معجم الأدباء/أحمدبن كليب النحوي

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أحمدبن كليب النحوي

أحمدبن كليب النحوي صاحب أسلم الأندلسي، ذكر أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في المنتظم: أن أحمد بن كليب، مات سنة ست وعشرين وأربعمائة، وذكر قصته التي أذكرها فيما بعد بعينها، ولا أدري من أين له هذه الوفاة ؟ فإن الحميدي ذكره في كتابه، ولم يذكر وفاته، قال الحميدي: هو شاعر مشهور الشعر، ولا سيما شعره في أسلم، وكان قد أفرط في حبه، حتى أداه ذلك إلى الموت، وخبره في ذلك ظريف رواه عن محمد بن الحسن المذحجي. قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله، محمد ابن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن، أسلم بن أحمد، بن سعيد، بن قاضي الجماعة، وأسلم بن عبد العزيز، صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجئ معنا إلى محمد بن خطاب، أ ؛ مد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع، والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متستراً بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة، وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس، وفيه زامر يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم:

أسلمني في هوا

ه أسيلم هذا الرشا

غزال له مقلة

يصيب بها من يشا

وشى بيننا حاسد

سيسأل عما وشى

ولو شاء أن يرتشي

على العمل روحي ارتشى

فلما بلغ هذا المبلغ، انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، فكان أحمد بن كليب، لا شغل له إلا المرور على باب أسلم، سائراً ومقبلاً نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام، خرج مستروحاً، وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي، ولبس جبة من جباب أهل البادية، وأعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يديه، وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا ؟ فقال له أسلم: ومن أنت ؟ قال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، وتأمله فعرفه، فقال يا أخي: وهنا بلغت بنفسك ؟ وإلى ههنا تبعتي ؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على باب داري نهاراً ؟ حتى قطعت علي جميع مالي فيه راحة، قد صرت في سجنك، والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي، ولا قعدت ليلاً ولا نهاراً على بابي، ثم قام، وانصرف أحمد بن كليب حزيناً كئيباً. قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد ابن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال هات: كل ليلة قبلة يده، وأخسر أضعاف ذلك.قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة، نهكته العلة، وأضجعه المرض، قال: فأخبرني شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته، فوجدته بأسوإ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى ؟ فقال: دوائي معروف وأما الأطباء، فلا حيلة لهم فيه، ألبتة.فقلت له: وما دواؤك ؟ قال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك، وكان هو والله أيضاً يؤجر، قال: فرحمته، وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى اسلم، فتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة، قال: وما هي ؟ قلت له: قد علمت ما جمعك مع أحمد من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم، فقد تعلم أنه أشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك مغتفر في الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلفني هذا، فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء، فإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن، فقال لي: لست والله أفعل ذلك، ولكن غداً، فقلت له: ولا خلف ؟ فقال: نعم.قال: فانصرفت إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بوعده بعد تأبيه، فسر بذلك، وارتاحت نفسه.قال: فلما كان من الغد، بكرت إلى أسلم وقلت له، الوعد، فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة، وما أدري كيف أطيق ذلك ؟ فقلت له: لا بد من أن تفي بوعدك، فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، فلما توسط الدرب احمر وخجل، وقال لي: الساعة والله أموت، وما أستطيع أن أنقل قدمي، ولا أن أعرض لهذا نفسي.فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل، أن تنصرف ؟ قال لا سبيل والله إلى ذلك، ألبتة، قال: ورجع مسرعاً، فاتبعته وأخذت بردائه، فتمادى وتمزق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي، ومضى فلم أدركه، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل إليه، إذ رآنا من أول الدرب مبشراً، فلما رآني دونه، تغير لونه، وقال: وأين أبو الحسن ؟ فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته، واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثره من التوجع، فاستبشعت، الحال، وجعلت أرجع وقمت، فثاب إليه ذهنه، وقال لي: يا أبا عبد الله، اسمع، وأنشد:

أسلم يا راحة العليل

رفقاً على الهائم النحيل

وصلك أشهى إلى فؤادي

من رحمة الخالق الجليل

فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة ؟ فقال لي: قد كان ما كان، فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه، وقد فارق الدنيا، هذا قتيل الحب، لا دية ولا قود. قال: وهذه قصة مشهورة عندنا، والرواة ثقات، وأسلم هذا، من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعراً أديباً. قال الحميدي: وقد رأيت ابنه أبا الجعد قال: وذكرت هذه القصة لمحمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها، وقال لي: أخبرني الثقة قال: لقد رأيت أسلم هذا في يوم شديد المطر، لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائراً له، وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت، وكان أحمد بن كليب، قد أهدى إلى أسلم في أول أمره كتاب الفصيح، وكتب عليه:

هذا كتاب الفصيح

بكل لفظ مليح

وهبته لك طوعاً

كما وهبتك روحي

وقرأت في كتاب الديارات للخالدي حكاية أعجبني أمر صاحبها، وأحببت أن يكون لها موضع من كتابي هذا، وكأن المثل يذكر بالمثل، ذكرتها عقيب خبر أحمد بن كليب، فإنهما خبران متقاربان. قال: حدثني أبو الحسين، يحيى بن الحسين الكندي الحراني الشاعر، قال: حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري، قال: كان بالرها وراق يقال له سعد، وكان في دكانه مجلس كل أديب، وكان حسن الأدب والفهم، يعمل شعراً رقيقاً، وما كنا نفارق دكانه، أنا وأبو بكر المعوج، الشامي الشاعر، وغيرنا من شعراء الشام، وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصراني، من كبار تجارها ابن اسمه عيسى، من أحسن الناس وجهاً، وأحلاهم قداً، وأظرفهم طبعاً ومنطقاً، وكان يجلس إلينا، ويكتب عنا أشعارنا، وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتاب، فعشقه سعد الوراق عشقاً مبرحاً، ويعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه:

إجعل فؤادي دواة والمداد دمي

وهاك فابر عظامي موضع القلم

وصير اللوح وجهي وامحه بيد

فإن ذلك برء لي من السقم

ترى المعلم لا يدري بمن كلفي

وأنت أشهر في الصبيان من علم

ثم شاع - بعشق الغلام في الرها - خبره، فلما كبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة، وخاطب أباه وأمه في ذلك، وألح عليهما حتى أجاباه، وخرجا به إلى دير زكى بنواحي الرقة، وهو في نهاية حسنه، فابتاعا له قلاية، ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها، فأقام الغلام فيها، وضاقت على سعد الوراقالدنيا بما رحبت، وأغلق دكانه، وهجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلك، يعمل فيه الأشعار: فمما عمل فيه وهو في الدير، وكان الغلام قد عمل شماساً:

يا حمة قد علت غصناً من البان

كأن أطرافها أطراف ريحان

قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا

بأنما الشمس والشماس سيان

فقل لعيسى بعيسى كم هراق دماً

إنسان عينك من عين لإنسان

ثم إن الرهبان، أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به، ونهوه عنه، وحرموه أن أدخله، وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك. فلما رأى سعد امتناعه منه، شق عليه، وخضع للرهبان، ورفق بهم ولم يجييوه، وقالوا: في هذا علينا إثم وعار، ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير، أغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه، وانصرف إلى داره، فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير، وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار ويبكي. قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوماً أنا والمعوج، من بستان بتنا فيه، فرأيناه جالساً في ظل الدير وهو عريان، وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه، وعذلناه وعتبناه.فقال: دعاني من هذا الوسواس، أتريان ذلك الطائر على هيكل ؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك، فقلنا: نعم، فقال: أنا وحقكما يا أخوي، أناشده منذ الغداة أن يسقط، فأحمله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إلي وقال: يا صنوبري، معك ألواحك ؟ قلت: نعم.قال اكتب:

بدينك يا حمامة دير زكي

وبالإنجيل عندك والصليب

قفي وتحملي عني سلاماً

إلى قمر على غصن رطيب

عليه مسوحه وأضاء فيها

وكان البدر في حلل المغيب

وقالوا رابنا إلمام سعد

ولا والله ما أنا بالمريب

وقولي سعدك المسكين يشكو

لهيب جوىً أحر من اللهيب

فصله بنظرة لك من بعيد

إذا ما كنت تمنع من قريب

وإن أنا مت فاكتب حول قبري

محب مات من هجر الحبيب

رقيب واحد تنغيص عيشي

فكيف بمن له مائتا رقيب ؟

ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير، وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه، ومازال كذلك زماناً، ثم وجد في بعض الأيام ميتاً إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ، العباس بن كيغلغ، فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها، خرجوا إلى الدير، وقالوا: ما قتله غير الرهبان، وقال لهم ابن كيغلغ: لابد من ضرب رقبة الغلام، وإحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتصعب في ذلك، فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم. وكان الغلام بعد ذلك، إذا دخل الرها لزيارة أهله، صاح به الصبيان: يا قاتل سعد الوراق، وشدوا عليه بالحجارة يرجمونه، وزاد عليه الأمر في ذلك، حتى امتنع من دخول المدينة، ثم انتقل إلى دير سمعان، وما أدري ما كان منه. ومثل هذه الحكاية، خبر مدرك بن علي الشيباني، وكان مدرك شاعراً، أديباً فاضلاً، وكان كثيراً ما يلم بدير الروم ببغداد، ويعاشر نصاراه، وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى، يقال له: عمرو بن يوحنا، وكان من أحسن الناس وجهاً، وأملحهم صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس يجتمع فيه الأحداث لا غير، فإن حضر شيخ أو ذو لحية قال له مدرك: إنه قبيح بك أن تختلط مع الأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم، وكان عمرو ممن يحضر مجلسه، فعشقه وهام به، فجاء عمرو يوماً، فكتب مدرك رقعة فطرحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:

بمجالس العلم

التي بك تم حسن جموعها

إلا رثيت لمقلة

غرقت بفيض دموعها

بيني وبينك حرمة

الله في تضييعها

فقرأ الأبيات عمرو، ووقف عليها من كان بالمجلس، وقرءوها، فاستحيا عمرو، وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، وقال فيه قصيدته المزدوجة المشهورة، التي أولها:

من عاشق ناء هواه داني

ناطق دمع صامت اللسان

موثق قلب مطلق الجثمان

معذب بالصد والهجران

وهي طويلة: وكتب إليه لما هجره، وقطع مجلسه:

فيض الدموع وشدة الأنفاس

شهدا على ما في هواه أقاسي

لبس الملاحة وهو ألبسني الضنا

شتان بين لباسه ولباسي

يا من يريد وصالنا ويصده

ما قد يحاذر من كلام الناس

صلني فإن سبقت إليك مقالة

منهم فعصب ما يقال براسي

ثم خرج مدرك إلى الوسواس، وسل جسمه، وتغير عقله، وترك مجلسه، وانقطع عن الإخوان، ولزم الفراش. قال حسان بن محمد، بن عيسى، بن شيخ: فحضرته عائداً في جماعة من إخوانه، فقال: ألست صديقكم ؟ والقديم العشق لكم ؟ فما منكم أحد ليسعدني بالنظر إلى وجه عمرو، قال: فمضينا إلى عمرو فقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل ديناً، فإن إحياءه مروءة، قال: وما فعل ؟ قلنا قد صار إلى حال لا نحسبك تلحقه قال: فنهض معنا، فلما دخلنا عليه، سلم عليه عمرو، فأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي، فنظر إليه، ثم أغمي عليه، وأفاق، وهو يقول:

أنا في عافية إل

لا من الشوق إليكا

أيها العائد ما بي

منك لا يخفى عليكا

لا تعد جسماً وعد قل

باً رهيناً في يديكا

كيف لا يهلك مرشو

ق بسهمي مقلتيكا

ثم شهق شهقة فارق الدنيا فيها، فما برحنا حتى دفناه - رحمه الله -.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي