مصارع العشاق/ليلى الأخيلية والحجاج

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ليلى الأخيلية والحجاج

أخبرنا أبو جعفر بن مسلمة في ما أذن لنا في روايته أن أبا القاسم إسماعيل بن سعيد بن سويد أخبرهم إجازة قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد عن أبي الحسن المدائني عمن حدثه عن مولى لعنبسة أن سعيد بن العاص قال:كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً، فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني به، ثم جيء بطبق، حتى كثرت الأطباقن وجعل لا يؤتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، جتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم، ثم جاء حاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها ! فدخلت، فلما رآها الحجاج، طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد اصاب الأرض، فجاءت حتى بين يديه، فنظرت إليها فإذا هي امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتىبك ؟ فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد. فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت: الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمنزل معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون.وأصابتنا سنون مجحفة مبطلة لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً، ولا عافطة ولا ناقلة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال.ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولاً ! قال: هاتي، فأنشأت تقول:

أحَجّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُكَ إنّمَا ال

مَنَايَا بِكَفّ اللهِ حَيْثُ تَرَاهَا.

أحَجّاجُ لا تُعْطِ العُصَاةَ مُنَاهُمُ،

ولا اللهُ يُعْطي للعُصَاةِ مُنَاهَا.

إذَا هَبَطَ الحَجّاجُ أرْضاً مَرِيضَةً

تَتَبّعَ أقْصَى دَائِهَا فَثَفَاهَا.

شَفَاهَا مِنَ الدّاءِ العُضَالِ الذِي بها

غُلامٌ إذَا هَزّ القَنَاةَ سَقَاهَا.

سَقَاهَا، فَرَوّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ

دِمَاءُ رِجَالٍ حَيْثُ قَالَ حَمَاهَا.

إذَا سَمِعَ الحَجّاجُ رِزّ كَتِيبَةٍ،

أعَدّ لهَا قَبْلَ النّزُولِ قِرَاهَا.

أعَدّ لَهَا مَسْمُومَةً فَارِسِيّةً

بِأيْدِي رِجَالٍ يَحلُبُونَ صَرَاهَا.

فَمَا وَلَدَ الأبْكَارُ وَالعُونُ مِثْلَهُ،

بِنَجْدٍ وَلا أرْضٍ يَجِفّ ثَرَاهَا.

قال: فلما قالت هذا، قال الحجاج: قاتلها الله ! ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك. قالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك، ويحك حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها.قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك ! أما سمعت ما قال ؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة.فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً، وهم بقطع لسانه وقال: ارددها، فلما دخلت عليه قالت: كاد، وأمانة الله، يقطع مقولي.ثم أنشأت تقول:

حَجّاجُ ! أنتَ الذي مَا فَوْقَهُ أحَدٌ

إلاّ الخَلِيفَةُ وَالمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ.

حَجّاجُ ! أنتَ شهابُ الحرْبِ إذ لقِحت،

وَأنتَ للنّاسِ في جِنحِ الدُّجَى تَقِدُ.

ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه ؟ قالوا: لا والله أيها الأمير إلا أنا بم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها.فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة.فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:

وَهَلْ تَبْكِيَنْ لَيْلى إذا مَا بكَيتُها

وَقَامَ عَلى قَبْرِي النّسَاءُ النّوائحُ.

كمَا لَوْ أصَابَ المَوْتُ لَيْلى بكَيتُهَا،

وَجَادَ لهَا دَمْعٌ مِنَ العَينِ سَافحُ.

وَأُغْبَطُ مِنْ لَيلى لا أنَالُهُ،

بلى ! كُلُّ مَا قَرّتْ بِهِ العَينُ صَالحُ.

وَلَوْ أنّ لَيلى الأخيَلِيّةَ سَلّمَتْ

عليّ، وَدُوني تُرْبَةٌ وَصَفَائحُ.

لسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أوْ زَقَا

إليها صَدىً من جانِبِ القَبرِ صَائحُ.

فقال لها: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:

حَمَامَةَ بَطنِ الوَادِيَينِ تَرَنّمِي،

سَقَاكِ مِنَ الغُرّ الغَوَادِي مطيرُهَا.

أبيني لنا، لا زَالَ رِيشُكِ نَاعِماً،

وَلا زِلتِ في خَضرَاءَ غَضٍّ نضِيرُهَا.

وَأُشْرِفُ بِالقَوْزِ اليَفَاعِ لَعَلّني

أرَى نَارَ لَيلى أوْ يَرَاني بَصِيرُهَا.

وَكُنتُ إذا مَا جِئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ

فَقَدْ رَابَني مِنها الغدَاةَ سُفُورُهَا.

يَقُولُ رِجَالٌ: لا يَضِيرُكَ نَأيُهَا !

بَلى ! كلُّ ما شَفّ النّفوسَ يَضِيرُهَا.

بَلى يَضِيرُ العَينَ أن تُكثرَ البُكَى،

وَيُمْنَعَ مِنْهَا نَوْمُهَا وَسُرُورُهَا.

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ،

لنَفسِي تُقَاهَا، أوْ عَلَيها فُجورُهَا.

فقال لها الحجاج: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك ؟ فقالت: أبها الأمير، كان يلم بي كثيراً، فأرسل إلي يوماً أني آتيك، وفطن الحي، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشرٍ، فلم يزد على التسليم والرجوع.فقال: لله درك، فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه ؟ فقالت: لا والذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرةً قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر، فقتل له:

وذِي حَاجَةٍ قُلْنَا لَهُ: لا تَبُحْ بهَا

فَلَيْسَ إلَيهَا مَا حَيِيتُ سَبِيلُ.

لَنَا صَاحِبٌ لا يَنْبَغي أنْ نَخُونَهُ،

وَأنتَ لأخرَى فَارِغٌ وَحَلِيلُ.

فلا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً.حتى فرق الموت بيني وبينه.قال: ثم ماذا ؟ قالت: لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضرة من بني عبادة، فناد بأعلى صوتك:

عَفَا اللهُ عَنهَا ! هَلْ أبِيَنّ لَيلةً

مِنَ الدّهرِ لا يَسْرِي إليّ خَيَالُها.

فخرجت وأنا أقول:

وَعَنهُ عَفَا رِبي، وَأحسَنَ حَالَهُ،

فَعَزّ عَلَيْنَا حَاجَةً لا يَنَالُهَا.

قال: ثم ماذا ؟ قالت: لم يلبث أن مات، فأتاني نعيه.قال: فأنشدينا بعض مراثيك، فأنشدت:

لتَبْكِ عَلَيهِ مِنْ خَفَاجَةَ نُسْوَةٌ،

بِمَاءِ شُؤونِ العَبْرَةِ المُتَحَدِّرِ.

قال: فأنشدينا:

كَأنّ فَتى الفِتيَانِ تَوْبةَ لم يُنِخْ

قَلائصَ يَفحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكر.

فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجا: من هذا الذي تقول هذه هذا فيه ؟ فوالله إني لأظنها كاذبة.فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير ! إن هذا القائل لو رأى توبة لسره أن لا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه.فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنياً. ثم قال لها: سلي ليلى تعطي.قالت: أعط فمثلك أعطى فأجزل. قال: لك عشرون.قالت: زد فمثلك زاد فأجمل.قال: لك أربعون.قالت: زد فمثلك زاد فأفضل.قال: لك ستون.قالت: زد فمثلك زاد فأكمل.قال: لك ثمانون.قالت: زد فمثلك زاد فأتم.قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنها غنم، قال: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جواداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً.قال: فما هي ويحك يا ليلى ؟ قالت: مائة ناقة يدعى بها.فأمر بها ثم قال: ألك حاجةٌ بعدها ؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن.قال: قد فعلت. وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك، فاتبعه إلى الشام، فهرب إلى قتيبة، فمات بقومس، ويقال بحلوان.

علي بن صالح والقينة

ذكر أبو عمر بن حيويه في ما نقلته من خطه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد العبدي قال: حدثني سليمان بن علي الهاشميأن علي بن صالح بن داود ذكر عن جارية من القيان أنها تميل إليه محبةً وكلفاً، وكانت موصوفةً بالأدب شاعرةً، فكره مراسلتها، فحضر يوماً عند بعض أهل البصرة، وكانت عنده، فلما رأت علي بن صالح قالت: طاب عيشنا في يومنا هذا، فلم يلتفت إليها وأطرقت هي أيضاً فلم تنظر إليه، ثم دعت بداوة فكتبت على منديل، كان معها، ثم غافلت أهل المجلس، فألقت إليه المنديل، فأخذه فإذا فيه:

لَعَلّ الذي يَبْلُو بحُبّكَ يَا فَتىً،

يَرُدّكَ لي يَوْماً إلى أحسَنِ العَهدِ.

قال: فما هو إلا أن قرأت الشعر حتى وجدت في قلبي من أمرها مثل النار، وقمت فانصرفت خوفاً من الفضيحة، ثم لم أزل أعمل الحيلة في ابتياعها من حيث لا تعلم، فعسر ذلك علي، فعرفتها الخبر، وما عزمت عليه من ابتياعها، فأعانتني على ذلك حتى ملكتها، فلم أوثر عليها أحداً من حرمي، ولا أهلي، ولا كان عندي شيء يعدلها، فتوفيت، فأنا لا عيش لي بعدها، ولا سرور.فوالله ما لبث بعد هذا الكلام إلا أياماً يسيرة حتى مات أسفاً وكمداً، فدفن إلى جنبها.

ريقته مدام

ولي من قصيدة أولها:

قِفي أُخْبِرْكِ مَا صَنَعَ الغَرَامُ،

عَشِيّةَ قُوِّضَتْ تِلكَ الخِيَامُ.

لَقَدْ فَتَكَ الهَوَى بي يَوْمَ سَارُوا،

وَلَوْ لم يُؤثِرُوا قَتْلي أَقَامُوا.

سَرَوْا وَالّليلُ في ثَوْبَيْ حِدَادٍ،

وَقَدْ ألقَى مَرَاسِيَهُ الظّلامُ.

وَقَدْ هَتَكُوا الأكِلّةَ عَن بُدورٍ

كَوَامِنَ لَيْسَ يَبرَحُهَا التَّمَامُ.

وَفي الأحدَاجِ ذُو لَعَسٍ، لمَاهُ،

لنا كَأسٌ، وَرِيقَتُهُ مُدَامُ.

رَمى، وَقُلُوبُنا الأغَراضُ، فَانظُرْ

بعَينِكَ هَلْ تَطِيشُ لَهُ سِهَامُ.

عشق ليس فيه فحش

أنبأنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا العتبي قال:كان عند خالد بن عبد الله فقهاء من أهل الكوفة، فيهم أبو حمزة الثمالي، فقال خالد: حدثونا بحديث عشق ليس فيه فحش ! فقال أبو حمزة الثمالي: أصلح الله الأمير ! زعموا أنه ذكر عند هشام بن عبد الله غدر النساء وسرعة تزويجهن.فقال هشام: إنه ليبلغني من ذلك العجب. فقال بعض جلسائه: أنا أحدثك عما بلغني من ذلك. بلغني ان رجلاً من بني يشكر يقال له غسان بن مهضم من العذافر، كانت تحته ابنة عم له يقال لها أم عقبة بنت عمرو بن الأجبر، وكان لها محباً، وكانت هي له كذلك، فلما حضره الموت، وظن أنه مفارق الدنيا، قال ثلاثة أبيات.ثم قال لها: يا أم عقبة ! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، قال ثلاثة أبياتٍ.ثم قال لها: يا أم عقبة ! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، فقد تاقت نفسي إلى مسألتك عن نفسك، بعدما يواريني التراب. فقالت: قل، فوالله لا أجيبك بكذبٍ ولأجعلنه آخرخطاب مني. فقال، وهو يبكي بكاءً منعه الكلام:

أخبريني بِمَا تُرِيدِينَ بَعْدِي،

وَالذي تُضْمِرينَ يَا أُمَّ عُقْبَهْ.

تحفَظِيني مِنْ بَعدِ مَوْتي لِما قَدْ

كان مني من حسنِ خُلقٍ وَصُحِبهْ.

أمْ تُرِيدينَ ذَا جَمَالٍ وَمَالٍ،

وَأنا في الترَابِ في سُحقِ غُرْبَهْ.

فأجابته ببكاء وانتحاب:

قَد سَمِعنا الّذِي تقُولُ وَمَا قد

خِفتَهُ يا خَليلُ من أُمّ عُقبَهْ.

أنا مِنْ أحْفَظِ الأنَامِ وَأرْعَا

هم لِما قد أوليتُ مِن حُسنِ صُحبهْ.

سَوْفَ أبكيكَ ما حَيِيتُ بِشَجوٍ

وَمَرَاثٍ أقُولُهَا وَبِنَدْبَهْ.

قال: فلما قالت ذلك طابت نفسه، وفي النفس ما فيها، فقال:

أنَا وَالله وَاثِقٌ مِنْكِ لَكِنْ

رُبّمَا خِفْتُ مِنكِ غَدْرَ النّساءِ.

بَعْد مَوْتِ الأزْوَاجِ يا خيرَ مَنْ عُو

شِرَ فَارْعَيْ حَقّي بحُسنِ الوَفاءِ.

إنّي قَد رَجَوْتُ أنْ تَحفَظي العَه

دَ، فكُوني إنْ متُّ عندَ الرّجَاءِ.

قال: ثم اعتقل لسانه، فلم ينطق حتى مات.فلم تلبث بعده حتى خطيت من كل جانب، ورغبت فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والعفاف، فقالت مجيبة لهم:

سَأحفَظُ غَسّاناً عَلى بُعدِ دَارِهِ

وَأرْعاهُ حتى نلتقي يوْمَ نُحشَرُ.

وَإني لفي شُغلٍ عنِ النّاسِ كلّهم

فكفّوا ! فما مثلي بمَن ماتَ يَغدُرُ.

سأبكي عَلَيهِ مَا حَيِيتُ بِعَبرَةٍ

تَجُولُ على الخدّينِ مني وَتَحدُرُ.

فأيس الناس منها حيناً، فلما مرت بها لأيام نسيت عهده وقال: من مات فقد فات، فأجابت بعض خطابها، فتزوجها، فلما كانت الليلة التي أراد الدخول بها جاءها غسان في النوم، وقد أغفت، فقال:

غدَرْتِ، وَلم تَرْعَيْ لبَعلِكِ حُرْمَةً،

وَلمْ تَعرِفي حَقّاً، وَلم تَحفَظي عَهدَا.

وَلمْ تَصْبِري حَوْلاً حِفَاظاً لصَاحِبٍ،

حَلَفتِ لَهُ يَوْماً وَلمْ تُنجِزِي وَعدَا.

غَدَرْتِ بهِ لمّا ثَوَى في ضَرِيحِهِ،

كذلكَ يُنسَى كلُّ مَن سكَنَ اللَّحدَا.

قال: فلما سمعت هذه الأبيات انتبهت مرتاعة مستحيةً منه كأنه بات معها في جانب البيت، وأنكر ذلك منها من حضرها من نسائها، فقلن: ما لك، وما حالك، وما دهاك ؟ فقالت: ما ترك غسان لي في الحياة أرباً، ولا بعده في سرور رغبةً.أتاني في منامي الساعة، فأنشدني هذه الأبيات، ثم أنشدتها وهي تبكي بدمعٍ غزير وانتحاب شديد، فلما سمعن ذلك منها أخذن بها في حديث آخر لتنسى ما هي فيه، فغافلتهن وقامت، فلم يدركنها حتى ذبحت نفسها حياءً مما كادت أن تركب بعده من الغدر به والنسيان لعهده.فقالت امرأة منهن: قد بلغنا أن امرأة أتاها زوجها في المنام فلامها في مثل هذا، فقتلت نفسها.فما سمعنا به. قال: وكانت المرأة القائلة هذا الكلام صاحبة شعر ورجز فقالت:

مَاذَا صَنَعْتِ وَمَاذَا

لَقِيتِ مِنْ غَسّانِ.

قَتَلْتِ نَفسَكِ حُزْناً

يَا خِيرَةَ النِّسْوَانِ.

وَفَيتِ مِنْ بَعدِ مَا قَد

هَمَمْتِ بِالعِصْيَانِ.

إنّ الوَفَاءَ مِنَ الل

هِ، لَمْ يَزَلْ بِمَكَانِ.

قال: فلما بلغ زوجها، وكان يقال له المقدام بن حبيش، وكان قد أعجب بها، أنها قالت: ما كان لي مستمتع بعد غسان، قال: هكذا فلتكن النساء في الوفاء، وقل من تحفظ ميتاً، إنما هي أيام قلائل حتى ينسى وعنه يسلى. فقال هشام: صدق وبر، لجاد ما أدركه عقله وحسن عزائه حين فاتته طلبته.أحسنت المرأة ووقفت، وأحسن الرجل فصبر.

نظرة بتبسم

أنشدنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال، رحمه الله، قال:أنشدنا أبو بكر أحمد بن محمد الخوارزمي لبعضهم:

وَقالوا لها: هذا حَبيبُكِ مُعرِضاً،

فقالتْ: ألا إعرَاضُهُ أيسَرُ الخَطبِ.

فَمَا هيَ إلاّ نَظْرَةٌ بِتَبَسُّمٍ،

فتَصْطكُّ رِجلاهُ وَيَسقطُ للجنبِ.

قميص الكتمان

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف الواعظ بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد الصوفي، حدثنا أحمد بن محمد الطوسي، حدثني القاسم بن يزيد، حدثني محمد بن سلام، حدثني خلاد بن يزيد الأرقط قال:كان عويمر العقيلي مشغوفاً بابنة عم له، وكان يقال لها ريا، فزوجت برجلٍ، فحملها إلى بلاده، فاشتد وجده، واعتل علة أخذه الهلاس بها، فدعوا له طبيباً لينظر إليه، فقال له: أخبرني بالذي تجد، فرفع عقيرته فقال:

كذَبتُ على نَفسِي فحَدّثتُ أنّني

سَلَوْتُ لكيما يَنظرُوا حينَ أصْدُقُ.

وَما عن قِلىً مني وَلا عَنْ مَلالَةٍ،

وَلَكِنّني أُبْقي عَلَيْكِ وَأُشْفِقُ.

وَمَا الهَجْرُ إلاّ جُنّةٌ لي لَبِسْتُهَا،

لتَدفَعَ عني ما يُخافُ وَيُفرَقُ.

عُطَفتُ على أسرَارِكُمْ، فكَسَوْتُها

قَمِيصاً مِنَ الكِتمَانِ لا يَتَخرّقُ.

وَلي عَبْرَتَانِ ما تُفِيقَانِ: عَبرَةٌ

تَفِيضُ، وَأُخرَى للصّبَابَةِ تخنقُ.

وَيَوْمَانِ: يَوْمٌ فيهِ جِسْمٌ مُعَذَّبٌ

عَلِيلٌ، وَيَوْمٌ للتّفَرّقِ مُطْرِقُ.

وَأكثرُ حَظّي مِنْكِ أني إذا سَرَتْ

ليَ الرّيحُ مِنْ تِلْقَائِكُم أتَنَشّقُ.

ثم ذهب عقله، فقال المتطبب لأهله ومن حضره: ارفقوا به، ثم انصرف.فما مكث إلا ليالي يسيرةً حتى قضى.

طرف قتول

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أخبرنا ابن روح، حدثنا المعافى بن زكريا،حدثنا الكوكبي، حدثني إسحاق بن محمد، أخبرني أبو عثمان المازني قال:قال أبو حيان الدارمي في أبي تمام الروبج من بني هاشم، وكان يهواه:

سَبَاكَ مِنْ هَاشِمٍ سَلِيلُ

لَيْسَ إلى عَطفِهِ سَبِيلُ.

ما اختال في صَحن قصرِ أوْسٍ

إلاّ تَسَجّى لَهُ قَتِيلُ.

وَلا حَظَتْهُ العُيُونُ حَتى

رَنَتْ لَهُ الكَاعِبُ البَتُولُ.

فإن يَقِفْ، فَالعُيونُ نُصْبٌ،

وَإنْ تَصَدّى، فهنّ حُولُ.

يَمْسَحُهُ عَنْ أدِيمِ خَدٍ

مُوَرَّدٍ، صَحنُهُ أسِيلُ.

للحَتفِ في عَيْنِهِ قِسِيٌّ

أيْدِي المَنَايَا بهَا تَصُولُ.

ينزِعُ فيهَا بِغَير نَبْلٍ،

طَرْفٌ لعُشّاقِهِ قَتُولُ.

قال أبو عثمان: فحدثني من أتى بخبره أن المأمون أنشد هذا الشعر، فقال: ما سمعت أرق من هذا المعنى:

فإنْ يَقِفْ، فالعُيُونُ نُصْبٌ،

وَإنْ تَصَدّى، فهُنّ حُولُ.

شعر ليحيى بن طالب

أخبرنا محمد بن أبي نصر الحفظ، حدثني الفقه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسيحدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، حدثنا أبو علي القالي قال: قال أبو بكر الأنباري:غني هارون الرشيد بشعر يحيى بن طالب:

أيا أثلاثِ القَاعِ من بَطْنِ تُوضَحٍ،

حَنِيني إلى أطْلالِكُنّ طَوِيلُ.

وَيَا أثلاثِ القَاعِ قَدْ مَلّ صُحْبَتِي

مَسِيرِي، فَهَلْ في ظِلّكُنّ مَقِيلُ.

وَيَا أثلاثِ القَاعِ قَلْبي مُوَكَّلٌ

بكنّ، وَجَدْوَى خَيْرِكُنّ قَلِيلُ.

ألا هَلْ إلى شَمّ الخُزَامَى وَنَظْرَةٍ

إلى قَرْقَرَى قَبْلَ المَمَاتِ سَبِيلُ.

فأشرَبَ مِنْ مَاءِ الحُجَيلاءِ شَرْبَةً

يُدَاوَى بهَا قَبْلَ المَمَاتِ عَلِيلُ.

أحدِّثُ عنكِ النفسَ أن لَستُ رَاجِعاً

إليكِ، فَحُزْني في الفُؤادِ دَخِيلُ.

أُرِيدُ هُبُوطاً نَحْوَكُمْ فَيَرُدّني،

إذا رُمْتُهُ، دَيْنٌ عَليّ ثَقِيلُ.

فقال هارون الرشيد: يقضى دينه، فطلب فإذا هو قد مات قبل ذلك بشهرٍ.

غصة الحديث

وبإسناده حدثنا القالي، أخبرنا أبو بكر بن دريدأنشدنا عبد الرحمن عن عمه لرجل من بني كلاب:

وَلمّا قَضَيْنَا غُصّةً مِنْ حَدِيثِنَا،

وَقد فَاضَ من بعد الحديثِ المَدامعُ.

جَرَى بَينَنا منّا رَسِيسٌ يَزِيدُنَا

سَقَاماً، إذا مَا استَوْعَبَتهُ المَسامعُ.

كأنْ لم تُجاوِرْنا أُمَامُ، وَلمْ يُقَمْ،

بِعيصِ الحِمَى إذْ أنتَ بالعَيش قانعُ.

فَهَلْ مِثْلُ أيّامٍ تَقَضّينَ بِالحِمَى

عَوَائِدُ، أوْ غَيْثُ السّتَارَينِ وَاقعُ.

وَإنّ نَسِيمَ الرّيحِ من مَدْرَجِ الصَّبَا،

لأوْرَابِ قَلْبٍ شَفّهُ الحُبُّ نافعُ.

قال أبو علي القالي: الرس الشيء من الحبر والرسيس مثله.

أفق من الحب

وبإسناده قال: وأنبأنا القالي، أخبرنا ابن دريدحدثنا أبو حاتم للعوام بن عقبة بن كعب:

أإنْ سَجَعتْ في بَطنِ وَادٍ حَمَامَةٌ

تُجاوِبُ أُخرَى مَاءُ عَيْنَيكَ دافقُ.

كأنّكَ لمْ تَسْمَعْ بُكَاءَ حَمَامَةٍ

بليلٍ، وَلمْ يُحزِنكَ إلفٌ مُفَارِقُ.

وَلمْ تَرَ مَفْجُوعاً بِشَيءٍ يُحِبّه

سِوَاكَ، وَلمْ يَعشَقْ كَعِشقِك عاشقُ.

بَلى فأفِقْ عَنْ ذِكْرِ لَيْلى، فإنّمَا

أخو الصّبرِ مَنْ كفّ الهَوَى وَهوَ تائقُ.

نصيب وأم بكر

أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار، وحدثني إبراهيم بن عبد الله السعدي عن جدته جمال بنت عون بن مسلم عن جدها السعدي قال:رأيت رجلاً أسود معه امرأة بيضاء، فوقفت أتعجب من شدة سواده مع شدة بياضها، فقلت له: من أنت ؟ فقال: أن الذي أقول:

ألا لَيْتَ شِعرِي ما الذي تُحدِثنّ لي

غداً غُرْبَةُ النأيِ المُفَرِّقِ وَالبُعدِ.

لَدَى أُمّ بَكْرٍ حِينَ تَنتَشِبُ النّوَى

بنا، ثمّ يَخلُو الكاشِحُونَ بها بَعدي.

أتَصْرِمُني عِنْدَ الأُلى فِيهِمِ العِدى،

فَتشمتَهمْ بي أمْ تُقِيمُ عَلى العَهدِ.

ابن أبي عتيق ونصيب وسعدى

أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الحنبلي، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا الجرمي بن أبي العلاء، واسمه أحمد، حدثنا الزبير بن بكار، وحدثني أبو عثمان أحمد بن محمد الأسدي عن محمد بن عبد الله عن مؤرخ قال:أراد ابن أبي عتيقٍ الحج، فلقي نصيباً، فقال: هل توصي إلى سعدى بشيء ؟ قال: نعم ببيتين.قال: ما هما ؟ قال:

أتَصْبِرُ عَنْ سُعدَى، وَأنتَ صَبُورُ،

وَأنتَ بحُسنِ الصّبرِ مِنكَ جَدِيرُ.

وَكِدتُ وَلم أُخلَقْ من الطيرِ إنْ بَدا

سَنَا بَارِقٍ نَحْوَ الحِجَازِ أطِيرُ.

قال: فخرج ابن أبي عتيق، فوجد سعدى في مجلس لها، فقال لها:يا سعدى ! معي إليك رسالة.قالت: وما هي ؟ هاتها يا ابن الصديق، فأنشدها البيتين، فتنفست تنفساً شديداً، فقال ابن أبي عتيق: أوه أجبته، والله، بأحسن من بيتيه، وعتق ما ملك أن لو سمعها لنعق وطار.

عاشق يقتله الصد

حدثني محمد بع عبد الله الأندلسي، وكتبه لي بخطه، حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد الحافظ الأندلسي، حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب الأديب قال:كنت أختلف في النحو إلى محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي قضاة الأندلس أسلم ابن عبد العزيز صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان أجمل من رأته العيون، وكان معنا عند محمد بن خطاب أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب والشعر، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره وصرف فيه القول متستراً بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل. فلعهدي بعرس في بعض الشوارع بقرطبة، والكوري الزامر قاعد في وسط المحفل، وفي رأسه قلنسوة وشرٍ، وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه، وكان يزمر لأمير المؤمنين الناصر، وهو يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم، وهو:

أسْلَمَني في الهَوَى

أسْلَمُ هَذَا الرَّشَا.

غَزَالٌ لَهُ مُقْلَةٌ

يُصيبُ بهَا مَنْ يَشَا.

وَشَى بَيْنَنَا حَاسِدٌ،

سَيُسْألُ عَمّا وَشَى.

وَلَوْ شَاءَ أن يَرْتَشِي

على الوصْل رُوحي ارتشى.

ومغن محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته، والجلوس على بابه. وكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب أسلم سائراً ومقبلاً نهاره كله، فامتنع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب، واختلط الظلام خرج مستروحاً، وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة صوف من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه، وقبل يديه وقال: يا مولا ! تأمر من يقبض هذا ؟ فقال له أسلم: ومن أمن ؟ فقال: أجيرك في الضيعة الفلانية، وقد كان يعرف أسماء ضياعه والعاملين فيها، فأمر أسلك غلمانه ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في الضياع عند ورودهم ثم جعل يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي ! وإلى هنا بلغت بنفسك، وإلى ها هنا تتبعني ؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملةً وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت عني جميع ما لي فيه راحة، فقد صرت من سجنك في حيرة، والله، لا فارقت هذه الليلة قعر منزلي، ولا جلست بعدها على بابي لا ليلاً ولا نهاراً.ثم قال، فانصرف أحمد بن كليب حزيناً كئيباً. قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنان فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كل ليلة قبلة يده، وأخسر أضعاف ذلك. قال: فلما يئس من رؤيته البتة نهكته العلة، وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فأخبرني شيخنا أبو عبد الله محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى ؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في البتة.فقلت له: وما دواؤك ؟ قال نظرة من أسلم، ولو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر. قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، فنهضت إلى أسلم، فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما أحب، فقلت له: لي حاجة.قال: وما هلي ؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم ! ولكن تعلم أنه برح بي وشهر اسمي وآذاني.فقلت: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هو فيها، فتفضل بعيادته.فقال لي: والله ما أقدر على ذلك فلا تكلفني هذا.فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض. قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن ! فقال لي: لست والله أفعل، ولكن غداً، فقلت له: ولا خلف ؟ قال: نعم. قال: فانصرف إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبيه، بذلك وارتاحت نفسه. قال: فلما كان من الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد.فوجم، وقال: والله لقد تحملني على خطةٍ صعبةٍ علي، وما أدري كيف أطيق ذلك.قال: فقلت له: لا بد أن تفي بوعدك لي. قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الزقاق وقف واحمر وخجل، وقال لي: يا سيدي، الساعة والله أموت وما أقدر أن أنقل قدمي، ولا أستطيع أن أعرض هذا على نفسي.فقلت له: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل وتنصرف ؟ فقال: لا سبيل، والله، إلى ذلك البتة. ورجع هارباً، فاتبعه فأخذت بردائه، فتمادى وخرق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لشدة إمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت على أحمد بن كليب. وقد كان غلامه دخل عليه، إذ رآنا من أول الزقاق، مبشراً، فلما رآني دونه تغير وجهه وقال: وأين أبو الحسن ؟ فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته، واختلط، وجعل يقول ويتكلم بكلامٍ لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستبشعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه وجهه، وقال: أبا عبد الله ! قلت: نعم ! قال: اسمع مني، واحفظ عني.ثم أنشأ يقول:

أسْلمُ يَا رَاحَةَ العَلِيلِ،

رِفقاً على الهَائمِ النّحِيلِ.

قال: فقلت: اتق الله، ما هذه الكبيرة ؟ فقال لي: قد كان.فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الزقاق حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا. قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورة عندنا.ومحمد بن الحسن ثقة، ومحمد بن خطاب ثقة، وأسلم هذا من بني خلف وكانت فيهم وزارة وحجابة، وهو حاجب الديوان المشهور في غناء زرياب، وكان شاعراً، وابنه الآن في الحياة يكنى أبا الجعد. قال أبو محمد: ولقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها، وقال: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد الكطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب المذكرو زائراً له قد تحين غفلة الناس في مثل ذلك النهار.

شعر ملحون

قال شيخنا: قال لنا أبو محمد، وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي قال:كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شعراً يتغزل فيه بأسلم، فعرفه ابن خطاب على أسلم فقال: هذا ملحون، وكان ابن كليب قد أسقط التنوين من لفظه في بيت من الشعر، فكتب ابن خطاب إلى ابن كليب بذلك، فكتب إليه ابن كليب مسرعاً:

ألحِقْ ليَ التّنوِينَ في مَطمعٍَ،

فإنّني أُنْسِيتُ إلْحَاقَه.

لا سِيّما إذ كان في وَصْلِ مَنْ

كَدَّرَ لي في الحُبّ أخْلاقَه.

قبر عاشق

أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال:أنشدنا أبو عمر محمد بن العباس عمن أنشده في أثر حكاية ذهبت علي وحفظت الشعر:

مرَرْتُ بقبرٍ مُشرِقٍ وَسْطَ رَوْضَةٍ

عَلَيهِ منَ النُّوَارِ ثَوْبُ شَقَائِقِ.

فَقُلتُ: لَمنْ هذا ؟ فجَاوَبَني الثّرَى:

تَرَحّمْ عَلَيْهِ إنّهُ قَبْرُ عَاشِقِ.

وفاة عزيز لا حياة ذليل

أخبرني أبو الخطاب أحمد بن المغيرة الأندلسي بدمشق لأبي العلاء أحمد بن سليمان وذكر لي أنه قرأ عليه ديوان الصبابة وقرأته جميعه بدمشق. ولي من أثناء قصيدة له أولها:

أسالتْ أتيَّ الدّمعِ فَوْقَ أسِيلِ،

وَمالَتْ لظِلٍّ بِالعِرَاقِ ظَلِيلِ.

ومنها:

أسَرْتِ أخَانَا بِالخِدَاعِ، وَإنّهُ

يُعَدّ، إذا اشتَدّ الوَغَى، بقَبيلِ.

فإنْ تُطلِقيهِ تَرْتجي شُكرَ قَوْمِه،

وَإنْ تَقْتُلِيهِ تُؤخَذي بقَتِيلِ.

وَإنْ عاشَ لاقَى ذِلّةً، وَاخِتيَارُهُ

وَفَاةُ عَزِيزٍ، لا حَيَاةُ ذَليل.ِ

أجمل الناس وأقبحهم

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين الوكيل، حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله القطيعي، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن قال:خرج رجل من بين أسد في نشدان إبل له أضلاه، حتى إذا كان ببعض بلاد قضاعة، أمسى في عشية باردة، وقد رفعت له بيوت، فتفرس أيها أرجى أن يكون أمثل قرىً، قال: فرأيت مظلة روحاء فأممتها، فإذا بامرأة من أكمل النساء حسناً، وآصلهن عقلاً، فسلمت فردت ورحبت ثم قالت: ادخل من القر، وادن من الصلاة ! فدخلت فلم ألبث أن أتيت بعشاء كثير، فأكلت وهي تحدثني، حتى إذا راحت الإبل إذا هنيء قد أقبل إليها كأنه بعرة دمامةً وضؤولة شخص، وذد كان في حجرها ابن لها كأطيب الولدان وأحسنهم، فلما رأى ذلك الإنسان مقبلاً هش إليه، وعدا في لقائه، فأخذ الصبي، فاحتمله ثم أقبل به يلثم فاه مرةً وعينه أخرى، ويفديه.فقلت في نفسي: أظنه عبداً لهم، حتى جاء فجلس إلى جانبها، وقال: من ضيفكم هذا ؟ فأخبرته، فعرفت أنه زوجها وأن الصبي ولده منها، فطفقت أنظر إليه تارةً وإليها أخرى وأتعجب لاختلافهما، كأنها الشمس حسناً، وكأنه قرد قبحاً، ففطن لنظري إليها وإليه، فقال: يا أخا بين أسد ! ترى عجباً ؟ قلت: أجل، وأبيك، إني لأرى عجباً معجباً. قال: صدقت ! تقول: أحسن الناس وآدم الناس.قلت: نعم، فليت شعري كيف أودم بينكما ! قال: أخبرك كيف كان ذلك. كنت سابع سبعة بينكما ! قال: أخبرك كيف كان ذلك. كنت سابع سبعة أخوة كلهم لو رأيتني معهم ظننتني عبداً لهم، وكان أبي وأخوتي يطرحونني، وكنت لكل عمل دنيء: للرواية مرة، ولرعاية الغنم أخرى، وكانت أخوتي هم أصحاب الإبل والخيل.فبينا أنا أرعى الإبل في عام جدب أشهب إذ ضل بعير منها، فقالوا لأبي: ابعث فلاناً يبغيه ! فدعاني فقال: اذهب فاطلب هذا البعير ! فقلت: ما تنصفني أنت ولا بنوك.أما إذا الإبل درت ألبانها وطاب ركوبها، فهم أصحابها، وأما إذا ندت ضلالها، فأنا باغيها.فقال: يا لكع اذهب ! أما والله إني لأظنه آخر أيامك من ضرب وجيع. قال: وظننت أني مضروب، فعدت مضطهداً مجقوراً خلق الثياب جائعاً مقروراً، فطفت ليلة في بسابس ليس بها غريب، فبت، ثم أصبحت فغدوت حافياً، حتى دفعت مساء الليلة إلى مظلة، فإذا عجوز وسيمة خليقة للخير والسؤدد، في عشية بادرة ذات صر، ومعها هذه عدسة نفسها، وهي ابنتها، فأدخلتني العجوز، وأتتني بتمر وعلقتني هذه سخرياً، وهزؤوا بي، وقالت: ما رأينا كالعشية قد فتىً أجمل منك، ولا أجكم خلقاً.فقلت: يا هذه جنبيني نفسك، فإني عن الباطل وأهله في شغل. قالت: ويحك ! هل لك أن تدخل هذا الستر علي، إذا نام الحي، فنتحدث وتمثلنا من أماثيلك هذه ؟ فإنا نراها ملاحاً.فغرني إبليس، لما شبعت من القرى، ودفئت من الصلى، وجاء أبوها وأخوتها مثل السباع، واضطجعوا أمام الخيمة، وأنا فيها، فلم يزل بي القدر المحتوم حتى نهضت لألج عليها الستر، فإذا هي نائمة، فهمزتها برجلي، فانتهت وقالت: من هذا ؟ قلت: الضيف.قالت: إياك، فلا حيام الله. قال الأسدي: وهي والله تصدف حياءً من حديث زوجها صدوف المهرة العربية سمعت صلاصل لجامها.ثم قالت: لا حسن خبرك، اخرج لعنك الله !. قال: فسقط في يدي، وعرفت أني لست في شيء، فخرجت لأهرب فزعاً مذعوراً فهاجني كليب لهم، مثل الفارس لا يطاف مرتبضه، وأرادأكلي، فأرهبته عني، ثم قالت: اذهب لا صحبك الله.فلما رجعت عاد الكلب إلي فرهقني، فجعلت أمشي القهقرى، وأرهبه لعصية معي، وهو يركبني بأجرامه، حتى شد علي شدة، فتعلقت أظفاره وأنيابه في مقدم مدرعة صوف علي، وأهويت من قبل عقبي في بئر، وهوى معي، فإذا وهو في قرارها، وقد الله تعالى، وقدر الله تعالى أنه لم يكن فيها ماء، فسمعت المرأة الوجبة، فأقبلت ومعها حبل حتى أشرفت علي، ثم أدلت الحبل فقالت: ارتق، لعنك الله ! فلولا أن يقص أثري معك، غدوةً، لوددت أنها قبرك. قال: فتعلقت بالحبل وارتقيت حتى إذا كدت أن أتناول يدها تهور بها ما تحت قدميها من البئر، وبئر، إنما هي بئر حفر لا طي لها، فإذا أنا وهي والكلب في قرارها، ينبح في ناحية، وهي تبكي في ناحية، وتدعو بالبثور والفضيحة، وأنا منقبض في ناحية فقر برد جلدي على القتل، حتى إذا أصبحت أمها تفقدتها عند الصلاة فأتت أباها، فقالت: أتعلم أن ابنتك ليست ههنا ؟ فقام، وكان قائفاً عالماً بالآثار، فتحدى أثري وأثرها، حتى تطلع في البئر، فإذا نحن فيها، فرجع سريعاً، فقال لبنيه: أختكم وكلبكم وضيفكم في البئر. قال: فتواثبوا فمن آخذ حجراً، ومن آخذ سيفاً، ومن آخذ عصا، وهم يريدون أن يجعلوا البئر قبري وقبرها.فقال أبوها: مه ! فإن ابنتي ليست بحيث تظنون.قال: فنزل أحدهم، فأخرجها وأخرج الكلب ثم أخرجوني، فقال أبوهم: إنكم إن قتلتم هذا الرجل طلبتم، وإن خليتموه افتضحتم، وقد رأيت أن أزوجه إياها، فلعمري ! إنه ما يطعن في نسبه، وإنه لكفؤ، ثم علي، فقال: هل فيك خير ؟فلما وجدت ريح الحياة، كأنما كان على قلبي غطاء فانكشف، قلت: وأين الخير إلا عندي ؟ حكمك ! قال: خمسين بكرةً وعبداً وأمةً قلت: لك ما سألت، وإن شئت فازدد.قال: قد ملكتها، فانصرفت حتى آتي أبي، فلما رآني قال: لا مرحباً، ولا أهلاً، فأين البعير ؟قلت: أربع عليك أيها الرجل تسمع الخبر، فإنما أنت محدث: كان من الأمر كيت وكيت، قال: ورويت بك زناد أبيك، إذاً والله لا تسلم ولا تخذل، علي بالإبل. فلما جاءت قال: اعتد حاجتك، فاعتددت منهن خمسين بكرةً كأنهن العذارى، ودفع إلي عبداً وأمة مولدين، ثم ساق معي الإبل حتى أتيناهم، فدفعنا إليهم حقهم، واحتملنا صاحبتنا، وها هي هذه، جهدها أن تقول كذبت، فاعجب لذلك فعل ذهرٍ، أي أكثر العجب.

لا يقبل الرشة

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في ما أذن لنا في روايته: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعت منصور بن عبد الله يقول:دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه فقالوا: كيف تجدك يا أبا بكر ؟ فأنشأ يقول:

إنّ سُلْطَانَ حُبّهِ

قال: لا أقبَلُ الرُّشَا.

فَسَلُوهُ، فَدَيتُهُ

لِمْ بِقَتْلي تَحَرّشَا.

^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي