عيار الشعر/ملاءمة معاني الشعر لمبانيه

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ملاءمة معاني الشعر لمبانيه

ملاءمة معاني الشعر لمبانيه - عيار الشعر

ملاءمة معاني الشعر لمبانيه وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في النفوس والعقول، فيحسن العبارة عنها وإظهار ما يكمن في الضمائر منها فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعه وقبله فهمه، فيثار بذلك ما كان دفيناً ويبرز به ما كان مكنوناً، فينكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وجدانه بعد العناء في نشدانه، أو تودع حكمة تألفها النفوس، وترتاح لصدق القول فيها وما أتت به التجارب منها، أو تضمن صفات صادقة وتشبيهات موافقة، وأمثالاً مطابقة تصاب حقائقها، ويلطف في تقريب البعيد منها، فيؤنس النافر الوحشي حتى يعود مألوفاً محبوباً، ويبعد المألوف المأنوس به حتى يصير وحشياً غريباً، فإن السمع إذا ورد عليه ما قد مله من المعاني المكررة والصفات المشهورة التي قد كثر وردوها عليه مجه وثقل عليه رعيه، فإذا لطف الشاعر لشوب ذلك بما يلبسه عليه، فقرب منه بعيداً أو بعد منه قريباً، أو جلل لطفياً، أو لطف جليلاً أصغى إليه ودعاه واستحسنه السامع واجتباه.وهذا تطريق إلى تناول المعاني واستعارتها، والتلطف في استعمالها على اختلاف جهاتها التي تتناول منها، كما نبهنا عليه قبل، أو تضمن أشياء يوجبها أحوال الزمان على اختلافه وحوادثه على تصرفها، فيكون فيها غرائب مستحسنة وعجائب بديعة مستطرفة، من صفات وحكايات ومخاطبات في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها، فتدفع به العظائم وتسل به السخائم، وتخلب به العقول، وتسحر به الألباب لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف المعنى.وإذ قد قالت الحكماء إن للكلام الواحد جسداً وروحاً.فجسده النطق وروحه معناه، فواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة، لطيفة مقبولة حسنة، مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه، والمتفرس في بدائعه، فيحسه جسماً ويحققه روحاً، أي يتيقنه لفظاً، ويبدعه معنى، ويجتنب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسوه قبحاً ويبرزه مسخاً، بل يسوي أعضاءه وزناً، ويعدل أجزاءه تأليفاً، ويحسن صورته إصابه، ويكثر رونقه اختصاراً، ويكرم عنصره صدقاً، ويفيده القبول رقة ويحصنه جزالة، ويدنيه سلاسة وينأى به إعجازاً، ويعلم أنه نتيجة عقله، وثمرة لبه وصورة علمه، والحاكم عليه أوله.^وينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما يتطير به أو يستجفى من الكلام والمخاطبات، كذكر البكاء ووصف إقفار الديار، وتشتت الألاف ونعي الشباب، وذم الزمان.لا سيما في القصائد التي تضمن المدائح أو التهاني.وتستعمل هذه المعاني في المراثي ووصف الخطوب الحادثة، فإن الكلام إذا كان مؤسساَ على هذا المثال تطيّر منه سامعه، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح، فيجتنب، مثل ابتداء قول الأعشى:

ما بكاء الكبير بالأطلال. . . . . . . .وسؤالي وهل ترد سؤالي

دمنة قفرة تعاورها الصي

ف بريحين من صباً وشمال

ومثل قول ذي الرمة:

ما بال عينك منها الدمع ينسكب. . . . . . . .كأنه من كلى مفرية سرب

وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكي على أبي نواس قوله:

أربع البلى إن الخشوع لبادي. . . . . . . .عليك وإني لم أخنك ودادي

وتطير منه فلما انتهى إلى قوله:

سلام على الدنيا إذا ما فقدتم. . . . . . . .بني برمك من رائحين وغادي

استحكم تطيره، فيقال إنه لم ينقص إلا أسبوع حتى نزلت به النازلة.وأنشد البحتري أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري قصيدته التي أولها:

لك الويل من ليل تطاول آخره. . . . . . . .ووشك نوى حي تزم أباعره

فقال له أبو سعيد: الويل لك والحرب.وليجتنب في التشبيب من يوافق اسمها بعض نساء الممدوح من أمة أو قرابة أو غيرها، وكذلك ما يتصل به سببه أو يتعلق به وهمه، فإن أرطأة بن سهية الشاعر دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: ما بقي من شعرك ؟ فقال: ما أطرب ولا أحزن يا أمير المؤمنين وإنما يقال الشعر لأحدهما.ولكني قد قلت:

رأيت الدهر يأكل كل حي. . . . . . . .كأكل الأرض ساقطة الحديد

وما تبغي المنية حين تغدو. . . . . . . .سوى نفس ابن آدم من مزيد

وأحسب أنها ستكر يوماً. . . . . . . .توفي نذرها بأبي الوليد

فقال له عبد الملك: ما تقول ثكلتك أمك ؟ فقال: أنا أبو الوليد يا أمير المؤمنين.وكان عبد الملك يكنى أبا الوليد أيضاً، فلم يزل يعرف كراهة شعره في وجه عبد الملك إلى أن مات.فليجتنب الشاعر هذا وما شاكله مما سبيله كسبيله، وإذا مر له معنى يستبشع اللفظ به لطف في الكناية عنه وأجل المخاطب عن استقباله بما يتكرهه منه وعدل اللفظ عن كاف المخاطبة إلى ياء الإضافة إلى نفسه إن لم ينكر الشعر، او احتال في ذلك بما يحتزز به مما ذممناه ويوقف به على أرب نفسه ولطف فهمه كقول القائل:

ولا تحسبن الحزن يبقي فإنه. . . . . . . .شهاب حريق واقد ثم خامد

سآلف فقدان الذي قد فقدته. . . . . . . .كإلفك وجدان الذي أنت واجد

وإنما أراد الشاعر: ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي قد وجدته ؛ أي تتعزى عن مصيبتك بالسلو فانظر إليه كيف لطف في إضافة ذكر المفقود الذي يتطير منه إلى نفسه، وما يتفاءل إليه من الوجدان إلى المخاطب، فجعل الموجود المألوف للمعزى، والمفقود لنفسه.ويحكى أن أبا دلف استنشد أبا حكيمة راشداً الكاتب بعض ما رثى أيره وأعجب بما سمعه من معاني قوله في ذلك الفن فانشده:

ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف

فقال له أبو دلف: أمك كانت تعرف.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي