معجم الأدباء/إسماعيل بن عباد، بن العباس،

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

إسماعيل بن عباد، بن العباس،

إسماعيل بن عباد، بن العباس،

ابن عباد الوزير الملقب بالصاحب، كافي الكفاة أبو القاسم، من أهل الطالقان، وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الأسم، وبخراسان بلدة تسمى الطالقان غير هذه، خرج منها جماعة من أهل العلم، هكذا نسبه المحدثون، وقد قال الرستمي شاعره، يهنيء بن عباد قال:

يهنى ابن عباد بن عباس بن نجد

والله تعمى بالكرامة تردف

وقال في السلامي يهجوه:

يا بن عباد بن عباس

بن عبد الله حرها

تنكر الجبر وأخرجت

إلى دنياك كرها

قال أبو حيان في أخلاق الوزيرين: كان عباد يلقب الأمين، وكان دينا خيرا، مقدما في صناعة الكتابة.فقال: وكتب الأمين في ركن الدولة، كما كتب العميد لصاحب خراسان، والامين كان ينصر مذهب الأشنانى تدينا، وطلبا للزلفى عند ربه، والعميد كان يعمل لعاجلته، وإن قلت: كان الأمين معلما بقرية من قرى طالقان الديلم، قيل: وكان والده العميد نخالا في سوق الحنطة بقم، والصاحب مع شهرته بالعلوم، وآخذه من كل فن منها بالنصيب الوافر، والحظ الزائد الظاهر، وما أوتيه من الفصاحة، ووفق لحسن السياسة والرجاحة، مستغن عن الوصف، مكتف عن الأخبار عنه والرصف، مولده في ذي القعدة، سنة ست ست وعشرين وثلاثمائة. ووزر لمؤيد الدولة، أبي منصور بويه، بن ركن الدولة، أبي علي الحسن بن بويه، وأحبه فخر الدولة، ثماني عشرة سنة، وشهرا واحدا، ومات الصاحب فيما ذكره أبو نعيم الحافظ: في الرابع والعشرين من صفر، سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.وكان أبوه عباد يكنى بالحسن، وكان من أهل العلم والفضل ايضا، سمع أبا خليفة الفضل بن الخباب، وغيره من البغدادين، والأصفهانيين، والرازيين، وصنف كتابا في أحكام القرآن، نصر فيه الاعتزال وجود فيه.روى عنه ابنه الوزير أبو القاسم بن عباد، وابن مردويه الأصفهانى، ومات عباد في السنةالتي مات فيها لأبنه، سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.وكل ما ذكرناه من خبر عباد أبي الوزير، فهو منقول من كتاب المنتظم في التاريخ، من تصنيف أبي الفرج بن الجوزي.وبين عباد وبين الحسن بن عبد الرحمن، بن حماد القاضي مكاتبات ومراسلات، مذكورة مدونة. وكان الصاحب في بدء أمره من صغار الكتاب، يخدم أبا الفضل بن العميد عليا خاصة، فترقت به الحال، إلى أن كتب لمؤيد الدولة، بن ركن الدولة، بن بويه، أخي عضد الدولة، بن ركن الدولة الديلمي.ومؤيد الدولة حينئذ أمير، وأحسن فى خدمته، وحصل له عنده بقدم الخدمة قدم، وأنس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة، وولى مؤيد الدولة بلاده بالرى وأصبهان، وتلك النواحى، خلع على أبى الفتح بن العميد وزير أبيه خلع الوزارة، وأجراه على ما كان فى أيام أبيه، إلى أن قتل كما ذكرناه في ترجمته، واستوزر الصاحب، واستولى على أموره، وحكمه في أمواله، ولم يزل على ذلك إلى أن آت مؤيد الدولة، وكان فخر الدولة أخو مؤيد الدولة، قد هرب من أخيه عضد الدولة، والتجأ بخراسان إلى السامانية، وهو وقابوس بن وشمكير، في أخبار يضيق كتابنا عنها، فنفذ الصاحب إليه وأحضره، وملكه البلاد، فأقر الصاحب على أمره، فأراد الصاحب اختباره، هل في نفسه عليه شئ، مما كان في أيام مؤيد الدولة ؟ الذي أوجب هرب فخر الدولة، فاستعفاه من الخدمة والوزارة، فقال له فخر الدولة: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، كما لنا من إرث الإمارة، فسبيل كل واحد منا أن يحتفظ بحقه ولم يعفه، ولم يزل على أمره معه، إلى أن مات الصاحب، والأمور تصدر عن أمره، والملك يدبر برأيه، وكان إذا قال فخر الدولة قولا، وقال الصاحب قولا، امتثل قول الصاحب، وترك قول فخر الدولة. وللصاحب أخبار حسان في مكارم الأخلاق، مع رقاعة كانت فيه، ووصفه الإمتاع فقال: كان الصاحب كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئا، وأخذ من كل فن طرفا، والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرتهم مشوبة بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة، والناظرين في أجزائها، كالهندسة، والطب، والتنجيم، والموسيقى، والمنطق، والعدد، وليس له من الجزء الإلاهى خبر والقوافى، ويقول الشعر، وليس بزال، وبديهته غزارة.وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى، فقريته منه، ويتشبع بمذهب أبي حنيفة، ومقالة الزيدية، ولايرجع إلى التأله والرقة، والرأفة والرحمة، والناس كلهم يجمعون عنه لجراءته وسلاطته واقتداره وبطشته.شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطى كثيرا قليلا' يعطى الكثير القليل' مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته.وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمة نخوة وبغيا، وتجبرا وزهوا ومع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبى.لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: ' مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائله، منظومة ومنثورة، فما جبت الارض إليه من فرغانة، ومصر، وتفليس، إلا لأستفيد كلامه، وأفصح به، وأتعلم به البلاغة: منه: لكأنما رسائل مولانا سور قرآن.وفقره آيات فرقان.واحتجاجه فى أثنائها برهان.فسبحان من جمع العالم في واحد. وأبرز جميع قدرته في شخص، فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن، بأن يخرج إليه رسائله، مع الورق والورق، ويسهل الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه، فهذا هذا، ثم يعمل في أوقات كالعيد والفضل شعرا، ويدفعه إلى أبى عيسى بن المنجم، ويقول له: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من المنشدين، فيفعل ذلك أبو عيسى، وهو بغدادى محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك، وينشد فيقول له عند سماعه شعره فى نفسه، ووصفه بلسانه، ومدحه من تجبيره، أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد زه يا أبا عيسى، قد صفا ذهنك، وجادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الاول حين أنشدتنا في العيد الماضي: المجالس تخرج الناس، وتهب لهم الذكاء، ويزيدهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا، والمحمر جوادا، ثم لايصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية، وعطية هنية، ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لايقرض مصراعا، ولايزن بيتا، ولايذوق عروضا. قال يوما: من في الدار ؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين، فادخل بعدهما بساعة، وقل قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدتهما، وازعم أنك بدهت بهما، ولاتجزع من تأففي بك، ولاتفزع من تكبرى عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى صحن الدار، وأذن للرجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا، دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ ير أنه يقرض شعرا، ثم قال يا مولانا: قد حضرنى بيتان، فإن أذنت أنشدت، قال له: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك، قال يا مولانا: هي بديهتي، وإن كسرتني ظلمتني، وعلى كل حال فاسمع، فإن كانا بارعين، وإلا فعاملني بما تحب، قال: أنت لحوح، هات، فأنشد:

يا أيها الصاحب تاج العلا

لاتجعلني نزهة الشامت

بملحد يكنى أبا قاسم

ومجبر يعزى إلى ثابت

فقال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء قال لي أبو القاسم: وكدت أتفقا غيظا، لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا، ثم حدثنى الخادم الحديث يقضه والذى غلطه في نفسه، وحمله على الإعجاب بفضله، والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، - والله دره - ما رأينا مثله، من ابن عبد كان مضافا إليه ؟ ومن ابن ثوابة نقيسه عليه ؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولى ؟ من صريع الغواني ؟ من أشجع السلمي ؟ إذا سلكا طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلي أبى عمرو بن العلاء في اللغة، وعلي أبى يوسف في القضاء، وعلي الإسكافي في الوازنة، وعلي ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلي ابن مجاهد في القراءات، وعلي ابن جرير فى التفسير، وعلي أرسططاليس في المنطق، وعلي الكندى في الجدل، وعلي ابن سيرين في العبارة، وعلي أبى العيناء في البديهة، وعلي ابن أبى خالد في الخط، وعلي الجاحظ في الحيوان، وعلي سهل بن هارون في الفقر، وعلي يوحنا في الطب، وعلي ابن يزيد فى الفردوس، وعلي عيسى بن كعب في الرواية، وعلي الواقدى في الحفظ، وعلي النجار فى البدل، وعلي بنى ثوابة في التقنية، وعلي السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزيد في النوادر، وعلى أبى الحسن العروضي في استخراج المعمي، وعلى بنى برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى أبى المحياة خالد بن سنان في دعواه، هو والله أولى بقول أبي شريح، أوس بن حجر التميمى، في فضالة بن كلدة أبى دليجة:

الألمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا

فتراه عند هذا الهذر وأشباهه، بتلوى ويبتسم، ويطير فرحا به وينقسم، ويقول: ولا كذى ثمرة السبق لهم، وقصدنا أن نلحقهم، أو نقفوا أثرهم، وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك، ويلوى شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتفاتك ويتمايل، ويحاكي المومسات، ويخرج في أصحاب السماجات، وهو مع هذا، يظن أنه خاف على نقاد الأخلاق، وجهابذة الإخوان.وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه، 'وهو في الأصل محدود لاجرم بقلة مكان، دلالا ونزقا وعجبا، واندراء على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد، وفى الجملة: آفاته كثيرة، وذنوبه جمة، ولكن الغنى رب غفور:

ذريني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

ويقضيه الندى وتزدريه

خليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل ذنبه والذنب جم

ولكن الغني رب غفور

قال: فكيف يتم له الأمور مع هذه الصفات ؟ قلت: والله لو أن عجوزا بلهاء، أو أمة ورهاء، أقيمت مقامه، لكانت الأمور على هذا السياج، لأنه قد أمن أن يقال له: لم فعلت ؟ ولم لم تفعل ؟ وهذا باب لايتفق لأحد من خدم الملوك، إلا بجد سعيد، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاويه، وأمور من النظر جارية رفعت إليه، فقذف بالرقعة إليه، حتى عرف ما فيها، ثم قتل الرافع خنقا، هذا وهو يدين بالوعيد.وقال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطاء، فيقلبه جده صوابا، حتى كأنه عن وحي، وأسرار الله فى خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية، ولو جرت الأمور على موضوع الرأي، وقضية العقل، لكان معلما على مصطبة في شارع، أو في دار فإنه يحرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان، ولا تنفرهم عن المعلمين، ويكون فرحهم به سببا للملازمة، والحرص على التعلم، والحفظ والرواية والدراسة. هذا قول صاحب الإمتاع فيه، ومما وجدت في بعض الكتب من مكارم الأخلاق للصاحب: أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر، فجيء بقدم منه، فلما أراد شربه، قال له بعض خواصه: لا تشربه فإنه مسموم، فقال له: وما الشاهد على صحة ذلك ؟ قال: بأن تجربه على من أعطاكه، قال: لا أستجيز ذلك ولا أستحله.قال: فجربه على دجاجة.قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، وأمر بصب ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عنى، ولا تدخل دارى بعدها، وأقر رزقه عليه، وقال: لا تدفع اليقين بالشك.والعقوبة بقطع الرزق نذالة. قال: ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من ؟ فأنشد الرجل:

وتتفق الأسماء فى اللفظ والكنى

كثيرا ولكن لا تلاقي الخلائق

فقال له: اجلس يأبا القاسم.وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان. وحدث أبو الحسن النحوي قال: كان مكى المنشد، قديم الصحبة، فأساء إليه غير مرة: والصاحب يتجاوز له، فلما كثر ذلك منه، أمر الصاحب بحبسه، فحبس في دار الضرب، وكانت فى جواره، فاتفق أن الصاحب صعد يوما سطح داره، وأشرف على دار الضرب، فناداه مكى: ' فاطلع فرآه فى سواء الجحيم' فضحك الصاحب وقال: 'اخسئوا فيها ولاتكلمون ' ثم أمر بإطلاقه. ومن كتاب أخلاق الوزيرين لأبى حيان التوحيدى، قال المؤلف: أما خبر أبي حيان مع ابن عباد: فيذكر فى أخبار أبي حيان، وأما غيره: فإن أبا حيان، كان قصد ابن عباد إلى الري، فلم يرزق منه، فرجع عنه ذاما له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح، وإيضاح مكارمه، فصار ذمه له مدحا، فمن ذلك أن قال، بعد أن فرغ من الاعتذار من التصدى لثلبه، قال: فأول ما أذكر من ذلك، ما أدل به على سعة كلامه، وفصاحة لسانه، وقوة جأشه، وشدة منته وإن كان فى فحواه ما يدل على رقاعته، وانتكاث مريرته، وضعف حوله، وركاكة عقله، وانحلال عقده، لما رجع من همذان سنة تسع وستين وثلاثمائة، بعد أن فارق حضرة عضد الدولة، استقبله من الري وما يليها، واجتمعوا بساوة، وكان قد أعد لكل واحد منهم كلاما يلقاه به عند رؤيته، فأول من دنا منه، القاضي أبو الحسن الهمذاني، من قرية يقال لها أسداباذ فقال له: أيها القاضى، ما فارقتك شوقا إليك، ولا فارقتني وجدا علي، ولقد مرت لي بعدك مجالس تقتضيك، وتخطيك وترضيك، ولو شهدتني بين أهلها، وقد علوتهم بتبياني ولساني، وجدلي وبرهاني، لأنشدت قول حسان بن ثابت في ابن عباس وهو:

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيت له في كل مجمعة فضلا

إذا قال لم يترك مقالا لقائل

بملتقطات لاترى بينها فصلا

كفى وشفى ما فى النفوس ولم يدع

لذي إربة في القول جدا ولا هزلا

سموت إلى العلياء من غير خفة

فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا

ولذكرت أيضا أيها القاضي قول الآخروأنشدته فإنه قال فيمن وقف موقفي، وقرف مقرفي وتصرف تصرفي، وانصرف منصرفي، واغترف مغترفي

إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف

لعي ولم يثن اللسان على هجر

يصرف بالقول اللسان إذا انتحى

وينظر في أعطافه نظر الصقر

ولقد أودعت صدر عضد الدولة، ما يطيل التفافه إلى، ويكثر حسرته على، ولقد رأى مني ما لم ير قبله مثله، ولايرى بعده شكله، والحمد لله أوفدني عليه على ما يسر الولي، وأصدرني عنه على ما يسوء العدو، أيها القاضى: كيف الحال والنفس ؟ وكيف المجلس والدرس ؟ وكيف العرض والحرس وكيف الدس والعس ؟ وكيف الفرس والمرس، وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيجه واحتدامه، وشدة خباله وغلوائه، والهمذانى مثل الفأرة بين يدي السنور، وقد تضاءل وقمؤ لا يصعد له نفس إلا بنزع تذللا وتقللا، هذا على كبره فى نفسه. ثم نظر إلى الزعفرانى رئيس أصحاب الرأى فقال: أيها الشيخ، سرنى بقاؤك، وساءنى عناؤك، ولقد بلغنى عدواؤك، وما خيله إليك خيلاؤك، وأرجو ألا أعيش حتى يرد عليك غلواؤك، ماكان عندى أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهى في عدوانك لأهل العدل والتوحيد إلى ما انتهت إليه، ولى معك إن شاء الله نهار له ليل، وليل يتبعه ليل، وثبور يتصل به ويل، وقطر يدفع ومعه سيل.'وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار'فقال له الزعفرانى: 'حسبنا الله ونعم الوكيل'، ثم أبصر أبا طاهر الحنفى، فقال: أيها الشيخ، ما أدرى، أشكوك، أم أشكو إليك، أما شكواى منك، فإنك لم تكاتبنى بحرف، كأنما لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على إلف، ولم نتلاق على ظرف، وأما شكواى إليك، فإنى ذممت الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك، وعرضت بينهم ودك، وقدحت عليهم زندك، ونشرت عليهم غرائب ما عندك، فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بترويقي، وأثنوا بتنميقي وتزويقي، وهكذا عمل الأحباب، إذا نأت بهم الركاب، والتوت دونهم الأعناق واظطربت في صدورهم نار الاشتياق، فالحمد لله الذى أعاد الشعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة، والأهواء جامعة، حمدا بالمزيد، على عادة السادة مع العبيد، عند كل قريب وبعيد. ثم التفت إلى ابن القطان القزويني الحنفي، وكان من ظرفاء العلماء، فقال: كذب أيها الشيخ: أحلم بك فى اليقظة، وأشتمل عليك دون الحفظة، لأنك قد ملكت مني غاية المكانة والحظة، والله ما أسغت بعدك ريقا إلا على جرض ولا سلكت دونك طريقا إلا على مضض، ولا وجدت للظرف سوقا إلا بالعرض.سقى الله ربعا أنت أشدته بنزاهتك، وطبعا أنت أطبته ببراعتك، ومغرسا أنت أينعته بنباهتك. وقال للعيساباذي: أيها القاضي، أيسرك أن أشتاقك وتسلو عني، وأن أسأل عنك وتنسل مني، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل، وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع فى مثله مني ملك بني ساسان، متى كنت منديلا ليد، ومتى نزلت على هذا الحد لأحد، إن انكفأت على بالعذر انكفاء، وإلا اندرأت عليك بالعذل انذراء، ثم لا يكون لك فرار بحال، ولا يبقى لك بمكانى استكبار، إلا على وبال وخيال، ثم طلع أبو طالب العلوي فقال: أيها الشريف، جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات، ولم تفكر في ماض ولا آت، أضعت العهد، وأخلفت الوعد، وحققت النحس، وأبطلت السعد، وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحران، وظننت أنك قد شبعت مني واعتضت عني، هيهات وأنى بمثلي، أو من يعثر في ذبلي، أو له نهار كنهاري.أو ليل كليلي:

وهل عائض مني

وإن جل عائض

أنا واحد هذا العالم،

وأنت بما تسمع عالم، لا إله إلا الله، سبحان الله.

أيها الشريف، أين الحق الذي وكدناه أيام كادت الشمس تزول، والزمان علينا يصول، وأنا أقول، وأنت تقول والحال بيننا يحول، - سقى الله - ليلة تشبيعك وتوديعك، وأنت متنكر تنكرا يسوء الموالى، وأنا متفكر تفكرا يسوء العدو، ونحن متوجهون إلى ورامين، خوفا من ذلك الجاهل المهين، يعني بالجاهل المهين ذا الكفايتين، حين أخرجه من الري، بعد أن ألب عليه، وكاد أن يأتي على نفسه الخبيثة، وهو حديث له فرش، وما أنا بصدده، يمنع من اقتضائه، ولعله يأتى فيما بعد'. ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط فقال: أيها الشيخ، الحمد لله الذى كفانا شرك، ووقانا عرك وضرك، وأنآنا فيحك وحرك، دببت الضر إلينا، ومشيت الجمر علينا، ونحن نحيس لك الحيس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس، لو لا أنك قرحان، لسقط بك العشاء على سرحان. وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي: أيها الشيخ، ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بإنسانك، جاريا على نسيانك، مشتهرا بفتيانك وافتتانك، غير عاطف على أخدانك وإخوانك، لو لا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيك من رعايتي ما قد منعته، لكان لي ولك حديث، إما طيب وإما خبيث، خلفتك محتسبا، فخلفت مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف، فلحقتك راكبا للمنكر، قد تفيل الرأى، وتخيب الظن، وتكذب الأمل.وقد قال الأول:

ألا رب من تغتشه لك ناصح

ومؤتمن بالغيب وهو ظنين

ثم نظر إلى الشادباشى فقال: يا أبا على، كيف أنت ؟ وكيف كنت ؟ فقال يا مولانا:

لاكنت إن كنت أدري كيف كنت ولا

لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن

فقال: أعرب يا ساقط، يا هابط، يا من تذهب إلى الحائط بالغائط، ليس هذا من تحت يدك، ولا هو مما نشأ من عندك، هذا لمحمد بن عبد الله بن طاهر، وأوله:

كتبت تسأل عني كيف كنت يوما

لاقيت بعدك من هم ومن حزن

لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا

لا كنت إن كنت أدرى كيف لم أكن

وكان ينشد وهو يلوى رقبته وتجحظ حدمته، وينزى أطراف منكبيه، ويتشفا ويتمايل كأنه لدى يتخبطه الشيطان من المس ثم قال يا أبا علي: لا تعود على أبر فى سراويل، لا ابر إلا ابر تمضي تحت عنقك فإنك إن عولت على ذلك شانك وخانك، وفضح حالك ومانك. ثم نظر إلى غلام قد بقل وجهه، كان يتهم به على الوجه الأقبح، فالتوى وتقلقل، وقال: ادن منى يا بني، كيف كنت ؟ ولم حملت نفسك على هذا العناء، وجهك هذا الحسن لايتبذل للشحوب، ولا يعرض للفحات الشمس بين الطلوع إلى الغروب.أنت تحب أن تكون بدلة بين حجلة وكلة.تزاح بك العلة، وتغلى بك القلة وتشفى منك الغلة هذا آخر حديث الاستقبال. قال أبو حيان: ودخل يوما دار الإمارة، الفيرزان المجوسي في شيء خاطبه به فقال له: إنما أنت محش مجش مخش، لا تهش ولا تبش ولا تمتش، فقال الفيرزان: أيها الصاحب، برئت من النارإن كنت أدرى ما تقول، فإن العرض لك.والنفس لك فداء، لست من الزنج ولا من البربر، كلمنا على العادة التي عليها العمل، والله ما هذا من لغة آبائك الفرس، ولا من أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس، وما سمعنا منهم هذا النمط فقام مغضبا. قال: وكان ابن عباد يقول للإنسان إذا قدم عليه من أهل العلم: يا أخي تكلم واستأنس، واقترح وانبسط،ولاتدع واحسبني في جوف مربعة، ولا بروعك هذا الحشم والخدم، والغاشية وهذه المرتبة والمصطبة، وهذا الطاق والرواق، وهذه المجالس والطنافس، فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، فليفرج روعك، ولينعم بالك، وقل ما شئت، وأبصر ما أردت، فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والإسعاف، والإسعاف، والإتحاف والإطراف، والمواهبة والمقاربة، والمؤانسة والمقابسة، وقد كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره، ويجزي في هذا الميدان فيطيل، حتى إذا استوفى ما عند ذلك الإنسان بهذه الزخارف والحيل، وصار الرجل معه في حدوده على مذهب الثقة، فحاجه وضايقه وسابقه، ووضع يده على النكتة الفاصلة، والأمر القاط تنمر له، وتغير عليه، ثم قال يا غلام: خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس، وضعه فيه، بعد أن تصب على كاهله وظهره وجنبيه، خمسمائة سوط وعصا، فإنه معاند ضد، يحتاج أن يشد بالقد ساقط هابط، كلب وقاح، أعجبه صبرى، وغره حلمى، ولقد أخلف طنى، وعدت على نفسى باللائمة وبالتوبيخ، وما خلق الله العصا باطلا.فيقام ذلك البائس على هذه الحالة، وليس الخبر كالعيان، من لم يحضر ذلك المجلس، لم ير منظرا رفيعا، ورجلا رقيعا.قال: وكان أبو الفضل بن العميد إذا رآه قال: أحسب أن عينيه ركبتا من زئبق، وعنقه عمل بلولب، وصدق، فإنه كان ظريف التثني والتلوي، شديد التفكك والتفتل، كثير التعوج والتموج، في شكل المرأة المومسة، والفاجرة الماجنة. قال وحدثني الجراباذى الكاتب أبو بكر، وكان كاتب داره، قال: يبلغ من سخنة عين صاحبنا، أنه لا يسكت عما لا يعرف، ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به، وإن احتال وموه، جاز ذلك وخفى واستتر، ولا يعلم أن ذلك الإحتيال، طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال، وصدق القائل: 'كاد المريب يقول خذوني'.قلت: وما الذي حداك على هذه المقدمة ؟ قال: قال لي فى بعض هذه الأيام، أرفع حسابك، فقد أخرته وقصرت فيه، وانتهزت سكوتى وشغلى بأمر الملك، وسياسة الأولياء والجند، والرعايا والمدن، وما على من أعباء الدولة، وحفظ البيضة، ومشارفة الأطراف النائية والدانية، باللسان والعلم، والرأى والتدبير، والبسط والقبض، والتتبع والتقصى وما على قلبى من الفكر في الأموال الظاهرة والغامضة، وهذا باب لعمري مطمع، وإمساكى عنه مغر بالفساد مولع، فبادر - عافاك الله - إلى عمل حساب بتفصيل باب باب، يبين فيه أمر داري، وما دخل عليه أمر دخلي وخرجي.قلت له: هذا كله لسبب قوله: هات حسابك بما نراعيه ؟ فقال: إى والله، ولقد كان أكثر من هذا، ولقد اختصرته. قال أبو بكر: فتفردت أياما، وحررت الحساب على قاعدته وأصله، والرسم الذى هو معروف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي، وأمر عينيه فيه، من غير تثبيت أو فحص، أو مسألة، فحذف به إلى وقال: أهذا حساب ؟ أهذا كتاب ؟ أهذا تحرير ؟ أهذا تقرير ؟ أهذا تفصيل ؟ أهذا تحصيل ؟ والله لولا أنى ربيتك فى دارى، وشغلت بتخريجك ليلى ونهارى، ولك حرمه الصبا، ويلزمنى رعاية الأبا، لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدبت بك كل كاتب، وحاسب، وجعلتك مثله لكل شاهد وغائب، أمثلى يموه عليه ؟ ويطمع فيما لديه ؟ وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة، إلا وأحصل فى نفسى ارتفاع العراق، ودخل الآفاق، أغرك منى أنى أجررت رسنك، وأخفيت قبيحك، وأبديت حسنك ؟ غير الذى رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، واعلم أنك من الآجرة قد رجعت، فزد فى صلانك وصدقتك، ولا تعول على قحتك وصلابة حدقتك، قال: فو الله ما هالنى كلامه، ولا أحاك في هذيانه، لأني كنت أعلم جهله في الحساب، ونقضه في هذا الباب، فذهبت وأفسدت، وأخرت وقدمت، وكابرت وتعمدت، ثم رددته غليه، فنظر فيه، وضحك في وجهي وقال: أحسنت - بارك الله عليك -، هكذا أردت، وهذا بعينه ما طلبت، لو تغافلت عنك في أول الأمر، لما تيقظت في الثاني، فهذا كما ترى، فاعجب منه كيف شئت. قال أبو حيان: ومن رقاعته أيضا، سمعته يقول: وقد جرى حديث الأبهري المتكلم، وكان يكنى أبا سعيد، فقال: - لعن الله - ذاك الملعون المأبون المأفون، جاءني بوجه مكلح، وأنف مفلطح، ورأس مسح، وسرم مفتح، ولسان مكبح، فكلمني في مسألة الأصلح، فقلت له: اعزب، عليك لعنة الله لقيت الأبرح، الذي يلزم ولا يبرح. وشتم يوما رجلا فقال - لعن الله - هذا الأهوج الأعوج الأفلج الأفحج الذى إذا قام تخلج، وإذا مشى تدحرج، وإن عدا تفجفج قال أبو حيان: بالله يا أصحابنا حدثونى، أهذا عقل رئيس، أم بلاغة كاتب أم كلام متماسك، لم تجنون به، وتتهالكون عليه، وتغيظون أهل الفضل به ؟ ؟ ؟ هل هناك إلا الجد الذى يرفع من هو أنذل منه، ويوقع من هو أرفع منه.ولقد حدثت هذا الحديث أبا السلم الشاعر، فأنشدني لشاعر:

سبحان من أنزل الدنيا منازلها

وميز الناس مشنوءا وموموقا

فعاقل فطن أعيت مذاهبه

وجاهل خرق تلقاه مرزوقا

كأنه من خليج البحر مغترف

ولم يكن بارتزاق القوت محقوقا

هذا الذى ترك الألباب حائرة

وصير العاقل النحرير زنديقا

قال: وكان كلفه بالسجع في الكلام والقول، عند الجد والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد.قلت لابن المسيبى: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع ؟ قال: يبلغ به ذلك، لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرام ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتى بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها. قال: وقلت للخليلي، أما كان ابن العميد يسمع كلامه ؟ قال: بلى، وكان يقول: سجعه يدل على الخلاعة والمجانة.وخطه يدل على الشلل والزمانة وصياحه يدل على أنه قد خلب بالقمار فى الحانة، وهو أحمق الطبع إلا أنه طيب قلت للخليلي: فهل عرفت طالعه ؟ فقال: حدثني بعض أصحابنا منهم الهروي، أن طالعه الجوزراء والشعري اليمانية'كط' وكان زحل في الحادى عشر في الحمل'كز' والقمر فيه'يط' والشمس فى السنبلة'كد' والمريخ فى العقرب'ن' ومنهم السعادة فى القوس'يد' ومنهم الغيب قى الجدى'يز'والرأس فى الثالث من الأسد'يا' قال: وخفى على عطارد وذكر أنه ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة، من الهجرة لأربع عشرة ليلة من ذى العقدة، 'رونسروش ' من 'ماه شهرير' قلت: وأين ولد ؟ قال: كان عندنا أنه ولد بطالقان، وقال لنا يوما باصطخر: وقال غير الخليلى: كان عطارد فى السنبلة'ط ى'. قال أبو حيان: كنت بالرى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وابن عباد بها مع مؤيد الدولة، قد ورد فى مهمات وحوائج، وعقد لابن عباد مجلس جدل، وكنا نبيت عنده في داره، في باب شير، ومعنا الضرير أبو العباس القاضى، وأبو الجوزاء البرقي، وأبو عبد الله النحوي الزعفراني، وجماعة من الغرباء، فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقعة، فأحب أن يعرفه ويعرف ما عنده، وكان الشاب من أهل سمرقند، يعرف بأبى واقد الكرابيسي، فقال له: يا أخ انبسط واستأنس، وتكلم فلك منا جانب وطئ وشرب مرئ، ولن ترى إلا البر، بم تعرف فقال: بدقاق، قال: تدق ماذا ؟ قال: أدق الخصم إذا زاغ عن سبيل الحق، فلما سمع هذا تنكر وعجب، لأنه فجئ ببذيئة، فقال: دع هذا وتكلم، قال: أتكلم سائلا ؟ ما بى والله حاجة إلى مسألة، أم أتكلم مسئولا ؟ فو الله إنى لأكسل عن الجواب، أم أتكلم مقررا ؟ فو الله إنى لأكره أن أبدد الدر في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:

لقد عجمتنى العاجمات فلم تجد

هلوعا ولا لين المجسة في العجم

وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم

وما للأعادي في قناتى من وصم

قال له يا هذا: ما مذهبك ؟ قال: مذهبي ألا أقر على الضيم، ولا أنام على الهون، ولا أعطى صمتى لمن لم يكن ولى نعمتي، ولم تصل عصمته بعصمتي.قال: هذا مذهب حسن، ومن ذا الذى يأتى الضيم طائعا ؟ ويركب الهون سامعا ؟ ولكن ما نحلتك التى تنصرها ؟ قال: أنادى عليها فى سوق، ولا أعرضها على شاك ولا أجادل فيها المؤمن، قال: فما تقول في القرآن ؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين، الذى يعجز عنه الخلق، إذا أرادوا الاطلاع على غيبته، وبحثوا عن خافي سره، وعجائب حكمته، فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله ! ! وليس له مثل مظنون، فضلا عن مثل متيقن، فقال له ابن عباد: صدقت، ولكن أمخلوق أم غير مخلوق ؟ فقال: إن كان مخلوقا كما يزعم خصمك، فما يضرك، فقال يا هذا: أبهذا تناظر فى دين الله ؟ وتقوم على عبادة الله ؟ قال: إن كان كلام الله نفعنى إيماني به، وعملي بمحكمه، وتسليمي لمتشابهه، وإن كان كلام غيره وحاش لله من ذلك، ما ضرني فأمسك عنه ابن عباد وهو مغيظ، ثم قال: أنت لم تخرج من خراسان بعد، فمكث الرجل ساعة ثم نهض، فقال له ابن عباد: إلى أين يا هذا ؟ قد تكسر الليل، بت ههنا، فقال: ' أنا بعد لم أخرج من خراسان' كيف أبيت بالرى، وخرج فارتاب به ابن عباد، فقفاه بصاحب له، وأوصاه بأن يتبع خطاه، ويبلغ مداه، من حيث لا يفطن له ولا يراه، فما زاغ الرجل عن باب ركن الدولة، حتى وصل ودخل فى ذلك الوقت الفائت إليه، فقيل لابن عباد ذلك، فطار نومه وقال: أى شيطان هبط علينا، وأحصى ما كنا فيه بلسان سليط، وطبع مريد، وكان هذا الكرابيسي عينا لركن الدولة بخراسان، فلذلك كان قريبا، وكان أحد رجالاته. ومما يدل على ولوع ابن عباد بالسجع، ومجاوزته الحد فيه بالإفراط، قوله يوما: ' حدثنى أن ناش.وكان من سادة الناش' جعل السين شينا، ومر في هذا الحديث وقال: هذه لغة، وكذب وكان كذوبا. وقال ابن عباد لشيخ من خراسان فى شئ جرى: والله لولا شئ لقطعتك تقطيعا، وبضعتك تبضيعا، ووزعتك توزيعا، ومزعتك تمزيعا، وجزعتك تجزيعا، وأدخلتك فى خزائنك، ثم وقف ساعة، ثم قال جميعا، قال: وملح هذه الحكاية ينبتر في الكتابة، وطربها ينقض في الرواية دون مشاهدة الحال، وسماع اللفظ، وملاحة الشكل، والتثني، والترنح والتهادي، ومد اليد، ولي العنق، وهز الرأس والأكتاف، واستعمال الأعضاء والمفاصل. قال: وحدثنا ابن عباد يوما قال: ما أفظعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبى، فقال له وهو يصعد إلي: اخلع نعلك، فقال: ولم ؟ ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني الضحك، وقلت: أتراه يريد أن يصفعني ؟. قال أبو حيان: وقال لى علي بن الحسن الكاتب: هجرني في بعض الأيام هجرا أضر بي، وكشف مستور حالي وذهب على أمرى، ولم أهتد إلى وجه حيلة فى مصلحتي، وورد المهرجان، فدخلت عليه في غمار الناس، فلما أنشد نوبتين تقدمت فلم يهش لي، ولم ينظر إلى، وكنت ضمنت أبياتي بيتا له من قصيدة على روى قصيدتى، فلما مر به البيت، هب من كسله، ونظر إلى كالمنكر على، فطأطأت رأسى، وقلت بصوت خفيض، لا تلم ولا تزد فى القرحة، فما على محمل، وإنما سرقت هذا من قافيتك، لأزين به قافيتى، وأنت بحمد الله تجود بكل علق ثمين، وتهب كل در مكنون، أتراك تشاحني على هذا القدر، وتفضحني فى هذا المشهد، فرفع رأسه وصوته وقال: يابني أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: أحسنت يا هذا، ارجع إلى أول قصيدتك، فقد سهونا عنك، وطار الفكر بنا إلى شأن آخر، والدنيا مشغلة، وصار ذلك ظلما بغير قصد منا ولا تعمد:قال: فأعدتها وأمررتها، وفغرت فمي بقوافيها، فلما بلغت آخرها قال: أحسنت، الزم هذا الفن، فإنه حسن الديباجة، وكأن البحتري استخلفك، وأكثر بحضرتنا، وارتفع بخدمتنا، وابذل نفسك في طاعتنا، نكن من وراء مصالحك، بأداء حقك، والجذب بضبعك، والزيادة في قدرك على أقرانك. قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير، حتى عراه نوك آخر، فوضعني في الحبس سنة، وجمع كتبي وأحرقها بالنار، وفيها كتب الفراء، والكسائي، ومصاحف القرآن، وأصول كثيرة في الفقه والكلام، فلم يميزها من كتب الأوائل، وأمر بطرح فيها من غير تثبيت، بل لفرط جهله، وشدة نزقه، فهلا طرح النار فى خزانته، وفيها كتب ابن الرواندى، وكلام ابن أبى العرجاء في معارضة القرآن بزعمه، وصالح بن عبد القدوس أبي سعيد الحصيري، وكتب أرسططاليس، وغير ذلك، ولكن من شاء حمق نفسه. قال أبو حيان: وحدثني محمد بن المرزباني قال: كنا بين يديه ليلة فنعس، وأخذ إنسان يقرأ الصافات، فاتفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر، نعس أيضا، وضرط ضرطة منكرة، فانتبه وقال: يا أصحابنا، نمنا على والصافات، وانتهينا على والمراسلات، وهذا من نوادره وملحه. وحدثنى أيضا قال: انفلتت ليلة أخرى ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل، فقال على حدته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه، يعنى فلتة، لأنه قيل في بيعة أبي بكر: كانت فلتة. قال: وقال قوم من أهل أصبهان لابن عباد، لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن فى آخر شعبان، بماذا كنا نصلي التراويح في رمضان ؟ قال: لو مات القرآن، كان رمضان يموت أيضا، ويقول: لا حياة لي بعدك، ولانصلي التراويح ونستريح. قال أبو حيان: واسمع ما هو أعجب من هذا، ناظر بالري اليهودي رأس الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه اليهودي فيه طويلا، وماتنه قليلا، وتنكر عليه حتى احتد، وكاد يتقد، فلما علم أنه قد سجر تنوره، وأسعط أنفه، احتال طلبا لمخادعته، ورفقا به في مخاتلته، فقال أيها الصاحب: فلم تتقد وتستشيط ؟ وتلتهب وتختلط ؟ كيف يكون القرآن عندى آية، ودلالة ومعجزة، من جهة نظمه وتأليفه ؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين، وكان البلغاء فيما تدعى عنه عاجزين، وله مذعنين، فهأنا أصدق عن نفسه، وأقول ما عندي: إن رسائلك وكلامك، وفقرك وماتؤلفه، وتباده به نظما ونثرا، هو فوق ذلك، أو مثل ذلك، وقريب منه، وعلى كل حال، فليس يظهر لى أنه دونه، وأن ذلك سيستعلى عليه بوجه من وجوه الكلام، أو بمرتبة من مراتب البلاغة، فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد، وسكن عن حركته، وانحمص ورمه به، وقال: ولا هكذا ياشيخ: كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا، ومن البيان نصيبا ظاهرا، ولكن القرآن له المزية التى لا تجهل، والشرف الذى لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أثم حسن وبهاء، مما يخلقه العبد بطلب وتكلف، هذا كله يقوله، وقد خبا حميه، وتراجع مزاجه، وصارت ناره رمادا، مع إعجاب شديد قد شاع فى أعطافه، وفرح غالب قد دب فى أسارير وجهه، لأنه رأى كلامه شبيها بالقرآن، لدى اليهود وأهل الملل. وقال بعض الشعراء فى ابن عباد يذم سجعه، وخطه وعقله:

متقلب كافى الكفاة وإنما

هو في الحقيقة كافر الكفار

السجع سجع مهوس والخط خطط

منقرس والعقل عقل حمار

وكان ذو الكفايتين ابن العميد يقول: خرج ابن عباد من عندنا من الرى، متوجها إلى أصفهان، ومنزله ورامين، وهى قرية كالمدينة، فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح، لا لشيء إلا لكتب إلينا'كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار'. قال أبو حيان: وكان ابن عباد يروى لأبي الفضل بن العميد كلاما في رقعة إليه، حين استكتبه لمؤيد الدولة، وهو: 'بسم الله الرحمن الرحيم' مولاي: وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدمت علينا رياسته.فإنه يعدنى سيدا ووالدا،.كما أعده ولدا واحدا.ومن حق ذلك، أن يعضد رأيى برأيه، ليزداد استحكاما، ونتظاهر عقدا وإبراما. وحضرت اليوم مجلس مولانا ركن الدين، ففاوضني ما جرى بينه وبين مولاى طويلا، ووصل به كلاما بسيطا، وأطلعنى على أن مولاى، لا يزيد بعد الاستقصاء والاستيفاء، على التقصي والاستعفاء، وألزم عبده أن أكره مولاي إكراها في المسألة، وأجبره إجبارا في الطلبة، علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز، لم يرد وساطتي أخذا بالتطول، وأقول بعد أن أقدم مقدمة: مولاي غنى عن هذا العمل بتصونه، وتصلفه وعزوفه، وبهمته عن التكثر بالمال وتحصيله، لكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته، وما أقول: إن مرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، وبذر ومن عطاء ومنع، فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفى آلات الوزارة معدودا، ففى كتاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه ما يسر مساعيه، ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب ولده، ومن هو ولي عهده من بعده، والمأمول ليومه وغده، - أدام الله أيامه - وبلغه فيه مرامه، ولا بد وإن كان الجوهر كريما، والسنخ قديما.والمجد صميما، ومركب العقل سليما، من ينوب مناب من تعلم ما السياسة ؟ وما الرياسة ؟ وكيف تدبير العامة والخاصة ؟ وبماذا تعقد المهابة ؟ ومن أين تجلب الأصالة والإصابة ؟ وكيف ترتب المراتب، ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب ؟ وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحفظ الإمرة، ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه، فيرده إذا بدر منه الرأى المنقلب.ويراجعه إذا جمع به اللجاج المرتكب.ويعاوده إذا ملكه الغضب الملتهب.فلم يكن السبب في أن أفسدت ممالك جمة، وبلدان عدة، إلا أن خفضت أقدار الوزارة، فانقبضت أطراف الإمارة، وليس يفسد على ما أرى بقية الأرض، إلا إذا استعين بأذناب على هذا الأمر، فلا يبخلن مولاي على ولى نعمته، بفضل معرفته، فمن هذه الدولة، جرى ما فضله، وفضل الشيخ الأمين من قبله، وإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا باهتمامي، فلا يقعن انقباض عني، وإعراض عما سبق مني.ومولاي محكم الإجابة إلى العمل فيما يقترحه، وغير مراجع فيما يشترطه، وهذا خطى به، وهو على ولي النعمة، حجة لايبقى معها شبهة، وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة، إما بحضورى لديه، أو بتجشمه إلى هذا العليل الذى قد ألح النقرس عليه.وكان ابن عباد يحفظ هذه النسخة، ويرويها ويفتخر بها. قال أبو حيان: وقال لي أصحابنا بالري، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج، إن هذه المخاطبة من كلام ابن عباد، افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه، تشيعا بها، ونفاقا بذكرها. قال: وكان ابن عباد ورد الري سنة ثمان وخمسين، مع مؤيد الدولة، وحضر مجلس ابن العميد، وجرى بينه وبين مسكويه كلام، ووقع تجاذب، فقال مسكويه: فدعني حتى أتكلم، ليس هذا نصفة إذا أردت ألا أتكلم، فدع على فمي مخدة فقال الصاحب: بل أدع فمك على المخدة، وطارت النادرة ولصقت، وشاعت بين الناس وبقيت. قال: ودخل الناس في مذهب ابن عباد، فقالوا بقوله، رغبة فيما لديه، واجتهد بالحسين المتكلم الكلابى، أن ينتقل إلى مذهبه، فقال الحسين: دعني أيها الصاحب أكن مستحدا لك، فما بقي غيري، فإن دخلت في المذهب، لم يبق بين يديك، من ينبو عليك قبيحه، ويبدو للناس عواره، فضحك وقال: قد أعفيناك يا أبا عبد الله.'وبعد' فما نبخل عليك بنارجهنم، أصل بها كيف شئت.قال لنا الحسين بعد ذلك: أترانى أصلى بنار جهنم، وعقيدتى وسريرتى معروفتان، ويتبوأ هو الجنة مع قتل النفس المحرمة، وركوب المحظورات العظيمة، وإن ظنه بنفسه لعجب، - لحي الله الوقاح - وقال يوما صدر قول الشاعر:

والمورد العذب كثير الزحام

فسكتت الجماعة، فقال ابن الداري:

يزدحم الناس على بابه

فأقبل عليه بغيظ وقال: ما عرفتك إلا متعجرفا جاهلا، أما كان لك بالجماعة أسوة. قلت لأبى السلم نجبة بن علي القحطاني الشاعر: أين ابن عباد من ابن العميد ؟ فقال: زرتهما منتجعا وزرتهما جميعا، فكان ابن العميد أعقل، وكان يدعي الكرم، وابن عباد أكرم، ويدعي العقل، وهما في دعواهما كاذبان، وعلى سجيتهما جاريان. أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في ظل دولة

جمال ولا مال تمنى انتقالها

وما ذاك من بغض لها غير أنه

يؤمل أخرى فهو يرجو زوالها

فرفع إليه إنشادي، فأخذنى وأوعدني، وقال: انج بنفسك، فإنى إن رأيتك بعد هذا، أولغت الكلاب دمك، وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام، فأنشدت البيتين على سهو، فرفع الحديث إليه، فدعاني ووهب لى دريهمات وخريقات، وقال: لا تتمن انتقال دولتنا بعد هذا. قال أبو السلم: هذا من أعذر الناس في الشعر، يحفظ الطم والرم، وقال الخليلي: الرجل مجنون 'يعنى ابن عباد' في طباع المعلمين، سمعته يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر ؟ وإن قلت كيف تجيد ؟ وإن أجدت فكيف تغرز ؟ وإن غزرت فكيف تروم غاية، وأنت لا تعرفما الزهزيق، وما الهبلع، وما العثلط، وما الجلعلع، وما القهقب، وما القهبلس، وما الخلبوس، وما الخزعبلة، وما القذعملة، وما العمروط، وما الجرفاس، وما اللئوس، وما النعشل، وما الطريال، وما الفرق بين العرم، والردم، والحدم، والحذم، والقضم، والخضم، والنضح، والرضح، والفصم، والقصم، والقصع، والفصع، وما العبنقس، وما العلنكس، وما الوكال، والزومل، ومالخيعثور، واليستعور، وما الشنعوف، وما الخذروف، وما الحلزون، وما القفندد، وما الجمعليل: قال الشاعر:

جاءت بخف وحنين ورحل

جاءت تمشى وهى قدام الإبل

مشى الجمعليلة بالخرق النقلقال: ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول: وحنين وزجل، قلت للخليلى من عنى بهذا ؟ قال ابن فارس: معلم ابن العميد أبي الفتح، قال الخليلى: فهذا الضرب من الكلام يجب أن يفتخر بمثله، ويترقق به، إنك يا أبا حيان، لو رأيته يمشى وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق ويلوي شدقيه عليه، ويقذف بالبصاق على أهل المجلس، لحمدت الله على العافية مما يلي هذا الرجل به، ' وبعد' فما بين الشاعر وهذا الضرب ؟ الشاعر يطلب لفظا حرا، ومعنى بديعا، ونظما حلوا، وكلمة رشيقة، ومثلا سهلا، ووزنا مقبولا. قال أبو حيان: عندما قارب الفراغ من كتابه في أخلاق الوزيرين، ولو لا هذين الرجلين أعنى ابن عباد، وابن العميد، كانا كبيرى زمانهما، وإليهما انتهت الأمور، وعليهما طلعت شمس الفضل، وبهما ازدانت الدنيا، وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا، والقبيح يؤثر عنهما أثرا، لكنت لا أتسكع فى حديثهما هذا التسكع، ولا أنحى عليهما بهذا الحد، ولكن النقص ممن يدعي التمام أشنع، والحرمان من السيد المأمول فاقرة، والجهل من العالم منكر، والكبيرة ممن يدعى العصمة جائحة والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب. ولو أردت مع هذا كله، أن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجبل والديلم، إلى وقتك هذا المؤرخ فى الكتاب لم تجد. قال: وقال ابن عباد يوما: كان أبو الفضل 'يعنى ابن العميد' سيدا، لم يشق غبارنا، ولا أدرك شوارنا، ولا مسح عذارنا، ولا عرف غرارنا، لا فى علم الدين، ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين.فأما ابنه: فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طياش قلاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش، والهروى الحواش، وولدت والشعرى في طالعي، ولو لا دقيقة لآدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها، والنصرة لها، فمن ذا يجارينا أو يبارينا، ويغارينا، أو يمارينا، ويشارينا. قال: وسمعته يقول لابن ثابت، جعلك الله ممن إذا خرئ سطر، وإذا بال قطر، وإذا فسا غبر، وإذا ضرط كبر، وإذا أعجف عبر. قال: وهذا سخف لا يليق بأصحاب الفرصة، والذين اختلفوا إلى الخندق، ودارك ومنوقان، والزبيدية، والرمادة، والخلد. قال وأنشد أبو دلف الخزرجى:

يا ابن عباد بن عباس

بن عبد الله حرها

تنكر الجبر وقد أخرجت

من دنياك كرها

قال علي ابن عطاء: إن عطاء ابن عباد: لا يزيد على مائة درهم، وثوب إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى الألف نادر، وما يوفى على الألف بديع، بلى، قد نال بن ناس من عرض جاهه على السنين، ما يزيد قدره على هذا بأضعاف، وعدد هؤلاء قليل جدا، وذلك بابتذال النفس، وهتك الستر. قال: ولقد بلغ من ركاكته، أنه كان عنده أبو طالب العلوي، فكان إذا سمع منه كلاما يسجع فيه، وخبرا ينمقه ويرويه، يبلق عينيه، وينشر منخريه، ويرى أنه قد لحقه غشى حتى يرش على وجهه ماء الورد، فإذا أفاق قيل: ما أصابك ؟ ما عراك ؟ ما الذي نالك وتغشاك ؟ فيقول: ما زال كلام مولاي يروقني ويؤنقني حتى فارقني لبي، وزايلني عقلي، وتراخت مفاصلي، وتخاذلت عرى قلبي، وذهل ذهني، وحيل بيني وبين رشدى، فيتهلل وجه ابن عباد عند ذلك، وينتفش ويضحك عجبا وجهلا، ثم يأمر له بالحباء والتكرمة، ويقدمه على جميع بنى أبيه وعمه، ومن ينخدع هكذا، فهو بالنساء الرعن أشبه، وبالصبيان الضعاف أمثل.وذكر الوزير أبو سعد، منصور بن الحسين الآبي في تاريخه، من جلالة قدر الصاحب، وعظم قدره في النفوس، وحشمته، مالم يذكر لوزير قبله، ولا بعده مثله، وأنا ذاكر ما ذكر على ما نسقه، قال: توفيت أم كافي الكفاة بأصبهان، وورد عليه الخبر، فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من محرم، سنة أربع وثمانين، وركب إليه سلطانه وولى نعمته، فخر الدولة، بن ركن الدولة معزيا، ونزل وجلس عنده طويلا يعزيه، ويسكن منه، وبسط الكلام معه بالعربية، وكان يفصح بها، فسمعته يقول حين أراد القيام: أيها الصاحب، هذا جرح لا يندمل، فأما سائر الأمراء والقواد، مثل منوجهر بن قابوس، ملك الجبل، وفولاذ بن ما نادر، أحد ملوك الديلم، وأبي العباس الفيروزان بن خالد، فخر الدولة وغيرهم، من الأكابر والأماثل، فإنهم كانوا يحضرون حفاة حسرا، وكان كل واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب، قبل الأرض، ثم توالى بعد ذلك إلى ان يقرب منه، ويأمره بالجلوس فيجلس، وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد، بل كان جالسا على عادته فى غير أيام التعزية، فلما أراد القيام من المعزى بعد الثالث، كان أول من أمر أن يقدم إليه اللكاء منوجهر بن قابوس، فإنه قال: يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه، فقدم إليه، ومنع من الخروج من الدار حافيا، ثم قدم بعد ذلك الحجاب والحاشية اللكاوات إلى الجماعة، فغضب فولاذ بن مانادر، والفولاذ دريدية عليه ذلك، وقالوا: ميز منوجهر من بين الجماعة، فاحتج الصاحب ببيته العظيم، ورياسته القديمة. قال: وخطب كافي الكفاة ابنة أبى الفضل بن الداعي، لسبطه عباد بن الحسين، ووقع الإملاك فى داره يوم الخميس، لاربع خلون من شهر ربيع الأول، سنة أربع وثمانين، وكان يوما عظيما احتفل فيه كافي الكفاة، ونثر من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، لذلك أنفذ له فخر الدولة على يدى أحد حجابه الكبار، إلى هناك من النثار، ما زاد على مائة طبق عينا وورقا، وحضر الفولاذ دريدية بأسرهم، فإن الابنة المزوجة، كانت ابنة ديكونة بنت الحسن، بن الفيروزان، خالة فخر الدولة، وكان القوم أخوالها، وأضافهم الصاحب، ونصبت مائدة عظيمة في بيت طوله يزيد على خمسين ذراعا، وكانت بطول البيت، وأجلس عليه ستة أنفس، وكان فولاذ بن مانا وكبات بن بلقسم في الصدر، وبجنب فولاذ، أبو جعفر بن الثائر العلوي، وبجنبه الآخر، أبو القاسم بن القاضى العلوي، ودون أحد العلويين كاكي ابن يشكر زاد، ودون الآخر مرداويج الكلاري، ووقف أبو العباس الفيروزان، وعبد الملك بن ما كان للخدمة، ووقف كافي الكفاة أيضا ساعة، ووقف جميع أكابر الكتاب والحجاب، مثل الرئيس أبى العباس، أحمد بن إبراهيم الضبى، وأبى الحسين العارض، وأخيه أبى على، وابنه أبى الفضل، وأبى عمران الحاجب وغيرهم.إلى أن فرغ القوم من الأكل، ثم أكل هؤلاء مع الصاحب على مائدة منفردة، وأما قاضى القضاة، والأشراف والعدول، فإنهم أطعموا على مائدة أخرى فى بيت آخر. قال: وكان نصر بن الحسين، بن الفيروزان، وهو خال فخر الدولة، مقداما شجاعا، قليل المبالاة، قد استعصى على فخر الدولة، واقتطع من بلاده، وتغلب عليها، واحتال على جماعة من عساكره، فقتلهم بأنواع القتل، ثم كسر له عدة عساكر، إلى أن تكاثرت عساكر فخر الدولة فكسرته، وشتتت جموعه، وهرب نحو خراسان، حتى صار إلى إسفرايين، ثم بدا له أن سلك طريق المفارة فيها، حتى ورد الى ليلة الجمعة، لست بقين من شوال، سنة أربع وثمانين، وقصد في الليل باب كافة الكفاة مستجيرا به، ومستعطفا له، فلم يرق له، ورد إلى دار بعض حجاب فخر الدولة، فحبس فيها. قال الوزير أبو سعد: وكنت في هذه الليلة بحضرة كافي الكفاة، فأتاه الحاجب، وقد مضى هزيع من الليل، فأخبره بوقوف نصر بن الحسن، بن الفيروزان على الباب، خاشعا متضرعا، فرأيته قد تحبر في الأمر ساعة، ثم راسله بأن السلطان الأعظم - يعني فخر الدولة - ساخط عليك، ولا يجوز لي أن آذن لك في دخول داري، إلا بعد تترضاه، وتستعطف قلبه، فإذا عفا عنك ورجع لك، فالدار بين يديك، وأنا معين لك.فعاد الحاجب إليه بذلك، ورجع فقال: إنه امتنع من العود وقال: إنما جئت إلى الصاحب لائذا به، ومنقطعا إليه، ولا أعرف غيره، وأنا أحتاج أن يدبر أمري، ويجبرني ويحامي على، ويذب عني، فرأيت الصاحب وقد مال رأيه بين إحدى خصلتين: إما أن يستمر على المنع ولا يأذن له، وإما أن يأذن له، ويجعل داره بما فيها من الخزائن له، وينتقل هو إلى دار كانت لحاجبه الراوندي، وكان قد أضافها بعد موت هذا الحاجب إلى داره.ثم تقرر رأيه على صرفه، واستمر نصر على الإلحاح فى الخضوع، والاجتهاد أن يأذن له في الدخول، وانتقل من الباب الكبير إلى باب الخاصة، سأل واجتهد إلى أن جاءه من قبل فخر الدولة، علوسة الحاجب وحبسه، وكان هذا الفعل من الصاحب مستهجنا، يعجب الناس منه، وتحدثوا به واستقبحوه، مع ما اظهره نصر من الاستكانة والاستجارة به.وأظن أنه لم يفعل ذلك، إلا لأنه جبن عن الاجتماع معه في دار واحدة، مع العداوة المتأكدة بينهما، والضغينة الراسخة في قلب كل واحد منهما. ثم ذكر وفاة الصاحب، في الوقت الذى ذكره غيره، وكما ذكرناه آنفا.ثم قال: وتوفي فخر الدولة عشية يوم الثلاثاء، عاشر شعبان، وكان مبلغ عمره أربعا وأربعين سنة، وستة أشهر وأياما.ثم وصف أخلاقه وجيوشه، وقلاعه وأمواله، التي خلفها، ثم قال: فأما الوزارة في أيامه، فكانت أشهر من أن يحتاج إلى ذكرها، فإن اول وزرائه كان كافي الكفاة.وأسنة الأقلام، وعذبات الألسنة تكل دون أيسر أوصافه، وأدنى فضائله، ولو لا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام، واعتقاد من لم يعلم حالها فى ذلك الزمان، بأن الأمر كان ولم يزل على ما نراه، أو قريبا منه وشبيها به، لأمسكنا عن ذكره، ولكنا نذكر يسيرا من أحواله، فإن هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك، والأمراء والقواد، وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار، مثل أولاد مؤيد الدولة، وابن عز الدولة، ومنوجهر بن قابوس، بن وشمكير، وأبى الحجاج بن ظهير الدولة، وأسفهيد بن أسفار، وحسن بن وشمكير، وفولاذ بن مانادر، ونصر بن الحسن بن الفيروزان، وأبى العباس الفيروزان، ابن الحسن، بن الفيروزان، وكبات بن بلقسم، بن الفيروزان، وحيدر بن وهسوذان، وكيخسرو بن المرزبان، ابن السلار، وجستان بن نوح، بن وهسوذان، وشيرزيل ابن سلار، بن شيرزيل، وكان في يد كل واحد من هؤلاء من الأقطاع، ما يبلغ ارتفاعه خمسين ألف دينار، وما دونها إلى عشرين ألف دينار، ومن اكابر القواد ما يطول تعدادهم، كانوا يحضرون باب داره، فيقفون على دوابهم مطرقين، لايتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه، إلى أن يخرج أحد خلفاء حجابه، فيأذن لبعض أكابرهم، ويصرفهم جملة، فكان من يؤذن له فى الدخول، يظن أنه قد بلغ الآمال، ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة، وشرفا وتعظيما، فإذا حصل فى الدار، وأذن له فى الدخول إلى مجلسه، قبل الأرض عند وقوع بصره عليه، ثلاث مرات أو أربعا، إلى أن يقرب منه، فيجلس من كانت رتبته الجلوس، إلى أن يقضى كل واحد منهم وطره من خدمته، ثم ينصرف، بعد أن يقبل الأرض أيضا مرارا.ولم يكن يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع منه أحد فى ذلك. ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة، يعرف بعبد الله بن إسحاق، فقام له: فلما خرج التفت كافى الكفاة وقال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام، منذ عشرين سنة، وإنما فعل ذلك به لزهده، فإنه كان أحد أبدال دهره، فأما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه، فلا يحفل به.وأما هيبته في الصدور، ومخافته في القلوب، وحشمته عند الصغير والكبير، والبعيد والقريب، فقد بلغت إلى أن كان صاحبه فخر الدولة، ينقبض عن كثير مما يريده بسببه، ويمسك عما تشره إليه نفسه لمكانه، وقد ظهر ذلك للناس بعد موته، وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته، فعلم أنه كان يزم نفسه لحشمته، ثم كان يحله محل الوالد إكراما وإعظاما، ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا، فأما أكابر الدولة، فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه، بل أحد الأصاغر من حاشيته، فإن فرائضه كانت ترتعد، وجوانحه كانت تصطفق، إلى أن يعلم ما يريده منه، ويخاطبه به. وتظلمت إليه امرأة من صاحب لفولاذ بن مانادر، وذكرت أنه ينازعها في حق لها، فما زاد على أن التفت إلى فولاذ، وكان في موكبه يسير خلفه، فبهت وتحير، وارتعد ووقف، ولم يبرح إلى أن سار كافى الكفاة، ثم أرسل مع المرآة من أرضاها، وأزال ظلامتها، ومثل هذا كثير يطول الكتاب ببعضه، فكيف يتسع لكله. وأما أسبابه وحاشيته، وهيبته ورتبته، فإن من أيسرها أنه كان له عدة من الحجاب، منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدواب، أو ما يقاربها، وكانت أحوال بلكا الحاجب، تزيد على ذلك زيادة كثيرة، فإنه كان على مربط خليفة له يعرف بيزيدة، كثير من الخيل العتاق الموصوفة، وكان لا يستغني عنها، لأنه كان موقوفا على حفظ الطرق، وطلب الأكراد، وأهل العيث وصيانة السابلة، وكان ما يخرج لكافى الكفاة فى السنة، في وجوه البر والصدقات والمبرات، وصلات الأشراف وأهل العلم، والغرباء الزوار، ومن يجري مجرى ذلك، مما يتكلفه به صيت الدنيا، وأجر الآخرة، يزيد على مائة ألف دينار. وانتقلت الوزارة عنه إلى أبى العباس، أحمد بن إبراهيم الضبي، وأبي علي الحسن، بن أحمد، بن حمولة، والسياسة التى قد سنها هو باقية، وحشمة الوزارة ثابتة، والأمور على ما عهد في أيامه جارية، وكان لهما من الحشم والحاشية، والتجمل والزينة، مثل ما كان له، بل كان فوقه فى الغنى والثروة، وإن لم يلحقاه في الفضل والمكرمة. قال غرس النعمة: حدث أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى النصيبي قال: كان أبو الفتح على بن أبى الفضل، بن العميد، قد دبر على الصاحب بن عباد، حتى أزاله عن كتابة الأمير مؤيد الدولة، وأبعده عن حضرته بالري إلى أصفهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة، كما كان يدبرها لأبيه ركن الدولة، واستدعى يوما ندماءه، وعبأ لهم مجلسا عظيما، وأظهر من الزينة وآلات الفضة، والذهب والصينى وما شاكله، ما يفوت الحصر، وشرب واستفزه الطرب، وكان قد شرب يومه وليلته، فعمل شعرا غنى به، وهو:

دعوت المنى ودعوت العلا

فلما أجابا دعوت القدح

وقلت لأيام شرخ الشباب

ألا إن هذا أوان المرح

إذا بلغ المرء آماله

فليس له بعدها مقترح

فلما غنى بالشعر استطابه، وشرب عليه إلى أن سكر، وقال لغلمانه: غطوا المجلس، ولاتسقطوا منه شيئا، لأصطبح في غد عليه، وقال لندمائه: باكروني، وقام إلى بيت منامه، وانصرف عنه الندماء، فدعاه مؤيد الدولة في السحر، فلم يشك أنه لمهم، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها وأعاد ابن عباد إلى وزارته، وطاولت بابن العميد النكبة، حتى مات فيها، كما ذكرناه فى ترجمته. ثم وزر ابن عباد بعد مؤيد الدولة لأخيه فخر الدولة، فبقى فى الوزارة ثمانى عشرة سنة وشهورا، وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة، لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا أخيه، وسمع الصاحب الحديث وأملى. فحدث أبو الحسن، على بن محمد الطبري الكيا قال: لما عزم الصاحب بن عباد، على الإملاء وهو وزير، خرج يوما متطلسا متحنكا بزى أهل العلم، فقال: قد علمتم قدمي في العلم، فأقروا له بذلك، فقال: وأنا متلبس بهذا الأمر، وجميع ما أنفقته من صغرى إلى وقتي هذا، من مال أبي وجدي، ومع هذا فلا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أنى تائب إلى الله، من ذنب أذنبته.واتخذلنفسه بيتا وسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، ثم خرج فقعد للإملاء، وحضر الخلق الكثير، وكان المستملى الواحد ينضاف إليه ستة، كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار، وأهدي إليه العميري كتبا، وكتب معها:

العميري عبد كافي الكفاة

وإن اعتد في وجوه القضاة

خدم المجلس الرفيع بكتب

مفعمات من حسنها مترعات

فوقع الصاحب تحتها:

قد قبلنا من الجميع كتابا

ورددنا لوقتها الباقيات

لست أستغنم الكثير فطبعى

قول خذ، ليس مذهبى قول هات

حدث أبو الرجاء الضرير، الشطرنجي العروضي، الشاعر الأهوازي بالأهواز، قال: قدم علينا الصاحب ابن عباد، في السنة التى جاء فيها فخر الدولة، ولقيه الناس ومدحه الشعراء، فمدحته بقصيدة قلت فيها:

إلى ابن عباد أبى القاسم الصاحب

إسماعيل كافي الكفاة

فقال: قد كنت والله أشتهي بأن تجتمع كنيتي واسمي، ولقبى واسم أبي في بيت، فما انتهيت إلى قولي فيها:ويشرب الجيش هنيئا بهافقال يا أبا الرجاء: أمسك، فأمسكت، فقال:

ويشرب الجيش هنيئا بها

من بعد ماء الري ماء الصراة

هكذا هو ؟ قلت نعم، قال: أحسنت، قلت يا مولاي: أحسنت أنت، عملت أنا هذا في ليلة، وأنت عملته في لحظة. قال عبد الله الفقير غليه: وممن ذكر نسب الممدوح كاملا، الحارث الدؤلي، في عاصم بن عمرو، بن عثمان، ابن عفان:

إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بن

عمرو سرت عيس فطال سراها

ومن مستحسن شعر الصاحب:

دعتنى عيناك نحو الصبا

دعاء تكرر في كل ساعة

فلو لا 'وحقك' عذر المشيب

لقلت لعينيك سمعا وطاعة

وحدث البديع الهمذانى قال: كان بعض الفقهاء ويعرف بابن الحضيري، يحضر مجلس الصاحب بالليالى، فغلبته عينه ليلة فنام، وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:

يا بن الحضيرى لا تذهب على خجل

لحادث كان مثل الناى والعود

فإنها الريح لا تسطيع تحبسها

إذ لست أنت سليمان بن داوود

ولأبى بكر الخوارزمى في ابن عباد:

لاتحمدن ابن عباد وإن هطلت

كفاه يوما ولاتذممه إن حرما

فإنها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما

فلما مات الخوازمي، بلغ الصاحب وفاته فقال:

أقول لركب من خراسان رائح

أمات خوارزميكم ؟ قيل لي نعم:

فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره

'ألا لعن الرحمن من كفر النعم'

وحدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي، في كتاب مشارب التجارب، وذكر الصاحب فقال: أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس، الوزير ابن الوزير، كما قال الرستمي فيه:

ورث الوزارة كابرا عن كابر

موصولة الإسناد بالإسناد

يروي عن العباس عباد وزارته

واسماعيل عن عباد

قال: مولده بكورة فارس، في ذي العقدة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ومدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين، وممن كان ببابه: قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الأسدأباذى، وكان قد فوض إليه قضاء همذان والجبال، واستقبل القاضي عبد الجبار الصاحب يوما، فلم يترجل له، فقال: أيها الصاحب، أريد أن أترجل للخدمة، ولكن العلم يأبى ذلك، وكان يكتب في عنوان كتابه: ' إلى الصاحب: داعيه، عبد الجبار بن أحمد' ثم كتب' وليه عبد الجبار بن أحمد'، ثم كتب ' عبد الجبار بن أحمد' فقال الصاحب لندمائه: أظنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار. وأنشد الصاحب لنفسه يرثي:

يقولون لي أودى كثير بن حمد

وذلك رزء ما علمت جليل

فقلت دعوني والعلا نبكه معا

فمثل كثير في الرجال قليل

وذكر هلال بن المحسن، عن أبي طاهر بن الحمامي، عن الأنباري الكاتب، قال: ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشام، فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم ؟ فقال: رسائل بن عبد كان.قال ومن ؟ قال: رسائل الصابيء.وغمزه أحد جلسائه ليقول: رسائل الصاحب فلم يفطن، ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحس وكان صاحب خراسان، الملك نوح بن منصور السامانى، قد أرسل إلى الصاحب في السر يستدعيه إلى حضرته، ويرغبه في خدمته، وبذل البذول السنية، فكان من جملة اعتذاره أن قال: كيف يحسن لي مفارقة قوم بهم ارتفع قدرى، وشاع بين الأنام ذكرى، ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي ؟ وعندي من كتب العلم خاصة، ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر. قال أبو الحسن البيهقي: وأنا أقول: بيت الكتب الذى بالرى، دليل على ذلك، بعدما أحرقه السلطان محمود ابن سبكتكين، فإني طالعت هذا البيت، فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محمودا لما ورد إلى الري، قيل له: إن هذه الكتب، كتب الروافض، وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان فى علم الكلام، وأمر بحرقه.وللصاحب من التصانيف: كتاب المحيط باللغة عشرة مجلدات، كتاب ديوان رسائله عشرة مجلدات، كتاب الكافى رسائل، كتاب الزيدية، كتاب الأعياد وفضائل النوروز، كتاب في تفضيل على بن أبى طالب.وتصحيح إمامة من تقدمه، كتاب الوزراء لطيف، كتاب عنوان المعارف في التاريخ، كتاب الكشف عن مساوئ المتنبى، كتاب مختصر أسماء الله تعالى وصفاته، كتاب العروض الكافى، كتاب جوهرة الجمهرة، كتاب نهج السبيل فى الأصول، كتاب أخبار أبي العيناء، كتاب نقض العروض، كتاب تاريخ الملك واختلاف الدول، كتاب الزيدين، كتاب ديوان شعره. وقال بعض ولد المنجم بعد وفاة الصاحب، وقد استوزر أبو العباس الضبى، ولقب بالرئيس، وضم إليه أبو علي، ولقب بالجليل:

والله و الله لا أفلحتم أبدا

بعد الوزير ابن عباد بن عباس

إن جاء منكم جليل فاقطعوا أجلي

أو جاء منكم رئيس فاقطعوا راسي

ومن شعر الصاحب:

وشادن جماله

يقصر عنه صفتي

أهوى لتقبيل يدي

فقلت: لا بل شفتي

وله:

قال لى إن رقيبى

سيء الخلق فداره

قلت: دعنى وجهك

الجنة حفت بالكاره

وله أيضا:

أقول وقد رأيت له سحابا

من الهجران مقبلة إلينا

وقد سحت عزاليها بسكب

حوالينا الصدود ولا علينا

حدث الوزير أبو العلاء بن حسولي قال: كان دينار المجوسي صدرا في ديوان الري، وكان مدنرا مدرهما ممولا، فكتب رجل إلى الصاحب:

لم لا يفرق في ديوان عسكره

كافي كفاة الورى دينار دينار

فإن أيسر ما في قطع شأفته

تطهير ديوانه من عابدي النار

فقبض عليه وصادره، واستوفى منه مالا عظيما، والسبب فى ذلك البيتان. وحدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول: مدحت والعلم عند الله، بمائة ألف قصيدة شعر، عربية وفارسية وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء، والزوار والقصاد، ما سررت بشعر، ولا سرني شاعر، كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصفهاني بقوله:

ورث الوزارة كابرا عن كابر

مرفوعة الإسناد بالإسناد

يروى عن العباس عباد وزارته

وإسماعيل عن عباد

وقال أبو الحسن، علي بن الحسين الحسني، ختن الصاحب يرثيه:

ألا إنها يمنى المكارم شلت

ونفس المعالي إثر فقدك سلت

حرام على الظلماء إن هي قوضت

وحجر على شمس الضحى إن تجلت

لتبك على كافي الكفاة مآثر

تباهي النجوم الزهر في حيث حلت

لقد فدحت فيه الرزايا وأوجعت

كما عظمت فيه العطايا وجلت

ألا هل أتى الآفاق أية غمة

أطلت، ونعمى أي دهر تولت

وهل تعلم الغبراء ماذا تضمنت

وأعواد ذاك النعش ماذا أقلت ؟

فلا أبصرت عينى تهلل بارق

يحاكي ندى كفيك إلا استهلت

ولو قبلت أرواحنا عنك فدية

لجدنا بها عند الفداء وقلت

قال أبو حيان: كان ابن عباد يأتى بالسجع فى أثر كلامه، مع روية طويلة، وأنفاس مديدة، وحشرجة صدر، وانتفاخ منخريه، والتواء شدقيه، وتعويج عنقه، واللعب بشاربه وعنفقته، فلو رأيته يقرر المسائل على هذه الأمثلة العجيبة، والبيان الشافي، لرأيت عجبا من العجائب، وضربا من الغرائب. وقال لى يوما الشابي وقد خرجنا من مجلس الصاحب: كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التغرير، وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس، فقلت: السكوت عن مثله إحدى الحسنيين، وأحرق الحاتين، ولكن نعوذ بالله ممن يوين له الشيطان عمله، ويزخرف له قوله.قال لي: كأنه لم يخلق هذا الرجل إلا غيظا لأكباد الأحرار، وشفاء لسقم الأنذال، - لحى الله دهرا آل بنا إليه -، وأنزلنا عليه، وأحوجنا إلى مقاساته، وألجأنا إلى مجالسته، وأنشد يقول:

يا من تبرمت الدنيا بطلعته

كما تبرمت الأجفان بالرمد

يمشي على الأرض مجتازا فأحسبه

من بغض طلعته يمشي على كبدي

لو كان في الأرض جزء من سماجته

لم يقدم الموت إشفاقا على أحد

قال أبو حيان: قال لي الشابي: أهدي ابن عباد إلى صاحبه وقت وردوهما إلى الأهواز دينارا من ضربه، وزنه ألف مثقال ! وكتابته:

وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة

فأسماؤه مشتقة من صفاته

فإن قيل دينار فقد صدق اسمه

وإن قيل ألف كان بعض سماته

بديع فلم يطبع على الدهر مثله

ولا ضربت أضرابه لسراته

وصار إلى شاهانشاه انتسابه

على أنه مستصغر لعفاته

تفاءلت أن يبقى سنين كوزنه

لتستمتع الدنيا بطول حياته

تأنق فيه عبده وابن عبده

وغرس أياديه وكافي كفاته

فقال: أرأيت أكذب منه حيث قال ؟.'فلم يطبع على الدهر مثله' ما كان في الدنيا من خدم ملكا بألف دينار، ثم قال: ' وكافي كفاته' والله لو كتبت امرأة بمثله إلى زوجها، لكان سمجا قبيحا، فكيف إلى فخر الدولة ! ! ما أحسن ما كفاه أمر أبي العلاء النصراني حين هزمه بعدد قليل، بعد أن كان في جيش عرمرم ثقيل، ولكن الدنيا حمقاء خرقاء، لا تميل إلا إلى مثلها، لو كتب المطهر أو نصر بن هارون، أو أحد وزراء عضد الدولة إليه بشيء من ذلك، لأحرقه بالنار والنفط، ومن كتاب الروزنامجة: قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذكروني بابن شمعون المتصوف، وكلامه على الناس في مكان الشبلي، فجمعت يوما في المدينة، وعلى طيلسان ومصمته، ووقعت عليه، وقد لبس فوطة قصب، وقعد على كرسي ساج، بوجه حسن، ولفظ عذب، فرأيته يقطع مسائله بهوس يطيله ويسهب فيه، فقلت: لا بد من أن أسأله عما أقطع به، وابتدرت فقلت: يا شيخ، ما تقول في قد سيكونيات العلم، إذا وقعت قبل التوهم، فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلت: هذا بعد التوهم، وإنما سألتك قبله إلى أن ضجر، فانصرفت عنه. قرأت بمصر في نسخة باليتمية للثعالبي، عليها خط يعقوب بن أحمد، بن محمد بالقراءة عليه، يرويها عن مؤلفها الثعالبي، فوجدت فيها زوائد، لا أعرفها فى النسخ المشهورة بأيدي الناس، منها:حدثني عرف بن الحسين، الهمذاني التميمي قال: كنت يوما فى خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت الحسبانات لكاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز، التي صارت فى تلك الشتوة، في خلع العلويين والفقهاء والشعراء، سوى ما صار فيها في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين، قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما، إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية، عليهم الخزوز الملونة الفاخرة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل له: إنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر أن يؤخذا ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه، وقال: - أيد الله الصاحب -:

إسمعه ممن قال تزدد به

عجبا فحسن الورد في أعضائه

فقال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتا منها:

سواك يعد الغني ما اقتنى

ويأمره الحرص أن يحزنا

وأنت ابن عباد المرتجى

تعد نوالك نيل المنى

وخيرك من باسط كفه

وممن ثناها قريب الجنى

غمرت الورى بصنوف الندى

فأصغر ما ملكوه الغنى

وغادرت أشعرهم مفحما

وأشكرهم عاجزا ألكنا

أيا من عطاياه تهدى الغنى

إلى راحتى من نأى أو دنا

كسوت المقيمين والزائرين

كسا لم نخل مثلها ممكنا

وحاشية الدار يمشون في

ضروب من الخز إلا أنا

فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة: ان رجلا قال له احملني، فأمر له بفرس وبغلة وحمار وناقة وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بحبة وقميص، وسراويل وعمامة، ومنديل ومطرف، ورداء وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة، وصيرت تلك الخلع عليه، وسلم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه. قال: وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي قال: عهدي بأبي محمد ماثلا بين يدي الصاحب، ينشده قصيدة أولها:

هذا فؤادك نهى بين أهواء

وذاك رأيك شورى بين آراء

هواك بين العيون النجل مقتسم

داء لعمرك ما أبلاه من داء

لا تستقر بأرض أو تسير إلى

أخرى بشخص قريب عزمه ناء

يوما بجزوى ويوما بالعقيق ويوما

بالعذيب ويوما بالخليصاء

وتارة تنتحى نجداً وآونة

شعب العقيق وطورا قصر تيماء

قال: فرأيت الصاحب متقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيدا لأكثر أبياته، مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين، فلما بلغ إلى قوله:

أدعى بأسماء نبزا في قبائلها

كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

أطلعت شعري فألقت شعرها طربا

فألفا بين إصباح وإمساء

زحف عن دسته طربا له، فلما بلغ إلى قوله فى المدح:

لو أن سحبان باراه لأسحبه

على خطابته أذيال فأفاء

أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها

إليه مستبقات أي إلقاء

فساس سبعتها منه بأربعة:

أمر ونهي وتثبيت وإمضاء

كذاك توحيده ألوى بأربعة:

كفر وجبر وتشبيه وإرجاء

فجعل يحرك رأسه ويقول: أحسنت أحسنت، فلما أنهى القصيدة، أمر له بجائزة وخلع. قال الأمير أبو الفضل الميكالي: كتب عامل رقعة إإلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل، فوقع الصاحب تحتها: من كتب لإشغالي لا يصلح لأشغالي. وحدث هلال بن المحسن: ما رؤى أحد وفي من الإعظام والإكبار بعد موته، ما وفيه الصاحب، فإنه لما جهز ووضع في تابوته، وأخرج على أكتاف حامليه للصلاة عليه، قام الناس بأجمعهم، فقبلوا الأرض بين يديه، وخرقوا عند ذلك ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم، وكان يلبس القباء في حياته تخففا بالوزارة، وانتسابا معها إلى الجندية وحدث عن أبي الفتح بن المقدر قال: كان أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر، من وجوه أهل أصبهان، وأعيانهم ورؤسائهم، فحدثني أنه رأى في منامه قائلا يقول له: لو كاثرت الصاحب أبا القاسم بن عباس، مع فضلك وكثرة علمك، وجودة شعرك، فقلت: أفحمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بم أبدأ منها ؟ وخفت أن أقصر، وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، قلت قل: فقال:ثوى الجود والكافي معا في حفيرةفقلت: ليأنس كل منهما بأخيهفقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقافقلت: ضجيعين في لحد بباب ذريهفقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهمفقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه 'باب ذريه: المحلة التى فيها تربته، أو ما يستقبلك من أصفهان'وحدث في كتاب الروزنامجة، وانتهيت إلى أبي سعيد السيرافي، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، حسن التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل، فسلمت عليه، وقعدت إليه، وبعضهم يقرأ الجمهرة، فقرأ: ألمقت، فقلت: إنما هو لمقت، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:

رسم دار وقفت فى طلله

كدت أقضى الغداة من جلله

فقلت: أيها الشيخ، هذا لايجوز، والمصراعان على هذا النشيد، يخرجان من بحرين، لأن:' رسم دار وقفت فى طلله 'فاعلاتن مفاعلن فعلن'كدت أقضي الغداة من جلله'مفتعلن مفعلات مفتعلنفذاك من الخفيف، وهذا من المنسرح.فقال: لم لا تقول: الجميع من المنسرح ؟ والمصراع الأول مخزوم.فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر، لأنه أوله مستفعلن مفاعلن، هذه مزاحفة عنه، وإذا حذفنا متحركا، بقينا ساكنا، وليس فى كلام العرب ابتداء به، وإنما هو:كدت أقضى الغداة من جلله بخفيف الضاد فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه، وابتدأ فقريء عليه من كتاب المقتضب، باب ما يجزي وما لايجزى، إلى أن ذكر وسحر، وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول، فقلت: ما علامة العدل فيه ؟ فقال: إنا قلنا السحر، ثم قلنا: سحر، فهلمنا أن الثاني معدول عن الأول قلت: لو كان كذلك، لوجب أن تطرد العلة في عتمة، فضجر واحتد، وصاح واربد وادعيت أنه ناقص، والتمس الحاكم، فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذت درج كتابى نسختها، وفيها خط أبى عبد الله بن رذامر عين مشايخهم، ورأيت الشيخ بعد ذلك عزيزا فاضلا، متوسعا عالما، فعلقت عليه، وأخذت عنه، وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه، وقرأت صدرا منه، وهناك أبو بكر ابن مقسم، وما فى أصحاب ثعلب أكثر دراية، وما أصح رواية منه، وقد سمعت مجالسه، وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، ومسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحل عقد معضل، وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم، ورواياتهم ولغاتهم والقاضى أبو بكر ابن كامل، بقية الدنيا فى علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسع فى النحو توسعا مستحسنا، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب، والبحتري وأبي العيناء، وغيرهم.وقد سمعت قدرا صالحا مما عنده، وكنت أحب أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق، لما تتابع فى حذقهم من الأوصاف.وذكر أبا زكريا يحيى بن عدي وغيره، ومناظرات جرت هناك يطول شرحها. وحدث عن أبي نصر بن خواشاذه أنه قال: ما غبطت أحدا على منزلة، كما غبطت الصاحب أبا القاسم بن عباد، فإنا كنا مقيمين بظاهر جرجان، مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية، فدخل الصاحب إلى داره في البلد، آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم، وتحته دابة رهواء، وقد أرسل عنانه، فرأيت وجوه الديلم وأكابرهم، من أولاد الأمراء يعدون بين يديه، كما تعدو الركابية، وكان عضد الدولة: يخاطب شيخا خطابا لا يشرك معه فيه أحدا، إلا أنه كان يقل مكاتبته، وكانت الكتب من عضد الدولة، إنما ترد على لسان كاتبه أبو القاسم، عبد العزيز بن يوسف. ولما وجدت الشعراء لبضائعها عند ابن عباد نفاقا وسوقا.أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته، وساقوها نحوه سوقا.فذكر الثعالبي قال: واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وابناء الفضل، وفرسان الشعر من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم فى الأخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك، مثل ما اجتمع بباب الرشيد، من فحول الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبى العتاهية، والعتابي، والنمري، ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، وابن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر. وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري، وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي سعيد الرستمى، وأبى القاسم الزعفرانى، وأبى العباس الضبى، والقاضى الجرجانى وأبى القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي هاشم العلوى، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، والبديع الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبى العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبى دلف الخزرجي، وأبى حفص الشهرزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبى الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره، أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي، وأبو إسحاق الصابي، وابن الحجاج، وابن سكرة، وابن نباتة، وغيرهم ممن يطول ذكره. وكتب أبو حفص الأصفهاني الوراق إلى الصاحب رقعة نسختها: لو لا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين لما ذكرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن الحاجة تستعجل النجح، وتكد الجواد السمح، وحال عبد مولانا في الحنطة متخلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فلم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى، فوقع على رقعته، أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر جرذان دارك بالخصب، وآمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى.قال: وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي قال: انتحل فلان يعنى بعض المتشاعرين بحضرة الصاحب شعرا له، وبلغه ذلك فقال: أبلغوه عني:

سرقت شعري وغيري

يضام فيه ويجدع

فسوف أجزيك صفعا

بكد رأس وأخدع

فسارق المال يقطع

وسارق الشعر يصفع

قال: فاتخذ الليل جملا وهرب من الري. وحدث عن عون بن الحسين الهمذانى قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذنت على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس، إلا وانتقل إلى مجلس الحشمة فأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدى، أو مازحنى قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي، بلغنى أنك تقول: إن المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهة لانبساطه، وقلت بنا من الجد، ما لانفرغ معه للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها إلى ما يجري مجرى الهزل والمرح.ولما أتت الصاحب البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني، ' ولم يكن للصاحب ولد غيرها، وكان قد زوجها من أبي الحسن على بن الحسين الهمذاني، وكان شاعرا أديبا بليغا، وله شعر منه هذان البيتان في دار لبعض الملوك بناها:

دار علت دار الملوك بهمة

كعلو صاحبها على الأملاك

فكأنها من حسنها وبهائها

'بنيت قواعدها على الأفلاك'

أنشأ الصاحب يقول:

أحمد الله لبشرى

أقبلت عند العشي

إذ حباني الله سبطا

هو سبط للنبي

مرحبا ثمت أهلا

بغلام هاشمي

نبوي علوي

حسنى صاحبي

ثم قال:

الحمد لله حمدا دائما أبدا

قد صار سبط رسول الله لي ولدا

وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري في قصيدة منها:

وكان بعد رسوب الله كافله

فصار جد بنيه بعد كافله

هلم للخبر المأثور مسنده

في الطالقان فقرت عين ناقله

فذلك الكنز عباد وقد وضحت

عنه الإمامة فى أولى مخايله

لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة، يملأ الله به الأرض عدلا، كما ملئت جورا.والصاحب من الطالقان من قرى أصفهان، فلما رزق سبطا فاطميا، تأولوا له هذا الخبر، وأنا برئ من العهدة، هذ الذي ذكر الثعالبي، أن طالقان من قرى أصفهان، والصواب ما تقدم. قال: وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي، توقيع الصاحب إليه في رقعته: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر، وهذه رسالة كتبها الصاحب إلى أبي على الحسين بن أحمد، في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد. قال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله ابن أحمد الميكالى يسردها، فزادني جريها على لسانه، وصدورها عن فمه إعجابا بها، وهي: كتابي هذا يا سيدي صدر من 'سحنة'، وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله، إذا مد الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله، ولو لا ذلك لأطلته، كوقوف الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المحتمل له، وسيع الحقوق لدى، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي، كان وافي مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد - رفع الله منازله - وقتل قاتله، يكت له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان فيها من القربة، لم يرض غير بابي بتلك مشرعاً، وغير جنابي مرتعا، وقطع إلى الطريق الشاق، مؤكدا حقا لا يشق غباره، ولا ينسي على الزمان ذماره، فكتب على جناح هذه النهضة التى بنا لم يستقر نواها، ولم تلق عصاها، فإخراج الحر المبتدئ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي، لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، ويترصد عملا خفيف النقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتسق ذلك ضيفي ذلك ضيفي، وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالا بالعلم يزيده استقلاله.إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا فى الاستقرار، ثم له الخيار، إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء التحق بنا ناشرا ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن يختار له كل الاختيار، فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر، الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى وحده. وكتب إلى القاضي أبي بشر، الفضل بن محمد الجرجاني، عند وروده باب الري وافدا عليه:

تحدثت الركاب بسير أروي

إلى بلد حططت به خيامي

فكدت أطير من شوق إليها

بقادمة كقادمة الحمام

أفحق ما قيل من أمر القادم ؟ أم ظن كأماني الحالم ؟ لا والله، بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحبا أيها القاضي براحلتك ورحلتك، بل أهلا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك فحث المطى تزل غلتى برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، ونتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، يترك الصبا في عقال وأسر:

سقى الله دارات مررت بأرضها

فأذنتك نحوى يا زياد بن عامر

أصائل قرب أرتجي أن أنالها

بلقياك قد زحزحن حر الهواجر

وقال بعض ندماء الصاحب له يوما: أرى مولانا قد أغار فى قوله:

لبسن برود الوشى لا لتجمل

ولكن لصون الحسن بين برود

على المتنبيء في قوله:

لبسن الوشى لا متجملات

ولكن كي يصن به الجمالا

فقال كما أغار هو في قوله:

ما بال هذي االنجوم حائرة

كأنها العمى ما لها قائد

على العباس بن الأحنف في قوله:

والنجم فى كبد السماء كأنه

أغمى تحير ما لديه قائد

وللصاحب أيضا:

يقولون لي كم عهد عينك بالكرى

فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها

ولو تلتقي عين على غير دمعة

لصارمتها حتى يقال نفاها

من قول المهلبي الوزير:

تصارمت الأجفان منذ صرمتني

فما تلتقي إلا على دمعة تجري

وللصاحب أيضا:

ومهفهف حسن الشمائل أهيف

يروي النفوس بفترتي عينيه

ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي

فجذبت قلبي من إسار يديه

قالوا: تراجعه فقلت: بديهة

قولا أقيم مع الروى عليه

والله لا راجعته ولو أنه

كالبدر أو كالشمس أو كبويه

أخذه من قول ابن المعتز:

والله لا كلمتها ولو انها

كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي

قال المؤلف: هكذا ذكر الثعالبي، ونسب هذا البيت إلى ابن المعتز، وهو لأبى بكر محمد بن السراج النحوي، وله قصة ظريفة، وهي مذكورة في أخباره من هذا الكتاب. ومما هجي به الصاحب، قول أبي العلاء الأسدي:

إذت رأيت مسجى في مرقعة

يأوى المساجد حرا ضره بادي

فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت

به الخطوب إلى لؤم ابن عباد

وقال السلامي:

يا ابن عباد بن عباس

بن عبد الله حرها

تنكر الجبر وأخرجت

إلى دنياك كرها

ومر أبو العباس بن الضبي، بباب الصاحب بعد موته، فقال:

أيها الباب لم علاك اكتئاب

أين ذاك الحجاب والحجاب ؟ ؟

أين من كان يفزع الدهر منه

فهو الآن فى التراب تراب ؟

ولأبي القاسم بن العلاء الأصفهاني، يرثي الصاحب من قصيدة:

ما مت وحدك لكن مات من ولدت

حواء طرا بل الدنيا بل الدين

هذي نواعي العلا مذ مت نادبة

من بعد ما ندبتك الخرد العين

تبكي عليك العطايا والصلات كما

تبكي عليك الرعايا والسلاطين

قام السعاة وكان الخوف أقعدهم

واستيقظوا بعد ما نان الملاعين

لايعجب الناس منهم إن هم انتشروا

مضى سليمان وانحل الشياطين

وكتب الصاحب إلى أبي العلاء الأسدي من أجود أبياته:

يقر بعيني أن يلم رسولها

ببابي ويهدي بالعشي سلامها

ورد يا شيخي - أطال الله بقاءك - رسولك بكتاب سبق الأفكار والظنون، وحسدت عليه القلوب العيون، وترك الواصفين بين قاصر ومقصر، ومثل ليالينا بين اللوى فمحجر بكلام كالورق النضير، تتأوه منه الغصون، وكالنور المنير، أفنانه فنون فصاد فني حليفا للشوق أو رهينا، رحنيا على الحنين وساء قرينا، وكيف لا وقد ألفنا القرب حولا، حولنا رياض الأدب ترف، ودوننا رواحل الفضل تزف نملك رقاب المنطق، ونتنازع أطراف الكلام المنمق، ونقطع الليالى تناشدا وتذاكرا، وتحادثا وتسامرا، إلى أن يخلع الظلام ثيابه، ويحدر المصباح نقابه، هذا دأبنا كان، إلى أن جاوزنا الشباب مراحل.ووردنا من المشيب مناهل.ثم حان الفراق، فنحن حتى اليوم منه في جو كدر، ونجم منكدر يقبضنا عن الموارد العذاب. ويعرضنا على لواعج العذاب، - والله نسأل - إعادة هاتيك الأحوال، وتلك الأيام الخضراء الظلال، وإن كان الله قد زادنا بعدك مناجح ومنائح وأيادي غوادي وروائح، حتى فتحنا الفتوح، وذللنا الصروح، ورنقنا الفتوق، ونسخنا القرون، وأثرنا الآثار، ووطأنا الرقاب، وطلبنا الثار، واصطنعنا الصنائع، وجعلنا ودائع النعم قطائع، وعقدنا في أعناق الأحرار مننا، أحسبها من سبل الإحسان سننا، إنا قد تحملنا مشاق، مالت على القوة بالضعف، وتحاملت على الأشر بالوهن، ودفعت إلى معالجة خطوب، تعجب الدهر من صبرنا عليها فحار، وجبن الزمان عند شجاعتنا لها فحار، وها أنا أحرج ما كنت إلى أن أرفه، ولا أستكره، وقد رميت بسهم الأربعين، وأرميت على شرف الخمسين، مدفوع الأشغال والأثال، إلى متاعب ومصاعب، لو مني بها ابن ثلاثين قويا أزره، طريا جرضه، لقام عجزه، وقعدت به نفسه، وأظنني كنت قديما قلت:

وقائلة: لم عرتك الهموم

وأمرك ممتثل في الأمم

فقلت: دعيني وما قد عرا

فإن الهموم بقدر الهمم

وما أنا على الراحة آسف، بل على ألا أكون مشغولا بأخرى، أمهد لها وأكدح، وأدأب لنفسى وأنصح، - اللهم وفق وقدر -، ومهل ويسر، إنك على ما تشاء قدير.والرسالة طويلة كتبت مقدمتهاذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار ابن أحمد، من حسن العناية والتولية والتمويل، فلما مات الصاحب كان يقول: أنا لا أترحم عليه، لأنه لم يظهر توبته، فطعن عليه في ذلك، ونسب إلى قلة الرعاية، فلا جرم أن فخر الدولة، قبض عليه بعد موت الصاحب، وصادره فيما قيل: على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعزله عن قضاء الري، وولى مكانه القاضي أبا الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، العلامة، صاحب التصانيف والفضائل الجمة، وقد ذكرته أنا في بابه.فقيل: إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته، وهو شيخ طائفتهم، يزعم أن المسلم يخلد في النار على ربع دينار، وجميع هذا المال من قضاء الظلمة، بل الكفرة عنده وعلى مذهبه، وإنما ذكرت هذا للاعتبار.وقرأت في كتاب هلال بن المحسن، بن إبراهيم الصابيء قال: وكان الصاحب أبو القاسم يراعي من ببغداد، والحرمين من أهل الشرف، وشيوخ الكتاب والشعراء، وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء، بما يحمله إليهم في كل سنة مع الحاج، على مقاديرهم ومنازلهم، وكان يحمل إلى أبى إسحاق إبراهيم بن هلال خمسمائة دينار، وإلى ألف درهم جبلية، مع جعفر بن شعيب، فأذكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة، بالاستدعاء إلى حضرته بالرى، وبذل له النفقة الواسعة، والمعونة الشاسعة عند شخوصه، والإرغاب والإكثار عند حضوره.فكانت عقله بالذيل الطويل، والظهر الثقيل، تمنعه من ترك موضعه، ومفارقة موطنه، فيما كتبه إليه بالاعتذار عن التأخير:

نكصت على أعقابهن مطالبى

وتقاعست عن شأوهن مآربي

وتبلدت مني القريحة بعد ما

كانت نفاذا كالشهاب الثاقب

وبكيت شرخ شبيبتي فدفنتها

دفن الأعزة في العذار الشائب

ومنها:

فلو أن لى ذاك الجناح لطار بي

حتى أقبل ظهر كف الصاحب

وأعيش في سقيا سحائبه التي

ضمنت سعادة كل جد خائب

وأراجع العادات حول قبابه

حتى السواد من الشباب الذاهب

وأعد من جلساء حضرته التي

شحنت بكل مسائل ومجارب

فيقول: من ذا سائل عنى له

متثبت فيقول هذا كاتبي ؟

أترى أروم بهمتي ما فوق ذا

أنى وخدمته أجل مراتبي

ومنها يعتذر

كثرت عوائقي التى تعتاقني

من غيث راحته الملث الساكب

ولد لهم ولد وبطن ثالث

هو رابعي وعشيرتي وأقاربي

والسن تسع بعدها خمسون قد

شامت بوارق يومها المتقارب

فالجسم يضعفعن تجشم راجل

والحال يقصر عن ترفه راكب

وعلى للسلطان طاعة مالك

كانت على المملوك ضربة لازب

وتعطلي مع شهرتي كتصرفي

كل سواء في الحساب الحاسب

وهي طويلة.فلما كانت سنة أربع وثمانين، التي توفي فيها جدي، أحسن بانقضاء مدته، وحضورمنيته، فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه، إقرار هذا الرسم المذكور على ولده، وإجراءه لهم من بعده، وقرن الكتاب بقصيدة أولها:

نحذر منك النائبات فتحذر

وتذكر للخطب الجسيم فيصغر

وتكسي بك الدنيا ثياب جمالها

فيرجوك معروف ويخشاك منكر

يقول فيها:

أسيدنا إن المنية أعذرت

إلي بآيات تروع وتذعر

لها نذر قد آذتني بهجمة

على مورد ما عته للمرء مصدر

وإنى لأستحلي مرارة طعمه

إذا كنت بالتقديم لي تتأخر

وحق لنفس كان منك معاشها

إذا غمضت عينا وعينك تنظر

ومن ورث الأولاد بعد وفاته

حضانك طابت نفسه حين يقبر

تمرد منك الجود حتى تمردت

مطالبنا والماجد الحر يصبر

أأطلب منك الرفد عمرى كله

وأطلبه والجنب منى معفر ؟

وليست بأولى بدعة لك في الندى

لها موقف فيه لك الحمد ينشر

وهي طويلة.قال هلال بن المحسن: وأمرني بأن أنفذ ذلك، فأنفذته، وكتبت عن نفسي كتابا في معناه، ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة، ثم اتفق أن توفي الصاحب في اول سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فوقف، وكانت بين وفاتهما شهور. قال هلال: وسمعت محدثا يحدث أبا إسحاق، أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي، إلا أن أملك العراق، وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا اسحاق الصابيء، ويكتب عني وأغير عليه، فقال جدي: ويغير على وإن أصبت. قال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: حضر الصاحب أبو القاسم بن عباد دار الوزير المهلي، عند وروده إلى بغداد، مع مؤيد الدولة، فحجب عنه لشغل كان فيه، وجلس طويلا، فلما تأخر الإذن، كتب إلى رقعة لطيفة فيها:

وأترك محجوبا على الباب كالخصي

ويدخل غيري كالأيور ويخرج

فأقرأتها الوزير المهلبي، فأمر بإدخاله. قال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد، قصد القاضي أبا السائب، عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له، وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه، وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه، فخجل أبو السائب واعتذر إليه. وذكر القاضي أبو علي التوخي في كتاب نشوار المحاضرة: حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن عمرو الشرابي، حاجب أمير المؤمنين المطيع لله، قال: دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي، فتثاقل في القيام لي، وأظهر لي ضعفا عنه للسن، والعلل المتصلة به، قال: فتطول فجذبت يده بيدي، حتى أقمته القيام التام، وقلت له: أعين قاضي القضاة، - أيده الله - على اكمال البر، وتوفية الإخوان حقوقهم ؟ قال: وقد كنت عاتبا عليه في اشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأخذ الكلام، فحين رأى الشر في وجهي قال: تتفضل لاستماع كلمتين ؟ ثم تقول ما شئت، فقلت له، فقال: روينا عن ابن عباس، - رضي الله عنه -، في قوله تعالى: 'فاصفح الصفح الجميل' قال: عفو بلا تقريع، فأنت رأيت أن تفعل ذلك، فافعل، فاستحييت من الاستقصاء عليه، وانصرفت. قال المؤلف: والذي عندي، أن الخبر إنما جرى بين هذا والقاضي، وبلغ أمره الصاحب، فانتحله لنفسه، وحكاه في مجلس أنسه، فشاع عنه، وكان الصاحب - رحمه الله - ممن يحب الفخر، وانتحال الفضائل، التي ربما قصر عنها.ومن أشعار الصاحب:

يا خاطرا يخطر في تيهه

ذكرك موقوف على خاطري

إن لم تكن آثر من ناظري

عندى فلا متعت بالناظر

وكتب إلى أبي الحسن الطيب:

إنا رجوناك على انبساط

والجوع قد أثر فى الأخلاط

فإن عسى ملت إلى التباطي

صفعت بالتعل قفا بقراط

وله:

بعدت فطعم العيش بعدك علقم

ووجه حياتي مذ تغيبت أرقم

فمالك قد أدغمت في النوى

وودك في غير الندار مرخم

وقال لما حضرته الوفاة:

وكم شامت بي عند موتي جهالة

بظلم يسل السيف بعد وفاتي

ولو علم المسكين ماذا يناله

من الذل بعدي مات قبل مماتي

وله أيضا:

بدا لنا كالبدر في شروقه

يشكو غزالا لج في عقوقه

يا عجبي والدهر في طروقه

من عاشق أحسن من معشوقه

قال أبو بكر الخوارزمي: أنشدنا الصاحب هذه القوافي ليلة وقال: هل تعرفون نظيرا لمعناها فى شعر المحدثين ؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:

ومن عجب الدهر أن الأمير

أصبح أكتب من كاتبه

قال: فقال جودت وأحسنت، هكذا فليكن الحفظ وله ويروق لغيره:

رشأ غدا وجدي عليه كردفه

وغدا اصطباري في هواه كخصره

وكأن يوم وصاله من وجهه

وكأن ليلة هجره من شعره

إن ذقت خمرا خلتها من ريقه

أو رمت مسكا نلته من نشره

وإذا تكبر واستطال بحسنة

فعذار عارضه يقوم بعذره

وله أيضا:

دب العذار على ميدان وجنته

حتى إذا كاد أن يسعى به وقفا

كأنه كاتب عز المداد له

أراد يكتب لاما فابتدا ألفا

وله أيضا:

وخط كأن الله قال لحسنه

تشبه بمن قد خطك اليوم فائتمر

وهيهات أين الخط من حسن وجهه

وأين ظلام الليل من صفحة القمر ؟ ؟

وله ايضا:

وشادن قلت له ما اسمكما

فقال لي بالغنج عباث

فصرت من لثغته ألثغا

فقلت أين الكاث والطاث

وله يصف الثلج:

هات المدامة يا غلام مصيرا

نقلي عليها قبلة أو عضة

أو ما ترى كانون ينثر وروده ؟

وكأنما الدنيا سبائك فضة

وله أيضا:

وصفراء أو حمراء فهي مخيلة

لرقتها إلا على المتوهم

يشككنا في الكرم أن انتماءه

إلى الخمر أم هاتا إلى الكرم تنتمي

لك الوصف دون القصف مني فخيمي

بغير يدي وارضي بما قاله فمى

وكتب إلى أبي الفضل بن شعيب:

يا أبا الفضل لم تأخرت عنا

فأسأنا بحسن عهدك ظنا ؟

كم تمنت نفسي صديقا صدوقا

فإذا أنت ذلك المتمني

فبعض الشباب لما تثنى

وبعهد الصبا وإن بان منا

كن جوابي إذا قرأت كتابي

لاتقل للرسول كان وكنا

وله أيضا:

يا بن يعقوب يا نقيب البدور

كن شفيعي إلى فتى مسرور

قل له إن الجمال زكاة

فتصدق بها على المهجور

وله يمدح عضد الدولة:

سعود يحار المشترى في طريقها

ولا تتأتى في حساب المنجم

وكم عالم أحييت من بعد عالم

على حين صاروا كالهشيم المحطم

فوالله لو لا الله قال لك الورى

مقال النصارى في المسيح بن مريم

فحامد لو فضت فغاضت على الورى

لما أبصرت عيناك وجه مذمم

وكلا ولكن لو حظوا بزكاتها

لما سمعت أذناك ذكر ملوم

ولو قلت إن الله لم يخلق الورى

لغيرك لم أحرج ولم أتاثم

وله يهجو:

سبط متوى رقيع سفله

أبدا يبذل فينا أسفله

إعتز لنا نيكه فى دبره

فلهذا تلعن المعتزلة

وله في رجل كثير الشرب بطيء السكر:يقال:

لماذا ليس يسكر بعدما

توالت عليه من نداماه قرقف ؟

فقلت:

سبيل الخمر أن تنقص الحجى

فإن لم تجد شيئا فماذا تحيف

وله أيضا:

شرط الشروطي فتى أير

وما سواه غير مشروط

أبغى من الإبرة لكنه

يوهم قوما أنه لوطي

وله أيضا:

تصد أميمة لما رأت

مشيبا على كارضي قد فرش

فقلت لها: الشيب نقش الشباب

فقالت: ألا ليته ما نقش

وله أيضا:

ولما تناءت بالأحبة دارهم

وصرنا جميعا من عيان إلى وهم

تمكن مني الشوق غير مسامح

كمعتر لي قد تمكن من خصم.

^

الجزء السابع

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي