مصارع العشاق/على قبر ابن سريج

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

على قبر ابن سريج

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن في ما أذن لنا أن نرويه عنه، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثني هارون بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب، حدثني إسحق بن يعقوب مولى آل عثمان عن أبيه قال:إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح صبح خامسة من التهانئ إذ دريت برجل على راحلة ؛ ومعه إداوة جميلة قد جنب إليها فرساً وبغلاً، فوقفا علي، فسألاني، فانتسبت لهما عثمانياً، فنزلا، وقالا: رجلان من أهلك، قد نابتنا إليك حاجةً، نحب أن تقضيها قبل الشدة، بأمر الحاج، قلت: فما حاجتكما ؟ فالا: نريد إنساناً يوقفنا على قبر عبيد بن سريج.قال: فنهضت معهما، حتى بلغت بهما محلة ابن أبي قارة من خزاعة، بمكة، وهم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنساناً يصحبهما، حتى يوقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل، فأنهضته معهما، فأخبرني ابن أبي دباكل أنه لما وقفهما على قبره، نزل أحدهما عن راحلته، وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم عقرها واندفع يغني غناء الركبان بصوت طليل حسن:

وَقَفنَا على قَبرٍ بدَسْمَ، فهاجَنا،

وذَكَّرَنا بالعَيشِ إذ هوَ مُصْحَبُ

فَجالتْ بأرْجَاءِ الجُفُونِ سَوَافِحٌ

من الدّمعِ تَستَبكي الذي تَتَعقّبُ

فإنْ تَنْفَدَا عن ساحَةِ عُبَيداً بعَوْلَةٍ،

وَقَلَّ له منّا البُكَى وَالتحَوّبُ

فلما أتى عليها نزل صاحبه، فعقر ناقته، وهو رجل من جذام، يقال له عبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنى عند الخلوات:

فارَقوني وَقد عَلِمتُ يَقيناً،

ما لَمنْ ذَاقَ مِيَتةً مِنْ إيَابِ

إنّ أهلَ الحِصَابِ قد تَركوني

مُودَعاً مُولَعاً بأهلِ الحِصَابِ

أهلِ بيتٍ تَتَابَعُوا للمَنَايَا،

ما على الدهرِ بعدهم من عِتابِ

سكنوا الجِزْعَ جزْعَ بَيتِ أبي مو

سَى إلى الشِّعبِ من صَفّي الشبابِ

كم بذاك الحجونِ من حيّ صِدقٍ

من كُهولٍ أعِفّةٍ وَشَبَابِ

قال ابن أبي دباكل: فوالله ما أتم منها ثالثاً، حتى غشي على صاحبه، ومضى غير معرج عليه، حتى إذا فرغ جعل ينضح الماء في وجهه، ويقول: أنت أبداً منصوب على نفسك من كلفات ما ترى، فلما أفاق قرب إليه الفرس، فلما علاه استخرج الجذامي من خرج على البغل قدحاً، وإداوة، فجعل في القدح تراباً من تراب القبر، وصب عليه ماء، ثم قال: هاك ! فاشرب، هذه السلوة، فشرب، ثم جعل الجذامي مثل ذلك لنفسه، ثم نزل على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله ما يعرجان ولا يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما مما كنت أرى قبل شيئاً.قال: فلما اشتمل علينا أبطح مكة مد يده إلي بشيء، وإذا عشرون ديناراً، فوالله ما جلست حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداة الراحلتين، فبعتهما بثلاثين ديناراً. أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن شاهين، رحمه الله تعالى، حدثنا أبي، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، سمعت أبا بكر بن عياش يقول:كنت في الشباب إذا أصابتني مصيبة تجلدت، ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة، واقفاً على نجيب، وهو ينشد:

خَليليّ عُوجَا من صُدُورِ الرّوَاحِلِ

بجُمهُورِ حَزْوَى فابكِيَا في المَنازِلِ

لَعَلّ انحِدَارَ الدّمعِ يُعقِبُ رَاحَةً

مِنَ الوَجْدِ أوْ يَشفي نَجيّ البَلابِلِ

فسألت عنه، فقيل: ذو الرمة، فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي، وأجد لذلك راحةً، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره !

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي