أبيات في هذا الباب
فمن ذلك قول بعض الشعراء:
إني لعظم تشوقي
وشديد وجدي واكتئابي
أصبحت أحسد من يفو
ز بقربكم حتى كتابي
وقال آخر:
وما تأخر كتبي عنك من مللٍ
طوبى لودك يا بن السادة النجب
لكن حسدت كتابي أن يراك وما
أراك فاخترت إمساكي عن الكتب
وقال آخر:
عفت الرسائل طامعا أن نلتقي
فأبى الزمان يتيح لي ما أطلب
وتأخرت كتبي فقلت أعاتبٌ
في ذاك أنت علي أم متعتب
فإذا وجدتك في الضمير ممثلا
أبدا تناجيني إلى من أكتب
وقال آخر:
الكتب تكتب للبعي
د وأنت من قلبي قريب
فإذا وجدتك في الفؤا
د فمن أكاتب أو أجيب
وقال آخر:
لو أن كتبي بقدر الشوق واصلةٌ
كانت إليك مع الأنفاس تتصل
لكنني والذي يبقيك لي أبدا
على جميل اعتقادي فيك أتكل
وقال آخر:
وفي الكتب نجوى من يعز لقاؤه
وتقريب من لم يدن منه مزار
فلم تخلني منها وتعلم أنها
لعيني وقلبي قرةٌ وقرار
وقال آخر:
سألتك عوذني بكتبك إن لي
شياطين شوق لا تفارق مضجعي
إذا استرقت أسرار فكري تمردا
بعثت إليها في الدجى شهب أدمعي
وقال آخر:
أتبخل بالقرطاس والخط عن أخٍ
وكفاك أندى بالعطايا من المزن
لعمري لقد قوى جفاؤك ظنتي
وأوهن تأميلي وما كان ذا وهن
وقال آخر:
أظن القراطيس في مصركم
تخونها ريب دهرٍ خؤون
فلو أنها صفحات الخدو
د يكتب فيها بماء الجفون
لما أعوزتك ولكن جفوت
فألقيت شأني خلال الشؤون
وقال المتنبي في جواب كتاب ورد عليه:
بكتب الأنام كتابٌ ورد
فدت يد كاتبه كل يد
يعبر عما له عندنا
ويذكر من شوقه ما نجد
وقال أبو الفتح البستي:
لما أتاني كتاب منك مبتسمٌ
عن كل فضلٍ وبر ؟ غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره
أثارك البيض في أحوالي السود
وقال آخر:
طلع الفجر من كتابك عندي
فمتى باللقاء يبدو الصباح
وقال آخر:
ولما أتاني بعد هجرٍ كتابكم
وفيه شفاء الواله الدنف المضنى
سررت به حتى توهمت أنه
كتابي وقد أعطيته بيدي اليمنى
وقال آخر:
نفسي الفداء لغائب عن ناظري
ومحله في القلب دون حجابه
لولا تمتع مقلتي بلقائه
لوهبتها لمبشري بكتابه
وقال آخر:
ورد الكتاب مبشرا
نفسي بأوقات السرور
وفضضته فوجدته
ليلا على صفحات نور
مثل السوالف والخدو
د البيض زينت بالشعور
أنزلته منى بمن
زلة القلوب من الصدور
وقال آخر في كتاب عدم فلم يصل إليه:
نبئت أن كتابا
أرسلته مع رسول
ملأته منك طيبا
فضاع قبل الوصول
ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق به، ويحتاج الكاتب إلى معرفته والاطلاع عليه الحجة البالغة والأجوبة الدامغة. فمن ذلك في التنزيل قوله عز وجل: 'وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميمٌ قل يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليمٌ'. وقوله تعالى: 'أيحسب الإنسان أن يترك سدىً ألم يك نطفةً من مني ؟ يمنى ثم كان علقةً فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادرٍ على أن يحي الموتى'. وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: 'وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن'. وقوله تعالى: 'قل لو كان معه آلهةً كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا'. وقوله تعالى: 'وما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون'. وقوله تعالى: 'إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب'. وقوله تعالى: 'وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله'. وقال تعالى في الدلالة على إثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون '، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف في قريش بالصادق الأمينوقوله تعالى: 'قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون'ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'يا معشر قريش لو قلت لكم إن خيلا تطلع عليكم من هذا الجبل كنتم تصدقوني ؟ قالوا: نعم ؛ قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد' فلما أقروا بصدقه خاطبهم بالإنذار، ودعاهم إلا الإسلام.فهذه حججٌ من الكتاب والسنة لا جواب عنها. ولما انتهى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم السقيفة أن الأنصار قالت: منا أميرٌ ومنكم أمير ؛ قال علي: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم ؛ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم ؟ قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم. ولما قال الحباب بن المنذر في يوم السقيفة أيضاً: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، إن شئتم كررناها جذعة، منا أميرٌ ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري شيئا في الأنصاري رده عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئاً في المهاجري سرده عليه المهاجري ؛ أراد عمر الكلام، فقال أبو بكر رضي الله عنه: على رسلك، نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس حسبا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادةً في العرب، وأمسهم رحما بالرسول صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، وأنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش.قالوا: قد رضينا وسلمنا. قال بعض اليهود لعلي ؟ رضي الله عنه: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم ؛ فقال: إنما اختلفنا عليه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: 'اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ قال إنكم قومٌ تجهلون'. وقال حاطب بن أبي بلتعة: لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية بكتابه، أتيته وأبلغته الرسالة، فضحك ثم قال: كتب إلي صاحبك يسألني أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيا أن يدعو الله فيسلط علي البحر فيغرقني فيكتفي مؤنتي، ويأخذ ملكي ؟ قلت: ما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل، وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليلا من شوك، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عاتقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة ثم طعنوه حيا بحربة حتى مات - على زعمكم - فما منعه أن يدعو الله فينجيه ويهلكهم، ويكفي مؤنتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم ؟ وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك أن يقتله فقتله وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها أن يسأل الله أن يحميه ويهلكهم ؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما تخرج الحكم إلا من عند الحكماء. وخطب معاوية بن أبي سفيان ذات يوم وقال: إن الله تعالى يقول: 'وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلومٍ' فما نلام نحن ؛ فقام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله، وإنما نلومك على ما آثرك الله به علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه. وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال: قومك أشد حماقةً إذ قالوا: 'اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ' أفلا قالوا: اهدنا له. وقيل: مرت امرأةٌ من العرب بمجلس من مجالس بني نمير، فرماها جماعةٌ منهم بأبصارهم، فوقفت ثم قالت: يا بني نمير، لا أمر الله تعالى أطعتم، ولا قول الشاعر سمعتم، قال الله تعالى: 'قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم'وقال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نميرٍ
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فما اجتمع منهم بعد ذلك اثنان في مجلس. وقيل: استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلاً من أهله على الطائف، فظلم رجلاً من أزد شنوءة، فأتى الأزدي عتبة فقال:
أمرت من كان مظلوما ليأتيكم
فقد أتاكم غريب الدار مظلوم
ثم ذكر ظلامته، فقال عتبة: إني أرى أعرابياً جافيا، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في اليوم والليلة ؛ فقال: إن أنبأتك ذلك تجعل لي عليك مسألة ؟ قال: نعم ؛ فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربعٌ وأربع
ثم ثلاثٌ بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع
قال: صدقت فاسأل ؛ فقال: كم فقار ظهرك ؟ فقال: لا أدري ؛ قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك ؟ فأمر برد ظلامته عليه. وقال الحجاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاصي: بلغني أنك تشبه إبليس في قبح وجهك ؛ قال: وما ينكر الأمير من أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن ؟. وقال لسعيد بن جبير: اختر لنفسك أي قتلة شئت ؛ قال: اختر أنت فإن القصاص أمامك. وحكى أبو حويطب بن عبد العزى بلغ عشرين ومائة سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام، فلما ولى مروان بن الحكم المدينة دخل عليه حويطب، فقال له مروان: لقد تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث ؛ فقال: والله لقد هممت بالإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك عنه وينهاني، ويقول: أتدع دين آبائك لدينٍ محدث ؟ أما أخبرك عثمان ما كان قد لقي من أبيك حين أسلم. وقيل: لما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه أمر بضرب أعناقهم، حتى أتى على رجلٍ من تميم، فقال التميمي: أيها الأمير، والله لئن أسأنا في الذنب ما أحسنت في العقوبة ؛ فقال الحجاج: وكيف ذاك ؟ قال: لأن الله تعالى يقول: 'فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءً' فوالله ما مننت ولا فاديت ؛ فقال الحجاج: أف ؟ لهذه الجيف، أما كان منهم من يحسن مثل هذا ؟ وأمر بإطلاق من بقي وعفا عنهم. وحكى أن الرشيد سأل موسى بن جعفرٍ فقال: لم قلتم إنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوزتم للناس أن ينسبوكم إليه ويقولوا: يا بني نبي الله وأنتم بنو علي، وإنما ينسب الرجل إلى أبيه دون جده ؛ فقرأ: 'ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى والياس' وليس لعيسى أب، وإنما لحق بذرية الأنبياء من قلب أمه ؛ وكذلك ألحقنا بذرية الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أمنا فاطمة - عليها السلام - وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: 'فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين' ولم يدع صلى الله عليه وسلم في مباهلة النصارى غير فاطمة والحسن والحسين، وهما الأبناء. قيل: لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغر الناس سنه، فقال له رجل: كم سن القاضي - أعزه الله - ؟ فقال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء مكة.فجعل جوابه احتجاجا. قال يزيد بن عروة: لما مات كثيرٌ لم تتخلف بالمدينة امرأةٌ ولا رجلٌ عن جنازته، وغلب النساء عليها، وجعلن يبكينه ويذكرن عزة في ندبهن له ؛ فقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها، فجعلنا ندفع النساء عنها ومحمد بن علي يقول: تنحين يا صويحبات يوسف ؛ فانتدبت له امرأةٌ منهن فقالت: يا ن رسول الله، لقد صدقت، إنا لصويحباته، ولقد كنا له خيرا منكم له ؛ فقال أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفت ؛ قال: فلما انصرف أتي بها وكأنها شررة النار ؛ فقال لها محمد بن علي: إيه، أنت القائلة: إنكن ليوسف خيرٌ منا ؟ قالت: نعم، تؤمنني غضبك يا بن رسول الله ؟ فقال: أنت آمنة من غضبي فأنبئيني ؛ فقالت: نحن دعوناه إلى اللدات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السجن ؛ فأينا كان عليه أحنى، وبه أرأف ؟ فقال محمد: لله درك لن تغالب امرأةٌ إذا غلبت ؛ ثم قال لها: ألك بعلٌ ؟ فقالت: لي من الرجال من أنا بعله ؛ فقال أبو جعفر: ما أصدقك مثلك من تملك الرجل ولا يملكها ؛ فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه فلانة بنت معقب. وقال المأمون ليحيى بن أكثم: من الذي يقول:
قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا
يرى على من يلوط من ياس
فقال: يا أمير المؤمنين، هو الذي يقول:
شاهدنا يرتشى وحاكمنا
يلوط والراس شر ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال
أمة والٍ من آل عباس
قال: ومن هو ؟ قال: أحمد بن أبي نعيم ؛ فأمر بنفيه إلى السند. وحكي أن أهل الكوفة تظلموا إلى المأمون من عاملٍ ولاه عليهم ؛ فقال: ما علمت في عدد عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية ولا أعود بالرفق عليهم منه ؛ فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحدٌ أولى بالعدل والإنصاف منك، فإذا كان الأمر على هذه الصفة فينبغي أن تعدل في ولايته بين أهل البلدان، وتسوى بنا أهل الأمصار، حتى يلحق أهل كل بلد من عدله وإنصافه مثل الذي لحقنا، فإذا فعل أمير المؤمنين ذلك فلا يخصنا منه أكثر من ثلاث سنين ؛ فضحك المأمون وعزل العامل عنهم. ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد - وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحق الأدب تعرض في هذا الفصل إلى ذكر قصص الأنبياء - صلوات الله عليهم - كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهت ذلك منه، ونزهت كتابي عنه -قال الله تعالى: 'إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفورٌ حليمٌ' فكانت هذه هفوةً من المسلمين غفرها الله وعفا عنها. وقال الأحنف بن قيس: الشريف من عدت سقطاته. وقال النابغة:
ولست بمستبقٍ أخا لا تلمه
على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقالوا: كل صارمٍ ينبو، وكل جوادٍ يكبو. وكان الأحنف بن قيس حليما سيدا يضرب به المثل، وقد عدت له سقطات فمن ذلك أنه نظر إلى خيلٍ لبني مازن فقال: هذه خيل ما أدركتبالثار، ولا نقصت الأوتار ؛ فقال له سعيد بن القاسم المازني: أما يوم قتلت أباك فقد أدركت بثارها ؛ فقال الأحنف: لشيءٍ ما قيل:: دع الكلام حذر الجواب' - وكانت بنو مازن قتلت أبا الأحنف في الجاهلية. ومنها أنه لما خرج مع مصعب بن الزبير أرسل إليه مائة ألف درهم، ولم يرسل إلى زبراء جاريته بشيء، فجاءت حتى وقفت بين يدي الأحنف، ثم أرسلت عينيها ؛ فقال لها: ما يبكيك ؟ فقالت: ما لي لا أبكي عليك إذ لم تبك على نفسك، أقعدتها وتذر مرو الروذ تجمع بين غارين من المسلمين ؛ فقال: نصحتني والله في ديني إذ لم أتنبه لذلك ؛ ثم أمر بفسطاطه فقوض، فبلغ ذلك مصعبا فقال: ويحكم، من دهاني في الأحنف ؟ فقيل: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه ؛ فقال: مالك يا زبراء ؟ قالت: عجبت لأحوالك في أهل البصرة، تزفهم كما تزف العروس، حتى إذا ضربت بهم في نحور أعدائهم أردت أن تفت في أعضادهم ؛ قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط ؛ فاضطرب العسكر بمجيء زبراء مرتين. ومن سقطاته التي عدت عليه أن عمرو بن الأهتم دس إليه رجلا ليسفهه، فقال له: يا أبا بحر، من كان أبوك في قومه ؟ قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم ولم يتخلف عنهم ؛ فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف إلى أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك ؟ قال: كانت له صرمة يمنح منها ويقرى، ولم يكن أهتم سلاحا. وقيل: إن الحسن سئل عن قوله تعالى: 'قد جعل ربك تحتك سريا ؟ ' فقال: إن كان لسريا، وإن كان لكريما ؛ فقيل له: من هو ؟ قال: المسيح ؛ فقال له حميد بن عبد الرحمن: أعد نظرا، إنما السري: الجدول ؛ فأنعم له، وقال: يا حميد، غلبنا عليك الأمراء. ومات ولدٌ طفلٌ لسليمان بن علي، فأتاه الناس بالبصرة يعزونه وفيهم شبيب بن شيبة وبكر بن حبيب السهمي ؛ فقال شبيب: أليس يقال: إن الطفل لا يزال محبنظئا بباب الجنة حتى يدخل أبواه ؟ فجاء بظاء معجمة ؛ فقال له بكر بن حبيب: محبنطئا، بطاء مهملة ؛ فقال شبيب: إلا أن من بين لابتيها يعلم أن القول كما أقول ؛ فقال بكر: وخطأٌ ثانٍ، ما للبصرة لابتان، أذهبت إليه بالمدينة ؟.من بين لابتيها: أي حريتها. قيل: جلس محمد بن عبد الملك يوما للمظالم، وحضر في جملة الناس رجلٌ زيه زي الكتاب، فجلس بإزاء محمد، ومحمد ينقد الأمور وهو لا يتكلم، ومحمدٌ يتأمله ؛ فلما خف المجلس قال له: ما حاجتك ؟ قال: جئتك - أصلحك الله - متظلما ؛ قال: ممن ؟ قال: منك، ضيعةٌ لي في يد وكيلك يحمل إليك غلتها، ويحول بيني وبينها ؛ قال: فما تريد ؟ قال: تكتب بتسليمها إلي ؛ قال: هذا يحتاج فيه إلى شهودٍ وبينة وأشياء كثيرة ؛ فقال له الرجل: الشهود هم البينة، وأشياء كثيرة عي ؟ منك ؛ فخجل محمدٌ وهاب الرجل، وكتب له بما أراد. ووصف ذو الرمة لعبد الملك بن مروان بالذكاء وحسن الشعر، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه أنشده قصيدةً افتتحها بقوله: 'ما بال عينك منها الماء ينسكب' وكانت عينا عبد الملك تدمعان دائماً، فظن أنه عرض سبه، فغضب وقال: مالك ولهذا السؤال يا بن اللخناء ؟ وقطع إنشاده، وأمر بإخراجه. ودخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك وأنشده أرجوزته التي أولها: 'الحمد لله الوهوب المجزل' حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس عند الغروب: 'وهي على الأفق كعين الأحول'، واستدرك سقطة لسانه، وقطع إنشاده، وعلم أنها زلة، لأن هشاما كان أحول، فقال له هشام: كمل إنشادك ويلك وأتمم البيت، وأمر بوجء عنقه وإخراجه من الرصافة. قال المدائني: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام في زمن المهدي، فأخذ وحمل إليه، فلما مثل بين يديه اعتذر، فرأى منه المهدي نبلا وفضلا، فعفا عنه وخلطه بجلسائه ؛ ثم قال له يوما: أنشدني شيئاً من شعر زهير، فأنشده قصيدته التي أولها: 'لمن الديار بقنة الحجر' حتى أتى على آخرها ؛ فقال المهدي: مضى من يقول مثل هذا ؛ فقال السمري: وذهب والله من يقال فيه مثله ؛ فاستشاط المهدي غضبا، وأمر أن يجر برجله، وألا يؤذن له بعدها. ولنختم ما ذكرناه من أمر كتابة الإنشاء بشيء من الحكم.