مصارع العشاق/العاشق المتكتم

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

العاشق المتكتم

وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو موسى عيسى بن جعفر الكاتب، حدثني محمد بن سعيد، حدثني إسحق بن جعفر الفارسي: سمعت عمر بن عبد الرحمن يحكي عن بعض العمريين قال:بينا أنا يوماً في منزلي إذ دخل علي خادم لي، فقال لي: رجل بالباب معه كتاب.فقلت له: ادخله، أو خذ كتابه.قال: فأخذت الكتاب منه، فإذا فيه هذه الأبيات:

تَجَنّبَكَ البَلا، وَلَقيتَ خَيراً،

وَسَلّمكَ المَليكُ من الغُمومِ

شَكَوْنَ بَناتُ أحشائي إليكمُ

هَوَايَ حِينَ ألفَتْني كَتُوم

وَحَاوَلْنَ الكِتابَ إلَيكَ في مَا

يُخامِرُها، فدَتكَ من الهُمُومِ

وَهنّ يَقُلنَ يَا ابنَ الجودِ: إنّا

بَرِمنا مِنْ مُرَاعاةِ النّجومِ

وَعندكَ، لوْ مَننتَ، شفاءُ سُقمي

لأعضَاءٍ ضَنِينَ مِنَ الكُلُومِ

فلما قرأت الأبيات قلت: عاشق.فقلت للخادم: ادخله، فخرج إليه الخادم بالخبر فلم يجده، فقلت أخطأت، فما الحيلة ؟ فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردد في قلبي، فدعوت جواري كلهن ممن يخرج منهن ومن لا يخرج فجمعتهن ثم قلت: أخبرنني الآن قصة هذا الكتاب. قال: فجعلن يحلفن، وقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سبباً وإنه لباطل.ثم قلن: من جاء بهذا الكتاب ؟ فقلت: قد فاتني، وما أردت بهذا القول لأني ضننت عليه بمن يهوى منكن، فمن عرفت منكن أمر هذا الرجل، فهي له فلتذهب إليه متى شاءت، وتأخذ كتابي إليه. قال: فكتبت إليه كتاباً أشكره على فعله وأسأله عن حاله، وعما يقصده، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، وقلت: من عرف شيئاً فليأخذه، فمكث الكتاب في موضعه حيناً لا يأخذه أحد ولا أرى للرجل أثراً، فاغتممت غماً شديداً ثم قلت: لعله من بعض فتياننا، ثم قلت: إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قنع ممن يحبه بالنظر، فدبرت عليه، فحجبت جواري من الخروج. قال: فما كان إلا يوم وبعض آخر، حتى دخل الخادم ومعه كتاب، فقلت له: ما هذا ؟ قال: أرسل به إليك فلان، وذكر بعض أصدقائي، فأخذا الكتاب ففضضته، فإذا فيه هذه الأبيات:

ماذا أرَدتَ إلى رُوحِ مُعَلَّقَةٍ

عند الترَاقي، وَحادي المَوْتِ يحدوهَا

حَثثتَ حَادِيهَا ظُلماً، فَجَدّ بهَا

في السّيرِ، حتى تَوَلّتْ عن تَرَاقيهَا

حَجبتَ من كان يحيي عند رُؤيتهِ

رُوحي، وَمن كانَ يَشفيني تلاقِيها

فالنّفسُ ترْتاحُ نحوَ الظّلمِ جاهِلةً،

وَالقَلبُ مني سَليمٌ ما يُؤاتِيها

وَاللهِ لوْ قِيلَ لي تأتي بفَاحِشَةٍ،

وَإنّ عُقباك دُنيانا وَمَا فِيها

لقُلتُ: لا وَالذي أخشَى عُقوبتَه

وَلا بأضعَافِهَا مَا كُنتُ آتِيها

لَوْلا الحَياءُ لبُحنا بالذي كَتَمَتْ

بنتُ الفُؤادِ، وَأبدَينَا تَمَنّيهَا

قال: قلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى تدخله إلي، ولم أعرف له بعد ذلك خبراً. قال: فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذا أنا بفتى قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني، وقد صار مثل العود.قال: فلما قضيت طوافي خرجت واتبعني، فقال: يا هذا ! أتعرفني ؟ قلت: ما أنكرك لسوء، قال: أنا صاحب الكتابين. قال: فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد شغلت علي قلبي، وأطلت غمي لشدة كتمانك لأمرك، فهل لك فيما سألت وطلبت ؟قال: بارك الله لك وأقر عينك إنما أتيتك مستحلاً من نظر كنت أنظره على غير حكم الكتاب والسنة، والهوى داع إلى كل بلاء، وأستغفر الله.فقلت: يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى المنزل، فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك.قال: ليس إلى ذلك سبيل، فاعذر وأجب إلى ما سألتك.فقلت: يا حبيبي ! غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتها لك ومعها مائة دينار تعيش بها، ولك في كل سنة كذا وكذا. قال: بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله تعالى بها وأشياء وكدتها على نفسي لم يكن شيء في الدنيا أحب إلي من هذا الذي تعرضه علي، ولكن ليس إليه سبيل، والدنيا فانية منقطعة. حدثني قلت له: فأما إذ أبيت أن تصير إلى ما دعوتك إليه، فأخبرني من هي من جواري حتى أكرمها لك ما بقيت.فقال: ما كنت لأسميها لأحد أبداً، ثم سلم علي، ومضى فما رأيته بعد ذلك.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي