نهاية الأرب في فنون الأدب/آثار السماع وآدابه

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

آثار السماع وآدابه

قال أبو حامد رحمه الله: اعلم أن أول درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد.وثمر الوجد الحركة بالجوارح.فلينظر إلى هذه المقامات الثلاثة:المقام الأول: في الفهم، وهو مختلف باختلاف أحوال المستمع.وللمستمع أربعة أحوال:إحداها: أن يكون سماعه بمجرد الطبع أي لاحظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات فهذا مباح وهو أخس رتب السماع، إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم.ولكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة. الحالة الثانية: أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة إما معينة أو غير معينة وهو سماع الشباب وأرباب الشهوة ويكون تنزيلهم المسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم.وهذه الحالة أخس من أن تكلم فيها إلا ببيان خستها والنهى عنها. الحالة الثالثة: أن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى وتقلب أحواله في التمكن منه مرة وبعده منه أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين.فإن للمريد لا محالة مراداً هو مقصده، ومقصده معرفة الله تعالى ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء، وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته.فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار، فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه، فيجري ذلك مجرى القداح الذي يوري زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه، ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه، وتهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعاداته، ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله.وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه، بل لكل كلام وجوه ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظ.وضرب الإمام الغزالي لذلك أمثلة يطول شرحها. الحالة الرابعة: سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزت عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزل عن فسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص ف عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهن.وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه فني عن نفسه.ومهما فني عن نفسه فهو عن غيره أفنى، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود، وفني أيضاً عن الشهود فإن القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود.فالمستهتر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته ولا إلى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي به لذته.فالسكران لا خبر له في سكره، والملتذ لا خبر له في التذاذه، إنما خبره من الملتذ به فقط، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوة البشرية فربما يضطرب تحت أعبائه اضطراباً تهلك فيه نفسه كما روي عن أبي الحسن النوري أنه سمع هذا البيت:

ما لت أنزل من ودادك منزلاً

تتحير الألباب دون نزوله

فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجري من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله. قال أبو حامد: وهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد وهي أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهي ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله.أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة التفات إلى اليد والسكين.فيسمع بالله، وفي الله، ومن الله، وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد بصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شيء أصلاً، بل خمدت بالكلية بشريته وفني التفاته إلى صفات البشرية رأساً.قال: ولست أعني بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه، ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل سر لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراءها سر الروح الذي هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السر وجود إلا للحاضر.ومثاله المرآة المجلوة، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها.وكذلك الزجاجة فإنها تحكي لون قرارها ولونها لون الحاضر فياه وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول صورتها قبول الصور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان.قال: وهذه مغاصة من مغاصات علوم المكاشفة منها نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد.هذا ملخص ما أورده في مقام الفهم والله سبحانه وتعالى أعلم. المقام الثاني: بعد الفهم والتنزيل الوجد. قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعني الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح فلننقل من أقوالهم ألفاظاً ثم لنكشف عن الحقيقة فيه. أما الصوفية، فقد قال ذو النون المصري رحمه الله في السماع: إنه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق، فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق.فكأنه عبر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع، إذ سمي السماع وارد حق.وقال أبو الحسين الدراج مخبراً عما وجده في السماع:والوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بي السماع في ميادين البهاء، فأوجدني الحق عند العطاء، فسقاني بكأس الصفاء، فأدركت به منازل الرضاء، وأخرجني إلى رياض النزهة والفضاء. وقال الشبلي: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية.وأقوال الصوفية في هذا النوع كثيرة. وأما الحكماء، فقال بعضهم:في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرت وطربت إليها، فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر.وقال بعضهم:نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الفكر وحدة الكال من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل رأي ونية فيصيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ.ثم ذكر المعنى الذي الوجد عبارة عنه فقال: هو عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه.وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات، وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم والتنبيهات بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض.وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها فإن ضعفت بحيث لم تؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجداً.وإن ظهر على الظاهر سمي وجداً إما ضعيفاً وإما قوياً بحسب ظهوره وتغييره الظاهر وتحريكه بحسب قوة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرت على حفظ جوارحه، فقد يقوي الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك.وإلى المعنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة ما لم يكن مكشوفاً قبله، فإن الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه، والسماع منبه.ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها، فإن إدراكها، فإن إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود. ومنها صفاء القلب، والسماع مؤثر في تصفية القلوب، والصفاء سبب المكاشفة. ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله، وهذا الاستكشاف من ملاحظة أسرار الملكوت.وكما أن حمل الجمل يكون بواسطة، فبواسطة هذه الأسباب يكون سبب الكشف، بل القلب إذا سفا تمثل له الحق في صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من النبوة، وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة.وذلك كما روي عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال: خرجت يوماً في أيام جهلي وأنا نشوان وكنت أغنى هذا البيت:

بطيزناباذ كرم ما مررت به

إلا تعجبت ممن يشرب الماء

فسمعت قائلاً يقول:

وفي جهنم ماء ما تجرعه

خلق فأبقى له في الجوف أمعاء

فقال: وكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم. قال أبو حامد: فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم وفي لفظ منظوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر.وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب.ويشاهد أيضاً بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يخيل لأرباب القلوب بصور مختلفة، وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى '.قال: فحاصل الوجد يرجع إلى مكاشفات وإلى حالات ينقسم كل واحد منهما إلى ما لا يمكن التعبير عنه عند الإقامة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلاً.وضرب لذلك أمثلة، منها أن الفقيه قد تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك بذوقه أن بينهما فرقاً في الحكم، فإذا كلف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير عنه وإن كان من أفصح الناس، فيدرك بذوقه الفروق ولا يمكنه التعبير عنه، وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق.ولا شك أن لوقوعه في قلبه سبباً، وله عند الله تعالى حقيقة، ولا يمكنه الإخبار عنه لقصور في لسانه بل لدقة المعنى أن تناله العبارة. وأما الحال فكم من إنسان يدرك في قلب في الوقت الذي يصبح فيه قبضاً أو بسطاً ولا يعلم سببه، وقد يتفكر في شيء فيؤثر في نفسه أثراً فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحسبه.وقد تكون الحالة التي يحسها سروراً يثبت في نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور، أو حزناً فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه.وقد تكون تلك الحال حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود، بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختص به بعض الناس دون بعض، وهي حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها أعني التفرقة بين الموزون والمنزحف ولا يمكنه التعبير عنها بما يتضح به مقصوده لمن لا ذوق له.وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم.فأما الأوتار وسائر النغمات التي ليس مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الأوتار، وقد يعبر عنها بالشوق، ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه، فهذا عجيب.والذي اضطربت نفسه بسماع الأوتار والشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري ما هو، حتى يقع ذلك للعوام ومن لا يغلب على قلبه لا حب آدمي ولا حب الله تعالى.وهذا له سر، وهو أن كل شوق فله ركنان: أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه.والثاني: معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة الوصول إليه.فإن وجدت الصفة التي بها الشوق ووجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها، أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة.ولو نشأ آدمي وحده حيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولا يدري أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدري صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء، فكذلك في نفس الآدمي مناسبة مع العالم الأعلى واللذات التي وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا، إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي يسمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة.فالسماع يحرك منه الشوق، والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقره الذي إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمراً ليس يدري ما هو فيدهش ويضطرب ويتحير ويكون كالمختنق الذي لا يعرف طريق الخلاص.فهذا وأمثاله من الأحوال التي لا يدرك تمام حقائقها، ولا يمكن المتصف بها أن يعبر عنها.فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره.قال:واعلم أيضاً أن الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلف يسمى التواجد.وهذا التواجد المتكلف، فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها، ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى الاستدعاء للأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة، فإن للكسب مدخلاً في جلب الأحوال الشريفة، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن، فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق أواخرها.وكيف لا يكون التكلف سبباً في أن يصير المتكلف بالآخرة طبعاً، وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفاً ويقرؤه تكلفاً مع تمام التأمل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدناً للسان مطرداً حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته.وذكر أبو حامد أمثلة نحو ذلك ثم قال: وكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره، فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصاً ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة إليه والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخاً خرج عن حد اختياره، واشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص، فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها، ومشاهدة أحوالهم، وتحسين صفاتهم في النفس، وبالجلوس معهم في السماع، وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحالة بأن ييسر له أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحبين والمشتاقين والخاشعين، فمن جالس شخصاً سرت إليه صفاته من حيث لا يدري.ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: ' اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب من يقربني إلى حبك '.فقد فزع إلى الدعاء في طلب الحب.قال: فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال، وانقسامه إلى ما يمكن الإيضاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلف وإلى المطبوع. المقام الثالث: في آداب السماع ظاهراً وباطناً، وما يحمد من آثار الوجد ويذم. قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهي خمس جمل:الأول: مراعاة الزمان والمكان والإخوان.قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان.قال الغزالي: ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام و خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه، فهذا معنى مراعاة الزمان، فيراعى فراغ القلب.والمكان قد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنب ذلك.وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به، وكذا إذا حضر متكبر من أهل الدنيا فيحتاج إلى مراقبته ومراعاته، أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثوب، فكل ذلك مشوشات، فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى. الثاني: وهو نظر للحاضرين، أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم، فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر.والمريد الذي لا يستفيد بالسماع أحد ثلاثة: أقلهم درجة هو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع، فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه، فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو، ولا من أهل الذوق فيتنعم بذوق السماع، فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو مضيع لزمانه.الثاني: هو الذي له ذوق ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات والصفات البشرية ولم ينكسر بعد انكساراً تؤمن غوائله، فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فينقطع طريقه ويصده عن الاستكمال. الثالث: أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حب الله تعالى، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل، وإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز، فيكون ضرره من تلك الخواطر التي هي كفر أعظم عليه من نفع السماع.قال سهل: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.فلا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وشهوة المحمدة والثناء، ولا من يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع، فيصير ذلك عادة له ويشغله عن عبادته ومراعاة قلبه وتنقطع عليه طريقة الأدب، فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه. الأدب الثالث: أن يكون مصغياً إلى ما يقوله القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد، مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله له من رحمته في سره، متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم، بل يكون ساكن الظاهر، هادئ الأطراف متحرزاً عن التنحنج والتثاؤب، يجلس مطرقاً رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه، متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة، ساكتاً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بد.فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور وغير ملوم، ومهما رجع إليه اختياره فليعد إلى هدوه وسكونه.ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال: انقطع وجده على القرب، ولا أن يتواجد خوفاً من أن يقال: هو اقسي القلب عديم الصفاء والرقة.قال: وقوة الوجد تحرك، وقوة العقل التماسك تضبط الظواهر.وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته، وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك.فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه، بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب، فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال: ' وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ' إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت، والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة. الأدب الرابع: ألا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه، ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة، لأن التباكي استجلاب للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، وكل سرور مباح فيجوز تحريكه، ولو كان ذلك حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يزفنون.وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك وذلك في قصة ابنة حمزة بن عبد المطلب لما اختصم فيا علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، فتشاحوا في تربيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ' أنت مني وأنا منك ' فحجل علي.وقال لجعفر: ' أشبهت خلقي وخلقي ' فحجل.وقال لزيد: ' أنت أخونا ومولانا ' فحجل.الحديث.قال: والحجل: الرقص، ويكون لفرح أو شوق، فحكمه حكم مهيجه إن كان فرحه محموداً، والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، فإن كان مباحاً فهو مباح، وإن كان مذموماً فهو مذموم.نعم لا يليق ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدي به لئلا يصغر في أعين الخلق فيترك الاقتداء به.وأما تخريق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار.ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عليه أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره، إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين، ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري، فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه، فالتنفس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلف الإنسان نفسه أن يمسك التنفس ساعة اضطر من باطنه إلى أن يختار التنفس، فكذلك الزعقة وتخريق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم. الأدب الخامس: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقام له الجماعة فلا بد من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة.وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتخريق.فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، غذ المخالفة موحشة.ولكل قوم رسم، ولا بد من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن المعاشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة.وقول القائل: إن ذلك بدعة لم تكن في الصحابة، فليس كل ما يحكم بإباحته منقولاً عن الصحابة ولم ينقل النهي عن شيء من هذا.والقيام عند الدخول للداخل لم تكن من عادة العرب، بل كان الصحابة لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال كما رواه أنس رضي الله عنه، وإن كان لم يثبت فيه نهي عام، فلا نرى به بأساً في البلاد التي جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام، فإن القصد منه الاحترام والإكرام وتطييب القلب به، كذلك سائر أنواع المساعدة إذا قصد بها طيبة القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها، بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فيه نهي لا يقبل التأويل.ومن الأدب ألا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه ويشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذي يلوح للجميع منه أثر التكلف، ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع، فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محك للصدق والتكلف.سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد.هذا ملخص ما أورده الغزالي رحمه الله تعالى في معنى السماع وقسمه إلى هذه الأقسام التي ذكرناها. وأما أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم فقد ذكر مسألة السماع بين إباحته، فبدأ بذكر الأحاديث التي احتجوا بها وضعف رواتها نحو ما تقدم وذكر الآية: ' ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ' وأنه قيل: إنه الغناء، فليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، فإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة، وما كان هكذا فلا يجوز القول به.ثم لو صح لما كان فيه متعلق، لأن الله تبارك وتعالى يقول: ' ليضل عن سبيل الله ' وكل شيء اقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن.فإذاً لم يصح في هذا شيء فقد قال الله عز وجل: ' وقد فصل لكم ما حرم عليكم '.وقال تعالى: ' خلق لكم ما في الأرض جميعاً ' وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' أعظم الناس جرماً في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته '، فصح أن كل شيء حرمه الله عز وجل علينا فقد فصله لنا، وكل ما لم يفصل تحريمه لنا فهو حلال.واستدل رحمه الله على إباحته بالأحاديث التي ذكرناها، حديث عائشة عن خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في غناء الجاريتين، واستدل أيضاً بحديث نافع أن ابن عمر سمع مزماراً فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئاً ؟ قلت لا، فرفع إصبعيه عن أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وصنع مثل هذا.قال: فلو كان حراماً ما أباح عليه الصلاة والسلام لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ولكنه عليه الصلاة والسلام كره لنفسه كل شيء ليس من التقرب إلى الله عز وجل، كما كره الأكل متكئاً، والتنشف بعد الغسل في ثوب يعد لذلك، والستر الموشى على سهوة عائشة وعلى باب فاطمة رضي الله عنهما، وكما كره صلى الله عليه وسلم أشد الكراهة أن يبيت عنده دينار أو درهم.وإنما بعث عليه الصلاة والسلام منكراً للمنكر، آمراً بالمعروف.فلو كان ذلك حراماً لما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسد اذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه، ولم يفعل عليه الصلاة والسلام شيئاً من ذلك بل أقره وتنزه عنه، فصح أنه مباح وأن الترك له أفضل كسائر فضول الدنيا المباحة. قال: فإن قال قائل: قال الله تبارك وتعالى: ' فماذا بعد الحق إلا الضلال ' ففي أي ذلك يقع الغناء ؟ قيل له: حيث يقع التروح في البساتين وصباغ ألوان الثياب، ولكل امرئ ما نوى فإذا نوى المرء ترويح نفسه وإجمامها لتقوى على طاعة الله فما أتى ضلالاً.قال: ولا يحل تحريم شيء ولا إباحته إلا بنص من الله عز وجل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه إخبار عن الله عز وجل، ولا يجوز عنه تعالى إلا بالنص الذي لا شك فيه.وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار '.وقد تكلم على إباحة السماع جماعة من العلماء.وفيما أوردناه من هذا الفصل كفاية.فلنذكر من سمع الغناء من الصحابة رضي الله عنهم.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي