مصارع العشاق/كيف يقتل الفاسق

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

كيف يقتل الفاسق

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي بن السواق، رحمه الله، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس،حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا أبو عباد شيخ قديم قال:أدركت الخادم الذي كان يقوم على راس الحجاج، فقلت له: أخبرني بأعجب شيء رأيت من الحجاج ؟ قال: كان أميراً على واسط، وكانت بواسط امرأة يقال: إنه لم يك بها في ذلك الوقت امرأة أجمل منها، فأرسل ابن أخيه إليها يريدها على نفسها مع خادم له، فأبت، وقالت: إن أردتني فاخطبني إلى أخوتي، وكان لها أخوة أربعة، فأبى وقال: لا ! إلا كذا، وعاودها، فأبت إلا أن يخطبها إلى أخوتها، فأما حرام فلا، فأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهدية، فأخذتها فعزلتها، ثم أرسل إليها عشية جمعة أني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إن الأمير قد بعث إلي بكذا وكذا، فأنكرت أمها ذلك، وقالت لأخوتها: إن أختكم قد زعمت كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذبوها، فقالت: إنه قد وعدني أن يأتيني الليلة، فسترونه. فقعد أخوتها فيبيت حيال البيت الذي هو فيه، وفيه سراح، وهم يرون من يدخل إليها، وجويرية لها على باب الدار، قاعدة.حتى جاء الأمير فنزل عن دابته، وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس، فأتني بدابتي، ودخل، فمشت الجارية بين يديه، فقالت له: ادخل، فدخل وسيدتها على سرير مستلقية، فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها، وقال: إلى كم هذا المطل ؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق، فدخل أخوتها عليها، ومعهم سيوف، فقطعوه، ثم لفوه في نطع، وجاؤوا به إلى سكة من سكك واسط، فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدق الباب دقاً رفيقاً وليس يكلمه أحد، فلما خشي الصبح، وأن تعرف الدابة، انصرف وأصبحوا، فإذا هم به، فأتوا له الحجاج، فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ما هذا.وما قصته ؟ قالوا: لا نعلم ما حاله وما قصته.غير أنا وجدناه ملقىً.ففطن الحجاج، فقال: علي بمن كان يخدمه.فأتي بذلك الخصي الذي كان الرسول.فقالوا: هذا كان صاحب سره.فقال له الحجاج: اصدقني ! ما كان حاله وما فصته ؟ فأبى، فقال له: إن صدقتني لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقني فعلت بك، وفعلت.فأخبره الأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وأخوتها فجيء بهم، فعزلت المرأة عنهم، فسألها فأخبرته بمثل ما اخبر به الخصي، ثم سأل الأخوة على انفراد، فأخبروه بمثل ذلك، وقالوا: حن صنعنا به الذي ترى.فصرفهم وأمر برفيقه ودوابه وماله وكل قليل وكثير له أن يعطى للمرأة. فقالت المرأة: عندي هديته التي وجه بها إلي.فقال: بارك الله لك فيها، وأكثر النساء مثلك، هي لك، وكل ما ترك من شيء فهو لك، فأعطاهما جميع ما ترك وخلى عنها وعن أخوتها، وقال: إن مثل هذا لا يدفن فألقوه للكلاب.ودعل بالخصي فقال: أما أنت فقد قلت لك إني لا أضرب عنقك، وأمر بضرب وسطه.

ميتا الحب

أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه في داره بالحريم الطاهري سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو القاسم بإسناد له عن ابن الأشدق قال:كنت أطوف بالبيت، فرأيت شاباً تحت الميزاب قد أدخل رأسه في كسائه، وهو يئن كالمحموم، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: من أين ؟ قلت: من البصرة.قال: ؟ أترجع إليها ؟ قلت: نعم ! قال: فإذا دخلت النباج، فاخرج إلي الحي، ثم ناد: يا هلال يا هلال، تخرج إليك جارية فتنشدها هذا البيت:

لقد كنتُ أهوَى أنْ تَكُونَ مَنيّتي

بعَينَيكِ حتى تَنُظرِي مَيّتَ الحُبّ.

ومات مكانه، فلما دخلت النباج أتيت الحي، فناديت: يا هلال يا هلال، فخرجت إلي جارية لم أر أحسن منها، وقالت: ما وراءك ؟ قلت: شاب بمكة أنشدني هذا البيت.قالت: وما صنع ؟ قلت: مات، فخرت مكانها ميتة.

إساءة الدنيا وإحسانها

أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن النوخي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، حدثنا أبو بكر بن دريد:أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:

رُوَيدَكَ يا قُمرِيُّ ! لستَ بمُضْمرٍ

من الشَوْقِ إلا دونَ ما أنا مُضْمِرُ.

ليكفِك أن القلبَ مُذْ أن تَنَكّرَتْ

أُسَيماءُ عن مَعُروفهِ مُتَنَكِّرُ.

سَقَى اللهُ أيّاماً خَلَتْ وَلَيَالِياً،

فَلَمْ يَبقَ إلاّ عَهدُهَا المُتذكَّرُ.

لَئِن كانتِ الدّنيا أجدّتْ إساءَةً،

لمَا أحسَنَتْ في سالِفِ الدّهرِ أكثرُ.

عيون وخدود

أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن أيضاً، أخبرنا علي بن عيسى الرماني قال: أخبرنا ابن دريدأنشدنا عبد الرحمن عن عمه لأبي المطرب العنبري:

أيا بارِقَي مَغنى بُثَينَةَ أسعِدَا

فتىً مُقصَداً بالشَّوْقِ فهوَ عَميدُ.

لَيَاليَ مِنّا زَائِرٌ مُتَهَالِكٌ،

وَآخَرُ مَشهُورٌ كَوَاهُ صُدُودُ.

عَلى أنّهُ مُهدِي السّلامِ وَزَائِرٌ

إذا لمْ يَكُنْ ممّنْ يخافُ شُهودُ.

وَقد كانَ في مَغنى بُثَينةَ لوْ رَنَتْ

عُيونُ مَها تَبدو لَنا وَخُدُودُ.

جسم ناحل وعظام

أخبرنا أبو الحسين احمد بن التوزي، أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، أخبرن ابي:أنشدنا احمد بن عبيد:

ألا مُسْعِفٌ من بُعدِ ناء وَشُقّةٍ

بِرَامٍ، وَأعلامٍ بسفَحِ بَرَامِ.

أقَامَ بهِ قلبي وَرَاحَتْ مطيتي

بأشلاءِ جِسْمٍ نَاحِلٍ وَعِظَامِ.

قال أبو بكر: الأشلاء جمع شلو، وهو العضو.

موت جميل بثينة

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال، حدثنا أبو الحسين عبيد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني أبو الحسن بن محمد بن أبي سيف، أخبرني أبو عبد الرحمن العجلاني عن سهل بن سعد الساعدي قال:بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل تعوده، فإنه ثقيل بالمرض ؟ قلت: نعم ! فدخلنا عليه، وهو يجود بنفسه، وما يخيل إلي أن الموت علق به، فنظر إلي وقال: يا ابن سعد ! ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب خمراًقط، ولم يسفك دماً حراماً قط، يشهد أن لا إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، منذ خمسين سنة. قال: قلت: من هذا الرجل ؟ فإني أظنه، والله، قد نجا، لن الله تعالى يقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً. قال: أنا.قال: فقلت: والله ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة. قال: أنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما كان مني إليها أني كنت آخذ يدها أضعها على قلبي، فأستريح إليها. قال: ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال:

صَدَعَ النعيُّ وَما كَنى بجَمِيلِ،

وَثَوَى بمِصرَ ثَوَاءَ غَيرِ قَفُولِ.

وَلقد أجرُّ الذّيلَ في وَادِي القُرَى،

نَشوَانَ بَينَ مَزَارِعٍ وَنَخِيلِ.

قُومي بُثَيْنَةُ، فَاندُبي بعَوِيلِ،

وَابكي خَليلَكِ دونَ كلّ خليلِ.

ثم أغمي عليه فمات.

غشية تجيء وأخرى تذهب

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن يوسف العلاف بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي،حدثنا علي القمي، حدثني أبو المصعب المديني قال:دخلت على الربيع بن عبيد، وكان قد أخذته زمعة الحب، وتيم عقله، فكان يصيبه كالغفلة حتى يذهب عقله، فسمعته وهو يخاطب نفسه، ويقول:

الحبُّ لَوْ قَطّعَني

ما قُلْتُ للحُبّ ظَلَمْ.

قَدْ كُنْتُ خِلْواً، زَمَناً،

فاليَوْمَ يَبدُو مَا كُتِمْ.

قال: قلت كيف أنت برحمك الله ؟ فقال: من أنت ؟ فقلت: أنا أخوك أبو المصعب.قال: غشية تجيء، وأخرى تذهب، وأنا أتوقع الموت ما بين ذلك.قلت: الله بينك وبين من ظلمك.قال: مه، والله ما أحب أن يناله مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ! ثم تنفس حتى رحمته، وهمت دموعه، وذهب عقله، فقمت عنه.

الهم الملازم

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في ما أذن لنا أن نرويه عنه، أخبرنا أبو القاسم طلحة بن محمد الشاهد، أخبرنا أبو عبد الله الحرمي بن أبي العلاء وهو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي الخمصة الغطفاني المكي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن حسن:أنشدني محرز بن جعفر لعبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي:

غُرَابٌ وَظَبيٌ أعصَبُ القَرْنِ بَادِياً،

بصَرْمٍ، وَصِرْدانُ العَشيّ تَصِيحُ.

لَعَمرِي لَئن شَطّتْ بعَتمَةَ دارُها،

لقَد كنتُ من وَشكِ الفرَاقِ أُلِيحُ.

أرُوحُ بِهَمٍّ، ثمّ أغدُو بِمِثْلِهِ،

وَيُحسَبُ أني في الثّيَابِ صَحِيحُ.

الفتى المشدود بالحبل

ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز ونقلته منخطه أن أبا بكر محمد بن خلف المحولي حدثهم قال: حدثنا يحيى بن جعفر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، حدثنا يعقوب بن عتبة بن المغيرة الأخنس عن الزهري عن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه قال:كنت في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتىً منهم، وهو في سني، قد جمعت يداه إلى عنقه برمةٍ، ونسوة مجتمعات غير بعيدات عنه: يا فتى ! قلت: ما تشاء ؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة ومدنيني من هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم تردني، فتفعل ما بدا لك ؟قال: قلت والله ليسير ما طلبت.فأخذت برمته حتى وقفته، فقال: إسلم حبيش على بعد العيش، وذكر الحديث.

حكاية سلم حبيش على بعد العيش

ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد خلف بن المرزبان حدثهم قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الكوفي، حدثنا الهيثم بن عدي،حدثني سعيد بن شيبان عن أبي مسعود الأسلمي عن أبيه قال:نشأ فينا غلام يقال له عبد الله بن علقمة، وكان جميلاً، فهوي جاريةً من غير فخذه، يقال لها حبيشة، فكان يأتيها، ويتحدث إليها.قال: فخرج ذات يوم من عندها، ومعه أمه، فراى في طريقه ظبيةً على رابية، فأنشأ يقول:

يا أُمَّنا خَبّرِينا، غَيرَ كاذِبَةٍ،

وَلا تَشوبي سؤولَ الخيرِ بالكذِبِ.

حُبَيشُ أحسَنُ أمْ ظَبيٌ بَرابيَةٍ،

لا بل حُبيشةُ من دُرٍّ وَمن ذهَبِ.

انصرف من عندها مرةً أخرى، فأصابته السماء، فأنشأ يقول:

وَما أدْرِي، إذا أبْصَرْتُ يَوْماً،

أصَوْبُ القَطْرِ أحْسَنُ أمْ حُبَيشُ.

حُبَيشٌ، وَالّذِي خَلَقَ البَرَايَا

عَلى أنْ لَيسَ عِندَ حُبَيشَ عَيشُ.

فلما كثر ذلك منه وشهر بها، قال قومه لأمه: إن هذا الغلام يتيم، وإن أهل هذه المرأة يرغبون بأنفسهم عنكم، فانظري جاريةً ن قومك ممن لا تمتنع عليك، فزيّنيها واعرضيها عليه لعله يتعلقها ويسلى، ففعلت، وحضرها نساؤها، فجعلوا يعرون عليه نساء الحي، ثم يقولون له: يا عبد الله ! كيف ترى ؟ فيقول: إيهاً، والله حسناء، إلى ان قال قائل: أهي أحسن أم حبيشة ؟ فقال: مرعى ولا كالسعدان. فلما يئسوا من أن ينصرف عنها، قال بعضهم لبعض: عليكم بحبيشة، وطمعوا أن ياتوا الأمر من قبلها، فقالوا: والله لئن أتاك، لا تزرين به، وتتجهمينه، وتقولين له: أنت أبغض الناس إلي، فلا تقربني، ونحن بمرأى منك ومسمع، ليفعلن بك ما يسوءك، فأتاها، فلم تكلمه بشيء مما قالوا، ولم تزد على أن نظرت إليه، ونظر إليها، ثم أرسلت عينيها بالبكى، فانصرف عنها، وهو يقول:

وَما كانَ حُبّي عن نَوَالٍ بَذَلْتِه

وَلَيسَ بمُسْليَّ التّجَهّمُ وَالهَجْرُ.

سِوَى أنّ دائي مِنكِ داءُ مَودّةٍ،

قَدِيماً، وَلمْ يُمزَجْ كما تُمزَجُ الخمرُ.

وَما أنسَ مِلْ أشياء لا أنسَ دمعَها

وَنَظْرَتَها حَتّى يُغَيّبني القَبْرُ.

فبينما هما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة، إذ هجم عليهم جيش خالد بن الوليد يوم الغميصاء، فأخذ الغلام رجل من أصحاب خالد، فأراد قتله، فقال له: ألمم بي أهل تلك البيوت أقضي إليهن حاجةً، افعل ما بدا لك. قال: فأقبلت به حتى انتهى إلى خيمة منها، فقال: إسلم حبيش بعد انقطاع العيش، فأجابته فقالت: سلمت وحياك الله عشراً، وتسعاً وتراً، وثلاثاً تترى، فلم أر مثلك يقتل صبراً.وخرجت تشتد، وعليها خمار أسود، وقد لاثته على رأسها، وكان وجهها مثل القمر ليلة البدر، فقال حين نظر إليها:

أرَيتُكِ إنْ طالَبتُكم فَوجَدتكمْ

ببرْزَةَ، أوْ إنْ لم تَفُتْني الحَرَانقُ.

أمَا كانَ حَقّاً أن يُنَوَّلَ عاشِقٌ

تكلّفَ إدلاجَ السُّرَى وَهوَ رَاهقُ.

فَإنيَ لا سِرّاً لَدَيّ أضَعْتُهُ،

وَلا رَاقَ عَيني بعد وَجهكِ رَائقُ.

على أن ما بات العشية شاغل،

فلا ذكر إلا أن تكون توامق.

فها أنا ماسور لديك مكبلن

وما أنا بعد اليوم بالعتب ناطق.

فأجابته:

أرَى لكَ أسْبَاباً أظُنّكَ مُخْرِجاً

بهَا النّفسَ من جَنبيّ والرّوحُ زَاهقُ.

فأجابها فقال:

فإنْ يَقتُلوني، يا حُبَيش، فلم يَدَعْ

هَوَاكِ لهُمْ مِني سِوَى غُلّةِ الصّدرِ.

وَأنتِ التي قَفّلتِ جِلْدِي عَلى دَمي

وَعَظمي وَأسبَلتِ الدموعَ على النّهرِ.

فأجابته فقالت:

وَنَحنُ بَكَينا من فِرَاقِكَ مَرّةً،

وَأُخرَى، وَقايَسنا لكَ العُسرَ باليُسرِ.

فأنتَ فلا تَبْعَدْ، فَنِعمَ أخُو النَّدَى،

جَميلُ المُحَيّا في المُرُوءةِ وَالبِشْرِ.

قال الذي أخبر به: فلم سمعت ذلك منهما أدركتني الغيرة، فضربته ضربةً، فقطعت منها يده وعنقه، فلما رأته قد سقط قالت لي: ائذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض، فأذنت لها، فجمعته وجعلت تمسح التراب عن وجهه بخمارها وتبكي، ثم شهقت شهقةً خرجت منها نفسها.

موت عروة بن حزام

قال أبو بكر بن المرزبان وأخبرنا أحمد بن زهير، أخبرنا الزبير بن بكار، أخبرنا أبيقال: قال عروة بن الزبير:مررت بوادي القرى فقيل لي: هل لك في عروة بن حزام ؟ فقلت: الذي يلقى من الحب ما يلقى ؟ قالوا: نعم ! فخرجت حتى جئته، فإذا هو في بيت منفرد عن البيوت، وإذا، والله، حوله أخوات له أمثال التماثيل، وأمه وخالته.قال: فقلت له: أنت عروة ؟ قال: نعم ! قلت: صاحب عفراء ؟ قال: صاحب عفراء، ثم استوى قاعداً فقال: وأنا الذي أقول:

وعينان ما أوفيت نشزاً فتنظرا

بما فيهما إلا هما تكفان.

ألا فاحملاني، بارك الله فيكما،

إلى حاضر البلقاء ثم ذراني.

ثم التفت إلى أخواته فقال:

مَنْ كانَ من أُمّهَاتِي بَاكِياً أبَداً،

فَالَيْوَم إني أُرَاكَ اليَوْمَ مَقْبُوضا.

مَنْ كانَ يَلحُو فإني غَيرُ سَامِعِهِ،

إذَا عَلَوْتُ رِقَابَ القَوْمِ مَعرُوضَا.

قال عروة بن الزبير: فلما سمعن قوله برزن والله يضربن حر الوجوه، ويشقنقن جيوبهن.قال عروة: فقمت، فما وصلت إلى منزلي حتى لحقني رجل فقال: قد مات.

قصة عروة وعفراء

نقلت من خط ابن حيويه: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني أبو العباس فضل بن محمد اليزيدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أخبرني لقيط بن بكر المحاربي. أن عروة بن حزام وعفراء ابنة مالك العذريين، وهما بطن من عذرة، يقال لهم بنو هند بن حزام بن ضبة بن عبد بكير بن عذرة، نشأا جميعاً فعلقها علاقة الصبي، وكان عروة يتيماً في حجر عمه، حتى بلغ، فكان يسأل عمه أن يزوجه عفراء فيسوفه، إلى أن خرجت عير لأهله إلى الشام وخرج عروة إليها، ووفد على عمه ابن عم له من البلقاء يريد الحج، فخطبها، فزوجها إياه. وأقبل عروة في عيره حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلةٍ من نحو المدينة فيها امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله، إنها شمائل عفراء، فقالوا: ويحك ! ما تترك ذكر عفراء لشيء ؟ قال: وجاء القوم، فلما دنوا منه وتبين الأمر يبس وبقي قائماً لا يتحرك، ولا يحير كلاماً، ولا يرجع جواباً، حتى بعد القوم، فذلك حيث يقول:

وَإني لَتَعرُوني لِذِكرَاكِ رِعْدَةٌ،

لها بَينَ جِلْدِي وَالعِظامِ دَبِيبُ.

فَما هُوَ إلاّ أنْ أرَاهَا فُجاءةً

فَأُبْهَتَ حَتى مَا أكَادُ أُجِيبُ.

فَقُلْتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ: داوِني،

فَإنّكَ إنْ أبْرَأتَني لَطَبِيبُ.

فَما بيَ من حمّى وَلا مسّ جِنةٍ،

وَلكنّ عَمي الحِميرِيَّ كَذُوبُ.

قال أبو بكر: وعراف اليمامة هذا الذي ذكره عروة وغيره من الشعراء، هو رياح بن راشد ويكنى أبا كحيلة، وهو عبد لبني يشكر، تزوج مولاه امرأةً من بني الأعرج، فساقه في مهرها ثم ادعى بعد نسباً في بني الأعرج. ثم إن عروة انصرف إلى أهله واخذه البكاء والهلاس حتى نحل، فلم يبق منه شيء، فقال بعض الناس: هو مسحور، وقال قوم: بل به جنةٌ ! وقال آخرون: بل هو موسوس، وإن بالحاضر من اليمامة لطبيبا يداوي من الجن، وهو أطب الناس، فلو أتيتموه، فلعل الله يشفيه، فساروا إليه من أرض بني عذرة حتى داواه، فجعل يسقيه السلوان، وهو يزداد سقماً، فقال له عروة: يا هناه ! هل عندك للحب دواء أو رقية ؟ فقال: لا والله.فانصرفوا حتى مروا بطبيب بحجر، فعالجه وصنع به مثل ذلك، فقال له عروة: والله ما دائي ودوائي إلا شخص بالبلقاء مقيم، فهو دائي، وعنده دوائي. وفي غير هذه الرواية: شخص بالبلقاء مقيم هو وراني، أي أمرضني وهزلني، والورى داء يكون في الجوف مثل القرحة والسل. قال سحيم عبد بني الحسحاس:

وَرَاهُنَّ رَبي مثلَ ما قَد وَرَينَني،

وَأحمَى على أكبادِهنّ المَكاوِيَا.

رجع الحديث قال: فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصرافهم به:

جَعلتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ حُكمَهُ

وَعَرّافِ حِجرٍ إن هُما شَفَياني.

فقالا: نعم ! نَشفي من الداء كلّه،

وَقَامَا مَعَ العُوّادِ يَبْتَدِرَانِ.

فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقيَةٍ يعلمانِها،

وَلا سَلَوةٍ إلاّ وقَدْ سَقَيَاني.

فَقالا: شَفاكَ الله، وَاللهِ مَا لَنَا

بما ضَمِنَتْ مِنكَ الضّلُوعُ يَدانِ.

قال: فلما قدم على أهله، وكان له أخوات أربع ووالدة وخالة، فمرض دهراً، فقال لهن يوماً، اعلمن أني لو نظرت إلى عفراء نظرة ذهب وجعي، فذهبن به حتى نزلوا البلقاء مستخفين، فكان لا يزال يلم بعفراء، وينظر إليها، وكانت عند رجل كريم سيد كثير المال والغاشية. فبينا عروة يوماً بسوق البلقاء، إذ لقيه رجل من بني عذرة فسأله عن حاله ومقدمه، فأخبره.قال: والله لقد سمعت انك مريض، وأراك قد صححت.فلما أمسى الرجل دخل على زوج عفراء فقال: متى قدم عليكم هذا الكلب الذي قد فضحكم ؟ فقال زوج عفراء: أي كلب هو ؟ قال: عروة ! قال: أوقد قدم ؟ قال: نعم ! قال: أنت والله أولى بها منه أن تكون كلباً، ما علمت بقدومه، ولو علمت لضممته إلي. فلما أصبح غدا يستدل عليه حتى جاءه، فقال: قدمت هذا البلد، ولم تنزل بنا، ولم تر أن تعلمنا بمكانك فيكون منزلكم عندنا وعلي، إن كان لكم منزل إلا عندي.قال: نعم ! نتحول إليك الليلة، أو في غد.فلما ولى قال عروة لأهله: قد كان ما ترون، وإن أنتم لم تخرجوا معي لأركبن رأسي ولألحقن بقومكم، فليس علي بأس.فارتحلوا وركبوا طريقهم، ونكس عروة ولم يزل مدنفاً، حتى نزل وادي القرى. وروى العمري عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين أن عفراء لما بلغها وفاة عروة قالت لزوجها: يا هناه ! قد كان من أمر هذا الرجل ما بلغك، والله ما كان ذلك إلا على الحسن الجميل، وإنه قد بلغني أنه مات في أرض غربةٍ، فغن رأيت أن تأذن لي فأخرج في نسوة من قومي فيندبه ويبكين عليه.فقال: إذا شئت، فأذن لها، فخرجت، وقالت ترثيه:

ألا أيّها الركبُ المُخِبّونَ وَيحَكُم !

بحَقٍّ نَعَيتُم عُرْوَةَ بنَ حِزَامِ.

فَلا هَنئ الفِتيَانَ بَعدَكَ غَارَةٌ،

وَلا رَجَعُوا مِنْ غَيبَةٍ بِسَلامِ.

فَقُلْ للحبَالى لا تُرَجّينَ غَائِباً،

وَلا فَرَحَاتٍ بَعْدَهُ بِغُلامِ.

قال: ولم تزل تردد هذه الأبيات وتبكي حتى ماتت، فدفنت إلى جابنه، فبلغ الخبر معاوية، فقال: لو علمت بهذين الشريفين لجمعت بينهما. وقد روي مثل هذا الكلام عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، حدثنا العيشي عن أبيه قال:لما زُوجت عفراء جعل عروة يضع صدره في أعطان إبلها، وحيث كانت تجلس، فقيل له: اتق الله، فإن هذا غير نافعك، فأنشأ يقول:

بيَ اليأسُ، أوْ داءُ الهُيَامِ سُقِيتُه،

فإيّاكَ عَني لا يَكُنْ بكَ مَا بيَا.

الهجران إثم

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الحوهري، حدثنا أبو القاسم طلحة، حدثنا الجرمي بن أبي العلاء، حدثني الزبير، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبدي بن أبي سلمة:أنشدني جدي يوسف بن الماجشون لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

كَتَمتَ الهوَى حَتى أضَرّ بِكَ الكتمُ،

وَلامَكَ أقوَامُ، وَلَوْمُهُمُ ظُلْمُ.

وَنَمّ عَلَيْكَ الكَاشِحُونَ، وَقبلَهم

عَلَيكَ الهَوَى قد نمّ لَوْ نَفعَ النمُّ.

وَزَادَكَ إغرَاءٌ بِهَا طُولُ هَجْرِهَا،

قَدِيماً، وَأبلى لحمَ أعظُمِكَ الهَمّ.

فأصْبَحتَ كالهِندِيّ، إذْ ماتَ حسرَةً

على إثرِ هِندٍ، أوْ كمَنْ سُقيَ السُّمّ.

ألا مَنْ لنَفسٍ لا تَمُوتُ فَيَنقَضي

عَنَاهَا، وَلا تَحيَا حَياةً لها طَعمُ.

تَجَنّبتَ إتْيَانَ الحَبِيبِ تَأثّماُ،

ألا إنّ هِجْرَانَ الحَبِيبِ هوَ الإثمُ.

فذُقْ هَجرَها، قَد كنتَ تَزْعُمُ أنّهُ

رَشَادٌ، ألا يا رُبّما كَذَبَ الزّعمُ.

مصطبران على البلوى

أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن روح النهرواني حدثنا المعافى بن زكريا:أخبرنا محمد بن يحيى الصولي عن أحمد بن يحيى أنه أنشد:

هوَى نَاقَتي خَلفي، وَقُدّاميَ الهوَى،

وَإني وَإيّاهَا لمُخْتَلِفَانِ.

هَوَايَ عرَاقيٌّ وَتَثْني زِمَامَهَا،

كَبَرْقٍ سرَى بَعدَ الهُدُوءِ يمَاني.

تَحِنّ وَأبْكي، إنّها لَبَلِيّةٌ،

وَإنّا عَلى البَلْوَى لمُصْطَبِرَان.

فضل الشاعرة

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي إجازة، أخبرنا القاضي أبو عمر أحمد بن محمد بن العلاف، اخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثني محرز الكاتب، أخبرني يحيى بن الخصيب قال:كنت عند فضل الشاعرة إذ استأذن عليها إنسان فأذنت له، وقالت:ما حاجتك ؟ قال: تجيزين مصراع بيت من شعر.قالت: ما هو ؟ قال:

مَن لمُحبٍّ أحَبّ في صِغَرِهْ

فصَارَ أحدُوثَةً على كِبَرِهْ.

فقالت:

مِنْ نَظَرٍ شَفّهُ وَأرّقَهُ،

فكانَ مَبدَا هَوَاهُ مِن نَظَرِهْ.

لَوْلا الأمَاني لمَاتَ مِنْ كمَدٍ،

مَرُّ اللَّيَالي يَزِيدُ في ذِكَرِهْ.

مَا إنْ لَهُ مُسْعِدٌ فَيُسعِدَهُ

بِاللّيْلِ في طُولِهِ وَفي قِصَرِهْ.

شهقة الموت

قال محمد بن المرزبان، ونقلته من خط ابن حيويه عنه، قال: أخبرني بعض أصحاب المداينياخبرنا المدايني، أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال:كان بالمدينة رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان شاعراً، وكانت عنده ابنة عم له، وكان لها عاشقاً، وبها مستهتراً، فضاق ضيقةً شديدة، وأراد المسير إلى هشام إلى الرصافة، فمنعه من ذلك ما كان يجد بها وكره فراقها، فقالت له يوماً، وقد بلغ منها الضيق: يا ابن عمي ! ألا تأتي الخليفة لعل الله تعالى أن يقسم لك منه رزقاً، فنكشف به بعض ما نحن فيه.فلما سمع ذلك منها نشط للخروج، فتجهز، ومضى، حتى إذا كان من الرصافة على أميال خطر ذكرها بقلبه، وتمثلت له، فلبث ساعة شبيهاً بالمغمى عليه، ثم أفاق، فقال للجمال: احبس، فحبس إبله، فأنشأ يقول:

بَينَما نحنُ في بلاكثَ فالقَا

عِ سرَاعاً، وَالعِيسُ تَهْوِي هُوِيّا.

خَطَرَتْ خطرَةٌ على القَلْبِ مِنْ ذِكْ

رَاكِ، وَهناً، فَما أطقتُ مُضِيّا.

قُلْتُ: لَبَيّكِ، إذْ دَعَاني لكِ الشّوْ

قُ، وَللحَادِيَينِ رُدّا المَطِيّا.

فكَرَرْنَا صُدُورَ عِيسٍ عِتَاقٍ،

مُضْمَرَات، طُوِينَ بالسّيرِ طَيّا.

ذَاكَ مِمّا لَقِينَ من دَلَجِ السّي

رِ، وَقَوْلِ الحُدَاةِ، باللّيلِ، هَيّا.

ثم قال للجمال: ارجع بنا ! فقال له: سبحان الله، قد بلغت طيتك ! هذه أبيات الرصافة.فقال: والله لا تخطو غلا راجعة، فرجع، حتى إذا كان من المدينة على قدر ميل لقيه بعض بني عمه، فأخبره أن امرأته قد توفيت، فشهق شهقةً، وسقط عن ظهر البعير ميتاً.

جنون وعشق

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بقراءتي عليه بباب الندوة، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي القزويني، حدثنا شادل، حدثنا يحيى بن سليمان المادراي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الأبلي قال:رأيت غورك يوماً خارجاً من الحمام، والصبيان يؤذونه، فقلت: ما خبرك أبا محمد ؟ قال: قد آذاني هؤلاء الصبيان، أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون ؟ قلت: ما أظنك مجنوناً.قال: بلى، والله، وبي عشق شديد.قلت: هل قلت في عشقك وجنونك شيئاً ؟ قال: نعم، وأنشد:

جُنُونٌ وعِشقٌ ذَا يَرُوحُ وَذا يَغدُو،

فَهَذا لَهُ حَدٌّ، وَهَذا لَهُ حَدُّ.

هُمَا استَوْطَنا جسمي وَقلبي كِلاهُما،

فَلمْ يَبْقَ لي قَلبٌ صَحيحٌ وَلا جِلدُ.

وَقَدْ سَكَنَا تحتَ الحَشَا، وَتَحَالَفَا

عَلى مُهْجَتي ألاّ يُفَارِقَهَا الجَهدُ.

فَأيُّ طَبِيبٍ يَسْتَطِيعُ بحيلَةٍ،

يُعَالِجُ مِنْ دَاءَين مَا مِنْهُمَا بُدُّ.

^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي