شرح ديوان المتنبي (البرقوقي)/قافية الكاف

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

قافية الكاف

وقال وقد أجمل سيف الدولة ذكره:

رُبَّ نَجِيعٍ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ انْسَفَكَا

وَرُبَّ قَافِيَةٍ غَاظَتْ بِهِ مَلِكَا١

مَنْ يَعْرِفُ الشَّمْسَ لَا يُنْكِرْ مَطَالِعَهَا

أَوْ يُبْصِرِ الْخَيْلَ لَا يَسْتَكْرِمِ الرَّمَكَا٢

تَسُرُّ بِالْمَالِ بَعْضَ الْمَالِ تَمْلِكُهُ

إِنَّ الْبِلَادَ وَإنَّ الْعَالَمِينَ لَكَا٣

ولما أُنشد: أجاب دمعي٤ … إلخ، استحسنها فقال:

إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ فِي الشِّعْرِ مَلَكْ

سَارَ فَهْوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا فَلَكْ٥

عَدَلَ الرَّحْمَنُ فِيهِ بَيْنَنَا

فَقَضَى بِاللَّفْظِ لِي وَالْحَمْدِ لَكْ٦

فَإِذَا مَرَّ بِأُذْنِي حَاسِد

صَارَ مِمَّنْ كَانَ حَيًّا فَهَلَكْ٧

وقال لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه إلى جانب المصباح:

أَمَا تَرَى مَا أَرَاهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ

كَأَنَّنَا فِي سَمَاءٍ مَا لَهَا حُبُكُ٨

أَلْفَرْقَدُ ابْنُكَ وَالْمِصْبَاحُ صَاحِبُهُ

وَأَنْتَ بَدْرُ الدُّجَى وَالْمَجْلِسُ الْفَلَكُ٩

وقال يمدح عبيد الله بن يحيى البحتري:

بَكَيْتُ يَا رَبْعُ حَتَّى كِدْتُ أُبْكِيكَا

وَجُدْتُ بِي وَبِدَمْعِي فِي مَغَانِيكَا١٠

فَعِمْ صَبَاحًا لَقَدْ هَيَّجْتَ لِي شَجَنًا

وَارْدُدْ تَحِيَّتَنَا إِنَّا مُحَيُّوكَا١١

بِأَيِّ حُكْمِ زَمَانٍ صِرْتَ مُتَّخِذًا

رِئْمَ الْفَلَا بَدَلًا مِنْ رِئْمِ أَهْلِيكَا؟١٢

أَيَّامَ فِيكَ شُمُوسٌ مَا انْبَعَثْنَ لَنَا

إِلَّا ابْتَعَثْنَ دَمًا بِاللَّحْظِ مَسْفُوكَا١٣

وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ وَالْأَطْلَالُ مُشْرِقَةٌ

كَأَنَّ نُورَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْلُوكَا١٤

نَجَا امْرُؤٌ يَا ابْنَ يَحْيَى كُنْتَ بُغْيَتَهُ

وَخَابَ رَكْبُ رِكَابٍ لَمْ يَؤُمُّوكَا١٥

أَحْيَيْتَ لِلشُّعَرَاءِ الشِّعْرَ فَامْتَدَحُوا

جَمِيعَ مَنْ مَدَحُوهُ بِالَّذِي فِيكَا١٦

وَعَلَّمُوا النَّاسَ مِنْكَ الْمَجْدَ وَاقْتَدَرُوا

عَلَى دَقِيقِ الْمَعَانِي مِنْ مَعَانِيكَا١٧

فَكُنْ كَمَا أَنْتَ يَا مَنْ لَا شَبِيهَ لَهُ

أَوْ كَيْفَ شِئْتَ فَمَا خَلْقٌ يُدَانِيكَا١٨

شُكْرُ الْعُفَاةِ لِمَا أَوْلَيْتَ أَوْجَدَنِي

إِلَى نَدَاكَ طَرِيقَ الْعُرْفِ مَسْلُوكَا١٩

وَعُظْمُ قَدْرِكَ فِي الْآفَاقِ أَوْهَمَنِي

أَنِّي بِقِلَّةِ مَا أَثْنَيْتُ أَهْجُوكَا٢٠

كَفَى بِأَنَّكَ مِنْ قَحْطَانَ فِي شَرَفٍ

وَإِنْ فَخَرْتَ فَكُلٌّ مِنْ مَوَالِيكَا٢١

وَلَوْ نَقَصْتُ كَمَا قَدْ زِدْتَ مِنْ كَرَمٍ

عَلَى الْوَرَى لَرَأَوْنِي مِثْلَ شَانِيكَا٢٢

لَبَّى نَدَاكَ لَقَدْ نَادَى فَأَسْمَعَنِي

يَفْدِيكَ مِنْ رَجُلٍ صَحْبِي وَأَفْدِيكَا٢٣

مَا زِلْتَ تُتْبِعُ مَا تُولِي يَدًا بِيَدٍ

حَتَّى ظَنَنْتُ حَيَاتِي مِنْ أَيَادِيكَا٢٤

فَإِنْ تَقُلْ: هَا فَعَادَاتٌ عُرِفْتَ بِهَا

أَوْ لَا فَإِنَّكَ لَا يَسْخُو بِهَا فُوكَا٢٥

وورد كتاب من ابن رائق على بدر بن عمار بإضافة الساحل إلى عمله فقال:

تُهَنَّا بِصُورٍ أَمْ نُهَنِّئُهَا بِكَا؟

وَقَلَّ الَّذِي صُورٌ وَأَنْتَ لَهُ لَكَا٢٦

وَمَا صَغُرَ الْأَرْدُنُّ وَالسَّاحِلُ الَّذِي

حُبِيتَ بِهِ إِلَّا إِلَى جَنْبِ قَدْرِكَا٢٧

تَحَاسَدَتِ الْبُلْدَانُ حَتَّى لَوَ انَّهَا

نُفُوسٌ لَسَارَ الشَّرْقُ وَالْغَرْبُ نَحْوَكَا٢٨

وَأَصْبَحَ مِصْرٌ لَا تَكُونُ أَمِيرَهُ

وَلَوْ أَنَّهُ ذُو مُقْلَةٍ وَفَمٍ بَكَى٢٩

وسقاه بدر ولم يكن له رغبة في الشراب فقال:

لَمْ تَرَ مَنْ نَادَمْتُ إِلَّاكَا

لا لِسِوَى وُدِّكَ لِي ذَاكَا٣٠

وَلَا لِحُبِّيهَا وَلَكِنَّنِي

أَمْسَيْتُ أَرْجُوكَ وَأَخْشَاكَا٣١

وقد كان تاب بدر بن عمار من الشرب مرة بعد أخرى، فرآه أبو الطيب يشرب فقال ارتجالًا:

يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي نُدَمَاؤُهُ

شُرَكَاؤُهُ فِي مِلْكِهِ لا مُلْكِهِ٣٢

فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَنَا دَمُ كَرْمَةٍ

لَكَ تَوْبَةٌ مِنْ تَوْبَةٍ مِنْ سَفْكِهِ٣٣

وَالصِّدْقُ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ فَنَبِّنَا

أَمِنَ الشَّرَابِ تَتُوبُ أَمْ مِنْ تَرْكِهِ؟٣٤

وقال في محمد بن طغج وهو عند طاهر العلوي:

قَدْ بَلَغْتَ الَّذِي أَرَدْتَ مِنَ الْبِرْ

رِ وَمِنْ حَقِّ ذَا الشَّرِيفِ عَلَيْكَا

وَإِذَا لَمْ تَسْرِ إِلَى الدَّارِ فِي وَقـْ

ـتِكَ ذَا خِفْتُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْكَا٣٥

وقال في أبي العشائر وعنده إنسان ينشده شعرًا وصف فيه بركة في داره فقال:

لَئِنْ كَانَ أَحْسَنَ فِي وَصْفِهَا

لَقَدْ تَرَكَ الْحُسْنَ فِي الْوَصْفِ لَك٣٦

لِأَنَّكَ بَحْرٌ وَإِنَّ الْبِحَارَ

لَتَأْنَفُ مِنْ مَدْحِ هَذِي الْبِرَكْ٣٧

كَأَنَّكَ سَيْفُكَ لَا مَا مَلَكـْ

ـتَ يَبْقَى لَدَيْكَ وَلَا مَا مَلَكْ٣٨

فَأَكْثَرُ مِنْ جَرْيِهَا مَا وَهَبـْ

ـتَ وَأَكْثَرُ مِنْ مَائِهَا مَا سَفَكْ٣٩

أَسَأْتَ وَأَحْسَنْتَ عَنْ قُدْرَةٍ

وَدُرْتَ عَلَى النَّاسِ دَوْرَ الْفَلَكْ٤٠

وقال يمدح أبا شجاع عضد الدولة ويودعه، وهو آخر ما قال، وجرى فيها كلام كأنه ينعي نفسه وإن لم يقصد ذلك، وأنشدها في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وفيها قُتل:

فِدًى لَكَ مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ مَدَاكَا

فَلَا مَلِكٌ إِذَنْ إِلَّا فَدَاكَا٤١

وَلَوْ قُلْنَا: فِدًى لَكَ مَنْ يُسَاوِي

دَعَوْنَا بِالْبَقَاءِ لِمَنْ قَلَاكَا٤٢

وَآمَنَّا فِداءَكَ كُلَّ نَفْسٍ

وَإِنْ كَانَتْ لِمَمْلَكَةٍ مِلَاكَا٤٣

وَمَنْ يَظُّنُّ نَثْرَ الْحَبِّ جُودًا

وَيَنْصِبُ تَحْتَ مَا نَثَرَ الشِّبَاكَا٤٤

وَمَنْ بَلَغَ التُّرَابَ بِهِ كَرَاهُ

وَقَدْ بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ السُّكَاكَا٤٥

فَلَوْ كَانَتْ قُلُوبُهُمُ صَدِيقًا

لَقَدْ كَانَتْ خَلَائِقُهُمْ عِدَاكَا٤٦

لِأَنَّكَ مُبْغِضٌ حَسَبًا نَحِيفا

إِذَا أَبْصَرْتَ دُنْيَاهُ ضِنَاكَا٤٧

أَرُوحُ وَقَدْ خَتَمْتَ عَلَى فُؤَادِي

بِحُبِّكَ أَنْ يَحِلَّ بِهِ سِوَاكَا٤٨

وَقَدْ حَمَّلَتْنِي شُكْرًا طَوِيلًا

ثَقِيلًا لَا أُطِيقُ بِهِ حِرَاكَا٤٩

أُحَاذِرُ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمَطَايَا

فَلَا تَمْشِي بِنَا إِلَّا سِوَاكَا٥٠

لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُهُ رَحِيلًا

يُعِينُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ذَرَاكَا٥١

وَلَوْ أَنِّي اسْتَطَعْتُ خَفَضْتُ طَرْفِي

فَلَمْ أُبْصِرْ بِهِ حَتَّى أَرَاكَا٥٢

وَكَيْفَ الصَّبْرُ عَنْكَ وَقَدْ كَفَانِي

نَدَاكَ الْمُسْتَفِيضُ وَمَا كَفَاكَا؟٥٣

أَتَتْرُكُنِي وَعَيْنُ الشَّمْسِ نَعْلِي

فَتَقْطَعَ مِشْيَتِي فِيهَا الشِّرَاكَا؟!٥٤

أَرَى أَسَفِي وَمَا سِرْنَا شَدِيدًا

فَكَيْفَ إِذَا غَدَا السَّيْرِ ابْتِرَاكَا؟!٥٥

وَهَذَا الشَّوْقُ قَبْلَ الْبَيْنِ سَيْفٌ

فَهَا أَنَا مَا ضُرِبْتُ وَقَدْ أَحَاكَا٥٦

إِذَا التَّوْدِيعُ أَعْرَضَ قَالَ قَلْبِي:

عَلَيْكَ الصَّمْتَ لَا صَاحَبْتَ فَاكَا٥٧

وَلَوْلَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا تَمَنَّى

مُعَاوَدَةٌ لَقُلْتُ: وَلَا مُنَاكَا٥٨

قَدِ اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ

وَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا٥٩

فَأَسْتُرُ مِنْكَ نَجْوَانَا وَأُخْفِي

هُمُومًا قَدْ أَطَلْتُ لَهَا الْعِرَاكَا٦٠

إِذَا عَاصَيْتُهَا كَانَتْ شِدَادًا

وَإِنْ طَاوَعْتُهَا كَانَتْ رِكَاكَا٦١

وَكَمْ دُونَ الثَّوِيَّةِ مِنْ حَزِينٍ

يَقُولُ لَهُ قُدُومِي: ذَا بِذَاكَا٦٢

وَمِنْ عَذْبِ الرُّضَابِ إِذَا أَنَخْنَا

يُقَبِّلُ رَحْلَ تُرْوَكَ وَالْوِرَاكَا٦٣

يُحَرِّمُ أَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ بَعْدِي

وَقَدْ عَبِقَ الْعَبِيرُ بِهِ وَصَاكَا٦٤

وَيَمْنَعُ ثَغْرَهُ مِنْ كُلِّ صَبٍّ

وَيَمْنَحُهُ الْبَشَامَةَ وَالْأَرَاكَا٦٥

يُحَدِّثُ مُقْلَتَيْهِ النَّوْمُ عَنِّي

فَلَيْتَ النَّوْمَ حَدَّثَ عَنْ نَدَاكَا٦٦

وَأَنَّ الْبُخْتَ لَا يُعْرِقْنَ إِلَّا

وَقَدْ أَنْضَى الْعُذَافِرَةَ اللِّكَاكَا٦٧

وَمَا أَرْضَى لِمُقْلَتِهِ بِحُلْمٍ

إِذَا انْتَبَهَتْ تَوَهَّمَهُ ابْتِشَاكَا٦٨

وَلَا إِلَّا بِأَنْ يُصْغِي وَأَحْكِي

فَلَيْتَهُ لَا يُتَيِّمُهُ هَوَاكَا٦٩

وَكَمْ طَرِبِ الْمَسَامِعِ لَيْسَ يَدْرِي

أَيَعْجَبُ مِنْ ثَنَائِي أَمْ عُلَاكَا٧٠

وَذَاكَ النَّشْرُ عِرْضُكَ كَانَ مِسْكًا

وَذَاكَ الشِّعْرُ فِهْرِي وَالْمَدَاكَا٧١

فَلَا تَحْمَدْهُمَا وَاحْمَدْ هُمَامًا

إِذَا لَمْ يُسْمِ حَامِدُهُ عَنَاكَا٧٢

أَغَرَّ لَهُ شَمَائِلُ مِنْ أَبِيهِ

غَدًا يَلْقَى بَنُوكَ بِهَا أَبَاكَا٧٣

وَفِي الْأَحْبَابِ مُخْتَصٌّ بِوَجْدٍ

وَآخَرُ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا٧٤

إِذَا اشْتَبَهَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ

تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى٧٥

أَذَمَّتْ مَكْرُمَاتُ أَبِي شُجَاعٍ

لِعَيْنِي مِنْ نَوَايَ عَلَى أُولَاكَا٧٦

فَزُلْ يَا بُعْدُ عَنْ أَيْدِي رِكَابٍ

لَهَا وَقْعُ الْأَسِنَّةِ فِي حَشَاكَا٧٧

وَأَيًّا شِئْتِ يَا طُرُقيِ فَكُونِي

أَذَاةً أَوْ نَجَاةً أَوْ هَلَاكَا٧٨

فَلَوْ سِرْنَا وَفِي تَشْرِينَ خَمْسٌ

رَأَوْنِي قَبْلَ أَنْ يَرَوُا السِّمَاكَا٧٩

يُشَرِّدُ يُمْنُ فَنَّاخُسْرَ عَنِّي

قَنَا الْأَعْدَاءِ وَالطَّعْنَ الدِّرَاكَا٨٠

وَأَلْبَسُ مِنْ رِضَاهُ فِي طَرِيقِي

سِلَاحًا يَذْعَرُ الْأَبْطَالَ شَاكَا٨١

وَمَنْ أَعْتَاضُ عَنْكَ إِذَا افْتَرَقْنَا

وَكُلُّ النَّاسِ زُورٌ مَا خَلَاكَا؟!٨٢

وَمَا أَنَا غَيْرُ سَهْمٍ فِي هَوَاءٍ

يَعُودُ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ امْتِسَاكَا٨٣

حَيِيٌّ مِنْ إِلَهِي أَنْ يَرَانِي

وَقَدْ فَارَقْتُ دَارَكَ وَاصْطَفَاكَا٨٤

هوامش

(١) النجيع: الدم. والقافية: القصيدة. يقول: رب دم انسفك — انصب — بسيف الدولة؛ أي بسببه لأنه سفكه هو أو أمر بسفكه، ورب قصيدة مدح بها فغاظت تلك القصيدة ملكًا وحسده عليها لحسنها.

(٢) الرمك: جمع رمكة؛ البرذونة تتخذ للنسل دون الركوب. يقول: من عرفك لم يجحد فضلك كالشمس لا يدفع ارتفاعها من عرفها، ومن رآك لم يستعظم غيرك، كمن أبصر عتاق الخيل لم يستكرم الرمك منها. ويروى بدل يستكرم: يستفره، هما بمعنًى.

(٣) يقول: إن الناس كلهم لك فإذا وهبت أحدًا شيئًا فقد سررت بمالك مالك؛ لأن الكل لك. ولعله ينظر في هذا إلى قول عدي بن زيد:

وَلَكَ الْمَالُ وَالْبِلادُ وَمَا

يُمْلَكُ مِنْ ثَابِتٍ وَمُسْتَاقِ

(٤) أراد القصيدة التي مطلعها:

أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى طَلَلٍ

دَعَاهُ فَلَبَّاهُ قَبْل الرَّكْبِ وَالْإِبِلِ

(٥) يقول: إن شعره بين الشعر كالملك بين الناس يفضل سائر الأشعار كما تفضل الملائكة الخلق، وهو سائر في الدنيا سير الشمس في السماء. هذا؛ والملك — بالتحريك — واحد وجمع. قال الكسائي: أصله مألك — بتقديم الهمزة — من الألوكة، وهي الرسالة. ثم قلبت، وقدمت اللام، فقيل: ملأك. وأنشد أبو عبيدة لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح بعض الملوك، قيل: هو النعمان. وقال ابن السيرافي: هو لأبي وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير:

فَلَسْتُ لِإِنْسِي وَلَكِنْ لِمَلْأَكِ

تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل: ملك، فلما جمعوه ردوها إليه، فقالوا: ملائكة وملائك أيضًا، قال أمية بن أبي الصلت:

وَكَأَنَّ بِرْقِعَ وَالْمَلَائِكَ حَوْلَهَا

سَدِرٌ تَوَاكَلَهُ الْقوَائِمُ أَجْرَبُ

(برقع: اسم من أسماء السماء قيل: هي السابعة، وسدر: أي بحر. شبه السماء بالبحر، أراد لملامسته لا لجريه. وقوله: تواكله القوائم؛ أي تواكلته الرياح فلم يتموج.)
قال ابن بري: صوابه أجرد — بالدال — لأن القصيدة دالية، وقبله:

فَأَتَمَّ سِتًّا فَاسْتَوَتْ أَطْبَاقهَا

وَأَتَى بِسَابِعَةٍ فَأَتَى تورَد

وفيها يقول في صفة الهلال:

لَا نَقْصَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ خَبِيئَهُ

قَمَرٌ وَسَاهُورٌ يُسَلُّ وَيُغْمَدُ

(الساهور كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف فيما تزعمه العرب.)

(٦) يقول: عدل الله فيه بيني وبينك فقضى لي بالإحسان في نظمه وقضى لك بما يختلج فيه من الحمد والثناء عليك، فحكم لي بلفظه وحسنه ولك بالحمد دائمًا، وفيه نظر إلى قول ابن الرومي:

خُذْ مِنْ فَوَائِدِكَ الَّتِي أَعْطَيْتَنِي

فَالدُّرُّ دُرُّكَ وَالنِّظَامُ نِظَامِي

(٧) يقول: إذا سمع شعري حاسد لي من الشعراء أو حاسد لك من الملوك مات من الحسد؛ لأن لفظه يعجز الشعراء عن الإتيان بمثله. وما فيه من المحامد لم يمدح به أحد من الملوك.

(٨) الحبك: طرائق النجوم في السماء. جعل مجلسه في علو قدره كالسماء. غير أنه ليست له طرائق كما للسماء.

(٩) الفرقد: نجم معروف، وهما فراقدان. جعل ابنه — وهو قريب من المصباح — كالفرقد، وأراد بالصاحب: الفرقد الآخر. وفي هذا نظر إلى قول علي بن الجهم:

كَأَنَّهُ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ تَتْبَعُهُ

بَدْرُ السَّمَاءِ تَلِيهِ الْأَنْجُمُ الزُّهُرُ

وقال ابن وكيع: هذا التشبيه من قول أبي نواس:

قَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الْحَرُورُ

وَأَذْكَتْ نَارَهَا الشِّعْرَى الْعَبُورُ

فَقُومَا فَانْكِحَا خَمْرًا بِمَاءٍ

فَإِنَّ نِتَاجَ بَيْنِهِمَا السُّرُورُ

نِتَاجٌ لَا تَدِرُّ عَلَيْهِ أُمُّ

بِحَمْلٍ لَا تُعَدُّ لَهُ الشُّهُورُ

إِذَا الْكَاسَاتُ كَرَّتْهَا عَلَيْنَا

تَكَوَّنَ بَيْنَهَا فَلَكٌ يَدُورُ

تَسِيرُ نُجُومُهُ عَجَلًا وَرَيْثًا

مُشَرِّقَةً وَأَحْيَانًا تَغُورُ

إِذَا لَمْ يُجْرِهِنَّ الْقُطْبُ مِتْنا

وَفِي دَوْرَاتِهِنَّ لَهَا نُشُورُ

(١٠) المغاني: جمع مغنى، وهو المنزل الذي كان به أهله. يقول: بكيت عليك يا ربع حتى لو كنت ممن يعقل لرثيت لحالي وبكيت لبكائي، فقد أتلفت نفسي وأفنيت دمعي في مغانيك أسفًا عليك وتذكرًا لأهلك. فقوله: وجُدْت بي: أي بنفسي؛ أي بكيت حتى أتلفتها.

(١١) عم صباحًا: بمعنى أنعم. يخاطب الربع على عادة العرب في مخاطبة الربوع والأطلال بعد ارتحال الأحبة عنها يتسلون بذلك، يقول للربع — على سبيل الدعاء: أنعم صباحًا، لقد حركت لي وجدًا حين نظرت إليك تذكرًا لما سلف لي فيك من وصل الأحبة، ونحن مسلمون عليك فاردد علينا. وهذا مما يدل على وَلَهِ العاشق لفقد الأحبة.

(١٢) الرئم: الظبي الخالص البياض. والفلا: جمع فلاة؛ الصحراء. يقول: أي حكم من أحكام الزمان جرى عليك حتى أقفرت فأوت إليك ظباء الصحارى بدلًا من ظباء الإنس اللاتي رحلن عنك؟ ومثله لأبي تمام:

وَظِبَاءُ أنْسِكَ لَمْ تُبَدَّلْ بَعْدَهَا

بِظِبَاءِ وَحْشِكَ ظَاعِنًا بِمُقِيمِ

(١٣) أراد بالشموس: الحسان. وانبعثن: ذهبن وجئن وتحركن. وابتعثن: أسلن. يقول: إني لأذكر أيام فيك شموس ما ظهرن لنا إلا أبكيننا دما مصبوبًا بنظرنا إليهن؛ أي أجرين بألحاظهن دماء عشاقهن. قال أبو نواس:

يَا نَاظِرًا مَا أَقْلَعَتْ لَحَظَاتُهُ

إِلَّا تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلُ

وقال أشجع السلمي:

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَحَاسِنِهَا

فَلِكُلِّ مَوْضِع نَظْرَةٍ قَتْلُ

وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:

وَجُفُون لَكَ لَا تَطـْ

ـرِفُ إِلَّا عَنْ قَتِيلِ

مَا جَمِيلُ الصَّبْرِ عَنْهَا

عِنْدَ مِثْلِي بِجَمِيلِ

(١٤) خضرة العيش: كناية عن الخصب والرغد. والأطلال: رسوم الديار. يقول: كان العيش رغدًا طيبًا، وأطلالك — أي التي هي أطلال اليوم — كانت مشرقة قبل تفرقة الأحبة وارتحالهم عنك. وفي البيت من البديع حسن التخلص.

(١٥) الركب: جمع راكب. والركاب: الإبل. ولم يؤموك: لم يقصدوك: يقول: تخلص من مكاره الزمان من كنتَ طلبته؛ أي من قصدك بانتجاعه وخاب من لم يقصدك. ويروى بدل ركب ركاب: ركب رجاء؛ أي قوم ركبوا وفي قلوبهم الرجاء ثم لم يقصدوك.

(١٦) يقول: إنك أحييت للشعراء الشعر بما أريتهم من دقائق الكرم والمجد، وعلمتهم من غوامض المعاني حتى استغنوا عن إخراجها بالفكر، فسهل عليهم الشعر حتى كأنه صار حيًّا بعد أن كان ميتًا، فامتدحوا ممدوحيهم بما فيك من خصال المجد ومعاني الشرف وهي لك، غير أنهم ينحلونها ممدوحيهم، وفي هذا نظر إلى قول ابن الرومي:

مَدَحَ الأَوَّلُونَ قَوْمًا بِأَخْلَا

قِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُرَى مَخْلُوقَا

نَحَلُوهُمْ ذَخَائِرًا لَكَ بِالْبَا

طِلِ مِنْ قُوْلِهِمْ وَكَانَ زَهُوقَا

فَانْتَزَعْنَا الْحُقُوقَ مِنْ غَاصِبِيهَا

فَحَبَا صَادِقٌ بِهَا مَصْدُوقَا

وفي البيت التالي زيادة بيان لمقصوده.

(١٧) مثله لأبي العتاهية:

شِيَمٌ فَتَّحَتْ مِنَ الْمَدْحِ مَا قَدْ

كَانَ مُسْتَغْلِقًا عَلَى الْمُدَّاحِ

ولابن أبي فنن:

يُعَلِّمُنَا الْفَتْحُ الْمَدِيحَ بِجُودِهِ

وَيُحْسِنُ حَتَّى يُحْسِنُ الْقَوْلَ قَائِلُهْ

وقول أبو تمام:

وَلَوْلَا خِلَالٌ سَنَّهَا الشِّعْرُ مَا دَرَى

بُنَاةُ الْعُلَا مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْمَكَارِمُ

وقال أيضًا:

تُغْرَى الْعُيُونُ بِهِ وَيُفْلِقُ شَاعِر

فِي وَصْفِهِ عَفْوًا وَلَيْسَ بِمُفْلقِ

(١٨) يقول: كن على الحالة التي أنت عليها أو كما شئت فليس أحد يقاربك في أوصافك وأخلاقك، وإنما قال: كما شئت؛ لأنه لا يكون إلا على طريقة من الكرم والمجد بديعة في جميع أحواله.

(١٩) العفاة: جمع عاف، وهو طالب المعروف. وأوليت: أعطيت. وأوجدني: جعلني أجد. يقول: إن شكر السائلين لعطائك دلني عليك، فوجدت طريق العرف مسلوكًا إليك فسلكته إلى جودك.

(٢٠) الآفاق: النواحي. يقول: إن ثنائي يقل ويحقر في جنب قدرك حتى لتخيلت الثناء هجاء؛ إذ لم يكن على قدر استحقاقك. قال البحتري:

جَلَّ عَنْ مَذْهَبِ الْمَدِيحِ فَقَدْ كَا

دَ يَكُونُ الْمَدِيحُ فِيهِ هِجَاء

(٢١) بأنك: الباء فيها زائدة، وأن وخبرها: في موضع رفع فاعل كفى. وفي شرف: خبر أن. ومن قحطان: حال مقدمة عن الضمير المستتر في الخبر. والشرط وما يليه: معطوف على خبر أنك. والموالي: العبيد. يقول: كفاك أنك من هذه القبيلة — قحطان — في موضع شريف أو نسب شريف فإن فخرت بهذا الشرف فكل بني قحطان عبيدك.

(٢٢) الشاني: المبغض، وأصله الشانئ — بالهمز — فلينه للقافية، يقول: لو نقصت أنا عن الناس كما زدت أنت عليهم لرأوني في الذلة والقلة مثل عدوك الذي يبغضك. وهذا من قول أبي عيينة:

لَوْ كَمَا تنقُص تَزْدَا

دَ إِذَنْ نِلْتَ السَّمَاءَ

ثم نقله أبو تمام فقال:

أَمَا لَوَ أَنَّ جَهْلَكَ كَانَ عِلْمًا

إِذَنْ لَنَفذتَ فِي عِلْمِ الْغُيُوبِ

(٢٣) لبى: تثنية لب، مثل: لبيك، واللب: اسم من الإلباب، وهو الملازمة، يقال: ألب بالمكان: إذا أقام به، وإنما ثنوا اللب؛ لأنهم أرادوا إلبابًا بعد إلباب، أي إجابة بعد إجابة. وهو يلزم الإضافة إلى ضمير المخاطب كقولهم: لبيك، ولم تسمع إضافته إلى غيره إلا شذوذًا كما في هذا البيت. وقوله: من رجل: فمن زائدة، والمجرور في موضع نصب على التمييز. يقول: دعاني جودك فأسمعني، فأنا أجيبه فأقول: لبى نداك، أو تقول: دعاني جودك بما ذاع من ثناء الناس عليه، وها أنا ذا مجيب لما يريد بي من الإحسان إلي وصوغ المديح له. ثم دعا للممدوح فقال: يفديك من رجل صحبي وأنا أفديك من بين الرجال.

(٢٤) تولي: تعطي. ويدًا: بدل بعض من الموصول قبله: واليد: النعمة. يقول: لم تزل تتبع نعمة بنعمة حتى كثرت أياديك عندي فظننت أن حياتي كذلك من جملة عطاياك. وهذا ينظر إلى قول الآخر:

لَا تَنْتفَنِّي بَعْدَ أَنْ رِشْتَنِي

فَإِنَّنِي بَعْض أَيَادِيكَا

(يقال: راشه يريشه؛ إذا أحسن إليه، وكل من أوليته خيرًا فقد رشته، ونتف الريش: نزعه. والمراد هنا: سلبه ما أعطاه إياه.)

(٢٥) ها — ها هنا — بمعنى خذ. يقول: فإن قلت لي: خذ فتلك عادة معروفة لك وإن لم تقل خذ، فإنك لا تقول لا — أي لا أعطيك أو لا أقضي حاجتك — فإن فاك — فمك — لا يجود بهذه الكلمة، ولسانك لا يؤتيك عليها؛ لأنك لم تتعود ذلك. وفي مثل هذا يقول الفرزدق:

مَا قَالَ «لَا» قَطُّ إِلَّا فِي تشهدِه

لولا التشهُّدُ كَانَتْ لَاءَهُ نَعَمُ

ويقول أبو العتاهية:

وَإِن الخليفةَ مِنْ بُغْضِ لَا

إِلَيْهِ لَيُبْغِضُ مَنْ قَالَهَا

ويقول العكوك في أبي دلف:

مَا خَطَّ لَا كَاتِبَاهُ فِي صَحِيفَتِهِ

كَمَا تخطط لَا فِي سَائِرِ الْكُتبِ

وحكى الواحدي قال: أهدى العميري إلى الصاحب كتبًا وكتب معها:

العميري عبد كافي الكفاة

وإن اعتدَّ من وجوه القضاة

خَدَم المجلسَ الرفيعَ بِكُتْبٍ

مُتْرَعَاتٍ مِنْ حُسْنِهَا مُفْعَمَات

فكتب إليه الصاحب:

قَدْ أَخَذْنَا مِنَ الْجَمِيعِ كِتَابًا

وَرَدَدْنَا لِوَقْتِهَا الْبَاقِيَاتِ

لَسْتُ أَسْتَغْنِمُ الْكَثِيرَ فَطَبْعِي

قَوْلُ خُذْ لَيْسَ مَذْهَبِي قَوْلُ هَاتِ

(٢٦) صور: بلد معروف بساحل البحر الأبيض من بلاد الشام. وتهنا بصور: أي أتهنأ بصور؟ فحذف همزة الاستفهام لما دلت عليه أم ولين همزة تهنأ للوزن. يقول: أتهنأ بولاية صور أم نهنئ صورًا بك؟ ثم قال: وقل لك الذي صور له وأنت له؛ أي أنت أحد أصحابه — يعني ابن رائق — يريد: لو كنت أنت ابن رائق — أي لو كنت تملك ما يملكه — لعد ذلك قليلًا بالنسبة إلى ما تستحقه، فصور — في الشطر الثاني — مبتدأ، وأنت: عطف عليها، وله: خبر. ولكا: متعلق بقل. وفي مثل هذا يقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

أَنُهَنِّيكَ بِطُوسٍ

أَمْ نُهَنِّي بِكَ طُوسَا؟

أَصْبَحَتْ بَعْدَ طَلَاقٍ

بِكَ يَا فَضْلُ عَرُوسَا

ويقول أشجع السلمي:

إِنَّ خراسَانَ وَقَدْ أَصْبَحَتْ

تَرْفَعُ مِنْ ذِي الْهِمَّةِ الشَّانَا

لَمْ يَحْبُ هَارُونُ بِهَا جَعْفَرًا

لَكِنَّهُ حَابَى خرَاسَانَا

[هارون: هو الرشيد. وجعفر: هو جعفر البرمكي.]

(٢٧) الأردن: معروف. وحبيت به: أعطيته: يقول: إن هذه الولاية إنما تصغر بالنسبة إليك وإلى عظيم قدرك وإلا فهي عظيمة الشأن في نفسها.

(٢٨) يقول: إن البلدان يحسد بعضها بعضًا على ولايتك، فلو أن لها نفوسًا تعقل لسعى إليك الشرق والغرب تهالكًا عليك وتلمسًا للافتخار بك. ومثل هذا المعنى كثير في كلامهم، قال أبو تمام:

لَوْ سَعَتْ بَلْدَةٌ لِإِعْظَامِ نُعْمَى

لَسَعَى نَحْوَهَا الْمَكَانُ الْجَدِيبُ

وقال البحتري:

وَلَوَ أَنَّ مُشْتَاقًا تكلفَ فَوْقَ مَا

فِي وُسْعِهِ لَسَعَى إِلَيْكَ الْمِنْبَرُ

(٢٩) مصر: أحد الأمصار؛ أي المدائن الكبيرة. وأصبح — ها هنا — تامة. والواو — من قوله: ولو أنه — واو الحال. وبكى: جواب لو؛ أي لو كان للمصر الذي حرم إمارتك عين تدمع وفم يبين عن شكواه لبكى أسفًا على أن لم تكن أميرًا عليه.

(٣٠) يقول: لم ترَ أحدًا غيرك نادمته، وليس ذلك لشيء سوى ودك لي؛ أي إنما أنادمك، لأنك تودني لا لمعنى آخر. فمن — ها هنا — نكرة بمعنى أحد. وإلاك: فيه قبح. والوجه: إلا إياك؛ لأن «إلا» ليس لها قوة الفعل، ولا هي أيضًا عاملة، وهو جائز في ضرورة الشعر، كقول القائل:

فَمَا نُبَالِي إِذَا مَا كُنْتِ جَارَتَنا

أَن لا يُجَاوِرَنَا إِلَّاكِ دَيَّارُ

(ديار: أحد، يقال: ما بالدار ديار؛ أي ما بها أحد، وهو فيعال: من دار يدور، يقول: إذا كنت جارتنا فلا نكترث لعدم مجاورة غيرك لنا.)

(٣١) لحبيها: أي لحبي إياها — يعني الخمر — كنى عنها وإن لم يجرِ لها ذكر. يقول: لست أنادمك لأني أحب الخمر؛ ولكن لأنك مرجو لأوليائك مهيب يهابك ويخشاك أعداؤك، ومن كان كذا، تجب طاعته.

(٣٢) يقول: أنت ملك وندماؤك شركاؤك في مالك، لا في ملكك، وفيه نظر إلى قول ابن الرومي:

وَمَنْ كَثُرَتْ فِي مَالِهِ شُرَكَاؤُهُ

غَدَا فِي مَعَالِيهِ قَلِيلَ الْمشَارِكِ

(٣٣) جعل الخمر دم الكرم، وجعل شربها سفكًا لذلك الدم. يقول: كل يوم تتوب من شرب الخمر ثم تتوب من تلك التوبة، والتوبة من التوبة ترك التوبة.

(٣٤) يقول: الصدق ديدن الكرام الأشراف فخبرنا عن أيهما تتوب؟ قيل: لما قال هذا، قال له بدر: بل من تركه، وقوله: فنبنا، هي فنبئنا، فترك الهمز.

(٣٥) يقول — وكان عنده في مجلس الشراب ليلًا وأطال: قد بلغت بنا ما أردت من الإكرام وقضيت حق هذا الشريف فقم إلى منزلك وإذا لم تقم خفت أن تجيء إليك الدار اشتياقًا إليك ومحبة لك.

(٣٦) يقول: إن كان قد أحسن في وصف البركة فقد ترك الحسن في وصفه إياك إذ لم يصفك ولم يمدحك.

(٣٧) يقول: كان وصفه لك أولى من وصف البركة؛ لأنك بحر والبحار تأنف من البرك لاستصغارها إياها. قال الواحدي: والذي سمعته في معنى البيتين أن ذلك الشاعر كان قد شبه البركة بأبي العشائر، فقال أبو الطيب: إنه قد ترك الحسن في وصفك حيث شبهها بك، وأنت بحر، والبحر فوق البركة بكثير.

(٣٨) يقول: أنت كسيفك لأنك تفني ما تملكه فلا يبقى لديك، وكذلك سيفك يفني ما يظفر به فلا يدع أحدًا حيًّا. وجعل السيف مالكًا — حيث قال: ولا ما ملك — مجازًا، ويقال: ملكتهم السيوف: إذا لم يمتنعوا منها.

(٣٩) من جريها: أي من جري ماء البركة. يقول: إن ما جرى من هباتك وعطاياك أكثر مما جرى من ماء البركة، وما سفك سيفك من الدماء أكثر من مائها.

(٤٠) يقول: أسأت إلى أعدائك وأحسنت إلى أوليائك عن قدرة وعممت الناس بالخير والشر عموم الفلك إياهم بالسعد والنحس.

(٤١) يقول: يفديك كل من لم يبلغ غايتك؛ وإذن يفديك جميع الملوك؛ لأنه لم يبلغ ملك غايتك وكلهم دونك. وقد أخذ هذا المعنى أبو إسحاق الصابي فقال:

أَيُهَذَا الْوَزِيرُ لَا زَالَ يَفْدِيـ

ـكَ مِنَ النَّاسِ كُلُّ مَنْ هُوَ دُونَكْ

وَإِذَا كَانَ ذَاكَ أَوْجَبَ قَوْلِي

أَنْ يَكُونُوا بِأَسْرِهِمْ يَفُدونَكْ

هذا: ويقال: فداه يفديه فداء وفدًى، وفاداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه وأنقذه. وفداه بنفسه وفدَّاه: إذا قال: له جعلت فداك. قال صاحب «الصحاح»: الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح مقصور، يقال: قم فدى لك أبي، ومن العرب من يكسر فداء — بالتنوين — إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول فداء لك؛ لأنه نكرة، يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة:

مَهْلًا فِدَاءٍ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمُ

وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ

وقال الفراء: العرب تقصر الفداء وتمده، يقال: هذا فداؤك وفداك، وربما فتحوا الفاء إذا قصروا، فقالوا: فداك. وقال في موضع آخر: من العرب من يقول: فدًى لك فيفتح الفاء، وأكثر الكلام كسر أولها، ومدها. وقال النابغة — وعنى بالرب النعمانَ بن المنذر:

فَدًى لَكَ مِنْ رَبِّ طَرِيفِي وَتَالِدِ

(٤٢) قلاك: أبغضك، يقال قلاه يقليه قلًى وقلاء، إن فتحت القاف مددت، ومقلية: أي أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه. وحكى سيبويه: قلاه يقلاه وهو نادر. وفي الحديث: «وجدت الناس أخبر تقله.» (يقول جرب الناس. فإنك إذا جربتهم قليتهم وتركتهم لما يظهر لك من بواطن سرائرهم. لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر: أي من جربهم وخبرهم أبغضهم وتركهم، ومعنى نظم الحديث: وجدت الناس مقولًا فيهم هذا القول.) وتقلَّى الشيء: تبغض، قال كثير:

أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ

لَدَيْنَا وَلَا مَقليةٌ إِنْ تَقَلَّتِ

(خاطب ثم غايب.)
يقول المتنبي: ولو قلنا: يفديك من يساويك لكان ذلك دعاء منا لأعدائك بالبقاء؛ لأنهم كلهم دونك ولا يساوونك. وقال ابن جني: المراد أن الخلق كلهم فداء الممدوح؛ لأنهم يقصرون عن مداه، فإذا قلنا: فداك من يساويك منهم دون غيرهم لكان هذا دعاء لمن يبغضك من الملوك بالبقاء؛ لأنهم لا يساوونك في الملك، بل يقصرون عنك.

(٤٣) وآمنا: عطف على قوله: دعونا. وملاك الشيء: قوامه. يقول: ونأمن أن تكون كل نفس فداءك، ولو كانت نفس ملك كبير الشأن تقوم مملكته به ويضمن لها البقاء ببقائه، إذا كان يفديك من يساويك؛ لأنهم جميعًا يقصرون عنك. وعبارة العكبري: المعنى: قد أمنت أن تفديك نفوس الخلائق أجمعين، وملوكهم المترفين، وإن كان من بين تلك النفوس من هو ملاك مملكة، ومن ينفرد بعلو منزلة، فهم عند إضافتهم إليك كالعوام الذين لا يحصل لهم نفع، والسوام الذين لا حظ لهم في الملك … فقوله فداءك: مفعول ثانٍ لآمنا مقدم، وكل نفس: مفعول أول.

(٤٤) ومن يظن: عطف على قوله كل نفس. ويظن: يفتعل، من الظن. وهذا تعريض بسائر الملوك، يشير إلى أنهم يجودون طمعًا في جر المنافع، كمن نثر حبًّا تحت شبكة لم يعد ذلك جودًا بالحب؛ لأنه إنما نثر لأخذ الصيد الذي هو خير من الحب.

(٤٥) الكرى: النعاس. والسكاك: الهواء الذي يلاقي عنان السماء. ومن بلغ التراب: يروى: ومن بلغ الحضيض. يقول: وآمنا فداءك كذلك من ألصقه عماه وغفلته بالتراب أو بالحضيض، وإن علت رتبته وحاله من ناحية المال والثراء حتى بلغ أعنان السماء، فحسبهم أنهم دونك.

(٤٦) الصديق: يقع على المذكر والمؤنث والجمع والتثنية. وعداك: جمع عدو. والخلائق: بمعنى الأخلاق. يقول: إن هؤلاء الملوك إن والتك قلوبهم فقد عادتك أخلاقهم؛ لأنها مضادة لأخلاقك. يريد أن هؤلاء الملوك وإن كانوا يوادونك فإن بينك وبينهم بونًا بعيدًا؛ إذ لم يبلغوا كرم أخلاقك ولا شرف نفسك، وقد بين ذلك في البيت التالي.

(٤٧) الحسب: ما يحدثه الرجل لنفسه من المفاخر. والضناك: الموثق الخلق المكتنزه، يكون ذلك في الناس والإبل، الذكر والأنثى فيه سواء، وامرأة ضناك: ضخمة — من الضنك الذي هو الضيق، كأن الجلد ضاق بكثرة اللحم. قال العجاج يصف جارية:

فَهي ضِنَاكٌ كَالْكَثِيبِ الْمُنْهَالْ

عَزَّزَ مِنْهُ وَهْوَ معطي الأَسْهَالْ

ضَرْبُ السَّوَارِي مَتْنه بالتَّهْتَالْ

الضناك: الضخمة — كالكثيب الذي ينهال عزز منه — أي سدد من الكثيب. ضرب السواري: أي أمطار الليل، فلزم بعضه بعضًا. شبه خلقها بالكثيب وقد أصابه المطر، وهو معطي الأسهال، أي يعطيك سهولة ما شئت.
يبين المتنبي الوجه في معاداة أخلاقهم له، يقول: إنك تبغض أن ترى أحدًا قلت مفاخره، وهو كثير المال يقدر على كسب المآثر والمحامد، ولكنه لا يفعل ذلك لشحه وصغر همته. والنحيف والضناك: استعارة، ولعل هذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم:

سَلِيلُ خِلَافَة وَغَذِيُّ ملكٍ

جَسِيمُ مَحَامِدٍ مَنْهُوكُ مَالِ

(٤٨) يقول: أروح عنك وقد ختمت على قلبي بحبك واستخلصته لنفسك بما ترادف على من برك، فلم يدع حبك فيه لغيرك مكانًا ينزل بساحته. وفيه نظر إلى قول ابن المعتز:

لَا أُشْرِكُ النَّاسَ فِي مَحَبَّتِهِ

قَلْبِي عَنِ الْعَالَمِينَ قَدْ خُتِمَا

(٤٩) وقد حملتني: عطف على الحال — في البيت السابق — والحراك بمعنى الحركة. كنى بثقل الشكر عن كثرة النعم التي تقتضيه، وهذا ينظر إلى قول أبي نواس:

قَدْ قُلْتُ لِلْعَبَّاسِ مُعْتَذِرًا

مِنْ ضَعْفِ شُكْريهِ وَمُعْتَرِفَا:

لَا تُسْدِيَنَّ إِلَيَّ عَارِفَةً

حَتَّى أَقُومَ بِشُكْرِ مَا سَلَفَا

(٥٠) الضمير — في يشق — للشكر. والسواك: بطء السير من عجف أو إعياء، يقال: تتساوك الدواب سواكا؛ إذا مشت هزلى ضعيفة، قال الشاعر:

إِلَى اللهِ أَشْكُو مَا جَرَى بِجِيَادِنَا

تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخهُنَّ قَلِيلُ

يقول: أحاذر أن يثقل هذا الشكر على دوابي لكثرة ما حملتني منه — والمراد النعم — فلا تمشي بنا إلا ضعيفة.

(٥١) الضمير في يجعله: للرحيل، وأراد يجعل هذا الرحيل رحيلا، فأضمر للأول وفسره بالثاني. والذرا: الكنف والناحية. يقول: أسأل الله أن يجعل هذا الفراق سببًا لإقامتي عندك بأن أصلح أموري وأعود إليك، أو بأن أحمل أهلي إلى حضرتك فأقيم عندك فارغ البال. وفي هذا نظر إلى قول عروة بن الورد:

تَقُولُ سُلَيْمَى: لَوْ أَقَمْتَ بِأَرْضِنَا!

وَلَمْ تَدْرِ أَنِّي لِلْمُقَامِ أُطَوِّفُ

وقول أبي تمام:

أَآلِفَةَ النَّحِيبِ كَمِ افْتِرَاقٍ

أَظَلَّ فَكَانَ دَاعيةَ اجْتِمَاعِ

وَلَيْسَتْ فَرْحَةُ الْأَوْبَاتِ إِلَّا

لِمَوْقُوفٍ عَلَى تَرَحِ الْوَدَاعِ

(٥٢) يقول: لو قدرت لغمضت عيني ولم أرفع بصري إلى أحد بالنظر إليه حتى أعود إليك، قال أبو النجم:

لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لَا أُعَايِنُكُمْ

غَضَضْتُ طَرْفِي فَلَمْ أُبْصِرْ بِهِ أَحَدَا

وقال صريع الغواني:

إِنْ يَحْجُبُوها عَنِ الْعُيُونِ فَقَدْ

حَجَبْتُ طَرْفِي لَهَا عَنِ الْبَشَرِ

(٥٣) يقول: كيف أصبر عنك وقد كفاني ما جدت به علي ولم يكفك ذلك فتأبى إلا أن تعطيني فوق ما أعطيتني وأنا غير مستزيد، فكيف والحال هذه أصبر عنك ولا أسرع العود إليك؟ وفيه نظر إلى قول البحتري:

فَلَمْ أَمْلَ إِلَّا مِنْ مَوَدَّتِهِ يَدِي

وَلَا قُلْتُ إِلَّا مِنْ مَوَاهِبِهِ: حَسْبِي

(٥٤) أتتركني: أراد أأتركك فقلب، ومثله كثير؛ لأن من تركته فقد تركك. والاستفهام إنكاري: أي لا أتركك، ونصب «فتقطع» لأنه جواب الاستفهام. والشراك: سير النعل. يقول: إذا كنت بحضرتك كنت من الرفعة بمنزلة من انتعل عين الشمس، وإذا فارقتك فارقتني هذه الرفعة، فكأني مشيت في تلك النعل حتى قطع مشيي شراكها. وإليك عبارة ابن جني: بحصولي عندك وقصدي لك شرفت عند الناس، فإذا بعدت عنك زال ما كسوتنيه من الشرف والرفعة فصرت بمنزلة من كانت نعله عين الشمس فمشى فيها فانقطع شراكها فسقط من رجله.

(٥٥) وما سرنا: حال معترضة بين مفعولي أرى، والابتراك: سرعة السير. وأصله: السقوط على الركب. يقول: أرى أسفي لمفارقتك شديدًا وأنا لم أسر بعد، فكيف يكون أسفي إذا جد بنا المسير؟ وفي هذا المعنى يقول سحيم عبد بني الحسحاس:

أَشَوْقًا وَلَمَّا يَمْضِ غَيْرُ لُيَيْلَةٍ

فَكَيْفَ إِذَا جَدَّ الْمَطِيُّ بِنَا عَشرَا؟!

وقال أشجع السلمي:

فَهَا أَنْتَ تَبْكِي وَهُمْ جِيرَةٌ

فَكَيْفَ تَكُونُ إِذَا وَدَّعُوا؟!

لَقَدْ صَنَعُوا بِكَ مَا لَا يَحلُّ

وَلَوْ رَاقَبُوا اللَّهَ لَمْ يَصْنَعُوا

أَتَطْمَعُ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْفِرَاقِ

مُحَالٌ لعَمْرَكَ مَا تَطْمَعُ

وقال آخر:

لَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي خِيفَةً لِفِرَاقِهِ

فَكَيْفَ إِذَا بَانَ الْحَبِيبُ فَوَدَّعَا؟!

(٥٦) البين: الفراق. والظرف: حال مقدمة من السيف. وحاك وأحاك — لغتان — أثر. والبين: البعد والفراق. يقول: هذا الشوق عمل فيَّ عمل السيف ولم نتفارق وأثر فيَّ تأثيره ولم أضرب به بعد! أي إذا كان هذا حال الشوق قبل الفراق فكيف يكون بعده؟

(٥٧) أعرض الشيء: بدا وظهر. وعليك: اسم فعل بمعنى الزم. يقول: إذا حضر الوداع قال لي قلبي الزم الصمت بعد مفارقته ولا تمدح غيره، فقوله لا صاحبت فاك: أي لا نطقت. وقال بعض الشراح: أي لا تتكلم بالوداع.

(٥٨) معاودة: خبر أن. والمنى: جمع منية وهو ما يتمناه الإنسان. يقول: لولا أن أكثر ما تمناه قلبي أن أعود إليك لقلت له: ولا بلغت أنت أيضًا مناك في الارتحال حتى لا أفارقه، ولكنه يتمنى الارتحال للعود إلى الممدوح. وعبارة بعض الشراح: قوله: ولا مناكا؛ أراد ولا صاحبت مناك — بضم تاء صاحبت — ضمير الشاعر، أو بفتحها خطابًا للقلب على أحد الوجهين — في البيت السابق — يقول: ولولا أن أكثر ما تمناه قلبي أن أعود إليك لقلت له ولا صاحبت مناك أيضًا: أي لا كانت لك منية تتمناها، وهو دعاء عليه باليأس؛ وذلك لأن قلبه يتمنى الرحيل حينئذٍ، فهو من جملة تلك المنى. يعني أنه كان يدعو عليه بزوال المنى لتزول هذه المنية من بينها فيبقى عند الممدوح.

(٥٩) استشفيت: طلبت الشفاء. يقول مخاطبًا قلبه: قد طلبت الشفاء من داء الشوق إلى الأهل والوطن بداء الفراق للممدوح، وما شفاك من داء الشوق هو أقتل مما أعلك؛ أي أنك تداويت من فراقه بما هو أقتل لك من الشوق إلى الأهل. ويروى: إذا استشفيت فأقتل؛ أي إذا استشفيت من داء الشوق إلى الأهل بداء فراق الممدوح، فالداء الذي يشفيك هو أقتل الداءين. يعني إذا داويت شوقك بفراقه فقد داويته بما هو أقتل لك من الشوق. قال العكبري: وهو من قول الحكيم: إذا كان سقم النفس بالجهل كان شفاؤها بالموت. وهو منقول أيضًا من قول حميد بن ثور:

أَرَى بَصرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ صِحَّةٍ

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا!

وقال بعضهم:

أَفْضَى بِكِ الْهَجْرُ إِلَى آلِيا

فَجِئْت مِنْ دَاءٍ إِلَى دَاءِ

(٦٠) النجوى: الحديث الخفي. يقول: فأستر عنك يا عضد الدولة ما يجري بيني وبين قلبي من المناجاة، وأخفي عنك هموم فراقك التي قد أطلت عراكها ومغالبتها.

(٦١) الركاك: الضعاف، جمع ركيك؛ أي ضعيف. يقول: إذا عاصيت هذه الهموم — هموم الشوق إلى الأهل — ولم أجبها إلى السفر والرحيل اشتدت عليَّ وإذا طاوعتها وأزمعت الرحيل ضعفت وهانت. وقال الواحدي: المعنى: إذا عاصيت هذه الهموم في فراق الممدوح اشتدت عليَّ وإن طاوعتها في الإقامة عنده سهلت شدتها. ومثل هذا قول أبي العتاهية:

كَمْ أُمُورٍ عَاصَيْتُهُنَّ زَمَانًا

ثُمَّ هَوَّنتَهَا عَلَيَّ فَهَانَتْ

(٦٢) الثوية: مكان بالكوفة. وذا: مبتدأ، خبره: الظرف بعده. يقول: كم دون هذا المكان من إنسان حزين لفراقي إذا قدمت عليه سر بقدومي فيقول له القدوم: هذا السرور بذلك الغم الذي كنت لقيته بالبعد، كما قال أبو تمام:

وَلَيْسَتْ فَرْحَةُ الْأَوْبَاتِ إِلَّا

لِمَوْقُوفٍ عَلَى تَرَحِ الْوَدَاعِ

وقال ابن الرومي يخاطب أمه وقد أراد سفرًا:

فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ اكْتِئَابًا بِشَاخِصٍ

سَيُتْبِعُهُ اللهُ ابْتِهَاجًا بِقَادِمِ

(٦٣) ومن عذب: عطف على من حزين. والرضاب: الريق. وأنخنا: أي أنخنا مطايانا، وهو كناية عن النزول. وتروك: اسم ناقة حمله عليها عضد الدولة. والوراك: النمرقة التي تلبس مقدم الرحل ثم تثنى تحته يزين بها، والجمع ورك. قال زهير:

مُقَوَّرَةً تَتَبَارَى لَا شَوَارَ لَهَا

إِلَّا الْقُطُوعُ عَلَى الْأَجْوَازِ وَالْوُركِ

(الشوار والشارة: اللباس والهيئة، ويقال: جاءت الإبل مقورة: أي شاسفة — يابسة — من الضمر، والمقور أيضًا من الخيل: الضامر. والقطوع: جمع قطع؛ الطنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. والأجواز: الأوساط.)
يقول: وكم هناك من شخص عذب الرضاب يشتهى تقبيل فيه إذا وصلنا فأنخنا مطايانا قبل رحل ناقتي ووراكها؛ لأنها أدتني إليه.

(٦٤) صاك به الطيب يصيك: أي لصق به، قال الأعشى:

وَمِثْلكِ مُعْجَبَةٌ بِالشَّبَا

بِ صاك الْعَبِيرَ بِأَجْلَادِهَا

والعبير: أخلاط من الطيب. يقول: إن هذا الشخص لم يمس بعدي طيبًا حزنًا على فراقي، وهو مع ذلك تشم منه روائح الصب حتى لكأن الطيب قد لصق به.

(٦٥) الثغر: مقدم الأسنان. والصب: العاشق. والبشام والأراك: نوعان من الشجر يستاك بفروعهما. يقول: لا يصل إلى ثغره عاشق لتصونه وعفته ولكنه ببذل ثغره للسواك المتخذ من هذين الشجرين.

(٦٦) يقول: إذا نام هذا الشخص المولع بقدومي رأى خيالي في النوم، فليت نومه حدثه عن إحسانك إليَّ حتى يعذرني في الإقامة عندك.

(٦٧) البخت: الجمال الخراسانية، ورُوي البدن: أي السمان من الإبل. ويعرقن: أي يأتين العراق، والكوفة بلد أبي الطيب: أحد بلاد العراق. وأنضى العذافرة: أي هزلها، والضمير للندى. والعذافرة: الناقة الشديدة. واللكاك: المكتنزة اللحم. يقول: وليت النوم حدث هذا الشخص أن ركابنا لا تبلغ العراق إلا وقد أنضاها ثقل ما حملت من عطاياك.

(٦٨) الابتشاك: الكذب. يقول: وإن حدثه النوم عني فلست أرضى له بحلم إذا انتبه من نومه توهمه كذبًا: أي أني آبي عليه إلا أن يراني في اليقظة على ما وصف له الحلم.

(٦٩) ولا إلا: أي ولا أرضى إلا، فحذف الفعل للعلم به، يقول: ولا أرضى بشيء إلا بأن يستمع إليَّ وأحكي ما أغدقته عليَّ من نعمك وإفضالك، فليته عند ذلك لا يتيمه هواك ويستعبده حبك؛ لأن الإحسان يستعبد الإنسان. و«فليته» و«لا يتيمه» على حذف إشباع الضمير، وهي رواية ابن جني، ورُوي: فليتك. وأسكن الياء من يصغي وأحكي ضرورة أو على لغة.

(٧٠) يقول: وكم من إنسان تطرب مسامعه إذا سمع شعري فيك ولا يدري أيتعجب من حسن ثنائي عليك أم من علو شأنك الذي يقتضي هذا الثناء؟ وعبارة العكبري: والمعنى: كلاهما عجب لأني أثبت في شعري من فضلك وأظهرت فيه من مدحك ما ليس يدري عند سماعه لذلك، أيعجب من علاك وما تبلغه من الرفعة والجلالة أم من ثنائي؟

(٧١) النشر: الرائحة الطيبة، ويريد به: الثناء. والعرض: ما يمدح ويذم من الإنسان. والفهر: الحجر الذي يسحق به الطيب. والمداك: الصلاية التي يداك عليها؛ أي يدق ويسحق. يقول: ذاك الثناء الطيب الرائحة الذي هو عرضك كان بمنزلة المسك. وكان شعري بمنزلة الفهر والمداك لذلك المسك، وطيب المسك إنما يظهر من الفهر والمداك، كذلك رائحة الثناء إنما تفوح بالشعر. كما قال ابن الرومي:

وَمَا ازْدَادَ فَضْلٌ فِيكَ بِالْمَدْحِ شُهْرَةً

بَلَى كَانَ مِثْلَ الْمِسْكِ صَادَفَ مِخْوَضَا

[المخوض: الذي يحرك به الطيب؛ وذلك لا يزيد الطيب فضلًا بل يظهر رائحته، كذلك هذا الشعر يظهر فضائل الممدوح للناس ولا يزيده فضلًا.]

(٧٢) الهمام: الملك العظيم الهمة. يقول: لا تحمد الفهر والمداك اللذين جعلتهما مثلًا لشعري واحمد نفسك فإنك تستحق الحمد بخصالك الحميدة. وقوله: إذا لم يسمُ حامده، يعني بحامده: نفسه. يقول: إذا حمدتك بذكر إنعامك ولم أذكر اسمك كنت أنت المعني بذلك الحمد؛ لأنه لا يليق إلا بك. وهذا ينظر إلى قول أبي نواس:

وَإِنْ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ مِنَّا بِمَدْحَةٍ

لِغَيْرِكَ إِنْسَانًا فَأَنْتَ الَّذِي نَعْنِي

(٧٣) أغر: صفة لهمامًا، والمراد بالأغر: الشريف. والشمائل: الأخلاق. يقول: أنت ورثت شمائل أبيك، وكما ورثتها من أبيك تورثها بنيك، فهم غدًا — أي إذا شبوا عن الطوق وظهرت تلك الشمائل فيهم — يلقون أباك بها فيرى شمائله فيهم كما رآها فيك. قال الواحدي: وكان حقه أن يقول أباهم، لكنه قال أباك: إشارة إلى أنهم لم يبلغوا بعد رتبته حتى يشبهوه، بل يشبهون أباه.

(٧٤) يقول: إن حال الأحباب تتشابه، ففيهم من يكون حزينًا عند فراق أحبته مختصًّا بالوجد دون غيره، وفيهم من يدعي الاشتراك في الوجد وليس لدعواه حقيقة، يريد أنه صحيح الود والموالاة غير مدخول المحبة، فليس كمن يدعي الاشتراك على غير حقيقة.

(٧٥) اشتبهت: تشابهت. وتباكى: تكلف البكاء. يقول: إذا تشابهت الدموع ظهر الذي يبكي عن حزن دفين في القلب ممن يتكلف البكاء وقلبه خالٍ من دواعيه.

(٧٦) يقولون: أذم له من فلان: أخذ له الذمة والعهد، وأذم له على فلان: أخذ له الذمة ليجيره منه. والنوى: البعد. وأولاكا: لغة في أولئك. وقد اختلف الشراح في معنى البيت، فذهب ابن جني إلى أن المعنى: إن مكرمات أبي شجاع أخذت لعيني عهدًا من البعد أن تكون في مأمن من تلك الدموع؛ أي دموع المتباكي، يعني أن مكرماته تمنع عيني أن تجري على فراقه دموعًا كاذبة لأنه قد ملك قلبي بإحسانه، فأنا أبكي على الحقيقة لا تكلفًا، فالإشارة في أولاكا للدموع الكاذبة. وقال الواحدي: إن مكرماته منعت عيني وعقدت لها عقدًا على أهلي من فراق عضد الدولة، يريد أني أشتهي ملازمتك والبعد عن أولئك، فالإشارة في أولاكا لأهله، وهذا على رواية نواي. ورُوي: ثواي — مقصور الثوى — أي المقام، يعني أن مكرماته أذمت لعيني من المقام عليهم — أي على أهله — أي عقدت لعيني عقدًا يؤمنها من النظر إلى أولئك. يريد أنها قصرتها على عضد الدولة فلا تنظر إلى غيره، ويكون: على أولاكا متعلق بالثوى.

(٧٧) الركاب: الإبل تحمل القوم. والأسنة: نصال الرماح. يخاطب البعد، يقول: تنح عن أيدي هذه المطايا فإنها تقطعك كما تقطع الأسنة الأحشاء.

(٧٨) قال الواحدي: هذا كلام ضجر، يقول لطريقه: كوني كيف شئت فإني لا أبالي وإن كان الهلاك في سلوكك، قيل: إن عضد الدولة قال: تطيرت عليه من تركه النجاة بين الأذاة والهلاك.

(٧٩) تشرين: اسم لشهرين بين أيلول وكانون الأول من السنة الشمسية: تشرين الأول وهو الشهر العاشر وأيامه ٣١، وتشرين الثاني وهو الحادي عشر وأيامه ٣٠. والسماكان: كوكبان نيران، يقال لأحدهما: السماك الرامح؛ لأن أمامه كوكبًا صغيرًا يقال له: راية السماك ورمحه، وللآخر: السماك الأعزل؛ لأنه ليس أمامه شيء، والمراد هنا: السماك الأعزل، وقد كان هذا النجم يطلع في الثالث عشر من تشرين الأول. يقول: لو سرنا وقد مضت خمس ليالٍ من تشرين الأول لبلغت الكوفة قبل أن يطلع هذا الكوكب، فرآني أهلها قبل أن يروه. يريد أنه لسرعة سيره وإدآبه السير لا يمضي عليه أسبوع حتى يبلغ الكوفة — بلده — وهذا مبالغة؛ لأن بين شيراز بلد عضد الدولة وبين الكوفة ما يزيد على عشرين مرحلة.

(٨٠) فناخسرو: اسم عضد الدولة. والطعن الدراك: المتتابع. يقول: سعده ويمنه يطرد عني رماح الأعداء وطعنها المتتابع.

(٨١) سلاح شائك وشاك — على حذف العين — حاد ذو شوكة يقول: رضاه عني بمنزلة السلاح الحاد أخوف به الأعداء الأبطال فيجبنون عني. هذا، والسلاح اسم جامع لآلة الحرب، وخص بعضهم به ما كان من الحديد — يؤنث ويذكر والتذكير أعلى؛ لأنه يجمع على أسلحة، وهو جمع المذكر — مثل حمار وأحمرة ورداء وأردية — ويجوز تأنيثه. قال الطرماح — يذكر ثورًا يهز قرنه لكلاب الصيد ليطعنها به:

يَهُزُّ سِلَاحًا لَمْ يَرِثْهَا كَلالَةً

يَشُكُّ بِهَا مِنْهَا أُصُول المَغَابِنِ

(سمى روقيه سلاحًا؛ لأنه يذب بهما عن نفسه. والعرب تقول: لم يرثه كلالة أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق.)

(٨٢) هذا استفهام إنكاري، يقول: إذا فارقتك لم أجد خلفًا عنك أعتاضه من جميع الناس؛ لأنهم كلهم بالقياس إليك زور وباطل، لهم صورتك وليس لهم معناك، وهذا كقول عمران بن حطان:

أَنْكَرْتُ بَعْدَكَ مَنْ قَدْ كُنْتُ أَعْرِفُهُ

مَا النَّاسُ بَعْدَكَ يَا مِرْدَاسُ بِالنَّاسِ

(٨٣) يقول: أنا في انطلاقي من عندك وسرعة عودي إليك كالسهم إذا رُمي به في الجو فإنه لا يصادف ما يمسكه هناك فلا يلبث أن ينقلب ويعود إلى الأرض. يشير بهذا البيت والذي قبله إلى أنه ينوي الرجوع إليه.

(٨٤) حيي: أي أنا حيي. وقد فارقت دارك: حال. يقول: إني أستحيي من إلهي أن يراني وقد فارقتك وزهدت فيك، وهو سبحانه وتعالى قد اصطفاك ووكل إليك أرزاق العباد، فكأني إذ فعلت قد شاققت الله سبحانه ولم أرضَ باختياره. وروى ابن جني: واصطفاكا — بكسر الطاء — قال وهو من باب قصر الممدود، واستشهد على قصره بأشعار، وقصر الممدود كثير، وأنشد فيما أنشد:

وَأَنْتَ لَوْ بَاكَرْتَ مَشْمُولَةً

صَفْرَا كَلَوْنِ الْفرسِ الْأَشْقَرِ

وأنكر ابن فورجه وجماعة كسر الطاء، وقالوا: لمَ يستحي من الله إذا فارق دار الممدوح واختياره له؟ بل لا وجه لحيائه في فعله ذاك، وإنما يستحيي من الله إذا فارق دار الممدوح، والله قد اختاره على أرضه، وكل من فارقه يجب أن يستحيي من خالقه وإنما يقول: أستحيي من الله أن أفارقك، وقد اصطفاك ووكل إليك الأرزاق. ألا تراه كيف بين وجه حيائه إذ ذكر اصطفاءه ولو لم يذكره لكان له مخلص من الحياء؟ فالأشبه أن يكون اصطفاك فعلًا ماضيًا، وقد ذكر محمد بن سعيد أن المتنبي قال: لم أقصر في شعري ممدودًا إلا في موضع واحد وهو:

خُذْ مِنْ ثَنَاي عَلَيْكَ مَا أَسْطيعُهُ

لَا تُلْزِمَنِّي فِي الثَّنَاءِ الْوَاجِبَا

هذا، وقد أكثر المتنبي من التشاؤم على نفسه في هذه القصيدة بما لم يقع له في غيرها وما لم يخطر على قلبه في جميع عزائمه وأشعاره مع كثرتها وتراميها في البلاد، وقد وقع له في أثنائها كلام كأنه ينعي به نفسه وإن لم يقصده، وذلك أنه بعد ارتحاله من شيراز ومفارقته لأعمال فارس قتل في الطريق كما تراه في مدخل هذا الشرح وهذا — عمرك الله — من غريب الاتفاق.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي