معجم الأدباء/إبراهيم بن العباس الصولي

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

إبراهيم بن العباس الصولي

إبراهيم بن العباس الصولي أبو إسحاق الكاتب، هو إبراهيم بن العباس بن محمد ابن صول، مولى يزيد ابن المهلب، كنيته أبو إسحاق مات في شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين بسامراً، وهو يتولى ديوان النفقات والضياع، مولده سنة ست وسبعين ومائة، وقيل سنة سبع وستين، وكان صول رجلاً تركياً، وكان هو وأخوه فيروز ملكي جرجان، وتمجسا بعد التركية، وتشبها بالفرس، فلما حضر يزيد بن المهلب بن أبي صفرة جرجان أمنهما، فأسلم صول على يده، ولم يزل معه حتى قتل يزيد يوم العقر. وكان يزيد بن المهلب لما دعا إلى نفسه لحق به صول وغيره، فصادفه قد قتل.وذكر الصولي أن صولاً جده شهد الحرب مع يزيد بن المهلب، وأن يزيد وجد مقتولاً بلا طعنة ولا ضربة، انسدت أذناه ومنخراه، وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات، فلا يعرف مثله قتيل غبار، قال: ومعه قتل صول وجماعة من أصحابه وغلمانه، وقيل بل انحاز إلى العباس بن الوليد في جماعة من غلمانه، فأعطاه العباس أماناً وبعض أولاد المهلب معه، فلما حصلا في يده غدر بهم، وقتلهم جميعاً، وكان يقاتل كل من بينه وبين يزيد من جيوش بني أمية، ويكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فاغتاظ، وجعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء، ماله وللدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه ؟ ولعله لا يفقه صلاته. وكان محمد بن صول من رجال الدولة العباسية ودعاتها، وكان يكنى أبا عمارة، وقتله عبد الله بن علي، لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكي، وكان بعض أهليهم ادعوا أنهم عرب، وأن العباس بن الأحنف الشاعر خالهم. وكان إبراهيم بن العباس وأخوه عبد الله من وجوه الكتاب، وكان عبد الله أسنهما، وأشدهما تقدماً، وكان إبراهيم آدبهما، وأحسنهما، شعراً، وكان إذا قال شعراً اختاره، وأسقط رذله، وأثبت نخبته، فمن ذلك قوله:

ولكن الجواد أبا هشام

وفي العهد مأمون المغيب

بطئ عندما استغنيت عنه

وطلاع عليك مع الخطوب

وهذا من نادر الشعر وجيده، ومن ذلك قوله لأخيه عبد الله:

ولكن عبد الله لما حوى الغنى

وصار له من بين إخوانه مال

رأى خلة منهم تسد بماله

فساهمهم حتى استوت بهم الحال

وهذا الشعر يدل على أن قبله غيره، ولولا أن يكون قبله غيره لقال ألا إن الجواد أبا هشام، وألا إن عبد الله أو يكون قصد الإيهام بمدح قد تقدم، هذه الأبيات من جملته، والله أعلم،وكان إبراهيم كاتباً، حاذقاً، بليغاً، فصيحاً، منشئاً، وإبراهيم وأخوه عبد الله من صنائع ذي الرياستين الفضل ابن سهل، اتصلا به فرفع منهما، وتنقل إبراهيم في الأعمال الجليلة، والدواوين، إلى أن مات وهو متول ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى، سنة ثلاث وأربعين ومائتين للنصف من شعبان، وكان دعبل يقول: لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء، وتعجب من قوله:

إن امرأ ضن بمعروفه

عني لمبذول له عذري

ما أنا بالراغب في خيره

إن كان لا يرغب في شكري

وكان إبراهيم صديقاً لمحمد بن عبد الملك الزيات، فولى محمد الوزارة وإبراهيم على الأهواز، فقصده ووجه إليه بأبي الجهم أحمد بن سيف وأمره بكشفه، فتحامل عليه تحاملاً شديداً، فكتب إبراهيم إلى محمد ابن عبد الملك:

وإني لأرجو بعد هذا محمداً

لأفضل ما يرجى أخ ووزير

فأقام محمد على أمره، ولج أبو الجهم في التحامل عليه، فكتب إبراهيم إلى ابن الزيات، يشكو إليه أبا الجهم ويقول: هو كافر لا يبالي ما عمل، وهو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:

تركت عبيد بني طاهر

وقد ملأوا الأرض عرضاً وطولا

وأقبلت تسعى إلى واحدي

ضراراً كأن قد قتلت الرسولا

فسوف أدين بترك الصلا

ة وأصطبح الخمر صرفاً شمولاً

فكان محمد لعصبيته على إبراهيم وقصده له يقول: ليس هذا الشعر لأبي الجهم، وإنما إبراهيم قاله ونسبه إلى أبي الجهم. وكتب إبراهيم إلى ابن الزيات يستعطفه: كتبت وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام علي بعد عدواي بك عليها، وكان أسوأ الظن وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عند أذاتها، فصرت أضر علي منها، فكف الصديق عن نصرتي خوفاً منك، وبادر إلى العدو تقرباً إليك، وكتب تحت ذلك:

أخ بيني وبين الده

ر صاحب أينا غلبا

صديقي ما استقام وإن

نبا دهر علي نبا

وثبت على الزمان به

فعاد به وقد وثبا

ولو عاد الزمان لنا

لعاد به أخاً حدبا

وكتب إليه: أما والله لو آمنت ودك لقلت، ولكني أخاف منك عتباً لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي، وما قدر فهو كائن، عن كل حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطاً حالاً أنا في مكروهها، ولكنها أشد علي من أني فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من ظلمني أخف نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيراً، وكتب تحتها:

وكنت أخيب إخاء الزما

ن فلما نبا صرت حرباً عوانا

وكنت أذم إليك الزما

ن فأصبحت فيك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبا

ت فها أنا أطلب منك الأمانا

قال: ثم وقف الواثق على تحامله عليه، فرفع يده عنه، وأمره أن يقبل منه ما رفعه، ويرد إلى الحضرة مصوناً، فلما أحس إبراهيم بذلك، بسط لسانه في ابن الزيات، وهجاه هجاء كثيراً منه:

قدرت فلم تضرر عدواً بقدرة

وسمت بها إخوانك الذل والرغما

وكنت ملياً بالتي قد يعافها

من الناس من يأبى الدنية والذما

وقال أيضاً فيه:

أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة

وقصر قليلاً عن مدى غلوائكا

فإن كنت قد أوتيت عزاً ورفعة

فإن رجائي في غد كرجائكا

وقال أيضاً فيه:

دعوتك في بلوى ألمت صروفها

فأوقدت من ضغن علي سعيرها

وإني إذا أدعوك عند ملمة

كداعية بين القبور نصيرها

ولما مات ابن الزيات قال إبراهيم:لما أتاني خبر الزيات

وأنه قد عد في الأموات

أيقنت أن موته حياتي

ولما انحرف محمد بن عبد الملك عن إبراهيم تحاماه الناس إن تلقوه، وكان الحارث بن بشتخير الزريم المغني صديقاً له مصافياً، وهجره فيمن هجره من الإخوان، فكتب إليه:

تغير لي فيمن تغير حارث

وكم من أخ قد غيرته الحوادث

أحارث إن شوركت فيك فطالما

غنينا وما بيني وبينك ثالث

ومن مستحسن شعر إبراهيم بن العباس قوله:

خل النفاق لأهله

وعليك فالتمس الطريقا

وارغب بنفسك أن ترى

إلا عدواً أو صديقاً

ومنه:

أميل مع الصديق على ابن أمي

وأقضي للصديق على الشقيق

وأفرق بين معروفي ومني

وأجمع بين مالي والحقوق

فإن ألفيتني حراً مطاعاً

فإنك واجدي عبد الصديق

وكان إبراهيم يهوى جارية لبعض المغنين بسر من رأى، يقال لها ساهر، شهر بها، وكان منزله لا يخلو منها، ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها، فغابت عنه ثلاثة أيامن ثم جاءته ومعها جاريتان لمولاها، وقالت له: قد أهديت صاحبتي إليك، عوضاً عن مغيبي عنك، فقال:

أقبلن يحففن مثل الشمس طالعة

قد حسن الله أولاها وأخراها

ما كنت فيهن إلا كنت واسطة

وكن دونك يمناها ويسراها

وجلس يوماً مع إخوانه للشرب، وبعث خلفها فأبطأت عليه، وتنغص عليه وعلى جلسائه يومه، وكان عندهم عدة من القيان، ثم وافت فسرى عنه، وطلبت نفسه، وشرب وطرب، وقال:

ألم ترنا يومنا إذ نأت

ولم تأت من بين أترابها

وقد غمرتنا دواعي السرو

ر بإشغالها وبإلهابها

ونحن فتور إلى أن بدت

وبدر الدجى تحت أثوابها

ولما نأت كيف كنا بها

ولما دنت كيف صرنا بها

فتغضبت فقالت: ما القصة كما ذكرت، وقد كنتم في قصفكم مع من حضر، وإنما تجملتم لي لما حضرت، فقال:

يا من حنيني إليه

ومن فؤادي لديه

ومن إذا غاب من بي

نهم أسفت عليه

إذا حضرت فمن بين

هم أصب إليه

من غاب غيرك منهم

فإذنه في يديه

فرضيت، فأقاموا يومهم على أحسن حال، ثم طال العهد بينهما فملها، وكانت شاعرة، وكانت تهواه أيضاً، فكتبت إليه تعاتبه:

بالله يا ناقض العهود بمن

بعدك من أهل ودنا نثق ؟

واسوأتا ما استحيت لي أبدا

إن ذكر العاشقون من عشقوا

لا غرني كاتب له أدب

ولا ظريف مهذب لبق

كنت بذاك اللسان نختلني

دهراً ولم أدر أنه ملق

فاعتذر إليها وراجعها، فلم تر منه ما تكره حتى فرق الموت بينهما. وحدث علي بن الحسين الإسكافي قال: كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع، وكان به معجباً، فاعتل علة لم تطل حتى مات، فرثاه مراثي كثيرة، وجزع عليه جزعاً شديداً، فمن مراثيه فيه:

كنت السواد لمقلتي

فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

وقال أيضاً فيه:

ومازلت مذ لد أعطيته

أدافع عنه حمام الأجل

أعوذه دائباً بالقرآ

ن وأرمي بطرفي إلى حيث حل

فأضحت يدي قصدها واحد

إلى حيث حل فلم يرتحل

ومر إبراهيم برجل يستثقله فسلم عليه فقال لبعض من معه: إنه جرمي، فقال له: ما كان عندي إلا أنه من أهل السواد، فضحك إبراهيم وقال: إنما أردت قول الشاعر:

يسائل عن أخي جرم

ثقيل والذي خلقه

وكتب إبراهيم شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه:فلان ممن يزكو شكره، ويعنيني أمره، والصنيعة عنده واجدة موضعها، وسالكة طريقها،

وأفضل ما يأتيه ذو الدين والحجى

إصابة شكر لم يضع معه أجر

ونظر إبراهيم إلى الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:

عيناك قد حكتا مبي

تك كيف كنت وكيف كانا

ولرب عين قد أرت

ك مبيت صاحبها عيانا

وقال: ورفع أحمد بن المدبر على بعض عمال إبراهيم، فحضر إبراهيم دار المتوكل فرأى هلال الشهر على وجهه، ودعا له وضحك، وقال له: إن أحمد بن المدبر رفع على عاملك كذا وكذا فاصدقني عنه، قال إبراهيم: فضاقت علي الحجة، وخفت أن أحقق قوله إن اعترفت، ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود على الغرم، فعدلت عن الحجة إلى الحيلة، فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك:

رد قولي وصدق الأقوالا

وأطاع الوشاة والعذالا

أتراه يكون شهر صدود

وعلى وجهه رأيت الهلالا ؟

فقال لا يكون ذلك، واللهلا يكون ذلك أبداً، والتفت إلى الوزير وقال له: كيف تقبل في المال قول صاحبه.وكان أحمد بن يحيى ثعلب يقول: إبراهيم ابن العباس أشعر المحدثين، وما روي شعر كاتب غيره، وكان يستجيد قوله:

لنا إبل كوم يضيق بها الفضا

ويفتر عنها أرضها وسماؤها

فمن دونها أن تستباح دماؤنا

ومن دوننا أن ننستذم دماؤها

حمىً وقرى فالموت دون مرامها

وأيسر خطب يوم حق فناؤها

ويقول: والله لو أن هذا لبعض الأوائل لاستجيد له:وقال إبراهيم في قينة كان يهواها:

وعلمتني كيف الهوى وجهلته

وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي

وأعلم مالي عندكم فيردني

هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي

ومن أحسن ما قيل في قصر الليل، قول إبراهيم بن العباس:

وليلة من الليالي الزهر

قابلت فيها بدرها ببدر

لم تك غير شفق وفجر

حتى تولت وهي بكر الدهر

وقال أبو الغيث: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتاباً، فنقطت القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه، فعجبت فقال: لا تعجب، المال فرع، والقلم أصل، ومن هذا السواد جاءت هذه الثياب، والأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع، ثم فكر قليلاً وقال:

إذا ما الفكر ولد حسن لفظ

وأسلمه الوجود إلى العيان

ووشاه فنمنمه بيان

فصيح في المقال بلا لسان

ترى حلل البيان منشرات

تجلى بينها حلل المعاني

وقال إبراهيم في الفضل بن سهل:

يقضي الأمور على بديهته

وتريه فكرته عواقبها

فيظل يصدرها ويوردها

فيعم حاضرها وغائبها

وإذا ألمت صعبة عظمت

فيها الرزيئة كان صاحبها

المستقل بها وقد رسبت

ولوت على الأيام جانبها

وعدلتها بالعدل فاعتدلت

ووسعت راغبها وراهبها

وإذا الحروب علت بعثت لها

رأيا تفل به كتائبها

رأياً إذا نبت السيوف مضى

عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها

وأقام في أخرى نوادبها

وإذا الخطوب تأثلت ورست

هدت فواضله نوائبها

وإذا جرت بضميره يده

أبدت له الدنيا مناقبها

قال: واجتمع هارون بن محمد بن عبد الملك بن الزيات وابن برد الخباز، في مجلس عبيد الله بن سليمان، فجعل هارون ينشد من شعر أبيه ومحاسنه، ويفضله ويقدمه، فقال له ابن برد الخباز: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم ابن العباس الصولي:

أسد ضار إذا هيجته

وأب بر إذا ما قدرا

يعرف الأبعد إن أثرى ولا

يعرف الأدنى إذا ما افتقرا

أو مثل قوله:

تلج السنون بيوتهم وترى لهم

عن جار بيتهم ازورار مناكب

وتراهم بسيوفهم وشفارهم

مستشرفين لراغب أو راهب

حامين أو قارين حيث لقيتهم

نهب العفاة ونزهة للراغب

فاذكره وفاخر به، وإلا فأقلل، فخجل هارون. قال: ودخل عليه أحمد بن المدبر بعد خلاصه من النكبة مهنئاً، وكان استعان به في أمر النكبة فقعد عنه، وبلغه أنه كان يسعى ويحرض عليه ابن الزيات، فقال:

وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا

نبوت، فلما عاد عدت مع الدهر

فلا يوم إقبالي عددتك طائلاً

ولا يوم إدباري عددتك من وتر

وما كنت إلا مثل أحلام نائم

كلا حالتيك من وفاء ومن غدر

وله أيضاً فيه:

لو قيل لي خذ أماناً

من أعظم الحدثان

لما أخذت أماناً

إلا من الخلان

فأنا أستحسن قوله:

حتى متى أنا في حزن وفي غصص

إذا تجدد حزن هون الماضي ؟

وقد غضبت فما باليتم غضبي

حتى رجعت بقلب ساخط راض

ومما كتب إبراهيم بن العباس إلى ابن الزيات:

من رأى في المنام مثل أخ لي

كان عوني على الزمان وخلي ؟

رفعت حاله فحاول حطي

وأبى أن يعز إلا بذلي

وكتب إليه يستعطفه:

فهبني مسيئاً مثل ما قلت ظالماً

فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل

فإن لم أكن بالعفو منك لسوء ما

جنيت به أهلاً فأنت له أهل

ومن منثور كلامه: أتاني فلان في وقت أستثقل فيه لحظة الفرحوحدث الصولي عن العباس بن محمد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس، في مجلسه في ديوان الضياع:

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

ونكت بقلمه ثم قال:

ولرب نازلة يضيق بها الفتى

ذرعاً وعند الله منها المخرج

كملت فلما استحكمت حلقاتها

فرجت وكنت أظنها لا تفرج

قال: فعجبنا من سرعة طبعه، وجودة قريحته. وحدث الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثي أبي قال: لما قرأ إبراهيم بن العباس على المتوكل رسالته إلى أهل حمص. أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه بما قوم به من أود، وعدل به من زيغ، ولم به من منتشر، استعمال ثلاث يقدم بعضهن أمام بعض، أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها:

أناة فإن لم تغن عقب بعدها

وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه

عجب المتوكل من حسن ذلك، وأومأ إلى عبيد الله أما تسمع ؟ فقال يا أمير المؤمنين: إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك، واحتبسها على أيامك، وهذا أول شعر نفذ في كتاب عن خلفاء بني العباس. وحدث عن ميمون بن هارون عن أبيه قال: قلت لإبراهيم بن العباس: إن فلاناً يحب أن يكون لك ولياً فقال لي: أنا والله أحب أن تكون الناس جميعاً إخواني، ولكني لا آخذ منهم إلا من أطيق قضاء حقه، وإلا استحالوا أعداء، وما مثلهم إلا كمثل النار، قليلها مقنع، وكثيرها محرق. وقال الحسين بن علي الباقطائي: شاورت أبا الصقر قبل وزارته في أمر لي فعرفني الصواب فيه، فقلت له: أنت أيدك الله كما قال إبراهيم بن العباس في هذا المعنى:

أتيتك شتى الرأي لابس حيرة

فسددتني حتى رأيت العواقبا

على حين ألقى الرأي دوني حجابه

فجبت الخطوب واعتسفت المذاهبا

فقال: لا تبرح والله حتى أكتب البيتين، فكتبتهما له بين يديه بخطي. وحدث أبو ذكوان قال: لما توفي المعتصم بالله، وقام ابنه الواثق خليفة بعده، كتب إليه إبراهيم بن العباس يعزيه بأبيه ويهنئه بالخلافة: إن أحق الناس بالشكر من جاء به عن الله، وأولاهم بالصبر من كان سلفه رسول الله، وأمير المؤمنين أعزه الله وآباؤه نصرهم الله أولو الكتاب الناطق عن الله بالشكر، وعترة رسوله المخصوصون بالصبر، وفي كتاب الله أعظم الشفاء وفي رسوله أحسن العزاء، وقد كان من وفاة أمير المؤمنين المعتصم بالله، ومن مشيئة الله في ولاية أمير المؤمنين الواثق بالله، ما عفا على أوله آخره، وتلافت بدأته عاقبته، فحق الله في الأولى الصبر، وفرضه في الأخرى الشكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يستنجز ثواب الله بصبره، ويستدعي زيادته بشكره، فعل إن شاء الله تعالى وحده:ومن كلامه: ووجد أعداء الله زخرف باطلهم، وتمويه كذبهم سراباً 'بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً' وكوميض برق عرض فأسرع، ولمع فأطمع، حتى انحسرت مغاربه، وتشعبت مولية مذاهبه، وأيقن راجيه وطالبه، ألا ملاذ ولا وزر، ولا مورد ولا صدر، ولا من الحرب مفر، هنالك ظهرت عواقب الحق منجية، وخواتم الباطل مردية، سنة الله فيما أزاله وأداله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا عن قضائه تحويلاً،وحدثني الصولي قال: حدثني يحيى ابن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من شعراء الشام بمعان من الشعر، فمر فيها قلة نوم العاشق وما قيل في ذلك، فأنشدوا إنشادات فيها، فقال لهم أبي: فرغ من هذا كاتب العراق، إبراهيم بن العباس، فقال:

أحسب النوم حكاكا

إذ رأى منك جفاكا

مني الصبر ومنك ال

هجر فابلغ بي مداكا

كذبت همة عين

طمعت في أن تراكا

أي ما حظ لعينٍ

أن ترى من قد رآكا ؟

ليت حظي منك أن تع

لم ما بي من هواكا

ثم قال البحتري: تصرفت هذه الأبيات في معان من الشعر أحسن في جميعها، قال فكتبتها عنه أجمعها ومما روي له الصولي.

أولى البرية طرا أن تواسيه

عند السرور، الذي واساك في الحزن

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن

وروي له، وهو في الحماسة:

لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ

نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها

أرضاً بأرض وجيراناً بجيران

قال الصولي: حدثني جرير بن أحمد بن أبي دؤاد، قال: كان إبراهيم أصدق الناس لأبي، فعتب على ابنه أبي الوليد في شيء، فقال فيه أحسن قول ذمه فمدح أباه، وما أحسن هذا من جهة جرير:

عفت مساو تبدت منك واضحة

على محاسن نقاها أبوك لكا

لئن تقدمت أبناء الكرام به

فقد تقدم آباء الكرام بكا

وروي لإبراهيم في محمد بن عبد الملك:

إن كان رزقي عليك فارم به

في ما صفا حبه على رصد

لو كنت حراً كما زعمت وقد

كررتني بالمطال لم أعد

لكنني عدت ثم عدت فإن

عدت إلى مثلها إذاً فعد

أعتقني سوء ما أتيت من ال

رق فيا بردها على كبدي

فصرت عبداً للسوء فيك وما

أحسن سوء قبلي إلى أحد

وله فيه:

وقائل لا أبداً

إن جد أو إن هزلا

فهو إذا اضطر إلى

قول نعم قال بلى

تعودوا منه لما ض

من بالاً قول لا

ومما يستحسن من شعر إبراهيم ابن العباس:

إبتداء بالتجني

وقضاء بالتظني

واشتفاء بتجني

ك لأعدائك مني

بأبي قل لي كي أع

لم لم أعرضت عني ؟

قد تمنى ذاك أعدا

ئي فقد نالوا التمني

وقال أبو زيد البلخي وذكر إبراهيم بن العباس فقال: كان من أبلغ الناس في الكتابة، حتى صار كلامه مثلاً.كتب كتاب فتح عجيباً أثنى على الله وحمده ثم قال في خلال ذلك: وقسم الله الفاسق أقساماً ثلاثة، روحاً معجلة إلى نار الله، وجثة منصوبة بفناء معقله وهامة منقولة إلى دار خلافته. وحدث الجهشياري عن وهب بن سليمان بن وهب قال: كنت أكتب لإبراهيم بن العباس على ديوان الضياع، وكان رجلاً بليغاً، ولم يكن له في الخراج تقدم، وكان بينه وبين أحمد بن المدبر تباعد، وكان أحمد مقدماً في الكتابة، فقال أحمد بن المدبر للمتوكل: قلدت إبراهيم بن العباس ديوان الضياع وهو متخلف، آية من الآيات لا يحسن قليلاً ولا كثيراً، وطعن عليه طعناً قبيحاً، فقال المتوكل: في غد أجمع بينكما، واتصل الخبر بإبراهيم فأيقن بحاول المكروه، وعلم أنه لا يفي بأحمد بن المدبر في صناعته، وغدا إلى دار السلطان آيساً من نفسه ونعمته، وحضر أحمد فقال له المتوكل: قد حضر إبراهيم وحضرت، ومن أجلكم قعدت، فهات: اذكر ما كنت فيه أمس، فقال أحمد: أي شيء أذكر عنه ؟ فإنه لا يعرف أسماء عماله في النواحي، ولا يعلم ما في دساترهم، من تقديراتهم، وكيولهم، وحمل من حمل منهم، ومن لم يحمل، ولا يعرف أسماء النواحي التي تقلدها، وقد اقتطع صاحبه بناحية كذا كذا ألفاً، واختلت ناحية كذا في العمارة، وأطال في ذكر هذه الأمور، فالتفت المتوكل إلى إبراهيم فقال: ما سكوتك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جوابي في بيتي شعر قلتهما ! فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتهما، فقال هات: فأنشده البيتين المذكورين، رد قولي وصدق الأقوالا، فقال المتوكل زه زه أحسنت، إيتوني بمن يعمل في هذا لحناً، وهاتوا ما نأكل، وجيئوا بالنساء، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس، فخلع عليه، وانصرف إلى منزله. قال الحسن فمكث يومه مغموماً، فقلت له: هذا يوم سرور وجذل بما جدد الله لك من الانتصار على خصمك، فقال يا بني: الحق أولى بمثل وأشبه، إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب في شيء مما ذكر، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما أنه لا يعشرني في البلاغة وإنما فلجت برطازةٍ ومخرقةٍ، أفلا أبكي، فضلاً عن أن أغتم من زمان يدفع ذلك كله. وقال الجهشياري: رأيت دفتراً بخط إبراهيم بن العباس الصولي فيه شعره، قال في حبس موسى بن عبد الملك، إياه يصف غليظ ما هو فيه من الحبس وثقل الحديد والقيد، ويذكر موسى في شعره، وكان يكنى بأبي الحسن، فكناه بأبي عمران، فقال في قصيدة طويلة:

كم ترى يبقى على ذابدني ؟

قد بلي من طول همي وفني

أنا في أسر وأسباب ردي

وحديد فادح يكلمني

وأبو عمران موسى حنق

حاقد يطلبني بالإحن

ليس يشفيه سوى سفك دمي

أو يراني مدرجاً في كفني

وقد كتب أحمد بن مدبر بخطه في ظهر هذا الدفتر:

أبا إسحاق إن تكن الليالي

عطفن عليك بالخطب الجسيم

فلم أر صرف هذا الدهر يجري

بمكروه على غير الكريم

ولإبراهيم بن العباس من التصانيف فيما ذكره محمد ابن إسحاق النديم، كتاب ديوان رسائله، كتاب ديوان شعره، كتاب الدولة كبير، كتاب الطبيخ كتاب العطر، ومات إبراهيم بن العباس الصولي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في شعبان وهو يتولى ديوان الضياع والنفقات بسامراً.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي