لأن البعير يقع عليهما، والجملة التي هي قوله ( وقد مال الغبيط بنا معا ) في موضع الحال، وقوله ( عقرت بعيري ) مفعول تقول، وإنما مال الغبيط لأنه انثنى عليها يُقبِّلها فصارا معا في شق واحد.

( فَقُلْتُ لَهَا: سِيرِي، وَأَرْخِى زِمَامَهُ. . . . . . . .وَلاَ تُبْعِدِينِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ )

جناها: ما اجتنى منها من القبل، والمُعلِّل: الذي يعلله ويتشفى به، وابن كيسان يروى المعلَّل بفتح اللام أي الذي عُلِّل بالطيب، أي طُيِّب مرة بعد مرة، ومعنى البيت إنه تهاون بأمر الجمل في حاجته، فأمرها أن تخلي زمامه ولا تبالي ما أصابه من ذلك.

( فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ. . . . . . . .فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ )

ورواية سيبويه ( ومثلك بكرا قد طرقت وثيبا ) يريد رُبَّ مثلك، والعرب تبدل من ربَّ الواو، وتبدل من الواو الفاء لاشتراكهما في العطف، ولو روى ( فمثلك حُبلى قد طرقت ومرضعا ) لكان جيدا، على أن تنصب مثلا بطرقت وتعطف مرضعا عليه، إلا إنه لم يُرو، وألهيتها: شغلتها، يقال: ألهيت عن الشيء إلهاءاً، إذا تركته وشُغلت عنه، والمصدر بهى ولُهيا، وحكى الرياشي لهيانا، ولهوت به ألهو لهواً لا غير، وقوله ( عن ذي تمائم ) أي عن صبي ذي تمائم، أقام الصفة مقام الموصوف، والتمائم: التعاويذ، واحدتها تميمة، وتجمع تميمة على تميم، ومعنى ( محول ) أي قد أتى عليه حول، والعرب تقول لكل صغير: مُحول، ومُحيل، وإن لم يأت عليه حول، وكان يجب أن يكون محيل مثل مقيم، إلا إنه أخرجه على الأصل كما جاء استحوذ.ومعنى البيت: إنه ينفق نفسه عليها فيقول: أن الحامل والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما يرغبان فيَّ لجمالي، ويروى مُغيل، والمغيل: الذي تؤتى أمه وهي ترضعه.

( إذا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ. . . . . . . .بِشِقٍّ، وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ )

ويروى ( انحرفت له ).قال ابن الأنباري: يقول كانت تحته، فإذا بكى الصبي انصرفت بشق ترضعه، وهي تحته بعد، وإنما تفعل هذا لأن هواها معه.ويروى ( إذا ما بكى من حبها ) وقال أبو جعفر النحاس: معنى البيت إنه لما قبَّلها أقبلت تنظر إليه وإلى ولدها، وإنما يريد بقوله: ( انصرفت له بشق ) يعني أنها أمالت طرفها إليه، وليس يريد أن هذا من الفاحشة ؛ لأنها لا تقدر أن تميل بشقها إلى ولدها في وقت يكون منه إليها ما يكون، وإنما يريد إنه يقبلها وخدُّها تحته.

( وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ. . . . . . . .عَلَىَّ، وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلّلِ )

نصب ( يوما ) بتعذرت، ومعنى تعذرت امتنعت، من قولهم: ( تعذرت عليَّ الحاجة ) قال أبو حاتم: أصله من العذر، أي وجدها على غير ما يريد، وقيل: تعذرت جاءت بالمعاذير من غير عذ، يقال: تعذَّر فهو متعذر، وعذَّر فهو مُعذِّر، إذا تعلل بالمعاذير، وآلت: حلفت، يقال: إلى يُولى إيلاء وألية وأَلوة وأُلوة وإِلوة، ونصب ( حلفة ) على المصدر ؛ لأن معنى إلى حلف، والعرب تقول: هو يدعه تركا، ومعنى ( لم تحلل ) لم نقل أن شاء الله، من التحلة في اليمين، والكثيب: الرمل المجتمع المرتفع على غيره.

( أَفَاطِمَُ مَهْلاً بَعْضَ هذَا التَّدَلُّلِ. . . . . . . .وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِى فَأَجمِلِي )

قال ابن الكلبي: فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر، قال: وعامر هو الأجدار بن عوف بن عذرة، قال: ولها يقول:

لاَ وَأَبِيكِ ابنْةَ العَامِرِيّ. . . . . . . .لاَ يَدَّعِي القَوْمُ أَنِّى أفِرّْ

وإنما سمي الأجدار لجدرة كانت في عنقه وقوله: ( أزمعت صرمي ) أي عزمت عليه، والصُّرم: الهجر، والصَّرم: المصدر.وأفاطم: ترخيم فاطمة، على لغة من قال: يا حار أقبِل، والعرب تجعل الألف ياء في النداء والترخيم.وزعم سيبويه أن الحرو التي يُنبه بها - يعني ينادي بها - يا، وأيا، وهيا، وأيْ، والألف، وزاد الفراء أيْ زيد، ووازيد.ومعنى البيت إنه يقول لها: أن كان هذا منك تدلُّلا فأقصري، وان كان عن بغضة فأجملي، أي أحسني، ويقال: أجملي في اللفظ، ويقال: أدل فلان على فلان ؛ إذا ألزمه ما لا يجب عليه دالة منه عليه، وروى أبو عبيدة: ( وإن كنت قد أزمعت قتلي ).

( وَإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّى خَلِيقَةٌ. . . . . . . .فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ )

ساءتك: آذتك، والخليقة والخلق واحد.وتنسل: تسقط، يقال: نسل ريش الطائر ؛ إذا سقط، ينسل، وأنسل إذا نبت، وقوله: ( تك ) في موضع الجزم، وأصله تكون، فتحذف النون للجزم، وتبقى النون ساكنة، والواو ساكنة فتحذف الواو لسكونها وسكون النون، فيصير تَكُن، ثم حذفت النون من تكن، ولا يجوز أن تحذف من نظائرها لو قلت: ( لم يص زيد نفسه ) لم يجز حتى تأتي بالنون، والفرق بين يكون وبين نظائرها أن يكون فعل يكثر استعمالهم له، وهم يحذفون مما كثر استعمالهم له، ومعنى كثرة الاستعمال في هذا أن كان ويكون يعبَّر بهما عن كل الأفعال، تقول: كان زيد يقوم، وكان زيد يجلس، وما أشبه ذلك، فلما كثر استعمالهم لكان ويكون حذفت النون من يكن، وشبهت بحروف المد واللين فحذفت كما يحذفن، والدليل على إنها مشبهة بحروف المد واللين إنها لا تحذف في موضع تكون فيه متحركة، لا يجوز أن تقول: ( لم يك الرجل منطلقا ) لأنها في موضع حركة ؛ لأنك تقول: لم يكن الرجل منطلقا.وقوله: ( فسلي ثيابي من ثيابك ) - يعني قلبه من قلبها - أي خلصي قلبي من قلبك.

( أَغَرَّكِ مِنِّي أن حُبَّكِ قَاتِلِي. . . . . . . .وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ )

( أغرك ) أي أحملك على الغرة، وهو فعل من لم يجرب الأمور، و ( أن حبك ) في موضع رفع، كأنك قلت: أغرك مني حُبِّيك.وتأمري: في موضع جزم بمهما.قال الخليل: الأصل في مهما ( ما ما ) فما الأولى تدخل للشرط في قولك: ( ما تفعل أفعل )، وما الثانية زائدة للتوكيد، وقال الفراء: كان في مهما ما، فحذفت العرب الألف منها، وجعلت الهاء خلفا منها، ثم وصلت بما، فدلت على المعنى، وصارت هي كأنها صلة لما، وهي في الأصل اسم، وكذلك مهمن قال الشاعر:

أَمَاوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ فِي صَدِيقِهِ. . . . . . . .أَقَاوِيلَ هذا النَّاس مَاوِيَّ يَنْدَم

وقيل: معنى مه، أي كُف كما تقول للرجل إذا فعل فعلا لا ترضاه منه ( مه ) أي كف، والمعنى: فانك مهما تأمري قلبك يفعل لأنك مالكة له، وأنا ل أملك قلبي، وقال قوم: المعنى مهما تأمري قلبي يفعل لأنه مُطيع لك.

( وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْرِبِي. . . . . . . .بِسَهْمَيْكِ فيِ أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ )

ذرفت: دمعت، ومقتل: مذلل منقاد، وقوله: ( إلا لتضربي بسهميك ) يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا مُعشرا، أي مكسرا، من قولهم: بُرمة أعشار، وقدح أعشار، إذا كان قطعا، ولم يسمع للأعشار بواحد، يقول: بكيت لتجعلي قلبي تُقطعا مخرقا كما يُخرِّق الجائر أعشار البرمة، والبرمة تنجبر، والقلب لا ينجبر، ومثله:

رَمَتْكَ ابْنَةُ البَكْرِيِّ عَنْ فَرْعِ ضَالَةٍ. . . . . . . .وَهُنَّ بِنَا خُوصٌ يُخَلْنَ نَعَائِمَا

وقيل في معناه: أن هذا مثل لأعشار الجزور، وهي تقسم على عشرة أنصباء، ثم يُجال عليها بالسهام التي هي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى ؛ فالفذ له نصيب إذا فاز، والتوأم له نصيبان، والرقيب له ثلاثة أنصباء، والحلس له أربعة، والنافس له خمسة، والمسبل له ستة، والمعلى له سبعة، فقوله ( بسهميك ) يريد المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع، وروى أبو نصر عن الأصمعي إنه قال: معناه دخل حبك في قلبي كما يدخل السهم، يقول: لم تبكي لأنك مظلومة، وإنما بكيت لتقدحي في قلبي كما يقدح القادح في الأعشار، وأجود هذه الوجوه أن يكون المراد بالسهمين المعلى والرقيب ؛ لأنه جعل بكاءها سببا لغلبتها على قلبه، فكأنها حين بكت فاز سهماها، شبهها باليسر - وهو المقامر - إذا استولى بعد حين على أعشار الجزور، وذلك إنه لا يستولي على الجزور بأقل من سهمين.

( وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا. . . . . . . .تَمَتّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ )

أي رب بيضة خدر، يعني امرأة كالبيضة في صيانتها، وقيل: في صفائها ورقتها، لا يرام خباؤها لعزها.والخباء: ما كان على عمودين أو ثلاثة، والبيت: ما كان على ستة أعمدة إلى التسعة، والخيمة: ما كان على الشجر.يقول: رب امرأة مخدرة مكنونة، لا تبرز للشمس، ولا تظهر للناس، ولا يوصل اليها، وصلت إليها وتمتعت منها، أي جعلتها لي بمنزلة المتاع غير مُعجل: غير خائف، أي لم يكن ذلك مما كنت أفعله مرة أو مرتين.

( تَجَاوَزْتُ أَحْرَاساً إليها وَمَعْشَراً. . . . . . . .عَلَىَّ حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي )

أحراساً: جمع حرس ويروى ( تخطيت أبوابا إليها ) و ( أهوالا إليها ) ومعشرا: يريد قومها، ويروى ( يسرون ) بالسين غير معجمة، و ( يشرون ) بالشين معجمة، فمن رواه بالسين غير معجمة احتمل أن يكون معناه يكتمون، ويحتمل أن يكون معناه يظهرون، وهو من الأضداد، وقيل في قوله تعالى: ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ ): أن معناه اظهروا، وقيل: كتموها ممن أمروه بالكفر، وأما بالكفر، وأما ( يشرون ) فمعناه يظهرون لا غير، يقال: أشررت الثوب ؛ إذا نشرته.ومعنى البيت: أني تجاوزت الأحراس وغيرهم حتى وصلت إليها، وهم يهمون بقتلي، ويفزعون من ذلك، لنباهتي وموضعي من قومي، وقوله: ( لو يسرون مقتلي ) يريد أن يسروا.وأن تضارع لو في هذا الموضع، يقال: وددت أن يقوم عبد الله، وددت لو قام عبد الله، إلا أن ( لو ) يُرفع المستقبل بعدها، وأن تنصب الفعل المستقبل، قال الله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أن تَكُونَ لَهُ جَنَّة مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) فجاء بأن، وقال في موضع آخر: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) والمعنى ودوا أن تدهن فيدهنوا، والى تتعلق بتجاوزت، وعليَّ بحراصٍ، ومقتلي: منصوب بيسرون.

( إذا مَا الثُّرَيَّا فيِ السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ. . . . . . . .تَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصّلِ )

العامل في ( إذا ) قوله تجاوزت في البيت الذي قبله.والمعنى: تجاوزت أحراسا إليها عند تعرض الثريا في السماء في وقت غفلة رُقبائها.وقوله ( تعرضت ) معناه أن الثريا تستقبلك بأنفها أول ما تطلع، فإذا أرادت أن تسقط تعرضت، كما أن الوشاح إذا طُرح تلقاك بناحية، والوشاح: خرز يعمل من كل لون.والمُفصَّل: الذي قد فُصل بالزبرجد، وأثناء الوشاح: نواحيه ومنقطعه، والأثناء: واحدها ثِنْىٌ، وثِنًى، وثَنًى، وواحد آلاء الله إلى وإِلىً وأَلىً، وواحد آناء الليل إِنْىٌ وإِنىً وأَنىً.وأنكر قوم ( إذا ما الثريا في السماء تعرضت ) وقالوا: الثريا لا تعرض لها، وقالوا: عنى بالثريا الجوزاء ؛ لأن الثريا لا تعرض، وقد تفعل العرب مثل هذا كما قال زهير ( كأحمر عاد ) والمراد أحمر ثمود، فجعل عادا في موضع ثمود لضرورة الشعر، وقال أبو عمرو: تأخذ الثريا وسط السماء كما تأخذ الوشاح وسط المرأة، شبه اجتماع كواكب الثريا ودُنُو بعضها من بعض بالوشاح المنظم بالودع المفصل بينه، ويقال: إنها إذا طلعت طلعت على استقامة، فإذا استقامت تعرضت.

( فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابِهَا. . . . . . . .لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ المتَفَضِّلِ )

نضت: ألقت والواو في ( وقد نضت ) واو الحال، والمتفضل: الذي يبقى في ثوب واحد لينام أو ليعمل عملا، واسم الثياب الفضل، ويقال للرجل والمرأة فُضُل أيضا، والمفضل: الإزار الذي ينام فيه، يخبر إنه جاءها وقت خلوتها ونومها لينال منها ما يريد.

( فَقَالَتْ: يَمِينَُ اللهِ، مَالَكَ حِيَلةٌ،. . . . . . . .وَمَا أن أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِي )

ويرى ( ما أن أرى عنك العماية ) والعماية: مصدر عمى قلبه يعمى عمى وعماية، والغواية والغي واحد، وتنجلي: تنكشف، وجليت الشيء: كشفته، و ( يمين الله ) منصوب، بمعنى حلفت بيمين الله، ثم أسقط الحرف فتعدى الفعل، ويروى ( يمين الله ) بالرفع، ورفعه على الابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: يمين الله قسمي، أو عليَّ، و ( إن ) في قوله ( ما أن أرى عنك الغواية ) توكيد للنفي، ومعنى البيت إنها خافت أن يُظهر عليهما ويُعلم بأمرهما، فالمعنى: مالك حيلة في التخلص، ويجوز أن يكون المعنى: مالك حيلة فيما قصدت له، وقال ابن حبيب: أي لا أقدر أن أحتال في دفعك عنى.

( فَقُمْتُ بِهَا أَمْشِى تَجُرُّ وَرَاءَنَا. . . . . . . .عَلَى إِثْرِنَا أَذْيَالَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ )

ويروى ( على أثرينا ذيل مرط ) والمرط: إزار خز مُعلم، والمرحل: الذي فيه صُور الرحال من الوشي، وقوله ( أمشى ) في موضع النصب على الحال، ومعنى البيت أنها قالت له مالك حيلة هنا خرج بها إلى الخلوة ومعنى جرها أذيالها إنها تفعل ذلك لتعفى أثرهما ؛ لئلا يُقتفى أثرهما فيعرف موضعهما.

( فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى. . . . . . . .بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ )

أجزنا وجزنا بمعنى واحد، وقال الأصمعي: أجزنا قطعنا، وجزنا سرنا فيه وخلفناه، والساحة والباحة والفجوة والقروة والنالة: كلها فناء الدار، ويقال: هي الرحبة كالعرصة، وانتحى: اعترض، والخبت: بطن من الأرض غامض، ويروى ( بطن حقف ) والحقف: ما اعوج من الرمل وانثنى، وجمعه أحقاف، والقف: ما ارتفع من الأرض وغلظ، ولم يبلغ أن يكون جبلا، ويروى ( ذي ركام ) والركام: ما يركب بعضه بعضا من الكثرة، والعقنقل: المتعقد الداخل بعضه في بعض، وعقنقل الضب: بطنه المتعقد وهو كشيته وبيضه، والكشية: شحمة من أصل حلقه إلى رفعه.

( هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رَأْسِهَا فتَمايَلَتْ. . . . . . . .عَلَىَّ هَضِمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ )

جواب فلما أجزنا قوله ( هصرت بفودي، إلخ ) وذكر بعضهم أن جواب لما قوله ( انتحى بنا )، والواو مقحمة، ويجوز أن تكون الواو غير مقحمة، ويكون الجواب محذوفا، ويكون التقدير: فلما أجزنا ساحة الحي أمنا، وعلى هذا الوجه يكون رواية البيت الذي بعده: ( إذا قلت هاتى نوليني تمايلت عليَّ، البيت ) ويروى ( مددت بغصني دومة ) ودومة: شجرة، والفودان: جانبا الرأس، ومعنى ( هصرت ) جذبت وثنيت، والكشح: ما بين منقطع الأضلاع إلى الورك، والمخلخل: موضع الخلخال، يصف دقة خصرها وعبالة ساقيها، و ( هضيم الكشح ) منصوب على الحال، وكذلك ريا المخلخل، ومن روى ( إذا قلت هاتي نوليني ) فمعنى التنويل التقبيل، وهو من النوال العطية، وتكون ( إذا ) ظرف تمايلت وهو الجواب، وإذا تشبه حروف الشرط، وشبهها بها إنها ترد الماضي إلى المستقبل، ألا ترى انك إذا قلت ( إذا قمتَ قمتُ ) فالمعنى إذا تقوم أقوم، وأيضا فلأنه لابد لها من جواب كحروف الشرط، ولأنه لا يليها إلا فعل، فإن وليها اسم أضمرت معه فعلا كقول الشاعر:

إذا ابْنَ أبي مُوسَى بِلاَلاً بَلَغْتِهِ. . . . . . . .فَقَامَ بِفَأْسٍ بَيْنَ وِصْلَيْكِ جَازِرُ

والتقدير: إذا بلغت ابن أبي موسى، وروى سيبويه ( إذا ابن أبي موسى ) بالرفع، وزعم أبو العباس أن هذا غلط أن يرفع ما بعد إذا بالابتداء، ولكنه يجوز الرفع عنده على تقدير إذا بلغ ابن أبي موسى، والخليل وأصحابه يستقبحون أن يجازوا بإذا وإن كانت تُشبه حروف المجازاة في بعض أحوالها فإنها تخالفهن بأن ما بعدها يقع موقتا ؛ لأنك إذا قلت ( آتيك إذا احمر البُسر ) فهو وقت بعينه، وكذلك قوله عز وجل: ( إذا السَّماءُ انشقتْ ) وقت بعينه ؛ فلهذا قبح أن يجازى بها إلا في الشعر، قال الشاعر:

تَرْفَعُ لِي خِنْدِفٌ، وَاللهُ يَرْفَعُ لِي. . . . . . . .ناراً إذا مَا خَبَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ

و ( هضيم ) عند الكوفيين بمعنى مهضومة، فلذلك كان بلا هاء، وهو عند سيبويه على النسب، وأراد بالكشح الكشحين كما تقول: كحلت عيني، تريد عيني، وريَّا: فعلى من الريِّ، والري: انتهاء شرب العطشان، فهو عند ذلك يمتلئ جوفه، فقيل لكل ممتلئ من شحم ولحم: ريَّان.ومعنى البيت: إنه إذا قال لها نوليني تمايلت عليه بيديها ملتزمة له.

( مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ. . . . . . . .تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ )

المهفهفة: الخفيفة اللحم التي ليست برهلة ولا ضخمة البطن، والمفاضة: المسترخية البطن، وكأنه من قولهم: حديث مستفيض، والترائب: جمع تريبة، وهو موضع القلادة من الصدر، والسجنجل: المرآة، وقيل: سبيكة الفضة، وهي لفظة رومية، ورواية أبي عبيدة ( مصقولة بالسجنجل ) وقيل: السجنجل الزعفران، وقيل: ماء الذهب، ومهفهفة: مرفوعة على انها خبر مبتدأ محذوف، والكاف في قوله: ( كالسجنجل ) في موضع رفع نعت لمصدر محذوف، كأنه قال: مصقولة صقلا كصقل السجنجل، وإنما يصف المرأة بحداثة السن، ويجمع السجنجل سجاجل، ومن روى ( بالسجنجل ) فالجار والمجرور في موضع النصب بقوله: ( مصقولة ) ويجوز أن يكون في موضع نصب على أن يكون نعتا.

( تَصُدُّ وَتُبْدِى عَنْ أَسِيلٍ وَتَتَّقِى. . . . . . . .بِنَاظِرَةٍ منْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ )

أي تُعرض عنَّا وتُبدى عن خد أسيل، ليس بكَزّ، وتلقانا بناظرة - يعني عينها - ووجرة: موضع، وأراد بوحش وجرة الظباء.ويروى ( تصد وتبدي عن شتيت ) أي عن ثغر شتيت، والشتيت: المتفرق، ومطفل: ذات طفل، قال الفراء: لم يقل مطفلة لأن هذا لا يكون إلا للنساء ؛ فصار عنده مثل حائض، وهو على مذهب سيبويه على النسب، كأنه قال: ذات أطفال، والدليل على صحة قوله إنه يقال: ( مطفلة ) إذا أردت أن تأتي به على قولك ( أطفلت فهي مطفلة ) ولو كان ما يقع للمؤنث لا يشترك فيه المذكر لا يحتاج إلى الهاء فيه ما جاز مطفلة، قال الله عز وجل: ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) وقوله: ( بناظرة ) أي بعين ناظرة، قال ابن كيسان: وتتقى بناظرة مطفل، كأنه قال: بناظرة مطفل من وحش وجرة، ثم غلط فجاء بالتنوين كما قال الآخر:

رَحِمَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا. . . . . . . .بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ

تقديره: رحم الله أعظم طلحة، فغلط فنون، ثم أعرب طلحة بإعراب أعظم، والأجود إذا فُرق بين المضاف والمضاف إليه أن لا ينون كقوله:

كَأَنَّ أَصْوَاتَ مِنْ إِيغَالِهِنَّ بِنَا. . . . . . . .أَوَاخِرِ المَيْسِ إِنْقَاضُ الفَرَارِيجِ

كأنه قال: كأن أصوات أواخر الميس.وفي بيت امرئ القيس تقدير أحسن من هذا، وهو أن يكون التقدير: بناظرة من وحش وجرة ناظرة مطفل، ويحذف ناظرة ويقيم مطفلا مقامه.وكذلك قوله ( طلحة الطلحات ) كأنه قال: أعظم طلحة الطلحات، ثم حذف وأقام طلحة مقامها.ومعنى البيت أنها تُعرض عنا استحياء، وتبسم فيبدو لنا ثغرها، وتتقى أي تلقانا بعد الإعراض عنا بملاحظتها كما تلاحظ الظبية طفلها، وذلك أحسن من غنج المرأة.

( وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ. . . . . . . .إذا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطّلِ )

الجيد: العنق، والرثم: الظبي الأبيض الخالص البياض.شبه عنقها بعنق الظبية، ونصته: رفعته.والمُعطل: الذي لا حلى عليه، ومثله العُطل، وقوله: ( ليس بفاحش ) أي ليس بكريه المنظر، و ( إذا ) ظرف لقوله: ليس بفاحش.

( وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ. . . . . . . .أَثِيثٍ كَقِنْوِ النّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ )

الفرع: الشعر التام، والمتن والمتنة: ما عن يمين الصُّلْب وشماله من العصب واللحم، والفاحم: الشديد السواد، وأثيث: كثير أصل النبات، والقِنْو والقُنْو والقنا: العذق وهو الشمراخ، والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته، من العثكال والعثكول، وهو الشمراخ، وقيل: المتعثكل المتدلي.

( غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزَرَاتٌ إلى العُلاَ. . . . . . . .تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَل )

الغدائر: الذوائب، واحدتها غديرة، ومستشزرات: مرفوعات وأصل الشزز الفتل على غير جهة لكثرتها، وقوله ( إلى العلى ) إلى ما فوقها، والعقاص: جمع عقيصة، وهو: ما جمع من الشعر ففتل تحت الذوائبل، وهي مشطة معروفة يرسلون فيها بعض الشعر ويثنون بعضه، فالذي فتل بعضه على بعض هو المثنى، والمرسل: المسرح غير مفتول، فذلك قوله ( في مثنى ومرسل ) ورواية ابن الأعرابي ( مستشزِرات ) بكسر الزاي، أي مرتفعات، ويروى ( يضل العقاص ) بالياء على أن العقاص واحد، قال ابن كيسان: هو المدرى، فكان يُسترفى الشعر لكثرته، ويروى ( تضلُّ المدارى ) أي من كثافة شعرها، والمدرى: مثل الشوكة يُصلح بها شعر المرأة.

( وَكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجْدِيلِ مُخَصَّرِ. . . . . . . .وَسَاقٍ كَأَنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ )

الكشح: الخصر، واللطيف: أراد به الصغير الحسن.والعرب إذا وصفت الشيء بالحسن جعلته لطيفا، والجديل: زمام يتخذ منه السيور فيجيء حسنا لينا يتثنى، وهو مشتق من الجدل وهو شدة الخلق، ومنه الأجدل الصقر.ومنه المجادلة، والأنبوب: البردي والسقيُّ: النخل المسقى، كأنه قال كأنبوب النخل السقي، و ( الذلل ) فيه أقوال: أحدها إنه الذي قد سُقي وذلل بالماء حتى يطاوع كل من مدَّ إليه يده، وقيل: المذلل الذي يُفيئه أدنى الرياح لنعمته، وقيل: يقال: ( نخل مذلل ) إذا امتدت أقناؤه فاستوت، شبه ساقها ببردى قد نبت تحت نخل ؛ فالنخل يظله من الشمس، وذلك احسن ما يكون منه، وقيل: المعنى المذلل له الماء، وقيل: المذلَّل الماء الذي قد خاضه الناس.

( وَيُضحِي فَتِيتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا. . . . . . . .نَؤُومُ الضُّحى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ )

فتيت المسك: ما تفتت منه، أي تحات عن جلدها في فراشها، وقيل: كأن فراشها فيه المسك من طيب جسدها، لا أن أحدا فتت لها منه مسكا، واحتج بقوله ( وجدت بها طيبا وإنْ لمْ تطيب ) وقوله ( يضحي ) أي: يدخل في الضحى، كما يقال ( أظلم ) إذا دخل في الظلام، ولا يحتاج في هذا إلى خبر.ونؤوم الضحى: منصوب على أعني، وفيه معنى المدح، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الحال، ألا ترى أنك إذا قلت ( جاءني غلام هند مسرعة ) لم يجز أن تنصب مسرعة على الحال من هند، إلا على حيلة بعيدة، والعلة في هذا أن الفعل لم يعمل في الثاني شيئا، والحيلة التي يجوز عليها أن معنى قولك ( جاءني غلام هند ) فيه معنى تحثه فنصبه به.وقد روى ( نؤومُ الضحى ) على معنى هي نؤوم الضحى، ويجوز ( نَؤُومِ الضحى ) على البدل من الضمير الذي في فراشها، والضحى: مؤنثة تأنيث صيغة، وليست الألف فيها بألف تأنيث، وإنما هي بمنزلة موسى الحديد، وتصغير ضحى ضُحَىٌّ، والقياس ضُحَيَّة، إلا إنه لو قيل ضحية لأشبه تصغير ضحوة، والضحى قبل الضَّحاء، ومعنى ( عن تفضل ) بعد تفضل، وقال أبو عبيدة: لم تنتطق عن تفضل، أي لم تنتطق فتعمل وتطوف، ولكنها تتفضل ولا تنتطق، وقيل: التفضل التوشح، وهو لبسها أدنى ثيابها، والانتطاق: الاتزار للعمل.

( وَتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرِ شَثْنٍ كَأَنَّهُ. . . . . . . .أَسَارِيعُ ظَبْيٍ أو مَسَوِيكُ إِسْحِلِ )

تعطو: تناول، برخص، غير شثن: أي غير كز غليظ، وظبى: اسم كثيب، والأساريع: جمع أسروع ويسروع، وهي دواب تكون في الرمل - وقيل في الحشيش - ظهورها ملس، والإسحل: شجر له أغصان ناعمة، شبه أناملها بأساريع أو مساويك للينها.

( تَضِيُّ الظَّلاَمَ بِالْعِشَاءَ كَأَنَّهَا. . . . . . . .مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ )

المتبتل: صفة الراهب، وهو المنفرد، وقيل: إنه المنقطع عن الناس المشغول بعبادة الله، وقوله ( بالعشاء ) معناه في العشاء، وقوله ( كأنها منارة ) أي كأنها سراج منارة، وقيل: هو على غير حذف، والمعنى أن منارة الراهب تُشرق بالليل إذا أوقد فيها قنديله، والمنارة مفعلة من النور، وخص الراهب لأنه لا يطفئ سراجه، وممسى راهب: إمساء راهب.ومعنى البيت: أنها وضيئة الوجه، إذا ابتسمت بالليل رأيت لثناياها بريقا وضوءا، وإذا برزت في الظلام استنار وجهها وظهر جمالها حتى يغلب ظلمة الليل.

( إلى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيمُ صَبَابَةً. . . . . . . .إذا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ وَمِجْوَلِ )

يرنو: أي يديم النظر، والصبابة: رقة الشوق، وهو مصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله، واسبكرت: امتدت، والمراد تمام شأنها، والدرع: قميص المرأة الكبيرة، والمجول للصغيرة، أي أنها بين من يلبس الدرع وبين من يلبس المجول، أي ليست بصغيرة ولا بكبيرة، هي بينهما.فإن قيل: كيف قال ( بين درع ومجول ) وإنما هي تحتهما ؟فالجواب عن هذا أن يقال: أن المجول الوشاح، فهو يصيب بعض بدنها، والدرع أيضا يصيب بعض بدنها، فكأنها بينهما، والوجه الجيد هو الأول.

( كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضُ بِصُفْرَةٍ. . . . . . . .غَذَاهَا نَمِيرُ المَاءِ غَيْرَ مُحَللِ )

البكر هنا: أول بيض النعامة، والمقاناة: المخالطة، يقال: ما يُقانيني خلق فلان، أي ما يشاكل خلقي، وغير مُحلل: لم يُحلل عليه فيكدر، والنمير من الماء: الذي ينجح في الشاربة، وإن لم يكن عذبا، ومن روى ( غير محلل ) بكسر اللام أراد إنه قليل ينقطع سريعا، وغير: منصوب على الحال، وقوله ( كبكر المقاناة ) التقدير كبكر البيض المقاناة، وأدخل الهاء لتأنيث الجماعة، كأنه قال: كبكر جماة البيض، ونصب ( البياض ) على إنه خبر ما لم يسم فاعله، واسم ما لم يسم فاعله مضمر، والمعنى كبكر البيض الذي قوني هو البياض، كما تقول: مررت بالمعطى الدرهم، ومن روى ( البياض ) بالجر شبهه بالحسن الوجه، وفيه بعد ؛ لأنه مشبَّه بما ليس من بابه، وقد أجازوا بالمعطى الدرهم على هذا، وقال ابن كيسان: ويروى ( كبكر المقاناة البياض ) وزعم أن التقدير كبكر المقاناة بياضه، وجعل الألف واللام مقام الهاء، ومثله قوله عز وجل ( فإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأَوَى ) أي هي مأواه، وهذا كأنه مقيس على قول الكوفيين ؛ لأنهم يجيزون ( مررت بالرجل الحسن الوجه ) أي الحسن وجهه، يقيمون الألف واللام مقام الهاء، وقال الزجاج: هذا خطأ، لأنك لو قلت ( مررت بالرجل الحسن الوجه ) لم يعد على الرجل من نعته شيء، وأما قولهم: أن الألف واللام بمنزلة الهاء فخطأ ؛ لأنه لو كان هذا هكذا لجاز ( زيد الأب منطلق ) تريد أبوه منطلق، وأما قوله: ( فإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى ) فالمعنى والله أعلم هي المأوى له، ثم حذف ذلك لعلم السامع.ومعنى البيت إنه يصف أن بياضها يخالطه صفرة، وليست بخالصة البياض، فجمع في البيت معنيين: أحدهما إنها ليست خالصة البياض، والآخر إنها حسنة الغذاء.وقيل: إنه يريد بالبكر هنا الدُّرة التي لم تُثقب، وهكذا لون الدرة، ويصف أن هذه الدرة بين الماء المالح والعذب فهي أحسن ما يكون، فأما على القول الأول فإن ( غذاها ) يكون راجعا إلى المرأة، أي نشان بأرض مريئة.

( تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنِ الصّبَا. . . . . . . .وَلَيْسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاهُ بِمُنْسَلِ )

ويروى ( عن هواك ) و ( عن صباه ) والصبا: أن يفعل فعل الصبيان، يقال: صبا إلى اللهو يصبو صباءا وصبوا، والعمايات: جمع عماية، وهي الجهالة، ومنسل: منفعل من السُّلُو، وعن الأولى تتعلق بتسلت والثانية بمُنسل.

( أَلاَ رُبَّ خَصْمٍ فيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ. . . . . . . .نَصِيحٌٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرُِ مُؤْتَلِ )

الخصم يكون واحدا وجمعا ومؤنثا ومذكرا، والألوى: الشديد الخصومة، كأنه يلتوي على خصمه، والتعذال والعَذْل والعَذَل واحد، ومُؤْتل: أي مُقصر ومعنى ( رددته ) أي لم أقبل من نصحه، ومعنى ( غيرُ مُؤتل ) أي غير تارك نُصحي بجهده.

( وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ مُرْخٍ سُدُولَهُ. . . . . . . .عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُومِ لِيَبْتَلِي )

كموج البحر: يعني في كثافة ظلمته، وسدوله: ستوره، واحده سدل، و ( سدل ثوبه ) إذا أرخاه ولم يضمه، وقوله: ( بأنواع الهُمُوم ) أي بضروب الهموم ( ليبتلى ) أي لينظر ما عنده من الصبر والجزع، ويبتلى بمعنى يختبر.ومعنى البيت إنه يُخبر أن الليل قد طال عليه.وسدوله ينتصب بمُرخ، وعلىَّ يتعلق بمُرخ، وكذلك الباء في بأنواع الهموم.

( فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ. . . . . . . .وَأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ )

وروى الأصمعي: ( لما تمطى بجوزه ) ومعناه لما تمدد بوسطه، وقوله: ( وأردف أعجازا ) قال الأصمعي: معناه حين رجوت أن يكون قد مضى أردف أعجازا، أي رجع، و ( ناء بكلكل ) أي تهيأ لينهض، والكلكل: الصدر، وقال بعضهم: معنى البيت ناء بكلكه. .وتمطى بصلبه وأردف أعجازا، فقدَّم وأخر.

( أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِى. . . . . . . .بِصُبْحٍ، وَمَا اْلإصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ )

( ألا انجلى ) في موضع السكون، وشبهوا إثبات الياء فيه بإثبات الألف في قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى ) وبإثبات الألف أيضا في قوله:

إذا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا. . . . . . . .ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا

وبإثبات الياء في قوله:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأنْبَاءُ تَنْمِي. . . . . . . .بِمَا لاَقَتْ لَبونُ بَنِي زِيَادِ

وبإثبات الواو في قوله:

هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً. . . . . . . .مِنْ هَجْوَ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ

ومعنى البيت أنا معذَّب ؛ فالليل والنهار على سواء، والانجلاء: الانكشاف، ويروى ( وما الإصباح منك بأمثل ) والتقدير: وما الإصباح بأمثل منك، فمنك منوي بها التأخير ؛ لأنها في غير موضعها ؛ لأن حق ( من ) أن تقع بعد أفعل، والمعنى: إذا جاء الصبح فإني أيضا مغموم، وقيل: معنى ( فيك بأمثل ) أن جاءني الصبح وأنا فيك فليس ذلك بأمثل ؛ لأن الصبح قد يجيء والليل مظلم بعد، وفي تتعلق بأمثل.

( فَيَالَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ. . . . . . . .بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِبَذْبُلِ )

معناه كأن نجومه شدت ببذيل، وهو جبل والمغار: المحكم الفتل، وقوله ( يا لك من ليل ) فيه معنى التعجب كما يقول: ( يا لك من فارس ).

( كَأَنَّ الثُّرَبَّا عُلِّقَتْ فيِ مَصَامِهَا. . . . . . . .بِأَمْرَاسِ كَتَّانِ إلى صُمِّ جَنْدَلِ )

ويروى ( كأَنَّ نُجُوماً عُلِّقَتْ في مصامها ) والأمراس: الحبال، والجندل: الحجارة، وفيه تفسيران.أما أحدهما فانه يصف طول الليل، يقول: كأن النجوم مشدودة بحبال إلى حجارة فليست تمضى، ومصامها: موضع وقوفها، وفي والباء وإلى متعلقة بقوله: عُلِّقت.والتفسير الثاني - على رواية من يروى هذا البيت مؤخرا عند صفته الفرس - فيكون شبه تحجيل الفرس في بياضه بنجوم عُلقت في مقام الفرس بحبال كتان إلى صُم جندل، وشبه حوافره بالحجارة، والثريا: تصغير ثروى مقصورة.

( وَقِرْبَةِ أَقْوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَا. . . . . . . .عَلَى كَاهِلٍ مِنِّى ذَلُولٍ مُرَحَّلِ )

عصام القرية: الحبل الذي تحمل به ويضعه الرجل على عاتقه وعلى صدره.والكاهل: موصل العنق والظهر، يصف نفسه بأنه يخدم أصحابه.

( وَوَادٍ كَجَوْفٍ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ. . . . . . . .بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كالخَلِيعِ المُعَيَّلِ )

فيه قولان: أحدهما أن جوف العير لا ينتفع منه بشيء - يعني العير الوحشي - والقول الآخر أن الهير هنا رجل من العمالقة كان له بنون وواد خصيب، وكان حسن الطريقة، فسافر بنوه في بعض أسفارهم، فأصابتهم صاعقة فأحرقتهم، فكفر بالله، وقال: لا أعبد ربا أحرق بنيَّ، وأخذ في عبادة الأصنام، فسلّط الله على واديه نارا، والوادي بلغة أهل اليمن يقال له الجوف، فأحرقته، فما بقي منه شيء، وهو يضرب به المثل في كل ما لا بقية فيه.والخليع: المقامر، ويقال: هو الذي قد خلع عذاره فلا يبالي ما ارتكب، والمعيل: الكثير العيال، والكاف منصوبة بيعوي.

( فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا عَوَى: أن شَأْنَنَا. . . . . . . .قَلِيلُ الغِنَى أن كُنْتَ لَمَّا تَمَوَّلِ )

أي أن كنت لم تصب من الغنى ما يكفيك، وقوله: ( إنَّ شأننا قليل الغنى ) أي أنا لا أغنى عنك وأنت لا تغنى عني شيئا، أي أنا أطلب وأنت تطلب فكلانا لا غنى له، ومن رواه ( طويل الغنى ) أراد همتي تطول في طلب الغنى.

( كِلاَنَا إذا مَا نَالَ شَيْئاً أَفَاتَهُ. . . . . . . .وَمَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وَحَرْثَكَ يُهْزَلِ )

أي إذا نلت شيئا أفته، وكذلك أنت إذا أصيت شيئا أفته ( ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل ) أي من طلب مني ومنك شيئا لم يدرك مراده، وقال قوم: معنى البيت من كانت صناعته وطلبته مثل طلبتي وطلبتك في هذا الموضع مات هزالا، لأنهما كانا بواد لا نبات فيه ولا صيد.

( وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكَنَاتِهَا. . . . . . . .بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابِدِ هَيْكَلِ )

ويروى ( وكراتها ) أي في مواضعها التي تبيت فيها، والوكنات في الجبال كالتماريد في السهل، الواحدة وكنة، وهي الوقنات أيضا وقد وكن الطائر يكن ووقن يقن ووكر يكر، ومن روى ( في وكراتها ) فهو جمع الجمع، يقال: وكر، ووكر جمع، ووكرات جمع الجمع، وأغتدي: أفتعل من الغدو، والواو في ( والطير ) واو الحال، يقول: قد اغتدى في هذه الحال بفرس منجرد، أي قصير الشعرة، قيد الأوابد، والأوابد: الوحوش، وكذلك أوابد الشِّعر، وتقدير قيد الأوابد ذي تقييد الأوابد، والمعنى أن هذا الفرس من سرعته يلحق الأوابد فيصير لها بمنزلة القيد، والهيكل: الضخم.

( مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً. . . . . . . .كَجُلْمُودٍ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ )

مكر: يصلح للكر، ومفر: يصلح للفر، ومُقبل: حسن الإقبال، ومُدبر: حسن الأدبار، وقوله ( معا ) أي عنده هذا وعنده هذا، كما يقال: فلان فارس راجل، أي قد جمع هاتين، و ( حطه السيل ) حدره، ومعنى البيت إنه يصف أن هذا الفرس في سرعته بمنزلة هذه الصخرة التي قد حطها السيل في سرعة انحدارها، وأن الفرس حسن الإقبال والأدبار، و ( معا ) منصوب على الحال، و ( من عل ) من فوق.

( كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ. . . . . . . .كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ )

ويروى ( عن حاذ متنه ) أي وسطه، شبه ملاسة ظهر الفرس - لاكتناز اللحم عليه وامتلائه - بالصفاة الملساء، والصفاة والصفواء: الصخرة الملساء التي لا ينبت فيها شيء، ويقال: صفوان، وجمعه صفوان، وجمع صفاة صفا، وقد يكون الصفواء جمع صفاة كما قالوا: طرفة وطرفاء، والمتنزل: الطائر الذي يتنزل على الصخرة، وقيل: المتنزل السيل ؛ لأنه يتنزل الأشياء، وقيل هو: المطر، والحاذ والحال: موضع اللبد.

( عَلَى الذَّبْلِ جَيَّاشٍ كَأَنَّ اهْتِزامَهُ. . . . . . . .إذا جَاشَ فِيهِ حَمْيُهُ غَلْىُ مِرْجَلِ )

الذبل: الضمور، ويروى ( على الضمر )، واللجياش: الذي يجيش في عدوه كما تجيش القدر في غليانها، واهتزامه: صوته، وحميه: غليه، ويروى ( على العقب جياش ) والعقب: جرى يجيء بعد جرى، وقيل: معناه إذا حرمته بعقبك جاش، وكفى ذاك من السوط، و ( على العقب ) في موضع الحال.ومعنى البيت أن هذا الفرس آخر عدوه على هذه الحال، فكيف أوله ؟ !

( مِسَحٍّ إذا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنَي. . . . . . . .أَثَرْنَ الغُبَارَ بِالكَدِيدِ المُرَكَّلِ )

مسح: معناه يصب الجري صبا، والسابحات: اللواتي عدوهن سباحة، والسباحة في الجري: أن تدحو بأيديها دحوا، أي تبسطها، والوني: الفتور، قال الفراء: ويمد ويقصر، والكديد: الموضع الغليظ، وقيل: ما كد من الأرض بالوطء، والمركل: الذي يُركل بالأرجل.ومعنى البيت: أن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا سهلا كما يسح السحاب المطر، و ( على ) تتعلق بأثرن، وكذلك الباء في قوله ( بالكديد ) ويروى ( بالكديد السمول ) وهي الأرض الصلبة.

( يَزِلُّ الغُلاَمُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ. . . . . . . .وَيُلْوِى بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ )

ويروى ( يزل الغلام الخف ) وروى الأصمعي ( يطير الغلام ) والخِف: الخفيف، بكسر الخاء، وقال أبو عبيدة: سمعت الخَف بفتح الخاء، والصهوة: موضع اللبد، وصهوة كل شيء: أعلاه، وجمعها بما حولها، ويلوى بأثواب العنيف: أي يرمى بثيابه يذهبها ويبعدها، والعنيف: الذي ليس برفيق، والمثقل: الثقيل، وقال بعضهم: إذا كان راكب الفرس خفيفا رمى به، وإذا كان ثقيلا رمى يثيابه، والجيد أن المعنى بأثواب العنيف نفسه لأنه غير حاذق بركوبه، وقيل: معنى هذا البيت أن الفرس إذا ركبه العنيف لم يتمالك أن يصلح ثيابه، وإذا ركبه الغلام الخِف زل عنه ولم يُطقه لسرعته ونشاطه، وإنما يصلح له من يداريه.

( دَرِيرٍ كَخذْرُوفِ لوَلِيدِ أَمَرَّهُ. . . . . . . .تَتَابُعُ كَفّيْهِ بِخَيْطٍ مُوَصَّلِ )

درير: مستدلا في العدو، يصف سرعة جريه، والخذروف: الخرارة التي يلعب بها الصبيان تسمع لها صوتا، وأمره: أحكم فتله، وتتابع كفيه يريد متابعتهما بالتخرير، ويروى ( امره تقلب كفيه ) أي تقلبهما بالخرارة.ومعنى البيت أن هذا الفرس سرعته كسرعة الخذروف وخفته كخفته.

( لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ، وَسَاقَا نَعَامَةٍ،. . . . . . . .وَإِرْخَاءُ سِرْحَانٍ، وَتَقْرِيبُ تَتْفُلِ )

ويروى ( له آطلا ظبي ) وهما كشحاه، وهو ما بين آخر الضلوع إلى الورك، يقال: إطل وآطال وأيطل وأياطل، وإنما شبهه بأيطل الظبي لأنه طاو وليس بمنفضخ، وقال: ( ساقا نعامة ) والنعامة قصيرة الساقين صلبتهما، وهي غليظة ظمياء ليست برهلة، ويستحب من الفرس قصر الساق لأنه أشد لرميها بوظيفها، ويستحب منه - مع قص الساق - طول وظيف الرجل وطول الذراع ؛ لأنه أشد لدحوه أي لرميه بها، والإرخاء: جرى ليس بالشديد، وفرس مرخاء، وهي مراخي الخيل، وليس دابة أحسن إرخاء من الذئب، والسرحان: الذئب، والتقريب: أن يرفع يديه معا ويضعهما معا، والتَّتْفُل: ولد الثعلب، وهو احسن الدواب تقريبا، ويقال: تَتْفُل وتَتَفْل وتُتْفُل فإذا سميت رجلا بتَتْفُل أو تَتْفَل لم تصرفه في المعرفة ؛ لأنه على مثال تَفْعُل، وتَفَعَل، ولو سميت بِتُتْفُل انصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأنه ليس على وزن الفعل، ويقال للفرس: هو يعدو الثعلبية ؛ إذا كان جيد التقريب

( ضَلِيعٍ إذا اسْتَدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَهُ. . . . . . . .بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ )

يقال: فرس ضليع وبعير ضليع، إذا كانا قويين منتفجي الجنبين، وهي الضلاعة، ويروى عن عمر رضي الله عنه إنه قال: إذا اشتريت بعيرا فاشتره ضليعا، فإن أخطأك مخبره لم يخطئك منظره، وفرجه: ما بين رجليه، وقوله ( بضاف ) أي بذنب ضاف، وهو السابغ، ويكره من الفرس أن يكون أعزل أي ذنبه إلى جانب، وأن يكون قصير الذنب، وأن يكون طويلا يطأ عليه، ويستحب أن يكون سابغا قصير العسيب، و ( إذا ) ظرف، والعامل فيه ( سد فرجه ) وهو الجواب.

( كَأَنَّ سَرَاتَهُ لَدَى البَيْتِ قَائِماً. . . . . . . .مَدَاكُ عَرُوسٍ أو صَلاَيَةُ حَنْظَلِ )

سراته: ظهره، وإنما أراد ملاسة ظهره واستواءه، والمداك: الحجر الذي يُسحق به، والمدوك: الحجر الذي يسحق عليه، ومداك: من داكه يدوكه دوكا إذا طحنه، ويقال: صلاءة وصلاية، كما يقال: عظاءة وعظاية ؛ فمن قال عظاءة بناه على عظاء ثم جاء بالهاء، ومن قال عظاية بناه على الهاء من أول وهلة، وصلاية مشبهة بهذا.ومعناه إنه يصف هذا الفرس ويقول: إذا كان قائما عند البيت غير مسرج رأيت ظهره أملس ؛ فكأنه مداك عروس في صفائها واملاسها، وإنما قصد إلى مداك العروس دون غيره لأنه قريب العهد بالطيب، وصلاءة الحنظل ؛ لأن حب الحنظل يخرج دهنه فيبرق على الصلاءة.وروى الأصمعي ( أو صراية حنظل ) وروى ( كأن على الكتفين منه إذا انتحى ) والصراية: الحنظلة التي قد اصفرت ؛ لأنها قبل أن تصفر مغبرة، فإذا اصفرت صارت تبرق كأنها قد صُقلت، وروى أبو عبيدة ( أو صِراية حنظل ) بكسر الصاد، وقال: شبه عرقه بمداك العروس أو بصِراية حنظل، وهو الماء الذي يُنقع فيه حب الحنظل لتذهب مرارته، وهو أصفر مثل لون الحلبة، يقال: صرى يصرى صريا وصراية.

( كَأَنَّ دِمَاءَ الهَادِيَاتِ بِنَحْرِهِ. . . . . . . .عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ )

الهاديات: المتقدمات من كل شيء، ويريد بعصارة حناء: ما بقى من الأثر، والمرجل: المسرح.ومعنى البيت أن هذا الفرس يلحق أول الوحش، فإذا لحق أولها علم إنه قد أحرز آخرها، وإذا لحقها طعنها فتصيب دماؤها نحره.

( فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنّ ! َ نِعَاجَهُ. . . . . . . .عَذَارَى دَوَارٍ فيِ مُلاَءٍ مُذَيَّلِ )

عنَّ: اعترض، والسرب: القطيع من البقر، ودوار: صنم يدورون حوله، والملاء: الملاحف، واحدتها ملاءة، ومذيل: سابغ، وقيل: له هدب، وقيل: أن معناه أن له ذيلا أسود، وهذا أشبه بالمعنى ؛ لأنه يصف بقر الوحش وهي بيض الظهور سود القوائم.ومعنى البيت إنه يصف أن هذا القطيع من البقر يلوذ بعضه ببعض، وتدور كما تدور العذارى حول دوار، وهو نسك كانوا في الجاهلية يدورون حوله.

( فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ. . . . . . . .بِجِيدِ مُعَمٍّ فيِ العَشِيرَةِ مُخْوِلِ )

الكاف في قوله ( كالجزع ) في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، والجَزع - بالفتح - الخرز، وأبو عبيدة يقوله بالكسر، وهو الخرز الذي فيه سود وبياض، و ( بجيد ) أي في جيد، وهو العنق، ومعنى ( معم مُخول ) أي له أعمام وأخوال، وهم في عشيرة واحدة، كأنه قال كريم الأبوين، وإذا كان كذلك كان خرزه أصفى وأحسن يصف أن هذه البقر من الوحش تفرقت كالجزع، أي كأنها قلادة فيها خرز قد فصل بينه بالخرز، وجعلت القلادة في عنق صبي كريم الأعمام والأخوال.

( فَأَلحَقَهُ بِالهَادِيَات وَدُونَهُ. . . . . . . .جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ )

الهاديات: أوائل الوحش، وجواحرها: متخلفاتها، يقال: ( جحر ) إذا تخلف والهاء في قوله ( فألحقه ) يحتمل أن تكون للفرس، أي ألحق الغلامُ الفرسَ، ويحتمل أن يكون للغلام، أي ألحق الفرسُ الغلامَ، و ( الصرة ) قيل: الشدة، وقيل: الصيحة، وقيل: الغبار، يقول: لما لحق هذا الفرس أوائل الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق، فهي خالصة له، و ( لم تزيل ) أي لم تتفرق.

( فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ. . . . . . . .دِرَاكاً، وَلَمْ يَنْضَح بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ )

عادى: معناه والى بين اثنين في طلق، ولم يعرق، أي أدرك صيده قبل أن يعرق، وقوله ( فيغسل ) أي لم يعرق فيصير كأنه قد غسل بالماء، والفاء للعطف وليس بجواب، أي لم ينضح ولم يغسل، وقوله ( دراكا ) بمعنى مداركة، وهو مصدر في موضع الحال، قال بندار: ولم يرد ثورا ونعجة فقط، وإنما أراد التكثير، والدليل على هذا قوله ( دراكا )، ولو أراد ثورا ونعجة فقط لاستغنى بقوله فعادى.

( فَظَلَّ طُهَاةُ اللّحْمِ مِنْ بَيْنَ مُنْضِجٍ. . . . . . . .صَفِيفَ شِوَاءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ )

الطهاة: الطباخون، واحدهم طاه، والصفيف: الذي قد صُفف مرققا على الجمر، والقدير: ما طبخ في قدر، وأما خفض ( قدير ) فأجود ما قيل فيه - وأجاز مثله سيبويه - إنه كان يجوز أن يقول ( من بين منضج صفيف شواء ) فحمل قديرا على صفيف لو كان مجرورا، وشرح هذا أنك إذا عطفت اسما على اسم، وكان يجوز لك في الأول إعرابان فأعربته بأحدهما ثم عطفت الثاني عليه جاز لك أن تعربه بإعراب الأول وجاز لك أن تعربه بما كان يجوز في الأول فتقول ( هذا ضاربُ زيدٍ وعمرٍو ) وإن شئت قلت: ( هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً ) لأنه قد كان يجوز لك أن تقول: ( هذا ضاربٌ زيداً وعمراً ) وان شئت قلت: ( هذا ضاربٌ زيداً وعمرٍو ) ؛ لأنه قد كان يجوز لك أن تقول: ( هذا ضاربُ زيدٍ وعمرٍو ) فهذا يجيء على مذهب سيبويه، وأنشد:

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً. . . . . . . .وَلاَ نَاعِبٍ إِلاَّ بِشُؤْمٍ غُرَابُهَا

والمازني وأبو العباس لا يجيزان هذه الرواية، والرواية عندهما ( ولا ناعبا ) لأنه لا يجوز أن يُضمر الخافض ؛ لأنه لا يتصرف وهو من تمام الاسم، وأما القول في البيت فإن قديرا معطوف على مُنضج بلا ضرورة، والمعنى من بين قدير، والتقدير من بين منضج قدير، ثم حذف منضجا، وأقام قديرا مقامه في الإعراب.

( وَرُحْنَا يَكَادُ الطَّرْفُ يَقْصَرُ دُونَهُ. . . . . . . .مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَهَّلِ )

أراد بالطرف العين، والطرف المصدر أيضا، ومعنى قوله ( يقصر دونه ) إنه إذا نظر إلى هذا الفرس أطال النظر إلى ما ينظر منه لحسنه فلا يكاد يستوفي النظر إلى جميعه، ويحتمل أن يكون معناه إنه إذا نظر إلى هذا الفرس لم يدم النظر إليه لئلا يصيبه بعينه لحسنه.وروى الأصمعي وأبو عبيدة ( ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه ) والطرف: الكريم من كل شيء، والأنثى طلافة، وقيل: الطرف الكريم الطرفين، وقوله ( ينفض رأسه ) أي من المرح والنشاط، وقوله ( متى ما رق العين فيه تسهل ) أي متى ما نظر إلى أعلاه نظر إلى أسفله لكماله ليستتم النظر إلى جميع جسده.

( فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلَجِامُهُ. . . . . . . .وَبَاتَ بِعَيْنِي قَائماً غَيْرَ مُرْسَلِ )

في ( بات ) ضمير الفرس، وقوله ( عليه سرجه ولجامه ) في موضع النصب خبر بات، وبات الثاني معطوف على الأول، و ( بعيني ) خبره، أي بحيث أراه، وقائما: نصب على الحال، وغير مرسل: أي غير مُهمل.ومعناه إنه لما جيء به من الصيد لم يرفه عنه سرجه وهو عرق، ولم يقلع لجامه فيعتلف على التعب فيؤذيه ذلك، ويجوز أن يكون معنى فبات عليه سرجه ولجامه لأنهم مسافرون، كأنه أراد الغدو فكان معدا لذلك.

( أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيضَهُ. . . . . . . .كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيِّ مُكَلَّلِ )

ويروى ( أحار ترى ) ويروى ( أعنى على برق أريك وميضه ) يقال: ومض البرق ومضا، وأومض إيماضا، والومض: الخفى، ووميضه: خطرانه، وقوله: ( كلمع اليدين ) أي كحركتهما، والحبي: ما ارتفع من السحاب والمكلل: المستدير كالإكليل، والمكلل: المتبسم بالبرق.وقوله ( أصاح ) ترخيم صاحب، على لغة من قال: يا حار، وفيه من السؤال أن يقال: قال النحويون: لا ترخم النكرة فكيف جاز أن يرخم صاحبا وهو نكرة وقد قال سيبويه: لا يرخم من النسكرات إلا ما كان في آخره الهاء، نحو قوله:

جَارِىَ لاَ تَسْتَنْكِرِي عَذِيرِي

فالجواب عن هذا أن أبا العباس لا يجوز أن ترخم نكرة ألبتة، وأنكر على سيبويه ما قال من أن النكرة ترخم إذا كانت فيها الهاء، وزعم أن قوله:

جَارِىَ لاَ تَسْتَنْكِرٍي عَذِيرِي

إنه يريد يا أيتها الجارية، فكأنه رخم على هذا معرفة، فكذلك يقول في قوله: ( أصاح ترى ) كأنه قال يا أيها الصاحب، ثم رخم على هذا.ومما يُسأل عنه في هذا البيت أن يقال: كيف جاز أن يُسقط حرف الاستفهام، وإنما المعنى ( أترى برقا ).فإن قال قائل: أن الألف في قوله: ( أصاح ) هي ألف الاستفهام ؛ فهذا خطأ، لأنه لا يجوز أن تقول: صاحب أقبل ؛ لأنك تسقط شيئين، إلا أنك إذا قلت: ( يا صاحب ) فمعناه يا أيها الصاحب.فالجواب عن هذا أن قوله: ( أصاح ) الألف للنداء كقولك: ( يا صاح ) إلا أنها دلت على الاستفهام، إذ كان لفظها كلفظ ألف الاستفهام، وأجاز النحويون ( زيدٌ عندكَ أم عمروٌ ) يريدون أزيد عندك أم عمرو ؛ لأن أم قد دلت على معنى الاستفهام، فأما بغير دلالة فلا يجوز ؛ لو قلت: ( زيد عندك ) وأنت تريد الاستفهام لم يجز، وقد أنكر على عمر بن أبي ربيعة قوله:

ثُمَّ قَالُوا: تحِبُّهَا ؟ قُلتُ: بَهْراً،. . . . . . . .عَدَدَ الرَّمْلِ وَالحَصَى وَالتُّرَابِ

قالوا: لأنه أراد قالوا أتحبها، ثم أسقط ألف الاستفهام، وهذا عند أبي العباس ليس باستفهام، إنما هو على الإلزام والتوبيخ كأنه قال: قالوا: أنت تُحبها.

( يُضِيءُ سَنَاهُ أو مَصَابِيحُِ رَاهِبٍ. . . . . . . .أَهَانَ السَّلِيطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّلِ )

السنا: مقصور الضوء، يقال: سنا يسنو، إذا أضاء، ومصابيح: مرفوع على أن يكون معطوفا على المضمر الذي في الكاف في قوله كلمع اليدين، والمضمر يعود على البرق، وإن شئت على الوميض.ويروى ( أو مصابيحِ راهبٍ ) بالجر، على أن تعطفه على قوله كلمع اليدين، ويكون المعنى أو كمصابيح راهب.ومعنى قوله: ( أهان السليط ) أي لم يكن عنده عزيزا، يعني إنه لا يكرمه عن استعماله وإتلافه في الوقود، ولا معنى لرواية من روى ( أمال السليط ) والسليط: الزيت، وقيل: الشيرج، والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة.

( قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتِي بَيْنَ ضَارِجٍ. . . . . . . .وَبَيْنَ العُذَيْبِ، بُعْدَ مَا مُتَأَمَّلِي )

صُحبتي: بمعنى أصحابي، وهو اسم للجمع، وضارج والعذيب: مكانان، ويروى ( بين حامز وبين أكام ) وهو من بلاد غطفان، أي قعدت لذلك البرق أنظر من أين يجيء بالمطر، ومعنى قوله: ( بُعدَ ما مُتأمل ) ما أبعد ما تأملت، وحقيقته إنه نداء مضاف، فالمعنى يا بُعد ما مُتأمل، أي يا بُعد ما تأملت، وروى الرياشي ( بَعْدَ ما ) بفتح الباء، وهي تحتمل معنيين: أحدهما أن المعنى بَعُدَ ثم حذف الضمة كما يقال عَضْد في عَضُد، ويجوز أن يكون المعنى بَعْدَ ما تأملت.

( عَلاَ قَطَناً - بِالشَّيْمِ - أَيْمَنُ صَوْبِهِ. . . . . . . .وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُلِ )

وروى الأصمعي ( على قطن ) وقطن: جبل، والشيم: النظر إلى البرق، وصوبه: مطره الذي يصيب الأرض منه، وقوله: ( أيمن صوبه ) يحتمل تفسيرين: أحدهما أن يكون من اليمن، والآخر أن يكون من اليمين، و ( أيسره ) يحتمل تفسيرين: أحدهما أن يكون من اليسر، والآخر أن يكون من يسرته.ويذبل: صرفه لضرورة الشعر.ويروى ( على النباج وثيتل ).

( فأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ. . . . . . . .يَكُبُّ عَلَى الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ )

كتيفة: اسم أرض، يقول: 'فأضحى السحاب يصب الماء'، وقوله: ( يكب ) يقلبها على رؤوسها، والأذقان هنا مستعارة، وإنما يريد بها الرءوس وأعالي الشجر، والدوح: جمع دوحة، وكل شجرة عظيمة دوحة، والكنهبل: شجر معروف من العضاه ويروى ( من كل فيقة ) والفيقة: ما بين الحلبتين واسم ما بينهما: الفواق، والفواق جميعا، ويروى ( عن كل فيقة ) بمعنى بعد، وروى أبو عبيدة ( من كل تلعة ) أي مسيل الماء.

( وَمَرَّ عَلَى القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهِ. . . . . . . .فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مُنْزَلِ )

ويروى ( من كل منزل ) القنان: جبل لبني أسد، وأصل النفيان ما تطاير عن الرشاء عند الاستقاء، وهو هنا ما شذ عن معظمه.والعصم: الوعول، واحدها أعصم، والأنثى أروية والأعصم هنا: ما كان في معصمه بياض أو لون يخالف لونه، وقيل: بل سمى لوعل أعصم ؛ لأنه يعتصم بالجبال، لأنه لا يكاد يكون إلا فيها، ومن روى ( من كل منزل ) فمعناه من كل موضع تنزل هي منه، أي تهرب من السيل الكثير.

( وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ. . . . . . . .وَلاَ أُجُماً إِلاَّ مشِيداً بِجَندلِ )

ويروى ( ولا أطما ) والآجام: البيوت المسقفة، وكذلك الآطام، يقول: لم يدع أطماً إلا ما كان مشيدا بجص وصخر إنه سلم.والشيد: الجص، والمشيد: يحتمل أن يكون المبنى بالجص وأن يكون المطول، وتيماه: من أمهات القرى.

( كَأَنَّ ثَبِيراً فيِ عَرَانِينِ وَبْلِهِ. . . . . . . .كَبِيرُ أُنَاسٍ فيِ بِجَادٍ مُزَمَّلِ )

ثبير: جبل: والعرانين: الأوائل، والأصل في هذا أن يقال للأنف عرنين.والوبل: ما عظم من القطر، ورواها الأصمعي ( كان أبانا في أفانين ودقه ) وأبانان: جبل أبيض وجبل أسود، وهما لبني عبد مناف بن دارم، وأفانين: ضروب، والوةدق: المطر، والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب من وبر الإبل وصوف الغنم مخيطة، والجمع بُجد، ومزمل: ملتف.يقول: قد ألبس الوبل أبانا فكأنه مما ألبسه من المطر وغشاه كبير أناس مزمل لأن الكبير أبدا متدثر، وقال أبو نصر: شبه الجبل وقد غطاه الماء، والغثاء الذي أحاط به إلا رأسه، بشيخ في كساء مخطط، وذلك أن رأس الجبل يضرب إلى السواد، والماء حوله أبيض، وكان يجب أن يقول ( مزمل ) لأنه نعت للكبير، إلا إنه خفضه على الجوار، وحكى الخليل وسيبويه ( هذا جحر ضب خرب ) وإنما خرب نعت للجحر، قال سيبويه: وإنما غلطوا في هذا لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد، وأنهما مفردان، وحكى الخليل أنهم يقولون في التثنية ( هذان جحرا ضب خربان ) فيرجع الأعراب إلى ما يجب ؛ لأن الأول مثنى، والثاني مفرد، ومما يبين ذلك حكاية سيبويه عن العرب ( هذا حب رماني ) وإنما كان يجب أن يضيف الحب إلى نفسه، وفي البيت وجه آخر، وهو أن يكون على قول من قال: كسيت جُبة زيدا ؛ فيكون التقدير ( في بجاد مزمله الكساء ) ثم تحذف كما تقول: مررت برجل مكسوته جبة، ثم تكنى عن الجبة فتقول ( مررت برجل مكسوته ) ثم تحذف الهاء في الشعر، هذا قول بعض النحويين، وكان ابن كيسان يروى ( وكأن ) بزيادة الواو في هذا البيت وفيما بعده ؛ ليكون الكلام مرتبطا بعضه ببعض، وهذا يسمى الخزم في العروض، وإسقاط الواو هو الوجه.

( كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً. . . . . . . .مِنَ السَّيْلِ والغُثَاءِ َفِلْكَةُ مِغْزَلِ )

روى الأصمعي ( كأن طمية المجيمر غدوة ) والمجيمر: أرض لبني فزارة، وطمية: جبل في بلادهم.يقول: قد امتلأ المجيمر فكأن الجبل في الماء فلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء، ورواه الفراء ( من السيل والأغثاء ) جمع الغثاء، وهو قليل في الممدود، قال أبو جعفر: من رواه ( الأغثاء ) ' فقد أخطأ ؛ لأن غثاء لا يجمع على أغثاء، وإنما يجمع على أغثية ؛ لأن أفعلة جمع الممدود، وأفعالا جمع المقصور نحو رحا وأرحاء، والذرى: الأعالي، والواحدة ذروة، ويروى ( كأن قليعة المجيمر ).

( وَأَلْقَى بِصَحْرَاءِ الغَبِيطِ بَعَاعَهُ. . . . . . . .نُزُولَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ )

صحراء الغبيط: الحزن، وهي أرض بني يربوع، والغبيط: نجفة يرتفع طرفها ويطمئن وسطها، وهي كغبيط القتب.وقالوا: لم يرد أرض بني يربوع خاصة.أراد الغبيط من الأرض، وكل أرض منخفضة فهي غبيط، وبعاعه: ثقله، ويروى ( المحمَّل ) و ( المحمِّل ) بفتح الميم وكسرها، فمن فتح الميم جعل اليماني جملا، ومن كسرها جعله رجلا، وشبه السيل به لنزوله في هذا الموضع، ونزول: منصوب على تقدير نزولا مثل نزول، وروى الاصمعي ( كصرع به ما أخرج المطر من ذلك النبت، ويروى ( كصوع اليماني ) أي كطرحه الذي معه إذا نزل بمكان، وقال بعضهم: الصوع الخطوط، يقال: صاع يصوع.

( كَأَنَّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً. . . . . . . .صُبِحْنَ سُلاَفاً مِنْ رَحِيقٍ مُفَلْفَلِ )

المكاكي: جمع مُكاء، وهو طائر كثير الصفير، والجواء: البطن من الأرض العظيم، وقد يكون الجواء جمعا واحده جوٌّ، وصُبحن: من الصُّبوح وهو شرب الغداة، والسُّلاف: أول ما يُعصر من الخمر، والرحيق: الخمر، وقالوا: صفوة الخمر، والمُفلفل: الذي قد ألقيت فيه توابل، وقيل: الذي يحذي اللسان، والمراد أن المكاكي لما رأت الخصب والمطر فرحت وصوتت كأنها سكارى.

( كَأَنَّ السِّبَاعَ فِيهِ غَرْقَى عَشِيَّةً. . . . . . . .بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيشُ عُنْصُلِ )

ويروى ( غدية ) وغرقى: في موضع نصب على الحال، يقول: حين أصبح الناس ورأوها فكأنها تلك الأنابيش من العنصل، والأنابيش: جماعات من العنصل يجمعها الصبيان، ويقال: الأنابيش العروق، وإنما سميت أنابيش لأنها تُنبش، أي تخرج من تحت الأرض، ويقال: نبشه بالنبل ؛ إذا غرزه فيه، وقال أبو عبيدة: الأنابيش والأبابيش واحد، والعُنْصُل والعُنْصَل: بصل بري يعمل منه خل يقال له خل عنصلاني، وهو شديد الحموضة، شبه السباع الغرقى بما نُبش من العنصل لأن السيل غرقها فهي من نواحيه تبدو منها أطرافها، فشبهها بذلك، والأرجاء: النواحي، واحدها رجا، وقوله ( القصوى ) كان يجب أن يقول ( القصا ) لأنه نعت الأرجاء، إلا إنه حمله على لفظ الجمع ونظيره قول الله عز وجل: ( لنريكَ مِنْ آياتِنَا الكُبْرَى )، والأنابيش لا واحد لها، وقيل: واحدها أنبُوش.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي