مصارع العشاق/الفتى المتعبد والمفتونة به

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الفتى المتعبد والمفتونة به

وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو محمد جعفر بن الفضل بن محمد بن المعافى عن عبد الواحد بن زياد الافريقي، حدثني أبي قال:سمعت شيخاً من أهل العلم يقول: كان عندنا فتىً متعبد، حسن السيرة، فأحبته جارية من قومه، وجعلت تكاتم أمرها مخافة العيب، فمكثت بذلك حيناً، فلما بلغ الحب منها أرسلت إليه بكتاب وضمنته هذه الأبيات:

تَطَاولَ كِتماني الهَوَى، فأبادَني،

فأصبَحتُ أشُكو ما ألاقي من الوَجدِ

فأصبحتُ أشكو غُصّةً من جَوى الهوَى،

أقامَت، فما يَعدو إلى أحدٍ بَعدي

فهَا أنا ذا حَرّى من الوَجدِ صَبَّةٌ،

كثيرَةُ دَمعِ العَينِ، يجرِي على خَدّي

قال: فأقبلت به امرأة فقال: ما هذا ؟ قالت: كتاب أرسلني به إليك إنسان.قال: سميه ! قالت: إذا قرأته سميت لك صاحبه، فرمى به إليها، وأنكره إنكاراً شديداً، فقالت له: ما يمنعك من قراءته ؟ قال: هذا كتاب قد أنكره قلبي، فلم تزل به حتى قرأه، فرفع رأسه إليها، فقال: هذا الذي كنت أحذر وأخاف، ثم دفعه إليها.فقالت: أما له جواب ؟ قال: بلى ! قالت: وما هو ؟ قال: تقولين لها: إنه يعلم السر وأخفى الله، لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى.قالت: لا غير ؟ قال: في هذا كفاية. فمضت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:

يا فارغَ القَلبِ من همّي وَمن فِكَرِي،

ماذا الجَفاءُ، فدتكَ النفسُ يا وَطَرِي ؟

إنْ كُنتَ مُعتَصِماً باللهِ تَخدمُهُ،

فإنّ تَحلِيلَنَا في مُحكَمِ السُّوَرِ

فلما وصل إليه الكتاب قال: ما هذا ؟ قالت: تقرأه، فأبى، فلم تزل تلطف به حتى فتحه، فقرأه، ثم رمى به إليها.فقالت: ما له جواب ؟ قال: بلى ! قالت: ما هو ؟ قال: قولي لها: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار. فصارت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه:

فَرّجْ عن القلبِ بعضَ الهَمّ وَالكُرَبِ،

وَجْدُ بوَصلِكَ، وَالهِجرانَ فاجتَنِبِ

إنّا سَألنَاكَ أمراً مَا نُريدُ بِهِ

إلاّ الصّلاحَ، وَأن نَلقاكَ عن قُرُبِ

فإنْ أجَبتَ إلى ما قَد سألتُ، فَقَدْ

نِلتُ المُنى، وَالهَوَى، يا منتهَى أرَبي

وَإنْ كَرِهتَ وِصالي قلتُ: أكرَهُهُ،

وَإنّني رَاجعٌ عن ذاكَ من كَثَبِ

قال: فجاءت بالكتاب إليه، فأخذه، وقال لها: اجلسي، ففتحه، وقرأه عن آخره، وكتب إليها كتاباً كان هذا الشعر آخره:

إنّي جَعَلتُ هُمُومي ثمّ أنفاسِي

في الصّدرِ مِنّي وَلم يُظهِرْهُ قرْطاسِي

وَلم أكُنْ شاكياً ما بي إلى أحدٍ

إنّي إذاً لَقَليلُ العِلمِ بالنّاسِ

فاستَعصمِي اللهَ، مِمّا قَد بُلِيتِ بِهِ،

وَاستَشعِرِي الصّبرَ، عمّا قلتُ، بالياسِ

إني عَنِ الحُبّ في شُغلٍ يُؤرّقُني

تَذكَارُ ظُلمَةِ قَبرٍ فِيهِ أرْمَاسِي

فَفيهِ لي شُغُلٌ لا زِلتُ أذكرُهُ،

منَ السّؤالِ وَمِنْ تَفرِيقِ أحلاسِي

وَلَيسَ يَنفَعُني فِيهِ سِوَى عَمَلي،

هُوَ المُؤانسُ لي مِنْ بَينِ أنّاسِي

فاستكثرِي من تُقى الرّحمنِ وَاعتصِمي،

وَلا تَعودي، فبي شُغلٌ عن النّاسِ

فلما قرأت الكتاب أمسكت وقالت: إنه لقبيح بالحرة المسلمة العارفة مواضع الفتنة كثرة التعرض للفتن، ولم تعاوده.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي