مصارع العشاق/معاوية والفتى العذري

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

معاوية والفتى العذري

أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: قرئ على محمد بن المرزبان، وهو يسمع وأنا أسمع، حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبو محنف عن هشام بن عروة قال:أذن معاوية بن أبي سفيان للناس يوماً، فكان في من دخل عليه فتىً من بني عذرة، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين، ثم أنشأ يقول:

مُعاوِيَ ! يا ذا الحِلمِ والفضْلِ والعقلِ،

وذا البرِّ والإحسانِ وَالجُودِ وَالبَذلِ

أتَيتُكَ لمَّا ضاقَ في الأرْضِ مَسكني،

وَأُنكِرْتُ مِمّا قد أصيبَ به عَقلي

فَفَرِّجْ، كلاكَ اللهُ عَني، فإنّني

لَقيتُ الذي لم يَلْقَهُ أحَدٌ قَبلي

وَخُذْلي، هَداكَ اللهُ، حَقّي من الذي

رَمَاني بِسَهمٍ كانَ أهوَنَهُ قَتلي

وكنتُ أُرجّي عَدْلَهُ إذْ أتَيْتُهُ،

فأكثر ترْدَادي مَع الحبَسِ والكَبلِ

فَطَلّقْتُها من جُهدِ ما قد أصابَني،

فهذا أميرَ المؤمِنِينَ مِن الَعدلِ ؟

فقال له معاوية: ادن.بارك الله عليك، ما خطبك ؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين ! إنني رجل من بني عذرة تزوجت ابنة عم لي.وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها، فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم، فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها، وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك، يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب، وسند المسلوب، فهل من فرج ؟ ثم بكى.وقال في بكائه:

في القَلْبِ مِنّي نَارُ،

والنّارُ فِيهَا شَنَارُ

وفي فُؤادِيَ جَمْرٌ،

وَالجَمْرُ فِيهِ شَرَارُ

وَالجِسْمُ مِنّي نَحيلٌ،

وَاللّونُ فيهِ اصْفِرارُ

وَالعَينْ تَبْكي بِشَجْوٍ

فَدَمْعُهَا مِدرَارُ

وَالحبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ

فِيهِ الطّبيبُ يَحَارُ

حَمَلْتُ مِنْهُ عَظيماً

فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبارُ

فَلَيسَ لَيْليَ لَيْلاً،

وَلا نَهَاري نَهَارُ

فرق له معاوية، وكتب له إلى ابن أم الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره:

رَكِبْتَ أمراً عظيماً لَسْتُ أعْرِفُهُ

أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ جَوْرِ امرِئٍ زَانِ

قَد كُنتَ تُشبِهُ صُوفياً لَهُ كُتُبٌ

مِنَ الفَرَائِضِ أوْ آيَاتُ فُرقانِ

حَتى أتَاني الفَتى العُذرِيُّ مُنْتَحِباً،

يَشكُو إليّ بحَقٍّ غَيرِ بُهْتَانِ

أُعْطِي الإلَهَ عُهُوداً لا أخيسُ بهَا

أوْ لا فأبْرَأُ من دينٍ وَإيمانِ

إنْ أنْتَ رَاجَعْتَنِي في مَا كَتَبْتُ بهِ

لأجْعلنّكَ لحماً بَينَ عُقْبَانِ

طَلّقْ سُعَادَ، وَفَارِقْها بمُجتَمَعٍ،

وَأشهِد على ذاك نَصراً وَابنَ طِيبانِ

فَمَا سَمْعتُ كمَا بُلّغتُ من عَجَبِ،

وَلا فعَالُكَ حقّاً فِعْلَ إنْسَانِ

فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنةً، ثم عرضني على السيف ؛ وجعل يؤامر نفسه في طلاقها ولا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها، ثم قال: اخرجي يا سعاد، فخرجت شكلةً غنجة، ذات هيبة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي ؛ وكتب جواب كتابه:

لا تَحْنَثَنّ، أمِيرَ المؤمِنِينَ، وَفي

بِعَهْدِكَ اليَوْمَ في رِفْقٍ وَإحسَانِ

وَمَا رَكِبتُ حَرَاماً حِينَ أعْجبَنِي،

فَكيْفَ سُمّيتُ باسمِ الخائنِ الزّاني !

وَسَوْفَ تأتيكَ شَمْسٌ لا خَفَاءَ بهَا

أبْهَى البَرِيّةِ من إنْسٍ وَمن جَانِ

حَوْرَاءُ يَقصُرُ عنها الوَصْفُ إن وصِفتْ،

أقُولُ ذَلكَ في سِرٍّ وَإعلانِ

فلما ورد على معاوية الكتاب قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البرية، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاماً، وأكملهم شكلاً ودلاً، فقال: يا أعرابي ! هل من سلو عنها بأفضل الرغبة ؟ قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول:

لا تَجعَلَنِّي، والأمثالُ تُضرَبُ بي،

كَالمُسْتَغيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنّارِ

أُرْدُدْ سُعَادَ على حَرّانَ مُكْتَئِبٍ

يُمسي ويُصْبِحُ في هَمٍّ وّتّذكارِ

قَدْ شَفّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلَهُ قَلَقٌ،

وَأُشْعِرَ القَلْبُ مِنْهُ أيَّ إشْعَارِ

وَاللّهِ وَاللهِ لا أنسَى مَحَبَّتَها

حَتى أُغيَّبَ في رَمْسٍ وَأحْجارِ

كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الفُؤادُ بهَا

وَأصْبَحَ القَلْبُ عَنْها غَيرَ صَبّارِ

قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال لها: اختاري، إن شئت، أنا، وإن شئت ابن أم الحكم ؛ وإن شئت الأعرابي، فأنشأت سعاد تقول:

هَذا، وَإنْ أصْبَحَ في أطمارِ،

وكان في نَقصٍ مِنَ اليَسارِ

أعَزُّ عِنْدِي مِنْ أبي وَجَارِي،

وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدّينَارِ

أخشَى، إذا غَدَرْتُ، حَرَّ النّارِ

فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأنشأ الأعرابي يقول:

خَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ للأعرابي،

إنْ لمْ تَرقّوا وَيحَكُمْ لِمَا بي

قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وناقة ووطاء، وأمر بها، فأدخلت بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي