معجم الأدباء/إبراهيم بن هلال بن زهرون

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

إبراهيم بن هلال بن زهرون

إبراهيم بن هلال بن زهرون أبو إسحاق الحراني، أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل، والاشتمال على جهات الفضائل، مات يوم الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عن إحدى وسبعين سنة، ومولده في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، كذا ذكره حفيده أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم في تاريخه. وكان قد خدم الخلفاء والأمراء من بني بويه والوزراء، وتقلد أعمالاً جليلة، ومدحه الشعراء، وعرض عليه عز الدولة يختيار بن معز الدولة بن بويه الوزارة إن أسلم، فامتنع. وكان حسن العشرة للمسلمين، عفيفاً في مذهبه. وكان ينوب أولاً عن الوزير أبي محمد المهلبي، في ديوان الإنشاء، وأمور الوزارة. ولما ورد عضد الدولة إلى بغداد في سنة سبع وستين وثلاثمائة، نقم عليه أشياء من مكتوباته عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار، فحبسه، فسئل فيه وعرف بفضله، وقيل له: مثل مولانا لا ينقم على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك إذا استخدمه في أبيه، ما أمكنه المخالفة، فقال عضد الدولة: قد سوغته نفسه، فإن عمل كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته، فشرع في محبسه في كتاب التاجي في أخبار بني بويه، وقيل إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس، وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فخرج الرجل، وأنهى ذلك إلى عضد الدولة، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، ونصر بن هارون على الأرض يقبلانها، ويشفعون إليه في أمره، حتى أمر باستحيائه، وأخذ أمواله واستصفائه، وتخليد السجن بدمائه، فبقي في السجن بضع سنين، إلى أن تخلص في أيام صمصام الدولة ابن عضد الدولة. وكان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي: مودة ومكاتبات أذكر منها ما يليق باختصارنا هذا، مع اختلاف الملل، وتباين النحل، وإنما كان ينظمهم سلك الأدب، مع تبدد الدين والنسب. وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه: أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تاريخ حفيده، وهو أعلم به. فأما بلاغته، وحسن ألفاظه، فقد أغنتنا شهرتها عن صفتها، وذكرتها الشعراء فقال بعضهم:

أصبحت مشتاقاً حليف صبابة

برسائل الصابي أبي إسحاق

صوب البلاغة والحلاوة والحجى

ذوب البراعة سلوة العشاق

طوراً كما رق النسم وتارة

يحكي لنا الأطواق في الأعناق

لا يبلغ البلغاء شأو مبرز

كتبت بدائعه على الأحداق

ولآخر فيه:

يا بؤس من يمنى بدمع ساجم

يهمى على حجب الفؤاد لا واجم

لولا تعلله بكأس مدامة

ورسائل الصابي وشعر كشاجم

قال أبو منصور: وكان يصوم شهر رمضان، مساعدة وموافقة للمسلمين، وحسن عشرة منه لهم، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وبرهان ذلك في رسائله. قال: وكان أبو إسحاق في عنفوان شبابه، أحسن حالاً منه في أيام اكتهاله، وفي ذلك يقول:

عجباً لحظي إذ أراه مصالحي

عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي ؟

أمن الغواني كان حتى خانني

شيخاً، وكان على صباي مصاحبي ؟

أمع التضعضع ملني متجنباً

ومع الترعرع كان غير مجانبي ؟

يا ليت صبوته إلي تأخرت

حتى تكون ذخيرة لعواقبي

من قصيدة، في فنها فريدة، كتبها إلى الصاحب يشكو فيها بثه وحزنه، ويستمطر سحبه ودرره، بعد أن كان يخاطبه بالكلف، ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء. وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، وتوفي المهلبي، وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل، والخلافة على ديوان الوزارة، لأن المهلبي مات بعمان، وكان قد مضى لافتتاحها، واستخلف أبا إسحاق على ديوان الوزارة، فاعتقل في جملة عمال المهلبي وأصحابه، فقال، وهو معتقل:

يا أيها الرؤساء دعوة خادم

أربت رسائله على التعديد

أيجوز في حكم المروءة عندكم:

حبسي وطول تهددي ووعيدي

قلدت ديوان الرسائل، فانظروا

أعدلت في لفظي عن التسديد ؟

أعلي رفع حساب ما أنشأته

فأقيم فيه أدلتي وشهودي ؟

أنسيتم كتباً شحنت فصولها

بفصول در عندكم منضورد

ورسائلاً نفذت إلى أطرافكم

عبد الحميد بهن غير حميد

قال: وكانت الرسالة التي ينقمها عليه عضد الدولة، كتاباً أنشأه عن الخليفة، في شأن عز الدولة بختيار، وهو:'وقد جدد له أمير المؤمنين، مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها' فإن عضد الدولة أنكر هذه اللفظة أشد الإنكار، وأسرها في نفسه، إلى أن ملك لاعراق، فحبسه، كما تقدم ذكره. وقال حفيده هلال بن المحسن في أخبار الوزراء: حدثني أبو إسحاق جدي، قال: لما توفي أبو الحسين هلال أبي، جاءني أبو محمد المهلبي معزياً به، فحين عرفت خبره في تقديمه مشرعة داري الشاطية بالزاهر، بادرت لتلقيه، واستعفيته من الصعود، فامتنع من الإجابة إلى ذلك، وصعد، وجلس ساعة يخاطبني فيها بكل ما يقوي النفس، ويشرح الصدر، ويصف والدي، ويقرظه لي بقوله: ما مات من كنت له خلفاً، ولا فقد من كنت منه عوضاً، ولقد قررت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته، فقبلت يده ورجله، وأكثرت من الثناء عليه، والدعاء له، وحضرتني في الحال ثلاثة أبيات، أنشدته إياها، وهي:

لو وثقنا بأن عمرك يمت

د بأعمارنا قتلنا النفوسا

قد تركت الموت الزؤام مغيظاً

يتلظى لجرحه، كيف يوسا

فغدت عندنا المصيبة نعمى

بأياديك وهي من قبل بوسا

ثم نهض، وأقسم علينا ألا يتبعه أحد منا، وأنفذ إلي في بقية ذلك اليوم خمسة آلاف درهم، فقال: استعن بهبذا على أمرك، ولم يبق أحد من أهل الدولة إلا جاءني بعده معزياً، ثم اجتاز بي من الغد في طيارة ووقف واستدعاني، وأمرني بالنزول معه، فبعد جهد ما تركني بقية اليوم. وحدث أبو منصور، قال: حكى أبو إسحاق الصابيء، قال: طلب مني رسول سيف الدولة بن حمدان عند قدومه الحضرة شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافتعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات:

إن كنت خنتك في المودة ساعة

فذممت سيف الدولة المحمودا

وزعمت أن له شريكاً في العلا

وجحدته في فضله التوحيدا

قسماً لواني حالف بغمومها

لغريم دين ما أراد مزيدا

فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة، مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلثمائة دينار. ووجدت بخط أبي علي بن أبي إسحاق قال: لما غني ابن حمدان بهذا الشعر، سأله عن قائله، فعرفه، قال والدي رحمه الله: فأنفذ إلي في الوقت عشرة دنانير من دنانير الصلة، وزنها خمسمائة مثقال، وأضاف إلى ذلك رسماً كان ينفذه إلي في كل سنة، إلى أن مات رحمه الله. قال: وأهدى أبو إسحاق الصابيء إلى عضد الدولة، في يوم مهرجان، إصطرلاباً بقدر الدرهم، محكم الصنعة، وكتب إليه 'وفي كتاب الوزراء لحفيده: أنه أهدى الإصطرلاب إلى المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة وكتب إليه' بهذه الأبيات:

أهدي إليك بنو الحاجات واختلفوا

في مهرجان عظيم أنت مبليه

لكن عبدك إبراهيم حين رأى

علو قدرك لا شيء يساميه

لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد

أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه

ولقابوس أبيات تشبه هذه مذكورة في بابه:'ذكر القبض على أبي إسحاق الصابئ، والسبب فيه، وما جرى عليه من أمره إلى أن أطلق'. قال هلال بن المحسن: قبض عليه في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأفرج عنه يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، فكان مدة حبسه ثلاث سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوماً. قال: وكان السبب في القبض عليه، أنه كان قد خدم عضد الدولة عند كونه بفارس بالشعر والمكاتبة، والقيام بما يعرض من أموره بالحضرة، فقبله وأنفق عليه، وأرفده في أكثر نكباته بمال حمله إليه، وورد عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة، فزاد قربه منه، وخصوصه به، وتأكد حاله عنده، فلما أراد العود إلى فارس، عمل على الخروج معه، إشفاقاً من المقام بعده، ثم عليم أنه متى فعل ذلك أسلم أهله وولده، وتعجل منهم ما عسى الله أن يدفعه عنه، فاستظهر له عضد الدولة، بأن ذكره في الاتفاق الذي كتب بينه وبين عز الدولة، وعهد به إليه، واليمين التي حلفا بها، وشرط عليهما حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله، وانحدر عضد الدولة، فلم يأمن على نفسه من عز الدولة، وأبي طاهر بن بقية وزيره، واستتر، وأقام على الاستتار مدة، ثم توسط أبو محمد بن معروف أمره معهما، وأخذ له العهد عليهما، والأمان منهما، واستوثق بغاية ما يستوثق به من مثلهما، وظهر، فتركاه مديدة، ثم قبضا عليه، وذلك بإغراء ابن السراج لهما به، وتجدد منه في العداوة له أمور تجنى فيها عليه، وجرت له في هذه التكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله، وعاد إلى خدمة عز الدولة، وكتب عنه في أيام المباينة بينه وبين عضد الدولة الكتب التي تضمنت الوقيعة والاستهتار عليه، ومنها الكتاب عن الطائع لله بتقديم عز الدولة وإنزاله منزلة ركن الدولة، وهو أعظم ما نقمه عليه. فلما ورد عضد الدولة إلى بغداد في الدفعة الثانية، وحصل بواسط، استظهر بأن خرج إلى أبي سعد بهرام بن أردشير، وهو يتردد في الرسائل بما يتخوفه من تشعب رأي عضد الدولة، وسأله إجراء ذكره، وإقامة عذره، والاحتياط له بأمان تسكن إليه نفسه، وكتب على يده كتاباً، عاد جوابه بما نسخته: 'كتابنا - أيدك الله - من المعسكر بجيل يوم الجمعة لست ليال بقين من شهر ربيع الأول عن سلامة ونعمة، والحمد لله رب العالمين، ووصل كتابك - أيدك الله - وفهمنا وعرفنا ما يحمل، واستمعنا من أبي سعد بهرام بن أزدشير، - أعزه الله، - ما أورده عنك، ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك، بسابقتك في الخدمة، ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة. وذكر أبو سعد، - أعزه الله، - إلتماسك أماناً، فقد بذلناه لك على غناك عنه، وأنت آمن على نفسك، ودمك، وشعرك، وبشرك، وأهلك، وولدك، وسائر ما تحويه يدك، حال في كل حال بكنف الأثرة والخصوص والإحسان والقبول عندنا محروس في جاهك، وموقفك، وحالك، فاسكن إلى ذلك، واعتمده، ولك علينا الوفاء به عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد، - أعزه الله، - في هذا الباب ما يذكره لك، والله نستعين على النية فيك، وهو حسبنا. والتوقيع بخط عضد الدولة: اعتمد ذلك واسكن إليه، وثق به، إن شاء الله تعالى. ودخل عضد الدولة إلى بغداد، فأجراه على رسمه، ووقع بإقرار إقطاعه، وإمضاء تقريراته، فلما حصل بالموصل، كتب إلى أبي القاسم المطهر بالقبض عليه فحدثني أبو الحسن فقد بن عبد الله، وكان يكتب لأبي عمرو بن. . .عند نظره في الموصل، قال: أخرج في الموصل إلى الديوان، ما وجد في قلاع أبي تغلب من الحسابات، ليتأمل ويميز، وكان فيها الشيء الكثير من كتب عز الدولة إلى أبي تغلب بخط أبي إسحاق جدك، فكان أبو عمرو إذا رأى ما فيه ذكر عضد الدولة، لعداوة كانت بينه وبينه، فأظن ما وقف عليه، حرك ما كان في نفسه، حتى كتب من هناك بالقبض عليه. قال: وحدثني جدي قال: كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، في يوم القبض علي، إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه، وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه، وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره، ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه، فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتحليصك إلا بذلته، وقد جعلت اعتقالك في داري، ومقامك في ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي.وقبض على ولديه أبي علي المحسن، والدي، وأبي سعيد سنان، عمي، فلما تقدم عضد الدولة إلى أبي القاسم المطهر بالانحدار لقتال صاحب البطيحة، سأل عضد الدولة إطلاقه والإذن له في استخلافه، بحضرته، فقال له: أما العفو، فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك، وتقول له، إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا، - يعني: عز الدولة والديلم - ولأولاد بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي - ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك، وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا، فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة، ولنا في أمره تدبير.وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة، وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا يعمل كتاب في مفاخرنا، فحمل إليه المطهر ثياباً ونفقة وأطلق ولديه، والدي وعمي، ورسم له تأليف الكتاب في الدولة الديلمية، وانحدر المطهر، وبقي أبة إسحاق في محبسه وعمل الكتاب، فكان إذا ارتفع جزء منه، حمل إلى الحضرة العضدية، حتى يقرأه ويتصفحه، ويزيد فيه، وينقص منه، فلما تكامل على ما أراده، حرر وحمل كلاماً محرراً، فيقال: إنه قرئ عليه في أسبوع، وتركه في الحبس بعد ذلك سنة، واتفق أن خرج إلى الزيارة وعاد، فعمل فيه قصيدة يهنئه فيها بمقدمه، ويذكره بأمره، منها:

أهلاً بأشرف أوبة وأجلها

لأجل ذي قام يلاذ بنعلها

شاهانشاه تاج ملته التي

ريدت به في قدرها ومحلها

يا خير من زهت المنابر باسمه

في دولة علقت يداه بحبلها

وأقمت فينا سيرة عضدية

هيهات لا تأتي الملوك بمثلها

يردى غوي فاجر في بأسها

ويعيش بر صالح في فضلها

مولاي عبدك حالف لك حلفة

تعيا مناكب يذبل عن حملها

لقد انتهى شوقي إليك إلى التي

لا أستطيع أقلها من ثقلها

طوبى لعين أبصرتك ومن لها

بغبار دارك جازياً عن كحلها ؟

لو بعتني بجميع عمري لفظة

أو لحظة بالطرف لم أستغلها

أترى أمر بخطرة من بالها ؟

أترى أعود إلى كثافة ظلها ؟

لي ذمة محفوظة في ضمنها

ووثائق محروسة في كفلها

وإذا رأيت سحائباً لك ثرة

تروى النفوس الحائمات بهطلها

لا في الرجال الناقعين بوبلها

كلا ولا في القانعين بطلها

قابلت بالزفرات هبة ريحها

وحكيت بالعبرات درة سجلها

فلو أن عيني راهنت بدموعها

يمناك في السقيا لفزت بخصلها

قال: قد كان أبو إسحاق يكاتب عضد الدولة في الحبس بالأشعار، ويرققه، فما رققه شيء كقصيدته القافية، ومنها:

أجل في البنين الزهر طرفك إنهم

حووا كل مرأى للأحبة مؤنق

وتمت لك النعمى بقرب كبيرهم

فأهلاً به من طارق خير مطرق

موال لنا مثل النجوم مطيفة

بمولى موال منك كالبدر مشرق

وقد ضمهم شمل لديك مؤلف

فأرث لذي الشمل الشتيت المفرق

وإن كنت يوماً عنهم متصدقاً

فمن مثل ما خولت فيهم تصدق

فلي مقلة تقذى إذا ما مددتها

غلى حلة ممن أعول ودورق

إناث وذكران أبيت من أجلهم

على كمد بين الحجابين مقلق

رسائلهم تأتى بما يلدغ الحشا

ويصدع قلب النازع المتشوق

فباكية ترثي أباها ولم يمت

وبائنة من بعلها لم تطلق

زغب من الأطفال أبناء منزل

شوارد عنه كالقطا المتمزق

إذا حرقوا قلبي بنجواهم انثنت

عداك تناجيني فتطفي تحرقي

شهدت لئن أنكرت أنك صنتني

ولم أرع ما أوليتني من ترفق

لقد ضيع المعروف عندي وأصبحت

ودائعه مودوعة عند أحمق

وحبسك لي جاه عريض ورفعة

وقيدك في ساقي تاج لمفرقي

وما موثق لم تطرحه بموثق

ولا مطلق لم تصطنعه بمطلق

خلا أن أعواماً كملن ثلاثة

تعرقت البقيا أشد تعرق

وقد ظمئت عيني التي أنت نورها

إلى نظرة من وجهك المتألق

فيا فرحتي إن ألقه قبل ميتتي

ويا حسرتي إن مت من قبل نلتقي

خدمتك مذ عشرون عاماً موفقاً

فهب لي يوماً واحداً لم أوفق

فإن يك ذنب ضاق عندي عذره

فعندك عفو واسع غير ضيق

قال: وسمعت أبا الريان، حامد بن محمد، الوزير، يقول لجدي، وهما في مجلس أنس، وأنا حاضر معهما: لما أنفذت القصيدة اللامية بالتهنئة، عن قدوم عضد الدولة من الزيارة، عرضتها عليه في وقت كان عبد العزيز بن يوسف غير حاضر فيه، فقرأها، ثم رفع رأسه إلي وإلى عبد الله بن سعدان، وكنت آمنه عليك، وأعلم أن اعتقاده يوافق اعتقادي فيك، فقال: قد طال حبس هذا المسكين ومحنته، فقبلت أنا وهو الأرض عند ذلك، فقال لنا: كأنكما تؤثران إطلاقه، قلنا: إن من أعظم حقوقه علينا، وذرائعه عندنا، أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك، قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه عنا بملازمة منزله، إلى أن يرسم له ما يليق بمثله:قال أبو الريا، فخرجت مبادراً، وأنفذت لشكرستان صاحبي، وأنفذ بن سعدان محمدا لأواتيه، وانتظرت عودهما بما فعلاه، من صرفك إلى دارك، فأبطأا عليّ، وكنت أعرف من عادة عضد الدولة، أنه يتقدم بالأمر، ثم يسأل عنه، فإن كان قد فعل أمضاه، ولم يرجع، وإن تأخر، فربما بدا له رأي مستأنف في التوقف عنه، فدخلت إلى عضد الدولة في غرض ما، أطالعه به، فقلت له: سمع الله في مولانا ما دعي له، فقال: ما تجدد ؟ قلت: شاهد الناس أبا إسحاق الصابئ، وقد أخرج من محبسه، ومضى إلى داره، فأكثروا من الدعاء والشكر، فسكت، وشغلت عضد الدولة علته، وما أفضى إليه من منيته عن النظر في أمره، إلا أنه وصل إلى حضرته، فيما بين الإطلاق واشتداد العلة، في ايام متفرقة، فتفقده بثياب ونفقات، عدة دفعات. وكان الصاحب ابن عباد يحبه أشد الحب، ويتعصب له، ويتعاهده على بعد الدار بالمنح، وكان الصابئ، منذ حبسه عضد الدولة، متعطلاً، إلى أن مات فكان يواصل حضرة الصاحب بالمدح. قال أبو منصور: فقرأت له فصلاً من كتاب في ذكر صلة، وصلت منه إليه، استطرفته جداً، وهو:ورد، أطال الله بقاء سيدنا، أبو العباس أحمد بن الحسن، وأبو محمد جعفر بن شعيب، حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا إلى مسلمين، فحين عرفتهما، فقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إلى ما معهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته، واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقناً أن الخطرة مني على باله، مقرونة بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي، مشفوعة بجدواه علي، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر، وأن يحرس هذا البدد، القليل العدد، من مشيخة الكتاب، ومنتحلي الآداب، ما كنفهم به من ذراه، وأفاءه عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا منها، ومحرومون إلا عنها'. وكان الصاحب يتمنى انحياز أبي إسحاق إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك، إما تشوقاً، وإما تشرفاً. وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب، بعدكونه من نظرائه، وتحليه بالرياسة في أيامه. قال: وأخبرني ثقات، منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا، وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه. فأما الترجيح بين هذين الصدرين، أعني: الصاحب والصابئ، في الكتابة، فقد خاض فيه الخائضون، وأطنب المحصلون، ومن أشفى ما سمعته في ذلك: أن الصاحب كان يكتب كما يريد، وأبو إسحاق يكتب كما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد، وكيف جرى الأمر، فهما هما، ولقد وقف فلك البلاغة بعدهما ؟ومما يدل على إناخة كلكل الزمان عليه، وصرف صروفه، بعد النباهة إليه، فصل كتبه إلى صديق له يستميحه، وهو:ولما صارت صروف الدهر تتوغل بعد التطريف وتجحف بعد التحيف، وصادف ما تجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء، مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية، جعلت أختار الجهات، وأعتام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل، وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت، وكتبت كتابي هذا، بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذ تخطه، إشفاقاً على مائه مما يريقه، لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها، ولا يقذيها. فصل من كتاب إلى عضد الدولة في تهنئة بتحويل سنته:أسأل الله مبتهلاً لديه، ماداً يدي إليه، أن يحيل على مولانا هذه السنة، وما يتلوها من أخواتها، بالصالحات الباقيات، والزيادات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله، وأمد يستأنفه، موفراً على المتقدم له، قاصراً عن المتأخر عنه، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً، محمياً موفوراً، باسطاً يده، فلا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركايه، فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك، فائزة قداحه، فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما يتوجه إليه أمنيته جامحة، وتسمو له همته طامحة. وحدث هلال بن المحسن: حدثني جدي أبو إسحاق: ثم وجدت هذا الخبر بخط المحسن بن إبراهيم قال: حدثني والدي أبو إسحاق، قال: كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبي قراءة كتب الطب، والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء، خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر، والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحس بهذا مني، يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني، لا تعدل عن صناعة أسلافك، فلما كان في بعض الأيام، ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة، كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره، سأله عنها، وكان الكتاب طويلاً بليغاً، قد تأنق منشئه، وتغارب، فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملاً لما يريده، وأنفذها على يدي إلى كاتب، لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه، قال: فمضيت، وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه، قال: يا بني سبحان الله، ما أفضل هذا الرجل وأبلغه، فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبل بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض، فكن كاتباً. كان أبو إسحاق الصابئ واقفاً بين يدي عضد الدولة، وبين يديه كتب قد وردت عليه من ابن سمجور، صاحب خراسان، وعلى رأسه غلام تركي، حسن الوجه، جميل، الخليقة، وكان مائلاً إليه، ورأيت الشمس إذا وجبت عليه حجبه عنها، إلى أن استتم قراءة ما كان في يده، ثم التفت إليه، فقال له: هل قلت شيئاً يا إبراهيم ؟ فقال:

وقفت لتحجبني عن الشمس

نفس أعز علي من نفسي

ظلت تظللني ومن عجب

شمس تقنعني عن الشمس

فسر بذلك، وطوى الكتب، وجعله مجلساً للقرب، وألقي على الجواري الستائر، فغنوا به في ذلك اليوم، وهو في الخامس من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وكتب إلى بعض أصدقائه: ولو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق علي فيه المرتكض والمجال، لأن الناس عندنا - ما خلا الأعيان الشواذ الذين أنت بحمد الله أولهم - طائفتان: مجاملة، ترى أنها قد وفتك خيرها، إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها، إذا أجنبتك كيدها.ومكاشفة، تنزو إلى القبيح، نزو الجنادب، أو تدب، دبيب العقارب، فإن عوتبوا، حسروا قناع الشقاق، وإن غولظوا، تلثموا بلثام النفاق.والفريقان في ذاك كما قلت منذ أيام:

أيارب، كل الناس أبناء علة

أما تعثر الدنيا لنا بصديق

وجوه بها من مضمر الغل شاهد

ذوات أديم في النفاق صفيق

إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم

قذى لعيون أو شجاً لحلوق

وإن أظهروا برد الودود وظله

أسروا من الشحناء حر حريق

أخو وحدة قد آنستني كأنني

بها نازل في معشر ورفيق

فذلك خير للفتى من ثوائه

بمسبعة من صاحب وصديق

ومن خط أبي علي المحسن، بن إبراهيم بن هلال: حدثني والدي رحمه الله، قال: وصفتع وأنا حدث، للوزير أبي محمد المهلبي، وهو يومئذ يخاطب بالأستاذ، فاستدعى عمي أبا الحسن، ثابت بن إبراهيم، وسأله عني والتمسني منه، ووعده في بكل جميل، فخاطبني عمي في ذلك، وأشار علي به، فامتنعت، لانقطاعي إلى النظر في العلوم، وكنت مع هذه الحال شديد الحاجة إلى التصرف، لقرب العهد بالنكبة من توزون، التي أتت على أموالنا، فلم يزل بي أبي، حتى حملني إليه، فلما رآني تقبلني، وأقبل علي، ورسم لي الملازمة، وبحضرته في ذلك الوقت جماعة من شيوخ الكتاب، فلما كان في بعض الأيام، وردت عليه عدة كتب من جهات مختلفة، فاستدعاني، وسلمها إلي، وذكر لي المعاني التي تتضمنها الأجوبة، وأطال القول، فمضيت، وأجبت عن جميعها، من غير أن أخل بشيء من المعاني التي ذكرها، فقرأها حتى أتى على آخرها، وتقدم إلي في الحال بإحضار دواتي، والجلوس بين يديه متقدماً على الجماعة، فلزم بعضهم منزله وجداً وغضباً، وأظهر بعضهم التعالل، فلم أزل أتلطف وأداري، وأغضي على قوارص تبلغني، حتى صارت الجماعة إخواني وأصدقائي. وقرأت بخطه أيضاً: وفي كتاب الوزراء لابنه، قال المحسن: حدثني والدي: وقال هلال: حدثني جدي: واللفظ والمعنى يزيد وينقص، والاعتماد على ما في كتاب هلال، لأنه أتم، قال أبو إسحاق: كنت في مجلس الوزير أبي محمد المهلبي، في بعض أيام الحداثة، جالساً في مجلس أنسه، وبين يديه أبو الفضل العباس بن الحسين، وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن، وأبو علي الحسين بن محمد الأنباري، وأبو الفرج بن أبي هشام، وغيرهم من خلفائه وكتابه، وقد أخذ الشراب من الجماعة، وزاد بهم على حد التشوه وكانت لي في ذلك مزية، لأنني شربت معه أرطالاً عدة، إذ حضر رسول الأمير معز الدولة، يذكر أن معه مهما، فقال أبو محمد: يدخل، فدخل، وقال: الأمير يقول: تكتب عني الساعة كتاباً إلى محمد بن إلياس، صاحب كرمان، تخطب فيه ابنته لبختيار، فقال الوزير: هذا كتاب يحتاج إلى تأمل وتثبت، وما في الكتاب من فيه، مع السكر، فضل له، ثم التفت إلى أبي علي الأنباري، فقال له: تتمكن يا أبا علي من كتبه ؟ فقال: أما الليلة وعلى مثل هذه الحالة والصورة فلا، ورآني الوزير مصغياً إلى القول، متشوفاً لما يرسمه لي في ذلك، فقال: تكتبه يا أبا إسحاق ؟ قلت: نعم: قال: افعل، فقمت إلى صفة يشاهدني فيها، واستدعيت دواتي، ودرجاً منصورياً، وكتبت كتاباً اقتضبته بغير روية، ولا نسخة، والوزير والحاضرون يلاحظوني، ويعجبون من إقدامي، ثم اقتضابي وإطالتي، فلما فرغت منه، أصلحته، وعنونته، وحملته إليه، فوقف عليه ووجهه متهلل، في أثناء القراءة والتأمل، ورمى به إلى أبي علي بن الأنباري، ثم قال للجماعة: هذا كتاب حسن، دال على الكفاية المبرزة، ولو كتبه صاحياً مروياً، لكان عجباً، فكيف إذ يكتبه منتشياً مقتضباً، ولكنه كاتبي وصنيعتي، قم يا أبا إسحاق من موضعك، واجلس ههنا، حيث أجلستك الكفاية، وأومأ إلى جانب أبي الغنائم ابنه، فقبلت يده ورجله، وشكرته، ودعوت له، وجلست بحيث أجلسني، وشرب لي ساراً، ثم استدعى حاجبه، وقال: تقدم دابته إلى حيث تقدم دواب خلفائي، ويوفى من الإكبار الإكرام ما يوفونه، فحسدني على ذلك كل من كان حاضراً، ووفوني من الغد حكم المساواة، في المخاطبة والمعاملة، واستشعروا عندها أسباب العداوة والمنافسة، ثم قلدني دواوين الرسائل، والمظالم، والمعاون تقليداً سلطانياً، كتب به: عن المطيع لله إلى أصحاب الأطراف. وحدث هلال بن المحسن، قال: حدثني جدي أبو إسحاق، قال: كان أبو طاهر بن بقية واقفاً بين يدي عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة التي ورد فيها للمعاونة على الأتراك، فقال لي عضد الدولة: لو عرضت علينا أبياتك إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف، التي هي، وأنشدها، وكانت:

يا راكب الجسرة العيرانة الأجد

تدمى مناسمها في الحزن والجدد

أبلغ أبا قاسم نفسي الفداء له

مقالة من أخ للحق معتمد

أنصفت فيها ولم أظلم، وما حسن

بالمرء إلا مقال الحق والسدد

في كل يوم لكم فتح له خطر

يشاد فيه بذكر السيد العضد

وما لنا مثله لكننا أبداً

نجيبكم بجواب الحاسد الكمد

فأنت أكتب مني في الفتوح وما

تجري مجيباً إلى شأوى ولا أمدي

إذ لست تعرفها تأتيك من أحد

ولست أعرفها تمضي إلى أحد

وما ذممت ابتدائي إذ بدأتكم

ولا جوابكم في القرب والبعد

وإنما رمت أن أثني على ملك

مستطرد بدليل فيه مطرد

قال: فلما استتمها، قال لأبي طاهر: ما قصد أبو إسحاق في هذه الأبيات ؟ وسمعها أبو طاهر صفحاً، وقد كان شرب أقداحاً، ولم يعلق بذكره من الأمر إلا ذكر المجلس، واشتهر خبرها عند كل أحد، مما عاد عضد الدولة إلى شيراز سألني أبو طاهر بن بقية عنها، وطالبني بإنشادها غياه، فلم يمكنني إنكارها، فغيرتها في الحال على هذا الوجه:

يا راكب الجسرة العيرانة الأجد

تدمى مناسمها في الحزن والجدد

أبلغ أبا قاسم، نفسي الفداء له

مقالة من أخ للود معتقد

أنصفت فيها ولم أظلم، ولا حسن

بالمرء إلا مقال الحق والسدد

قد أعجبتك فتوح أنت كاتبها

تردد السجع فيها غير متئد

خلا لك الجو إذ أصبحت منتشياً

تشدو بها طرباً كالطائر الغرد

تروعني كل يوم منك رائعة

تبغي الجواب لها من موجع كمد

فأنت أكتب مني في الفتوح وما

تجري مجيباً إلى شأوي ولا أمدي

أعطيتني شر قسميها وفزت بما

فيه الفوائد من قرب ومن بعد

فاشكر إلهك واعذرني فقد صديت

قريحتي من زمان مقرف تلد

ثم سعي بأبي إسحاق إلى عز الدولة، حتى قبض عليه، بعد أن أعطانا أماناً، كتبه ابن بقية بيده، ولم يستقص ابن بقية عليه، لحق كان قد أوجبه عليه، أيام كون عضد الدولة ببع فكتب أبو إسحاق إلى ابن بقية من الحبس:

ألا يا نصير الدين والدولة الذي

رددت إليها العز، إذ فات رده

أيعجزك استخلاص عبدك بعد ما

تخلصت مولاك الذي أنت عبده ؟

وكتب أبو إسحاق إلى المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، وقد عرضت له شكاة:

لو استطعت أخذت علة جسمه

فقرنتها مني بعلة حالي

وجعلت صحتي التي لم تصف لي

بدلاً له من صحة الإقبال

فتكون عندي العلتان كلاهما

والصحتان له بغير زوال

قرأت بخط أبي علي بن إبراهيم الصابئ، كتب والدي إلى بعض إخوانه:كانت رقعتك يا سيدي، وصلت إلي، مشتملة من لطيف تفضلك وبرك، وأنيق نظمك ونثرك، على ما شغلني الاستحسان له، والاسترواح إليه، وتكرير الطرف في مبانيه، والفكرة في معانيه، عن الشروع في الإجابة عنه، ثم تعاطيتها، فوجدتني بين حالتين، إما أوجزت إيجازاً، يظن معه التقصير، أو أطلت إطالة، يظهر منها القصور، فرأيت أولى الأمرين، بذل الممكن، واستنفاد المجهود، بعد تقديم الإقرار لك، والاعتراف بفضلك.

فسبحان رب كريم حبا

ك بطول اللسان وطول البنان

ووفاك من فضل إنعامه

كمالاً تقصر عنه الأماني

فما كنت أحسب أن الزما

ن يزان بمثلك لولا عياني

ومن خطه: حدثني والدي أبو إسحاق قال: راسلت أبا الطيب المتنبي - رحمه الله - في أن يمدحني بقصيدتين، وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال له: قل له: والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب علي في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك، تنكر لك الوزير، يعني - أبا محمد المهلبي، - وتغير عليك، لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالاً، ولا عن شعري عوضاً، قال والدي: فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه قد نصح، فلم أعاوده. ومن شعر أبي إسحاق، قوله:

جرت الجفون دماً، وكأسي في يدي

شوقاً إلى من لج في هجراني

فتخالف الفعلان، شارب قهوة

يبكي دماً، وتشاكل اللونان

فكأن ما في الجفن من كأسي جرى

وكأن ما في الكأس من أجفاني

وله أيضاً:

أيها اللائم المضيق صدري

لا تلمني فكثرة اللوم تغري

قد أقام القوام حجة عشقي

وأبان العذار في الحب عذري

وله أيضاً في غاية الجودة:

حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى

لما تبدل بالنزاع نزوعاً

فأجابني لا تخش مني بعد ما

أفلت من شرك الغرام وقوعاً

حتى إذا داع دعاه إلى الهوى

أصغى إليه سامعاً ومطيعا

كذبالة أخمدتها فكما دنا

منها الضرام تعلقته سريعا

وله أيضاً:

مرضت من الهوى حتى إذا ما

بدا ما بي لإخواني الحضور

تكنفني ذوو الإشفاق منهم

ولاذوا بالدعاء وبالنذور

وقالوا للطبيب: أشر فإنا

نعدك للعظيم من الأمور

فقال شفاؤه الرمان مما

تضمنه حشاه من السعير

فقلت لهم: أصاب بغير قصد

ولكن ذاك رمان الصدور

وله أيضاً:

إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى

بجارية أمسى بها القلب يلهج

إذا امتزجت أنفاسنا بالتزامنا

توهمت أن الروح بالروح يمزج

كأني وقد قبلتها بعد هجعة

ووجدي ما بين الجوانح يلعج

أضفت إلى النفس التي بين أضلعي

بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج

فإن قيل لي اختر أيما شئت منهما

فإني إلى النفس الجديدة أحوج

وله أيضاً:

أقول، وقد جردتها من ثيابها

وعانقتها كالبدر في ليلة التم

وقد آلمت صدري لشدة ضمها

لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي

وله أيضاً:

إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد

حفنا عليك به ظلماً وعدوانا

لأن أحسن ما نلقاه مكتسياً

وأنت أحسن ما نلقاك عرياناً

وله أيضاً:

فديت من لاحظ طرفها

من جيفة الناس بتسليمته

لما رأت بدر الدجى تائهاً

وغاظها ذلك من شيمته

سرت له البرقع من وجهها

فردت البدر إلى قيمته

وكتب أبو إسحاق إلى الوزير، أبي نصر سابور أبن أردشير جواباً عن كتاب إليه:

أتتني على بعد المدى منك نعمة

تشاكل ما قدمت من نعم عندي

كتابك مطوياً على كل منه

يمن بها المولى الكريم على العبد

فقبلت إجلالاً له الأرض ساجداً

وعفرت، قدام الرسول به خدي

وقابلت ما فيه من الطول والندى

بما في من شكر عليه ومن حمد

وعاليت نحو العرش طرفي باسطاً

يدي بدعاء قد بذلت به جهدي

وكم لك عندي من يد قد حفظتها

ولم ينسنيها ما تطاول من عهد

وقال في غلام له، اسمه رشد أسود:

قد قال رشد وهو أسود للذي

ببياضه يعلو علو الحائن

ما فخر خدك بالبياض وهل ترى

أن قد أفدت به مزيد محاسن ؟ ؟

ولو أن مني فيه خالاً زانه

ولو أن منه في خالاً شانني

وله فيه أيضاً:

لك وجه كأن يمناي خط

ته بلفظ تمله آمالي

فيه معنى من البدور ولكن

نفضت صبغها عليها الليالي

لم يشنك السواد بل زاد حسناً

إنما يلبس السواد الموالي

وله في البق:

وليلة لم أذق من حرها وسناً

كأن في جوها النيران تشتعل

أحاط بي عسكر للبق ذو لجب

ما فيه إلا شجاع فاتك بطل

من كل شائكة الخرطوم طاعنة

لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل

طافوا علينا، وحر الشمس يطبخنا

حتى إذا أنضجت أجسادنا أكلوا

وقال يذم البصرة، وكان قد خرج إليها لاستيفاء مال السلطان:

ليس يغنيك في التطهر بالبص

رة إن حانت الصلاة اجتهاد

إن تطهرت فالمياه سلاح

أو تيممت فالصعيد سماد

وقال عند رحيله عنها:

توليت عن أرض البصيرة راحلاً

وأفئدة الفتيان حشو حقائبي

منازل تقري ضيفها كل ليلة

بأمثال غزلان الصريم الربائب

أقمت بها سوق الصبا والندى معاً

لعاشقة حيرى وحيران لاعب

فما تظهر الأشواق إلا صنائعي

ولا تستر الجدران إلا حبائبي

وقال، وقد عتب على بعض ولده:

أرضى عن ابني إذا ما عقني حذراً

عليه أن يغضب الرحمن من غضبي

ولست أدري لم استحققت من ولدي

إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي ؟

وكتب إلى بعض الرؤساء، يلتمس منه إشغال بعض ولده وإجراء رزق عليه:

وما أنا إلا دوحة قد غرستها

وسقيتها حتى تراخى بها المدى

فلما اقشعر العود منها وصوحت

أتتك بأغصان لها تطلب الندى

وكتب إليه أبو علي المحسن ابنه، تسلية في إحدى نكباته:

لا تأس للمال إن غالته غائلة

ففي حياتك من فقد اللهى عوض

إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت

يداك من طارف أو تالد عرض

وأجابه أبو إسحاق:

يا درة أنا من دون الورى صدف

لها أقيها المنايا حين تعترض

قد قلت للدهر، قولاً كان مصدره

عن نية لم يشب إخلاصها مرض:

دع المحسن يحيا، فهو جوهرة

جواهير الأرض طرا عندها عرض

والنفس لي عوض عما أصبت به

وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض

أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي

ومهجتي، فهما مغزاي والغرض

وقال يمدح المهلبي:

وكم من يد بيضاء حازت جمالها

يد لك لا تسود إلا من النقس

إذا رقشت بيض الصحائف خلتها

تطرز بالظلماء أردية تشمس

وله فيه، وقد فصد من غير علة:

لهجت يمينك بالندى، فبنانها

أبداً يفيض حتى العفاة عطاء

حتى فصدت، وما بجسمك علة

كيما تسبب للطبيب حباء

ولقد أرقت دماً زكياً من يد

حقنت، بيدي الأمور، دماء

يجري العلا في عرقه جري الندى

في عوده، فهو اللباب صفاء

لو يقدر الأحرار حين أرقته

جعلوا له حب القلوب وعاء

فانعم وعش في صحة وسلامة

تحيي الولى وتكبت الأعداء

وله أيضاً فيه:

لا تحسب الملك الذي أوتيته

يفضي، وإن طال الزمان، إلى مدى

كالدوح في أفق السماء فروعه

وعروقه متولجات في الندى

في كل عام يستجد شبيبة

فيعود ماء العود فيه كما بدا

حتى كأنك دائر في حلقة

فلكية في منتهاها المبتدا

وله في ابن سعدان:

وما زلت من قبل الوزارة جابري

فكن رائشي، إذ أنت ناه وآمر

أمنت بك المحذور، إذ كنت شافعاً

فبلغني المأمول إذ أنت قادر

لعمري، لقد نلت المنى بك كلها

وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر

عكس قول المهلبي:

بلغت الذي قد كنت آمله بكم

وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤمل

وله إلى الصاحب:

لما وضعت صحيفتي

في بطن كف رسولها

قبلتها لتمسها

يمناك عند وصولها

وتود عيني أنها اق

ترنت ببعض فصولها

حتى ترى في وجهك ال

ميمون غاية سؤلها

وقال لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:

أبو قاسم عبد العزيز بن يوسف

عليه من العلياء عين تراقبه

روى ورعى لما روى قول قائل

'وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه'

وله تهنئة بالعيد:

يا سيداً أضحى الزما

ن بأسره منه ربيعا

أيام دهرك لم تزل للناس أعياداً جميعا

حتى لأوشك بينها

عيد الحقيقة أن يضيعا

فاسلم لنا.ما أشرقت

شمس على أفق طلوعا

واسعد بعيد ما يزا

ل إليك معتقداً رجوعا

وله أيضاً، يهنئ عضد الدولة بالأضحى:

صل يا ذا العلا لربك وانحر

كل ضد وشانئ لك أبتر

أنت أعلى من أن تكون أضاح

يك قروماً من الجمالة تعقر

بل قروماً من الملوك ذوي السو

دد تيجانها أمامك تنثر

كلما خر ساجداً لك رأس

منهم، قال سيفك: الله أكبر

وله أيضاً:

ولما رأيت الله يهدي وخلقه

تجاسرت واستفرغت جهد جهيد

فكان احتفالي في الهدية درهماً

يطير على الأنفاس يوم ركود

وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي

وتقييده بالشكل مثل قيودي

ألاطف مولانا، وكالماء طبعه

تسلسل من عذب النطاف برود

وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، وقد أعيد إلى الوزارة:

قد كنت طلقت الوزارة بعد ما

زلت بها قدم وساء صنيعها

فغدت بغيرك تستحل ضرورة

كيما يحل إلى ذراك رجوعها

والآن آلت ثم آلت حلفة

ألا يبيت سواك وهو ضجيعها

وله يهجو:

أيها النابح الذي يتصدى

بقبيح يقوله لجوابي

لا تؤمل أني أقول لك: اخسأ

لست أسخو بها لكل الكلاب

وله يهجو:

وراكب فوق طرف

كأنه فوق طرفي

له قذال متين

يجل عن كل وصف

يذوب شوقاً إليه

نعلي وخفي وكفي

وله يهجو:

يبدي اللواط مغالطاً، وعجانه

أبداً لأعراد الورى مستهدف

فكأنه ثعبان موسى إذ غدا

لحبالهم وعصيهم يتلقف

وله يصف الشعر:

لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم

إذا نظموا شعراً من الثلج أبرد

فيا رب إن لم تهدهم لصوابه

فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا

وله أيضاً:

إذا جمعت بين امرأين صناعة

فأحببت أن تدري الذي هو أحذق

فلا تتفقد منهما غير ما جرت

به لهما الأرزاق حين تفرق

فحيث يكون النقص، فالرزق واسع

وحيث يكون الفضل، فالرزق ضيق

وله أيضاً:

كل الورى من مسلم ومعاهد

للدين منه فيك أعدل شاهد

فإذا رآك المسلمون تيقنوا

حور الجنان لدى النعيم الخالد

وإذا رأى منك النصارى ظبية

تعطو ببدر فوق غصن مائد

أثنوا على تثليثهم واستشهدوا

بك إذ جمعت ثلاثة في واحد

وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً

قالوا لدافع دينهم والجاحد

هذا سنا الرحمن حين أبانه

لكليمه موسى النبي العابد

ويرى المجوس ضياء وجهك فوقه

مسود فرع كالظلام الراكد

فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا

حجج أعدوها لكل معاند

أصبت شمسهم، فكم لك فيهم

من راكع عند الظلام وساجد

والصابئون يرون أنك فردة

في الحسن إقراراً لفرد ماجد

كالزهرة الزهراء أنت لديهم

مسعودة بالمشتري وعطارد

فعلى يديك جميعهم مستبصر

في الدين من غاوي السبيل وراشد

أصلحتهم وقتلتني فتركتني

من بينهم أسعى بدين فاسد

قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ، حدثني أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي الشاعر، قال: أعانني والدك أبو إسحاق إبراهيم ابن هلال في هجائي، خمرة المجنونة بالشيء الكثير، فمن ذلك:

لخمرة عندي حديث يطول

رأتني أبول، فكادت تبول

وقالت: تقول بنا يا فتى

فقلت، وأدليت: لم لا أقول ؟

فلما نهضت أتتني رقاع

وجاءت هدايا ووافي رسول

ومن ذلك أيضاً:

نام إيرى، وقد تولج فيها

قائلاً فيه من هجير وحر

بيت خيش في برده ونداه

سجفت دونه شريحة بظر

نعم مستبرد الغراميل لولا

أنه منتن خبيث المقر

ومن ذلك أيضاً:

ألا هل قائل مني لخمره:

فقدتك، كل شيء منك عبره

ألا كل النوى في البسر يخفى

وقد أخفت نواتك كل بسره

إذا وردتك فيشة ذي جمام

ترف نضارة وتروق حمره

تولت عنك صفراء النواحي

عليها من ثياب حشاك صدره

فتدخل وهي فيشة جيسوان

وتخرج وهي كالبرني صفره

ومن خط أبي علي المحسن حدثني السري ابن أحمد الشاعر الرفاء قال أنشدني والدك لنفسه:

مازلت في سكري ألمع كفها

وذراعها بالقرص والآثار

حتى تركت أديمها وكأنما

غرس البنفسج منه في الجمار

وأخذت هذا المعنى فقلت:

أحبب إلي بفتية نادمتهم

بين المحلة والقباب البيض

من كل محض الجاهلية معرق

في الخرمية بالعدي عريض

وسموا الأكف بخضرة فكأنما

غرسوا بها الريحان في الإغريض

ومن خطه لأبي الحسن بن سكرة الهاشمي، من قصيدة إلى والدي وعمي أبي العلاء - رحمهما الله -:

آمنوا يا بني هلال جميعاً

نوب الدهر والزمان المعاند

وارتقوا كيف شئتم في المعالي

وأذلوا وأهبطوا كل حاسد

لكم في أبي العلاء علو

وصعود ببدره التم صاعد

زاد في عزكم ومازال منكم

كل يوم يزيد في الصيد واحد

وكتب من الحبس إلى ابنه المحسن، وقد أكثر من هذا في ترجمة أبيه:

كتبت أقيك السوء من مجلس صنك

وعين عدوي، رحمةً منه لي، تبكي

وقد ملكتني كف فظ مسلط

قليل التقى ضار على الفتك والإفك

صليت بنار الهم فازددت صفوة

كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك

وكتب إلى صديق له من الحبس:

نفسي فداؤك غير معتد بها

إذ قد مللت حياتها وبقاءها

ولو أن لي مالاً سواها لم أكن

أرضى لنفسك أن تكون إزاءها

لكن صفرت فلم أجد إلا التي

قد آن لي أن أستطيل ذماءها

وإذا شكرت لمن فداك فإنني

لك شاكر أن قد قبلت فداءها

وكأنني المفدى حين أرحتني

من نائبات ما أطيق لقاءها

وقال في الحبس:

إذا لم يكن للمرء بد من الردى

فأسهله ما جاء والعيش أنكد

وأصعبه ما جاءه وهو راتع

تطيف به اللذات، والحظ مسعد

فإن أكُ شر العيشتين أعيشها

فإني إلى خير المماتين أقصد

وسيان يوما شقوة وسعادة

إذا كان غباً واحداً لهما الغد

وقال في الشيب:

يقول الناس لي: في الشيب عز

يزيد به جلال المرء ضعفا

ولولا أنه ذلك وهون

لما احتكم المزين فيه نتفا

أخذه من ابن الرومي:

كفاك من ذلتي للشيب حين أتى

أني توليت نتفاً لحيتي بيدي

وله أيضاً:

وجع المفاصل وهو أي

سر ما لقيت من الأذى

جعل الذي استحسنته

والناس من حظي كذا

والعمر مثل الكأس ير

سب في أواخرها القذى

حدث الرئيس أبو الحسن هلال، قال: قلت لجدي أبي إسحاق، تجاوز الله عنه وهو يشكو زمانه: يا سيدي، ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية، ونعمة كافية، فما معنى هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، وينتغص عيشك معها ؟ فضحك وقال: يا بني نحن كدود العسل، قد نقلنا منه إلى الخل، فهو ذا نحس بحموضته، ونأسى ونحزن على ما كنا فيه من العسل ولذته، وأنتم كدود الخل، ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضده. ولأبي إسحاق من التصانيف: كتاب رسائله، وهو مشهور، نحو ألف ورقة، كتاب التاجي في أخبار أهله، كتاب اختيار شعر المهلبي، كتاب ديوان شعره.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي