شرح ديوان المتنبي (البرقوقي)/قافية الحاء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

قافية الحاء

وقال يعتذر إليه، وقد تأخر مدحه عنه، فظن أنه عاتب عليه:

أَدْنَى ابْتِسَامٍ مِنْكَ تَحْيَا الْقَرَائِحُ

وَتَقْوَى مِنَ الْجِسْمِ الضَّعِيفِ الْجَوَارِحُ١

وَمَنْ ذَا الَّذْيِ يَقْضِي حُقُوقَكَ كُلَّهَا

وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْضِي سِوَى مَنْ تُسَامِحُ٢

وَقَدْ تَقْبَلُ الْعُذْرَ الْخَفِيَّ تَكَرُّمًا

فَمَا بَالُ عُذْرِي وَاقِفًا وَهْوَ وَاضِحُ٣

وَإِنَّ مُحَالًا — إِذْ بِكَ الْعَيْشُ — أَنْ أُرَى

وَجِسْمُكَ مُعْتَلٌّ وَجِسْمِيَ صَالِحُ٤

وَمَا كَانَ تَرْكِي الشِّعْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ

تُقَصِّرُ عَنْ وَصْفِ الْأَمِيرِ الْمَدَائِحُ

وقال في صباه، وقد بُلِّغ عن قوم كلامًا:

أَنَا عَيْنُ الْمُسَوَّدِ الْجَحْجَاحِ

هَيَّجَتْنِي كِلَابُكُمْ بِالنُّبَاحِ٥

أَيَكُونُ الْهِجَانُ غَيْرَ هِجَانٍ

أَمْ يَكُونُ الصُّرَاحُ غَيْرَ صُرَاحِ٦

جَهِلُونِي وَإِنْ عَمَرْتُ قَلِيلًا

نَسَبَتْنِي لَهُمْ رُءُوسُ الرِّمَاحِ٧

وقال يمدح مساور بن محمد الرومي:

جَلَلًا كَمَا بِي فَلْيَكُ التَّبْرِيحُ

أَغِذَاءُ ذَا الرَّشَإِ الْأَغَنِّ الشِّيحُ٨

لَعِبَتْ بِمِشْيَتِهِ الشَّمُولُ وَغَادَرَتْ

صَنَمًا مِنَ الْأَصْنَامِ لَوْلَا الرُّوحُ٩

مَا بَالُهُ لَاحَظْتُهُ فَتَضَرَّجَتْ

وَجَنَاتُهُ وَفُؤَادِيَ الْمَجْرُوحُ١٠

وَرَمَى وَمَا رَمَتَا يَدَاهُ فَصَابَنِي

سَهْمٌ يُعَذِّبُ وَالسِّهَامُ تُرِيحُ١١

قَرُبَ الْمَزَارُ وَلَا مَزَارَ وَإِنَّمَا

يَغْدُو الْجَنَانُ فَنَلْتَقِي وَيَرُوحُ١٢

وَفَشَتْ سَرَائِرُنَا إِلَيْكَ وَشَفَّنَا

تَعْرِيضُنَا فَبَدَا لَكَ التَّصْرِيحُ١٣

لَمَا تَقَطَّعَتِ الْحُمُولُ تَقَطَّعَتْ

نَفْسِي أَسًى وَكَأَنَّهُنَّ طُلُوحُ١٤

وَجَلَا الْوَدَاعُ مِنَ الْحَبِيبِ مَحَاسِنًا

حُسْنُ الْعَزَاءِ وَقَدْ جُلِينَ قَبِيحُ١٥

فَيَدٌ مُسَلِّمَةٌ وَطَرْفٌ شَاخِصٌ

وَحَشًى يَذُوبُ وَمَدْمَعٌ مَسْفُوحُ١٦

يَجِدُ الْحَمَامُ وَلَوْ كَوَجْدِي لَانْبَرَى

شَجَرُ الْأَرَاكِ مَعَ الْحَمَامِ يَنُوحُ١٧

وَأَمَقَّ لَوْ خَدَتِ الشَّمَالُ بِرَاكِبٍ

فِي عَرْضِهِ لَأَنَاخَ وَهْيَ طَلِيحُ١٨

نَازَعْتُهُ قُلَصَ الرِّكَابِ وَرَكْبُهَا

خَوْفُ الْهَلَاكِ حُدَاهُمُ التَّسْبِيحُ١٩

لَوْلَا الْأَمِينُ مُسَاوِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ

مَا جُشِّمَتْ خَطَرًا وَرُدَّ نَصِيحُ٢٠

وَمَتَى وَنَتْ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ أَمُّهَا

فَأَتَاحَ لِي وَلَهَا الْحِمَامَ مُتِيحُ٢١

شِمْنَا وَمَا حُجِبَ السَّمَاءُ بُرُوقَهُ

وَحَرًى يَجُودُ وَمَا مَرَتْهُ الرِّيحُ٢٢

مَرْجُوُّ مَنْفَعَةٍ مَخُوفُ أَذِيَّةٍ

مَغْبُوقُ كَاسِ مَحَامِدٍ مَصْبُوحُ٢٣

حَنِقٌ عَلَى بَدْرِ اللُّجَيْنِ وَمَا أَتَتْ

بِإِسَاءَةٍ وَعَنِ الْمُسِيءِ صَفُوحُ٢٤

لَوْ فُرِّقَ الْكَرَمُ الْمُفَرِّقُ مَالَهُ

فِي النَّاسِ لَمْ يَكُ فِي الزَّمَانِ شَحِيحُ٢٥

أَلَغَتْ مَسَامِعُهُ الْمَلَامَ وَغَادَرَتْ

سِمَةً عَلَى أَنْفِ اللِّئَامِ تَلُوحُ٢٦

هَذَا الَّذِي خَلَتِ الْقُرُونُ وِذِكْرُهُ

وَحَدِيثُهُ فِي كُتْبِهَا مَشْرُوحُ٢٧

أَلْبَابُنَا بِجَمَالِهِ مَبْهُورَةٌ

وَسَحَابُنَا بِنَوَالِهِ مَفْضُوحُ٢٨

يَغْشَى الطِّعَانَ فَلَا يَرُدُّ قَنَاتَهُ

مَكْسُورَةً وَمِنَ الْكُمَاةِ صَحِيحُ٢٩

وَعَلَى التُّرَابِ مِنَ الدِّمَاءِ مَجَاسِدٌ

وَعَلَى السَّمَاءِ مِنَ الْعَجَاجِ مُسُوحُ٣٠

•••

يَخْطُو الْقَتِيلُ إِلَى الْقَتِيلِ أَمَامَهُ

رَبُّ الْجَوَادِ وَخَلْفَهُ الْمَبْطُوحُ٣١

فَمَقِيلُ حُبِّ مُحِبِّهِ فَرِحٌ بِهِ

وَمَقِيلُ غَيْظِ عَدُوِّهِ مَقْرُوحُ٣٢

يُخْفِي الْعَدَاوَةَ وَهْيَ غَيْرُ خَفِيَّةٍ

نَظَرُ الْعَدُوِّ بِمَا أَسَرَّ يَبُوحُ٣٣

يَا ابْنَ الَّذِي مَا ضَمَّ بُرْدٌ كَابْنِهِ

شَرَفًا وَلَا كَالْجَدِّ ضَمَّ ضَرِيحُ٣٤

نَفْدِيكَ مِنْ سَيْلٍ إِذَا سُئِلَ النَّدَى

هَوْلٍ إِذَا اخْتَلَطَا دَمٌ وَمَسِيحُ٣٥

لَوْ كُنْتَ بَحْرًا لَمْ يَكُنْ لَكَ سَاحِلٌ

أَوْ كُنْتَ غَيْثًا ضَاقَ عَنْكَ اللُّوحُ٣٦

وَخَشِيتُ مِنْكَ عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا

مَا كَانَ أَنْذَرَ قَوْمَ نُوحٍ نُوحُ٣٧

عَجْزٌ بِحُرٍّ فَاقَةٌ وَوَرَاءَهُ

رِزْقُ الْإِلَه وَبَابُكَ الْمَفْتُوحُ٣٨

إِنَّ الْقَرِيضَ شَجٍ بِعِطْفِي عَائِذٌ

مِنْ أَنْ يَكُونَ سِوَاءَكَ الْمَمْدُوحُ٣٩

وَذَكِيُّ رَائِحَةِ الرِّيَاضِ كَلَامُهَا

تَبْغِي الثَّنَاءَ عَلَى الْحَيَا فَتَفُوحُ٤٠

جُهْدُ الْمُقِلِّ فَكَيْفَ بِابْنِ كَرِيمَةٍ

تُولِيهِ خَيْرًا وَاللِّسَانُ فَصِيحُ٤١

وقال يصف لعبة على صورة جارية:

جَارِيَةٌ مَا لِجِسْمِهَا رُوحُ

بِالْقَلْبِ مِنْ حُبِّهَا تَبَارِيحُ٤٢

فِي كَفِّهَا طَاقَةٌ تُشِيرُ بِهَا

لَكُلِّ طِيبٍ مِنْ طِيبِهَا رِيحُ٤٣

سَأَشْرَبُ الْكَأْسَ عَنْ إِشَارَتِهَا

وَدَمْعُ عَيْنِي فِي الْخَدِّ مَسْفُوحُ٤٤

وأراد الانصراف من عند سيف الدولة ليلًا فقال:

يُقَاتِلُنِي عَلَيْكَ اللَّيْلُ جِدًّا

وَمُنْصَرَفِي لَهُ أَمْضَى السِّلَاحِ٤٥

لِأَنِّي كُلَّمَا فَارَقْتُ طَرْفِي

بَعِيدٌ بَيْنَ جَفْنِي وَالصَّبَاحِ٤٦

وجرى حديث وقعة أبي الساج مع أبي طاهر صاحب الأحساء، فذكر أبو الطيب ما كان فيها من القتل، فهال بعض الجلساء ذلك وجزع منه، فقال أبو الطيب لأبي محمد بن طغج ارتجالًا:

أَبَاعِثَ كُلِّ مَكْرُمَةٍ طَمُوحِ

وَفَارِسَ كُلِّ سَلْهَبَةٍ سَبُوحِ٤٧

وَطَاعِنَ كُلِّ نَجْلَاءٍ غَمُوسٍ

وَعَاصِيَ كُلِّ عَذَّالٍ نَصِيحِ٤٨

سَقَانِي اللهُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَوْمًا

دَمَ الْأَعْدَاءِ مِنْ جَوْفِ الْجُرُوحِ٤٩

وأرسل أبو العشائر بازيًا على حَجَلة فأخذها فقال المتنبي:

وَطَائِرَةٍ تَتَبَّعُهَا الْمَنَايَا

عَلَى آثَارِهَا زَجَلُ الْجَنَاحِ٥٠

كَأَنَّ الرِّيشَ مِنْهُ فِي سِهَامٍ

عَلَى جَسَدٍ تَجَسَّمَ مِنْ رِيَاحِ٥١

كَأَنَّ رُءُوسَ أَقْلَامٍ غِلَاظٍ

مُسِحْنَ بِرِيشِ جُؤْجُؤَةِ الصِّحَاحِ٥٢

فَأَقْعَصَهَا بِحَجْنٍ تَحْتَ صُفْرٍ

لَهَا فِعْلُ الْأَسِنَّةِ وَالصِّفَاحِ٥٣

فَقُلْتُ لِكُلِّ حَيٍّ يَوْمُ مَوْتٍ

وَإِنْ حَرَصَ النُّفُوسُ عَلَى الْفَلَاحِ٥٤

هوامش

(١) القرائح: الطبائع، يقال فلان جيد الطبيعة: إذا كان ذكي الطبع، وجيد القريحة: إذا كان له نظر وفهم ومعرفة، وقيل القريحة: خالص الغريزة — من قولهم ماء قراح؛ أي خالص — وقريحة البئر: أول ما يخرج من مائها، ورجل قرحان: إذا لم يصبه جدري ولا طاعون يراد خالص الجسد، والجوارح: الأعضاء — اليدان والرجلان والعينان والفم والأذن — وسُميت كذلك لأن أصل الجرح الاكتساب، والاكتساب يقع بهذه الجوارح من خير وشر. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ أي كسبتم، وقال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أي اكتسبوها. يقول: إذا ابتسمت إلى إنسان انشرح صدره، وحيي طبعه، وقويت جوارحه وإن كان ضعيف الجسم؛ لأنه يفرح، والفرح يقوي القلب والجسم. يشير بذلك إلى عذره في تأخر مدحه؛ لأنه كان معتلًا.

(٢) يقول: إن حقوقك أكثر من أن يقدر أحد على القيام بقضائها، ومن ذا الذي يرضيك بقضاء حقوقك غير الذي تسامحه وتتساهل معه؟

(٣) تكرمًا: مفعول لأجله، وواقفًا: حال من عذري. يقول: إنك لكرمك تقبل العذر الخفي. فما بال عذري واقفًا لا يلتفت إليه وهو واضح؟

(٤) يقول: إذا كان عيشنا بك، فمن المحال أن تعتل، ولا أشاركك في علتك، وهذا من قول أبي تمام:

وَإِنْ يَجِدْ عِلَّةً نُعَمُّ بِهَا

حَتَّى تَرَانا نُعَادُ فِي مَرَضِهْ

قال العكبري: قوله إن محالًا: جعل اسم إن نكرة للضرورة؛ لأنها تدخل على المبتدأ والخبر، ولا يجوز أن يكون المبتدأ نكرة إلا في مواضع ليست هذه منها.

(٥) المسود: الذي جعله قومه سيدًا، والسيد: الكريم، ولا توصف به المرأة؛ وجمع الجحجاح: جحاجح، قال الشاعر:

مَاذَا بِبَدْرٍ فَاَلْعَقَنـْ

ـقَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ

وإن شئت جحاجيح، وإن شئت جَحاجحة، والهاء عوض من الياء المحذوفة لا بد منها أو من الياء، ولا يجتمعان، ويظهر أن الجمع في الحقيقة: جحاجيح، لا الجَحاجح، وإنما حذفت الياء من البيت — ماذا ببدر … إلخ — ضرورة، قاله ابن بري: يقول: أنا نفس الجحجاح — السيد الكريم — أثارتني وأغضبتني سفهاؤكم بسفهها، ولما سماهم كلابًا سمى كلامهم نباحًا، ويروى — بدل هيجتني — هجنتني؛ أي نسبتني إلى الهجنة. يدل على ذلك البيت التالي.

(٦) الهجان: الرجل الكريم الحسب النقيه، وامرأة هجان: كريمة من نسوة هجائن وهي الكريمة الحسب التي لم تعرق فيها الإماء تعريقًا، وقول علي — كرم الله وجهه:

هَذَا جَنَايَ وَهِجَانُهُ فِيهِ

إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ

معناه: خياره وخالصه، وأنشد أبو الهيثم:

وَإِذَا قِيلَ مَنْ هِجَانُ قُرَيْشٍ

كُنْتَ أَنْتَ الْفَتَى وَأَنْتَ الْهِجَانُ

وكل ذلك مأخوذ من الإبل، والهجان من الإبل: البيض الكرام. قال عمرو بن كلثوم في معلقته:

ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ

هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا

يصف امرأة يقول: تريك ذراعين ممتلئتين لحمًا كذراعي ناقة طويلة العنق لم تلد بعد، بيضاء اللون، فقوله: لم تقرأ جنينًا؛ أي لم تضم في رحمها ولدًا.
قال أهل اللغة: يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع؛ يقال: بعير هجان وناقة هجان، وربما قالوا: هجائن. قال ابن أحمر:

كَأَنَّ عَلَى الْجِمَالِ أَوَانَ خَفت

هَجَائِنَ مِنْ نِعَاجٍ أَوَارَعِينَا

والصراح: الخالص النسب. يقول: إن الكريم الخالص النسب لا يصير غير كريم وغير خالص النسب. يعني أن هجو الهاجي لا يؤثر فيه؛ لأنه ذكر في البيت الأول شكواه من السفهاء واللئام، وذكر في هذا البيت أن سفههم لا يقدح في نسبه ولا يغيره.

(٧) يقول: إن أولئك العائبين قد جهلوا قدري ونسبي وأصلي، فإن عشت قليلًا عرفتهم الرماح نسبي؛ إذ يرون غنائي وحسن بلائي. يتوعدهم ويهددهم بالقتل، وعبارة الواحدي: يحتمل أنه أراد إذا طاعنتهم، ورأوا حسن بلائي استدلوا بذلك على كرم نسبي.

(٨) الجلل: الأمر العظيم، وجللًا: خبر «فليك» مقدم، والتبريح: الجهد والشدة، والرشأ: ولد الظبية، والأغن: الذي في صوته غنة، وهو من أوصاف الظباء، والشيح: نبات طيب الرائحة. يقول: ليكن تبريح الهوى عظيمًا مثل ما حل بي وإلا فلا! ثم قال: أتظنون غذاء من فعل بي هذا الفعل الشيح شأن مثله من ظباء الصحراء؟ إنما غذاؤه قلوب العشاق ينحلهم ويهزلهم فيورثهم هذا التبريح كما قال بعضهم:

يَرْعَى الْقُلُوبَ وَتَرْتَعِي الـْ

ـغِزْلَانُ فِي الْبَيْدَاءِ شِيحَه

هذا، وإليك ما أورده سائر الشراح زيادة على ما أوردناه. قال العكبري: يريد أن من كان في شدة فليك كما أنا — تعظيمًا لما هو فيه من الشدة — وتم الكلام ها هنا، ثم استأنف قولًا آخر متعجبًا من حسن المشبه أي كأنه ظبي في حسنه، ووقع الشك لوقوع الاشتباه كقول قيس:

فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا

وَلَكِنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ

وقوله أغذاء: هو استفهام معناه الإنكار، يريد أن الرشأ الذي يهواه إنس لا وحش فيغذى بالشيح، وقال ابن جني: المصراعان متباينان، فلذلك أفرد كل واحد بمعنى، وقال أصحاب المعاني: قد يفعل الشاعر مثل هذا في التشبيب خاصة؛ ليدل به على ولهه، وشغله عن تقويم خطابه؛ كقول جران العود:

يَوْمَ ارْتَحَلْتُ بِرَحْلِي دُونَ بَرْذَعَتِي

وَالْقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ بِالْبَيْنِ مَشْغُولُ

ثُمَّ اغْتَرَزْتُ عَلَى نِضْوِي لِأَبْعَثَهُ

إِثْرَ الْحُمُولِ الْغَوَادِي وَهْوَ مَعْقُولُ

(جاء في اللسان والقاموس وشرحه: جران العود شاعر من نمير، قال الجوهري: واسمه المستورد، وقد غلطه الصاغاني، وقال: إنما اسمه عامر بن الحارث — وهو شاعر إسلامي — ولقب بذلك لقوله:

عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جرَانَهُ

وَلَلْكَيسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ

خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتيَّ فَإِنَّنِي

رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يُصْلِحُ

يخاطب امرأتيه، وأراد بجران العود — والعود البعير المسن — سوطًا قده من جلد عنق عود نحره، وهو أصلب ما يكون؛ ليضرب به امرأتيه، وكانتا قد نشزتا عليه، والجران. باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا مد عنقه لينام، والتحيت: أخذت، والكيس: حسن التأني في الأمور، ويا خلتي يروى يا جارتي، وقوله فإنني … إلخ، يقول: فإني رأيت السوط قد قارب صلاحه للضرب، وقوله: يوم ارتحلت … إلخ، فالبرذعة: الحلس الذي يلقى تحت الرحل، ويكنى عن الزوجة بالبرذعة، ومستوهل: فازع، واغترزت: وضعت رجلي في الغرز، وهو الركاب، والنضو: البعير الذي أنضاه السفر، والحمول: الإبل، ومعقول؛ أي لم يحلل عقاله دهشًا.)
يريد أنه لشغل قلبه لم يدر كيف يرحل، ولم يدر أن بعيره معقول، وفي كلامه ما يدل على ولهه مما ذكر من حاله، وعلى هذا يحمل قول زهير:

قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ

ثم قال:

بَلَى وَغَيَّرَهَا الْأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ

وقال القاضي الجرجاني: بين المصراعين اتصال لطيف، وهو أنه لما أخبر عن عظم تبريحه بيَّن أن الذي أورثه ذلك هو الرشأ الذي شكله على شكل الغزلان في غذائه، وإليك بعد هذا تحفة نحوية للعلامة العكبري قال: قوله: فليك؛ حذف النون لسكونها، وسكون التاء في التبريح، ولم يكن حذفها كحذفها من قوله تعالى: وَلَمْ تَكُ شَيْئًا وقوله:

لَمْ يَكُ شَيْءٌ يَا إِلَهي قَبْلَكَا

لأنها قد ضارعت بالمخرج والسكون والغنة حروف المد فحذفت كما تحذف، وهي هنا في قول المتنبي قوية بالحركة؛ لأن سبيلها أن تحرك، فكان ينبغي أن لا يحذفها، لكنه لم يعتد بالحركة في النون لما كانت غير لازمة ضرورة، ومثله:

لَمْ يَكُ الْحَقُّ سِوَى أَنْ هَاجَهُ

رَسْمُ دَارٍ قَدْ تَعَفَّى بِالسرَر

(جاء في لسان العرب أنه لحسيل بن عرفطة، جاهلي، والسرر: لعله يريد الموضع الذي هو على أربعة أميال من مكة، قال أبو ذؤيب:

بآيَة ما وقفت والركا

بِ بين الحجون وبين السرر)

وبعده:

غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ

خُرُقُ الرِيحِ وَطُوفَانُ المَطَرْ

والبيتان لشاعر جاهلي يسمى حسيل بن عرفطة، والمراد بالحق هنا الموجود بحسب مقتضى الحكمة، أي ليس يليق بالعاشق أن يهيج حزنه الرسم الدائر، وهاج هنا متعدٍّ بمعنى أثار، والهاء مفعول مقدم ضمير العاشق في بيت قبل هذين، وهو على حذف مضاف، أي هاج حزنه ووجده، ورسم فاعل هاج، وتعفى: مبالغة عفا أي دثر ودرس، والسرر: موضع، والجدة: مصدر جد الشيء يجد جدة خلاف القديم. والعرفان: المعرفة. وخرق: فاعل غير جمع خريق؛ وهي الريح التي تتخرق في الجبال، وطوفان المطر: كثرته. يقول: غيرت كثرة الريح والأمطار ما استجددناه من معرفتنا لهذا الرسم.)
وقد حذفت النون من لكن في الشعر ضرورة، أنشد سيبويه:

فَلَسْتُ بِآتِيهِ وَلَا أَسْتَطِيعُهُ

وَلَاكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكِ ذَا فَضْلِ

(للنجاشي الشاعر وقبله:

وَمَاءٍ قَدِيمِ الْعَهْدِ بِالْورْدِ آجِنٍ

يُخَالُ رِضَابًا أَوْ سُلَافًا مِنَ الْعُسل

لَقِيتُ عَلَيْهِ الذِّئْبَ يَعْوِي كَأَنَّهُ

ضَلِيعٌ خَلَا مِنْ كُلِّ مَالٍ وَمِنْ أَهْلِ

فَقُلْتُ لَهُ يَا ذِئْبُ هَلْ لَكَ فِي أَخٍ

يُوَاسِي بِلَا مَنٍّ عَلَيْكَ وَلَا بُخْلِ

فَقَالَ هَدَاكَ اللهُ لِلرُّشْدِ إِنَّمَا

دَعَوْتَ لِمَا لَمْ يَأْتِهِ سَبُعٌ قَبْلِي

فَلَسْتَ بِآتِيهِ … …

… … … [البيت]

والعُسل: جمع عسل كأعسال، والضليع: القوي الشديد، والمعوج، والمضروب في ضلعه، والظاهر أن هذا هو المراد.)
وإذا جاز حذف النون من لكن — وقد حذف منها نون أخرى — جاز أن تحذف من قوله: فليك التبريح، وفيه قبح من وجه آخر: وهو أنه حذف النون مع الإدغام وهو غريب جدًّا؛ لأن من قال في بني الحارث بلحارث، لم يقل في بني النجار بنجار … والأغن: الذي في صوته غنة، وهو صوت من الخيشوم، والأغن: الذي يتكلم من قبل خياشيمه، وواد أغن: كثير العشب؛ لأنه إذا كان كذلك ألفه الذباب، وفي أصواته غنة، ومنه قيل للقرية الكثيرة الأهل والعشب: غناء، وأما قولهم: واد مغن: فهو الذي صار فيه صوت الذباب، ولا يكون الذباب إلا في واد مخصب معشب، وأغن السقاء: إذا امتلأ ماء.

(٩) الشمول: الخمر، يقول: إن الخمر رنحته فتمايل في مشيته وزادت في حسنه حتى تركته كأنه صنم لولا أنه ذو روح، وفي هذا البيت نظر إلى قول ديك الجن:

ظَلِلْنَا بِأَيْدِينَا نُتَعْتِعُ رُوحَهَا

فَتَأْخُذُ مِنْ أَقْدَامِنَا الْخَمْرُ ثَارَهَا

وقد جرت عادتهم بأن يشبهوا الحسان بالدمى والأصنام ناظرين إلى أن مصوريها أبدعوا في تجميلها، وافتنوا في تزويقها حتى أصاروها كأنها الجمال ماثلًا، ويروى بدل — وغادرت — وجردت؛ أي صيرته بحيث يجرد منه صنم لحسنه. هذا، وإنما سميت الخمر شمولًا؛ قيل لأنها تشمل بريحها الناس، وقيل: شبهت بالشمال من الريح؛ لأنها تعصف باللب كما تعصف الشمال.

(١٠) يقول: إن فؤادي هو المجروح بنظري إليه، فما بال وجناته قد احمرَّت، وظهر الدم فيها، وفؤادي هو الأجدر بذلك؟ وفي هذا المعنى يقول كشاجم:

أَرَاهُ يُدْمَى خَدهُ وَهْوَ جَارِحِي

بِعَيْنَيْهِ وَالْمَجْرُوحُ أَوْلَى بِأَنْ يَدْمَى

وقوله تضرجت؛ أي تلطخت بالدم. يريد احمرت خجلًا، وأصله من انضرج: إذا انشق، كأنه قد انشق جلده فظهر الدم، وفي الضرج بمعنى الشق يقول ذو الرمة يصف نساء:

ضَرَجْنَ الْبُرُودَ عَنْ تَرَائِبَ حُرَّةٍ

أي شققن، وتضرج الثوب الثوب: انشق، وتقول: تكاد تتضرج من الملء؛ أي تنشق، ومنه انضرجت له الطريق؛ أي اتسعت، وانضرجت ما بين القوم: تباعد ما بينهم، وتضرجت عن البقل لفائفه: إذا انفتحت.

(١١) كان الوجه أن يقول: وما رمت يداه ولكنه على لغة من يقول قاما أخواك، وصابه: لغة في أصابه، يقول: رماني بلحظه فأصابني منه سهم ليس كالسهام المعروفة تقتل فتريح، وإنما يعذب من أصابه.

(١٢) المزار الأول: مكان الزيارة، والثاني: مصدر بمعنى الزيارة، والجنان: القلب، يقول: إنَّ دارك أيها الحبيب قريبة مني، ولكن لا سبيل إلى الزيارة خشية الرقباء، وإنما نتلاقى بالقلوب، فيغدو قلبي إليك ويروح أي أتذكرك فأمثلك في قلبي؛ فكأنا قد التقينا، كما قال ابن المعتز:

إِنَّا عَلَى الْبِعَادِ وَالتَّفَرُّقِ

لَنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَمْ نَلْتَقِ

ومثله لأبي الطيب:

لَنَا وِلِأَهْلِهِ أَبَدًا قُلُوبٌ

تَلَاقَى فِي جُسُومٍ مَا تَلَاقَى

(١٣) السرائر: بمعنى الأسرار المكتتمة، وشفه: أنحله. يقول: إن كتمان الهوى اقتصارنا فيه على التعريض قد أسقمنا وهزلنا، فذلك هزالنا البادي على ما تجنه الضلوع من الوجد، فقام ذلك مقام التصريح.

(١٤) الحمول: الأحمال على الإبل، ويريد بها الإبل التي حملتها، والطلوح: جمع طلح، وهو شجر أسفله دقيق وأعلاه كالقبة، تشبه به الإبل عليها الهوادج. يقول: لما تفرقت الحمول سائرة وكأنها طلوح تقطعت نفسي وجدًا وحزنًا.

(١٥) يقول: كشف الوداع محاسن الحبيب عند الفراق، فصار الصبر الجميل عنها قبيحًا، وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:

وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَابِسُ الصَّبْرِ حَازِمًا

فَأَصْبَحَ يُدْعَى حَازِمًا حِينَ يَجْزَعُ

ويقول العتبي محمد بن عبيد الله يذكر ابنًا له مات، ومنه أخذ أبو تمام:

وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا

إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ مَذْمُومُ

وقوله: حسن العزاء … إلخ، تقديره حسن العزاء قبيح، وقد جلين: أي المحاسن، فأقحم بين المبتدأ والخبر جملة فعلية.

(١٦) المراد بالمدمع: الدمع. يصف حال الوداع. يقول: لو ترانا عند الوداع ونحن على هذه الحال لرحمتنا، فهناك يد تشير بالسلام، وطرف شاخص إلى وجه المودع، وقلب يذوب حزنًا على الفراق، ودمع مصبوب.

(١٧) يجد: من الوجد، وقوله: ولو كوجدي؛ أي ولو كان وجده كوجدي لانبرى … إلخ، والأراك: شجر معروف. يقول: إن الحمام يحزن عند فراق إلفه، ولو كان وجده كوجدي لرق له الشجر، وانبعث يبكي معه وينوح رحمة ورقة، وقوله: لانبرى؛ يريد لاندفع وأخذ، ويقال: برى له يبري بريًا، وانبرى: عرض له، وباراه: عارضه، وباريت فلانًا مباراة: إذا كنت تفعل مثل ما يفعل.

(١٨) وأمق: الواو واو رب، يصف مهمهًا طويلًا، والأمق: المكان الطويل، والوخد: ضرب من السير، وخدت هنا: أسرعت، والطليح: المعيي، يقال: طلح البعير؛ أعيا، فهو طليح، وأطلحته أنا وطلحته: حسرته، ويقال: ناقة طليح أسفار: إذا جهدها السير وهزلها، وإبل طلح وطلائح، والطلح — بالكسر — المعيي من الإبل، يستوي فيه الذكر والأنثى، والجمع أطلاح. قال الحطيئة يصف إبلًا وراعيها:

إِذَا نَامَ طِلْحٌ أَشْعَثُ الرَّأْسِ خَلْفَهَا

هَدَاهُ لَهَا أَنْفَاسُهَا وَزَفِيرُهَا

يقول الحطيئة: إن هذه الإبل تتنفس من البطنة تنفسًا شديدًا فيقول: إذا نام راعيها عنها وندت تنفست، فوقع عليها وإن بعدت.
يقول: لو أسرعت ريح الشمال في ذلك المهمه وعليها راكب لأناخ ذلك الراكب ونزل والشمال معيية، وإذا كانت الشمال تعيي فيه فكيف الإنسان أو الناقة؟ وإنما ذكر العرض ليدل على السعة؛ لأن العرض أقل من الطول.

(١٩) القلص — جمع قلوص — الناقة الفتية، والركاب: الإبل. يقول: خاصمت هذا المهمه على الإبل، فهو يأبى إلا أن ينال منها ويعصف بها بطوله ومشقته، وأنا آبى إلا أن أستبقيها لمسيري. ثم قال: وكان ركاب هذه الإبل — لخوفهم الهلاك — يسبحون الله ويسألونه النجاة، فكان التسبيح حداء للإبل مكان الغناء الذي تحدى به، وقال ابن جني: نازعته: أخذت منه — من الأمق؛ أي المهمه — بقطعي إياه، وأعطيته ما نال من الركاب. قال الواحدي: ليس المعنى على ما قال ابن جني؛ لأن المتنازع فيها هي القلص، فالبلد يفنيها ويأخذ منها وهو يستبقها، والمعنى: إني أحب إبقاءها، والأمق يحب إفناءها بالمنازعة فيها كقول الأعشى:

نَاَزَعتُهُم قُضُبَ الرَّيحَانِ مُتَّكِئًا

أي أخذت منهم وأعطيتهم، وهم أخذوا مني وأعطوني.

(٢٠) جشمت: كلفت. يقول: لولا الممدوح ما عرضنا إبلنا لهذا الخطر، ولا رددنا الناصح الذي كان ينصح لنا، وينهانا عن ركوب هذه الأهوال، وإليك درة نحوية للعلامة العكبري، قال: لولا الأمير: الأمير مرتفع بالابتداء عند البصريين، وعندنا أن الاسم مرفوع بها؛ لأنها نائبة عن الفعل الذي لو ذكر لرفع الاسم كما تقول: لولا زيد لجئت، تقديره لو لم يمنعني، إلا أنهم حذفوا الفعل تخفيفًا وزادوا لا على لو فصارا بمنزلة حرف واحد. كقولهم: أما أنت منطلقًا انطلقت معك، تقديره: إن كنت منطلقًا انطلقت معك. قال الشاعر:

أَبَا خُرَاشَةَ أَمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ

فَإِنَّ قَوْمِي لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ

(البيت لعباس بن مرداس السلمي الصحابي، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة، وندبة أمه، وهو صحابي جليل، وأحد فرسان قيس وشعرائها، وهو ابن عم الخنساء، وبعد البيت:

وَالسلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ

وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرُعُ

ونفر الرجل رهطه، ويقال لعدة من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمراد بالضبع السنة المجدية، وأصله أن الناس إذا أجدبوا ضعفوا عن الانتصار وسقطت قواهم فعاثت فيهم الضباع والذئاب فأكلتهم. يقول: يا أبا خراشة إن كنت عزيزًا بقوم كثيرًا لهم فإن قومي ليسوا بأذلاء، ثم قال: إن السلم أنت فيها وادع تنال من مطالبك ما تريد، أما الحرب فإنها على العكس من السلم، وأراد بأنفاسها: أوائلها، يحرضه على الصلح ويثبطه عن الحرب.)
أي إن كنت ذا نفر، فحذف الفعل وزاد «ما» عوضًا عنه، والذي يدل على أنها عوض عن الفعل أنه لا يجوز ذكر الفعل معها؛ لئلا يجمع بين العوض والمعوض، وكقولهم أما لا فافعل هذا، تقديره: إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا، فحذف الفعل؛ لكثرة الاستعمال، وزيدت ما على أن عوضًا عنه فصارتا بمنزلة حرف واحد، ويجوز إمالتها؛ لأنها صارت عوضًا عن الفعل، كما أمالوا بلى ويا في النداء، والشواهد كثيرة على أن الفعل بعدها محذوف، واكتفى الاسم بلولا، ويدل على أن الاسم بعدها يرتفع بدون الابتداء أنها إذا وقع بعدها «أن» انفتحت كقولك: لولا أن زيدًا منعني، قال الله تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ولو كانت في موضع الابتداء لوجب أن تكسر، فلما فتحت دل على صحة قولنا، وحجة البصريين على أنه يرتفع بالابتداء دون لولا: أن الحرف لا يعمل إلا إذا كان مختصًّا و«لولا» يختص بالاسم دون الفعل، وقد يختص بالفعل والاسم. قال الشاعر:

لَا دَرَّ دَرُّكَ إِنِّي قَدْ حَمِدْتُهُمُ

لَوْلَا حُدِدْتُ وَلَا عُذْرِي بِمَحْدُودِ

(أورد عبد القادر البغدادي هذا البيت في أبيات هذا نصها:

قَالَتْ أُمَامَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا

هَلَّا رَمَيْتَ بِبَعْضِ الْأَسْهُمِ السُّودِ

لَا دَرَّ دَرُّكَ إِنِّي قَدْ رَمَيْتُهُمُ

لَوْلَا حُدِدْتُ وَلَا عُذْرِي لِمَحْدُودِ

إِذْ هُمْ كَرِجْلِ الدُّبَى لَا دَرَّ دَرُّهُمُ

يَغْزُونَ كُلَّ طُوَالِ الْمَشْيِ مَحْدُودِ

فَمَا تَرَكْتُ أَبَا بِشْرٍ وَصَاحِبَهُ

حَتَّى أَحَاطَ صَرِيحُ الْمَوْتِ بِالجِيدِ

قال: قيل إنها لراشد بن عبد الله السلمي الصحابي، وقيل: للجموح — أحد بني ظفر من سليم بن منصور — وحددت؛ أي حرمت ومنعت، وقد حد الرجل عن الرزق: إذا منع منه، وهو محدود. يقول: قد رميت واجتهدت في قتالهم، ولكني حرمت النصر عليهم، ولا يقبل عذر المحروم، والعذرى: اسم بمعنى المعذرة، والرجل: القطعة من الجراد، والدبى: أصغر الجراد، والطوال: الطويل.)
ونحن نقول: إن هذا البيت على معنى لولا أني حددت، فصارت مختصة بالاسم دون الفعل.

(٢١) ضمير ونت: للإبل أي توانت وفترت، وأمها قصدها؛ أي مقصودها، وقوله فأتاح لي … إلخ، دعاء، وأتاح الله الشيء قدره. يقول: إذا توانت الإبل في سيرها وهذا الممدوح مقصودها فالموت خير لي ولها. يعني: الموت خير لنا إن تخلفنا عنه.

(٢٢) شمنا: فعل وفاعل، وبروقه: مفعوله، وما حجب السماء: جملة معترضة، وشام البرق: نظر إليه يرجو المطر، وقوله: وحرى؛ أي وشمنا سحابًا حرى أن يجود؛ أي جديرًا به أن يجود — أي يمطر — ومرته الريح: استدرته وأصله في الناقة يمسح ضرعها لتدر. يقول: شمنا بروق الممدوح؛ أي رجونا عطاءه، والسماء لم يحجبها الغيم، ونظرنا منه إلى سحاب حقيق بالجود؛ أي بالمطر وإن لم تمره الريح. يفضله على السحاب؛ لأن السحاب يحجب جمال السماء، ولا يجود إلا إذا استدرته الريح، أما الممدوح فليس كذلك.

(٢٣) المغبوق: الذي يسقى بالعشي، والمصبوح: الذي يسقى صبحًا. يقول: إنه يحمد في كل وقت، فكأنه يسقى كأس المحامد غبوقًا وصبوحًا.

(٢٤) البدر: جمع بدرة، وهي عشر آلاف درهم، واللجين: الفضة، والمعنى ظاهر.

(٢٥) يقول: لو فرق في الناس كرمه الذي يفرق ماله؛ لصار الناس كلهم أسخياء، وهذا ينظر إلى قول منصور الفقيه:

أَقُولُ إِذْ سَأَلُونِي عَنْ سَمَاحَتِهِ

وَلَسْتُ مِمَّنْ يُطِيلُ الْقَوْلَ إِنْ مَدَحَا

لَوْ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ جُودٍ تَقَسَّمَهُ

أَوْلَادُ آدَمَ عَادُوا كُلُّهُمْ سُمَحَا

والأصل في هذا قول العباس بن الأحنف — وإن كان من باب آخر:

لَوْ قَسَّمَ اللهُ جُزْءًا مِنْ مَحَاسِنِهِ

فِي النَّاسِ طُرًّا لَتَمَّ الْحُسْنُ فِي النَّاسِ

ويقول أبو تمام:

لَو اقْتُسِمَتْ أَخْلَاقُهُ الْغُرُّ لَمْ تَجِد

مَعِيبًا وَلَا خَلْقًا مِنَ النَّاسِ عَائِبَا

(٢٦) يقول: إن مسامعه أهملت وأسقطت لوم من يلومه على الجود، فلم يبالِ به، ومضى على سخائه، وروى ابن جني: ألفت — من الألفة — أي إن مسامعه — لكثرة ما سمعت اللوم — ألفته واعتادته فصار شيئًا مألوفًا لا قيمة له عنده، وغيره ممن أطاعوا اللائم، وأصغت مسامعهم إليه صاروا لئامًا، يرى عليهم أثر اللؤم كما ترى السمة على الأنف.

(٢٧) المراد بخلت ها هنا: تخلو، وأتى بالماضي: للتحقيق — على حد قوله تعالى: أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ — يقول: هذا الذي تمضي القرون والأدهار، ويبقى ذكره، ويخلد في الكتب والأسفار. قال الواحدي: المعنى: أن الكتب مشحونة بذكر الكرم، ونعت الكرام وأخلاقهم، وهو المعني بذلك؛ إذ الحقيقة منها له، فذكره إذن في الكتب مشروح. «هذا»، وقوله: وذكره وحديثه … إلخ. قال العكبري: قال ذكره وحديثه مشروح، ولم يقل مشروحان؛ لأن الذكر والحديث واحد، وقيل: هما جملتان: حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، وهذا مثل قوله تعالى: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وهذا مذهب سيبويه، وأنشد:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

(لقيس ابن الخطيم (راجع معاهد التنصيص ج١ ص٦٧).)
وذهب المبرد إلى أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله، وقال قوم: بل الضمير عائد على المذكور، كقول رؤبة:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

(من أرجوزته التي مطلعها:

وَقَاتِم الْأَعْمَاق خَاوِي الْمُخْتَرَقْ

(راجع أراجيز العرب للبكري، وخزانة الأدب للبغدادي ج١ ص٩٠).)
أي: كأن المذكور.

(٢٨) الألباب: العقول، والنوال: العطاء، والمعنى ظاهر.

(٢٩) يقول: يخوض الحرب فلا يرد رماحه إلا بعد أن لا يبقى من الأبطال صحيح. وهذا من قول الفرزدق:

بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ

وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

«أي لم يغمدوها إلا بعد أن كثرت بها القتلى.»
(قال المبرد: «وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله: لم يشيموا؛ لم يغمدوا، ولم تكثر القتلى؛ أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى حين سلت.»)
قال الواحدي: وقوله مكسورة حشو، أراد أن يطابق بينها وبين الصحيح؛ لأنه لا فائدة من أن ترد القناة من الحرب مكسورة، ولو ردها صحيحة لم يلحقها نقص، والكماة: جمع كمي: الشجاع المتكمي أي المتغطي بسلاحه؛ إذ إنه كمي نفسه؛ أي سترها بالدرع وخلافه.

(٣٠) المجاسد: جمع المجسد، وهو المصبوغ بالجساد؛ أي الزعفران، والمسوح: جمع مسح، وهو ما ينسج من الشعر الأسود. يقول: لكثرة ما يسفك من الدم صبغت الأرض به حتى كأن عليها مجاسد، واسودت السماء بالغبار فكأن عليها مسوحًا.

(٣١) رب الجواد: فاعل يخطو، يعني الفارس، يقول: قد اكتظت المعركة بالقتلى، فترى الفارس يخطو من قتيل إلى قتيل، ويخلف وراءه فارسًا مبطوحًا — أي قتيلًا أيضًا — ويجوز أن يكون المراد برب الجواد: الممدوح.

(٣٢) المقيل: المقام، المستقر؛ قال تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وقال ابن رواحة:

الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ

الهام: جمع هامة، وهي أعلى الرأس، ومقيله: موضعه، مستعار من موضع القائلة. ومقيل الحب، ومقيل الغيظ: القلب، يقول: إن قلب محبه فرح به مبتهج، وقلب عدوه مقروح مكتئب.

(٣٣) فاعل يخفي ضمير العدو، يقول: إن عدوه يخفي العدواة خوفًا منه. بيد أن العداوة لا تخفى؛ لأن نظر العدو إلى من يعاديه يظهر ما بقلبه من العداوة. قال ابن الرومي:

تُخَبِّرُنِي الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِم

وَلَا جِنَّ بِالْبَغْضَاءِ وَالنَّظَرِ الشَّزْرِ

لا جن: لا خفاء. وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي:

تُكَاشِرُنِي كَرْهًا كَأَنَّكَ نَاصِحٌ

وَعَيْنُكَ تُبْدِي أَنْ صَدْرَكَ لِي دَوِي

(مطلع أبيات جيدة في بابها يعاتب فيها يزيد هذا ابن عمه. (أمالي القالي ج١ ص٦٨، والخزانة ج٣ ص١١٨ سلفية). وفي الأغاني: ودوي صدره: مرض وضغن.)
وقال الآخر:

خَلِيلَيَّ لِلْبَغْضَاءِ عَيْنٌ مُبِينَةٌ

وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تَرَى وَمَعَارِفُ

(٣٤) البرد: شكل من الثياب، والكاف — من قوله كابنه — بمعنى مثل؛ صفة لموصوف محذوف، هو مفعول ضم؛ أي ما ضم برد أحدًا مثل ابنه، ولا ضم قبر مثل الجد، وشرفًا: تمييز، والضريح: القبر كله، وقيل: الشق في وسط القبر، واللحد في جانبه، وسمي كذلك لأنه يشق في الأرض شقًّا، وكل ما شق فقد ضرح. قال ذو الرمة:

ضَرَحْنَ الْبُرُودَ عَنْ تَرائِبَ حُرَّةٍ

وَعَنْ أَعْيُنٍ قَتَّلْنَنَا كُلَّ مَقْتَلِ

يقول: ليس في الأحياء مثلك شرفًا، ولا في الأموات مثل جد أبيك في الشرف.

(٣٥) المسيح: العرق؛ سُمي مسيحًا؛ لأنه يمسح إذا صب. قال الراجز:

يَا رَيَّهَا وَقَدْ بَدَا مَسِيحِي

وَابْتَلَّ ثَوْبَايَ مِنَ النَّضِيحِ

يا ريها: يروى ناديتها. وقوله: هول؛ أي وهول. فهو عطف على سيل، وكان الوجه أن يقول إذا اختلط دم ومسيح، ولكنه قال اختلطا — على لغة من يقول: قاما أخواك — يقول: أنت سيل عند العطاء؛ أي مثل المطر، وهول عند القتال إذا سالت الدماء وامتزجت بالعرق.

(٣٦) الغيث: السحاب فيه مطر، واللوح: الهواء بين السماء والأرض، والمعنى ظاهر.

(٣٧) يقول: لو كنت غيثًا لخشيت منك الطوفان الذي أنذر به نوح قومه، فقوله وخشيت: عطف على قوله ضاق، في البيت قبله.

(٣٨) يقول: من العجز أن يقاسي الحر الفاقة مع وجود رزق الإله، وبابك الذي لا يحجب عنه طالب؛ يعني أن الله قد وسع بك الرزق على الناس، فمن لم يصمد إليك ملتمسًا الرزق فذلك لعجزه، كما قال أبو تمام:

خَابَ امْرُؤٌ بَخَسَ الْحَوَادِثُ رِزْقَهُ

وَأَقَامَ عَنْكَ وَأَنْتَ سَعْدُ الْأَسْعُدِ

وما أجمل قول بعضهم:

وَعَجْزٌ بِذِي أَدَبٍ أَنْ يَضِيقَ

بِعِيشَتِهِ وُسْعُ هَذِي الْبِلَادِ

وعجز: خبر مقدم عن فاقة، وبحر: متعلق بفاقة، والضمير في وراءه: للحر؛ قال العكبري: عجز ابتداء، وقد تفيد النكرة، وخبره: فاقة، فالباء متعلقة بفاقة، ويجوز أن تكون فاقة ابتداء، والخبر عجز مقدم عليه، وتقديره فاقة بحر عجز؛ فعلى هذا تكون النكرة قد تقدم عليها خبرها، وقيل: بل عجز خبر ابتداء محذوف دل عليه المعنى، تقديره: القعود عن قصدك عجز بحر، وفاقة ابتداء ثانٍ خبره محذوف تقديره: به فاقة. قال: ووراءه أي قدامه، قال تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ أي قدامهم — من الأضداد.

(٣٩) شج: حزين، والعطف: الجانب، وبعطفي: متعلق بعائذ، وعائذ: لاجئ، والقريض: الشعر، ويقال: قرضت الشعر أقرضه: إذا قلته، ومنه قول عبيد بن الأبرص: حال الجريض دون القريض؛ الجريض: الغصص، قاله للنعمان بن المنذر حين أراد قتله، فقال له أنشدني من قولك.
وقوله سواءك: فسواك إذا فتحت مدت، وإن كسرت قصرت، يقول: إن الشعر لاجئ إليَّ مستجير بي من أن أمدح به غيرك؛ إذ لا يستحقه أحد سواك.

(٤٠) الحيا: المطر. يقول: إن الرائحة الطيبة من الرياض بمنزلة الكلام لها، تحاول أن تثني على المطر الذي أحياها فتسطع رائحتها فتكون بذلك قد أثنت على المطر، وهذا من قول ابن الرومي يصف روضة:

شَكَرَتْ نِعْمَةَ الْوَلِيِّ عَلَى الْوَسـْ

ـمِيِّ ثُمَّ الْعِهَادِ بَعْدَ الْعِهَادِ

فَهْيَ تُثْنِي عَلَى السَّمَاءِ ثَنَاءً

طَيِّبَ النَّشْرِ شَائِعًا فِي الْبِلَادِ

مِنْ نَسِيمٍ كَأَنَّ مَسْرَاهُ فِي الْخَيـْ

ـشُومِ مَسْرَى الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ

(الوسمي: مطر الربيع الأول؛ لأنه يسم الأرض بالنبات، والولي: المطر يأتي بعد الوسمي ويليه، والعهاد: جمع عهد، وهو مطر بعد مطر.)
وأخذه السري الرفاء فقال:

وَكُنْتَ كَرَوْضَةٍ سُقِيَتْ سَحَابًا

فَأَثْنَتْ بِالنَّسِيمِ عَلَى السَّحَابِ

(٤١) جهد المقل؛ أي ذلك جهد المقل، والجهد: الطاقة والوسع، والمقل: الذي قلت ذات يده، وتوليه: تعطيه. يقول: إن رائحة الرياض جهد المقل؛ لأنها لا تستطيع النطق، فكيف ظنك بي إذا أحسنت إلي وأنا شاعر فصيح؛ أي إنني لا أغادر شكرك والثناء عليك، والجهد — بالفتح والضم — قال العكبري: وقال الفراء: بالضم، الطاقة، وحجته قراءة الجمهور: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، والجهد — بالفتح — من قولهم اجهَد جَهْدَك في الأمر؛ أي ابلُغ غايتك، ولا يقال: اجْهَد جُهْدَك — بالضم — والجهد بالفتح؛ المشقة، يقال: جهد دابته وأجهدها: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وأجهد في كذا؛ أي جد فيه وبالغ.

(٤٢) التباريح: الشدائد. يقول: إن القلوب تحبها للطف صورتها، وجارية — كما قال العكبري — ابتداء، وروح: اسم ما المشبهة بليس، والجار والمجرور الخبر، وقوله تباريح: ابتداء خبره المقدم عليه، وهو الجار والمجرور، وحرف الجر يتعلق بالاستقرار، ومن حبها: يتعلق بالابتداء.

(٤٣) يقول: إن كل طيب يستفيد طيب الرائحة من هذه الطاقة؛ لأنها أطيب الأشياء ريحًا.

(٤٤) يقول: إنني سأشرب الكأس امتثالًا لإشارتها، برغم أني أكره الخمر؛ ومن ثم سيسيل دمعي على خدي استبشاعًا للخمر.

(٤٥) منصرفي: مصدر ميمي بمعنى انصرافي. قال الواحدي: إن الليل يقول له انصرف، وهو يميل إلى مجلس الأمير، وإطالة اللبث فيه، ويعصي الليل، وبذلك حصل تنازع، وجعل ذلك قتالًا. ثم قال: وإذا انصرفت فقد أعنته على نفسي، ويجوز أن يكون المعنى: إن الليل برده ندماءه وتفريقه جلساءه يعمل على الخلو به، فانصرافي أمضى سلاح له وأعون على مراده، وقال العكبري — في قوله منصرفي — يريد انصرافي، وإذا زاد الفعل على الثلاثي استوى فيه المصدر واسم الزمان والمكان، وإذا كان متعديًا ساوت هذه الأشياء لفظ المفعول، فالمنصرف يقع على المصدر، والموضع الذي ينصرف عنه، وعلى الوقت الذي يقع فيه ذلك، وانصرف فعل لا يتعدى إلى مفعول فلو بني مثل هذه الأشياء مثل اجتذب ونحوها — مما هو على أربعة أو أكثر — استوت فيه الأشياء الأربعة المصدر والزمان والمكان والمفعول، يقال: حبل مجتذب وعجيب من مجتذبي حبلك أي اجتذابي، وهذا مجتذب حبلك أي الموضع الذي يجتذب فيه والوقت الذي كان فيه الاجتذاب.

(٤٦) البيت تعليل لقوله: ومنصرفي له أمضى السلاح. يقول: لأني كلما فارقت عيني، ولم أرك، لم أنم من شوقي إلى لقائك، فطال ليلي وبعد ما بين جفني والصباح. هذا، ويجوز رفع بين على إخراجه عن الظرفية وجعله مبتدأ وخبره بعيد. قال العكبري: ويجوز أن يكون فاعلًا ببعيد؛ كقول الشاعر:

كَأَنَّ رِمَاحَهُمْ أَشْطَانُ بِئْرٍ

بَعِيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ

(الأشطان: جمع شطن، وهو الحبل الطويل الشديد الفتل الذي يستقى به وتشد به الخيل، والجال: كل ناحية من نواحي البئر من أسفلها إلى أعلاها؛ والجرور: البئر البعيدة القعر، وبين: قال ابن منظور: البين ها هنا الوصل، قال: لأن البين في كلام العرب من الأضداد؛ إذ يكون بمعنى الفرقة ويكون الوصل كما في هذا البيت.)
ويجوز نصبه على الظرفية، وتقدير المبتدأ محذوفًا؛ أي بعيد ما بين جفني؛ قال الواحدي: ولو قال بين عيني الصباح لكان أظهر؛ لأن الصباح إنما يرى بالعين لا بالجفن.

(٤٧) الباعث: المحيي — من بعث الله الميت: إذا نشره — والطموح: الجموح، وهي العزيزة الممتنعة، والسهلبة: الطويلة من الخيل، والسبوح: التي تسبح في جريها. يقول: يا محيي كل مكرمة تستعصي على غيرك، ويا فارس الخيل الشديدات الجري.

(٤٨) النجلاء: الواسعة، والغموس: التي تغمس المطعون في الدم. يقول: إنه كان يطعن كل طعنة واسعة تغمس صاحبها المطعون في الدم، ويعصي كل من يعذله في الجود والإقدام.

(٤٩) يقول: أمكنني الله من الأعداء حتى أهريق دماءهم وآتى عليهم، والعرب تقول شربنا دم بني فلان يريدون قتلناهم وأرسلنا دماءهم على الأرض كالماء. هذا، وسقى وأسقى لغتان فصيحتان نطق بهما القرآن الكريم قال تعالى: وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا وقال جل شأنه: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا.

(٥٠) المراد بالطائرة: الحجلة، والحجلة: واحدة الحجل؛ طائر في حجم الحمام أحمر المنقار والرجلين يعيش في الصرود العالية يستطاب لحمه، والزجل ذو الصوت، وأراد بالزجل: جناح البازي، يعني حفيف جناحيه في الطيران. قال العكبري: من رفع زجل يكون الكلام تامًّا في النصف الأول، ويرتفع على الابتداء، والخبر، الجار والمجرور وهو متعلق بالاستقرار، وقال الواحدي: من نصبه نصبه على الحال إذا جعل المنايا البازي؛ لأنه سبب منايا الطير، وتَتَبَّعُهَا هي تَتْبعها، ورواها العكبري تتبعها وقال: يقال تبعته واتبعته وتتبعته. ثم قال: تبعت القوم إذا كنت خلفهم ومروا بك فمضيت معهم، وكذلك اتبعتهم وهو افتلعت، وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، وأتبعت غيري يقال: أتبعته الشيء فتبعه، وقال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل: ردفته وأردفته.

(٥١) جعل قصب ريشه سهامًا؛ لاستوائها وسرعة مرها، وجعل جسده جسمًا من رياح؛ لسرعة انقضاضه على الصيد، فالضمير منه: يعود على زجل الجناح، وفي سهام متعلق بمحذوف تقديره ظهر في سهام، وعلى جسد: في موضع الصفة، ومن رياح: متعلق بتجسم.

(٥٢) الجؤجؤ: الصدر. شبه سواد صدره بآثار مسح رءوس أقلام حبر غلاظ في ثوب أبيض، وروى ابن جني: غلاظًا — نصبًا على النعت للرءوس — وهو أجود؛ لأن المراد غلظ الرءوس حتى يكون أثر الحبر عريضًا، والصحاح: جمع صحيح، وروي الصحاح — بفتح الصاد — على النعت للجؤجؤ أو للريش على اللفظ لا المعنى.

(٥٣) أقعصها: قتلها قتلًا وحيًا سريعًا، والحجن: جمع أحجن، وهو المعوج — يريد مخالبه — والصفر: أصابعه، والأسنة: نصال الرماح، والصفاح: السيوف، يريد أن البازي قتل هذه الحجلة قتلًا سريعًا. هذا، ويقال مات فلان قعصًا إذا أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه، وضربه فأقعصه أي قتله مكانه، وأقعصه بالرمح وقعصه: طعنه طعنًا وحيًا، والقعاص داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت، وفي الحديث: من أشراط الساعة موتان يكون في الناس كقعاص الغنم، والحجن — بالتحريك — الاعوجاج، وصقر أحجن المخالب: معوجها، والمحجن: الصولجان لاعوجاجه.

(٥٤) لكي حي: خبر مقدم، ويوم موت، مبتدأ مؤخر، والفلاح: البقاء والفوز والنجاة، والفلاح: السحور، ومنه: حتى خفنا أن يفوتنا الفلاح أي السحور؛ لأنه به بقاء الصوم، وحي على الفلاح أي أقبل على النجاة.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي