معجم الأدباء/الحسن بن محمدٍ المهلبي أبو محمدٍ

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الحسن بن محمدٍ المهلبي أبو محمدٍ

الحسن بن محمدٍ المهلبي أبو محمدٍ قد سقطت من نسختنا أوائل الترجمة قصيدة يخاطب فيها أبا جعفرٍ الصيمري، ويذكر المهلبي - وكان في صحبته -:

ماذا لقينا من القاطول لا هطلت

فيه السحاب ولا سقته تهتانا

فقد سددناه وارتدت غواديه

حسرى ولم نأل إحكاماً وإتقاناً

وقد دعمنا له سكراً سما وطما

حتى توهمه راوه ثهلانا

واستفرغ الوسع حتى طم خادمك ال

مهلبي وقاسى فيه أشجانا

نجاه منه بآراءٍ مثقفة

تخالها في ظلام الليل نيرانا

رميت بحرأ بطودٍ فاستكانله

كرهاً وأيقظت فيما بات يقظانا

وما تقابل بالإقبال ممتنعاً

إلا تبدل بالعصيان إذعانا

ثم خرج معز الدولة والصيمري إلى الموصل لقتال ناصر الدولة، فاستخلف الصيمري المهلبي وأبا الحسن طازاد بن عيسى على الأمور بمدينة السلام إلى أن عاد، ثم خرج الصيمري إلى البطيحة لطلب عمران بن شاهين، واستناب بحضرة معز الدولة أبا محمدٍ وحد في سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، فخدم أبو محمدٍ معز الدولة خدمة خفف بها عنه وخف على قلبه، فقبله ومال إليه، وبلغ أبا جعفرٍ ذلك فثقل عليه، فتطلب لأبي محمدٍ الذنوب وتحمل ما أنكره عليه، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ أبا محمدٍ ذلك، فقلق واستشعر النكبة والهلكة، لأنه لم طمع من معز الدولة في نصرته عليه، وعصمته منه، فما راعه إلا ورود كتاب الطائر بوفاة الصيمري، فجلس له في العزاء، وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، واستدعاه معز الدولة وأمره بالحضور وتمشية الأمور، إلى أن يقلد من يرى تقليده الوزارة وترشح للوزارة جماعة، منهم أبو عليٍ الحسن بن هارون بن نصرٍ، وأبو عليٍ الحسن بن محمد الطبري، وأبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الخوميني وبذلوا البذول، وضمنوا الأموال، ووسط أبو عليٍ الطبري في أمره والدة معز الدولة، وبذل مائتي ألف درهمٍ عاجلةً على سبيل الهدية بمطالبه معز الدولة، فحمل منه مائةً وثمانين ألف درهمٍ وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال، فعلم الطبري أنه خدع، وندم على ما حمله.ثم حضر الجماعة المترشحون الخاطبون وكل منه يعتقد أنه المختار المقلد، وجلسوا في خركاةٍ ينتظرون الإذن، ثم وصل القوم ووقفوا على مراتبهم، ودخل أبو محمدٍ بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تكامل الناس أسر معز الدولة إلى أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم الخازن قولاً لم يسمع، فمشى إلى أبي محمدٍ المهلبي وقبل يده، وخاطبه بالأستاذية على ما كان أبو جعفرٍ يخاطب به، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه القباء والسيف والمنطقة. قال هلال: قال جدي: فوالله يا بني لقد رأيت الناس على طباقاتهم ممن أسميناه ومن يتلوهم من الجند وغيرهم، والسعيد من وصل إلى يده فقبلها.وعاد أبو محمدٍ إلى حضرة معز الدولة فخاطبه بالتعويل عليه ف تقلد وزارته وتدبير دولته، وشكره أبو محمدٍ شكراً أطال فيه، وخرج منصرفاً إلى داره، فقدم له شهري بمركبٍ ذهبٍ، وسار أبو محمدٍ سبكتكين الحاجب بين يديه والقواد والناس في موكبه، وذلك لثلاثٍ بقين من جمادى الأولى سنة تسعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ثم جددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة، فأثقلته هذه الخلع - وكان ذا جثة و الزمان صيف - وقد مشى في تلك الصحون الكثيرة، فسقط عند دخوله إلى حضرة المطيع لله ووقع على ظهره فأقيم، وظن أنه يحصر لما جرى، فقال: يا أمير المؤمنين:

خرسنوه وما درى ما خراسا

ن بلبس القباء والمزجين

ثم أكثر الشكر وأطال فيه، فاستحسنت منه هذه البديهة على تلك الصورة، وركب إلى داره وجميع الجيش معه وحجاب الخلافة ومعز الدولة بين يديه، فلما كانت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائةٍ، لهج معز الدولة بذكر عمان، وحدث نفسه بأخذها، وأغراه بذلك المعروف بكرك أحد النقباء الأصاغر، فأمر المهلبي بالخروج بالخروج إليها فدافعه ووضع عليه من يزهده فيها فلم يزدد إلا لجاجاً، وكان أبو محمدٍ يؤذي حاشية معز الدولة فإنه ألزمهم تقسيطاً في نفقة البناء الذي استحدثه من غير أن يخرج بأحدٍ منهم إلى عسفٍ، فأحفظهم فعله، فبعثوا معز الدولة على إخراجه، فما ألح عليه ضمن له أن يستخرج من هؤلاء جملةً كبيرةً يستعين بها في هذا الوجه، فمكنه من ذلك بعد أن شرط عليه أخذ العفوة تجنب الإجحاف، فقبض على جماعةٍ وأخذ منهم ألفي درهمٍ، منها خمسمائة ألف درهمٍ من أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم النصراني الخازن، ومعز الدولة على غاية العناية بأمره والثقة بأنه لا مال له، وأظهر أبو عليٍ الفقر وسوء الحال، وأنه اقترض المال الذي أداه من الناس، فشق ذلك على معز الدولة وظنه حقاً، واعتل أبو عليٍ عقيب ذلك ومات، فاعتقد معز الدولة أن أبا محمدٍ قتله لما عامله به، وأقبل عليه يلومه ويحلف له أنه يقيده به،، فلم يلتفت أبو محمدٍ إلى ذلك، وبادر إلى دار أبي عليٍ وقبض على خادمٍ له صغيرٍ كان يختصه ويثق به، ومناه ووعده، فدله على دفينٍ كان لأبي عليٍ في الدار فاستخرج منه عدة قماقم فيها نيف وتسعون ألف دينارٍ، وحملها إلى معز الدولة وقال له: هذا قدر أمانة خازنك الذي ظننت أني قد قتلته باليسير الذي أخذته لك منه، وما فيه درهم من مالك، وإنما اقترضه من أولادك وحرمك وغلمانك وشنع عليك.ثم تتبع أسبابه وأخذ منهم تمام مائتي ألف دينار، وقدر أبو محمدٍ أن معز الدولة يمكنه من الحاشية الباقين ويعفيه من الخروج فلم يفعل، وجد به جداً شديداً في الإنحدار، فانحدر في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع العسكر المجرد من ركوب البحر، فبلغ معز الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب، فكاتبه بالجد والإنكار عليه في توقفه وإلزام المسير، ووجد أعداؤه طريقاً للطعن عليه، واغتنموا تنكر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة كما تغلب البريديون، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعةٍ له، وعظموا عنده أحواله، فتدوخ معز الدولة بأقاويلهم، وعرف أبو محمدٍ ذلك فأطلق لسانه فيهم، وخرق الستر بينه وبينهم، وتطابقت الجماعة في المشورة على معز الدولة بالقبض عليه والإعتياض بأمواله عما يقدر حصوله من عمان، وجعلوه على ثقةٍ من أنهم يسدون مسده، فمال إلى قولهم وكتب إلى أبي محمدٍ يعفيه من الإتمام إلى عمان، ويرسم له الإنكفاء إلى مدينة السلام، وعلم أبو محمدٍ بالحال، ووطن نفسه على الصبر وركوب أصعب المراكب فيه، وأن يدخل فيما دخل فيه القوم، ويتولى هو مصادرة نفسه وأصحابه وخصومه وأعدائه، وكان ملياً بذلك، فهجمت عليه علته التي مات منها، وتردد بين إفاقةٍ ونكسةٍ إلى أن وردت الكتب باليأس منه، فأنفذ معز الدولة حينئذٍ أحد ثقاته على ظاهر العيادة له، وباطب الاستظهار على ماله وحاشيته، فألقاه في طريقه محمولاً في محفةٍ كبيرةٍ مملوءةٍ بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، فلما انتهى إلى زواطا قضى نحبه ومضى لسبيله، وسقط الطائر بمدينة السلام بذلك، فقبض على أسبابه وحرمه وولده، فصودرت الجماعة، ووقع السرف في الاستقصاء عليهم، فلم يظهر لأبي محمدٍ مال صامت ولا ذخيرة باطنة، وبانت لمعز الدولة نصيحته، وبطلان النكير عليه، وقد كان يصل إليه من حقوق الرقاب في ضياعه وما يأخذه من إقطاعه، ويستثني به على عماله مال كثير يستوفيه جهراً من غير أن توقع فيه أمانة، وبصرف جميعه في مئونته ونفقاته وصلاته وهباته، وإلى هدايا جليلةٍ كان يتكلفها لمعز الدولة في أيام النواريز والمهاريج. وعطف معز لدولة على الجماعة يطالبهم بالضمانات التي ضمنوها فاحتجوا بوفاته، ووعدوا بالبحث عن ودائعه، وتدافعت الأيام واندرج الأمر، فكان الذي صح من مال أبي محمدٍ ومال حرمه وأولاده وأسبابه خمسة آلاف درهمٍ، فيها الصامت والناطق والباطن، وأثمان الغلات وارتفاق الأملاك والأموال، وأموال جماعةٍ من التجار أخذت بالتأويلات، وكانت وفاته سبباً لصيانته عن عاجل ابتذالهم له، وصيانتهم عن آجل بلواهم به، وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهرٍ، ووفاته في يوم السبت لثلاث ليالٍ بقين من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ.ولأبي محمدٍ:

قضيت نحبي فسر قوم

حمقى لهم غفلة ونوم

كأن يومي على حتم

وليس للشامتين يوم

قال هلال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: صاغ أبو محمدٍ دواة ومرفعاً وحلاهما حليةً كثيرةً مشرقةً وكانت ذراعاً وكسراً في عرض شبر، وكذلك كانت آلاته عظاماً، حتى إن آلة دسته مثل مخاده مساند الدسوت إلى ما يجري هذا المجرى من آلات الاستعمال، وقدمت الدواة بين يديه في مرفعها وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي وأنا إلى جانبه، فتذاكرنا سراً حسن الدواة وجلالتها وعظمتها، ثم قال لي:ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأتسع بثمنها، فقلت: وأي شيء يعمل الوزير ؟ قال: يدخل في حر أمه وسمع أبو محمدٍ ما جرى بيننا بالإصغاء منه إلينا، وذهب ذاك علينا، فاجتمعت مع أبي أحمد من غدٍ فقال لي: عرفت خبر الدواة ؟ قلت: لا.قال: جاءني البارحة رسول الوزير ومعه الدواة ومرفعها، ومنديل فيه عشر قطع ثياباً حساناً وخمسة آلاف درهمٍ وقال: الوزير يقول لك: أنا عارف بأمرك في قصور المواد عنك، وتضاعف المؤن عليك، وأنت تعرف شغلي وانقطاعي به عن كل حقٍ يلزمني، وقد آثرتك بهذه الدواة لما ظننته من استحسانك إياها اليوم عند مشاهدتك، وحملت معها ما تجدد به كسوتك وتصرفه في بعض نفقتك، وانصرف الرسول، وبقيت متحيراً متعجباً من اتفاق ما تجارينا به أمس زحدوث هذا على أثره، وتقدم أبو محمدٍ بصياغة دواةٍ أخرى على شكلها ومرفعٍ مثل مرفعها، فصيغت في أقرب مدةٍ، ودخلنا إلى مجلسه وقد فرغ منها وتركت بين يديه وهو يوقع منها. ونظر أبو محمدٍ إلى وإلى أبي أحمد ونحن نلحظها فقال: هيه من منكما يريدها بشرط الإعفاء من الدخول فخجلنا وعلمنا أنه كان قد سمع قولنا.وقلنا: بل يمتع الله مولانا وسيدنا الوزير بها، ويبقيه حتى يهب ألفاً مثلها، اللهم أنت جدد الرحمة والرضوان عليه في كل ساعةٍ، بل لحظةٍ بل لمحةٍ، وعلى كل نفسٍ شريفةٍ وهمةٍ عاليةٍ، إنك العلي تحب معالي الأمور وأشرافها، وتبغض سفسافها. قال: وحدث إبراهيم بن هلالٍ قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يناصف العشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غايةٍ، فإذا جلس للعمل كان امرأ وقوراً، ومهيباً ومحذوراً، آخذاً في الجد الذي لا يتخونه نقص، ولا يتداخله ضعف، فاتفق أن صعد يوماً من طيارةٍ إلى داره - وقد حقنه البول وما كان يعتريه من سلسه - فقصد بعض الأخلية فوجده مقفلاً - وكذاك كانت عادته جاريةً في أخلية داره حفاظاً لها عن الابتذال - فأبى أن يدعو الفراش ويحضر، فقال لي متبادراً على نفسه:

فهبك طعامك استوثقت منه

فما بال الكنيف عليه قفل ؟

فقلت: لعمري إنه موضع عجبٍ، وإذا وقع الاجتياط في الأصل فقد استغنى عنه في الفرع، فضحك وقال: أوسعتنا هجاءً.فقلت: وجدت مقالاً.فقال: اسكت يا فاعل يا صانع. قال أبو إسحق: وأجلسني معز الدولة لأكتب بين يديه وأبو محمدٍ المهلبي قائم فحجبني عن الشمس، فقال: كيف ترى هذا الظل ؟ فقلت: ثخين.فقال: واعجباً ! أحسن وتسئ.وضحك ! ومن شعر المهلبي:

يا هلالاً يبدوا لتهتاج نفسي

وهزاراً يشدو فيزداد عشقي

زعم الناس أن رقك ملكي

كذب الناس أنت مالك رقي

وحدث أبو محمدٍ المهلبي قال: كنت أيام حداثتي وقصر حالي، وصغر تصرفي أسكن داراً لطيفةً - ونفسي مع ذلك تنازع في الأمور العظيمة، إلا أن الجد قاعد، والمقدور غير مساعدٍ - فأصبحت يوماً وقد جاء المطر وازدادت الحجرة إظلاماً، وصدري بها ضيقاً، فقلت:

أنا في حجرةٍ تجل عن الوص

اف ويعمى البصير فيها نهارا

هي في الصبح كالظلام وفي اللي

ل يولي الأنام عنها فرارا

أنا منها كأنني جوف بئرٍ

أتقي عقرباً وأحذر فارا

وإذا ما الرياح هبت رخاءً

خلت حيطانها تميد انهيارا

ورب عجل خرابها وأرحني

من حذاري فقد مللت الحذارا

تحدث أبو الحسين هلال بن المحسن قال: حدث القاضي أبو بكر بن عند الرحمن بن خزيمة قال: كنت مع الوزير المهلبي بالأهواز، فاتفق أن حضرت عنده في يومٍ من شهر رمضان، والزمان صائف والحر شديد، ونحن في خيشٍ باردٍ، فسمع صوت رجلٍ ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيها القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت ؟ والشمس على رأسه، وحرها تحت قدميه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما يقاسيه من الحر ؟ وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخاً ضعيفاً عليه قميص رث وهو بغير سراويل وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا تساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت ؟ فتنفس الرجل وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد ! وقال:

ما كنت بائع ناطفٍ فيما مضى

لكن قضت لي ذاك أسباب القضا

وإذا المعيل تعذرت طلباته

رام المعاش ولو على جمر الغضا

فقال له الوزير: أراك متأدباً، فمن أين لك ذلك ؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيتٍ لم يكن فيهم من صناعته ما ترى - وأسر إليه أنه من ولد معن بن زائدة - فأعطاه مائة دينارٍ وخمسة أثوابٍ، وجعل ذلك رسماً له في كل سنةٍ. وحدث القاضي أبو عليٍ التنوخي قال: شاهدت أبا محمدٍ المهلبي قد ابتيع له في ثلاثة أيامٍ ورد بألف دينارٍ فرش به مجالس وطرحه في بركةٍ عظيمةٍ كانت في داره، ولها فوارات عجيبة يطرح الورد في مائها وينفضه، وبعد شرابه عليه وبلوغه ما أراده منه أنهبه، ولأبي عبيد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يرثي أبا محمدٍ:

يا معشر الالشعراء دعوة موجعٍ

لا يرتجى فرح السلو لديه

عزوا القوافي بالوزير فإنها

تبكي دماً بعد الدموع عليه

مات الذي أمسى الثناء وراءه

وجميل عفو الله بين يديه

هدم الزمان بموته الحصن الذي

كنا نفر من الزمان إليه

وتضاءلت همم المكارم والعلا

وانبت حبل المجد من طرفيه

عمري لئن قادته أسباب الردى

مثل الجواد يقاد في شطنيه

فليعلمن بنو بويهٍ أنما

فجعت به أيام آل بويه

ولأبي محمدٍ المهلبي:

أمثلي يا أخي وقسيم نفسي

يفارق عهده عند الفراق ؟

ويسلو سلوةً من بعد بعدٍ

وينسبه الشقيق إلى الشقاق

فأقسم بالعناق وتلك أشفى

واوفى من يميني بالعتاق

لقد ألصقت بي طلباً قبيحاً

تجافى جانباه عن التصاق

وحدث أبو النجيب شداد بن إبراهيم الجزري الشاعر الملقب بالظاهر قال: كنت كثير الملازمة للوزير محمدٍ المهلبي، فاتفق أني غسلت ثيابي وأنفذ إلي يدعوني، فاعتذرت بعذرٍ فلم يقبله وألح في استدعائي، فكتبت إليه:

عبدك تحت الحبل عريان

كأنه لا كان شيطان

يغسل أثواباً كأن البلى

فيها خليط وهي أوطان

أرق من ديني إن كان لي

دين كما للناس أديان

كأنها حالي من قبل أن

يصبح عندي لك إحسان

يقول من يبصرني معرضاً

فيها وللأقوال برهان

هذا الذي قد نسجت فوقه

عناكب الحيطان إنسان ؟

فأنفذ لي جبةً وقميصاً وعمامةً وسراويل وكيساً فيه خمسمائة درهمٍ وقال:قد أنفذت لك ما تلبسه وتدفعه إلى الخياط ليصلح لك الثياب على ما تريده، فإن كنت غسلت التكة واللالكة فعرفني لأنفذ لك عوضها.ولأبي محمدٍ المهلبي:

ويومٍ كأن الشمس والغيم دونها

حجاب به صينت فما يتهتك

عروس بدت في زرقة من ثيابها

تجللها فيها رداء ممسك

قرأت بخط المحسن بن إبراهيم الصابئ: أنشدني والدي قال: أنشدني الوزير أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:

إذا تكامل لي ما قد ظفرت به

من طيب مسمعةٍ وصوت رنان

وقهوةٍ لو تراها خلت رقتها

ديني ومن حاجزٍ إن شئت أغناني

فما أبالي بما لاقى الخليفة من

بغي الخصي وعصيان ابن حمدان

وقال الصاحب بن عبادٍ: أنشدني الأستاذ أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:

قال لي من أحب والبين قد جد

د وفي مهجتي لهيب الحريق

ما الذي في الطريق تصنع بعدي

قلت أبكي عليك طول الطريق ؟

حدث أبو عليٍ التنوخي قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يكثر الحديث على طعامه وكان طيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث على المائدة لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيراً ما أحضر، فقدم إليه في بعض الأيام حجل فقال لي:أذكرني هذا حديثاً طريفاً، وهو ما أخبرني به بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير قال: كنت آكل معه يوماً وعلى المائدة خلق عظيم فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، ثم استأمن إليه فآمنه واختصه، وطالت أيامه معه وكان في ذلك اليوم على مائدته إذ قدم حجل فألقى الراسبي منه واحدةً إلى الكردي كما تلاطف الرؤساء مؤاكليهم، فأخذها الكردي فجعل يضحك، فتعجب الراسبي من ذلك وقال: ما سبب هذا الضحك وما جرى ما يوجبه ؟ فقال: خبر كان لي، فقال: أخبرني به، فقال: شيء ظريف ذكرته لما رأيت هذه.قال: فما هو ؟ قال: كنت أيام قطع الطريق قد اجتزت في المحجة الفلانية في الجبل الفلاني وأنا وحدي في طلب من آخذ ثيابه، فاستقبلني رجل وحده، فاعترضته وصحن عليه فاستسلم إلي ووقف، فأخذت ما كان معه وطالبته أن يتعرى ففعل ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق من يستفزه علي فأطلب وأنا وحدي فأوخذ، فقبضت عليه وعلوته بالسيف لأقتله، فقال: يا هذا أي شيءٍ بيني وبينك ؟ أخذت ثيابي ولا فائدة لك في قتلي، فكتفته ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنعه بالسيف، فالتفت كأنه يطلب شيئاً فرأى حجلةً قائمةً على الجبل فصاح: يا حجلة اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوماً، فما زلت أضربه حتى قتلته، وسرت فما ذطرت هذا الحديث حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة هذا الرجل فضحكت، فانقلب عليه الراسبي في رأسه حرد وقال:لا جرم والله إن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم في الدنيا قبل الآخرة، وما آمنتك إلا على ما كان منك من إفساد السبيل، فاما الدماء فمعاذ الله أن أسقطها عنك يابن الفاعلة بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي.يا غلمان اضربوا عنقه، قال: فبادر الغلمان إليه بسيوفهم يخبطونه حتى تدحرج رأسه بين أيديهم على المائدة وجرت جثته، ومضى الراسبي حتى أتم غداءه. قال قال أبو عليٍ: حضرت أبا محمدٍ في وزارته، وقد دفع إليه شاعر رقعة صغيرة فقرأها وضحك وأمر له بألف درهمٍ، وطرح الرقعة فقرأتها وإذا فيها:

يا من إليه النفع والضر

قد مس حال عبيدك الضر

لا تتركن الدهر يظلمني

ما دام يقبل قولك الدهر

قال إبراهيم بن هلالٍ الصابئ: كان أبو محمدٍ يخاطب بالأستاذية.قال أبو عليٍ: كنت في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ ببغداد، فحضر أول يومٍ من شهر رمضان، فاصطحبت أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي عليٍ الحسين بن هارون الكاتب في دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمدٍ المهلبي لنهنئه بالشهر عند نوجه أبيه إلى عمان، وبلغ أبو محمدٍ إلى موضعٍ من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ، ففترت نيته عن الخروج إلى عمان، واستوحش معز الدولة منه وفسد رأيه فيه، واعتل المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة بالرجوع من علياباذ، وألا يتجاوزه، وقد اشتدت علته والناس بين مرجفٍ بأنه يقبض عليه إذا حصل بواسط أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد: أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن الحسين، فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي داره التي كانت لأبيه على دحلة على الصراة عند شباك على دجلة، وهو في دست كبير عالٍ جالس وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصل، فلم يلبث أن جاءه أبو الفضل وأبو الفرج فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما ولا انزعج ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيساره فيمضي ويعود ويخاطبه سراً، إلى أن جاءه بعد ساعةٍ فساره فنهض، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي ؟ فقال: أهنئ من يجب تهنئته واعود إليك، فكن مكانك، وكان أبو الفضل زوج زينة ابنة أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجني، فحين دخل واطمأن قليلاً وقع الصراخ وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام فأمسكه أبو الفرج وقال: اجلس - وقبض عليه - وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني أم الصبي ووكل بها خدماً وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا - يعني معز الدولة - فقد طلبك، وقد مات أبوك، فبكى الصبي وسعى إليه وعلق بدراعته وقال:يا عم الله الله في - يكررها - فضمه أبو الفضل إليه واستعبره وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو أبو الفرج في زبزبه وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب تريد معز الدولة بباب الشماسية. فقال أبو الفتح بن الحسين بن هارون: ما رأيت مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظماً وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً، ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحدٍ. قال أبو عليٍ محمد بن وشاحٍ الكاتب: قال لي أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن سكرة الهاشمي من ولد المهدي: خرجت إلى الأهواز قاصداً للوزير أبي محمدٍ الحسن بن محمدٍ المهلبي مادحاً له، فلما وصلت إليه أنشدته:

قفي حيث انتهيت من الصدود

ولا تتعمدي قتل العميد

فقد وهواك أجل حلفي

حميت نظيرتيك من الهجود

هجرت مقيمةً وظعنت غضبي

فخربت الحديد على الحديد

فراق ظعينةٍ وفراق رأيٍ

يكرهما علي فراق جود

ثلاث ما اجتمعن على ابن حبٍ

صدود في صدودٍ في صدود

قال وانصرفت، فلما كان من الغد استدعاني وقال: اسمع وأنشدني لنفسه:

أتاني في قميص اللاذ يمشي

عدو لي يلقب بالحبيب

فقلت له فديتك كيف هذا

بلاواشٍ أتيت ولا رقيب ؟

فقال الشمس أهدت لي قميصاً

رقيق الجسم من شفق الغروب

فثوبي والمدام ولون خدي

قريب من قريبٍ من قريب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي