مصارع العشاق/المجنون الأديب

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

المجنون الأديب

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد أحمد بن رميح الزيدي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم الأرجاني يقول: سمعت محمد بن يعقوب الأزدي عن أبيه قال:دخلت دير هرقل، فرأيت مجنوناً مكبلاً، فكلمته، فوجدته أديباً، فقلت له: ما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ فقال:

نَظَرْتُ إلَيها فاستَحَلّتْ بنَظرَتي

دمي، ودَمي غالٍ، فأرخَصه الحُبُّ.

وغَالَيتُ في حُبّي لها، وَرَأَتْ دَمي

رَخِيصاً، فمِن هذينِ داخَلَها العُجبُ.

أربع نسوة وأربعة غربان

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله الأهوازي قال: أخبرني بعض أهل الأدب أن بعض البصريين أخبره قال:كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضاً، وكنا على عدد أيام عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين، فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجةً راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا ؟ فقال: هؤلاء نسوة لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي ؟ قال: العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك.فقلت لأصحابي: أقسمت ألا يبرح أحد منكم حتى أعود.فنهضت وحدي، فصعدت إلى موضع أشرف عليهن، وأراهن، ولا يرينني، فرأيت نسوةً أربعاً كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدم لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة، فلما اطمأن بهن المجلس، جاء خادم لهن، ومعه خمسة أجزاء من القرآن، فدفع إلى كل واحدةٍ منهن جزءاً ووضع الجزء الخامس بينهن، فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء، ثم أخرجن صورةً معهن في ثوب دبيقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعون لها، ثم أخذن في النوح، فقالت الأولى:

خلسَ الزّمانُ أعَزَّ مختَلَسِ،

ويَدُ الزّمَانِ كثيرَةُ الخَلَسِ.

للهِ هالكةٌ فُجِعْتُ بِهَا،

ما كانَ أبعَدَها من الدّنَسِ.

أتَتِ البِشَارَةُ والنّعيُّ بِهَا،

يَا قُرْبَ مأتَمِهَا من العُرُسِ.

ثم قالت الثانية:

ذَهَبَ الزّمَانُ بِأُنْسِ نفسي عَنوَةً،

وبَقيتُ فَرْداً ليسَ لي من مُؤنِسِ.

أودى بمَلْكَ ولَوْ تُفادى نفسُهَا،

لَفَدَيتُها ممن أُعِزّ بِأنْفُسِ.

ظَلّتْ تُكَلّمني كَلاماً مُطْعِماً،

لم أسترِبْ فيه بشيءٍ مُؤيِسِ.

حتى إذا فَترَ اللّسانُ وأصْبَحَتْ

للمَوْتِ قَد ذَبُلَتْ ذُبولَ النَّرْجِسِ.

وتَسَهّلَتْ مِنْهَا مَحَاسِنُ وَجْهِهَا،

وَعَلا الأنِينُ تحثّهُ بِتَنَفّسِ.

جَعَلَ الرّجاءُ مَطامِعي يأساً كمَا

قَطَعَ الرّجاءُ صَحِيفَةَ المُتَلَمّسِ.

ثم قالت الثالثة:

جَرَتْ على عَهدِها الليالي،

وَأُحْدِثَتْ بَعدَها أُمورُ.

فاعتضْتُ باليأس منكِ صَبراً،

فاعتَدَلَ اليأسُ والسرُورُ.

فَلَستُ أرجو، ولستُ أخشى

ما أحدَثَتْ بَعدكِ الدهورُ.

فَليبلُغِ الدهرُ في مَساتي،

فَما عَسى جُهْدُه يَضِيرُ.

ثم قالت الرابعة:

عِلْقٌ نَفِيسٌ من الدنيَا فُجِعتُ به،

أفضى إلَيه الرَّدى في حَوْمةِ القَدَرِ.

وَيحَ المَنايا أمَا تَنْفَكّ أسهُمُها

معَلَّقاتٍ بِصَدرِ القوْسِ والوَتَرِ.

يَبلى الجديدان، والأيّام بالِيَةٌ،

والدهرُ يَبلى، وتَبلى جِدّةُ الحَجَرِ.

ثم قمن فقلن بصوتٍ واحد:

كنّا من المَساعِده،

نحيا بنفسٍ واحده.

فمات نِصْفُ نفسي

حينَ ثَوَى في الرَّمسِ.

فَما بَقائي بعدَه

وشَطرُ نفسي عندَه.

فَهَلْ سَمِعتُم قَبلي

في مَنْ مَضى بِمِثلي.

عاشَ بِنِصْفِ روحِ

في بَدَنٍ صَحِيحِ.

ثم تنحين وقلن لبعض الخدم: كم عندك منهن ؟ قال: أربعة.قلن: ائت بهن، فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلع بقفصٍ فيه أربعة غربان مكتفة، فوضع القفص بين أيديهن، فدعون بعيدان، فأخذت كل واحدة منهن عوداً فغنت:

لَعَمري ! لقد صاحَ الغُرَابُ بِبَنيهِم،

فأوجَعَ قلبي بالحديثِ الذي يُبدي.

فقلتُ له: أفصحتَ لا طِرْتَ بعدها،

بِريشٍ، فهل للقَلبِ ويحَكَ من رَدّ !.

ثم أخذن واحداً من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنهن ثم غنت:

أشاقَكَ، والليلُ ملقي الجِرَانِ،

غُرَابٌ يَنوحُ على غُصْنِ بانِ.

أحصُّ الجَناحِ، شديدُ الصّيَاحِ،

يَبكي بِعَيْنَينِ ما تهملانِ.

وفي نَعَبَاتِ الغُرَابِ اغْترَابٌ،

وفي البانِ بَينٌ بعيدُ التّداني.

ثم أخذن الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له: أتبكي بلا دمع وتفرق بين الألاف، فمن أحق بالقتل منك ؟ ثم فعلن به ما فعلن بصاحبه.ثم غنت الثالثة:

ألا يا غُرَابَ البين لَونُكَ شاحِبٌ،

وأنْتَ بِلَوْعاتِ الفِرَاقِ جَديرُ.

فَبَيّنْ لَنَا ما قلتَ، إذ أنتَ واقِعٌ،

وبَيّن لَنَا ما قُلتَ حينَ تَطيرُ.

فإنْ يكُ حقّاً ما تَقولُ، فَأصْبَحْتْ

هُمومُكَ شَتّى، والجَنَاحُ كَسيرُ.

ولا زِلتَ مَكسوراً عديماً لِنَاصرٍ،

كَما لَيسَ لي من ظالميّ نَصِيرُ.

ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه، وأمرت ففعل به ذلك، ثم غنت الرابعة:

عَشِيّةَ ما لي حيلَةٌ غيرَ أنّني

بلَقطِ الحصى، والخطِّ في الدّارِ مولَعُ.

أخُطُّ وأمحو كلّ ما قَد خَطَطتُه

بدمعيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّعُ.

ثم قالت لأخواتها: أي قتلةٍ أقتله ؟ فقلن لها: علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئاً ثقيلاً حتى يموت، ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن، ودعون بالغداء، فأكلن، ودعون بالشراب، فشربن، وجعلن كلما شربن قدحاً شربن للصورة مثله، وأخذن عيدانهن فغنين، فغنت الأولى كأنها تودع به:

أبكى فِرَاقَكُمُ عَيني فأرّقَهَا،

إنّ المُحِبّ على الأحبابِ بكّاءُ.

ما زالَ يعدو عَلَيهِم ريبُ دهرِهمُ

حتى تَفَانَوْا، وريبُ الدهرِ عَدّاءُ.

ثم غنت الثانية:

أما والذي أبكى وأضْحَكَ، والذي

أمَاتَ وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ.

لقد تركَتْني أحسُدُ الوَحشَ أن أرَى

ألِيفَينِ منها لا يرُوعُهُما الذّعرُ.

ثم غنت الثالثة:

سأبكي على ما فاتَ منكِ صَبابَةً

وَأندُبُ أيّامَ الأماني الذّوَاهِبِ.

أحينَ دَنَا مَن كنتُ أرْجو دنُوَّه

رَمَتني عُيونُ الناسِ من كل جانبِ.

فأصْبَحتُ مَرْحوماً، وكنتُ مُحَسَّداً،

فَصَبراً على مَكُروهِ مرِّ العَوَاقِبِ.

ثم غنت الرابعة:

سأُفني بِكَ الأيّامَ حتى يَسُرّني

بك الدهرُ، أو تَفنى حياتي معَ الدهرِ.

عَزَاءً وصبراً ! أسعِداني على الهوَى،

وأحمَدُ مَا جَرّبتُ عاقبَةُ الصّبرِ.

ثم أخذت الصورة فعانقتها، وبكت، وبكين، ثم شكون إليها جميع ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة، فطويت، ففرقت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن فقلت: لقد ظلمتن الغربان.فقالت: لو قضيت حق السلام، وجعلته سبباً للكلام، لأخبرناك بقصة الغربان.قال قلت: إنما أخبرتكن بالحق.قلن: وما الحق في هذا، وكيف ظلمناهن ؟ قلت: إن الشاعر يقول:

نَعَبَ الغُرَابُ بِرُؤيَةِ الأحبَابِ،

فلذاك صِرْتُ أُحِبّ كُلّ غُرَابِ.

قالت: صحفت وأحلت المعنى، إنما قال: بفرقة الأحباب، فلذاك صرت عدو كل غراب.فقتل لهن: فبالذي خصكن بهذا المجلس، وبحق صاحبة الصورة، لما خبرتنني بخبركن ؟ قلن: لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه ما أخبرناك. كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب منا واحدة البارد دون صاحبتها، فاحترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يومٍ نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت.قلت: وما تلك العلة ؟ قلن: فرق بينها وبين أنسٍ كان لها، ففارقت الحياة، فكانت تذمهن عندنا، وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نتمثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان. ثم نهضن فمضين، ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثم طلبتهن بعد ذلك، فما وقعت لهن على خبر، ولا رأيت لهن أثراً.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي