مصارع العشاق/غريقا الهوى

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

غريقا الهوى

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري بقراءتي عليه سنة إحدى وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال: حدثنا ميمون بن هارون الكاتب قال: حدثني عبد الرحمن بن إسحاق القاضي قال:انحدرت من سر من رأى مع محمد بن إبراهيم أخي إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها.فلما أن سرنا ساعة قال: ارفق بنا، ثم دعا بطعامه، فأكلنا، ثم قال: ما ترى في النبيذ ؟ قلت له: أعزك الله أيها الأمر، هذه دجلة قد جاءت بمد عظيم يرعب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلةٍ، فول شئت أخرته.قال: لابد لي من الشرب فضربت ستارة، واندفعت مغنية تغني، واندفعت أخرى فغنت:

يَا رَحْمَتَا للعَاشِقِينَا

ما إن أرى لهمُ مُعِينَا.

كَمْ يُشتَمونَ ويُضرَبُو

نَ ويُهجَرُونَ فَيَصْبرُونا.

فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا ؟ قالت: يصنعون هكذا، فرفعت الستارة، وقذفت بنفسها في دجلة، وكان بين يدي محمد غلام ذكر أنه شراه بألف دينار، وبيده مذبة، لم أر أحسن منه، فوضع المذبة، وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول:

أنْتَ التي غَرّقْتِني

بَعْدَ القَضَا لَوْ تَعلمِينَا.

فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله ! قال: فرأيتهما، وقد خرجا من الماء متعانقين ثم غرقا.

التطير من البكاء

أنشدنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن محمد لن موسى قال:أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري قال:أنشدنا عبد الله بن عمرو بن لقيط:

يا شوْقَ إلفَينِ حالَ النّأيُ بينهُما

فعَافَصَاهُ على التوْديعِ فاعتَنَقا.

لَوْ كنتُ أملِكُ عيني ما بكيتُ بِها

تَطَيّراً من بُكائي بعدَهم شَفَقَا.

ما لقتيل الحب قود

ولي من أثناء قصيدة:

وطالبٍ بدمي ثأراً، فقلت له:

هيهاتَ ما لقتيلِ الحبِّ من قَوَدِ.

للهِ قلبي لقد أضحى، غَداةَ غَدَت

حُمولُهم، للجَوى حِلفاً وللكَمَدِ.

الحب حلو ومر

أنبأنا الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة أن أبا عبيد الله محمد بن عمران المرزبان أخبرهم إجازة قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد الكاتب قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال:أنشدني إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أبي أمية:

وَضاحِكٍ من بُكائي حينَ أُبصِرُهُ

لَوْ كانَ جَرّبَ ما جَرّبتُ أبكَاهُ.

لا يُرْحَمُ المُبتَلى ممّا تَضَمّنَه

إلاّ فتى مُبتَلى قد ذاقَ بَلوَاهُ.

ما أسرَعَ الموْتَ إن تمّتْ غريمتُهم

على القَطِيعَةِ إن لمْ يرْحَمِ اللهُ.

الحُبُّ حلوٌ ومُرٌّ في مَذَاقَتِهِ،

أمرُّهُ هَجرُكمْ والوَصْلُ أحلاهُ.

لم يفتها جواره ميتاً

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد عن العباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: حدثني مصدع بن غلاب الحميري وكان مخضرماً، وأدركته وهو ابن ثماني عشرة ومائة سنة وما في فرته ولحيته بيضاء، قال: حدثني أبي غلاب قال:كان بذمار فتىً من حمير، من أهل بيت شرف يقال له: زرعة بن رقيم، وكان جميلاً شاعراً لا تراه امرأة إلا صبت إليه، وكان في ظهر ذمار رجل شيخ كثير المال، وكانت له بنت تسمى مفداة، بارعة الجمال، حصيفة اللب، ذات لسان مصلق، تفحم البليغ، وتخرس المنطيق، وكان زرعة يتحدث إليها في فتية من الحي، وكان ممن يتحدث إليها فتىً من قومها يقال له حيي، ذو جمال وعفاف وحياء، فكانت تركن إلى حديه، وتشمئز من زرعة لرهقه، فساء ذلك زرعة وأحزنه، فاجتمعا ذات يوم عندها فرأى إعراضها عنه وإقبالها على حيي، فقال:

صُدودٌ وإعرَاضٌ وإظْهارُ بَغضَةٍ،

غَلاَم وَلِمْ يا بينتَ آل العُذافرِ ؟.

فقالتْ:

عَلى غَيرِ ما شَرٍّ، ولكِنّكَ امرؤٌ

عُرِفتَ بِغل المومِساتِ العَواهِرِ.

فقال حيي:

جَمَالُكَ يا زَرعَ بنَ ارقَمَ إنّما

تُنَاجي القُلوبَ بالعيونِ النّوَاظِرِ.

فقالَ زَرعةُ:

فإنْ يَكُ مما خَسّ حظي لأنّني

أَصَابني فتُصْبِيني عيونُ القَصَائِرِ.

وَإني كَريمٌ لا أُزَنَ بِرِيبَةٍ

وَلا يَعْتري ثوْبيَّ رينُ المَعايرِ.

فقالت المفداة:

كذاك فكُن، يسلمْ لكَ العِرضُ، إنه

جمالُ امرئ أن يرتدي عِرضَ طاهر.

فقال حيي:

حَيَاءَكُمَا لا تَعْصِيَاهُ، فإنّمَا

يكونُ الحَياءُ من تَوقّي المعايرِ.

فانصرفت زرعة وقد خامره من حبها ما غلب على عقله، فغبر أياماً عنها، وامتنع من الطعام والشراب والقرار، وأنشأ يقول:

يا بُغيَةً أهدَتْ إلى القلبِ لوْعَةً

لقد خُبئَتْ لي منك إحدى الدهارسِ.

وما كنتُ أدري والبَلايا مُظِلّةٌ

بأنّ حِمامي تحتَ لحظِ مُخالِسِ.

جَلَستُ على مَكتوبَةِ القَلبِ طائِعاً،

فيَا طَوْعَ مَحبوسٍ لأعنَفِ حابِسِ.

فشاع هذا الشعر في الحي وبلغ المفداة، فاحتجبت عنه، وامتنعت من محادثة الرجال، فامتنع من الحركة والطعام، فغبر على ذلك حول، ومات عظيم من عظماء القبائل فبرز مأتم النساء، فبلغ زرعة أن المفداة في المأتم، فاحتمل حتى تنائى نشزاً، واجتمع إليه لذاته يفندون رأيه ويعذلونه، فأنشأ يقول:

لمْ يُلَمُ في الوَفاءِ مَن كَتَمَ الْ

حُبّ وأغضى عُلى فؤادٍ لَهِيدِ.

صَابَنا ذاك لاسم من جلبَ السّ

مَ علَيه ونفسُهُ في الوَريدِ.

ثم شهق، فمات، وتصايح أصحابه ونساؤهن وبلغ المفداة خبره، فقامت نحوه حتى وقفت عليه، وقد تعفر وجهه، وأهله ينضحونه بالماء، فهمت أن تلقي نفسها عليه، ثم تماسكت، وبادرت خباءها، فسقطت تائهة العقل، تكلم فلا تجيب، سحابة يومها، فلما جنّ عليها الليل رفعت عقيرتها فقالت:

بِنَفْسِي يَا زَرْعَ بْنَ أرْقَمَ لوْعَةٌ

طَوَيتُ علَيها القلبَ والسرُّ كاتِمُ.

لَئِنْ لمْ أمُتْ حُزْناً عَلَيْهِ فَإنّني

لألأمُ مَن نِيطَتْ عَلَيه التّمائِم.

لَئِنْ فُتّني حَيّاً فَلَيْسَ بِفَائِتي

جوَارُك مَيْتاً حيثُ تَبلى الرَّمَائِم.

ثم تنفست نفساً نبه من حولها فإذا هي ميتة فدفنت إلى جنبه. وقالت امرأة من حمير أشبلت على ولدها بعد زوجها:

وَفَيتُ لابنِ مالكِ بن أرطأه

كما وَفَتْ لزرعة المُفَدّاه.

واللهِ لا خِسْتُ بهِ أو ألقاه

حيثُ يُلاقي وامقٌ من يهواه.

من ممتَطٍ، ناحِيَةً، شَمَرْداه

وعاثِرٍ قد خَذَلَته رِجلاهْ.

تريد قول الجاهلية: إن الناس يحشرون ركباناً على البلايا، ومشاةً إن لم تعقر مطاياهم على قبورهم، وهذا شيء كان من فعل الجاهلية.

تفارق قومها باكية

حدث شيخنا أبو علي بن شاذان قال: حدثني أبي أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان بن داود بن محمد الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا هارون بن موسى قال: حدثني عبد الله بن عمرو الفهري عن عمه الحارث بن محمد بن عيسى بن عبد الأعلى قال:كانت بالمدينة جاريةً لآل أبي رماثة، أو لآل أبي تفاحة، يقال لها: سلامة.قال: فكتب فيها يزيد بن عبد الملك لتشترى له، فاشتريت بعشرين ألف دينار، فقال أهلها: لا تخرج حتى نصلح من شأنها، فقالت الرسل: لا حاجة لكم بذاك ! معنا ما يصلحها.قال: فخرج بها حتى أتي بها سقاية سليمان، قال: فأنزلها رسله فقالت: لا والله لا أخرج حتى يأتيني قوم كانوا يدخلون علي فأسلم عليهم، قال: فامتلأ ذلك الموضع من الناس، قال: ثم خرجت فوقفت بين الناس، وهي تقول:

فارَقوني وقد عَلِمتُ يَقِيناً

ما لمَن ذاقَ فُرقَةً من إيابِ.

إنّ أهلَ الحِصَابِ قد ترَكوني

في وُلوعٍ يذكو بأهلِ الحِصَابِ.

سكنوا الجِزْعَ وهو جِزْعُ أبي مو

سى إلى النخلِ من صفيّ الشبابِ.

أهلُ بَيتٍ تَتَابعُوا للمَنَايَا،

ما على الدهرِ بعدهم من عِتابِ.

قال: فما زالت على ذلك تبكي ويبكون حتى راحت، ثم أرسلت إليهم بثلاثة آلاف درهم.

يزيد يموت حزناً على حبابة

حدث أبو علي بن شاذان قال: حدثني أبي أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني هارون بن موسى قال: حدثني موسى بن جعفر بن أبي كثير وعبد الملك بن الماجشون قال:لما مات عمر بن عبد العزيز قال يزيد: والله ما عمر بأحوج إلى الله مني. قال: فأقام أربعين ليلةً يسير بسيرة عمر، فقالت حبابة لخصي له كان صاحب أمره: ويحك قم بي حيث يسمع كلامي ولك علي عشرة آلاف درهم، فلما مر يزيد بها قالت:

بَكَيتُ الصِّبي جهلاً فمن شاء لامني

ومَن شاءَ آسى في البُكاءِ وأسعَدا.

ألا لا تَلُمه اليَوْمَ أن يَتَلَبّدا

فقَد مُنِعَ المَحزُونُ أن يَتَجَلّدا.

وَما العَيشُ إلاّ ما تَلَذُّ وتَشتَهي

وإنْ لامَ فيهِ ذو الشنّانِ وَفَنّدا.

إذا كنتَ عِزْهاةً عن اللّهوِ والصِّبي

فكن حجراً من يابِس الصّخرِ جَلمَدا.

قال أبو موسى: وهذا الشعر للأحوص، فلما سمعها قال للخصي: ويحك ! قل لصاحب الشرط يصلي بالناس.وقال يوماً: والله إني لأستحيي أن أخلوا بها، ولا أرى أحداً غيرها، وأمر ببستان، وأمر بحاجبه أن لا يعلمه بأحد. قال: فبينما هو معها أسر الناس بها، إذ حذفها بحبة رمان، أو بعنبة، وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت، او طادت تجيف، ثم خرج فدفنها، وأقام أياماً، ثم خرجن وهليه الهم بادياً، حتى وقف على قبرها فقال:

فإن تسلُ عنكِ النفسُ أوْ تدع الصِّبي

فباليَأسِ أسلو عنكِ لا بالتّجَلّدِ.

وَكُلُّ خَلِيلٍ لامَتني فهوَ قائِلٌ

من أجِلكِ هذا هامَةُ اليوْمِ أوْ غَدِ.

ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي