مصارع العشاق/بهرام جور وابنه الخامل

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

بهرام جور وابنه الخامل

أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال:كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثاً من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرئاستين واعترض ما حفظناه، فنخبره به.فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم ولكم جدات، ونعم، فهل فيكم عاشق ؟ فقلنا: لا ! فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسن اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشرف الهمة، وإياكم والحرام ! فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا.قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا ؟ قلنا: لا ! قال:إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين والمنجمين والحكماء ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكمون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه.قال: وما ذاك الذي حدث ؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها.فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه. ثم دعا بأبي الجارية.فقال له: إني مسر إليك سراً، فلا يعدونك، فضمن له ستره، وأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك.ثم ليعلمه خبرها وخبره.ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب الموكل بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته له أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك.ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به.ثم دعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها ويسألني أن أزوجه إياها.ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعا فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك. فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك.وهي أعظم الناس منةً عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي.وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك. ففعل الفتى ذلك وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته.وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره وعقد لابنه على الملك بعده. قال اليماني مولى ذي الرئاستين، ثم قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق ؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه. أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة الشرطي، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه بتنيس في كتاب التسلي، حدثنا أبو علي الحسن بن علي الديبلي الكوفي، حدثني جماعة من أهل طبرية منهم أبو يعقوب وأبو علي ابنا يعقوب الحذاء وأبو الحسين بن أبي الحارث وأبو الفرج الصوفي وغيرهم. أنه كان عندهم رجل صوفي يعرف بالقاسم الشراك وكانت له عنيزات يرعاهن.وقال لي بعضهم: إنه لم يكن يحضر معهم مجالس السماع، ويجتذبونه إلى ذلك فلم يكن له رغبة فيه.قالوا: فبينا هو يرعى عنيزاته إذ سمع صبياً من صبيان الصحراء يغني في حقل:

إنّ هَوَاكَ الذي بِقلْبي

صَيّرَني سَامعاً مُطِيعا

أخذتَ قَلبي وَغُمْضَ طَرْفي،

سَلَبَتني العَقلَ وَالهُجوعا

فذَرْ فُؤداي، وّخذْ رُقادي

فقال: لا بَلْ هُما جَمِيعَا

فَرَاحَ مِنّي بحَاجَتَيْهِ،

وَبِتُّ تحتَ الهوَى صَريعَا

قال: فاعتراه طرب شديد، فقال للصبي، وأقبل نحوه: كيف قلت ؟ ففزع الصبي وعدا، وهو يقول: لا بأس عليك ! كيف قلت يا صبي ؟ فلم يقف له ورجع إلى قصائدي كان لهم بطبرية يقال له حميد الفاخوري، حاذق بهذا المعنى، فتردد إليه ثلاثة أيام يردد عليه هذه الأبيات، ثم تخلف في منزله عليلاً، يصيح: فؤداي فؤادي، إلى أن قضى، رحمه الله تعالى.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي