عيار الشعر/الأشعار الغثة المتكلفة النسج

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الأشعار الغثة المتكلفة النسج

الأشعار الغثة المتكلفة النسج - عيار الشعر

الأشعار الغثة المتكلفة النسج ومن الأشعار الغثة الألفاظ، الباردة المعاني، المتكلفة النسج، القلقةِ القوافي، المضادة للأشعار التي قدمناها، قَولُ الأعشى:

بانت سعاد وأمسى حبلُها انقطعا. . . . . . . .واحتلت الغَمر فالجدين فالفرعا

لا يسلم منها خمسة أبيات، ونكتبها ليوقَفَ على التكلف الظاهر فيها:

بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها. . . . . . . .بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا

تعصي الوشاة وكان الحبُّ آونةً. . . . . . . .مما يُزيِّن للمشغوفِ ما صنعا

وكان شيءٌ إلى شيءٍ فغيَّرهُ. . . . . . . .دهرٌ يعود على تشتيت ما جمعا

وأنكرتني وما كان الذي نكرتْ. . . . . . . .من الحوادثِ إلا الشيب والصَّلعا

قد يترك الدهرُ في حلقاءَ راسيةٍ. . . . . . . .وهياً ويُنزلُ منها الأعصمَ الصدعَا

وما طِلابُك شيئاً لست مُدركه. . . . . . . .إن كان عنك غرابُ البين قد وقعا

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً. . . . . . . .يا ربِّ جنب أبي الإتلافَ والوجعا

واستشفعتْ من سراةِ القومِ ذا شرف. . . . . . . .فقد عصاها أبوها والذي شفعا

مهلاً بنيةُ إن المرءَ يبعثُه. . . . . . . .همٌّ إذا خالط الحيزوم والضّلعَا

عليك مثل الذي صليت واغتمضي. . . . . . . .نوماً فإن لجنبِ المرء مضطجعا

واستنجدي قافلَ الركبانِ وانتظري. . . . . . . .أوبَ المسافر إن ريثاً وإن سَرَعَا

ولا تكوني كمن لا يرتجي أحداً. . . . . . . .لذي اغترابٍ ولا يرجو له رجَعاَ

كوني كمثل الذي إذ غابَ واحِدُها. . . . . . . .أهدت له من بعيد نظرةً جَزعا

ما نظّرت ذات أشفار كنظرتها. . . . . . . .حقَّاً كما صدق الذئبيُّ إذ سجعا

إذ قلَّبت مقلةً ليست بمقرفةٍ. . . . . . . .إنسانَ عينٍ ومؤقاً لم يكن قمعا

فنظّرت نظرةً ليست بكاذبة. . . . . . . .ورفَّع الآلُ رأس الكلب فارتفعا

قالت أرى رجلاً في كفّه كتفٌ. . . . . . . .أو يخصف النعل ويلي أيةٌ صنعا

فكذبوها بما قالت فصبَّحهم ذو آل. . . . . . . .جيشان يزجي الموت والشِّرعا

فاستنزلوا أهل جُوّ من مساكنهم. . . . . . . .وهدَّموا شاخص البنيان فاتضعا

وبلدةٍ يرهبُ الجُوَّابُ خشيتها. . . . . . . .حتى تراه عليها يبتغي الشيعا

لا يسمعُ المرءُ فيها ما يؤنِّسهُ. . . . . . . .بالليل إلا نثيم البُوم والضُّوَعا

كلفت عمياءَها نفسي وشيَّعني. . . . . . . .هَمِّي عليها إذا ما آلَها لَمَعا

بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت. . . . . . . .فاللعن أولى لها من أن يقال لعا

تخالُ حقَّا عليها كلما ضمرت. . . . . . . .بعد الكلالةِ أن تستوفي النَّسعا

تُلوى بعذقِ خصابٍ كلما خَطَرت. . . . . . . .عن فرج معقومةٍ لم تتبعِ ربُعَا

كأنها بعد ما أفضي النجادُ بها. . . . . . . .بالشَّيِّطين مهاةٌ تبتغى دَرعا

أهَوى لها ضابىء في الأرض مفتحصٌ. . . . . . . .للصيدِ قدماً خفِىُّ الشخصِ إذ خشعا

بأكلُبٍ كسراءِ النَّبلِ ضاريةٍ. . . . . . . .ترى من القِدِّفي أعناقِها قطعا

فظلَّ يخدعُها عن نفس واحدِها. . . . . . . .ومثلُه مثلَها عن واحدٍ خدَعا

حتى إذا غفلت عنه وما شعرت. . . . . . . .أن المنيةَ يوماً أرسلتِ سَبُعاً

دارت لتطعمه لحماً ويفجعها. . . . . . . .بابن فقد أطعمت لحماً وقد فجعا

فظل يأكلُ منه وهي لاهيةٌ. . . . . . . .صَدْر النهارِ تراعى ثيرةً رُتَعَا

حتى إذا فيْقةٌ في ضرعها اجتمعت. . . . . . . .جاءت لترضع شق النفس لو رضعا

عجلى إلى المعهد الأدنى ففاجأها. . . . . . . .أقطاعُ مسكٍ وسافتَ من دمٍ دُفعا

فانصرفت والها ثكلى على عجلِ. . . . . . . .كلُّ دهاها وكلٌّ عندها اجتمعا

وبات قطرٌ وشفانٌ يصفقها. . . . . . . .من ذا لهذا وقلبُ الشاةِ قد صقعا

حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ صبَّحَها. . . . . . . .ذو آل بنهان يبغى صحبه المتعا

بأكلبٍ كسراءِ النبلِ ضاربةٍ. . . . . . . .ترى من القِدِّ في أعناقها قطَعَا

فتلك لم يترك من خلفها شبهاً. . . . . . . .إلا الدوائرَ والأظلافَ والزِّمعا

أنضيتُها بعد ما طال الهبابُ بها. . . . . . . .تَؤُمُّ هوذةَ لانِكسا ولا ورعا

يا هوذُ إنك من قومٍ أولى حسبٍ. . . . . . . .لا يفشلون إذا ما آنسوا فزعا

هم الخضارمُ إن غابوا وإن شهدوا. . . . . . . .ولا يرون إلى جاراتهم خُنُعا

قومٌ سيوفُهُم أمنٌ لجارهمُ. . . . . . . .يوماً إذا ضمت المحذورة القزعا

وهم إذا الحربُ قد أبدت نواجذَها. . . . . . . .مثلَ السيوفِ وسمُّ عاتق نقعا

من يعفُ هوذة أو يحللْ بساحته. . . . . . . .يكن عليه عيالاً طول ما اجتمعا

وإن تجامعهْ في الجلَّى مجامعةً. . . . . . . .يكن لهوذةَ فيما نابه تبعاً

ومن يَرَ هوذَة يسجدْ غير متئب. . . . . . . .إذا تعمم فوقَ التاجِ أو وضعا

له اكاليلُ بالياقوت قصَّصها. . . . . . . .صواغُها لا ترى عيباً ولا طبعا

وكلُّ زوجٍ من الديباج يلبسُه. . . . . . . .أبو قدامة محبُوًّا بذاك معا

أغرُّ أبلجُ يُستسقى الغمامُ به. . . . . . . .لو قارعَ الناس عن أحسابهم قرعا

لم ينقضِ الشيبُ منه فتل مِرَّته. . . . . . . .وقد تجاوز عنه الجهل فانقشعا

قد حمَّلوه فَتِيَّ السن ما حملت. . . . . . . .أشياخهم فأطاق الحملَ واضطلعا

وجرّبوه فما زادت تجاربهَم. . . . . . . .أبا قدامةَ إلا الحزم فارتفعا

يرعى إلى قول ساداتِ الرجالِ إذا. . . . . . . .أبدوا له الحزمَ أو أن شاء مبُتدعا

قد نالَ أهلُ شآم فضلَ سؤودَده. . . . . . . .وكاد يسمو إلى الجوزاءِ واطَّلعا

ثم تناول كلباً في سماوتها. . . . . . . .قدماً سما لجسيمِ الأمر فافترعا

قاد الجياد من الجوَّين منعلةً. . . . . . . .إلى المدائنِ خاض الموت وادَّرعا

لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا. . . . . . . .طولَ الحياةِ ولا يوهون ما رقعا

وما يردَ جميعٌ بعدَ فرَّقه. . . . . . . .وما يرد بعدُ من ذي فرقةٍ جمعا

وما مجاورُ هيتٍ إذ طغى فطما. . . . . . . .يَدقُّ آذيُّه البوصيَّ والشرعا

يجيشُ طوفانُه إذ عبَّ محتفلاً. . . . . . . .يكاد يعلو ربا الجرفين مطَّلعا

هبت له الريحُ فامتدت غوار بُه. . . . . . . .ترى حوالبَهُ من مدِّهِ تُرعا

يوماً بأجودَ منه حين تسأله. . . . . . . .إن ضَنَّ ذو الوفرِ بالإِعطاءِ أو خدعا

ومثلُ هوذةُ أعطى المالَ سائلهُ. . . . . . . .ومثلُ أخلاقِه من سيءِ منعا

تلقى له سادة الأقوامِ تابعة. . . . . . . .كلٌّ سيرضى بأن يُدعى له تبعا

يا هوذُ يا خيرَ من يمشى على قدم. . . . . . . .بحر المواهب للوُرَّادِ والشِّرعا

سائل تميماً بِهم أيامَ صفقتِهم. . . . . . . .لما أتوه أسارى كلهم ضُرَعا

وسط المشقَّر في عشواءَ مظلمة. . . . . . . .لا يستطيعون بعد الضّرِّ منتفعا

لو أطعموا المنَّ والسلوى مكانُهُم. . . . . . . .لما رأى الناس فيهم مطعما نجعا

بظلمهم ينطاع الملك إذ غدروا. . . . . . . .فقد حسوا بعد من أنفاسِه جُرَعا

وقال لِلملك أطلقْ منهُمُ مائةً. . . . . . . .رسلاً من القول مخفوضاً وما رفعَا

ففكَّ عن مائةٍ منهم أسارهم. . . . . . . .فكُلُّهم عانيا من غلة خلعا

به تقرب يوم الفصح محتسباً. . . . . . . .يرجوا إلاله بما أسدى وما صنَعَا

وما أرادَ بها نعمى يثابُ بها. . . . . . . .إن قال كلمةَ معروف بها نَفَعا

فلا يرون بذاكم نعمةً سبقت. . . . . . . .إن قال قائلُنا حقا بها وسَعَى

فهذه القصيدة ستة وسبعون بيتاً التكلف فيها ظاهرٌ بيِّنٌ إلا في ستة أبيات وهي:

تقول بِنتي وقد قرَّبتُ مرتحلاً. . . . . . . .يا رب جنِّب أبي الإِتلاف والوجعَا

بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت. . . . . . . .فاللعن أدنى لها من أن أقول لعا

بأكلب كسراءٍ النبْل ضاربة. . . . . . . .ترى من القِدِّ في أعناقها قطعاً

يا هوذ إنك من قومٍ أولى حسبٍ. . . . . . . .لا يفشلون إذا ما آنسوا فزعاً

أغرُّ أبلجٌ يستسقى الغمامُ به. . . . . . . .لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا

لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا. . . . . . . .طول الحياةِ ولا يوهون ما وقعا

وفيها خللٌ ظاهر، ولكنها بالإضافة الى سائرِ الأبيات نقيةٌ بعيدةٌ عن التكلف.والذي يوجبه نسجُ الشعرِ أن يقول: يا رب جنب أبي الاتلاف والأوجاع أو التلف والوجع.ومثل هذه القصيدة في التكلف وبشاعةِ القولِ قولُه أيضاً في قصيدته:

لعمرك ما طول هذا الزمن

فإن يتبعوا أمره يُرشدوا. . . . . . . .وإن يسألوا مالهُ لا يَضِنْ

وما إن على قلبه غمرةٌ. . . . . . . .وما إن بعظم له من وهَنْ

وما إن على جاره تَلْفةٌ. . . . . . . .يساقطها كسقاط اللَّجَنْ

ولم يسعَ في الحرب سعي امرىءٍ. . . . . . . .إذا بِطْنَةٌ راجعته سكنْ

عليها وإن فاته أكلةٌ. . . . . . . .تلافى لأخرى عظيم العُكَنْ

يرى هَمَّه أبداً خصرهُ. . . . . . . .وهَمُّكَ في الغزو لا في السِّمَنْ

فمثل هذا الشعر وما شاكله يصدىء الفهم ويورث الغم، لا كما يجلو الهم ويشحذ الفهم من قول أحمد بن أبي طاهر:

إذا أبو أحمَد جادت لنا يدُهُ. . . . . . . .لم يحمد الأجودان البحرُ والمَطَرُ

وإن أضاء لنا نورٌ بغرته. . . . . . . .تضاءلَ الأنور ان الشمسُ والقمرُ

وإن مضى رأيه أو جدَّ عزمتَه. . . . . . . .تأخر الماضيان السيفُ والقدَرُ

من لم يكن حذِراً من حدِّ سطوتِه. . . . . . . .لم يدر ما المزعجان الخوفُ والحذرُ

حلو إذا أنت لم تبعث مرارته. . . . . . . .فإن أمِرَّ فحلوٌ عنده الصبرُ

سهل الخلائق إلا أنه خشِنٌ. . . . . . . .لين المهزة إلا أنه حجرُ

لا حَيَّةٌ ذكر في مثل صولته. . . . . . . .إن صال يوماً ولا الصمصامة الذكرُ

إذا الرجال طغوا أو إذ هم وعدوا. . . . . . . .بالأمر رُدَّ عليه الرأي والنظَرُ

الجودُ منه عيانٌ لا ارتيابَ به. . . . . . . .إذ جودُ كلِ جوادٍ عنده خبَرُ

فهذا الشعر من الصفو الذي لا كدرَ فيه.وأكثر من يستحسن الشعر تقليداً على حسب شهرة الشاعر وتقدم زمانه، وإلا فهذا الشعر أولى بالاستحسان والاستجادة من كل شعر تقدمه.^وإذا تناول الشاعر المعانيَ التي قد سُبقَ إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجَبَ له فضل لطفه وإحسانه فيه. .كقول أبي نواس:

وإن جرت الألفاظُ منا بمدحةٍ. . . . . . . .لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني

أخذه من الأحوص حيث يقول:

متى ما أقلْ في آخرِ الدهرِ مدحةً. . . . . . . .فما هي إلا لابن ليلى المكرَّمِ

وكقول دعبل:

أحبُّ الشيبَ لما قيل ضيفٌ. . . . . . . .كحبّي للضيوف النازلينا

أخذه من قول الأحوص أيضاً حيث يقول:

فبان مني شبابي بعد لذتهِ. . . . . . . .كأنما كان ضيفاً نازلاً رحلا

وكقول دعبل أيضاً:

لا تعجبي يا سلم من رجل. . . . . . . .ضحك المشيبُ برأسه فبكى

أخذه من قول الحسين بن مطير:

كل يوم بأقحوان جديد. . . . . . . .تضحك الأرض من بكاء السماءِ

وكقول أبي نواس:

تدور علينا الراح في عسجديةً. . . . . . . .حبتها بأنواع التصاوير فارس

قرارتُها كسرى وفي جنباتها. . . . . . . .مها تدَّريها بالقسيِّ الفوارس

فللخمر ما زرّت عليه جيوبها. . . . . . . .وللماء ما حازت عليه القلانس

أخذه أبو الحسين بن أحمد بن يحيى الكاتب فقال:

ومدامةٍ لا يبتغي من ربِّه. . . . . . . .أحدٌ جَبَاه بها لديه مزيدا

في كأسها صورٌ يُظنُّ لحسنها. . . . . . . .عُرباً برزن من الجنان وغيدا

قد صُفَّ في كاساتها صورٌ حلت. . . . . . . .للشاربين بها كواِعِبُ غيدا

فإذا جرى فيها المزاج تقسمت. . . . . . . .ذهباً ودرًّا توأماً وفريدا

فكأنَّهن لبسن ذاك مجاسداً. . . . . . . .وجعلن ذا لنحورهن عقودا

فهذا من أبدع ما قيل في هذا المعنى وأحسنه.ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى الطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها، وتلبيسها حتى تخفى على نقادها والبصراءِ بها، وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه، فإذا وجد معنىً لطيفاً في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وإن وجده في المديح استعمله في الهجاء ؛ وإن وجده في وصف ناقة أو فرس استعمله في وصف الإِنسان، وإن وجده في وصف إنسان استعمله في وصف بهيمة، فإن عكس المعاني على اختلاف وجوهها غير متعذر على من أحسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي يحتاج إليها فيها، وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام، أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله شعراً كان أخفى وأحسن.ويكون ذلك كالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد صياغتهما بأحسن مما كانا عليه، وكالصباغ الذي يصبغ الثوب على ما رأى من الأصباغ الحسنة.فإذا أبرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة التي عهد عليها، وأظهر الصباغ ما صبغه على غير اللون الذي عهد قبل، التبس الأمر في المصوغ وفي المصبوغ على رائيهما، فكذلك المعاني وأخذها واستعمالها في الأشعار على اختلاف فنون القول فيها.قيل للعتابي: بماذا قدرت على البلاغة ؟ فقال: بحل معقود الكلام ؛ فالشعرُ رسائلُ معقودة، والرسائلُ شعرٌ، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة، إما تناسباً قريباً أو بعيداً.وتجدها مناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر الحكماء.وسنذكر من ذلك ما يكون شاهداً على ما نقول.من ذلك أن عطاء بن أبي صيفي الثقفي دخل على يزيد بن معاوية فعزاه عن أبيه وهنأه بالخلافة، وهو أول من عزى وهنأ في مقام واحد فقال: أصبحت رزيت خليفة اللَّه، وأعطيت خلافة اللَّه، قضى معاوية نحبه فيغفر اللَّه ذنبه، ووليت الرياسة وكنت أحق بالسياسة فاشكر اللَّه على عظيم العطية، واحتسب عند اللَّه جليل الرَّزية، وأعظم اللَّه في معاوية أجرك، وأجزل على الخلافة عونك.فأخذه أبو دلامة فقال يرثي المنصور ويمدح المهدي:

عيناي واحدةٌ تُرى مسرورةً. . . . . . . .بإمامها جذلى، وأخرى تذرفُ

تبكي وتضحك تارة يسؤوها. . . . . . . .ما أنكرت ويسرها ما تعرفُ

فيسوءها موتُ الخليفةِ أولاً. . . . . . . .ويسرها أن قام هذا الأرأفُ

ما إن سمعتُ ولا رأيتُ كما أرى. . . . . . . .شعراً أرجله وآخر أنتفُ

هلك الخليفةُ يال أمة أحمد. . . . . . . .وأتاكم من بعده من يخلفُ

أهدى لهذا اللَّه فضلَ خلافةٍ. . . . . . . .ولذاك جناتُ النعيم وزخرفُ

فابكوا لمصرع خيرِكم ووليكم. . . . . . . .واستبشروا بقيام ذا وتشرفوا

فأخذه أبو الشيص فقال يرثي الرشيد ويمدح المخلوع:

جرت جوادٍ بالسعد والنحس. . . . . . . .فنحن في وحشةٍ وفي أنْسِ

فالعينُ تبكي والسنُ ضاحكةٌ. . . . . . . .فنحن في مأتم وفي عُرس

يضحكنا القائمُ الأمينُ. . . . . . . .وتبكينا وفاةُ الإِمام بالأمسِ

بدرانِ، هذا أمس ببغداد في. . . . . . . .الخلْد وهذا بطوس في رمْسِ

ولما مات الاسكندر ندبه أرسططاليس فقال: طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً.وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظه بسكوته: فأخذه صالح بن القدوس فقال:

وينادونه وقد صم عنهُمُ. . . . . . . .ثم قالوا وللنساء نحيبُ

من الذي عاق أن تردَّ جوابا. . . . . . . .أيها المقولُ الألدُّ الخطيبُ

إن تكن لا تطيقُ رجعَ جوابٍ. . . . . . . .فيما قد ترى وانت خطيبُ

ذو عظات وما وعظت بشيء. . . . . . . .مثل وعظِ السكوتِ إذ لا تُجيبُ

فاختصره أبو العتاهية في بيت فقال:

وكانت في حياتك لي عظاتٌ. . . . . . . .فأنت اليَوم أوعظُ منك حيا

وقال ابن عائشة: انصرفت من مجلس فقال لي أبي: ما حدثكم حماد ؟ فقلت: حدثنا أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: لو لم يلفَ ابن آدم إلا على الصحة والسلامة لكفى بهما داءً.فقال أبي: قاتل اللَّه حميد بن ثور حيث يقول:

أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ. . . . . . . .وحسبك داءً أن تصحَّ وتَسْلمَا

وللَّه درُّ النمر بن تولب حيث يقول:

كانت قناتي لا تليين لغامزٍ. . . . . . . .فألانها الإِصباحُ والإِمساءُ

ودعوت ربي بالسلامة جاهداً. . . . . . . .ليُصبحَني فإذا السلامةُ داءُ

وحيث يقول أيضاً:

يودُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً. . . . . . . .فكيف تُرى طولُ السلامةِ يفْعَلُ

وللَّه در القائل:

لا يعجبُ المرءُ أن يُقال له. . . . . . . .أمسى فلانٌ لأهله حكَما

إن سرَّهُ طولُ عيشِهِ فلقد. . . . . . . .أضحى على الوجه طولَ ما سَلمَا

فسمع محمودُ الواراق هذه الأبيات فقال:

يهوى البقاءَ فإن مدَّ البقاءُ له. . . . . . . .وساعدت نفسه فيها أمانيها

أبقى البقاءُ له في نفسه شُغُلا. . . . . . . .لما يرى من تصاريف البِلى فيها

فأخذه عبد الصمد بن المعذَّل فقال:

يهوى البقاءَ رهبة الفناءِ. . . . . . . .وإنما يفنى من البقاء

وربما أحسن الشاعر في معنى ببدعه فيكرره في شعره على عبارات مختلفة، وإذا انقلبت الحالةُ التي يصفُ فيها ما يصف، قلب ذلك المعنى ولم يخرج عن حد الإِصابة فيه، كما قال عبد الصمد بن المعذَّل في مدح سعيد بن سلم الباهلي:

ألا قل لسارقِ الليل لا تخشَ ضَلَّةً. . . . . . . .سعيد بن سلمٍ ضوءُ كلِّ بِلاد

فلما مات رثاه فقال:

يا ساريا حيرة ضَلالُه. . . . . . . .ضوءُ البلادِ قد خبا ذُبالُه

وكما قال عليُّ بنُ الجهم:

قالوا حُبست فقلتُ ليس بضائري. . . . . . . .حبس وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغْمدُ

أو ما رأيتُ الليث يألف غيلَهُ. . . . . . . .كِبْراً وأوباش السِّباعِ تردَّدُ

فلما نُصبَ للناس وعُري بالشاذياخ قال:

نصبوا بحمد اللَّه ملءَ عيونهم. . . . . . . .حسناً وملءَ صدورهم تبجيلا

ما غابهُ أن بُزَّ عنه ثِيابُه. . . . . . . .فالسيفُ أهولُ ما يُرى مسلُولا

فتشبه في حال حبسه بالسيف مغمدا، وفي حال تعريته بالسيف مسلولا وبالليث إلفا لغيله تارة، ومفارقاً لغيله تارة.ومما يستحسن جدّاً قول علي بن محمود بن نصر:

لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي. . . . . . . .أن نجومَ الليلِ ليست تغُورُ

ليلي كما شاءَتْ فإن لم تَزُرْ. . . . . . . .طالَ وإن زارت فليلي قَصِيرُ

وأخذ هذا المعنى من قول الرجل لمعاوية حيث سأله: كيف الزمان عليك فقال: يا أمير المؤمنين أنت الزمان، إذا صلحت صلح الزمان، وإذا فسدت فسد الزمان.وكل ما أودعناه هذا الكتاب فأمثلةٌ يقاس عليها أشكالُها، وفيها مقنع لمن دَقَّ نَظَرَه ولطف فهمه، ولو ذهبنا نستقصي كلَّ باب من الأبواب التي أودعناها كتابنا لطال وطال النظر فيه، وف فاستشهدنا بالجزء على الكل، وآثرنا الاختصار على التطويل.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي